الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلة مؤلفات فضيلة الشيخ (1)
تفسير القرآن الكريم
تأليف
فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
[المجلد الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
• ثم قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105]:
قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} اللام في قوله: {وَلْتَكُنْ} لام الأمر، ودليل ذلك جزم الفعل بها {وَلْتَكُنْ} ولام الأمر تجزم الفعل المضارع {أُمَّةٌ} طائفة يدعون إلى الخير، والأمة في القرآن الكريم وردت على معان متعددة، منها الطائفة، ومنها الزمن، ومنها الإمامة، ومنها الملة، فمثالها في الطائفة هذه الآية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} ، ومثالها في الملة قوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، أي على ملة، ومثالها في الإمامة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ومثالها في الزمن: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي بعد زمن.
{مِنْكُمْ} (مِنْ) يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، فعلى الأول يكون المعنى: وليكن بعضكم يدعو إلى الخير، وعلى الثاني: ولتكونوا جميعًا دعاة إلى الخير؛ لأننا إذا جعلناها لبيان الجنس صار المعنى أن كل الأمة يجب أن تكون من هذا الطراز، يعني: ولتكونوا أمة تدعون إلى الخير، وإذا جعلناها للتبعيض صار المعنى: وليكن بعضكم يدعو إلى الخير.
قال: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} كل من تتوجه الدعوة إليه، أي إنسان تتوجه الدعوة إليه فليدعوه حتى الجن، ولهذا كان المفعول محذوفًا من أجل العموم {الْخَيْرِ} كل ما جاء به الشرع فهو خير، ويشمل ما كان خيرًا في الدين وما كان خيرًا في الدنيا، أما ما كان خيرًا في الدين فأمره ظاهر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وأما ما كان من أمر الدنيا فلأن ما كان من مصالح الدنيا التي لا تعارض الدين فهو من الأمور الخيرية المطلوبة، فيكون الخير هنا يشمل خير الدين وخير الدنيا، فمثلًا يدعون إلى فعل الطاعات، صَلِّ، زكِّ، صُم، حُج، بر والديك، صِلْ أرحامك، انصح في البيع والشراء، بيِّن، وما أشبه ذلك، كل هذا دعوة إلى الخير. لا تزنِ، لا تسرق، لا تشرب الخمر، لا تقتل النفس بغير حق، لا تعق والديك، لا تقطع أرحامك، لا تغش الناس، هذا أيضًا دعوة إلى الخير؛ لأن النهي طلب كفٍّ فهو في الحقيقة دعوة إلى الخير؛ لأن ترك الشر خير.
{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} :
جعل الأمر بالمعروف بعد الدعوة؛ لأن الدعوة سابقة على الأمر، فأنت تدعو أولًا ثم تأمر ثانيًا ثم تغير ثالثًا، وهذا يلتبس على كثير من الطلبة، يظنون أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر شيء واحد، والأمر ليس كذلك، فالدعوة إلى الخير عامة. الخطيب إذا خطب الناس في الجمعة وأمر ونهى، يقال: داع إلى الخير، الرجل إذا قال: يا أخي صلِّ، اتق الله يا أخي، لا تغش الناس، اتق الله، فهذا أمر بمعروف ونهي عن منكر. ولي الأمر إذا رأى آلة عزف وكسرها
هذا تغيير منكر، ولكلٍّ درجات. وكلمة (يأمرون) تدل على أنهم يتكلمون مع الناس على وجه الاستعلاء لا على وجه العلو، يعني على وجه أنني آمر، والآمر بالخير أعلى مرتبة من المأمور.
وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} المعروف كل ما عرفه الشرع وأقره من العبادات فعلًا؛ لأنه قال: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، جمع بينهما، فصار المراد بالمعروف كل ما عرفه الشرع وأقره من العبادات المأمور بها، فالأمر بالتوحيد أمر بالمعروف، والأمر باتباع السلف في العقيدة أمر بمعروف، والأمر بالصلاة أمر بمعروف، والأمر ببر الوالدين أمر بالمعروف، وهلم جرا.
ثالثًا: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} :
النهي طلب الكف على وجه الاستعلاء، يعني يطلبون من الناس أن يكفوا عن المنكر، والمنكر ما أنكره الشرع من الأعمال والأخلاق، فالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، والعدوان على الناس بأخذ أموالهم وانتهاك أعراضهم، كل هذه منكرات، فهم ينهون عن المنكر.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :
(أولئك) المشار إليه الأمة الداعية إلى الخير، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر، وهي مبتدأ، و"هم" ضمير فصل لا محل له من الإعراب، والمفلحون خبر المبتدأ، فلو قال قائل: لماذا لا تجعلون "هم" مبتدأ ثانيًا، و"المفلحون" خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول؟ قلنا: لا نقول ذلك، لأننا لو قلنا ذلك لفاتتنا فوائد ضمير الفصل، ويدل لهذا قوله تعالى:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 40] ووجه الدلالة أنه لم
يجعل ضمير الفصل مبتدأ، فلو جعل مبتدأ لقال (إن كانوا هم الغالبون) حتى تكون الغالبون خبر لـ"هم". و {الْمُفْلِحُونَ} هم الناجون من الكربات، الحاصلون على المطلوبات، فالفلاح هو النجاة من المكروبات أو من المكروهات والحصول على المطلوبات، ففيه أمران:
1 -
سلامة.
2 -
وكسب.
ولهذا تعتبر كلمة الفلاح من أجمع الكلمات، فالمفلح هو الفائز بمطلوبه، الناجي من مرهوبه.
ثم قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :
نهى الله أن نكون مثل هؤلاء الذين جمعوا بين وصفين ذميمين: التفرق والاختلاف، ورتَّب على هذا الجزاء المشين وهو قوله:{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} أي لا تصيروا مثل الذين، وعلى هذا فنعرب الكاف هنا اسمًا لتكون خبر (تكون): تكونوا مثل الذين تفرقوا، قال ابن مالك:
شبه بكاف وبها التعليل قد
…
يعنى وزائدًا لتوكيد ورد
واستعمل اسمًا. فالكاف هنا اسم بمعنى مثل، وهي خبر "تكون".
وقوله: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} : أتى بها بعد قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} لأن الأمة إذا تركت الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فلابد أن تتفرق؛ لأنه لا يكون لهم في هذه الحال كلمة جامعة، كل واحد يعمل على هواه لأنه ما يُدعى إلى الخير، والنفوس لها نزعات متباينة مختلفة، وكذلك أيضًا إذا لم يكن أمر بمعروف ولا نهي عن منكر تفرق الناس ولابد؛ لأن هذا يريد الزنا، وهذا يريد شرب الخمر، وهذا يريد السرقة، وهذا يريد أشياء غير الأولى فيحصل التفرق، فإذا أمروا بالمعروف صاروا كلهم على المعروف، وإذا نهوا عن المنكر صاروا كلهم على ترك المنكر.
قال: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} مثل من قال فيهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وأول من مثّل بهم أهل الكتاب [اليهود والنصارى] حيث اختلفوا اختلافًا عظيمًا من بعد ما جاءتهم البينات، فنهانا الله تعالى أن نكون مثلهم في التفرق والاختلاف.
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وإذا نُهينا عن ذلك فهو أمر بضده، يعني إذا نُهينا عن التفرق والاختلاف فهو أمر بالاجتماع والائتلاف، الاجتماع ضد التفرق، والائتلاف ضد الاختلاف، كأن الله يقول: اجتمعوا وائتلفوا، ولا يكن فيكم افتراق ولا اختلاف فتكونوا مثل اليهود والنصارى.
{تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} تفرقوا في أبدانهم ولم يجتمعوا، وصاروا أحزابًا، واختلفوا في قلوبهم وفي مناهجهم، فصار لكل حزب منهجٌ معين يفرح به ولا يتزحزح عنه، ويرى أن من سواه على ضلال.
قال تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أشار إليهم بصيغة البعد لأن أولاء اسم إشارة للبعيد، وذلك لانحطاط مرتبتهم،
يعني كأنهم لانحطاط مرتبتهم أنزلهم المتكلم منزلة البعيد منه لأنه يتبرأ منهم ومن أعمالهم.
{لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} العذاب هو العقوبة -والعياذ بالله- لأنه يؤلم صاحبه ويعذبه، والعظيم هو الشيء المستعظم في كيفيته وفي كميته؛ لأن عذابهم -نسأل الله العافية- شديد متنوع، يسقون من ماء حميم -والعياذ بالله- إلى برودة كذلك، كما أنه عظيم في دوامه مستمر أبدي، نسأل الله العافية.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
في الأولى وجوب الدعوة إلى الخير، تؤخذ من لام الأمر {وَلْتَكُنْ} والأصل في الأمر الوجوب.
2 -
أن ذلك على الكفاية؛ لقوله: {مِنْكُمْ} وهذا على القول بأن (مِن) للتبعيض، أما إذا قيل إن (مِن) لبيان الجنس فإنه يدل على أنه يجب على الأمة كلها أن تكون أمة داعية إلى الخير، بمعنى أنه لا ينتظر بعضهم بعضًا هل يأمر أو لا يأمر، بل كلهم يكونون مستعدين لذلك. كلهم دعاة، فمثلًا: إذا قيل لشخص: قُم وادع إلى الخير قال: فلان يدعو إلى الخير وفيه كفاية، هذا لا ينبغي، بل ينبغي أن يدعو إلى الخير ما استطاع؛ لأنه قال:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} تكن أمة بمجموعها تدعو إلى الخير.
3 -
ملاحظة الإخلاص؛ لقوله {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} لا إلى أنفسهم؛ لأن بعض الناس يدعو إلى نفسه، وبعض الناس يدعو إلى الخير، وعلامة الداعي إلى نفسه أنه لا يريد من الناس أن يخالفوه ولو كان على خطأ، وهذا لا شك أنه داع إلى نفسه، ثانيًا: من علامة ذلك أنه يكره أن يقوم غيره بذلك، أي بالدعوة إلى
الخير يريد أن يستبدَّ به من بين سائر الناس، هذا أيضًا داع إلى نفسه ليصرف وجوه الناس إليه، نسأل الله الحماية والعافية. أما إذا كان يودُّ أن يقوم هو بالأمر لينال الأجر لا ليحرم غيره أو ليصرف الناس إلى نفسه فهذا ليس عليه شيء، يعني كل واحد يحب أن يكون داعية إلى الخير.
4 -
أن اتباع الخير في كل شيء مطلوب للشرع.
والخير قسمان:
خير بنفسه وخير لغيره، يعني خير يكون وسيلة لغيره، فمثلًا: لو أنك سألت شخصًا عن المجريات اليومية من أجل إدخال السرور عليه، وأنت ما تستفيد من هذا، فهذا من الخير لغيره؛ لأنك ما تستفيد من هذا وهو ربما لا يستفيد لكن تريد أن تدخل السرور عليه، ومن ثَمَّ صار الناس يتساءلون: هل يسن للإنسان أن يتحدث على الأكل أو لا يسن؟ نقول: يُنظر إن كان الإنسان يتحدث ليشغلهم عن الأكل فهذا غير حسن، وإن كان يتحدث من أجل أن يشحذ نفوسهم على الأكل حتى ينبسطوا ويستأنسوا ويأكلوا، فهذا خير لغيره بشرط أن يكون الأكل بالقدر الشرعي. والقدر الشرعي بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"
(1)
. لكن الخير لغيره يختلف، فلو أراد الإنسان أن يتوصل إلى خير بشرٍّ كأن يصانع
(1)
رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، رقم (2380). ورواه ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع، رقم (3349). ورواه أحمد في مسنده، رقم (16735).
إنسانًا بمعصية يقول لعله يهتدي، مثل أن يغتاب زيدًا أو عمرًا ليتقرب إلى هذا الرجل، فهذا ليس بجائز، لا يمكن أن تكون الدعوة إلى الخير بوسيلة محرمة إطلاقًا؛ لأن الوسيلة المحرمة خبث في ذاتها، كيف تكون وسيلة إلى خير، لكن إذا كان من المباح صار خيرًا لغيره، وإن كان هو بنفسه خيرًا صار خيرًا على خير.
5 -
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهل هو فرض كفاية أو فرض عين؟ ينبني على الخلاف في (مِنْ) هل هي تبعيضية أو لا؟ ولا شك أننا إذا رأينا منكرًا وجب علينا أن ننكره وننهى عنه، لكن لا يجب على كل واحد أن ينهى عن منكر معين، مثلًا لو أن شخصًا اغتاب عندنا ونحن عشرة هل نقول: كلنا ننهى عنه أو إذا نهى واحد وحصلت به الكفاية كفى؟ لكن لو أنه نهاه ولم ينته وجب على الآخرين أن يكونوا معه، وهذا عكس ما يفعله بعض الناس الآن -نسأل الله العافية- إذا نهى الناهي عن المنكر قاموا ضده، هؤلاء يخشى عليهم أن يطبع الله على قلوبهم؛ لأنهم خذلوا من يجب نصره، وهذا خطر عظيم جدًّا.
6 -
أنه لابد من العلم يعني الحث على العلم؛ لأنه لا يمكن أن يدعو إلى الخير من لا يعلم الخير، ولا يمكن أن يأمر بالمعروف من لا يعرف المعروف، ولا يمكن أن ينهى عن المنكر من لا يعرف المنكر، فلابد من العلم، فيستفاد من هذه الآية الكريمة الحث على العلم؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يلي: -
الشرط الأول: العلم بالشرع، والعلم بالحال، العلم بالشرع بأن أعرف أن هذا مما أمر الله به حتى آمر به، أما إذا كنت لا أدري هل هو مأمور به أو لا؛ فلا يحل لي أن آمر به؛ لأن الله يقول:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، ويقول عز وجل:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
والعلم بالحال بأن أعلم أن هذا الرجل ترك المعروف أو فعل المنكر، أما أن آمره بالمعروف وأنا لا أدري هل فعله أو لا، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من قَفْوِ ما ليس لي به علم، وكذلك لو نهيته عن منكر وأنا لا أدري هل ارتكب المنكر أو لا، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه من قَفْوِ ما ليس لي به علم، مثال ذلك: دخل المسجد رجل فجلس وأنا لم أره من حين دخل، فهل أقول له: قُمْ فصلِّ ركعتين أو أسأله هل صلَّى أو لم يصلِ؟ الثاني لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس، فقال:"أصليت؟ " قال: لا، قال:"قُمْ فصلِّ"
(1)
ولم يأمره: قم صلِّ، لماذا تجلس حتى استفهمَ، وهذا مثال على الأمر بالمعروف، أما المثال عن النهي عن المنكر: وجدت شخصًا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، رقم (931). ورواه مسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، رقم (875).
يمشي وإلى جانبه امرأة قلت: يا أخي اتق الله كيف تمشي مع المرأة؟ هذا لا يجوز؛ لأنه من الممكن أن تكون هذه المرأة من محارمه، فكيف تنهى عن شيء على أنه منكر وأنت لا تعلم أنه منكر. إذن لابد من العلم بالحال حال المأمور وحال المنهي، كما أنه لابد من العلم بالشرع: أن أعلم بأن هذا من المعروف الذي أمر به الشرع أو من المنكر الذي نهى عنه الشرع.
أما ما ينتشر عند بعض الناس من قولهم: يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ويعين بعضنا بعضًا فيما اتفقنا فيه، هل لهذه الكلمة أصل في الشرع؟
هذا غلط في الجملتين جميعًا، الجملة الأولى (يعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) فهي كقول بعض الفقهاء: لا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ لأن هذه العبارة معروفة عند الفقهاء، وهذا على إطلاقه ليس بصحيح، فما اختلفنا فيه إن كان الحق لم يتبيَّن فيه تبينًا لا يعذر فيه المخالف فهنا نعم نعذره لأنه له رأي ولنا رأي، أما إذا كان الحق واضحًا فإن من خالفنا لا نعذره في ذلك، فهي على إطلاقها غير صحيحة.
وأما الثانية وهي قوله: (يعين بعضنا بعضًا فيما اتفقنا فيه) فهذا غير صحيح أيضًا؛ لأننا لو اتفقنا على باطل لم يحلّ أن يعين بعضنا بعضًا بل وجب أن ينهى بعضنا بعضًا عن هذا الباطل، فهو أيضًا على إطلاقه لا يصح، ولعلَّ الذي قاله يقصد ما ليس بباطل ولا يخالف الشريعة، لكن الجملة الأولى دخل فيها أناس عندهم انحراف في العقيدة وفي المنهج والإسلام يسعهم وقالوا: نحن يجب أن نستظل بظل الإسلام وإن اختلفنا، ولذلك تجدهم
يُدخلون في حزبهم الفاسق حالق اللحية، شارب الدخان، المتهاون بالصلاة وما أشبه ذلك، وهذا خطأ، وفي المقابل الذي يريد من الناس أن يكونوا صلّاحًا في كل دقيق وجليل وإلا فليسوا إخوانًا لنا، وهذا أيضًا خطأ.
على كل حال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] فانظر للحكمة، أحيانا يكون الإنسان المدعو غضبان بسبب مؤثرات خارجية، فلا تتحمل نفسه أن يقبل منك حتى ولو كان كلامًا عاديًا، وأحيانًا يكون راضيًا ومنبسطًا تقدر أن تضرب له الأمثلة حتى يهديه الله، ولهذا يخطئ بعض الناس -مثلًا- إذا قابل شخصًا ولم يعامله المعاملة اللائقة به، نفر منه، فمثل هذه الأمور لا ينبغي للإنسان أن يحكم على الشخص بمجرد أنه دعاه مرة ونفر. انظر للوقت الذي تراه فيه متقبلًا وادعه إلى الحق.
فإن قيل: أيهما أولى، دعوة العاصين في هذه البلاد أو دعوة الكفار في الخارج؟
فالجواب: يقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214، 215] فالواجب أن تصلح الأحوال التي عندك، ثم بعد ذلك تحاول إصلاح الخارج، لكن إذا كان في الداخل من يقوم بالدعوة وأردت أن تخرج للدعوة في الخارج فلا مانع من ذلك.
الشرط الثاني: أن لا يتغير المنكر إلى ما هو أنكر منه؛ لأن النهي عن المنكر يراد به تقليل المنكر، فإذا كان يترتب عليه أن يقع المنهي عن المنكر في منكر أعظم؛ فإنه لا ينهى عنه، فلو فرضنا أن شخصًا يشرب الدخان. ولا شك أن شربه منكر لكن
لو نهيناه لذهب يشرب الخمر؛ فلا ننهاه عن هذا، لأننا نعلم أنه سينتقل إلى منكر أكبر نكارة مما هو عليه، ومن ذلك ما يذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه مرَّ ومعه صاحب له بطائفة من التتار يشربون الخمر فلم يقل لهم شيئًا. فسأله صاحبه: لماذا لا ننكر عليهم؟ قال: هؤلاء لو أنكرنا عليهم لذهبوا ينهبون أموال الناس ويستحلون حرماتهم فيتعدى ضررهم، أما شربهم الخمر فهو على أنفسهم، ودليل هذا الشرط قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فهنا نهى الله المسلمين أن يسبوا أصنام الكفار مع أن هذه الأصنام جديرة بأن تسبّ وسبّها قربة، لكن لما كان يترتب على سبّها مفسدة أكبر نهى الله عن سبّها، مع أن السكوت عن سب آلهة المشركين حُكمهُ أنه منكر. لكن نسكت على هذا المنكر الأخف درءًا لمنكر أعظم، إذن لابد من هذا الشرط.
الشرط الثالث: أن يعلم أن هذا مفيد، بمعنى أنه يحتمل عنده أن هذا الفاعل للمنكر أو التارك للواجب كان على جهل، وأنه قريب الرجوع إلى الحق، فإن كان يعلم أن صاحبه عالم بالحكم لكنه متمرد مستكبر فإنه لا يجب حينئذٍ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلًا حلق اللحية اليوم معروف عند عامة الناس وأكثر الناس أنه حرام، لكنه يمرّ بك عشرة قد حلقوا لحاهم وعشرة قد أعفوا لحاهم، يعني نصف الناس تقريبًا قد حلقوا لحاهم، فهل يلزمك كلما رأيت شخصًا حالقًا لحيته في الشارع أن توقفه وتقول له: اتق الله لا تحلق لحيتك؟
نقول: ننظر قد يكون هذا الرجل تتراءى فيه الخير، وأنك
إذا نصحته امتثل، وقد يغلب على ظنك أنه رجل عارف بالحكم لكنه مستكبر عنه أو متهاون به، المهم أن بعض أهل العلم يرى أن هذا من شرط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما يستدل لذلك بقوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] ذكّر إن نفعت يعني فإن لم تنفع فلا تذكّر، قال: فإذا كان التذكير وهو دعوة للخير لا يجب إلا إذا نفع؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من باب أولى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد من الدعوة إلى الخير، فكل إنسان يستطيع أن يدعو وليس فيه شيء عليه، لكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو الذي قد يجد أذية من المأمور أو المنهي.
وهذه المسألة في النفس منها شيء، قد نقول: إن عليه أن يأمر وينهى وأن ذلك لا يخلو من فائدة لو لم يكن من فائدته إلا علم الناس بأنه معروف أو بأنه منكر لكفى، لأننا إذا سكتنا بحجة أن الأمر لا ينفع أو أن النهي لا ينفع؛ بقيت المنكرات على ما هي عليه، وبقي التهاون بالواجبات على ما هو عليه، وصار الشباب الذين يخرجون من جديد يظنون أن هذا المنكر معروف، وأن المعروف ليس بمعروف، ولهذا في هذا الشرط نظر، بل نقول: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء ظننت أنه مفيد أم لم يفد. لكن في حدود الاستطاعة؛ لأن جميع الواجبات إنما تجب بالاستطاعة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فإذا كان يشق على الإنسان أن يمسك كل واحد يمرّ به في السوق على منكر من حلق لحية أو غيره فإنه لا يلزمه، لا يلزمه إلا ما يقدر عليه؛ لأن الله يقول:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
الشرط الرابع: أن يكون الآمر بالمعروف فاعلًا له، والناهي عن المنكر تاركًا له. يعني لا تأمر بالمعروف وأنت لا تفعله، ولا تنه عن منكر وأنت تفعله. فإذا كان هذا الرجل مثلًا يتعامل بالربا ووجد إنسانًا يتعامل بالربا فإنه لا يلزمه ولا يجب عليه أن يقول للثاني: يا فلان اترك الربا، فإن الربا حرام ملعون فاعله، لأنه هو يفعله، فكيف ينهى عن شيء يفعله هو؟
مثال آخر: شخص رأى رجلًا يمشي بعد الأذان عند المسجد، وقد ترك المسجد، فقال: يا فلان حرام عليك أن تترك صلاة الجماعة، ثم إنَّ هذا الآمر فتح بابه وذهب إلى أهله بعد أن أمر الرجل أن يصلي، أما هو فلم يصلِّ، فينبغي عليك إذا كنت قد نويت أن تدخل بيتك عند أهلك ولو فاتتك الجماعة، فلا تأمر غيرك أن يصلي مع الجماعة، واستُدل لذلك بقوله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] فوبّخ الله هؤلاء على أمرهم بالبر، ونسيان أنفسهم. وبيَّن أن هذا خلاف العقل، كيف تأمر الناس وتترك نفسك؟ هذا ليس بمعقول! فأنتم خالفتم الشرع وأنكرتم العقل، واستُدل أيضًا بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه (يعني أمعاءَه) فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع عليه أهل النار ويقولون: ما لك يا فلان؟ ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه"
(1)
. قالوا: وهذا يدل على شدة عقابه إذا أمر
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، رقم (3267).
بالمعروف ولم يأته أو نهى عن منكر وأتاه. فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من لا يفعل المعروف ولا يترك المنكر، وأبى هذا أكثر أهل العلم وقالوا: إن هذا خلاف الأدب لكنه محرم، يعني كونه يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، وخلاف العقل لكنه حرام عليه، فيجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبدأ بنفسه، فإذا فَرَّط في حق نفسه فليس له الحق في أن يُفَرِّط في حق غيره. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليه ولو كان هو لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن المنكر، لأنه لو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كونه لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن منكر فقد أتى محذورين: ترك الواجب على نفسه لنفسه، وترك الواجب على نفسه لغيره، الواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو كان هو لا يأتمر بالمعروف ولا ينتهي عن المنكر، وهذا القول هو الصحيح، وعليه أن يوبخ نفسه ويقول: كيف آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه؟ هذا خلاف المعقول والمنقول، وخلاف الأدب مع الله، وخلاف الأدب عند عباد الله، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أوصافه الذي وصفه بها ملك غسان قال:(إنه ما أمر بشيء إلا كان أول فاعل له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول تارك له) عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال الله له:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، ليس معنى (أول المسلمين) زمنًا لأن هناك أممًا مسلمة قبله لكن أول المسلمين فعلًا، يعني أنا أول المستسلمين لله والمنقادين
لأمره، فهي أولية مرتبة وليست أولية زمن، ويذكر عن عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله الواعظ المشهور صاحب كتاب التبصرة، وكان له مجلس كل يوم جمعة وفيه يعظ الناس ويحضره آلاف، حتى إنه لا ينفك يوم من الأيام إلا وقد مات في مجلسه عدد من الناس من شدة وقع الموعظة في نفوسهم، فأتاه يومًا من الأيام رجلٌ عبد فقال له: يا سيدي إن لي سيدًا يؤذيني ويتعبني ويحملني ما لا أطيق، ويضربني عليه، فأرجو منك أن تحث الناس على العتق لعل الله أن يهديه فيعتقني، فلما جاءت الجمعة انتظر هذا العبد كلام الشيخ فلم يتكلم عن العتق، ثم جاءت الجمعة الثانية والثالثة ولم يتكلم، وبعد عدة جُمَعٍ تكلم عن العتق وإذا سيد العبد حاضر فأعتقه فورًا، فذهب العبد إلى عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله وقال: لماذا تأخرت؟ قال: لم يكن عندي دراهم أشتري بها عبدًا فأعتقه قبل أن آمر الناس بالعتق. سبحان الله يقول: لا أحث الناس على العتق وأنا لم أعتق، إذا أعتقت مملوكًا أمرت الناس أو حثثت الناس على العتق، وهذا أمر مشاهد أن فاعل المعروف ينقاد الناس لأمره، وتارك المنكر ينقاد الناس لنهيه؛ لأن الناس يبصرون بأعينهم وبصائرهم ويقولون للذي يأمر بالمعروف وهو لا يفعله: هذا يضحك علينا، وهذا يلعب بعقولنا لو كان الأمر معروفًا عنده لماذا لا يكون هو أول فاعل له، ولو كان المنكر عنده منكرًا لماذا لا يكون أول تاركٍ له، فلذلك لا شك أنه من الأدب أن يكون الآمر فاعلًا لما أمر به، والناهي تاركًا لما نهى عنه، أما أن يُجعل ذلك شرطًا في الوجوب ونقول لهذا الذي لا يفعل المعروف ولا ينتهي عن
المنكر: لا يجب عليك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا تأثم بتركه، فهذا بعيد جدًّا؛ لأن الذين يقولون: من شرط الوجوب أن يكون فاعلًا لما أمر به تاركًا لما نهى عنه يقولون: إنه إذا لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر في هذه الحال فإنه لا إثم عليه؛ لأن من شرط الوجوب أن يكون هو ممتثلًا. وبهذا يتبين ضعف هذا القول، وأن الواجب عليه أن يأمر بالمعروف ولو كان لا يفعله، وأن ينهى عن المنكر ولو كان يفعله، لكن يجب أن يوبخ نفسه أيضًا وتكون نفسه هي أول من يأمره بالمعروف وأول من ينهاه عن المنكر، فالشروط إذن خمسة.
ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا الواجب، أن يكون لينًا في أمره لينًا في نهيه؛ لأن اللين خلق كريم يعطي الله سبحانه وتعالى به ما لا يعطي على العنف كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك
(1)
، وكما أرشد الله إليه موسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون، فقال:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] يتذكر فيما تأمرانه به، أو يخشى فيما تنهيانه عنه. مع أنه مِن أعتى أهل الأرض، إن لم يكن أعتى أهل الأرض، فعلى كل حال من الآداب أن يكون الإنسان لينًا في أمره ونهيه. ومن الآداب أيضًا أن يكون مقنعًا في حجته؛ لأنه إذا أمر بالمعروف قد يقول المأمور: ما دليلك على هذا؟ وإذا نهى عن منكر قد يقول: ما دليلك على هذا؟ فلابد أن يكون عنده إقناع،
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب من الرفق، رقم (4808)، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب الرفق، رقم (3688).
وليعلم أن مسألة الإقناع غير مسألة العلم، بعض الناس يكون عنده علم لكن لا يستطيع أن يقنع غيره، ليس عنده قوة حجة وبيان، وبعض الناس يكون أقل علمًا منه لكن عنده قوة إقناع، فلابد أن تتمرن على قوة الإقناع ولو بضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال يقرّب.
يوجد الآن مثلًا طائفة معروفة تدعو إلى الله وتخرج للدعوة إلى الله، وعندهم من الإقناع للعامة ما لا يوجد عند بعض أكابر العلماء، ولهذا تجدونهم يؤثرون تأثيرًا عظيمًا؛ لأن عندهم أسلوب في الإقناع، والإنسان إذا كان عنده أسلوب وأمر غيره وقال له: ما دليلك؟ قال: هذا الدليل ثم ضرب له أمثلة معقولة، فهذا لا شك أنه من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الإمام أحمد أن رجلًا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:"أترضى أن يفعل هذا بأمك وأختك وذات رحمك؟ قال: لا ما أرضى، قال: إذا كنت لا ترضى أن يفعل ذلك بمحارمك، فكيف ترضى أن تفعله أنت بمحارم الناس"
(1)
. هذا أسلوب مقنع، يعني مجرد أن يتصور الإنسان هذه المسألة يبتعد، أنت لو ترى شخصًا يغازل أختك أو زوجتك أو بنتك ماذا تفعل؟ لا شك أنك لا ترضى بذلك. فكيف أنت ترضى لنفسك أن تغازل بنات الناس، أو أشد من ذلك تزني والعياذ بالله. هذه من الأساليب التي ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على دراية بها وإجادة.
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده (21708).
ومن الآداب أيضًا أن يصبر على الأذى والمحاجة والمخاصمة لاسيما إذا كثر الجدل في الناس فليصبر؛ لأن الله تعالى حكى عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] لابد لكل آمر من أن يصاب بأذى، وبعض الناس ربما يثقل عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يصب بأذى لكن لم تتقبل دعوته أو لم يتقبل أمره أو نهيه فيضيق صدره ولا يأمر ولا ينهى، هذا ليس بصحيح، مُرْ بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، وانظر إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ماذا أصابهم من الأذى، أصابهم أذى عظيم، طعن في أجسادهم، وطعن في عقولهم، وطعن في أهدافهم، كل شيء طعن فيه ومع ذلك هم صابرون، أوذي موسى عليه الصلاة والسلام بأنواع من الأذى، وأوذي أول الأنبياء نوح كلما مرَّ عليه ملأ من قومه سخروا منه:{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 38، 39] وأوذي خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، أوذي أذى عظيمًا من أقرب الناس إليه، هل قريش فعلت بأي واحد من الناس دخل المسجد الحرام وجعل يصلي تحت الكعبة وسجد لله عز وجل، هل آذوا أحدًا من الناس بأن أتوا بسلا الجزور ووضعوه عليه وهو ساجد؟ أبدًا، لكن الرسول فعلوا به هذا وصبر. هل كانوا يأتون بالأذى والقذر والأنتان يضعونها على أبواب الناس في مكة؟ لا، لكن الرسول فعلوا به هذا وصبر.
فالواجب أن يصبر الإنسان وأن يحتسب هذا الصبر على الله، وهذا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم أجرًا
من الصبر على أعظم مصيبة تنال الإنسان في أقرب الناس إليه؛ لأن هذا صبر على أذى في الله ليس صبرًا على أقدار الله، هذا صبر على أذى في الله عز وجل فاحتسب الأجر من الله واصبر على ما أصابك. ومما يصيب الإنسان الأذى بالقول، الأذى الجدلي مثل أن تأمره بالمعروف فيقول: علِّم نفسك، أو يقول: رُح أدِّب أبناءك. وما أشبه ذلك. بعض الناس يفور دمه ويغضب غضبًا شديدًا فنقول: يا أخي اصبر هذه مسألة بسيطة، إذا قال لك: علِّم أبناءك. قل: يا أخي لا بأس جزاك الله خيرًا لكن أنا أعلّمهم وأعلمك أنت الآن. إذا احتدم هذا الرجل وأخذته العزة بالإثم فلِن أنت، لأن المشكل أن تقابل الحدة بمثلها، أما إذا قوبلت بهدوء صارت المسألة طبيعية، لذلك أقول: إنه يجب علينا أن نصبر، وإذا رأينا الناس قد شدوا الحبل أرخيناه، وإذا رأينا لينًا جذبناه.
هذه إذن ثلاثة آداب ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتأدب بها، وإذا أضفنا الشرط الخامس أن من الآداب أن يكون هو أول فاعل لما يأمر به وأول تارك لما ينهى عنه، صارت الآداب أربعة، وشروط الوجوب أربعة.
7 -
فضيلة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي الآية دليل على فضيلة هذه الخصال قوله:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إذا خسر الناس فهؤلاء هم المفلحون الرابحون.
8 -
النهي عن التفرق؛ لقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} وقد ذكرنا في التفسير أن المراد بذلك تفرق القلوب لا الآراء، لأن تفرق الآراء أمر لابد منه؛ لأن الناس يختلفون في العلم
والحفظ والفهم والإيمان والعمل، وكل هذه الأمور الخمسة كلها من أسباب اختلاف الناس، لا يمكن أن يتفق الناس في الرأي لكن الواجب اتفاق القلوب.
9 -
أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتفرق؛ لأنه أعقب الآية السابقة بهذه الآية مما يدل أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتفرق.
10 -
أن التفرق بعد أن تبيّن الحق أشد قبحًا من التفرق حين خفاء الحق، يؤخذ من قوله:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} . وذلك لأنه إذا جاءت البينات واتضح الحق فلا وجه للتفرق، لكن إذا كان الحق خفيًا فقد يحصل التفرق، والحق -ولله الحمد- في هذه الشريعة واضح بيِّن لأنه في كتاب الله المحفوظ إلى يوم القيامة.
11 -
الوعيد الشديد على الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات؛ لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
12 -
أن العقاب يختلف باختلاف الجرم؛ لأنه لما كان فعل هؤلاء عظيمًا كان عذابهم عظيمًا.
* * *
• قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106]:
قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} يحتمل أنها جملة استئنافية متعلقة بمحذوف تقديره: اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه،
يعني اذكر هذا اليوم الذى ينقسم فيه الناس إلى هذين القسمين، ويحتمل أنها متعلقة بالخبر؛ لقوله:{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] يعني لهم عذاب عظيم في ذلك اليوم.
وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} الابيضاض معروف أي تكون بيضاء، وهذه الوجوه التي تكون بيضاء هي وجوه المؤمنين، وتختص هذه الأمة بأنها يكون لابيضاضها نور تُعرف به يوم القيامة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"سيما ليست لغيركم، تدعون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء"
(1)
.
وقوله: {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} :
قد يبدو للإنسان من أول وهلة أن هذين القسمين متساويان، ولكن هذا غير مراد، وذلك لأن أكثر بني آدم من أهل النار، وجوههم مسودة -والعياذ بالله- فإن من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم في النار وواحدًا من الألف في الجنة كما صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقوله: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أي تكون سوداء، وسبب هذا الابيضاض والاسوداد -والله أعلم- أنه مما يبشّر به هؤلاء ويوبخ به هؤلاء، فإن المؤمنين يبشّرون إذا بعثوا من قبورهم برحمة الله عز وجل وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون، وأما
(1)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء والغر المحجلون من أثر الوضوء، رقم (136). ورواه مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء بلفظه، رقم (247).
(2)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، رقم (3169). ورواه أحمد في مسنده، رقم (19400).
الكافرون فبالعكس، ومن المعلوم أن الإنسان إذا بُشِّر بما يسره يستنير وجهه، وتظهر عليه علامة السرور.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (الفاء) للتفريع و (أما) للتفصيل؛ لأنه قال بعدها: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} .
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} بدأ بذكر الذين اسودت وجوههم مع أنه أخَّر ذكرها فيما قبل لأنه قال {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ، وكان من المتوقع أن يقول: فأما الذين ابيضت وجوههم؛ لأن هذا هو الترتيب، ولكن كان الأمر بخلاف المتوقع، ويسمي علماء البلاغة هذا النوع من السياق لفًا ونشرًا غير مرتب. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} جواب "أما" محذوف، والتقدير: فيقال: أكفرتم، وأما الجملة "أكفرتم بعد إيمانكم" فهي مقول للقول المحذوف أي: فيقال: أكفرتم.
ويحتمل أن القائل هو الله عز وجل، ويحتمل أن يكون القائل الملائكة، وعلى كل تقدير فالمراد بالاستفهام هنا هو التوبيخ والتنديم يقال لهم:{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} فهذا الاستفهام للتوبيخ أي أن هؤلاء يوبخون، فيجمع لهم بين الألم البدني والألم القلبي النفسي وذلك لأن العذاب قد يكون على البدن، وقد يكون على النفس، وقد يكون عليهما جميعًا، من الناس مثلًا من تضربه ولا توبخه، فهذا العذاب على البدن، ومن الناس من توبخه في مقام يرى فيه الإكرام والاحترام فتهينه، فهذا عذاب نفسي قلبي. ومن الناس من يجمع له بين الأمرين كالكفار، فإن الكفار يوبخون في عرصات القيامة ويوبخون عند دخول النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9]، ويوبخون أيضًا بعد ذلك كما في قوله تبارك وتعالى:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] فإنهم يوبخون أيضًا في حال دخولهم النار ومكثهم فيها ما شاء الله وطلبهم أن ينجوا منها.
قوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} المراد بالإيمان هنا إيمان الفطرة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
(1)
. ويحتمل أن يكون المراد بالإيمان الإيمان الفطري الاختياري، وتكون الآية في سياق من يرتد بعد إيمانه، لكن الأول أولى لأنه أعم.
قال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} :
(العذاب) أي البدني والنفسي، أي مسّه، والذوق هنا ليس ذوقًا باللسان بل هو ذوق بالبدن كله؛ لأن الذوق قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالبدن، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا"
(2)
المراد به ذوق القلب لا ذوق اللسان، وإذا قيل: ذاق الثمرة،
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم (1385). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم (2658).
(2)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا فهو مؤمن وإن ارتكب المعاصي الكبائر، رقم (24).
فهذا ذوق اللسان، ذاق العذاب: هذا ذوق البدن، فلكل مقام مقال.
قوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: يقال لهم أيضًا (ذوقوا العذاب) وهو العقوبة على الذنب (ذوقوا العذاب) بسبب كفركم، الباء هنا سببية وَ (ما) مصدرية أي بكونكم تكفرون بالله.
وقوله: {كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} تكفرون بالله وبما يجب الإيمان به.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب التذكير بهذا اليوم العظيم الذي ينقسم فيه الناس إلى قسمين؛ لقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وهذا على تقدير قولنا: "اذكر يوم"، أما إذا جعلناه متصلًا بما قبله فإنه لا يستفاد منه هذه الفائدة، ولكن يستفاد منه التذكير بهذا اليوم أي أن الله يذكرنا بهذا اليوم.
2 -
إثبات البعث والجزاء، وهو أحد أركان الإيمان الستة. فأحد أركان الإيمان أن تؤمن باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر ليس معناه أن الإنسان يؤمن بأن الناس يبعثون فقط، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية:(ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت) فالإيمان بفتنة القبر ونعيمه وعذابه من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالصراط والميزان والشفاعة، كل من الإيمان باليوم الآخر.
3 -
أن الناس ينقسمون في ذلك اليوم إلى قسمين: قسم
مبيضة وجوههم وهم أهل الإيمان والطاعة، وقسم مسودة وجوههم وهم أهل الكفر والعصيان، فإذا قال قائل: الآيات هنا بيّنت أن الوجوه تسود وفي آية أخرى كذلك: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وفي آية أخرى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102] فكيف نجمع بين الآيتين اللتين تثبتان اسوداد الوجوه والآية التي تثبت أنهم يحشرون زرقًا؟ قال أهل العلم في الجمع بين هذا وأمثاله: إن يوم القيامة ليس زمنًا متحدًا قصيرًا تتعارض فيه الأحوال، لكنه زمن طويل مقداره خمسون ألف سنة، فيمكن أن تكون الوجوه في وقت من هذا اليوم مسودة، وفي وقت آخر مزرقة، هذا جمع.
الجمع الثاني: أن المراد بالسواد الزرقة؛ لأن الزرقة كلما اشتدت مالت إلى السواد، وحينئذٍ يكون زرقًا واسودت بمعنى واحد.
الجمع الثالث: أن الناس يختلفون في الجرم والكفر، فتسود وجوههم أو تزرق بحسب كفرهم وجرمهم، فمنهم من يكون جرمه شديدًا عظيمًا فتسود وجوههم، ومنهم من يكون أخف فتكون زرقاء.
الجمع الرابع: قالوا: إنهم سود البشرة زرق العيون، وهذا أعظم في القبح، إذا كان الوجه أسود والعين زرقاء، صار هذا أقبح منظرًا.
على كل حال هذه أوجه جمع العلماء بها بين هذا الظاهر الذي يظهر أنه متعارض، وهنا نقف لنقول: ليس في القرآن شيء متعارض لا يمكن الجمع بينه وبين الآخر؛ لأن التعارض يقتضي
أن يكون أحد المتعارضين حقًّا والثاني باطلًا؛ لأنه ليس معنا إلا حق وضلال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، ولا يمكن أن يكون شيء في كتاب الله باطلًا ضلالًا كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] نعم يمكن أن يتعارض النصان ولكن يكون أحدهما ناسخًا للآخر كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] ثم قال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] والنسخ يكون به إبطال المنسوخ من عند الله، فلا يكون هناك تعارض، فإن وجد من القرآن ما ظاهره التعارض فلابد أن يكون هناك انفكاك بين النصين ينتفي به التعارض، وأما أن يبقى متعارض فهذا شيء ممتنع، ومن أحسن ما أُلِّف في الجمع بين الآيات المتعارضة كتاب محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله المسمى "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" وهو كتاب جيد ومفيد لطالب العلم.
4 -
أنه يجمع لهؤلاء الكافرين بين العذاب البدني والعذاب النفسي، نأخذه من قوله:{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} : قيل: إن التقدير: يقال لهم {أَكَفَرْتُمْ} فهذا العذاب النفسي.
5 -
شدة التنكيل بهؤلاء المكذبين حيث يجمع لهم بين العذابين البدني والنفسي، ثم يقال:(ذوقوا العذاب) فهذا لا شك أنه من أشد ما يكون تنكيلًا بهم.
6 -
إثبات الأسباب، يؤخذ من قوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} لأن الباء للسببية. والناس في إثبات الأسباب طرفان ووسط، منهم من أنكر الأسباب رأسًا، وقال: إن الأسباب ليس لها تأثير إطلاقًا، ومنهم من أثبت تأثير الأسباب بنفسها، ومنهم من توسَّط وقال: إن الأسباب مؤثرة لا بنفسها ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، وهذا القول هو الصحيح وهو الحق، مثال ذلك: لو أن شيئًا ألقي في النار فاحترق بها، فالذين أنكروا الأسباب قالوا: إن هذا الاحتراق لم يحصل بالنار إنما حصل عندها حين ملامسة النار احترق، أما النار نفسها فإنها لا تحرق. ومنهم من قال: بل النار أحرقت بطبيعتها فهذه هي الطبيعة، ومنهم من قال: بل أحرقت النار ما يلقى فيها بما أودعها الله تعالى من القوى المحرقة. وهذا الأخير هو الحق بلا شك. ويدل على هذا أن النار التي ألقي فيها إبراهيم لم تحرقه بل كانت بردًا وسلامًا عليه، ولو كانت الأسباب مؤثرة بطبيعتها لأحرقته بكل حال، والذين أنكروا الأسباب هم في الحقيقة طاعنون في حكمة الله تعالى مدَّعون أن الله ليس له حكمة؛ لأن ربط المسببات بأسبابها هو عنوان الحكمة، فإذا قيل: ليس هناك سبب يؤثر، فهذا طعن في حكمة الله تعالى، والعجيب أن هؤلاء أنكروا الأسباب ظنًّا منهم أن إثباتها يستلزم الإشراك بالله تعالى، يقول: إنك إذا أثبتّ أن السبب فاعل أو أن السبب مؤثر فقد جعلت مع الله خالقًا، وهذا شرك لأنك مثلًا إذا قلت: إن النار هي التي أحرقت، معناه أن النار فاعلة للإحراق فيكون هذا شركًا بالله عز وجل، فيقال: نحن لا نقول: إن النار مستقلة في الإحراق، بل هي محرقة بما أودع الله فيها من قوة الإحراق، لا أنها بنفسها المحرقة. وكذلك
قالوا: لو أنك رميت زجاجة بحجر فانكسرت الزجاجة فلا تقل: إن الحجر كسر الزجاجة لأنك لو قلت هذا صرت مشركًا بالله، بل قل: حصل الكسر عندها لا بها! ! سبحان الله! عندها، لو تضع حجرًا من أكبر الأحجار عند زجاجة لم يكسرها إلا بالصدمة، إذن فالسبب معلوم، ليس فيه إشراك، وإنما المشرك هو الذي يقول: إن الأسباب تؤثر بطبيعتها أي بمقتضى طبيعتها ويقطع صلتها بالله، هذا لا شك أنه مشرك، ولكن الذي يقول: إنها تؤثر بما أودع الله تعالى بها من القوى هو الموافق للمعقول والمنقول.
ويمكن أن يؤخذ من هذه الآية أن الجزاء من جنس العمل؛ لقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفركم؛ لأن المسبب يتقدر بقدر السبب.
7 -
أن من فيه خصلة من خصال الكفر فله من عذاب الكافرين بقدرها؛ لأن لدينا قاعدة وهي أن الحكم المعلق بوصف يقوى ويضعف بحسب ذلك الوصف، إن وُجِدَ فيه جملة كبيرة من الوصف استحق من الحكم الذي رتِّب عليه بقدر هذه الجملة الكبيرة وإلا فبحسبها.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آل عمران: 107 - 109].
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :
(الواو) حرف عطف، {وَأَمَّا} تفصيلية كما في الأولى، {الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} وهم المؤمنون. وهذا البياض يكون على قسمين: بياض عام لكل مؤمن، وبياض خاص لهذه الأمة حيث قال صلى الله عليه وسلم:"سيما ليست لأحد من الأمم (يعني فيكم) تردون عليَّ غرًّا محجَّلين من أثر الوضوء"
(1)
. فهذه الأمة تكون وجوهها بيضاء ولكن لها نور بخلاف غيرها، وأيضًا هذه الأمة يكون النور لها حيث يبلغ الوضوء، أي يكون في اليدين وفي الرجلين، ولهذا قال:(غرًّا محجَّلين)، وأما من سواها لا نعلم إلا أن وجوههم فقط هي التي تكون بيضاء، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} هم المؤمنون {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} ، "في" للظرفية، ورحمة الله هنا ليست الرحمة المذكورة في قوله تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] لأن هذه صفة الله، أمَّا هنا {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} فهي مخلوق الله والمراد بها الجنة كما جاءت في الحديث الصحيح:"إن الله قال لها -أي الجنة- أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء"
(2)
، ويمتنع أن يكون المراد بها الصفة؛ لأن الصفة لا تكون ظرفًا للبشر، وإذا امتنع أن تكون ظرفًا للبشر امتنع أن يراد بالرحمة هنا الرحمة التي هي صفةٌ لله تعالى، بل هي الرحمة المخلوقة لله، وأطلق عليها اسم الرحمة لأنها كانت برحمة الله يرحم الله بها من يشاء من عباده.
(1)
تقدم تخريجه (ص 26).
(2)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، رقنم (4850). ورواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم (2846).
وقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :
(هم) مبتدأ وليست ضمير فصل بل لها محل من الإعراب، و {خَالِدُونَ} خبر المبتدأ و (فيها) جار ومجرور متعلق بـ (خالدون) أي ماكثون، وقد دلَّت الآيات على أن هذا الخلود مؤبَّد. فذكر الله التأبيد في عدة آيات من كتابه، فالخلود خلود أبدي.
وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} :
{تِلْكَ} المشار إليه ما سبق من الآيات التي ذكر الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون المراد بها كل القرآن، وربما يُرشَّح هذا، أي يُقوى بالإشارة حيث جاءت بصيغة البعد، فتكون الإشارة هنا شاملة لجميع القرآن.
وقوله: {آيَاتُ اللَّهِ} أي: العلامات الدالة على الله عز وجل على وجوده وعلى ما تضمنته من الأسماء والصفات والأفعال، وهنا المراد بالآيات الآيات الشرعية.
وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي: نقرؤها عليك، وهل المراد أن الله تعالى يقرؤها على النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أو بواسطة جبريل؟ بواسطة جبريل وربما يقع الأول أيضًا، ربما يُلقى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم إلقاءً، ولكن الثاني هو الأكثر، بل قد يكون بالنسبة للقرآن هو المتعين؛ لأن الله تعالى يقول:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 192 - 194] وظاهر الآية أن جميع القرآن نزل به جبريل، وعلى هذا فتكون إضافة التلاوة إلى الله في هذه الآية يراد بها تلاوة جبريل، ونُسِبَت إلى الله تعالى لأن جبريل أُرسل بها من عنده، وهذا كقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ
بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19](فإذا قرأناه) والقارئ هو جبريل كما ثَبُتَ به الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع قراءة جبريل تعجَّل في القراءة خوفًا من أن ينسى شيئًا، فكان يتعجل فقال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} حتى لو نزلت آيات كثيرة في آنٍ واحد فلن تنساه، ولهذا قال:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: أنه سيبقى ولا تنسى منه شيئًا، وقوله:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} لابد أن نبيِّنه للناس بلفظه ومعناه، يقول:{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} هل الباء هنا للمصاحبة؟ يعني أنها مصحوبة بالحق ونازلة بالحق، صدق في الأخبار وعدل في الأحكام؟ أو أن المعنى أنها نزلت من عند الله حقًّا، فالباء هنا للملابسة يعني متلبسة بالحق أي أنها نزلت من عند الله نزولًا حقًّا لا شبهة فيه ولا باطل وهو يشمل المعنيين جميعًا، فهي نازلة من عند الله حقَّا بلا شك، وهي أيضًا نازلة بالحق، والقاعدة في علم التفسير أن الآية إذا تضمنت معنيين لا يتنافيان فالواجب حملها على المعنيين، فإن كانا يتنافيان طُلب المرجّح، فما ترجَّح منهما فهو المراد.
وقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} :
(ما) نافية وهي حجازية؛ لأن الشروط تامة، لكن اسمها مفرد كما هو العادة في المبتدأ أن يكون المبتدأ مفردًا، وخبرها جملة (يريد) والترتيب موجود، ولم ينتقض النفي، ولم تقترن (بإن) فالشروط تامة، إذن هي حجازية. وليس مرادنا بقولنا حجازية أنه لا يتكلم بها إلا أهل الحجاز بل يتكلم بها جميع
العرب لكن أهل الحجاز يُعملونها عمل "ليس" وبنو تميم يهملونها، مثلًا إذا خاطبك شخص وقال:"ما زيدٌ موجودًا" تعرف أنه حجازي، وإذا خاطبك شخص آخر وقال:"ما زيدٌ موجودٌ" عرفت أنه تميمي.
يقول الشاعر:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب
…
فأجاب ما قتل المحبِ حرامُ
هذا تميمي أو حجازي؟ تميمي لأنه قال: "ما قتل المحبِ حرامُ" لو كان حجازيًا لقال: "حرامًا".
وفي الآية الكريمة: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} :
(ما) لا شك أنها حجازية، والاسم الكريم اسمها، وجملة "يريد" خبرها، يقول الله تعالى وينفي عن نفسه سبحانه وتعالى أن يريد ظلمًا للعالمين كهؤلاء الذين ابيضت وجوههم أو اسودت وجوههم لم يُظلموا، الذين ابيضت وجوههم نالوا هذا بعملهم أي بسببه، والذين اسودت وجوههم نالوه أيضًا بعملهم، فالأولون عملوا صالحًا فأثيبوا هذا الثواب، والآخرون عملوا سيئًا فأثيبوا هذا الثواب؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يظلمهم.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} العالمين المراد بهم كل من سوى الله، فإن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
الخبر هنا مقدم لفائدة وهي الحصر، يعني التخصيص؛ لأنك إذا قدمت ما حقه التأخير كان بذلك حصر، كلما قدَّمت
شيئًا حقُّه التأخير فهذا حصر سواءً كان خبرًا أو مفعولًا به أو جارًا ومجرورًا. فمثلًا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قدّم المفعول به لإفادة الحصر، أي لا نعبد إلا إيَّاك، ولا نستعين إلا إيّاك، وهنا {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: لا لغيره. فقدّم الخبر لأجل الحصر.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} :
(ما): اسم موصول، يشمل كل ما في السموات والأرض، يشمل كل هذا، ما فيها من الملائكة، وما في الأرض من البشر والجن والأشجار والأحجار وكل شيء.
{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وأتى "بما" تغليبًا لغير العاقل؛ لأنهم الأكثر فغلّبوا، هذا من وجه، ومن وجه آخر أنه إذا أريدت الصفة فإنه يعبر "بما" بدل "من" ولو في العاقل، ومثَّلوا لذلك بقوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ولم يقل: (من طاب) لأنه لم يقصد عين الشخص العاقل بل قصد الوصف والجنس والكم، انكح ما طاب من جميل وقبيح وواحد ومتعدد من النساء.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} صِلَة الموصول تأتي جملة وتأتي شبه جملة، تأتي جملة اسمية وجملة فعلية، وجارًا ومجرورًا وظرفًا، أربعة أنواع، فالجملة الاسمية والفعلية ظاهرة، تقول:"يعجبني الذي خلقه حسن" هذه جملة اسمية، وتقول في الجملة الفعلية:"يعجبني الذي كان شجاعًا"، وتقول في الظرف:"يعجبني الذي فوق السطح"، وتقول في الجار والمجرور:"يعجبني الذي في المسجد"، في هذه الآية الجار والمجرور،
يقولون: إن الجار والمجرور بنفسه ليس جملة؛ لأنه يحتاج إلى عامل فكيف يكون جملة؟ .
قالوا: لأنه متضمن لشيء محذوف، ولهذا نقول في الإعراب: جار ومجرور متعلق بمحذوف، قَدِّر المحذوف في الاسم الموصول فعلًا، وقَدِّره في خبر المبتدأ اسمًا، فإذا قلت:"يعجبني الذي عندك" فالتقدير: الذي استقرَّ عندك، وإذا قلت:"زيدٌ عندك" التقدير: زيد مستقر عندك؛ لأن الأصل في خبر المبتدأ أن يكون مفردًا غير جملة، والأصل في صلة الموصول أن تكون جملة، فنقدِّرها فعلًا في صلة الموصول، ونقدِّرها اسمًا في خبر المبتدأ، هذه هي القاعدة.
وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
هذه الآية مفيدة للحصر بتقديم الجار والمجرور على المتعلق وهي "تُرجع".
وقوله: {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يَعمّ كل أمر، والأمور هنا جمع أمر بمعنى الشأن؛ لأن كلمة أمر يراد بها الشأن كما قال تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي: ما شأنه، ويراد بالأمر الخطاب الموجه على وجه طلب الفعل على وجه الاستعلاء، وجمع أمر الأول أمور، وجمع أمر الثاني أوامر، وعلى هذا تكون الأمور جمع أمر، وهي الشؤون، كل الشؤون تعود إلى الله تعالى وترجع إليه؛ لأنه الخالق الذي ابتدأها فيجب أن ترجع إليه.
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :
1 -
الذين ابيضت وجوههم في الجنة؛ لقوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} .
2 -
أن الرحمة تطلق على غير صفة الله بل على مخلوقاته كما أسلفنا في التفسير أن المراد بالرحمة هنا الجنة، وأمَّا قوله:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] فالمراد الصفة، رحمة الله التي هي صفته غير مخلوقة، كل صفات الله غير مخلوقة، ورحمة الله التي هي الجنة مخلوقة، قال تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] عندما ذكر نزول المطر وأنه يُحيي به الأرض قال: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ما المراد بالرحمة هنا المخلوقة التي هي المطر أو الصفة؟ يحتمل أن يكون المراد بـ (آثار رحمة الله) المطر فيكون مخلوقًا، ويحتمل أن يراد بـ (رحمة الله) صفته والتي من آثارها وما ينشأ عنها هو المطر {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] الرحمة مخلوقة لأنها هي التي تنشر، إذن الرحمة قسمان: قسم مخلوق وهو ما كان بائنًا عن الله، وقسم غير مخلوق وهو ما كان صفة له.
3 -
أن الله تعالى أكرم من الخلق؛ لأن عمل الذين ابيضت وجوههم لو نسب إلى الثواب لم يكن شيئًا ومع ذلك يجزون بالرحمة التي يخلدون فيها أبد الآبدين، وهذا تصديق قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
4 -
أن أهل الجنة مخلدون فيها؛ لقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} والخلود فيها أبدي لأنه جاء بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار. كما ذكره تعالى في آيات كثيرة، فإن قال قائل: إذا
قلت إنه أبدي فما جوابك عن قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] فاستثنى فقال: إلا ما شاء ربك؟ فالجواب: لا تعارضُ الآيات الدالة على الأبدية هذه الآية؛ لأنها من المشكل الذي يجب رده إلى المحكم، والعلماء لهم في هذه الآية أقوال.
ولكن القول الذي يريح الإنسان أن يجعل هذا القيد والقيد الذي في أهل النار (خالدين فيها إلا ما شاء ربك) من الأمور المتشابهة، ويحمل على النصوص المحكمة فنقول: إن الله قال (إلا ما شاء ربك) مع أنه قد شاء أن يبقى هذا أبد الآبدين وهو كقول الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور: "إنا إن شاء الله بكم لاحقون" فعلَّقه بالمشيئة مع أن اللحوق بهم لابد منه، وهذا القول يستريح به الإنسان، ولا يعترض عليه معترض كما اعترض ابن القيم رحمه الله بأن الله قال في أهل النار:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وقال في أهل الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
قال: فاختلاف ختم الآيتين يدل على أن أهل النار ليس خلودهم أبديًا بخلاف أهل الجنة؛ لأنه قال في أهل الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وقال في أهل النار: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وهذا في الحقيقة يدلك أن الإنسان مهما بلغ في العلم والذكاء فلن يسلم من الغلط، والفرق بين الآيتين ظاهر؛ لأن آية (السعادة) فضل فقال:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وآية النار (الشقاء) عدل فقال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وهذا
من فعله الذي أراد وليس المعنى أنه (فعال لما يريد) سيفعل في المستقبل خلاف ذلك كما فهمه ابن القيم رحمه الله، فإن هذا فَهْم غير سليم بلا شك، بل إن مناسبة ختم الآية بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} هو أنه لما كان الشقاء غير محمود قال: هذا من فعل الله، والله يفعل ما يريد مع أنه لم يظلمهم.
ومن فوائد قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} :
1 -
أن القرآن كلام الله تعالى؛ لأن الله تعالى أضافه إلى نفسه فقال: {آيَاتُ اللَّهِ} وما أضيف إلى الله ولم يكن عينًا قائمة بنفسها فهو من صفاته؛ لأنه لابد أن يكون هذا المضاف قائمًا بشيءٍ، فإذا كان صفة فلن يكون إلَّا صفة الله عز وجل، فإذا قلنا: كلام الله فهذا إضافة صفة، وإذا قلنا: هذا مخلوق الله فهذا ليس إضافة صفة؛ لأن المخلوق عين قائمة بنفسها، فـ (ناقة الله) غير صفة لأنها عين قائمة بنفسها. و (بيت الله) كذلك غير صفة لأنه عين قائمة بنفسها {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]. {رُوحِي} ليست صفة بل هي مخلوقة لأنها لو كانت صفة الله ما بانت منه، وهنا بانت من الله وحلَّت في جسد آدم، وليست صفة من صفات الله لأنها بائنة منه، فإضافة الروح إلى الله هنا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، ولهذا لا يمكن أن نقول: إن هذه جزء من روح الله التي هي صفته، هذا شيء مستحيل إذ لو قلنا بهذا لحلَّ شيء من الله في مخلوقاته.
2 -
أن من كان وكيلًا عن الغير فله حكم ذلك الذي وكله؛ لأن الله أضاف التلاوة إليه مع أن التالي رسوله، فدلَّ هذا على أن
حكم ما نفذه الرسول بما أرسل به حكم ما قاله المرسِل.
3 -
أن كتاب الله تعالى كله حق ليس فيه باطل، وإذا أخذنا هذه الكلمة على عمومها قلنا: جميع أحكامه حق، وجميع أخباره حق، وليس فيه تناقض ولا اختلاف، لأنه لو كان فيه تناقض أو اختلاف لكان أحد المتناقضين باطلًا، والقرآن ليس فيه شيء باطل بل كله حق.
4 -
إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} فيكون المتلو عليه هذه الآيات قطعًا رسولًا لله رب العالمين.
5 -
إثبات إرادة الله تعالى؛ لقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} فإن قال قائل: الآية هنا نفي {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ} فكيف تقول إنها دالة على إثبات؟ .
نقول: إن هذا النفي ليس مطلقًا بل هو نفي لإرادة شيء معين وهو الظلم، إذن فغير الظلم يريده.
6 -
أن الظلم ممكن في حق الله تعالى ولكنه لا يريده لكمال عدله، ووجهه أنه قال:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} ولم يقل: (لا يمكن أن يريد الله ظلمًا) على أنه لو قال: "لا يمكن" لم يدل على انتفاء الظلم لو أراده، وحينئذٍ يكون فيه رد على القائلين بأن الظلم في حق الله محال لذاته، وهم الجهمية حيث يقولون: إن الظلم في حق الله مستحيل لذاته لا لأنه غير مراد الله تعالى بل لذاته، وعلى قولهم يكون تمدح الله تعالى بنفي الظلم عنه لغوًا لا فائدة منه؛ لأن ما لم يمكن لا يصح أن يكون مدحًا أو أن يتمدح به من كان ممتنعًا عليه، فالظلم في حق الله ممكن عقلًا ولكنه ممتنع شرعًا وعدلًا. ولو شاء الله تعالى أن يعذب
المطيع لأمكن ولكنه لكمال عدله لا يمكن أن يعذبه لأنه ظلم، وهم يقولون: لا يمكن أن يظلم الله تعالى أبدًا، الظلم مستحيل لماذا؟ أليس يمكن أن الله يعذب المطيع الذي أمضى طول عمره في طاعة الله؟ قالوا: نعم، يمكن، لكن هذا ليس بظلم لأنه فعله فيما يملكه، فالعبد ملك لله، فإن فعل به أي شيء فليس بظالم له. هذا وجهة نظرهم لكنها وجهة فاسدة؛ لأنه لو قال لك قائل: افعل كذا سأثيبك، ولا تفعل كذا فإن فعلت عاقبتك، ثم فعلت ما أمرك به وما وعدك الإثابة عليه، ثم عذبك أشد العذاب، هل هذا ظلم عقلًا أو غير ظلم؟ هذا ظلم ولو كان مالكًا لك، لو أن السيد قال لعبده: يا عبد أعِدَّ الغداء واجعل فيه كذا وكذا وقدِّمه لي، ففعل على الوصف الذي أُمِرَ به، وأتى به في الزمن المطلوب، ثم أخذ السيد خشبة وجعل يضربه بها فإنه يكون ظالمًا ولو كان عبده. عقلًا يكون ظالمًا، هم يقولون: يجوز أن يمضي الإنسان عمره كله في طاعة الله امتثالًا لأمر الله وإذا مات يخلده في النار، وإذا فعل هذا ليس بظالم لأنه فعله في ملكه. نقول: إذا كان الأمر كذلك وكان الظلم على زعمكم محالًا فإن الله تعالى لا يصح أن يقال إنه ينفي الظلم عن نفسه تمدحًا بذلك.
7 -
أنه إذا انتفت إرادة الظلم انتفى الظلم. وجه ذلك: أن الله لا مكره له، فإذا كان لا يريد الظلم سبحانه وتعالى فنفي إرادة الظلم نفي للظلم، وحينئذٍ لا يكون بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] تعارض؛ لأن نفي إرادة الظلم تستلزم نفي الظلم، ونفي الظلم يستلزم نفي إرادة الظلم؛ لأنه لو أراد أن يظلم لظلم،
إذن لو أن أحدًا من الناس قال لي: كيف تجمع بين هذه الآية: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} وبين قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ؟ أقول لهم: لا منافاة لأنه إذا انتفت إرادة الظلم لزم نفي الظلم، وإذا انتفى الظلم لزم انتفاء إرادته؛ لأن الله تعالى قادر لو أراد أن يظلم لظلم.
8 -
إثبات الصفات السلبية؛ لأن ما وصف الله به نفسه ينقسم إلى قسمين: ثبوتي وانتفائي، أو إن شئت قل: سلبي، فالثبوتي كله صفات كمال، كل صفة أثبتها الله لنفسه فهي صفة كمال، والانتفائي كله صفات نقص ولكنه متضمن لثبوت كمال، ففي قوله تعالى:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] نفي الغفلة لكمال علمه ومراقبته. {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لكمال عدله، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قوته، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 44] لكمال قدرته وعلمه، وهلم جرا.
ومن فوائد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
1 -
عموم ملك الله تعالى؛ لقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} و"ما": موصولة تفيد العموم.
2 -
انفراد ملك الله تعالى بذلك أي أن الله وحده هو المالك لها، وهذا يؤخذ من تقديم الخبر؛ لأن القاعدة المقررة عند البلاغيين وأصحاب الأصول أن تقديم المعمول يفيد الحصر.
3 -
إثبات السموات والأرض، وهو أمر معلوم ولا ينكر، ولكن الفائدة من هذه الفائدة بيان عظمة الله تعالى بخلق هذه
المخلوقات العظيمة التي قال الله عنها: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
4 -
أن مرجع الأمور إلى الله وحده؛ لقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
5 -
أن من حاول أن يشرع للخلق شيئًا سوى ما شرعه الله فقد شارك الله أو فقد جعل نفسه شريكًا مع الله. وجه ذلك: أن الله حصر مرجع الأمور إليه فقال {وَإِلَى اللَّهِ} ، فمن حاول أن يشرع للناس أمورًا لم يشرعها الله فقد جعل نفسه شريكًا مع الله تعالى.
6 -
بيان سعة الله تعالى حيث كانت جميع الأمور ترجع إليه؛ لأن الأمور جمع أمر وهو محلى (بأل) فيفيد العموم، فكل الأمور ترجع إليه، الدقيقة والجليلة، قال الله تعالى:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] كل الدواب صغيرها وكبيرها فالله تعالى آخذ بناصيتها فهو الذي يوجهها ويدبرها، العاقل منها وغير العاقل.
7 -
إثبات أن السموات جمع، وقد بيَّنت آية أخرى أن عددها سبع سموات، أما الأرض فجاءت في القرآن مفردة ولكن الله أشار إلى عددها في قوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ} [الطلاق: 12] وجاءت السنة صريحة في ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين"
(1)
.
(1)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610).
• قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
الخطاب لهذه الأمة، وقوله:{كُنْتُمْ} قيل: في علم الله وذلك لأن "كان" للمضي، ومعلوم أن هذه الأمة آخر الأمم فلا يمكن أن يتحدث عنها على أنها أمة بائدة، فمن ثَمَّ قال بعض العلماء: إن فعل المضي هنا باعتبار علم الله أي كنتم في علم الله خير أمة، وعلم الله سابق على وجود الأمم. وقيل وهو الصحيح: إن "كان" هنا ليست دالة على زمان، وإنما هي مبيِّنة لاتِّصاف المبتدأ بالخبر وتحقق وجوده فيه، وهذا هو الأصح، ولهذا أمثلة منها:
قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96].
وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158].
لا نقول: إن (كان) هنا تدل على المضي، وإن هذه صفة زالت عن الله تعالى، لا، لكنها مسلوبة الزمن تدل على تحقق اتصاف اسمها بما دل عليه خبرها.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} :
{خَيْرَ أُمَّةٍ} أي طائفة، وسبق لنا أن كلمة أمة تطلق في القرآن على أربعة معانٍ
(1)
.
{خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} يعني أخرجها الله تعالى وبيَّنها
(1)
انظر (ص 5).
وأبرزها، خير أمة أخرجت ولم يقل خلقت؛ لأن هذه الأمة من وصفها الخروج والبروز، فخير أمة ظهرت وبرزت هي هذه الأمة، هناك أمم أخرجت للناس وظهرت وبانت لكنها لم تحصل لها الخيرية التي كانت لهذه الأمة.
ثم بيَّن الله تعالى وجه هذه الخيرية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} :
{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} سبق معنى الأمر بالمعروف ومعنى المعروف ومعنى النهي ومعنى المنكر في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران: 104].
وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} هذا يشمل الإيمان بكل ما أمر الله الإيمان به، وتشمل أيضًا تطبيق كل ما أمر الله به فعلًا وكل ما نهى الله عنه تركا؛ لأن من مقتضى الإيمان بالله أن تؤمن بما أخبر به؛ وعلى هذا فيكون جميع ما أخبر الله به من أمور الغيب داخلًا في الإيمان بالله، ومن تحقيق الإيمان بالله أن تذعن له وتقبل حكمه، وهذا يشمل جميع الإِسلام، جميع الأعمال الصالحة، ولذلك كان من مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وتأمل كيف أخر الإيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن شأن الأمة أن تكون قاهرة غالبة آمرة ناهية، فقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون الإيمان بالله لا ينفع، ولكن لما كانت الأمة بمظهرها، كان عنوان قوتها أن تكون آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر.
يقول الله عز وجل: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الإيمان بالله: دائمًا
نسمع كثيرًا من المؤلفين -يرحمهم الله- يقولون: إن الإيمان هو الإقرار، وبعضهم يقول: إن الإيمان هو التصديق، ولكن هذا على إطلاقه لا يصح باعتبار الإيمان الشرعي، فالإيمان الشرعي هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فمن صدق وأقر ولكن لم يقبل ويذعن فليس بمؤمن، ودليل ذلك أن أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقرًّا ومعترفا بصدق رسول [الله][*]صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يكن مؤمنًا؛ لأنه لم يقبل ما جاء به ولم يذعن له، وإلا فإنه يقول في قصائده:
لقد علموا أن ابننا لا مُكذبٌ
…
لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل
لقد علموا يعني قريشًا أن ابننا وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم لا مُكذبٌ لدينا أي نصدقه، ولا يُعنى بقول الأباطل، أي لا يهتم بقول الكذب الباطل، ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمَّد
…
من خير أديان البريةِ دينا
لولا الملامةُ أو حذار مسبة
…
لرأيتني سمحًا بذاك مبينا
أعوذ بالله! مع ذلك لم ينفعه هذا الإيمان بل مات على الكفر. فالإيمان شرعًا هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان.
قال تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} :
(لو) هذه شرطية، وفعل الشرط فيها "آمن" وجوابه "لكان خيرًا لهم".
(ولو) الشرطية إذا كان جوابها إثباتًا فالأفصح أن يقرن باللام، كما في هذه الآية:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} وكما في قوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع
يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] والأمثلة على هذا كثيرة، وربما حذفت اللام ومنها قوله تعالى:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] ولم يقل: لجعلناه أجاجًا، أما إذا كان الخبر منفيًا فإن الغالب حذف اللام، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ولم يقل: (لما فعلوه)، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] ولا تقترن بها اللام إلا نادرًا، يعني قولك: لو شئت لما فعلت، هذا نادر ولكنه قد يرد، ووجه كونه نادرًا أن اللام تفيد التوكيد و (ما) تفيد النفي وبينهما شبه تضاد، ولا يجمع بين الشيء وضده.
وتأتي (لو) مصدرية مثل "أن" وذلك إذا جاءت بعد "ودَّ" ونحوها فإنها تكون مصدرية، قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} [البقرة: 109] أي ودوا ردَّكم، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] أي: إدهانك وهكذا، فهنا "لو" مصدرية فصارت تأتي مصدرية إذا جاءت بعد "ودَّ" وما أشبهها مما دلَّ على المحبة وتقول: أحب لو تذهب، أحب لو تفهم، أي أحب ذهابك، وأحب فهمك.
قال تعالى: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} خيرًا لهم من الكفر لو آمنوا، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10، 11] إذن لكان خيرًا لهم من بقائهم على كفرهم، ويحتمل أن يقال لكان خيرًا لهم، أي لكان خيرًا مضاعفًا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل من
أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران"
(1)
.
ثم قال: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} : منهم أي من أهل الكتاب المؤمنون أي الذين آمنوا مثل "النجاشي" من النصارى، و"عبد الله بن سلام" من اليهود، هؤلاء آمنوا إيمانًا وقر في قلوبهم.
{وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} : الفسق هنا المراد به الخروج عن طاعة الله خروجًا مطلقًا وهو الكفر؛ لأن الفسق يراد به الخروج عن الطاعة خروجًا مقيدًا، ويراد به الخروج عن الطاعة خروجا مطلقًا، فالخروج عن الطاعة خروجًا مقيدًا، كما قال الفقهاء رحمهم الله: إن فاعل الكبيرة فاسق؛ لأنه خرج عن الطاعة خروجًا مقيدًا بهذه المعصية التي فسق بها، والخروج عن الطاعة خروجًا مطلقًا يكون بالفسق، ومنه قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن هذه الأمة خير الأمم؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الخيرية وبين ما جاء في بني إسرائيل أن الله فضّلهم على العالمين، ومعلوم أن المفضل خير من المفضل عليه؟ فنقول: لدينا آيتان أو لدينا نصَّان متعارضان كلاهما على سبيل العموم كهذه الآية {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (للناس) هذه عامة تشمل بني إسرائيل وغيرهم،
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها، رقم (5083). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، رقم (154).
وقوله في بني إسرائيل: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] تقتضي التفضيل العام على هذه الأمة وعلى غيرها، فبين النصين الآن عموم متعارض، فإن ادعيت تخصيص عموم آية بني إسرائيل بخصوص هذه الآية قال لك الإسرائيلي: وأنا أدعي تخصيص عموم هذه الآية بخصوص بني إسرائيل، فأقول: أنتم خير أمة أخرجت للناس ما عدا بني إسرائيل، فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا أي العمومين مرادًا بقوله: "توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله"
(1)
فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة خير الأمم التي أوفتها وختمت بها، وهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم نص فيكون عموم قوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} مقدمًا على عموم قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] وحينئذ يكون قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} مخصوصًا بقوله في هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، بنصِّ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض العلماء: إن المراد بالعالمين العام خصوص عالمي زمانهم، يعني العالمين في هذا الزمن أي في زمن بني إسرائيل، فيكون من باب العام الذي يراد به الخاص، فلم يرد به العموم من الأصل، والعام الذي يراد به الخاص كثير في القرآن والسنة، ومن ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] فإن (الناس) في قوله:
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، رقم (3001) ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، رقم (4288). ورواه الإِمام أحمد في مسنده، رقم (19513) بلفظه.
{قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} لا يراد به عموم الناس بل القائل واحد، وقوله:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أيضًا لا يراد به جميع الناس؛ لأنه لم يجمع لهم إلا قريش، عامة البشر لم يجمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيكون قوله:{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] عامًا أريد به الخاص، وعلى هذا فلا يكون في الآية عموم إطلاقًا، وحينئذٍ لا تعارض هذه الآية.
2 -
أن هذه الأمة فَضَلَت غيرها بالخيرية لوصفٍ ليس في غيرها، وهي أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأما من سبقها فلا، يقول الله تعالى في بني إسرائيل:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
3 -
أنه متى زال هذا الوصف الذي به فُضّلت هذه الأمة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زال كونها خير أمة أخرجت للناس، وذلك لأن الحكم المعلل بعلة يوجد بوجودها وينتفي بانتفائها، ويقوى بقوّتها ويضعف بضعفها.
4 -
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ترتب الخيرية عليه يدل على أهميته.
5 -
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما وجد في الأمة وجد الخير فيها، وكلما ضعف فيها ضعف الخير، ولهذا لما كانت الأمة قوية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلادنا كانت البلاد على خير ما يرام، ولما ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فات هذه البلاد من الخير بقدر ما فاتها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6 -
أنه كما ازداد الإنسان أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر كان خيرًا من غيره؛ لأن المعلق على وصف يقوى بقوّته ويضعف بضعفه.
7 -
أن العامل أو أن العاملين يتفاضلون، من قوله:{خَيْرَ أُمَّةٍ} وهذا واضح، وتفاضل العمال بتفاضل الأعمال، وتفاضل الأعمال ثابت بالكتاب والسنة:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95] فهذا تفضيل العامل لفضل العمل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، وأن العامل يزيد وصفه بالطاعة وينقص بحسب ما معه من العمل.
8 -
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
9 -
التنديد بأهل الكتاب حيث كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم يدَّعون أنهم يريدون الخير، ولو كانوا صادقين في إرادة الخير لكانوا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم.
10 -
أن من أهل الكتاب من هو مؤمن ومنهم من هو فاسق وهم الأكثرون. فإن قال قائل: هل معنى ذلك أن أهل الكتاب الموجودين اليوم مؤمنون؟ لا، ولهذا قال:"منهم المؤمنون" و (أل) هنا للعهد الذهني يعني المعروف وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يقل: منهم مؤمنون قال: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} يعني الإيمان المعهود عندكم أيها المسلمون وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 -
أن أكثر أهل الكتاب فاسق مارق خارج عن الدين وهو كذلك، والقليل منهم آمن ويؤمن، وحتى الآن يوجد أناس من أهل الكتاب يؤمنون بالله.
• ثم قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111].
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتمسكين بهديهِ، والفاعل في (يضروكم)، يعود على أهل الكتاب أي لن يضركم أهل الكتاب إلَّا أذىً، وقوله:{إِلَّا أَذًى} اختلف المفسرون فيها: هل هذا الاستثناء منقطع أم متصل؟ فمنهم من قال: إنه استثناء متصل؛ لأن هذا هو الأصل في الاستثناء.
وعلى هذا الرأي يكون في الآية من شيء من الحذف تقديره: (لن يضروكم إلَّا ضررَ أذىً) ليس ضرر عدوان حسِّي ببتر عضو أو أخذ مال، وإنما هو أذى، وذلك بأن يُسمِعُوكم ما تكرهون بالتوبيخ والاستهزاء وما أشبه ذلك. ولا شك أن الأذى نوع من الضرر لكنه ليس الضرر الذي يطلق عليه اسم ضرر.
والقول الثاني: أن الاستثناء هنا منقطع، وعلى هذا القول يكون المعنى:"لن يضروكم ولكن يؤذونكم" والأذية لا يلزم منها الضرر، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] فأثبت أنهم يؤذون الله ورسوله. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176]. وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني"
(1)
فالضرر منتفٍ عن الله، والأذية حاصلة، ومن أمثلتها قوله تعالى في الحديث القدسي:"يؤذيني ابن آدم، يسبُّ الدهر وأنا الدهر"
(2)
، ويوضح هذا أنه لو صلى إلى جانبك رجل قد أكل
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 560).
(2)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ، رقم =
بصلًا أو ثومًا فإنك تتأذى برائحته ولكن هل يضرك؟ لا يضرك، وهذا القول أصح وهو أن الاستثناء منقطع، وهو وإن كان خلاف الأصل لكنه أعلى في البلاغة، لن يضروكم ولكن الأذى ستصبرون عليه والأذى ليس بضرر.
فإن قال قائل: هل هذه الآيةُ محكمةٌ عامة إلى يوم القيامة أو هي منسوخة خاصة بما كان قبل النصر؟ .
فالجواب: الأول.
فإن قال قائل: يرد على دعواكم أن المراد الأول أن اليهود يعملون بنا اليوم ما هو من أشد الأضرار، ومعلوم أن خبر الله تعالى لا يخلف؟ .
فالجواب أن نقول: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلن يضره اليهود ولا النصارى، أما من يعتقد أن الدين الإِسلامي دينَ رجعية وتخلف ويُبدله بغيره من القوانين الرجعية الوضعية فهؤلاء لا يكتب لهم النصر، ويضرونهم بالأذى القولي والفعلي والاقتصادي وفي كل شيء، وإلا فإن كلام الله تعالى لا يخلف أبدًا. فقوم يقاتلون قتالًا جاهليًا مبنيًا على القومية المتمزقة وعلى أسس باطلة مضادة لدين الله فهؤلاء لا يستحقون النصر، ولذلك كانت اليهود الآن يفعلون الأفاعيل بنا، من يقدرون على الفعل ببدنه فعلوا، ومن لا يقدرون فإنهم يفعلون به ما يفعلون من المضار الاقتصادية
= (4826). ورواه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، رقم (2246).
العالمية. وحينئذٍ تبقى الآية محكمة غير منسوخة باقية إلى يوم القيامة، لكن المشروط يتوقف على الشرط، فانتفاء الضرر موقوف على وجود شرطه وهو أن نطبق سيرة من وعدوا بهذا الوعد وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} :
يعني لو فُرض وحصل بين المسلمين وبين أهل الكتاب قتال ولَّووا الأدبار {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] ولكن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن كان على مثل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ} عندنا شرط وجوابه، الشرط المقاتلة، والجواب تولي الأدبار، فهم بمجرد ما يحصل بيننا وبينهم لقاء وقبل أن يصل أول سهم إليهم -والله أعلم- يفرون ويولون الأدبار، وهنا يقول:{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} أي: يجعلون الأدبار تليكم وهو كناية عن الانهزام؛ لأن المنهزم يولي ظهره المنهزمَ منه، ولهذا قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه حينما حُوصر في مكة قال منشدًا:
ولسنا على الأعقاب تُدمى كلومُنا
…
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
الذي تقطر الدماء أقدامه مقبل، والذي تُدمى أعقابه مدبر.
وقوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} حذفت منها النون لأنها وقعت جواب الشرط.
قال: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} :
(ثم) للمهلة والتراخي، و (لا ينصرون) فيها النون وهو محل إشكال؛ لأن (ثم) حرف عطف و {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} معطوف عليه، والمعطوف على المجزوم يكون مجزومًا، ولكن نقول:(ثم) هنا
ليست للعطف ولكنها للاستئناف والتقدير: (ثم هم لا ينصرون) ولابد من هذا التقدير؛ لأنها لو كانت عطفًا على قوله: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} لجزمت ولقيل: "ثم لا ينصروا" وحينئذٍ يفسد المعنى؛ لأنه لو كان انتفاء النصر عنهم حين يقاتلوننا لأمكن لقائلٍ أن يقول: إنهم ينتصرون بعد ذلك، ولصار انتفاء النصر مقيدًا بما إذا قاتلونا، ولكن الأمر ليس كذلك، إنهم لا ينصرون أبدًا سواء قاتلونا أم لم يقاتلونا، ولهذا قال:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} فتبين الآن أن "ثم" هنا ليست عاطفة ولكنها استئنافية، والفعل بعدها مرفوع لأنها جملة مبتدأ بها لم تعطف على منصوب ولا مجزوم.
وقوله: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} النصر هو المنعة والقوة والصرف وما أشبه ذلك. فمعنى "نَصَرْتُهُ" أي: صرفت عنه عدوه، وأيَّدتُهُ وقوَّيتُهُ، هذا معنى النصر، فهؤلاء لا ينصرون أبدًا. ولكن قد يقول قائل: إنه جرت حروب بين المسلمين وبين النصارى، وبين المسلمين وبين اليهود؛ فنُصِر النصارى على المسلمين، واليهود على المسلمين والجملة {لَا يُنْصَرُونَ} جملة خبرية، وخبر الله عز وجل لا يمكن إخلافه فما هو الجواب؟
من العلماء من قال: إن هذا في اليهود وإن اليهود ما انتصروا يومًا من الدهر على المسلمين أبدًا، بل من هزيمة إلى هزيمة، هزموا في المدينة بني قينقاعٍ وبني النضير وبني قريظة، وهزموا في خيبر بني النضير ولم يقم لهم قائمة أمام المسلمين، وبناءً على هذا نقول: إن الآية خاصة باليهود أما النصارى فلم تتعرض لهم الآية. ولكننا نجيب بجواب أصح من هذا فنقول: الخطاب للمسلمين حين كانوا يمثلون الإِسلام بالعقيدة والقول
والفعل، وهم في هذه الحال سينتصرون على اليهود والنصارى والمجوس وسائر الكفار، وحينئذٍ لا يشكل علينا تغلب النصارى الصليبيين على المسلمين، ولا يشكل علينا تسلط اليهود على العرب؛ لأن القتال مع اليهود في راية العروبة قتالُ جاهلية وقتال طائفة لطائفة، لا لدين، بل ربما اعتقد اليهود أنهم يقاتلون للدين، وهم على باطل وأن الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم مكتوبة لهم إلى يوم القيامة:{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] ويذكر أنه لما كانت هزيمة عام 1387 هـ لما دخلوا سيناء وما استولوا عليه من بلاد العرب صار الواحد من الجنود يأخذ التراب ويقبِّله ثم يسجد عليه.
إذن الجواب عندنا على وجهين:
الوجه الأول: أن ذلك خاص باليهود، وأن اليهود لم تقم لهم قائمة بعد أن أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم بعد ذلك أُجلوا من خيبر.
والقول الثاني: أن المراد اليهود والنصارى ولكن بشرط أن يكون المقابل لهم يقاتل للإسلام لتكون كلمة الله هي العليا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
فيه دليل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يضروا المسلمين، والواقع شاهد لذلك لما كان المؤمنون على الإيمان حقًا، أمّا لما تفرقوا وتمزقوا واختلفوا في دين الله فإن الله تعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] لم يحصل ولم يتحقق لهم هذا الضمان من الله {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} .
2 -
أنه لو تقابل المسلمون وأهل الكتاب في قتال فالمنتصر هم المسلمون: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} وهذا الخبر صدق مَخبَرُهُ لما كان المؤمنون على الإيمان الحق، ولكن لما اختلفوا وتفرقوا من بعد ما جاءهم البينات رفع الله عنهم هذا الالتزام ولم يلتزم لهم، وكانوا فريسة لأعدائهم من اليهود والنصارى. وكلما بعدنا عن الإِسلام زاد افتراس هؤلاء الأعداء لنا، ووجه ذلك أن المسلمين إذا تخلوا عن الإِسلام بقيت الموازنة بين قوىً مادية وأخرى، ومعلوم أن هؤلاء بالنسبة للقوى المادية سيكونون أقوى منا؛ لأننا إذا أضعنا أمر الله أضعنا القوى المادية، فإن من جملة أمر الله أن يكون لدينا قوة مادية. إذن فكلما أضعنا أمر الله حصل لهم من القوة علينا بقدر ما أضعنا من أمر الله، وكل درجة بدرجة، كلما نزلنا درجة ارتَقَوا درجة، وهذا الآن هو الواقع، تكاد أن تقول: إن السيطرة على البسيطة ليست للمسلمين ولكنها لغيرهم، حتى في بلاد المسلمين ليست السيطرة للمسلمين مع الأسف، لا نقول: إنهم مغلوبون عسكريًا، وقد يكونون غير مغلوبين عسكريا ولكن مغلوبون فكريًا؛ لأن الذين يقودون المسلمين فكريًا هم الكفار من أتباع الهوى والصد عن سبيل الله وفتح أبواب الكفر على اختلاف مسمياتها حتى ضاع المسلمون وصاروا يدبرون من الخارج، وليس من شرط التدبير أن تحتل العساكر بلاد الإِسلام، إذا استعمرت الأفكار بالنسبة للقادة فسد الناس، ولهذا يجب أن نكون منهم على حذر، فقوله تعالى:{وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} نقول: إن هذا الخبر صدق مَخْبَرُهُ حين كان المسلمون متمسكين بالإِسلام كان عدوهم مرعوبًا منهم مسيرة شهر "نصرت بالرعب
مسيرة شهر"
(1)
لأنهم متمسكون بدين الله، منصورون بنصر الله.
3 -
أن أهل الكتاب إذا قاتلونا لا يكتفون بوضع السلاح بل يولون الأدبار ويهربون، لا يمكن أن يقفوا حيال المسلمين، لذلك قال تعالى:{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} وهذا أشد ما يكون من الانهزام، عدوك إذا هرب منك وولاك دبره حينئذ تسيطر عليه تمامًا.
4 -
أن هؤلاء لا ينصرون، وهل المراد لا ينصرون علينا أم المراد لا ينصرون نصرًا مطلقًا؟ نقول: لا ينصرون علينا وهو أيضًا مشروط بأن نتمسك بديننا عقيدة وقولا وعملا وإلا فسينصرون علينا بقدر ما أهملنا من ديننا.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]:
الهاء فيها ثلاث قراءات:
الأولى: (عليهِمُ).
الثانية: (عليهُمُ).
الثالثة: (عليهِمِ). بدل من عليهمُ.
فصارت الهاء فيها قراءتان: الضم والكسر، والميم فيها قراءتان: الضم والكسر.
(1)
رواه البخاري، كتاب التيمم، باب قول الله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، رقم (335). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).
وقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} لم يبين الضارب ولكنه معلوم وهو الله عز وجل، فأبهمه للعلم به كقوله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] مع أن الله هو الذي خلقه، ولكن من طريقة القرآن أن الأشياء غير المرغوبة يعبر الله عنها بصيغة الفعل المبني للمجهول، بخلاف الأشياء المرغوبة فيعبر عنها باسم الفاعل كقوله تعالى:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} الذي ضربها هو الله عز وجل، وسمَّى ذلك ضربًا كالضرب على النقود الذي يبقى منطبعًا لا يزول بمسح الأيدي، فكأن هذه الذلة مطبوعة عليهم لا يمكن أن تتغير. وهنا يقول:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} الضمير يعود على أهل الكتاب، ولكن هل المراد أهل الكتاب من اليهود والنصارى أم أنه خاص باليهود؟ اختلف في هذا أهل العلم فقال بعضهم: إنه خاص باليهود. وقال بعض العلماء: بل هو عام، والأصل العموم؛ لأن الضمير عليهم يعود على أهل الكتاب المذكورين في قوله:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [آل عمران: 110] فنقول: الضمير يعود على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وإذا قُدِّر أنه صار لهم عز في وقت من الأوقات فإنما ذلك لسبب يقتضيه، فهو خلاف الأصل وإلا فالأصل أن الذلة مضروبة عليهم.
وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} الذلة هنا بمعنى الإهانة، أي: أن الله تعالى أهانهم.
وقوله: {الذِّلَّةُ} على وزن (فِعْلَة) وهي تختلف عن الذُّل لأنها تدل على ذِلة معينة مخصوصة، قال ابن مالك:
وفَعْلَة لمرة كجَلسه
…
وفِعْلَة لهيئةٍ كجِلْسه
فـ"ذِلة" على وزن فِعْلة أي: ذلة مخصوصة كما تقول: جلس فلان جِلْسة الأسد يعني جِلْسَة معروفة، هذه الذِلة ذلة -والعياذ بالله- لا تخرج من قلوبهم؛ لأنه قال:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} فكما أن النقش في السكة المضروبة لا يتحول ولا يزول فكذلك هذه الذلة.
{أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أين: ظرف مكان تدل أيضًا على عموم الأمكنة، ويؤكد عمومها "ما" الزائدة، أينما و"ثقفوا" بمعنى وجدوا، يعني في أي مكان وجدوا فإن الذلة مضروبة عليهم، كما في قوله تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] يعني حيث وجدتموهم، فهؤلاء اليهود والنصارى من بني إسرائيل ضربت عليهم الذلة في أي مكان كانوا من الأرض فهم أذلاء؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة.
قال تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} .
الحبل: هو السبب، وسمي السبب حبلًا لأنه يوصل إلى المقصود كما يوصل الحبل إلى المقصود فيما لو أدلى الإنسان دلوه إلى بئر مثلًا، فإنه يتوصل به إلى المقصود، قال بعض أهل العلم: إن الحبل من الله هو الإِسلام؛ لأن الإِسلام فيه العزة وفيه النصر وفيه الظهور، فهم أذلاء إلا أن يسلموا فيكون المراد بالحبل من الله هو الإِسلام، فإذا أسلموا ارتفعت عنهم الذلة، وقيل: المراد بالحبل من الله الذمة، يعني أن يكونوا من أهل الذمة وذلك أن الإِسلام يحمي أهل الذمة ويدافع عنهم، ولهذا يجب علينا بالنسبة لأهل الذمة حمايتُهم ممن يعتدي عليهم في
مالٍ أو دمٍ أو عرضٍ؛ لأنهم تحت رعايتنا وهم يبذلون لنا الجزية ما لم ينقضوا الذمة، فإن نقضوا الذمة فإنهم يعودون كالحربيين يُقْتَلون لانتقاض عهدهم، فصار المراد بالحبل من الله على قولين:
القول الأول: أنه الإِسلام.
والقول الثاني: أنه الذمة.
وأمّا قوله: {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} فإن ظاهره العموم، يعني بسبب من الناس أي الناس يدافعون عنهم ويرفعون معنوياتهم ويعزِّزونهم، ولكن ما هو الحبل من الناس؟ قيل: إنه العهد والأمان، فالعهد كالذي يجري بين المسلمين وبين الكفار يحصل بينهم عهد أن لا يعتدي أحدٌ على أحد وأن تبقى هدنة كما حصل في غزوة الحديبية، والأمان أن يدخل رجل من المشركين أو من اليهود والنصارى بأمان من أحد من المسلمين يؤمّنه، والفرق بين العهد والأمان: أن الأمان يصح من كل واحد من المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"
(1)
، والعهد لا يكون إلا بين أهل الحل والعقد يعني بين الإِمام أو قائد الجيش أو ما أشبه ذلك. والفرق بين العهد والأمان والذمة أن الذمة تثبت لأهل الذمة حقوقا تجب على المسلمين يدافعون بها عنهم، ولهذا يأخذ المسلمون الجزية منهم عوضًا عن ذلك، فالحبل من الناس هو العهد والأمان، ويحتمل أن الحبل من الناس أعم من ذلك أي بأن يكون المراد به العهد والأمان والنصرة والإعزاز كما حصل
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد متلحفًا به، رقم (357). ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلّها ركعتين، رقم (336).
لليهود الآن من النصارى من الأمريكان وغيرهم، فإن اليهود أذلة قد ضرب الله عليهم الذلة والهوان لكن الأمم النصرانية الآن تساعدها وتعززها لا محبة لها ولكن من أجل أنها ضد المسلمين، فيكون المراد بالحبل من الناس هنا ما هو أعم من العهد والأمان، ومعلوم أنه إذا صلح اللفظ للعموم فإن الأولى أن يبقى على عمومه، فيكون المراد بالحبل من الناس أي مساعدة منهم وحماية كالعهد والأمان والنصرة والولاية وما أشبهها.
قال: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} :
(باؤوا): أي رجعوا، ومنه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] أي سكنوها، فهذه المادّة (الباء، والألف والهمزة) تدل على الرجوع والاستقرار، والمعنى أنهم رجعوا بغضب من الله أي مصطحبين للغضب، والغضب: صفة انفعالية لا فعلية، والفرق بين الانفعالي والفعلي، أن الفعلي يكون باختيار الإنسان وبالجوارح الظاهرة كالبطش مثلًا، والانفعالي يكون بغير اختيار الإنسان وهو من القوى الباطنة؛ فالغضب: صفة انفعالية وليست فعلية، ولهذا تأتي للإنسان بغير اختياره، يستثيره أحد من الناس فيغضب، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويقف شعره وربما يقتل مَنْ أمامه، وربما يطلق نساءه، وربما ينتحر أيضًا، نسأل الله العافية. فالغضب إذن صفة انفعالية وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"جمرة في قلب ابن آدم"
(1)
فيفور ويغضب، هذا
(1)
رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، رقم (2191). ورواه أحمد في مسنده، رقم (110759).
بالنسبة لغضب الإنسان الآدمي البشر، أما غضب الله عز وجل فهو صفة من صفاته التي يجب إثباتها له على الوجه اللائق به جل وعلا، فهو سبحانه وتعالى يغضب ويرضى ويسخط ويكره ويحب، وكل هذه الصفات ثابتة لله تعالى على الوجه الذي يليق به، جل وعلا.
وقوله: {بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} :
هذه الجملة مما يؤيد القول بأن المراد بقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} اليهود لأنهم هم المغضوب عليهم، و (مِنْ) للابتداء أي بغضب صادر منه، وربما يقول قائل: إنها أعم من أن يكون الغضب صادر من الله، بل بغضب من تقدير الله، وعلى هذا تكون "مِن" للسببية ويكون المراد بالغضب غضب الله وغضب غيره، وهذا هو السر في قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ولم يقل: (غير الذين غضبتَ عليهم) لأن هؤلاء مغضوب عليهم من قِبَل الله ومن قبل أولياء الله.
وقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} :
الضارب هو الله تعالى، والمسكنة هي الفقر، فهم أذلاء ليس عندهم شجاعة، فقراء ليس عندهم غنى، ولكن يجب أن نعلم أن الغنى ليس كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس والقلب، فهؤلاء قد ضربت عليهم المسكنة، فهم دائمًا في فقر حتى لو حصّل الإنسان منهم ملايين الملايين فهم في فقر، ولذلك حتى الآن نجد أن اليهود أحرص الناس على المال، وأنهم لا يمكن أن يبذلوا فلسًا إلا وهم يؤملون أن يحصلوا درهمًا، ولا يبذلون درهمًا إلا ويؤملون أن يحصلوا دينارًا، وهذه حالهم ومن ثم
صاروا من أغنى العالم إن لم نقل هم أغنى العالم، لكنهم أغنى العالم بكثرة العرض لا بالقلب والنفس، فهم أشد الناس فقرا.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} :
(ذلك) المشار إليه ما سبق من ضرب الذلة والغضب والمسكنة، والمشار إليه: مفرد مذكر وإن كان ثلاثة أشياء؛ لأن الإشارة عادت إليها باعتبار أنها مذكورة، فيكون تقدير الإشارة ذلك المذكور {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (الباء) معناها السببية أي ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله. وكلمة {كَانُوا} تدل على اتصاف اسمها بخبرها، {يَكْفُرُونَ} فعل مضارع يدل على استمرار الكفر منهم وهو كذلك، فإنهم كانوا يكفرون بآيات الله مع ظهورها وبيانها حتى إنهم قالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. مع أنه قد قال لهم: إن الله إله واحد، فهم يكفرون بآيات الله، ومن جملة كفرهم أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولا أشد معرفةً من معرفة الإنسان لابنه ومع ذلك كفروا به عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآيات جمع آية وهي العلامة على الشيء التي إذا وجدت كان الشيء موجودًا لأنها علامته، كما لو قلت مثلًا: علامة طلوع الشمس أن ترى ضوءها على رأس الجبل، فهنا متى رأيت ضوءها على رأس الجبل فهي طالعة.
وآيات الله تنقسم عند أهل العلم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية، وكلها علامات على الله عز وجل، أما الآيات الكونية فهي المخلوقات كالشمس والقمر والأرض والنجوم
والجبال والدواب وغيرها، وكل مخلوق لله فهو آية من آياته سبحانه وتعالى، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
أما الآيات الشرعية: فهي ما جاءت به الكتب التي أنزلها الله على الرسل، وإن شئت فقل: ما جاءت به الرسل ليعم الكتب والسنن، ومعنى كون الشيء آية أن غير الله لا يمكن أن يحصل له ذلك أو أن يأتي به لأنه لو أمكن أن يأتي به لم يكن آية.
يقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] هذا تحَدٍّ بالآيات الكونية، تحدَّى الله عز وجل هؤلاء بأصغر آية من آياته الكونية: الذباب {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، وفي الآيات الشرعية يقول الله عز وجل:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ولهذا صار آية لا يمكن لأحد أن يأتي بمثل القرآن أبدًا لا من جهة صدق الأخبار ونفع القصص وعدالة الأحكام وبلاغة الكلام إلى غير ذلك، ولو لم يكن منه إلا أنك لو تردده صباحا ومساءً ما مللته وغيره من الكلام لو قرأته عدة مرات مللته وتركته، أما القرآن فسبحان الله لا تمل، الفاتحة تقرؤها في اليوم على الأقل سبع عشرة مرة ومع ذلك تقرؤها في الركعة الثانية كأنك لم تقرأها في الركعة الأولى من إشفاقك عليها ومحبتك لها، وهذا لا شك أنه من آيات الله. إذن الآيات الكونية هي المخلوقات، والآيات الشرعية ما جاءت به الرسل. كل الشرائع آيات شرعية، وسميت آية لأنها تُعْجِز الغير، فلا يمكن أن تأتي بمثلها.
والآيات الكونية تتعلق بالربوبية، والآيات الشرعية تتعلق بالربوبية والألوهية، ولهذا فهي منهج عبادة للخلق كما أنها من حيث كونها حكمًا تتعلق بالربوبية، فإن لها علاقة وصلة بالربوبية لأنها حكم، والحكم يتعلق بالربوبية؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر.
{يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} هذا أيضًا من أفعالهم الشنيعة أنهم يقتلون الأنبياء، وهذا أعلى ما يكون من الجناية على البشر. الضرب، الحبس، الإهانة، الأذى كله دون القتل، فأعلى أنواع الأذية القتل، هؤلاء يقتلون الأنبياء -والعياذ بالله- قتلًا إما ذبحًا بالسكين أو رميًا بالحجر أو بالسهم أو غير ذلك، المهم أنهم يقتلون الأنبياء فأخلّ هؤلاء بالتوحيد والرسالة، بالتوحيد بكفرهم بآيات الله، وبالرسالة بقتلهم الأنبياء.
وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} هذه الصفة ليست قيدًا ولكنها كشف وإيضاح، لو قلنا إنها قيد لزم من ذلك أن ينقسم قتل الأنبياء إلى قسمين: قسم بحق وقسم بغير حق، وهذا لا يكون؛ لأن قتل الأنبياء كله يكون بغير حق. ولو قلنا إنها للإيضاح والكشف صار المعنى يختلف فلا تكون قيدًا بل تكون لبيان الواقع أي أن قتل الأنبياء بغير حق، فيكون المقصود بذلك شدة التوبيخ لهؤلاء، وأنهم يقتلون أشرف الخلق بغير حق، هذه لها نظائر منها قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]. {الَّذِي خَلَقَكُمْ} صفة للإيضاح والكشف والبيان وليست للقيد. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] فقوله:
{لِمَا يُحْيِيكُمْ} ليس قيدا ولكنه كشف وبيان لأنك لو جعلته قيدًا لكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ينقسم إلى قسمين:
قسم يراد به الإحياء، وقسم يراد به الإماتة، وهذا غير صحيح، إذن فقوله:{لِمَا يُحْيِيكُمْ} بيان وكشف لما يدعو إليه وأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعو الناس إلا لشيء يحييهم.
يقول: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} هذا من باب التوكيد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ} ؛ لأن الكفر عصيان لكن كأن الجملة هذه -والله أعلم- تعليل لذلك. فكان الكفر سببًا لضرب الذلة عليهم والمسكنة والغضب لأنه عصيان ومخالفة.
{وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} تعود إلى قتل الأنبياء. فقتل الأنبياء عدوان، والكفر بالله معصية مع العلم بأنه كله معصية، ولكن هذا للعدوان أقرب، وهذا للمعصية أقرب.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن هؤلاء الذين ينتسبون للكتاب ولاسيما اليهود منهم قد ضربت عليهم الذلة، فهم أذل الناس حتى إنه قيل: إن اليهودي لا يمكن أن يشهر السلاح على من عدا عليه بغير سلاح، يعني لو كان مع اليهودي سلاح وعدا عليه شخص بغير سلاح سقط السلاح من يده من شدة ما ضرب عليه من الذلة.
2 -
أن هؤلاء اليهود قد يكون لهم عزة بحبل من الله أو حبل من الناس. نحن قلنا: إن المراد بالحبل من الله إمّا الإِسلام أو الذمة، إن كان هو الإِسلام فإن الاستثناء منقطع؛ لأنهم إذا أسلموا لم يكونوا من أهل الكتاب بل صاروا من المسلمين، وإن كانت الذمة فالاستثناء متصل.
3 -
أن أهل الكتاب قد ترتفع عنهم الذلة بحبل من الله أو حبل من الناس.
4 -
أن الناس قد ينصر بعضهم بعضًا بالباطل، وهذا عائد إلى قوله:{وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وهذا الواقع المحسوس أن من الناس من ينصر غيره بالباطل؛ لأن الناس ليسوا كلهم أهل عدل بل فيهم أهل الجَوْر وأهل العدوان الذين يساعدون أهل العدوان.
5 -
إثبات الغضب لله تعالى؛ لقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} ومنهج أهل السنة والجماعة في مثل هذه الصفة إثباتها لله على الوجه اللائق به، وأن الله يغضب وينتقم، ولكن أهل البدع يقولون: إن الله لا يغضب وحاشاه من الغضب، فقدّموا الرأي على النص قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، والله عز وجل منزه عن ذلك، أحدٌ صمد ليس له قلب بمعنى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأنه أحد صمد. قال ابن عباس: الصمد الذي ليس له جوف. فعلى هذا يقولون: إن الغضب الذي وصف الله به نفسه ليس بثابت له لأنه منزه عنه، ولهذا لا يكون الغضب إلا في مقام القوة ويقابله الحزن ويكون في مقام الضعف، ولكن أهل السنة والجماعة قالوا: لسنا أعلمَ بالله من نفسه، وقد وصف نفسه بالغضب فنحن نؤمن بأن الله يغضب، وأن جميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه بابها واحد، يجب إثباتها بدون تمثيل، ولا يلزم إذا كان غضب المخلوق هو غليان دم القلب لطلب الانتقام أن يكون هذا المعنى هو الذي يوصف الله به، بل نعلم أن بين غضب الخالق والمخلوق فرقًا كما أن بين ذواتهما فرقًا، فالغضب ثابت لله ولكننا لا نعلم كيفيته، كيفيته موكولة إليه سبحانه وتعالى، فإن
قالوا: الغضب لغة: هو غليان دم القلب نقول: هذا غضب المخلوق، أمّا غضب الخالق فيختص به جل وعلا كما أنكم أنتم تثبتون الإرادة لله وتقولون: إن الله مريد مع أن إرادة المخلوق هي ميل القلب إلى ما ينفعه أو يضره، أي لطلب منفعة أو دفع مضرة، فهل الإرادة التي أثبتموها لله تعالى بهذا المعنى؟ سيقولون:(لا) نحن نثبت لله إرادة تليق به وتخالف إرادة المخلوق. نقول: يجب عليكم إذن أن تثبتوا لله غضبا يليق به مخالفًا لغضب المخلوق، فالباب واحد، فإما أن تنفوا ما أثبتم، وإمّا أن تُثبِتُوا ما نفيتم، فإن أثبتوا ما نفوا وافقوا السلف، وإن نفوا ما أثبتوا وافقوا المعتزلة، وهم يرون أنهم في حرب مع السلف وفي حرب مع المعتزلة يحاربون المعتزلة، ولا أدل على ذلك من فعل أبي الحسن الأشعري رحمه الله الذي كان معتزليا وبقي على الاعتزال أربعين سنة، ثم هداه الله وأنكر على المعتزلة إنكارا عظيما وبيَّن زيفهم وخطأهم وتبرأ منهم ومن الذين قالوا إننا لا نثبت الغضب لله لأنهم يقولون: إن السلف مجسمة ممثلة إذ يعتقدون أن مَنْ أثبت لله الصفات على وجه الحقيقة فهو مجسم وممثل، ولهذا صاروا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فنحن نقول لهم: كما أثبتم لله إرادة تليق به فأثبتوا له غضبًا يليق به، وإلا فانفوا الجميع لتوافقوا المعتزلة، وهم لا يثبتون الجميع ولا ينفون الجميع كما هو المعروف من مذهبهم، وأعني بذلك الأشعريين.
فسّروا غضب الله بالانتقام، فقالوا: الغضب: الانتقام. وهذا تحريف وليس بتأويل؛ لأن الانتقام شيء منفصل عن الله عز وجل، يعني هم فسروه بالعذاب، ويدل على بطلانه قوله تعالى
في آل فرعون: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] فلما آسفونا بمعنى أغضبونا، ومن المعلوم أن السبب غير المسبب، وأن فعل الشرط غير جواب الشرط، وهذا أكبر دليل على بطلان تفسيرهم الغضب بأنه الانتقام أو إرادة الانتقام.
6 -
أن الله ضرب على هؤلاء من أهل الكتاب المسكنة، وسبق أن المراد بها مسكنة القلب فقد يكونون كثيري المال لكن لا يزالون في شح وبخل وطلب للمال.
7 -
إثبات العلة أي أن أفعال الله تعالى معللة أي مقرونة بالحكمة، ودليل ذلك قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} وقد نفى الجبرية حكمة الله وتعليل أفعاله، وشبهتهم في هذا أنهم يقولون: إن العلة غرض يريده الفاعل، والله تعالى منزه عن الأغراض، ومن كلماتهم الدارجة يقولون: إن الله منزه عن الأغراض والأعراض والأبعاض، ثلاثة أشياء: الأغراض: يعني الحكمة، ولهذا ينكرون الأسباب كلها، الأسباب الشرعية والكونية. الأعراض: الصفات الفعلية كالمجيء والضحك وما أشبه ذلك. الأبعاض: الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعينين وما أشبه ذلك.
8 -
أن أفعال الله عز وجل وعقوباته لابد أن يكون لها حكمة؛ لأن هذا الغضب الذي باءوا به وضرب المسكنة والذلة بيَّن الله له حكمة وهي أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ويكفرون بآيات الله ويعصون الله.
9 -
أن الكفر بآيات الله سبب للعقوبات؛ لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} وقد دلَّ على هذا عدة آيات من القرآن مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
10 -
عُتُوّ بني إسرائيل بالكفر وقتل الأنبياء والمعصية والعدوان؛ لقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
11 -
أن قتل الأنبياء موجب للعقوبة؛ لأن الله ذكر لهذه العقوبة عدة أسباب منها قتل الأنبياء.
12 -
أن قتل الأنبياء لا يمكن أن يكون بحق، لقوله:{بِغَيْرِ حَقٍّ} وقد سبق توجيه ذلك أثناء التفسير.
13 -
جواز تعدد العلل لمعلول واحد، وهذا متفق عليه وذلك لأن العقوبات التي ذكرت متعددة والسبب واحد لكنه متعدد النوع، ويجوز أيضًا أن تتحد العلة، أي أن تكون واحدة والمعلول متعدد، مثل أن يفعل الإنسان فعلا واحدًا يترتب عليه عدة أشياء.
14 -
أن بني إسرائيل عندهم عدوان على حق الله وحق الأنبياء وغيرهم؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
وهذه الأوصاف وما ينتج عنها من العقوبات يجب أن نتخذ منها عبرة، والفائدة المهمة المسلكية أن لا نقرأها على أنها أمر جرى وقصص تاريخية مضت بل يجب أن نقرأها من أجل أن نعتبر، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
{لَيْسُوا} الضمير يعود على أهل الكتاب، {سَوَاءً} بمعنى مستوين أي ليسوا متساوين في هذه الأوصاف، بل منهم أمة قائمة يتلون آيات الله إلى آخره، ومنهم أمة فاسقة غير قائمة على أمر الله، {لَيْسُوا سَوَاءً} أي لا يستوون في المعصية والأحوال والأوصاف.
ثم بيَّن ذلك فقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} .
قوله: {أَهْلِ الْكِتَابِ} هم اليهود والنصارى كما مرَّ علينا كثيرًا، وأظهر هنا في موضع الإضمار إما لطول الفصل بين الظاهر الذي ترجع إليه الضمائر، وإما لاستئناف الجملة؛ لأن قوله:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} جملة مستأنفة.
{أُمَّةٌ} أي طائفة، {قَائِمَةٌ} أي ثابتة مستقيمة على أمر الله، فالقيام هنا بمعنى: الثبات والاستقامة على أمر الله، وليس المراد به القيام الذي هو ضد القعود؛ لأن المسلم قائم على أمر الله سواء كان جالسًا أو واقفا أو مضطجعًا.
قوله: {أُمَّةٌ} مبتدأ، ويجوز الابتداء بالنكرة إذا أفادت، وهي إذا تأخرت فهي مفيدة. لو قلت: في الدار رجلٌ، فهي مفيدة، وإذا قلت: رجلٌ كريم في الدار فهي أيضًا مفيدة، فإذا وُصفَت أو أُخّرت فهي مفيدة.
{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} :
كلمة {قَائِمَةٌ} صفة و {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} الجملة أيضًا صفة أخرى، ويجوز أن تكون حالًا لأن لدينا قاعدة نحوية وهي: أنه إذا وصفت النكرة جاز في الصفة الثانية أن تكون حالًا وأن تكون صفة، هذه القاعدة سواءً كانت الصفة الثانية جملة أم مفردًا، فإذا قلت: جاءني رجُل كريم راكبٌ. صحَّ لأنه وصف، وإذا قلت: جاءني رجل كريم راكبا. صحَّ أيضًا، هنا في الآية الكريمة {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} و"أمة" نكرة، و"قائمة" صفة لها و"يتلون" يجوز أن تكون حالًا فتكون الجملة في موضع نصب على الحال، ويجوز أن تكون صفة.
{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} التلاوة تارة يراد بها القراءة، وتارة يراد بها الاتباع، فإن صلح المقام للمعنيين جميعًا حُمل عليهما، وإن اختص بأحدهما اختص به، فإذا قلت: تلا عليَّ آية من القرآن، فالمراد القراءة. وإذا قلت: هذا الرجل يتلو آيات الله إخلاصًا وتعبدًا، فهذا يحتمل القراءة ويحتمل الاتباع، وإذا كان يحتمل المعنيين وهما لا يتنافيان حُمل عليهما. إذن قوله:{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} يشمل تلاوة اللفظ وتلاوة العمل بآيات الله.
وقوله: {آنَاءَ اللَّيْلِ} آناء بمعنى أوقات، ومنه النوء لوقت ظهور النجم أو للنجم، فـ {آنَاءَ} بمعنى أوقات، آناء الليل بمعنى أوقات الليل وساعاته.
{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} :
هذه الجملة يجوز فيها وجهان: أن تكون استئنافية، وأن تكون حالية من الواو في قوله {يَتْلُونَ} أي يتلون آيات الله
والحال أنهم يسجدون، فوصفهم بتلاوة آيات الله وهي أفضل الذكر، وبالسجود وهو أفضل الحالات؛ لأن السجود أفضل من القيام، وأفضل من الركوع حيث إن الساجد أقرب ما يكون من ربه، لكن تلاوة الآيات أفضل الأذكار فلهذا اختصت بالقيام، فقوله:{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} ذكر لأعلى أوصاف القول {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} ذكر لأعلى أوصاف الفعل وهو السجود.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} :
الجملة استئنافية لبيان حال هؤلاء، ويجوز أن تكون صفة لقوله:"أمة" وأن تكون حالًا.
قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} :
والإيمان بالله يتناول أربعة أشياء لابد منها: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، فمن أنكر وجود الله فهو لم يؤمن به، ومن آمن بوجوده وأنكر توحيده بالربوبية فإنه لم يؤمن بوجوده، ومن آمن به وبربوبيته ولكنه أنكر انفراده بالألوهية فإنه لم يؤمن به، ومن آمن بذلك كله ولكن أنكر شيئًا من صفاته فإنه لم يؤمن به، فلا إيمان بالله إلا بهذه الأمور الأربعة.
أما الإيمان باليوم الآخر فالمراد باليوم الآخر يوم القيامة، وسمّي اليوم الآخر لأنه لا يوم بعده إذ هو منتهى الخلائق، ولا يوجد فيه ليل ولا نهار، كله يوم واحد لا شمس ولا قمر ولا نجوم، كل في مكانه إما في الجنة أو النار، فهو آخر شيء يكون فيه العباد، ومعلوم أن للعباد أربع دور: الدار الأولى في بطون أمهاتهم، والثانية في هذه الدنيا، والثالثة في البرزخ، والرابعة في
اليوم الآخر وهي الأخيرة، ولهذا سمي اليوم الآخر، واليوم الآخر يدخل في الإيمان به كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فسؤال الميت في قبره داخل في الإيمان باليوم الآخر، وعذاب القبر أو نعيمه داخل في الإيمان باليوم الآخر، ووجه ذلك أن كل من مات فقد قامت قيامته، فما يجده في قبره كالذي يجده بعد حشره، كله من أمور الغيب، كله في دار الجزاء، ولهذا قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: ويدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، والإيمان به أن تؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة مما يكون بعد الموت جملة وتفصيلًا. ولكن اعلم أنه يوجد في كتب الوعظ من الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة في أحوال القبر والقيامة ما ينبغي للقارئ أن يحترز منها، ولا أحسن من الرجوع إلى الكتب الصحيحة في هذا الباب لئلا نضل الناس؛ لأن بعض الوعاظ يختار مثل هذه الأحاديث من أجل الترغيب أو الترهيب، وفي الحقيقة أن هذا مسلك ليس بجيد؛ لأن كوننا نملأ أدمغة الناس بأحاديث ضعيفة أو موضوعة خطأ حتى لو كان فيها ترغيب وترهيب، وفيما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كفاية، والناس سوف يأخذون كل ما ذكر على أنه صحيح، يقولون: ما قيل في المحراب فهو صواب، والواجب على من ألّف في الترغيب والترهيب أن لا يذكر إلا ما كان حجة من صحيح أو حسن، أما الضعيف فلا حاجة لذكره لأننا في غنى عن الضعيف الذي لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
بعض الكتب تذكر أنه لا بأس بذكر الحديث الضعيف في
فضائل الأعمال؟ نعم أجاز بعض العلماء ذكر الحديث الضعيف في فضائل الأعمال لكن بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون أصل العمل ثابتًا.
والثاني: أن لا يكون الضعف شديدًا.
والثالث: أن لا يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} :
سبق ذكره في هذه السورة مرتين، وذكرنا في أول ما مرَّ علينا شروطه وآدابه.
وقوله تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} :
أي مع كونهم مؤمنين وكونهم مصلحين هم أيضًا مسارعون في الخيرات، يعني أنهم يتسارعون في الخيرات كما يتسارع الناس في الغنائم، قال:{فِي الْخَيْرَاتِ} ولم يقُلْ: "إلى الخيرات" مع أن سارَعَ تتعدى "بإلى" كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] لأن المراد بذلك مسارعتهم إليها وفيها أثناء القيام بها، فالمراد المسارعة إليها، وإذا وصلوا إليها لم يقفوا عن المسارعة فيها، وهذا هو السبب والعلم عند الله في قوله:{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ولم يقل: إليها.
وقوله: {فِي الْخَيْرَاتِ} الخيرات جمع خير أو خيرة، وهي كل ما انتفع به العبد أو نفع غيره، فالصلاة خير، وتعليم الناس كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير، والدعوة إلى الله خير، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو خير أيضًا، وكل ما يقرب إلى الله تعالى هو خير، والمسارعة فيه هي المسارعة إليه والمسارعة فيه أثناء العمل.
{وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} :
{وَأُولَئِكَ} ، المشار إليه: هذه الأمة القائمة من أهل الكتاب، قال أهل العلم: و"الصالح" من قام بحق الله وحق العباد، وضده الفاسق، والصلاح يدور على شيئين: علم، وعمل، وضده الجهل والكفر والتمرد، فمن كان جاهلًا فإنه ليس بصالح، والمراد ليس بصالح الصلاح الذي يكون في قمة الصلاح وإلا فإن معه من الصلاح بمقدار ما عنده من العلم، ومن لم يكن عاملًا فليس بصالح وعنده من فَقْد الصلاح بقدر ما فَقَدَ من العمل.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} .
(ما) شَرْطِيَّة، وجملة {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} جواب الشرط، وفي هذه الآية قراءتان:"وما تفعلوا من خير فلن تُكْفَروه" بالتاء، والثانية "وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه" بالياء، فعلى القراءة الثانية بالياء لا يكون في الآية التفات لأنها جرت على ضمير الغيبة كما في الآية التي قبلها، وعلى قراءة التاء "ما تفعلوا" يكون فيها التفات من الغيبة إلى الخطاب، وأيضًا يكون الخطاب فيها موجهًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هذه الأمة.
وقوله: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} {مِنْ} هذه للبيان، بيانية لوقوعها بعد اسم الشرط، واسم الشرط اسم مبهم يحتاج إلى بيان، ولهذا كلما أتتك "من" بعد اسم الشرط فهي بيانية.
وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} سبق آنفًا أن الخير كل ما يقرب إلى الله.
وقوله: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} يعني لن يحرموا ثوابه، والكفر أصله السَّتر ومنه (الكُفُرَّى) وهو غلاف طلع النخل، وهذا الكُفُرى
يستر ولهذا قالوا: إن الكفر أصله الستر؛ لأن الإنسان يستر نعمة الله عليه لا يظهرها عليه، والنعمة تقتضي الشكر، فإذا لم تشكر فهذا هو الكفر. إذن {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} معناه: فلن يحرموا ثوابه لأنهم إذا حرموا ثوابه كان فعلهم لهذا الخير خفيًا (أي ليس له أثر).
قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} :
فيجازيهم على تقواهم، والتقوى لها فوائد كثيرة، وتخصيص العلم بالمتقين من أجل الحث على التقوى والحذر من مخالفتها وعدم القيام بها وإلا فإن الله عليم بكل شيء.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 -
أن أهل الكتاب ليسوا بسواء، فإن منهم أمة ضالة ومنهم أمة قائمة بأمر الله، وهو صريح في هذه الآية:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
2 -
بيان عدل الله تعالى وأنه يعطي كل ذي حق حقَّه، فلما ذكر الذم -ذم أهل الكتاب- في الآيات السابقة فقد يتوجه الفهم إلى أن جميع أهل الكتاب على هذا الوصف أنهم يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ويعصون الله ويعتدون على حقِّه وحقِّ عباده، فقال:{لَيْسُوا سَوَاءً} أي منهم من ليس كذلك.
3 -
أن من أهل الكتاب أمة، والأمة تقتضي الجمع والعدد الكثير بهذا الوصف المحمود المطلوب، وقد ذكروا أنه أسلم من اليهود نحو عشرين رجلًا، ومن النصارى عدد كثير أيضًا، ولذلك عبّر بقوله:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالأمة هنا أمة الإِسلام؛ ولكن هذا بعيدٌ جدًا؛ لأن {أُمَّةٌ}
مبتدأ وخبرها {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ولم يعبر الله عز وجل عن هذه الأمة بأهل الكتاب بل قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] كما أنه لم يعبر عن أهل الكتاب بالمؤمنين، فكل آية فيها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكل آية فيها {أَهْلِ الْكِتَابِ} فالمراد بهم بنو إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى وعيسى.
4 -
الثناء على القيام بطاعة الله والثبات عليها، تؤخذ هذه الفائدة من قوله:{أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} هذا وجه الثناء عليهم.
5 -
الثناء على من يتلون كتاب الله قراءة وعملًا، تؤخذ من قوله:{لَيْسُوا سَوَاءً} ثم ذكر الفرق.
6 -
فضيلة السجود، تؤخذ من الآية {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} .
7 -
الثناء على من آمن بالله واليوم الآخر، يؤخذ من {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
لكن هل إذا أثنى الله على شخص بصفة يكون مذمومًا إذا لم يتصف بها، ينتفي عنه الحمد وقد يستحق الذم وقد لا يستحق؟
لا شك أنه إذا انتفى الإيمان باليوم الآخر هو مذموم لأنه كافر، لكن في غير هذا لو أثنينا على شخص بأنه يصلي صلاة الضحى هل معنى ذلك أنه لو لم يصل فهو مذموم؟ لا، إذن نأخذ قاعدة: لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، فلو أن رجلًا صلى ولم يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام هل نقول إن هذا مكروه؟ لا. وهذه قاعدة مفيدة، لا يلزم من ترك المسنون أن يقع الإنسان في مكروه ولكنه ينقص أجره لا شك، لكن لا يذم ولا يقال إنه وقع في مكروه أو أمر منهي عنه.
8 -
الثناء على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتؤخذ من الآية {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} لو قال قائل: لماذا ذكر الله الإيمان بالله واليوم الآخر بين ذكر تلاوة الآيات وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ بدأ بتلاوة آيات الله والسجود، وثنَّى بالإيمان بالله واليوم الآخر، وثلَّث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلماذا جعل الإيمان وهو الأصل بين تلاوة الكتاب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب: أن تلاوة الآيات تُذكِّر باليوم الآخر وتثبت الإيمان به، أي أنه لا يمكن الإيمان بالشيء إلا بعد العلم به، فهم إذا تلوا آيات الله علموا باليوم الآخر ثم آمنوا به، يعني أنه غاية.
9 -
الثناء على المسارعة في الخيرات من قوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} فإن قال قائل: كيف يجمع بين هذه الآية التي فيها الثناء على المسارعة في الخير وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا"
(1)
؟
الجواب أن نقول: إن المسارعة في الخيرات هي المسارعة في موافقة الشرع.
10 -
الثناء على هؤلاء بالصلاح؛ لقوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} إذن فينبغي لنا أن نلتزم أو أن نقوم بهذه الأعمال التي مدح الله بها هؤلاء القوم من أهل الكتاب وأثنى عليهم بها.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة، رقم (636). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602).
فإذا قال قائل: هل الصلاح أمر كسبي أو أمر فطري؟ إذا قلت: إنه أمر فطري فكيف يكون الإنسان نفسه ليكون صالحًا؟ وإذا قلت أمر كسبي فهذا أمر ممكن.
فالجواب: أن الأصل أنه فطري {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] لكنه في النهاية والغاية يكون كسبيًا، ولهذا قال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام:"فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
(1)
.
وللصلاح أسباب: منها ما ذكر الله في كتابه مثل: تلاوة آيات الله، وكثرة الصلاة، والإيمان بالله واليوم الآخر، وتحقيقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا يشكو كثير من الناس اليوم أنه قد يجد في قلبه شيئًا من الفساد فكيف يصلحه؟ فنقول: أصلحه بما ذكر الله من هذه الأحوال لأهل الكتاب، فإن هذا من أسباب الصلاح، ولذلك قال:{وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، صحبة الأخيار من أسباب الصلاح. فهل في الآية ما يدل عليها؟ الجواب: نعم؛ لأنهم إذا كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يمكن أن يصحبوا أحدًا من أهل المنكر والشر، فيكون في الآية الكريمة إشارة إلى صحبة الأخيار، ولا شك أن صحبة الأخيار من أسباب الصلاح؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه مثّل الجليس الصالح بحامل المسك
(2)
، ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
تقدم تخريجه (ص 28).
(2)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك، رقم (2101). ورواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، رقم (2628).
"المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"
(1)
. وأخذ الشاعر هذا المعنى وقال:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
11 -
التحذير من طاعة أهل الكتاب، تؤخذ من {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 100] أخبرنا الله تعالى بذلك من أجل أن نحذر منهم، وأن لا نطيعهم؛ لأنهم يحرصون غاية الحرص على أن يردونا بعد إيماننا كافرين.
12 -
أنه من فعل خيرًا أثيب عليه؛ لأن المراد بالنفي هنا تمام الإثبات، أي أنهم يُعطون أجرهم كاملًا بلا نقص.
13 -
كمال عدل الله عز وجل لكون العامل إذا عمل عملًا أثيب عليه، ولو حوسب على ما أعطاه الله من النعم لهلك، لكن يثاب وتكون نعم الله عليه مجرد فضل من الله.
14 -
إثبات علم الله تعالى؛ لقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} .
15 -
الثناء على أهل التقوى، والتقوى ذكرت في القرآن الكريم على وجوه متنوعة ومتعددة أمرًا وثناءً على أهلها وبيانًا لثمراتها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29].
16 -
ثبوت الثواب على عمل الخير قليلًا كان أم كثيرًا؛ لقوله: {مِنْ خَيْر} وهي في سياق الشرط فتكون عامة.
(1)
رواه الإِمام أحمد في مسنده، رقم (8212).
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يشمل كل من كفر بالله من يهودي أو نصراني أو شيوعي أو دهري أو مسلما ارتد، المهم أن كل من كفر بالله فهذا حكمه، والكفر ذكر أهل العلم أنه قسمان: كفر مخرج عن الملة، وكفر غير مخرج عن الملة. وعليه يتنزل قول ابن عباس في قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال: كفر دون كفر، ومن أمثلة هذا النوع أعني الكفر الذي لا يخرج عن الملة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"
(1)
، فإن قتال المسلم ليس بكفر أي ليس بكفر مخرج عن الملة ولكنه كفر دون كفر؛ لأنه لا أحد يقدم على قتل المسلم إلا الكافر، فإذا قدم المسلم على قتل أخيه المسلم فقد أتى بخصلة من خصال الكفر، والدليل على أن قتال المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]. ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"
(2)
ولها
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 560).
(2)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، رقم (67).
أمثلة. المهم أن هذا كفر أصغر لا يخرج من الإِسلام.
أما الكفر الأكبر فهو الكفر الذي يخرج من الإِسلام مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] وهنا يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الظاهر -والله أعلم- أن المراد به الكفر الأكبر؛ لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأن أصحاب النار لن يكونوا إلا الكفار كفرًا أكبر؛ لأن صاحب الشيء هو الملازم له، ومن كفر كفرًا أصغر فإنه لن يلازم النار بل لابد له من الخروج منها؛ لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي لن تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله إذا أراد الله بهم سوءًا، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11] وحينئذ نقول: إن قوله: {لَنْ تُغْنِيَ} أي لن تمنع ولن تدفع، فهي عاجزة عن منع ما أراد الله وعن رفعه.
وقوله: {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ذكر الأموال لأن الأموال يفتدي بها الإنسان نفسه في مواطن الحرج، لو أن أحدًا أمسك شخصا وأراد أن يحبسه أو أن يقتله أو يعتدي على عرضه وقال له: دعني أنا أعطيك ما شئت من المال أو خُذ ما شئت من مالي، حينئذ أغنى عنه المال. والأولاد كيف يغنون عن الإنسان شيئًا؟ لأن الأولاد يدافعون عن آبائهم وأمهاتهم، وهم -أي الأولاد- أشد الناس حماسا في الدفاع عن آبائهم وأمهاتهم، فالإنسان لا يمكن أن يدع عدوه يبطش بأبيه أو أمه أبدًا وهو على قيد الحياة، فلهذا قال:{وَلَا أَوْلَادُهُمْ} لأن الأولاد هم الذين يدافعون عن آبائهم وأمهاتهم. {مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ، شيئًا: نكرة في
سياق النفي {لَنْ تُغْنِيَ} ، قال الأصوليون: والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي شيء كان سواءً كان هذا الشيء شديدًا أم كان ضعيفًا.
قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :
ففي الدنيا لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، وفي الآخرة كذلك هم أصحاب النار هم فيها خالدون، والنار معروفة هي ذلك الجسم الحار، ولكن حرارة النار في الآخرة ليست كحرارة النار في الدنيا حيث فُضّلت على حرارة النار في الدنيا بتسعة وستين جزءًا -نسأل الله السلامة- إذن فإن قدرت الآن أعظم ما في الدنيا من النيران في الحرارة فإن نار جهنم أشد منها، تزيد عليها بتسعة وستين جزءًا، فإذا أخذنا الأصل والزيادة صارت سبعين عن حرارة الدنيا.
وقوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} أي أهلها الملازمون لها.
{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون.
ثم قال الله عز وجل في بيان أن أموالهم لا تغني عنهم شيئًا ولا تنفعهم {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} :
هذا تشبيه تمثيلي؛ لأن التشبيه يقولون إنه نوعان: تشبيه إفرادي مثل أن نقول: فلان كالبحر، فلان كالأسد. وتشبيه تمثيلي بمعنى أن تشبّه الهيئة بالهيئة، يكون المشبه شيئًا مؤلفًا من عدة أمور، والمشبه به كذلك يكون شيئًا مؤلفًا من عدة أمور، فيسمَّى عند البلاغيين تشبيهًا تمثيليًا، والأول تشبيهًا إفراديًا {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الصورة الآن: ريح شديدة
فيها برودة عظيمة ولها صرير من شدتها أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم، فالتشبيه مركب الآن من ريح شديدة باردة أصابت حرث قوم يعني مصيبٌ ومُصاب، أي زرعهم، {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم} أي استحقوا أن يعذبهم الله عز وجل بهذه الريح فأهلكته، فإذا هبت الريح العاصفة الباردة القوية انتقاما من بني آدم فإنها سوف تهلك هذا الحرث، ووجه الشبه ظاهر؛ لأنهم سُلطوا على أموالهم تسليطًا عظيمًا لكن لم ينتفعوا بهذا التسليط وعادت هباءً كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] هذه حال الكفار إذا أنفقوا أموالهم لن ينتفعوا بها إطلاقًا، كمثل ريح فيها صِرٌّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، {فِيهَا صِرٌّ} أي أنها مشتملة على الصرِّ، وفسرنا الصرَّ بأمرين: البرودة وشدة الصوت، لها صرير من شدتها وباردة، هذه لا تبقي على الزرع ولا تذر، فأهلكتهم.
قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} :
يعني ما ظلمهم الله عز وجل حين سلطهم على إهلاك أموالهم بدون أن ينتفعوا بها؛ لأن الله تعالى لا يظلم الناس شيئًا.
{وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :
هم الذين يظلمون أنفسهم بكفرهم بآيات الله، ولا أحد أجبرهم على هذا الكفر، وإذا فعل الإنسان الشيء من نفسه فلا يلومن إلا نفسه.
وقوله: {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :
يظلمون أنفسهم هذه مفعول مقدم، وعلامة ذلك أنه لو كان
في غير القرآن وحولت الجملة بالتقديم والتأخير فقلت: ولكن يظلمون أنفسهم لاستقام الكلام.
إذن فأنفس هذه مفعول به مقدم، وفائدة التقديم الحصر، يعني أنهم ما ظلموا الله عز وجل، والله أيضًا ما ظلمهم ولكنهم ظلموا أنفسهم، أما كونهم ما ظلموا الله لأن الله تعالى قال:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، وأما كونهم لم يُظلموا فلأن الله تعالى يقول:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} فالله تعالى لم يظلمهم وهم لم يظلموا الله، لم ينقصوه شيئًا وإنما نقصوا أنفسهم {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
بيان أن الكفار مهما بلغوا في القوة عددًا ومددًا فان قوتهم لن تغنيهم من الله شيئًا، عددًا لقوله:"أولاد" ومددًا لقوله: "أموال"، مهما كثرت قوتهم عددًا ومددًا فإنها لن تغني عنهم من الله شيئًا.
2 -
تمام قدرة الله وسلطته على العباد حيث إن الكفار العتاة لا يستطيعون أن يدفعوا شيئًا بأموالهم وأولادهم مما قضاه الله عز وجل، فان قال قائل: مفهوم الآية أن المؤمنين تغني عنهم أموالهم وأولادهم من الله شيئًا، قلنا: هذا غير مراد؛ لأن الآية سيقت في الرد على الكفار الذين يفتخرون بأموالهم وأولادهم، فبيَّن الله أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من الله شيئًا، أما المؤمنون فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] ولا أحد ينفعه ماله وولده إلا أن يكون عونًا له على طاعة الله.
3 -
أن الكفار في النار؛ لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} .
4 -
أنهم مخلدون فيها؛ لقوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} والجملة اسمية تدل على الدوام والثبوت، فإن قال قائل: هل هذا الخلود أبدي أم له غاية؟
فالجواب: أنه أبدي وليس له غاية، ودليل ذلك في كتاب الله في ثلاث آيات منه في النساء والأحزاب والجن، ففي النساء يقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169] وفي سورة الأحزاب يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64، 65] وفي سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وليس بعد هذه الآيات قول يُقال، بل لو قاله قائل فقوله مردود عليه؛ لأن هذا أمر غيبي لا يُعلم إلا من قبل الشرع والوحي، والوحي كما ترون نزل بأنهم خالدون فيها أبدًا، وإذا جاء النص فلا قياس، فمن ادَّعى أنهم يخلدون فيها إلى أمد فإنه لولا تأويله لكان أمره خطيرًا جدًا، لكنه تأوّل واشتبهت عليه بعض الآيات وقال بعدم التخليد الأبدي وإلا لكان أمره خطيرًا جدًا؛ لأن ظاهر هذا القول تكذيب القرآن، والأمر خطير جدًا، ولكنه صدر من أناس نعلم نصحهم لكتاب الله ولسنة نبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم على وجه تأولوا فيه، والله يغفر لهم تأويلهم، لكن بالنسبة للعقيدة التي بين الإنسان وبين ربِّه إذا تبين له خطأ عالم من العلماء وجب عليه مخالفته، أمّا بالنسبة للعالم فنرجو له
المغفرة والرحمة إذا علم بالنصح للأمة لأنه غير معصوم، والعصمة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
5 -
إثبات القياس؛ لقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ} ووجه ذلك: أن المثل إلحاق للأصل بالفرع، إلحاق للمشبه بالمشبه به، وهذا هو أصل القياس، إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، فكل مثال ضربه الله في القرآن ففيه دليل على القياس إذ إنه إلحاق المشبه بالمشبه به، وعليه يكون في هذه الآية إثبات القياس.
6 -
حسن أو تمام بلاغة القرآن، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، ووجهه أن الريح التي فيها صِرٌّ وأصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم كل يعرف أنها مدمرة ومهلكة، فكذلك أعمال الكافرين هالكة لا خير فيها؛ لأن الكفر مدمر لها، {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
7 -
أن الكافر لن ينتفع بما عمل في الآخرة، ووجهه أنه إذا هلك ما عمله وزال فإنه لن ينفعه لكن قد ينفعه في الدنيا، فيدفع الله عنه به من البلاء ما يدفع، أو يحصل من الخير الذي يرجوه ما يحصل بسبب الإنفاق الذي أنفقه من ماله.
8 -
انتفاء الظلم عن الله؛ لقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} وهل هو محال لذاته أو لغيره؟
قيل: إنه محال لذاته، وذلك لأن الخلق كلهم عبيد الله ومهما فعل السيد بعبيده فليس بظالم، وعلى هذا فإن الظلم في حق الله مستحيل لذاته، وهذا القول يتضمن أن الله غير قادر على الظلم؛ لأنه مستحيل لذاته عندهم. والقول الثاني: أن الظلم
بالنسبة لله مستحيل لغيره، يعني لو شاء الله أن يظلم لظلم، ولكنه مستحيل لغيره. والغير كمال عدل الله، وهو الذي منع أن يقع الظلم من الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: لو شاء الله لظلم العباد فأهدر أعمالهم الصالحة، وأضاف إليهم أعمالًا سيئة لم يعملوها، لكن لكمال عدله لا يمكن أن يقع منه ذلك سبحانه وتعالى.
وأيهما أدل على الكمال؟
الجواب: أن يكون الظلم بالنسبة لله مستحيلًا لغيره؛ لأنه لو كان محالًا لذاته لم يكن فيه مدح لله عز وجل، فالمدح أن يكون قادرًا عليه ولكنه تركه لكمال عدله. وأضرب لكم مثالًا يبيِّن الأمر: لو أن رجلًا عنينًا -أي لا يقدر على الجماع- دعته امرأة إلى نفسها فقال: ما لي رغبة، فهل نمدحه؟ لا، لا نمدحه لأنه غير قادر على ذلك، لكن لو كان رجلًا شابا وعنده قدرة، ودعته امرأة لنفسها فقال: إني أخاف الله ولو شاء لأجابها وفعل، فإنه يمدح لأنه قادر، فلو قلنا: إن الظلم بالنسبة لله مستحيل لذاته، وأنه لا يمكن أن يقع منه، صار عدم ظلمه ليس فيه مدح، وصار تمدّح الله به لا فائدة منه، إذن فالله تعالى نفى عن نفسه الظلم لكمال عدله، فلعدله لا يمكن أن يقع منه الظلم.
فإن قيل: نفي السِّنة والنوم هل هي مثل نفي الظلم؟
السِّنة والنوم ليست فعلًا بل هي حال وانفعال يطرأ على النائم والناعس، فقد يقال: إنها محال لغيره ولو شاء لنام وأخذته السنة، وقد يقال: محال لذاته؛ لأن في ذلك نفي لكماله، ولأن هذا ليس فعلًا بل هو انفعال، فبينه وبين نفي الظلم فرق.
9 -
إثبات أن الله تعالى موصوف بالنفي كما هو موصوف بالإثبات. وصف الله بالإثبات كثير في القرآن، ووصفه بالنفي أقل لكنه موجود، هذا النفي الذي وصف الله به نفسه هل هو نفي محض مجرد؟ لا، بل هو نفي متضمن لثبوت، وهو كمال ضد ذلك الشيء، فإذا قال الله عن نفسه:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] قلنا: لكمال عدله. وإذا قال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] قلنا: لكمال مراقبته. وإذا قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] قلنا: لكمال قوته وقدرته، وهلمَّ جرا، لا يمكن أَن يوجد في صفات الله نفي محض بل هو نفي متضمن لثبوت ضده على وجه الكمال، يقول العلماء رحمهم الله: ولابد من هذا التقدير إثبات كمال الضد؛ لأن مجرد النفي إن كان لعدم القابلية فلا مدح فيه، وإن كان للعجز المنفي فهو نقص.
إن كان لعدم القابلية فلا مدح فيه، مثلًا لو قلنا: الجدار لا يظلم، الجدار لا يغدر بالوعد، هذا لغو، كل الناس يعرفون هذا، فما مثلك إلا مثل الذي قال: السماء فوقنا والأرض تحتنا، أو قال: كأننا حول المدرس طلبة يدرسون، فما الفائدة من هذا؟ فإذا كان غير قابل لهذا المنفي عنه فإن وصفَه به لغو لا فائدة منه، وإن كان هذا النفي لعجزه عن تحقيقه صار نقصًا، لو قلنا: إن الله لا يظلم لأنه لا يستطيع أن يظلم، لا شك أنه نقص، إذن فالقاعدة فيما وصف الله به من النفي أنه ليس نفيًا محضًا بل هو متضمن لإثبات الكمال، الكمال ضد ذلك المنفي.
10 -
أن نفس الإنسان عنده أمانة يلحقها ظلمُه وغشمُه، ويلحقها بره وإحسانه، فيجب أن يرعى هذه الأمانة حقَّها، وإذا
كان يجب على الإنسان أن يرعى الأمانة في ولده وأهله ففي نفسه من باب أولى، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] هذه وصية منه تعالى لنا بأنفسنا وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] فأوصانا الله بأولادنا وصية منه لنا بأولادنا، والولد بضعة من أبيه.
* * *
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} :
الخطاب بمثل هذا:
أولًا: تصديره بالنداء يدل على أهميته والتنبه له.
ثانيًا: توجيهه إلى المؤمنين له ثلاث فوائد:
الأولى: الإغراء على الامتثال كأنه يقول: إن كنت مؤمنًا فافعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنًا فلا تفعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنًا فصدق بالخبر، ففيه توجيه للمؤمنين وإغراء بالامتثال.
الثانية: أن امتثاله من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يخاطب الشخص بوصف ثم يوجه إليه حكم متعلق بهذا الوصف إلا كان ذلك دليلًا على أن امتثال هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يصح أن توجه لفاسق كلمة تتعلق بالمؤمن.
الثالثة: أن الإخلال به نقص في الإيمان، إذا وجّه الله الخطاب للمؤمنين فهذا دليل على أن الإخلال به نقص في الإيمان، ثم إنه لابد أن يكون هناك فائدة عظيمة إذا وجه الله الخطاب للمؤمنين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك يعني استمع إليها، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه
(1)
.
يقول: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} هذا نهي {لَا} ناهية ولهذا جزمت الفعل فقال: {لَا تَتَّخِذُوا} والمراد (بالبطانة) القوم المقربون إلى الشخص، مأخوذ من بطانة الثوب؛ لأنها أقرب إلى البدن من ظهارته، فالثوب له بطانة وله ظهارة، البطانة أقرب، فالمعنى: لا تتخذوا قومًا مقربين إليكم تفضون إليهم بالأسرار وتخبرونهم بالأحوال وبما تريدون أن تقوموا به. وقوله تعالى: {مِنْ دُونِكُمْ} أي من غيركم كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74] أي من غيره. المراد بذلك كل من يغايرك في أمر من الأمور، وهذا يختلف، قد يكون في الدين مثلًا، وقد يكون في الدنيا، فإذا كان الأمر يتعلق بالدين فحينئذٍ لا نتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لا نتخذ
(1)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 211)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 196)، وابن كثير في تفسيره (1/ 61).
المنافقين أولياء من دون المؤمنين لأنهم غيرنا، إذا كان يتعلق بتجارة فلا نتخذ أحدًا بطانة يخدعنا في تجارتنا لأنه مغاير لنا في هذا الاتجاه، وهذه في الحقيقة قاعدة موجهة لكل مؤمن، وهي صالحة حتى للكفار مثلًا: لا يتخذ بطانة من دونه أي من غيره ممن يضره اتخاذه بطانة.
هذه أربع جمل {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} هذه واحدة {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ} هذه الثانية {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} هذه الثالثة {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} هذه الرابعة. هذه الجمل هل هي أوصاف لبطانة يعني بطانة متصفة بهذه الصفات، أو هي جُمل تعليلية للبطانة أي لا تتخذوا بطانة من دونكم فإنهم لا يألونكم خبالًا ويودون ما عنتم
…
إلخ؟ ، في هذا احتمالان: يحتمل أن هذه الجمل أوصاف، ويحتمل أنها جمل استئنافية معللة، لبيان التعليل أي لا تتخذوا بطانة من دونكم لأنهم لا يألونكم خبالًا ويودون ما عَنتُم
…
إلى آخره، وعلى القول الأول يكون معنى الآية: لا تتخذوا بطانة من دونكم على هذا الوصف أي بطانة من دونكم لا يألونكم خبالًا وودّوا ما عنتم
…
إلى آخره.
فإن قلنا بأن هذه الجمل أوصاف فإن قوله {مِنْ دُونِكُمْ} يعتبر وصفًا خامسًا؛ لأن (من دونكم) الجار والمجرور صفة لبطانة، وعليه فيكون نهى الله أن نتخذ بطانة من اتصفوا بهذه الصفات الخمس: أنهم من دوننا، أنهم لا يألوننا خبالًا، يودون ما عنتنا، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.
قوله: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} "الأُلِيُّ": بمعنى بذل الجهد، أي: لا يألون جهدًا في خبالكم يعني أنهم يبذلون كل جهد في خبالكم، والخبال هو الفساد في الرأي والعقل، ولهذا يقول الناس لرجل فاسد عقله ورأيه: إنه خِبْل، فمعنى لا يألونكم خبالًا أي لا يألون جهدًا في خبالكم يبذلون كل جهد لفساد أموركم؛ لأنهم قوم ليسوا منكم وهم بعيدون عنكم، بطانة من دونكم.
وقوله: {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ} الود: خالص المحبة أي أنهم يحبون بكل قلوبهم {مَاعَنِتُّمْ} أي الذي شقَّ عليكم، ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي: ودُّوا عنتكم، والعنت المشقة والشدة كما قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أي ألحق بكم المشقة، وقال تعالى:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي ما شقَّ عليكم، فالمعنى أن هؤلاء البطانة لا يألون جهدًا في إفساد أمورنا، ويودون بكل قلوبهم العنت علينا والإشقاق والإتعاب، العنت الفكري والبدني والمالي، وكل شيء يمكن أن يلحقنا فيه مشقة فهؤلاء يودونه.
الوصف الثالث: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بدت: أي ظهرت و {مِنْ} لبيان محل البدو، فهي ابتدائية يعني ظهرت من أفواههم كأنما يريدون أن يكتموا هذه العداوة والبغضاء ولكنها تبدو لابد أن تفهم من أقوالهم وإن كانوا لا يريدون هذا، ولهذا لم يقل: قد أبدوا البغضاء من أفواههم بل قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ} وهو دليل أنها جاءت فلتة من أفواههم وإلا فهم يتكتمون في البغضاء من أجل أن يتوصلوا إلى مآربهم في اتخاذهم بطانة، لكن لابد أن تبدو البغضاء من أفواههم.
{وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} ، أي أكبر مما يَبدو من
أفواههم، أي عندهم من البغضاء في القلوب أكثر بكثير مما تبديه الألسن، هؤلاء القوم المتصفون بهذه الصفات نهانا الله عز وجل أن نتخذهم بطانة، والنهي عن اتخاذهم بطانة يستلزم إبعادهم والحذر منهم وأن لا نركن إليهم.
وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} :
أي أظهرناها حتى صارت بينة مثل فلق الصبح، والآيات العلامات، وهل المراد العلامات التي وصف بها هؤلاء أو هي أعم فتشمل جميع ما بيَّنه الله لنا؟ الأَوْلَى أن نجعلها عامة، نقول: بيَّن الله لنا العلامات الدالة على الحق وعلى الباطل في هذه المسألة وفي غيرها، وقوله تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} يدل على أن الله تعالى له عناية خاصة في المؤمنين يبين لهم الآيات التي قد تخفى عليهم، بل هي خافية عليهم.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} :
يعني أنه لا يظهر بياننا للآيات إلا لمن كان له عقل يعقل به نفسه وهواه، أما غير العاقل فإنه لا ينتفع {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97] ويحتمل أن الشرط {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} عائد على قوله:{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} والمعنى على هذا التقدير: إن كنتم تعقلون فلا تتخذوا بطانة من دونكم، أما على الأول فيكون التقدير: إن كنتم تعقلون فقد بيَّنا لكم الآيات فاعقلوها، ومرَّ علينا أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا يتنافيان فالأولى أن تحمل عليهما فيكون من العقل أن لا نتخذهم بطانة، ومن العقل أن نتبين ما بيَّنه الله لنا من الآيات.
وقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} :
في قوله: {هَاأَنْتُمْ} قراءتان: المد {هَاأَنْتُمْ} أو القصر (هأنتم) وكلاهما قراءتان سبعيتان ينبغي للقارئ أن يقرأ بهذه مرة وبهذه مرة، يعني بهذه أحيانًا وبهذه أحيانًا إلَّا أمام العامة، فأمام العامة لا ينبغي أن تقرأها إلا بقراءة المصحف الذي بين أيديهم، لأنك لو قرأت بغير قراءة المصحف الذي بين أيديهم اتهموك بالخطأ أو شككوا في القرآن. وربما -إن كانوا عامة دهماء- يضربونك يقولون: أنت غيَّرت كتاب الله؛ لأن العامة الدهماء لا يميزون.
و(ها): قيل: إنها منقولة عن مكانها، وأن الأصل (أنتم هؤلاء) وقيل: بل هي للتنبيه وأنها في مكانها، ولأن التنبيه ينبغي أن يكون في أول الكلمات، فهي في مكانها. وقوله:{أُولَاءِ} منادى وأصله (يا هؤلاء){تُحِبُّونَهُمْ} أي تحبون هذه البطانة الذين لا يألونكم خبالًا، والذين ودُّوا ما عنتم، والذين قد بدت البغضاء من أفواههم، والذين ما تخفيه صدورهم أكبر، تحبونهم وذلك لأن المؤمنين يغلب عليهم سلامة القلب وطهارته وعدم ظن السوء في غيرهم، وكان هؤلاء يتوددون إليهم ويدّعون أنهم يصلونهم فيحبهم المؤمنون بناء على تغريرهم بهم. {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} يعني: وهم لا يحبونكم مع أنكم تحبونهم وكيف يحبوننا وقد بدت البغضاء من أفواههم؟ وقوله: {تُحِبُّونَهُمْ} هذا معلوم لنا لكن {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} هذا غير معلوم، ولكن الله أعطانا له قرائن وهي ما تبديه أفواههم، فإذا كانوا لا يحبونكم فكيف تحبونهم؟ الإنسان العاقل الحازم هو الذي يعامل من كانت هذه صفته بمثل ما كان عليه.
وقوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} :
الكتاب هنا اسم جنس يشمل جميع الكتب، تؤمنون بالكتاب القرآن، بالكتاب التوراة، بالكتاب الإنجيل، بالكتاب الزبور، بالكتاب صحف إبراهيم، تؤمنون بهذا كله وهم لا يؤمنون بذلك، مَنْ هؤلاء؟ يصدق هذا على اليهود والنصارى والمنافقين كلهم بهذا الوصف، لكن اليهود يدَّعون أنهم مؤمنون بالتوراة، والنصارى يدَّعون أنهم مؤمنون بالإنجيل، والمنافقون لا يؤمنون بشيء.
{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} نفاقًا ومداهنة {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] ولهذا قال: {وَإِذَا خَلَوْا} أي وحدهم أو إلى شياطينهم.
{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} :
أي من شدة الغيظ، لكن من شدة الغيظ لما يرون من نعمة الله عليكم، أو من شدة الغيظ لعدم اتباعكم لهم، أو من الأمرين جميعًا؟
الجواب: من الأمرين جميعًا بل ربما نقول: يشمل ما ادعوه في أنهم أمضوا مع المسلمين وقتًا ولم يتمكنوا من نيل مآربهم.
وقوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ} الأنامل أطراف الأصابع، وعضُّها يعبر به عن شدة الندم والحزن، ويعبر به عن شدة الغيظ أحيانًا، فالذي يتوعد غيره تجده يعض أنامله ويومئ برأسه، من الغيظ، والثاني انكسرت سيارته فعضَّ أنملته من شدة الندم، ولكن هنا بيَّن الله أنهم يعضون الأنامل من شدة الغيظ، يتمنى أن تكون
أنت الذي بين أسنانه حتى يقضمك {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} وهل الأنامل التي تعض طرف الأصابع أو وسط الأصابع؟ الظاهر أنها تختلف بحسب أعراف الناس. بعض الناس يعض الأعلى والآخر يعض الوسط، المهم كلها تنبئ عن شدة، إما شدة حزن أو شدة غيظ.
قال تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} :
{قُلْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى خطابه وهو الأقرب؛ لأنه كان يخاطب المؤمنين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} يعني: قل يا أيها المؤمن لهؤلاء: موتوا بغيظكم، هذا الأمر بالإهانة وبيان عدم المبالاة بهم.
{بِغَيْظِكُمْ} الباء: قيل: إنها للغاية والمصاحبة أي ابقوا على غيظكم إلى أن تموتوا، وقيل: إنها للسببية أي موتوا بسبب غيظكم فإنه لا يهمنا، والثاني أقرب، فالأول دعاء عليهم ببقاء الغيظ إلى الموت، والثاني دعاء عليهم بتعجيل الموت بسبب الغيظ، فيكون هذا أقرب للصواب وأشد في التحدي والبعد عنهم.
{إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :
الجملة استئنافية يبيّن الله تعالى فيها أنه عليم بذات الصدور أي بصاحبة الصدور وهي القلوب؛ لأن القلوب هي محل العقل والإدراك والتدبير للجسد. وإنما قلنا: إن (ذات الصدور) هي القلوب لقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. والقلب هو محل العقل ومحل التدبير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت
صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله"
(1)
. وهي محل النية والإرادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات"
(2)
إذن عليم بذات الصدور أي بالقلوب، بصاحبة الصدور، هذا تفسير لفظي والمراد القلوب.
قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} :
الخطاب للمؤمنين، وهنا أتى بصيغة الجمع، وأتى بصيغة المفرد في قوله:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} وسبق أن جاء بصيغة الجمع، وهذا من التفنن في الخطاب، ومن فوائده الانتباه، إن الإنسان إذا اختلف الأسلوب عنده انتبه وليس كما إذا كان الأسلوب على وتيرة واحدة. {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} الحسنة أيما حسنة دنيوية أو دينية أو مالية أو أهلية بدنية شاملة، ووجه الشمول أن حسنة نكرة، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فأي حسنة تصيب المؤمنين فإنها تسوؤهم؛ لأنهم أعداء سواء كانت هذه الحسنة في المال أو البدن أو الأهل أو للنصرة أو أي حسنة كانت، فإن هؤلاء تسوؤهم الحسنة إذا مستكم.
وقوله: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} :
السيئة ما يسوؤكم، أي أصابكم ما يسوؤكم في البدن أو الأهل أو المال أو الدين {يَفْرَحُوا بِهَا} ، أي يلحقهم الفرح بسببها،
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52). ورواه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599).
(2)
رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (1).
في الحسنة قال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ} وهنا يقول: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ} في السيئة، فهل هذا من باب اختلاف التعبير أو هناك فرق معنوي؟ قال بعض العلماء: إن هذا من باب اختلاف التعبير، وأن المعنى في قوله:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} أي إن تصبكم حسنة، قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال بعض العلماء: بل بينهما فرق لأن المسَّ أخف من الإصابة، وبنى على ذلك أنهم يساؤون من الحسنة وإن كانت قليلة جدًا ويفرحون بالسيئة إذا أصابت وأوجعت، وهذا الفرق بالنسبة لقوله:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} وجيه، لكن بالنسبة لقوله:{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} لو قلنا بهذا الفرق لكان فرحهم بالسيئة لا يكون إلا إذا كانت شديدة، وهذا فيما يظهر خلاف حالهم، وبناءً على ذلك يترجح القول بأن "مسَّ وأصاب" بمعنى واحد، لكن اختلف التعبير لفائدة وهي التنبيه؛ لأنه إذا اختلف الأسلوب لابد أن يحدث للإنسان المخاطب انتباه بخلاف ما إذا كان على وتيرة واحدة، وقوله:{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} هل يدخل في ذلك هزيمتهم في الجهاد؟
نعم يدخل، ويدل على هذا قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72، 73].
إن تصبروا على ما ينالكم منهم، ومعلوم أن الصابر ينتظر
الفرج. وتتقوا فيما تعاملونهم به؛ لأن الإنسان مطالب بالنسبة لهؤلاء الكفار بأمرين: الأول: الصبر على ما فعلوا، والثاني: أن يتقي الله فيما يفعل بهم.
وقوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} يعني ولو آذوكم فلا يضركم، والكيد هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم بالأسباب الخفية، وهو بمعنى المكر وبمعنى الخداع، وهو ثابت لله عز وجل أي أن الله يوصف بالمكر والخداع والكيد في مواطنها بخلاف الخيانة، فإن الله عز وجل لا يوصف بها لأنها صفة ذم فى كل حال، وفي قوله:{لَا يَضُرُّكُمْ} هو قراءتان: إحداهما (لا يَضُرُّكم) والثانية (لا يَضِرْكم) من الضَّير، والضَّير بمعنى الضرر وبمعنى الضيم فهو ضرر بضيم، ومنه ما جاء في حديث رؤية الله تعالى حيث قال صلى الله عليه وسلم:"إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تَضَارون ولا تُضَارون"
(1)
أي لا يلحقكم ضير، فتكون القراءتان كل واحدة منهما أفادت معنى غير الأخرى؛ لأن مطلق الضرر دون مطلق الضير، فالضير أشد، فهم لا يلحقونا بضرر ولا بضير.
وقوله: {شَيْئًا} نكرة في سياق النفي فتكون عامة، يعني أي شيء يكون. ولكن يلحقهم من ذلك أذى؛ لقوله تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ولكن لا
(1)
رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، رقم (573). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، رقم (633). ورواه الترمذي، كتاب صفة الجنة بلفظه، رقم (2554).
يلزم من الأذى الضرر، ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي:(يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)
(1)
، وأثبت أن بني آدم يؤذونه فقال:(يؤذيني ابن آدم يسب الدهر)
(2)
، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} :
الإحاطة هنا: إحاطة العلم والقدرة والسلطان، فهو محيط بهم كإحاطة السور بمن في داخله، أي لا يتمكنوا أن يفروا من قضاء الله عز وجل وعلمه وسلطانه وقدرته، وقوله:{بِمَا يَعْمَلُونَ} (ما) هذه موصولة فتفيد العموم، والعائد: محذوف أي بما يعملونه محيط.
ثم قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :
من هذه الآية إلى قريب آخر السورة كله في غزوة أُحد وما يتعلق بها، فقوله:{وَإِذْ غَدَوْتَ} إذ: ظرف، عاملها محذوف تقديره: اذكر إذ غدوت، "وغدوت": بمعنى خرجت غُدوة أي في أول النهار كما كان الأمر كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة أُحد في أول يوم السبت الحادي عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة. وفي هذا اليوم غدا الرسول الكريم من أهله.
وقوله: {مِنْ أَهْلِكَ} من: ابتدائية أي أن مبتدأ هذه الغدوة من أهله، من المدينة خرج النبي صلى الله عليه وسلم غاديًا إلى أُحد بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم هل يخرج أو لا؟
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 560).
(2)
تقدم تخريجه (ص 55).
وسبب هذه الغزوة أن قريشًا لما قُتل من صناديدهم من قتل في بدر، سبعون رجلًا من كبرائهم، وأُسر منهم سبعون رجلًا، أرادوا أن يأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريدون قتاله، وكانوا ثلاثة آلاف معهم العدة الكثيرة يريدون النبي صلى الله عليه وسلم ليقضوا عليه، فعسكروا حول المدينة، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة هل يخرج إليهم أو لا؟ أما شباب الصحابة الذين لم يحضروا بدرًا فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج وقالوا: نخرج نقاتلهم، وأما بعض الصحابة فسكتوا، وأما المنافقون فقالوا: لا نخرج إليهم بل ندعهم فإن بقوا بقوا على شر حال، وإن ملوا رجعوا إلى مكة، وإن دخلوا المدينة نقاتلهم نحن بالسيوف ويقاتلهم النساء والصبيان بالحجارة من على السطوح، كذلك قال المنافقون لا نصحًا لله ورسوله ولكن جبنًا وخورًا وخداعًا وغشًا، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ولبس لأمة الحرب وتهيأ عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الصحابة: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج يعني ندموا، قالوا: ليتنا لم نتكلم بهذا، فلما خرج ولبس لأمة الحرب -وهو ما يوضع على الرأس- وتهيأ قالوا: يا رسول الله، إن شئت أن لا نخرج فعلنا، فقال عليه الصلاة والسلام:"ما كان ينبغي لنبي لبس لأمة الحرب أن يضعها حتى يفتح الله بينه وبين عدوه"
(1)
. فمضى وخرج من المدينة ومعه ألف مقاتل، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بنحو ثلث الجيش وقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم،
(1)
انظر: مسند أحمد، رقم (14373).
قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167] فانخذلوا ولكن الصحابة رضوان الله عليهم بثباتهم وإيمانهم لم يضرهم ذلك شيئًا، واستمروا حتى نزلوا أُحدًا، ولما نزلوا عبَّأهم النبي صلى الله عليه وسلم أحسن تعبئة ورتَّبهم واختار منهم خمسين رجلًا من الرُّماة، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم، جعلهم في سفح الجبل على شعبة منه قال: لا تبرحوا مكانكم سواء كانت لنا أم علينا، فبقوا يحمون ظهور المسلمين، فحصل القتال في أول النهار وكانت الدائرة على المشركين فتولوا الأدبار فجعل المسلمون يجمعون الغنائم، فلما رأى أهل الجبل حال المسلمين وأن المشركين قد ولّوا الأدبار وصار المسلمون يجمعون الغنائم قالوا: ننزل لنساعد إخواننا في جمع الغنائم فقد انتهت الحرب، فذكَّرهم أميرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبرحوا مكانكم سواء كانت لنا أم علينا، ولكنهم أصروا إلا أن ينزلوا فنزلوا، فلما رأى فرسان قريش أن الثغر خالٍ وليس هناك أحد يحمي المسلمين من ورائهم كروا عليهم بخيولهم من خلفهم ودخلوا، وكان على رأسهم قائدان عظيمان هما خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قبل إسلامهما رضي الله عنهما، فاختلط الناس بالمسلمين من ورائهم وحصل ما قضى الله وأراد لحكمة عظيمة، وقُتل من المسلمين سبعون رجلًا وجُرح النبي عليه السلام، وكُسرت رباعيته، وشجَّ وجهه حتى كانت ابنته فاطمة تأتي بالحصير تحرقه وتذر رماده على جُرح النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الدم يندفع، وحصل من الابتلاء والامتحان ما الله قد قضاه وقدّره لحكمة عظيمة حتى يعلم الناس أن الله تعالى له الحكم وإليه المنتهى، وحتى يعلم الناس أنه لا نصر مع
المعاصي أبدًا. هم عصوا النبي عليه السلام شرعًا وفرَّطوا فيما يلزمهم قدرًا، كيف ذلك؟ عصوا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لهم: لا تبرحوا مكانكم، وتركوا ما يلزمهم قدرًا وهو حماية المسلمين من خلفهم؛ لأن هذا من الأسباب النافعة، وترك الأسباب النافعة سفه في العقل ونقص في الدين؛ لأن الله تعالى أمر بأن نأخذ بالأسباب وأعظمها التوكل على الله، ولكن لابد من أن نفعل الأسباب الحسية المادية، فهم رضي الله عنهم وعفا الله عنهم حصل منهم ما حصل فصارت النكبة العظيمة، الشهداء رضي الله عنهم حملهم أهلهم إلى المدينة ليدفنوهم في البقيع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يردوا إلى مصارعهم، ويدفنوا هناك في أُحد ففعلوا، والحكمة من ذلك -والله أعلم- أن المقتول في سبيل الله يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ولا يغسل لئلا يزول هذا الدم من على جسده، ولا يكفن وإنما يدفن في ثيابه التي قُتل فيها، كل هذا من أجل أن يتحقق خروجه يوم القيامة من المكان الذي صُرع فيه وعلى الهيئة التي صُرع عليها.
المهم أن الله تعالى يذكّر نبيّه عليه الصلاة والسلام بهذه الغزوة العظيمة التي فيها من الأسرار والحكم ما يتبين به أن ذلك هو عين الصواب وعين الخيرة للمؤمنين، وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمة الله عليه- في كتابه "زاد المعاد"
(1)
من الحكم في هذه الغزوة ما لا تجده في أي كتاب آخر، فتحسن مراجعته فإنه مفيد.
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (3/ 196).
يقول: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} :
"تبوئ" هذه الجملة حالية يعني حال كونك تبوئ، ومعنى تبوئ يعني تنزل، والتبوؤ: معناه النزول كما جاء في الحديث الصحيح: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"
(1)
أي فلينزل نفسه مقعدًا من النار، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] أي نزلوها.
قال: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} :
المؤمن هو المُقر بما يجب الإيمان به مع القبول والإذعان، وفي هذه شهادة من الله عز وجل أيما شهادة على أن هؤلاء الذين شهدوا هذه المعركة مؤمنون. {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} الله أكبر، مقاعد للقتال أي يثبتون ويقعدون كثبوت القاعد، ولهذا قال:{مَقَاعِدَ} ولم يقل منازل من أجل أن تكون هذه الأماكن التي بوؤوها مكانًا ثابتًا كثبات القاعد في مجلسه، وليس المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل لهم هذه المنازل وقال اجلسوا. بل هم يتكيفون كما يناسب مصلحة الحرب لكنها سُميت مقاعد من أجل الثبات فيها. {لِلْقِتَالِ}: يعني لقتال الأعداء، وتعلمون أن المقاتل لن يبقى في مكانه دائمًا إنما يكرّ ويفرُّ حسب ما تقتضيه المصلحة.
أي سميع لما تقول لهم، "عليم" بأحوالهم. وقد نقول: إنَّ
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3461). ورواه مسلم، في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (3).
كلمة "سميع" أعم من كونها لما يقول لهم حين ترتيبهم وتبوئهم، فتكون أشمل، وهذا هو الأحسن لأنه كلما كان اللفظ شاملًا كان أحسن وأعم، "عليم" أي عليم بما يحدث من قول وفعل وحال وحاضر ومستقبل.
ثم قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :
{إِذْ} قال المفسرون أو المعربون: إنها بدل من {إِذْ} الأولى، يعني يكون التقدير على هذا:(اذكر إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا).
{هَمَّتْ} : الهَمُّ يطلق على مجرد حديث النفس، ويطلق الهَمُّ على العزم، يعني أن الإنسان قد يهم ويحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل، يقال هذا "هَمَّ" ويطلق على العزم المصمم الذي ينفذ إن لم يوجد مانع، وهنا الطائفتان وهما بنو سلمة وبنو حارثة همّوا أن يفشلوا، والفشل هنا بمعنى الجبن والخوف، يعني أن هاتين الطائفتين وقع في قلوبهما الهم بالانهزام، وسببه ما جرى من المنافق عبد الله بن أبي بن سلول الذي انخزل بنحو ثلث الجيش، وتعرفون أنه إذا انخزل ثلث الجيش فإن هذه ثُلمة كبيرة في الجيش، فهاتان القبيلتان همّتا أن تفشلا، أن تجبنا وترجعا ولكن الله تعالى ثبَّتهما، ولهذا قال:{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} فثبّتهما سبحانه وتعالى فلم تفعلا ما عزمتا عليه.
وقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} هذه ولاية خاصة، وولاية الله تعالى تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية بمعنى التدبير للشؤون ولاية عامة، والتي بمعنى العناية أي تقتضي العناية ولاية خاصة، لأن
الإنسان إذا همَّ بالمعصية أو بالذنب ثم حصل له من عند الله ما يمنعه منه فهذه ولاية خاصة من الله لا شك، فكثيرًا ما يهمُّ الإنسان بالذنب أو بترك الواجب يعني بالذنب من فعل المعصية أو ترك واجب فيجد في قلبه إذا هَمَّ بالمحرم انحلالًا عن هذه الهمة وعدولًا عنها، هذه ولاية من الله، وأحيانًا يهم بترك الواجب فيقيِّض الله له من يعينه عليه حتى يفعل، هذه أيضًا ولاية خاصة، فهاتان القبيلتان لمّا همتا تولاهما الله عز وجل بعنايته فلم تفشلا وبقيتا مع الجيش، وكان بعض هاتين الطائفتين يقول فرحا لقد كان من حظهم أن الله أخبر عنهم بهذا الخبر لأنه أخبر بأنهما همَّتا أن تفشلا، وأخبر بخبر آخر سارٍّ ومنقبة لهما وهو أن الله وليهما.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :
"على الله" متعلقة بـ"يتوكل" وقدّمت لإفادة الحصر أي على الله لا على غيره فليتوكل، والتوكل: قال أهل العلم: هو صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به وفعل الأسباب التي أمر بها، هذا التعريف طويل ولكنه جامع، إذن لا يكفي أن تصدق الاعتماد على الله حتى يكون في قلبك ثقة بأن الله سيعينك ويكفيك كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. ولا يكفي أيضًا أن تعتمد على الله وتثق به حتى تفعل الأسباب التي أمر بها؛ لأنك إن لم تفعل الأسباب التي أمر بها كنت متواكلًا لا متوكلًا، ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: إن قومًا من أهل اليمن جاؤوا حجاجًا وليس معهم زاد فقالوا: نحن المتوكلون. فقال:
إنهم ليسوا بمتوكلين ولكنهم متواكلون، بمعنى أنهم مفرطون مهملون، فلو أن أحدًا قال: سأعتمد على الله تعالى في جلب الرزق وهو قادر على فعل الأسباب ولكن لم يفعل قلنا: أنت مهمل متواكل، افعل السبب:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، قد يقول: ربما يموت قريب لي فأرثه فهذا من رزق الله، فنقول: فإذا لم يمت تقتله؟ نعوذ بالله ولو قتله ليأخذ ماله حُرِمَ من الميراث؛ لأن القاتل عمدًا لا يرث، فالحاصل أنه لابد لصحة التوكل من فعل الأسباب التي أمر الله بها، أما الأسباب التي لم يأمر الله بها فإنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها.
وقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر المؤمنين أن يتوكلوا على الله؛ لأنه لا يمكن أن يحقق التوكل إلا المؤمن، فالتوكل من مقتضيات الإيمان، والإيمان الحقيقي من أسباب التوكل على الله.
من فوائد الآيات الكريمة:
من فوائد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. . .} :
1 -
تحريم اتخاذ البطانة التي ليست مِنَّا؛ لقوله: {لَا تَتَّخِذُوا} والأصل في النهي التحريم.
2 -
أن هذا التحذير ليس خاصًّا بولاة الأمور، بل كل إنسان لا يجوز له أن يتخذ بطانة من دونه حتى الواحد الفرد، بمعنى أنها ليست على طريقه ولا على منهاجه، فلو أن رجلًا مسلمًا صَادَقَ كافرًا واتخذه بطانة يسرُّ إليه بالأمور لقلنا: إن هذا حرام عليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} إلى قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1].
3 -
أن تجنب البطانة السيئة من مقتضيات الإيمان؛ لأن الخطاب وُجِّه إلى المؤمنين.
4 -
أن اتخاذ بطانة السوء من نواقص الإيمان بناءً على القاعدة التي أصَّلناها فيما سبق وهي: أن ما كان الإيمان مقتضيًا له فإن فواته يكون نقصًا في الإيمان، ولكن هل يكون من نواقض الإيمان؟ ربما يكون، لو اتخذ هذه البطانة فيما يخرج من الإسلام.
5 -
أن الذين من دوننا لا يألوننا خبالًا، وهذا بناء على أن الجملة استئنافية للتعليل، وقد مرَّ بنا في التفسير أن من العلماء من قال: إنها صفة لما قبلها، وأن الذين من دوننا إذا كانوا لا يألوننا خبالًا فلا بأس أن نتخذهم بطانة، ولكن الظاهر الأول، أن الجملة استئنافية للتعليل يعني أن الذين من دوننا لا يألوننا خبالًا. ولنضرب لذلك مثلًا بالمؤمنين يتخذون البطانة من الكافرين، فإن الكفار لا شك أنهم لا يقصرون في طلب الخبال لنا. يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إليه أبو موسى رضي الله عنه يريد منه أن يولي كاتبًا نصرانيًا على بيت المال لأنه -أي هذا الكاتب النصراني- كان جيدًا في الحساب، فكتب إليه عمر أن لا تفعل وأمره بعزله، فأعاد عليه مرة ثانية يطلب منه أن يبقيه كاتبًا، فكتب إليه عمر (مات النصراني والسلام) المعنى إذا مات هل معناه أن يتعطل بيت المال أو حساب بيت المال، أي قدِّر أنه
مات. أما أن نأتمنه على بيت مال المسلمين وقد خان الله ورسوله فلا يمكن. وبه نعرف أنه لا يجوز أن يولى أعداؤنا من الكفار أو غير الكفار أسرار أمورنا؛ لأننا إذا ولّيناهم أسرار أمورنا فقد اتخذناهم بطانة.
6 -
بيان عناية الله تعالى بعباده المؤمنين حيث حذَّرهم إلى أمور قد تخفى عليهم وذلك باتخاذ البطانات السيئة.
7 -
أن أعداءنا يودون لنا ما يشق علينا؛ لقوله: {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ} وهنا سؤال: هل يودون ما يشق علينا في الدنيا أو الدين؟
الجواب: يشمل الأمرين فيودون ما يدمِّر جيوشنا، ويودون ما يدمِّر اقتصادنا، ويودون ما يدمِّر معارفنا، ويودون ما يدمر ديننا. والظاهر عندي -والله أعلم- أن أهم شيء لديهم هو تدمير الدين؛ لأنهم يعلمون أن ديننا إذا قوي صار فيه تدمير لهم، لكن اقتصادنا إذا قوي لا يكون فيه تدمير لهم؛ لأنهم هم أقوى منا اقتصادًا وَأقوى منا جيوشًا، وأقوى منا عدة في الوقت الحاضر، لكن الدين هو الذي يدمرهم؛ ولذلك نقول: إن كل ما يشق علينا في أمر الدين والدنيا يتطلبونه، يريدون أن يضايقونا في الدين بقدر ما يستطيعون، يودون أن يضايقونا في الاقتصاد بقدر ما يستطيعون، يودون أن يضايقونا في السلاح بقدر ما يستطيعون، يرسلون لنا من الأسلحة ما عفا عليها الزمن، من الأسلحة التي زالت منفعتها في الوقت الحاضر، وصارت بالنسبة لأسلحة الوقت الحاضر كالسكين أو الهراوة بالنسبة للأسلحة، يعني ليس فيها فائدة، هم يريدون أن يكملوا اقتصادهم وأن يشغلوا مصانعهم ولا يهمهم أن ننتفع.
8 -
أن أعداءنا إذا تأمل الإنسان أحوالهم وجد من أفواههم ريح البغضاء؛ لقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} بما يتكلمون به، وربما تبدو البغضاء من أفعالهم أحيانًا بالمضايقة، فهم أحيانًا يبدونها من أفواههم، وأحيانًا من أفعالهم بالتهديد الفعلي لا القولي ونحو ذلك.
9 -
أن ما في قلوب الأعداء من العداوة والبغضاء والحقد والحنق أكثر مما يبدو، وهذا أمر لا يطلع عليه إلا الله وهو الذي أخبرنا بذلك، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أكبر مما تبديه أفواههم.
10 -
بيان أن الأوصاف الذاتية أو الفعلية تتفاضل؛ لقوله (أكبر) وهو قد تكلم عن البغضاء، والبغضاء وصف في القلب ذاتي لا يمكن للإنسان أن يعرفه إلا بآثاره، فهنا بيَّن أن البغضاء متفاوتة وكذلك المحبة متفاوتة، ولا شك في المحبة أنها متفاوتة لأنها جاءت في القرآن والسنة {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} إلى قوله:{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"
(1)
. والبغضاء أيضًا تتفاوت بعضها أعظم من بعض.
11 -
مِنَّة الله تعالى علينا ببيان آياته؛ لقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ} والآيات التي بيَّنها الله قسمان: آيات كونية وآيات
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول من الإيمان، رقم (15). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، رقم (44).
شرعية، وبيانه لها إمّا بالمشاهدات الحسية وإما بالتأملات العقلية، فالآيات الشرعية تكون بالتأملات العقلية، والآيات الكونية تكون بالمشاهدات الحسية التي قد تكون طريقًا إلى التأملات العقلية أيضًا.
12 -
أنه كلما كان الإنسان أشد عقلًا أو أقوى عقلًا كان أفهم لآيات الله، تؤخذ من قوله تعالى:{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي أنه كلما كان الإنسان أعقل كانت الآيات له أبين وأظهر.
ومن فوائد قوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} :
1 -
بيان علم الله تعالى بما في القلوب؛ لقوله: {تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} لأن المحبة والكراهة من أعمال القلوب، ولا يطلع عليها إلا الله تعالى لكن لها آثار تدل عليها.
2 -
التحذير ممن يبدي أنه ناصح لك وقلبه كاره لك؛ لأن المقصود من هذا قوله: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ} إلى آخر التحذير من هؤلاء، فلا تغتر بمن ظاهر حاله النصح بل قس الأمور بالأفعال؛ لأن الأفعال هي التي تبين حقيقة الأمر، فكم من إنسان يقول لك قولًا وهو على خلاف ما يقول لك ولكن الأفعال هي التي تبيّن.
3 -
أن هذه الأمة الإسلامية تؤمن بجميع الكتب؛ لقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أما اليهود فيكفرون بالإنجيل ويكفرون بالقرآن، وأما النصارى فيكفرون بالقرآن، ومع ذلك هم كفار؛ لأن من كفر بكتاب مما أنزله الله فهو كافر بجميع الكتب، وقد مرَّ
علينا تقرير هذا مرارًا، وأن من آمن ببعض الرسل دون بعض فقد كفر بالجميع، وأن من كفر ببعض الرسل دون بعض فقد كفر بالجميع، وكذلك من كفر ببعض الشريعة فقد كفر بالشريعة كلها؛ لأن الشريعة واحدة {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85].
4 -
أن هؤلاء يخادعون المؤمنين؛ لقوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .
5 -
أن العبرة بالأفعال لا بالأقوال، لقوله:{وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} أي أنهم من شدة غيظهم يعضون أناملهم كأنكم أنتم الذين بين أضراسهم ليمضغوكم مضغًا من شدة الغيظ والحنق، ولهذا تجد الناس حتى الآن إذا أراد شخص أن يتوعد إنسانًا أخذ يهز برأسه وهو عاض إصبعه لشدة غيظه.
6 -
إثبات الأسباب؛ لقوله: {مِنَ الْغَيْظِ} لأن (من) للسببية أي بسبب الغيظ، وإثبات الأسباب شيء معلوم ظاهر، ولو تأملت لوجدت أن كل مسبب له سبب قطعًا، وأن جميع الأشياء يجعل الله لها أسبابًا تحصل بها.
7 -
أنه ينبغي للمسلم أن يكون قويًّا صارمًا أمام أعدائه؛ لقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} .
8 -
إثبات علم الله لما في القلوب على وجه صريح؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ودلالة هذه الجملة على علم الله بما في القلوب دلالة مطابقة، ودلالة قوله:{هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} دلالة التزام.
ومن فوائد قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} :
1 -
أن العدو إذا أصابت عدوه حسنة ساءته، وإذا أصابته سيئة فرح بها، وقد جعل الفقهاء رحمهم الله هذا ضابطًا في العداوة حينما تكلموا في باب الشهادات على أن العدو لا تقبل شهادته على عدوه، قالوا في ضابط العدو: هو من سرَّه مساءتك وساءه مسرتك، مأخوذ من هذه الآية.
2 -
بيان أن العدو مهما أظهر لك من الصداقة فإنه كاذب؛ لأن الذي يسوؤه حسنتك لا شك أنه ليس بصديق، والذي يفرح بمصيبتك لا شك أيضًا أنه ليس بصديق وإن تظاهر بالصداقة.
3 -
بيان شدة عداوة هؤلاء للمؤمنين الذين اتخذوهم بطانة؛ فكيف تتخذونهم بطانة وهم يساؤون بما يسركم، ويسرون بما يسؤوكم؟
4 -
التحذير من تولية اليهود والنصارى لأمور المسلمين القيادية كأن يجعلوهم مدراء أو وزراء أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم لا يألوننا خبالًا ويسرون بما يسوؤنا، ويساؤون بما يسرنا، فكيف نتخذهم بطانة نوليهم أمورنا القيادية من إدارة أو رئاسة أو غيرها؟
5 -
أن أعداءنا لا يألون جهدًا في الكيد لنا، ولكن نداوي هذا بالصبر والتقوى، بالصبر على كل ما يجب الصبر عليه من أمور فنقوم بها، أو نواهٍ فنتركها، أو سياسات فنتبعها، ونكون ثابتين على مبدأ وليس كل يوم لنا سياسة بل نكون ثابتين على مبدأ معين نصبر عليه.
6 -
أن الصبر والتقوى يدفع الأعداء؛ لقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} وما فعلوه علنًا إن صبرنا واتقينا لا يضرنا من باب أولى؛ لأن الكيد الذي يكون بالمكر والخديعة إذا كان لا يضرنا مع الصبر والتقوى فما كان ظاهرًا بيِّنًا فهو من باب أولى.
7 -
إحاطة الله سبحانه وتعالى بعمل هؤلاء في كل شيء، في العلم والتدبير وإحباط أعمالهم وتدميرهم وغير ذلك، فالله محيط بهم من كل وجه، ولكن قد يبتلي الله بهؤلاء الأعداء ويحصل من كيدهم ما يضر لفوائد كثيرة، منها أن ينال المسلمون الصبر على المؤذي، وأن يرجعوا إلى الله عز وجل فيقيموا الدين.
8 -
أن العدو يطغى ويرتفع ويعلو، فإذا بلغ القمة في العلو رمى به الله سبحانه وتعالى إلى السفل؛ فيكون نزوله من العلو إلى السفل أشد من نزوله أثناء الطريق، ولهذا الذي يسقط من السقف يكون أشد ممن لو سقط من أثناء الدرج، فالله سبحانه وتعالى قد يملي للظالم حتى يتمادى في ظلمه وطغيانه، حتى إذا ظن أنه بلغ القمة حطَّ به إلى أسفل السافلين، فصار ذلك أشد وأعظم، وقد نبَّه الله تعالى على ذلك في سورة آل عمران فقال:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] مع أنه في ذلك الوقت كان الظفر للمشركين في أُحد لكن جعل الله ذلك سببًا لمحقهم؛ لأنهم إذا شموا رائحة النصر ازدادوا في طغيانهم وقووا، ثم تكون النكبة.
9 -
أنه يجب على الإنسان أن ينتظر نصر الله عز وجل،
وأن يثق بوعده؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} يعني فلا تظنوا أن أمرهم هذا كائن بدون قدرة الله عليه، ولكن الله تعالى قادر عليه ومحيط به.
ومن فوائد قوله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في أول النهار؛ لقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ} أي: خرجت في الغداة وهي أول النهار.
2 -
حسن تدبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب؛ لقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} .
3 -
أنه ينبغي للقائد أن يبوئ أمكنة المقاتلين ويعرّف كل واحد منهم مكانه وعمله حتى لا يحصل ازدواج يضر بالجيش، كل واحد يرتبه على حسب ما يليق به ويقول: اجلس مكانك، وهذا عملك واستمر عليه؛ لأن في النظام ولاسيما في مثل هذه المواقف فائدة كبيرة، بل إن النظام مطلوب حتى في أعمالك اليومية في نفسك، فكيف بهذه الأعمال الكبيرة؟ ! .
4 -
شهادة الله سبحانه وتعالى للذين خرجوا في أُحد بأنهم مؤمنون؛ لقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} ، لأن المنافقين انخزلوا قبل أن يصلوا إلى مكان القتال فقد رجعوا في أثناء السير.
5 -
إثبات هذين الاسمين لله وهما السميع والعليم، فالسميع يتعلق بالأصوات، والعليم يتعلق بما هو أعم، بما يدرك بالسمع وما يدرك بالبصر وغير ذلك، فالعليم هو من أوسع الأسماء دلالة.
ومن فوائد قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :
1 -
في هذه الآية دليل على أن طائفتين من المؤمنين همّتا بالفشل ولكن الله ثبّتهما، همّتا بالفشل أن يرجعا كما رجع المنافقون.
2 -
أن الدعاية ولو كانت باطلة ربما تؤثر حتى على المؤمن.
3 -
أن الله سبحانه وتعالى قد يلطف بالمؤمن حتى يثبته على الحق؛ لقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} .
4 -
منّة الله على هاتين الطائفتين حيث إن الله كان وليًا لهما؛ ولهذا فرحا الطائفتان بهذه الولاية.
5 -
وجوب التوكل على الله وأنه من مقتضى الإيمان؛ لقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
6 -
أنه ينبغي للإنسان أن يتوكل على الله ولاسيما في هذه المواطن التي يشتد فيها الأمر على المسلم، بل على المؤمن أن لا ينظر إلى الأمور نظرًا ماديًا؛ لأن وراء الأمور المادية ما هو أعظم منها، وهي قدرة الله سبحانه وتعالى التي تقضي على كل هذه الأمور المادية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
7 -
أنه إذا قوي الإيمان قوي التوكل على الله؛ لقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} بناء على قاعدة معروفة وهي أن ما عُلق على وصف يقوى بقوّته، ويضعف بضعفه.
• ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]:
يقول الله عز وجل مبينًا نعمته على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل وعلى الأمة جمعاء؛ لأن انتصار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتصار لجميع الأمة إلى يوم القيامة، بل إن انتصار الرسل السابقين انتصار للمؤمنين إلى يوم القيامة، ولهذا صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء شكرًا لله على نعمته بإنقاذ موسى وقومه وإهلاك فرعون وقومه، وقال لليهود:"نحن أولى بموسى منكم"
(1)
.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} والجملة هذه مؤكدة بأمور ثلاثة:
الأول: القسم المقدر.
الثاني: اللام.
والثالث: قد. لأن التقدير (والله لقد نصركم الله) والنصر هو أن يجعل الغلبة لهؤلاء على هؤلاء، فمن جعل الله لهم الغلبة فقد نصرهم، وللنصر أسباب خمسة:
أولًا: الإخلاص لله؛ لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
والثاني: إقامة الصلاة.
(1)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
…
}، رقم (3397). ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، رقم (1130).
والثالث: إيتاء الزكاة.
والرابع: الأمر بالمعروف.
والخامس: النهي عن المنكر، لقول الله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41].
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} الباء هنا بمعنى (في) فهي للظرفية، ولا غرابة أن تأتي الباء للظرفية كما في قوله تبارك وتعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137 - 138] يعني (في الليل).
و(بدر) مكان معروف، ولا يزال حتى الآن معروفًا بين مكة والمدينة، وسبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بِعير لقريش قدمت من الشام ندب أصحابه إلى الخروج إليها لأخذها؛ لأن قريشًا أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم وهم حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أموالهم حلًا للرسول صلى الله عليه وسلم، فندب أصحابه أن يخرجوا إليهم فخرجوا في عدد قليل وعدة ضعيفة، خرجوا نحو ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلًا على سبعين بعيرًا وفرسين فقط يتعاقبونها، الرجلان على بعير والثلاثة على بعير، على أنهم يريدون العير، ولكنَّ أبا سفيان وهو أمير العير أخذ نحو الساحل، ساحل البحر لا على الطريق المعروف، وأرسل صارخًا إلى أهل مكة يستنجدهم لحماية عيرهم، ثم لما نجا أرسل إليهم أنه نجت العير ولكنهم كانوا قد تأهبوا للخروج لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم فخرجوا بكبرائهم وزعمائهم على الوصف الذي
ذكره الله عز وجل، خرجوا بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله وقال لهم الشيطان: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، ولكنه خانهم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، خرجوا ما بين ألف وتسعمائة ومعهم النساء لأجل أن يشتد قتالهم خوفًا على نسائهم؛ وجعلوهن بالخلف فحصلت المعركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هؤلاء المشركين، وكان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قلة عَدَد وعُدَد ولكن الله تعالى نصرهم، ولهذا قال:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} .
وقوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أذلة جمع ذليل كأعزة جمع عزيز، أذلة من ناحية العَدَد ومن ناحية العُدَد، فثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا بالنسبة لتسعمائة إلى ألف يعني أقل من الثلث، والذي معهم من العدة ليس بشيء، سبعون بعيرًا وفَرسان ولكن الله نصرهم سبحانه وتعالى.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اتقوا الله، هذه الفاء للتفريع يعني بهذا النصر الذي نصركم الله يجب عليكم أن تتقوا الله، وألا تجعلوا النصر سببًا للأشر والبطر كما يفعله من ليس عنده إيمان إذا انتصر على عدوه جعل هذا سببًا للأشر والبطر، ودخل البلد وهو يغني ويطرب، كما ذكر عن بعض مذيعي العرب أيام حربهم مع اليهود يقول: غدًا تُغنَّى الأغاني في تل أبيب! فهل هذا جزاء وشكر النعمة؟
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه دخل مكة عام الفتح وهو من أعظم الانتصارات مطأطئًا رأسه خاضعًا لله سبحانه وتعالى متقيًا الله، ولهذا قال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ} والتقوى: اتخاذ وقاية من عذاب الله
بفعل الأوامر واجتناب النواهي؛ لأنك إذا فعلت الأوامر وتركت النواهي فقد أخذت بالوقاية من عذاب الله تعالى.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (لعلَّ) هنا: للتعليل أي: لأجل أن تنالوا شكر الله، فالتقوى في الحقيقة هي الشكر لله عز وجل أي من أجل أن تنالوا درجة الشاكرين. وشكر النعمة يكون بالقلب واللسان والجوارح:
أما شكر القلب: فبأن تعتقد أن هذه النعم من الله فضلًا منه ومنة، وأنه ليس لك منها إلا فعل السبب الذي أذن لك فيه، وأما حقيقتها فهي من الله، تؤمن بذلك ولا تكون كما قال القائل:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] بل قل: أوتيته بفضل الله ورحمته حتى وإن كان من عملك، أما إن كان من فعل الله فهو واضح بأن كل إنسان ينسبه إلى الله، ومع ذلك من الناس من لا ينسب ما كان من فعل الله إلى الله، إذا حصل المطر يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، ولهذا قال زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية على إثر سماء كانت من الليل أي على إثر مطر، فلما انصرف أقبل إلينا فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"
(1)
. إذن
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، رقم (846). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مُطرنا بالنوء، رقم (71).
لابد أن تعتقد في قلبك أن النعمة من الله تعالى، وأن ما يحصل منك في جلب هذه النعمة إنما هو سبب مأذون فيه من الله عز وجل.
وأما شكر اللسان: فهو أن تثني بها على الله لا أن تقولها فخرًا على عباد الله، بل تثني فتقول: الحمد لله الذي أعطاني كذا وكذا؛ لقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
وأما شكر الجوارح: فهو أن تعمل بجوارحك بطاعة الله ولاسيما فيما يتعلق بهذه النعمة بخصوصها، فليس من الشكر إذا رزقك الله مالًا أن تشتري به محرَّمًا من المحرمات؛ لأن هذا استعانة بنعمة الله على معصية الله، وليس من الشكر، بل الشكر أن تجعل النعمة معينة لك على طاعة الله عز وجل، وقد قال أحد الشعراء:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
يدي: الجوارح، ولساني: القول بالثناء على الله بالنعمة، والضمير المحجبا: الاعتقاد.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
امتنان الله سبحانه وتعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرهم في بدر، والنصر لهم نصر للأمة إلى يوم القيامة.
2 -
أن الإنسان بغير نصر الله لا يستطيع أن ينتصر؛ لأنه إذا كان جند الله الذين هم أعظم جند كان على وجه الأرض وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه لم ينتصروا بأنفسهم وإنما انتصروا بنصر الله؛ فمن سواهم من باب أولى، ويتفرع على هذه الفائدة: أننا لا نعلق النصر إلا بالله سبحانه وتعالى، لا نعلق النصر بقوتنا
ولا بقوة مساندة لنا، وإنما نعلق النصر بالله وحده، ونجعل هذه الأشياء المادية التي يكون بها النصر نجعلها أسبابًا قد تتخلف عنها مسبباتها؛ لأن النصر يكون من عند الله وحده.
3 -
أنه كلما كان الإنسان أذل لله كان أقرب إلى نصر الله، وكلما كان الإنسان مستغنيًا عن الله كان أبعد عن النصر؛ لقوله:{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} والإنسان إذا رأى من نفسه العزة وعلا وشمخ فإنه يخذل، قال الله تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].
4 -
أن النصر لا يكون بكثرة العَدَد ولا بقوة العُدَد بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، لكن كثرة العَدَد وقوة العُدَد مما أمرنا الله به وجعله سببًا للنصر كما قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} يعني من ورائهم {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ولهذا يجب على ولاة الأمة الإسلامية أن يعدوا أعظم سلاح يفتك بالأعداء من أجل إذا احتاجوا إليه يستطيعون مهاجمة العدو أو المدافعة إذا اعتدى عليهم أحد، وأما الأسلحة التقليدية التي تعتبر في وقتنا الحاضر مثل الحمير بالنسبة للخيل في الوقت السابق فهذه لا تكفي إلا إذا كان الإنسان لا يستطيع فإنه معذور، لكن إذا كان يستطيع فالواجب أن يجهز نفسه بكل ما يستطيع من قوة؛ لأن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر ويريدون أن يقضوا عليه بكل وسيلة، فإذا لم يكن عندنا سلاح نكبتهم به ونخزيهم به ونذلهم به فإننا لم نقم بما أوجب الله علينا:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
5 -
أن مَنْ مَنَّ الله عليه بنعمة كان ذلك موجبًا لتقوى الله، فالنصر سبب للتقوى والذل لله والخضوع له والانطراح بين يديه، كما فعل النبي عليه السلام حين فتح مكة دخل مطأطأ الرأس يتلو كتاب الله عز وجل، خلافا لما يفعله الناس اليوم أو بعض الناس إذا انتصر جعل هذا النصر سببًا للأشر والبطر والملاهي والأغاني وغير ذلك من المعاصي، بل قد يكون بعد النصر أكثر منه فسوقًا مما قبل الحرب، وهذا خلاف ما أمر الله به؛ لأنه قال:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ} فأمر بالتقوى بعد النصر لئلا يشمخ الإنسان بأنفه ويتطاول على ربِّه بانتصاره فيعود إلى ما كان عليه من الفرح والبطر والأشر.
6 -
أن تقوى الله تعالى من الشكر لله؛ لقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وهذا أمر لا شك فيه أن التقوى من الشكر بل هي الشكر حقيقة؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والشكر هو القيام بطاعة المنعم بالقلب واللسان والجوارح.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124، 125]:
قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الخطابات التي تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم. فالخطابات الموجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به.
والثاني: ما دلَّ الدليل على أنه عام للأمة.
والثالث: ما لم يدل الدليل لا على هذا ولا هذا.
الأول: ما دلَّ الدليل على أنه خاص به فهو خاص به مثل هذه الآية: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] هذا خاص. {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] هذا خاص. {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] هذا أيضًا خاص وإن كانت الأمة يجب عليها التبليغ من جهة أخرى.
الثاني: ما دلَّ الدليل فيه على العموم كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] هذا واضح أنه عام؛ لأنه قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} فوجَّه الخطاب أولًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم عمَّم في الحكم فقال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} .
الثالث: ما لم يدل الدليل على هذا ولا هذا فهو عام بلا شك، حكمه عام، ولكن هل الخطاب عام من حيث اللفظ أو لا؟ الذي يظهر أنه عام حتى من حيث اللفظ، وذلك لأن الخطاب للإمام خطاب لمن تبعه، ولهذا لو قال الوزير مثلًا للقائد: اذهب إلى الجهة الفلانية كان ذلك الخطاب له ولمن كان تحت إمرته، كذلك الخطاب إذا وجِّه للرسول عليه الصلاة والسلام ولم يدل الدليل على أنه خاص به فهو شامل له وللأمة جميعًا، وقال بعض العلماء: إنه لا يشمل الأمة، وأن الخطاب له وحده ولكن على الأمة الاتباع، والمتأمل يجد أن الخلاف قريب من اللفظي؛ لأننا متفقون على أن الحكم عام لكن هل الأمة تدخل في ضمن هذا
الخطاب أو تدخل بخطاب آخر لأنها مأمورة بالاتباع؟ .
وقوله: {إِذْ} هذه ظرف، والقاعدة في اللغة العربية أن الظرف والجار والمجرور لابد له من متعلق، وذلك لأن الظرف والجار والمجرور يقعان موقع المفعول به، وما كان واقعًا موقع المفعول به فلابد له من عامل يكون واقعًا عليه. قيل: إن متعلقها قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] نصركم إذ تقول للمؤمنين، ولكن هذا قول ضعيف، والقول الثاني أنها بدل من قوله:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] والتقدير: إذ غدوت إذ تقول للمؤمنين، وهذا أقرب، ثم إن قوله:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الخطاب الخاص به الذي لا يتعدى إلى الأمة.
وقوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} المراد بهم الصحابة رضي الله عنهم ووصفهم بالإيمان دون الصحبة لأنه -أعني الوصف بالإيمان- هو مناط النصر في كل وقت حتى فيما بعد الصحابة، فإن الله ينصر الذين آمنوا.
{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} هذه مقول القول، أي إذ تقول لهم هذا الكلام.
{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} قال أهل العلم: إن الصحابة رضي الله عنهم بلغهم أن المشركين صار بعضهم يُمِد بعضًا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} أي يكون كافيًا لكم هذا الأمر: {أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} ، الملائكة هم عالم الغيب خلقهم الله تعالى من نور، ووجَّه لهم عبادات وأعمالًا
يقومون بها لا يعصون الله فيها ويفعلون ما يؤمرون، فليس عندهم استكبار تكون به المعصية، وليس عندهم عجز يكون به تخلف الفعل، بل هم سامعون مطيعون قادرون على تنفيذ أمر الله بخلاف البشر، فإنه يكون عندهم استكبار فيعصون الله، ويكون عندهم عجز فلا يقدرون على تنفيذ أمر الله، أما الملائكة فعندهم قوة لا يعجزون عن امتثال أمر الله، وعندهم انقياد تام فلا يعصون الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} منزلين من السماء؛ لأن الأصل أن مكان الملائكة السماء، ولكن هناك ملائكة يكونون مع الإنسان كالكرام الكاتبين والحفظة الذين يتعاقبون على الإنسان ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. وقوله:(منزلين) بالتخفيف تكون من أنزل، وعلى قراءة التشديد تكون من نزل، والمعنى واحد، والذي ينزلهم هو الله سبحانه وتعالى لأنهم ينزلون بأمره.
وقوله تعالى: {بَلَى} هذه للإثبات أو التقرير للاستفهام {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} بلى يعني يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، يقول: بلى يعني يكفيكم هذا الإمداد لكن بشرط أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا، يمددكم ربكم بأكثر مما قلتَ لهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ألن يكفيكم أن يمدكم بثلاثة لكن إن صبرتم واتقيتم أمدكم الله بأكثر، ولهذا قال:{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ} فهاهنا شيء: ثلاثة آلاف من الملائكة وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وخمسة آلاف من الملائكة زائد على الثلاثة تكفل الله به ولكن بشرط الصبر والتقوى.
وقوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أي: يأتوكم من الجهة التي
جاءوكم منها في وقت مبادر؛ لأن الفور معناه المبادرة بالشيء، فالمعنى أنهم إذا باغتوكم وأتوكم من فورهم، فإنه يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فالشروط إذن ثلاثة: الصبر، والتقوى، وأن يأتوهم من فورهم هذا؛ فإن الله يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة ليسوا منزلين فقط بل مسومين أي معلمين عَلَم الجهاد وعَلَم القتال، وهذا أبلغ من مجرد الإنزال، فالله تعالى تكفل بالزيادة وهذا يعود إلى الكمية، وتكفل بالقوة والشجاعة وهذا يعود إلى الكيفية.
وقوله: {مُسَوِّمِينَ} أي: معلمين بعلامات القتال؛ لأن العادة أن الشجعان يجعلون لهم علامات فوق لأمة الحرب حتى يعرف بها الشجاع من غيره، وهذه الآية أو هذا الإمداد اختلف أهل العلم هل كان هذا في بدر أو في أُحد؟ فإن كان في بدر ففيه إشكال حيث إن الله تعالى ذكر أن الله أمدهم في بدر بألف من الملائكة فقال:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] وهنا قال: ثلاثة آلاف وخمسة آلاف لكن جمعوا بينهما بأنه لا مانع أن الله استجاب لهم فأمدهم بألف من الملائكة ثم زيد فيها إلى ثلاثة آلاف، ثم زيد فيها إلى خمسة آلاف إذا تمّت الشروط، وبناء على هذا القول يكون قوله:{إِذْ تَقُولُ} متعلق (بنصر).
والقول الثاني: أن هذه الآية في أُحد وليست في بدر؛ لأن الذي في بدر كان الأمر فيها غير مشروط: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وفي هذه مشروط ولم يحصل الشرط فلم يحصل المشروط، أي أن
المسلمين في غزوة أُحد لم يحصل منهم الشرط الذي شرطه الله وهو التقوى والصبر، وذلك لأنهم حصل منهم تنازع وفشل ومعصية، فلم يكونوا على الحال التي يستحقون بها ما شرط الله لهم، وهذا القول أصح وأقرب أن يكون المراد بذلك غزوة أُحد، وأنه لم يحصل الإمداد؛ لأن الإمداد كان مشروطًا بشرط ولم يتحقق، وعلى هذا فلا يبقى إشكال بين الآيتين؛ لأن كل آية نزلت في غزوة، ثم إنه يجب أن نعلم أن الذي وعدهم به الرسول صلى الله عليه وسلم غير الذي وعدهم الله به، فليس الكلام من متكلم واحد بل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الله تعالى، فالرسول قال:{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} والله قال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} .
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} :
1 -
ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة أصحابه من إدخال الأمل في قلوبهم عند اشتداد الأزمات، وهذه هي الطريقة السليمة، لأنك إذا أدخلت الأمل على الناس نشطوا ونسوا ما هم فيه من الهم والغم، أما بعض الناس فيكون على العكس تجده يدخل على الناس التشاؤم والمروعات والمخيفات، كلما قلنا انتهت هذه المروعات جاءنا بما هو أشد ترويعًا، هذا لا شك أنه خلاف السياسة الشرعية بل وخلاف العقل، نعم الشيء الذي تدعو الضرورة إليه مما يروع هذا لابد منه، أما الذي لا تدعو الحاجة إليه ولا الضرورة فافتح للناس باب الأمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم -
قال لهم لما خافوا من إمداد المشركين بعضهم بعضًا: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} ولما أُخبر بأن بني قريظة نكثوا العهد في عام الأحزاب أرسل إليهم من يقص الخبر وقال للرسول: إذا أتيتم فالحنوا لي لحنًا يعني أخبروني بهذا إشارة، وهي تسمى عندنا الآن الشفرة شفرة خاصة أخبرهم بها؛ لأنهم إذا جاؤوا ووجدوا أن اليهود قد نقضوا العهد ثم أخبر الرسول أمام الناس يلحقهم الرعب والخوف، فقال: الحنوا لي لحنًا، فلما رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخبروه أن بني قريظة نقضوا العهد ولكن ليس باللفظ الصريح بل باللحن الذي أرشدهم إليه قال: أبشروا أبشروا. أما بعض القادة في الوقت الحاضر فالمتوقع أن يقول: والله هذه مصيبة، جاءنا عدو جديد، ثم ملأت القلوب رعبًا، لكن الرسول عليه السلام قال: أبشروا.
ولما كانوا يحفرون الخندق واعترضتهم صخرة شديدة عجزوا عنها جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فجاء ونزل في الخندق وأخذ المعول فضربها ضربةً انقدح منها شعاع، قال في الأولى أضاءت منه قصور كسرى أو قيصر، وفي الثانية قصور كسرى أو قيصر، وفي الثالثة قصور اليمن "صنعاء" فقال: أبشروا، مع أن الله تعالى قال عنهم في ذلك الحال:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] ولهذا ينبغي لنا أن ندخل على الناس باب الأمل الذي ينشطهم ويدخل عليهم السرور وينسيهم الهموم، لا أن ندخل عليهم باب المروعات والمقدرات حتى إن الإنسان تيبس أمعاؤه على بطنه، فليس هذا بصحيح، بل أدخل الأمل وما
أراد الله سوف يكون، ولكن مع ذلك أنا أقول: إنما يكون إدخال الأمل حينما يتعلق القلب بالله عز وجل وتنقطع الحيل إلا من عند الله عز وجل.
2 -
إثبات الربوبية الخاصة؛ لقوله: {أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} والربوبية نوعان: عامة، وخاصة، ففي قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذه عامة، وفي قوله:{أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} هنا خاصة، وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى عن سحرة فرعون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122] الأولى عامة والثانية خاصة.
والربوبية الخاصة في قوله: {أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} تقتضي -مع المعنى العام وهو التدبير والملك- التثبيتَ والإعانةَ والكفَّ عن الشرور وما أشبه ذلك لأنها خاصة.
3 -
أن الملائكة أجسام يحصون بالعدد؛ لقوله: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} .
4 -
أن موطن الملائكة هو السماء، هذا هو الأصل؛ لقوله {مُنْزَلِينَ} لأن النزول إنما يكون من أعلى إلى أسفل، فإذا كان هؤلاء الملائكة منزلين دلَّ على أن مكانهم في السماء، هذا هو الأصل لكن ينزلون الأرض كثيرًا حسب أمر الله تعالى.
5 -
أن الملائكة لم تقاتل بلا شك، ولكن هل أمدوا؟ ذكرنا أن المسألة فيها قولان للعلماء:
الأول: إن كان في بدر فقد أمدوا.
والثاني: إن كان في أُحد فإنهم لم يمدوا؛ لأن ذلك شرط بالصبر والتقوى.
ومن فوائد قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} :
1 -
أن الصبر والتقوى سببان للنصر؛ لقوله: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} أي تصبروا على الأوامر وتتقوا المحارم.
2 -
أن الله تعالى زادهم على ما بشّرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام ألفين إذا صبروا واتقوا.
3 -
أن هؤلاء الملائكة الذين يمدون بهم لو صبروا واتقوا مُسَوِّمِين أو مُسَوَّمين على قراءتين، فمُسَوَّمين قد جعل فيها علامة تختص بهم كما سبق. ومُسَوِّمين أي هم جعلوا علامة على ما جعل لهم من الخيول على حسب ما جاءت به الروايات.
4 -
أن من نعمة الله على العبد أن يكون الذي يتولاه الملائكة؛ لأن الملائكة تثبت على الخير بخلاف الشياطين فإنها تثبت على الشر، ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا امتنعت الملائكة عن بيت فإنه نوع من العقوبة كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة"
(1)
.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]:
{جَعَلَهُ} قيل في الضمير: إنه يعود إلى الإمداد أو إلى
(1)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصورة، رقم (5957). ورواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، رقم (2106).
الوعد به بالشروط الثلاثة، وقيل: إنه يعود إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 124] يعني أن الله لم يجعل قول الرسول صلى الله عليه وسلم بشرى لكم، و"البشرى" هي الخبر بما يسرّ، وهذه ولا شك بشرى إذ إن المقاتل إذا علم أن الله سبحانه وتعالى سيمده بالملائكة فإنه سوف ينشط ويقوى ويؤمل النصر بخلاف ما إذا كان لم يحصل له هذا الشيء.
وقوله: {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ} "بشرى" مفعول ثانٍ لـ"جعل"، إذا كان "جعل" بمعنى صيّر، وإذا كان (جعل) ليست بمعنى صيّر فتكون مفعولًا لأجله، ولا تصلح أن تكون منصوبة على الاستثناء؛ لأن الأداة هنا للحصر؛ لأن العامل لم يستكمل معموله.
وقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} الاطمئنان معناه الاستقرار وعدم القلق، ولا شك أن طمأنينة القلب فيها راحة للنفس وفيها فتح للتفاؤل والأمل، وفيها ثبات على الأمر بخلاف الإنسان الذي لم يطمئن قلبه فتجده دائمًا في قلق وضيق، أما إذا اطمأن قلبه فإن ذلك مما يعينه على التحمل والثبات والصبر، ولهذا قال:{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وفي آية الأنفال يختلف السياق هناك قال: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10] وحذف قوله: "لكم" وقدم الجار والمجرور على الفاعل {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أما هنا {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وهذا مما يؤيد أن الآيتين ليستا في غزوة بدر، بل آية الأنفال في غزوة بدر وهذه في غزوة أحد، ولم يحصل الإمداد لما عرفتم من تخلف الشرط.
ثم قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} حتى
وإن أُمددتم بالملائكة، ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف فليس النصر بهم، ولكن النصر من عند الله وهو الذي يهيئ أسباب النصر فلا تعتمد على غير الله تعالى مما جعله الله سببًا في النصر.
وقوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :
العزيز يعني ذي العزة، وعزة الله تعالى ثلاثة أنواع: عزة قدر، وعزة قهر، وعزة امتناع، عزة القدر يعني الشرف والسيادة والفضل مثل أن نقول: هذا الشيء عزيز وجوده يعني أنه منفرد في الصفات الكاملة عن غيره، وعزة القهر يعني الغلبة، يعني أنه غالب، ومنه قوله تعالى:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أي: غلبني فيه، فالله سبحانه وتعالى له الغلبة كما قال تعالى {يَقُولُونَ -يعني المنافقون- لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فسلَّم الله لهم ذلك أن الأعز يخرج الأذل ولكن لمن العزة؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] إذن عزة القهر يعني الغلبة أنه غالب، غالب لكل شيء، ومن الشعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
الثالث: عزة الامتناع: يعني أنه يمتنع أن يناله السوء سبحانه وتعالى أو النقص، وهو مأخوذٌ من قولهم: أرض عزاز يعني صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول.
وأما قوله: {الْحَكِيمُ} فمأخوذٌ من الحُكْم ومن الإحكام، والحكم: القضاء، والإحكام يعني الاتقان، وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
حكم كوني: لا يتخلف المحكوم فيه.
وحكم شرعي: قد يتخلف.
فالحكم الكوني لا يتخلف أبدًا، ومنه قوله تعالى:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80] يعني حكمًا كونيًا.
وأما الحكم الشرعي فمثل قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] ومنه قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
ثم إن في كل منهما حِكْمة، يعني ما من حكم شرعي أو كوني إلا وهو مقترن بالحكمة لأنا قلنا مأخوذ من الحكم والإحكام.
ثم إن الحكمة قد يكون المراد بها أن وقوع الشيء على هذا الوجه حِكمة، والغاية منه حكمة أيضًا، فتكون الحكمة في صورة الشيء، والحكمة الثانية في الغاية منه.
فكون الصلوات على هذا الوجه هذا حكمة تتعلق بصورة العمل، والغاية منها حكمة تتعلق بالمراد من هذا العمل.
وربط العزة بالحكمة يفيد معنًى ثالثًا غير المعنى المستفاد من العزة على انفراد أو الحكمة على انفراد، وذلك لأن العزيز قد تغلبه العزة حتى يتصرف تصرف الطيش والسفه كما قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] لكن عزة الله تبارك وتعالى لا تخرج عن الحكمة مع أن له العزة المطلقة، فإن هذه العزة لا تخرج عن الحكمة، وكل شيء يفعله سبحانه وتعالى إنما يفعله على وجه الحكمة جل وعلا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن هذا الوعد بشرى من الله أو من الرسول عليه الصلاة والسلام على خلاف بين العلماء، والخلاف في هذا يسير الخطب سواء كان {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: قول الرسول أو {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي قول الله لهم: {إِلَّا بُشْرَى} .
2 -
أن إمداد الشخص بما يعينه سببٌ لسروره وبشارته؛ لقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} .
3 -
أنه مهما عظمت الأسباب إذا لم يؤيد الله الإنسان بنصر فإنه لن ينتصر؛ لقوله بعد ذكر هذا الإمداد {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
4 -
يجب على المرء مع فعل السبب أن يعتمد على ربه، وأن يؤمل النصر منه سبحانه وتعالى.
5 -
أن النصر من مقتضى اسمه العزيز الحكيم.
6 -
أن الله لن ينصر إلا من اقتضت الحكمة نصره؛ لقوله: {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ولا يرد على هذا أن الله سبحانه وتعالى جعل للمشركين نصرًا في غزوة أحد؛ لأننا نقول: إن هذا النصر فيه فائدة أو فوائد عظيمة للمسلمين فهو حكمة. انتصار المشركين في أُحد لا شك أنه حكمة تترتب عليه فوائد عظيمة تذكر إن شاء الله في الآيات التالية:
* * *
• قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران: 127]:
اللام هنا للتعليل، والفاعل في قوله:{لِيَقْطَعَ} يعود إلى الله
سبحانه وتعالى، والمراد بالقطع هنا الإهلاك أي ليهلك طرفًا، اللام هذه إما متعلقة بقوله:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] ولكن هذا ضعيف؛ لأنه بعيد، يعني أنه جاءت آيات كثيرة تفصل بين العامل والمعمول، وهذا لا نظير له، وإما أن يكون متعلقًا بمحذوف تقديره: فعل ذلك ليقطع طرفًا، وهذا القول أصح، فتكون اللام متعلقة بفعل محذوف يقدر على وجه مناسب.
وقوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ليهلكهم، ولكن هل هذا فيما إذا انتصروا على المسلمين أو فيما إذا انتصر المسلمون عليهم أو على الوجهين جميعًا؟ الصواب أنه على الوجهين جميعًا؛ لأنه إن انتصر المسلمون وهزموهم فقد هلك طرف منهم، وإن انتصروا هم على المسلمين فإنهم سوف يلحقهم الغرور ونشوة النصر ثم يعيدون الكرة مرة ثانية، وحينئذٍ يقضى عليهم، فيكون الوجهان حاصلين سواء غَلبوا أو غُلِبوا.
وقوله: {طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الطرف: طرف الشيء هو منتهاه من أسفل أو من أعلى، والمراد الطرف الذي يلي المسلمين؛ وذلك لأن المسلمين مطالبون بقتال من يليهم من الكفار حتى يفتحوا بلاد الكفار بلدًا بلدًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] فهذا كما أنه سنة الله الشرعية فهو أيضًا موافق للفطرة؛ لأنه ليس من الحكمة أن تذهب إلى البعيد تقاتله وتترك القريب، إذ إن القريب في هذه الحال ربما يكون كمينًا يعني يحول بينك وبين رجوعك إلى بلدك.
وقوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يعني يخذلهم ويذلهم وإن لم يحصل فيهم قتل.
{فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} : ينقلبوا إلى بلادهم خائبين أي لم يحوزوا خيرًا، وذلك كما حصل في غزوة الأحزاب فإنهم في غزوة الأحزاب رجعوا خائبين بدون قتال كما قال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، فقد ردَّهم الله بالريح والجنود التي لم نرها.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إثبات الحكمة لله عز وجل فى أفعاله وتشريعاته، وذلك لأن اللام للتعليل، والتعليل هو الحكمة.
2 -
أن الله سبحانه وتعالى يسلط المؤمنين على الكفار ليقطع طرفًا من الذين كفروا، وليس كل الذين كفروا؛ لأن من حكمة الله أن يبقى الإيمان والكفر متصارعين دائمًا حتى يتبين المؤمن الخالص من غيره.
3 -
أن مآل الكفار واحد من هذه الأمور: إهلاكهم أو خذلانهم، لقوله:{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} والكبت هو الإذلال، والخذلان هو الخيبة، لقوله:{فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} مثل قصة الأحزاب فإن الله سبحانه وتعالى ردهم على أعقابهم خائبين.
* * *
• ثم قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]:
{لَيْسَ لَكَ} قال بعض العلماء: إن المعنى ليس إليك من الأمر شيء مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي
لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193] يعني ينادي إلى الإيمان، ولكن الظاهر أن اللام على بابها وليست بمعنى (إلى) والمعنى: أنك لا تملك شيئًا، وليس المعنى أنه لا يرد إليك شيء، بل المعنى أنك لا تملك شيئًا، فاللام على ما هي عليه. والخطاب في قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {مِنَ الْأَمْرِ} يعني الأمر الكوني، أما الأمر الشرعي فإن الرسول عليه الصلاة والسلام له منه شيء؛ لقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] أما الأمر الكوني فلا.
واختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية، ففي بعض الروايات أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قوم من الكفار مثل أبي سفيان وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية والحارث بن هاشم، هؤلاء الأربعة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو عليهم، يلعنهم إذا صلى الفجر في الركعة الأخيرة، يدعو عليهم: اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا بأسمائهم، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
(1)
فالأمر إلى الله. وفي رواية أخرى صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شجوا وجهه في أُحد جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: "كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم وهو يدعوهم إلى الله" فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
(2)
. والقاعدة في أسباب النزول أنه إذا
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
…
}، رقم (7346).
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم. ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم (1791).
لم يكن الترجيح فلا مانع من أن يتعدد السبب، فيكون لنزول الآية سببان، الأول: إنكاره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء القوم وقوله: "كيف يفلح؟ " استبعاده فلاحهم، والثاني: لعنه هؤلاء الأربعة، ولا محظور في ذلك فإن الآية قد يكون لنزولها سببان.
وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قيل: إنها معطوفة على يقطع، وقيل:(أو) بمعنى إلى أن يتوب عليهم، فعلى القول الأول لا إشكال في الآية، ويكون الله عز وجل ذكر في عاقبة هؤلاء الكفار أربعة أمور:
1 -
يقطع طرفًا من الذين كفروا.
2 -
أو يكبتهم.
3 -
أو يتوب عليهم.
4 -
أو يعذبهم.
وهذا الوجه كما ترون وجه حسن ليس فيه إلا الجملة المعترضة في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وهذا لا يضر، ففي القرآن جمل معترضة بين أشياء متقاربة في المعنى، بل فيه آيات، فمثل قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ذكرت هذه في أثناء آيات العدد ولا يظهر للإنسان وجه مناسبة، لكن الله عز وجل أعلم منا، كذلك أيضًا هنا نقول: لا يضر أن توجد جملة معترضة مع أننا سنبين إن شاء الله المناسبة فيها.
أما القول الثاني الذي يقول إن {أَوْ} بمعنى (إلى) فيقولون: إن في الآية حذفًا والتقدير: "ليس لك من الأمر شيء فاصبر أو يتوب الله عليهم" فيقدرون فعلًا هو (اصبر) يعني لا تدعُ عليهم
اصبر أو يتوب عليهم، وتعلمون أن (أو) تأتي بمعنى (إلى) وتأتي بمعنى (إلا أن)، فإذا قال القائل: لأقتلن الكافر أو يسلم فهي بمعنى (إلا أن) ولا يصلح أن نقول بمعنى (إلى أن)، وإذا قال: لألزمن الغريم أو يقضيني ديني، فهي بمعنى (إلى أن).
وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} :
أي: على الكافرين، وتوبة الله على الكافر أن يهديه للإسلام، وتوبته على الفاسق أن يرده عن الفسق إلى الطاعة، وتوبة الله على العبد قسمان: توبة سابقة، وتوبة لاحقة، وتوبة العبد متوسطة بينهما، وهذا مذكور في سورة التوبة، قال الله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 117، 118] تاب عليهم ليتوبوا، هذه التوبة السابقة، والتوبة السابقة معناها التوفيق للتوبة، والتوبة اللاحقة معناها قبول التوبة، وتوبة العبد تكون بينهما.
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي ييسرهم للإسلام من الكفر.
وموقع هذه الجملة مما قبلها أنها تعليل لها يعني أنهم يستحقون أحد هذه الأمور؛ لأنهم ظالمون إلا التوبة، فإن الله إذا تاب عليهم زال وصفهم بالظلم، والأربعة الذين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو عليهم كلهم تاب الله عليهم فأسلموا، وفي هذا إشارة كما سبق إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يدعو على
شخص مهما بلغ في الكفر والطغيان باللعنة، بل لا يجوز أن يدعو عليه باللعنة؛ لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولا يحل لك أن تتحجر رحمة الله، فقد يمنُّ الله على هذا الكافر المجرم فيتوب، كما أنه سبحانه وتعالى قد يمن على الفاسق الذي لم يصل إلى حد الكفر فيستقيم وتصلح حاله.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئًا من الأمر الكوني. وفي هذه الجملة ردٌّ على الذين يتعلقون بالرسول عليه الصلاة والسلام في الدعاء والاستعانة به والاستغاثة به حتى بعد موته، فتجدهم عند قبره الشريف يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام صراحة، بل إنهم عند الدعاء ولو كانوا بعيدين يتجهون إلى القبر لا إلى القبلة، وهذا من سفههم.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف يأمره الله سبحانه وتعالى وينهاه، وعليه فيكون في هذا إبطال لدعوى من يقولون: إن الإنسان إذا وصل إلى حالة معينة من العبودية سقطت عنه التكاليف، وهذا قول طائفة من الصوفية الذين يقولون: إن الإنسان يترقى في اليقين حتى إذا وصل إلى الدرجة العليا سقط عنه التكليف، وصار كل شيء حرامٍ حلالًا له، وكل شيء واجب ليس بواجب عليه، فلا يوجبون عليه الصلاة، ولا يحرمون عليه الزنى ولا شرب الخمر؛ فيقال لهم: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو أشرف الخلق لا يصل إلى هذه المرتبة فما بالك بمن دونه؟ ! .
3 -
أن الله سبحانه وتعالى قد يتوب على أعتى الناس وأشدهم كفرًا لعموم قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} .
4 -
أن الله سبحانه قد يعذب الكافرين عذابًا ليس للمسلمين فيه يد، بل هو من عند الله وحده؛ لقوله:{أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} .
5 -
أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا بذنب؛ لقوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} والظالم مستحق لأن ينكل الله به؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحب الظلم، بل إنه قال في الحديث القدسي:"إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"
(1)
.
* * *
• قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 129]:
لما ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء فمن دونه من الخلق من باب أولى، بيَّن لمن يكون له الأمر فقال:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، واللام هنا للاستحقاق والاختصاص والملك، يعني لله ملكًا واستحقاقًا واختصاصًا، والخبر "الجار والمجرور" مقدم على المبتدأ لإفادة الحصر، يعني لله لا لغيره.
وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (ما) اسم موصول يشمل كل ما في السموات وما في الأرض من إنس وجن وحيوان وجماد وغير ذلك، وعبر بـ (ما) إما لأن غير العاقل أكثر من العاقل فصار هذا من باب التغليب، وإما لأن المقصود الأعيان والأوصاف، وإذا كان المقصود الأعيان والأوصاف يؤتى بـ (ما)
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 153).
لا بـ (مَنْ) ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ولم يقل (مَنْ) لأنه ليس المقصود العين، وإنما المقصود الوصف يعني الذي يطيب لكم وتركنون إليه. على كل حال سواء كانت (ما) من باب التغليب أو المقصود به الأعيان والأوصاف فإنها تدل على العموم، وأن جميع ما في السموات والأرض لله.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} هذه جمع قد صرح الله سبحانه في القرآن بأن السموات سبع كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] أما الأرض فليس في القرآن نصٌّ على أنها سبع، وإنما فيه ظاهر، يعني ما يدل ظاهرًا على أن الأرضين سبع، ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فإن المثلية هنا لا يمكن أن تكون مثلية الجنس والنوع والصفة؛ لأن الأرض مختلفة عن السماء اختلافًا ظاهرًا؛ فتعيَّن أن يكون مراد المثلية بالعدد.
وقد جاءت السنة مصرحة بأن عدد الأرضين سبع ولكن هذه الأرضين السبع هل هي متجاورة أو متطابقة كالسموات؟
ظَنَّ بعض العلماء أنها متجاورة، وأن المراد بها القارات العسبع، ولكن هذا ليس بصحيح، والصحيح أنها متطابقة أي بعضها فوق بعض، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين"
(1)
، فإن هذا يدل على أنها متطابقة إذ لو لم تكن كذلك لم يعذب هذا الذي
(1)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610).
اقتطع شبرًا من الأرض إلا بأرض واحدة فقط، ثم هل هي متلاصقة أو متباينة؟ قال بعض العلماء: إنها متلاصقة.
وقال آخرون: بل هي متباينة أي بين كل أرض والأخرى فاصل هواء، والله أعلم بذلك، وربما نطلع عن طريق العلم الحديث على الراجح من هذين القولين.
وقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (يغفر) مضارع من المغفرة، والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يوضع على الرأس عند القتال، فإنه ساتر للرأس وواقٍ له، والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه.
وقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} هذه الآية مقيدة بالحكمة أي من اقتضت حكمته أن يغفر له غفر له، هذا واحد، والثاني مقيدة بما عدا الشرك، فإن الله يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] لكن المشرك لو أسلم لغفر الله له لقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وقوله: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} يعني ممن يستحق التعذيب. وقوله: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} لا يستثنى منها المشرك؛ لأن المشرك قد أعلمنا الله أنه لا يشاء أن يغفر له فلا يكون داخلًا في المشيئة بل هو يعذب المشرك قطعًا؛ لأن وعده لا يخلف سبحانه وتعالى، فالمشرك لابد أن يعذب:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] لكن لو تاب فإن الله يغفر له ويتوب عليه.
ثم قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
خَتْمُ الآية بهذين الاسمين الكريمين مناسب جدًا؛ لقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} فلكونه غفورًا صار يغفر لمن يشاء، والغفور اسم من أسماء الله المتعدية إذ لا يتم الإيمان به إلا بثلاثة أمور:
1 -
الإيمان بأنه اسم من أسماء الله.
2 -
الإيمان بما تضمَّنه من صفة.
3 -
الحكم المترتب على هذه الصفة وهو أنه يغفر.
فنستفيد إذن من هذه الآية إثبات الاسم (الغفور) وإثبات الصفة (المغفرة) وإثبات الحكم المترتب على هذا أنه يغفر بهذه المغفرة.
و(الرحيم) أيضًا اسم من أسماء الله، والرحيم معناه ذو الرحمة المقتضية للإحسان والإنعام، فالإحسان والإنعام من مقتضى الرحمة وليس هو الرحمة، وقد فسَّر من ينكرون الرحمة بأنها الإحسان أو إرادة الإحسان، وهؤلاء هم الأشاعرة -عفا الله عنا وعنهم- يقولون: إن الله ليس له رحمة؛ لأن الرحمة رقة ولين وخضوع للأمر الواقع فيقال لهم: هذه رحمة المخلوق؟ أما رحمة الخالق فلا تتضمن نقصًا أبدًا بل هي كمال محض، ثم إن قولكم إنها رقة ولين فنقول: إن الرقة واللين صفة مدح لأنها خير من الغلظة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:"إن رحمتي سبقت غضبي"
(1)
. وقولهم: إنما توجب أن الإنسان يخضع للأمر الواقع وما أشبه ذلك حتى يرحم نقول: هذا بالنسبة لرحمة المخلوق أما رحمة الخالق فليس فيها خضوع إطلاقًا، ثم إنه منقوض عليكم
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم، رقم (7422).
لأنه يوجد ملك من الملوك الذي لا أحد ينابذه فيما يتكلم به ويكون عنده من الرحمة الشيء العظيم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (وما) من صيغ العموم كما هو معروف.
2 -
انفراد الله بذلك لتقديم الخبر، والخبر حقه التأخير، ومن طرق الحصر تقديم ما حقه التأخير.
3 -
إثبات تعدد السموات، وقد بيَّن الله سبحانه في كتابه أنها سبع سموات، وأما الأرض فذكرت بصيغة الإفراد والمراد الجنس فيشمل جميع الأرضين، وقد بينت السنة أنها سبع.
4 -
إثبات المغفرة لله؛ لقوله: {يَغْفِرُ} وإثبات التعذيب لقوله: {وَيُعَذِّبُ} ويتفرع لهاتين الفائدتين إثبات تمام سلطانه في ملكه، وأن الأمر له في التعذيب والمغفرة.
5 -
إثبات المشيئة لقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله: {مَنْ يَشَاءُ} والمشيئة تأتي كثيرًا في القرآن الكريم ولكنها مقرونة بالحكمة أي من اقتضت الحكمة أن المغفرة له، ومن اقتضت الحكمة أن يعذب.
6 -
إثبات الاسمين الكريمين من أسماء الله وهما (الغفور الرحيم) وإثبات ما تضمناه من صفة وهي المغفرة والرحمة.
7 -
إثبات الحكم المترتب على ذلك وهو ما يعرف عند بعض العلماء بالأثر وهو أنه يغفر ويرحم، والقاعدة في أسماء الله أنه إذا كان الاسم متعديًا فإن الإيمان به يتضمن ثلاثة أمور: الإيمان بكونه اسم من أسماء الله، وبما دلَّ عليه من صفة،
وبالحكم الذي يترتب على ذلك، وإذا كان لازمًا غير متعدٍ فإن الإيمان به يتضمن أمرين: الإيمان بأنه اسم من أسماء الله، والإيمان بما دلَّ عليه من الصفة.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]:
تصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب يقظة المخاطب وانتباهه، والخطاب الذي يعتنى به يُسبق بما يفيد الانتباه والاستيقاظ، وتوجيهه إلى المؤمنين يدل على فوائد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أولًا: الإغراء والحث على ما تضمنه الخطاب؛ لأن مناداة هؤلاء باسم الإيمان يدل على أن ذلك من أجل أن يثير هممهم كما تقول للرجل تخاطبه: يا كريم أكرم ضيفك. فإنك إذا قلت: يا كريم فإن هذا من باب الإغراء والحث، يعني من أجل كرمك أكرم. وتقول: يا رجل اترك السفلة، أو يا حليم اترك السفه وما أشبه ذلك، فالمقصود بمثل هذا الإغراء والحث. ويفيد أيضًا أن الالتزام بما دلَّ عليه الخطاب من مقتضيات الإيمان، فمثلًا ترك أكل الربا من مقتضيات الإيمان؛ لأن الخطاب وُجِّه للمؤمنين، ويستفاد أمر ثالث وهو أن المخالفة في هذا منقصة للإيمان وسبب لنقصانه.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تأتي هكذا مطلقة في القرآن الكريم لكن معناها مقيد بما يجب الإيمان به، قال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يتضمن الإيمان بستة أشياء: بالله،
وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. ثم إن المراد بالإيمان ليس مجرد التصديق فقط بل الإقرار المتضمن أو المستلزم للقبول والإذعان، أما مجرد أن يصدق الإنسان بالشيء فإنه ليس بمؤمن، فأبو طالب مثلًا مصدق بأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينفعه لأنه لم يقبل ولم يذعن، فلابد من قبول وإذعان يعني انقيادًا.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} آمنوا بما يجب الإيمان به وهي الأمور الستة التي بيَّنها الرسول عليه الصلاة والسلام: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} لا تأكلوا الربا، الأكل معروف، وخلافه الشرب واللبس والسكنى والانتفاعات الأخرى، لكنه عبر بالأكل لأنه أخص ما يكون في ملابسة الإنسان، فالذي يدخل إلى جوفك ليس كالذي تلبسه ظاهر جسدك، وليس كالبيت الذي تسكنه، فإن أبلغ ما يكون في ملامسة الإنسان هو الأكل، ولهذا نهى عنه، والإنسان عندما لا يكون لديه شيء وهو جائع عارٍ وليس عنده سكن يقدم الأكل فهو أشد ما يكون ضرورة للإنسان، ولهذا قال:{لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} ، والربا في اللغة الزيادة، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] يعني علت ومنه "الرُّبى" جمع رابية للمكان المرتفع من الأرض، والمراد بالربا هنا الربا الشرعي وهو زيادة ونسأ، زيادة ويسمى ربا الفضل، ونسأ ويسمى ربا النسيئة، ويكون الربا في أموال خاصة بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير
بالشعير، والملح بالملح"
(1)
. هذه الأشياء الستة متفق على جريان الربا فيها، فإذا أبدل جنس بمثله لزم فيه شيئان: التساوي، والتقابض في مجلس العقد، وإذا بيع بغير جنسه لزم فيه أمر واحد وهو التقابض في مجلس العقد إلا بين الذهب والفضة وسواهما فإنه لا يشترط التقابض في مجلس العقد.
لكن قد يقول قائل: إن قوله: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"
(2)
يشمل ما إذا باع برًّا بفضة فإن الجنس مختلف، وإذا طبقنا هذا على الحديث قلنا: لابد أن يكون يدًا بيد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد". نقول: نعم هذا هو مقتضى هذا الحديث لكن يخصصه ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف في تمرٍ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"
(3)
. ومعنى يسلفون يعني يقدمون الدراهم -الثمن- ويؤخرون المثمن، يعني يأتي الرجل ويشتري من صاحب البستان تمرًا لمدة سنة أو سنتين بدراهم يعطيه إياها نقدًا، فهنا اشترى تمرًا بدراهم مع تأخر القبض، والسلم جائز بالإجماع، وهذا هو الدليل لتخصيص قول النبي عليه الصلاة والسلام:"فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد".
(1)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، رقم (1587).
(2)
تقدم تخريجه في الحديث السابق.
(3)
رواه أبو داود، أول كتاب الإجارة، باب في السلف، رقم (3463).
أما ما عدا هذه الستة فإن من أهل العلم من قال: ليس فيها ربا، كل شيء سوى هذه الستة لا ربا فيه، ومنهم من قال: إن ما كان بمعناها فله حكمها؛ فالأوراق النقدية المستعملة الآن بدل النقد يكون لها حكم ذلك النقد، فإذا كانت أوراق جعلت عوضًا عن فضة فلها حكم الفضة، لكن إذا اختلف جنسها دخلت في عمومِ قوله:"إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد". كذلك الذرة والأرز ليس من الأصناف الستة لكنهما بمعنى الأصناف الستة، فإنك لا تجد فرقًا بين البر والأرز أو بين الشعير والذرة، كل منهما طعام يقتات، أما الفواكه كالبرتقال والعنب فليس فيها ربا، فيجوز أن تعطيني كيلوين بكيلوين ونصف أو بثلاثة من العنب، يعني كيلوين عنب بكيلوين ونصف عنب لا بأس؛ لأن هذا لا يجري فيه الربا. كذلك سيارة بسيارتين يجوز لأنه ليس من الأصناف الستة، وبعير ببعيرين يجوز لأنها ليست من الأصناف الستة، وطن من حديد بطن ونصف يجوز لأنه ليس من الأصناف الستة، وعلى هذا فقس. فأنت إذا عرفت الأصناف الستة وما كان بمعناها تمامًا فما عدا ذلك فقد قال الله فيه:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. لو باع ثوبًا بثوبين يجوز ولو مع عدم التقابض؛ لأن هذا لا يجري فيه الربا.
وقوله تعالى: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ضعف الشيء مثله بمعنى أنك تكرره مرتين فيكون ضعفًا كالدرهم بدرهمين {مُضَاعَفَةً} يعني مزيدة على الضعف الأول مثلًا كدرهم بدرهمين، وبعد سنة نجعله بثلاثة دراهم، وبعد سنة نجعله بأربعة دراهم، هذا هو فعل الجاهلية، وربا الجاهلية أن يستدين الرجل من الشخص، فإذا حلَّ
الأجل قال: إما أن توفي وإما أن تربي، فإذا أوفى برئت ذمته، وإذا لم يوفِ يربي بمعنى أنه يزيد فيقول مثلًا إذا حلَّ وقدره ألف: إما أن توفيني الألف وإلا فهو عليك إلى السنة القادمة بألفين، فإذا جاءت السنة القادمة ولم يوفِ قال: إما أن توفي وإما أن تربي، فإذا أوفى برئت، ذمته، وإن لم يوفِ قال: نجعله للثالثة لكن يكون بثلاثة آلاف، هذه أضعاف مضاعفة، ولا شك أنها ظلم عظيم لأنه إذا حلَّ الدَّين علي الإنسان وليس عنده شيء فالواجب إنظاره كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] فالممتنع عن الوفاء ليس بآثم مع العجز، والمطالب بالوفاء مع العجز آثم؛ لأن الله أوجب الإنظار.
ولا شك أن هذا ظلم عظيم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يربي إلا لأحد أمرين: إما أنه عاجز، وإما أنه كاسب أكثر مما جعل عليه من الربا، بمعى أنه يقول: أنا لا أوفي؛ لأن مائة ألف أكسب بها في السنة ثلاثمائة ألف ولا يهمني أن يزيد عليَّ مثلًا مائة ألف لأنني سأكسب، أما أن يكون الإنسان قادرًا وليس له فائدة من بقاء الدين في ذمته فإنه لا يمكن أن يفعل.
وقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فيها قراءة (مُضَعَّفَة)، والمعنى واحد، وقوله {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ليس له مفهوم لأنه جاء على وفق العادة الغالبة، وما جاء على وفق العادة الغالبة فإنه لا مفهوم له، هذه قاعدة من قواعد أصول الفقه، أن القيد إذا كان من أجل أنه الأمر الغالب فإنه لا مفهوم له، وله أمثلة منها قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
[النساء: 23] فإن قوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قيد على وفق العادة والغالب، ولهذا تحرم الربيبة وإن لم تكن في حَجْره، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] فإن هذا لا يدل على أن الأمة إذا امتنعت من الزنا لأن الرجل الذي طلب منها أن تزني به لا يعجبها أنه يجوز إكراهها عليه.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : نهى عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة ثم أمر بالتقوى، وهذا من باب التوكيد يعني أن أكلكم مجانب للتقوى، وتقوى الله عز وجل هي اتخاذ وقاية من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وقد قيل في تعريفها:
خلِّ الذنوب صغيرها
…
وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق
…
أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
…
إن الجبال من الحصى
نعم، ولكن ما ذكرناه أعم، وهي أن التقوى أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : (لعلَّ) هنا للتعليل؛ لأن الكلام صادر من الله، والترجي في حق الله مستحيل؛ لأن الترجي طلب ما فيه مشقة، والله سبحانه وتعالى لا يشق عليه شيء، كل شيء عليه هين، فتكون (لعل) للتعليل يعني من أجل أن تفلحوا، والفلاح قال أهل العلم: إنه كلمة جامعة لحصول المطلوب وزوال المكروه، فمن حصل له المكروه فهو ناقص الفلاح، ومن زال عنه المكروه ولكن لم يحصل مطلوبه فهو ناقص الفلاح، ومن لم يحصل مطلوبه ولم ينجُ من مرهوبه فلا فلاح عنده، ومن حصل له المطلوب ونجا من المكروه فهو المفلح، إذن تقوى الله عزّ وجل
من أسباب الفلاح، وكل واحد من الناس ينشد الفلاح، كل واحد يحب أن ينال مطلوبه وأن ينجو من مرهوبه، فأين نجد هذا؟ نجده في تقوى الله عز وجل في القيام بطاعته واجتناب نهيه، وهو أمر يسير على من يسَّره الله عليه، افعل ما أُمرتَ به واترك ما نهيتَ عنه وبذلك يحصل لك الفلاح.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تعظيم شأن الرّبا وخطره، ووجهه أنه صدر الخطاب في شأنه بالنداء.
2 -
أن اجتناب الربا من مقتضيات الإيمان، وأن كل مؤمن صادق الإيمان فلابد أن يتجنب أكل الربا.
3 -
أن أكل الربا منقص للإيمان، وهذا أمر لا شك فيه عند أهل السنة والجماعة؛ لأنه كبيرة من كبائر الذنوب، وفعل الكبائر عند أهل السنة ينقص الإيمان، وعند الخوارج يخرج من الإيمان ويدخل الكفر، وعند المعتزلة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر؛ لأنهم يقولون: إن فاعل الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، فهو خارج من الإيمان غير داخل في الكفر. وعند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، لو يأكل الربا ليلًا ونهارًا فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن نحن نقول: هو مؤمن ناقص الإيمان.
4 -
تحريم أكل الربا؛ لقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} والأصل في النهي التحريم، لاسيما وأنه أكِّد بقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} ويقاس على الأكل بقية الإتلافات بالشرب واللباس وبناء المساكن وما أشبهها. لكن عبّر بالأكل لأنه أخص وجوه الانتفاع وغيره مثله.
5 -
أن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافًا مضاعفة. وهذا فيه نظر، فالصحيح أن هذا القيد لا مفهوم له؛ لأن هذا بناء على الواقع الغالب، وما كان كذلك فإنه لا مفهوم له. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أشرنا إليه أولًا قال:"من زاد أو استزاد فقد أربى"
(1)
أي وقع في الربا مع أنه لم يأكل أضعافًا مضاعفة، وقال في أَخْذِ صاع بصاعين من التمر:"عين الربا، لا تَفْعَل"
(2)
، إذن هذا القيد لا مفهوم له خلافًا لمن قال إنه قيد شرطي، وأن الربا لا يحرم إلا إذا كان في هذه الصورة، وأجازوا الربا إذا كان ليس فيه ظلم وإنما هو استثماري تزداد به أموال الدولة وينشط به الاقتصاد، فإن من العلماء ولاسيما المتأخرون من زعم ذلك ولكنه زعم باطل، الربا محرم بأي نوع من أنواعه سواء كان أضعافًا مضاعفة أو ضعفًا واحدًا أو دون الضعف، من زاد أو استزاد فقد أربى، والصاع بالصاعين وصفهُ النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عين الربا، وليس فيه ظلم، وليس فيه أضعافًا مضاعفة، ومع ذلك سماه ربًا بل عين الربا.
6 -
أنه لا يجوز أن أبيع عليك سلعة توفيني بها بأكثر من ثمنها ويبقى ثمنها في ذمتك، يعني لما حلَّ الأجل وهو عشرة آلاف ريال، قلت: أنا أبيع عليك سلعة تساوي عشرة آلاف ريال
(1)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، رقم (1584).
(2)
رواه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود، رقم (2312). ورواه مسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، رقم (1594).
باثني عشر ألفًا ثم توفيني بقيمتها، هذا لا يجوز؛ لأنه حيلة، ومع الأسف أن بعض المسلمين يفعلون هذا، فيكونون سواءً مع اليهود في التحيل على محارم الله، ويكونون سواء مع اليهود في أكل الربا؛ لأن هؤلاء أكلوا الربا وتحيلوا على أكله؛ فيزداد الربا قبحًا إلى قبحه؛ لأنه بعد أن كان صريحًا ربما تؤنبك نفسك عليه في يوم من الدهر صار خداعًا زيَّنه لك الشيطان، والذي يفعل هذا يعتقد أنه لا شيء فيه، ولا شك أن هذا أخبث مما لو قال سنجعل العشرة اثني عشر إلى سنة، هذا لا شك أنه حرام، لكن الحيلة الأولى أخبث لأنها تضمنت مع مفسدة الربا الخداع لله عزّ جل، والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(1)
.
وهذه غير مسألة العينة، فمسألة العينة: أن يبيع عليه السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منها نقدًا، أما هذا فدين ثابت في ذمته تحيَّل عليه إذ قال: أبيع عليك هذه السيارة بعشرة من أجل أن تبيعها وتأخذ دراهمًا وتوفيني، وبعد سنة أطالبك بقيمة السيارة اثني عشر.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]:
اتقوا الله واتقوا النار، تقوى الله عز وجل سبق الكلام عليها
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (1). ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، رقم (1907).
بأن معناها فعل الأوامر وترك النواهي لكن تعبدًا لله، تفعل الأوامر تعبدًا لله، وتترك النواهي تعبدًا لله وتذللًا له، أما قوله {وَاتَّقُوا النَّارَ} فهي تقوى من نوع آخر، وهي أن تتخذ ما يقيك منها كما تتخذ ما يقيك من الحر في الدنيا؛ لقوله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] فليست تقوانا للنار تقوى عبادة وتذلل كتقوانا لله، فاللفظ واحد والمعنى مختلف. فتقوى النار معناها أن نتخذ حجابًا دونها حتى لا يصيبنا لفحها. هذه هي تقوى النار وليست كتقوى الله التي هي تقوى تذلل وعبادة.
{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} هذه النار ورد في الكتاب والسنة مِنْ أوصافها وأوصاف عذابها ما تنخلع له القلوب، وبَسْط هذا معروف، {الَّتِي أُعِدَّتْ} أي هيئت لهم. والمعِد لها هو الله عز وجل.
وقوله: {لِلْكَافِرِينَ} أصل الكفر في اللغة الستر ومنه الكُفُرَّى الذي نسميه الكافور، وهو وعاء طلع النخل، هذا أصله في اللغة، أما في الشرع فإنه جحد الإنسان لنعمة الله عز وجل. وأعظمه الكفر المخرج عن الملة، وهناك كفر دونه كما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كفر دون كفر
(1)
، وقوله {لِلْكَافِرِينَ} يعني الكافرين بما يجب الإيمان به، وأركان الإيمان وأصوله الستة بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره".
(1)
رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء سباب المؤمن فسوق، رقم (2635).
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
وجوب اتخاذ ما يقي من النار؛ لقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ} والأصل في الأمر الوجوب.
2 -
أن النار موجودة الآن؛ لقوله: {الَّتِي أُعِدَّتْ} .
3 -
أن أهل النار هم الكافرون؛ لقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} أما الفساق الذين يعذبون بالنار على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها؛ فإن النار لم تعد لهم حتى إن بعض العلماء قال: إن النار ناران: نار الكافرين، ونار العصاة، لكن ظاهر النصوص خلاف ذلك، وأن النار واحدة لكن عذابها يخفف ويثقل بحسب عمل الإنسان.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]:
الجملة هنا معطوفة على ما سبق، وقوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ} الطاعة هي موافقة الأمر، فعلًا للمأمور وتركًا للمحظور، فمن ترك مأمورًا به فليس بطائع، ومن فعل منهيًا عنه فليس بطائع، وأصلها من الطوع وهو الانقياد، ومنه قولهم: هذه ناقة طوع أي منقادة لقائدها لا تستعصي عليه.
{وَالرَّسُولَ} ، "ال" فيه للعهد؛ لأن هذا الخطاب موجَّه لهذه إلَاّ. وهذه الأمة رسولها واحد وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم. فتكون "ال" هنا للعهد الذهني. وذلك أن العهد ثلاثة أنواع: ذهني، وذكري، وحضوري، فإن كانت "ال" تشير إلى شيء مذكور فهي للعهد الذكري مثل قوله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16]، وإن كانت تشير إلى شيء
حاضر فهي للعهد الحضوري مثل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وهكذا كل "ال" تأتي بعد اسم الإشارة فهي للعهد الحضوري مثل: هذا الرجل، هذا الإنسان وما أشبهه. والثالث العهد الذهني الذي يكون معلومًا بالذهن، فهنا الرسول هو محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو معهود ذهنًا.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :
(لعل) هنا للتعليل وليست للترجي، ولعلَّ تأتي كما مرَّ علينا كثيرًا للتعليل وللإشفاق، وللترجي وللتمني أحيانًا، والفرق بين التمني والترجي أن الترجي فيما يرجى حصوله، والتمني فيما لا يرجى حصوله إما لعسره وإما لتعذره، وهنا للتعليل يعني: إذا أطعتم الله والرسول حصلت لكم الرحمة، والرحمة يكون بها حصول المطلوب وزوال المكروه، وإذا قرنت بالمغفرة صارت المغفرة لزوال المكروه، والرحمة لحصول المطلوب، أي لعلكم تكونون في رحمة الله التي بها النجاة وحصول الثواب والأجر الكثير.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أولًا وجوب طاعة الله ورسوله، من قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} . والأصل في الأمر الوجوب.
2 -
جواز اقتران اسم الرسول باسم الله في الأمر الذي يكون مشتركًا بينهما؛ لقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} أما الأمر الذي لا يكون مشتركًا بينهما، وهو الأمر الكوني القدري، فهذا لا يذكر فيه الرسول مع الله إلا بحرف يدل على الترتيب، وبهذا نعرف الفرق بين إسناد الشيء الشرعي إلى الله ورسوله، وبين إسناد الكوني إلى الله ورسوله، فإسناد الشيء الشرعي يجوز
بالواو، وأما الكوني فلا يجوز إلا بـ"ثم" الدالة على الترتيب والمهلة، فإذا قلت في أمر شرعي: الله ورسوله أعلم فهذا صحيح وجائز، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فإنه في حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم"
(1)
فأقرهم لأن المراد هنا العلم الشرعي، لكن في المسائل الكونية لما قال له رجل:"ما شاء الله وشئت" أنكر عليه وقال: "أجعلتني لله عدلًا؟ بل ما شاء الله وحده"
(2)
.
3 -
أن طاعة الله ورسوله سبب للرحمة؛ لقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولكن هل المراد الرحمة العامة أو الخاصة؟ المراد الخاصة؛ لأن العامة حاصلة لنا على كل حال حتى الكفار لهم رحمة من الله لكن رحمة عامة، فالمراد بالرحمة هنا الرحمة الخاصة التي بها سعادة الدنيا والآخرة.
* *
• ثم قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134]:
قال: {وَسَارِعُوا} ولم يقل: أسرعوا؛ لأن المفاعلة تكون
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإِمام الناس إذا سلم، رقم (846). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء، رقم (71).
(2)
رواه الإِمام أحمد في، مسنده (1842، 1965).
مِن اثنين في الغالب. والمعنى: ليسبق بعضكم بعضًا أو ليسابق بعضكم بعضًا إلى هذا الأمر، المغفرة والجنة، وهذا كقوله تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21].
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} المغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست هي مجرد التجاوز عن الذنب؛ لأن أصلها من المِغفَر، والمغفر ما يوضع على الرأس حال الحرب يتوقى به السهام، وهو مفيد فائدتين وهما: السَّتر والوقاية، ويدل لهذا قوله تعالى حينما يحاسب عبده في الآخرة ويقر العبد بذنوبه فيقول:"قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"
(1)
، فمن ستر الله عليه ذنبه في الدنيا فقد غفره له، ولكن لا تتم المغفرة إلا بالتجاوز عن الذنب وعدم العقوبة عليه، وإلا فإن الستر نوع من المغفرة بلا شك، فإن الإنسان لو فضح بذنبه -والعياذ بالله- لم يكن هذا مغفرة، لكن إذا ستر عليه فإن هذا فيه مهلة أن يجعل الله تعالى الأمر بينه وبين عبده لعله يتوب ولا يعلم بذنبه.
والمسارعة إلى المغفرة إما استغفار، وإما عمل صالح، الاستغفار أن يقول: اللهم اغفر لي، أستغفر الله وما أشبه ذلك، وإما عمل صالح؛ لأن من الأعمال الصالحة ما يكفّر الله به الخطايا مثل الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والعمل الصالح يذهب العمل السيئ.
(1)
رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
…
} رقم (2441). ورواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، رقم (2768).
وقوله: {وَجَنَّةٍ} ، مغفرة وجنة، لأن الإنسان لا تتم سعادته إلا بأمرين: زوال المكروه، وحصول المطلوب.
والجنة هنا هي، الدار التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، أعدها الله للمتقين. والمتقون المؤمنون هم أولياء الله، هذه هي الجنة. أما الجنة في قوله تعالى:{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265] فهي البستان، ففرق بين الجنتين جنة الدنيا وهي البساتين، وجنة الآخرة وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن للإنسان أن يتصور ما في الجنة من النعيم، أما جنات الدنيا فكل إنسان يتصور ذلك.
وقوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} في الآية الأخرى {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، والفرق بينهما أن التشبيه هنا بليغ، وأما التشبيه هناك فليس ببليغ، يعني من حيث الاصطلاح. وإلا فكل القرآن بليغ؛ لأنهم يقولون: التشبيه بليغ مؤكد، وغير مؤكد، وبليغ غير بليغ إذا ذكرت الكاف، فإذا ذكرت أداة التشبية فهو غير بليغ، وإذا حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه صار بليغًا، وهنا حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه، أما إذا ذكرت أداة التشبيه فإنه يسمى تشبيهًا مرسلًا، وإذا ذكر وجه الشبه صار مرسلًا غير مؤكد.
نقول: فلان كالبحر كرمًا، وإن شئت فقل: في الكرم، هذا التشبيه فيه كل الأركان الأربعة؛ لأن التشبيه له أركان أربعة مثل القياس، مشبه، ومشبه به، وأداة التشبيه، ووجه الشبه، باعتبار ذكر أداة التشبيه يسمى مرسلًا، وباعتبار ذكر وجه الشبه يسمى غير
بليغ، يعني أن هذا أدنى أنواع التشبيه إذا ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه، فهذا أدنى أنواع التشبيه.
وإذا حذفت أداة التشبيه وذكر وجه الشبه صار مؤكدًا لكن غير بليغ؛ لأنك إذا قلت: "فلان بحر في الكرم" أكدت أنه بحر في الكرم لكن نقصت قليلًا، فإذا حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه صار تشبيهًا بليغًا، إذا قلت:"فلان بحر"، فإذا قلت: رأيت بحرًا يعطي الدراهم بلا عدٍّ، صار هذا أبلغ من الأول، ويسمى هذا استعارة.
على كل حال {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} هذا التشبيه بليغ؛ لأنه حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه، فيكون بليغًا.
ومعنى {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} يعني كعرض السماء والأرض، لكن هل يلزم من هذا أن تكون مالئة للسماء والأرض، أو أنها كعرض السماء والأرض وإن كانت هي في محل آخر؟
الجواب: الثاني، ولذلك شكك بعض العلماء في الأحاديث التي فيها أن رجلًا من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كيف يكون عرضها السموات والأرض؟ أين السموات والأرض إذا كانت هي عرضها عرض السموات والأرض؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أين يكون الليل إذا جاء النهار؟ "
(1)
، فهذا الحديث. في رفعه نظر؛ لأن الآية لا تدل على أن الجنة ملأت السموات والأرض وصارت في محلهما، بل تدل على أن عرضها عرض السموات والأرض وإن كانت هي فوقهم، ولذلك نقول: إن الجنة فوق السموات والأرض كلها، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله
(1)
رواه أحمد في مسنده (15228).
فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقَها أو وفوقُها -روي بالوجهين- عرش الرحمن"
(1)
وهذا يدل على أن الجنة فوق السموات. وأما النار فهي في أسفل السافلين، وعلى هذا فلا يكون في الآية إشكال إطلاقًا، ويحتمل أن نقول: إن هذا اليهودي أراد أن يلبس ويشبّه في القرآن ويتبع ما تشابه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صحَّ الحديث أجابه على وجه يبهت فيه ولا يتكلم على مقتضى عقله، فقال:"أين الليل إذا جاء النهار؟ "
على كل حال فإن معنى الآية الكريمة أن هذه الجنة عرضها عرض السموات والأرض، أما طولها فقال بعض أهل العلم: إنه إذا كان عرضها السموات والأرض فطولها أعظم وأعظم؛ لأن العادة أن العرض دون الطول، ولكن الصحيح أن عرضها وطولها واحد إذ ليس لها عرض وطول وذلك لأنها مستديرة، وليست مربعة، وإذا كانت كذلك فإن عرضها يكون طولها. هذا هو الصحيح الذي صحَّحه جماعة من أهل العلم.
وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} : في محل جر صفة للجنة، ويجوز أن تكون في محل نصب حالًا. والنكرة إذا وصفت جاز أن تأتي منها الحال.
أعدها الله عز وجل، وقد بيَّن الله ذلك في آيات أخرى مثل قوله تعالى:{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 100] فالمُعِدُّ هو الله ولكنه ذكر بصيغة المجهول ليوافق قوله فيما سبق {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، رقم (2790).
(والمتقون) هم الذين اتخذوا وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
ثم ذكر الله تعالى من صفاتهم:
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} وحينئذ قد يسأل سائل: كيف بدأ بالإنفاق دون ذكر الصلاة مثلًا، والصلاة أهم من الإنفاق؟
الجواب: لأنه لما نهى عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة بدأ بضده -ضد أكل الربا- وهو الإنفاق، وهذا كقوله:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] فإنه لما قال: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] بدأ بذكر الإنفاق في صفات المتقين {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} ، ينفقون ماذا؟ حذف المفعول ليكون دالًا على العموم. أي ينفقون كلَّ ما يمكن إنفاقه من أعيان ومنافع وجاه وغير ذلك، فإن الإنسان قد ينفق أعيانًا كالثياب، ودراهم كالنقود مثلًا. وكذلك قد ينفق منافع، بأن يعير شخصًا ما ينتفع به هذا المستعير، وجاهًا بأن يتوسط لشخص أو يشفع له، فالإنفاق هنا عام،
السراء ما يسر، والضراء ما يضر، يعني في حال الرخاء وفي حال الشدة ينفقون، ولم يبيّن على مَنْ ينفقون ولكن الله قد بيَّن في سورة البقرة فقال:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] فينفق في جهات الخير، لا في جهات الشر؛ لأنه لو أنفق في جهات الشر لخرج عن وصف المتقين، والله سبحانه وتعالى ذكر الإنفاق هنا وصفًا للمتقين فلابد أن يكون إنفاقهم فيما يرضي الله.
فإذا قال قائل: {فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أما في السراء والسعة والرخاء فالإنفاق وجيه، وأما في الضراء فكيف يكون الإنفاق؟
فالجواب: أنه يجب أن نعلم أن الإنفاق ليس خاصًا بالإنفاق على البعيد عنك، بل هو عام. يشمل حتى الإنفاق على ابنك وبنتك وأمك وأبيك وزوجتك بل ونفسك، حتى الإنفاق على النفس يؤجر الإنسان عليه ويكون صدقة، قال النبي عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كلمة جامعة نافعة مانعة قال:"واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك"
(1)
. وهل يكون الإنفاق في الضراء؟ الجواب: نعم، قد يكون الإنسان في أشد العسر وينفق على أهله وزوجته بل وعلى نفسه.
وقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ، الكظم معناه: المنع مع ألم وتأثر، والغيظ قيل: إنه أشد الغضب، يعني أنهم إذا غضبوا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، رقم (1296). ورواه مسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، رقم (1628).
وثاروا حبسوا غيظهم، ومعلوم أن من أشد ما يكون على الإنسان أن يحبس غيظه، ويعرف ذلك من يكون سريع الغضب، فإنه إذا أراد أن يكظم الغيظ يجد شدة عظيمة، كأن أحدًا يصرعه صرعًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تعدّون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرع -والصرعة والصرع معناه الطرح- قال: إن الصرعة من يملك نفسه عند الغضب"
(1)
، هذا هو الصرعة الذي إذا ثارت نفسه ملكها، فلهذا قال:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} يعني إذا فعل بهم إنسان ما يغيظهم فإنهم يكظمون على شدة ومعاناة وألم، ويدل على أن الكظم فيه شدة ومعاناة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع"
(2)
. ولهذا يجد بعض الناس إذا أراد التثاؤب شدة عظيمة في منع فتح فمه، مع أن المشروع أن تكظم ولا تفتح الفم، وقد ذكر بعض العلماء شيئًا ييسر لك الكظم، قال: إذا أصابك التثاؤب فعضَّ شفتك السفلى.
وقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} يعني الذين يكظمون أشد الغضب. وإذا كانوا يكظمون أشد الغضب فأسهل الغضب من باب أولى، كم من إنسان لا يملك نفسه عند الغضب فتجده مثلًا يكسر ما له، أو يطلق زوجته، أو ربما يلطم نفسه، أو ربما يسقط نفسه من علو، المهم أن الغضب الشديد جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى لا يدري ما يقول؛ ولهذا كان أصح أقوال أهل
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء؟ ، رقم (2608).
(2)
رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، رقم (2994).
العلم أن من غضب غضبًا لا يملك نفسه به فإنه لا عبرة بقوله، أيًّا كان هذا القول، سواء كان طلاقًا أو خلعًا أو لعنًا أو قذفًا أو غير ذلك، فإنه لا عبرة به؛ لأنه ليس له قصد. وبعض الناس -نسأل الله العافية- إذا غضب تغيَّب عن الدنيا لا يرى مَنْ أمامه أبدًا، ولا يسمع قول من يتكلم، وربما يتكلم بكلام مكروه ويصيحون به وهو لا يسمعهم من شدة غضبه، لهذا نقول: إن الغضب ثلاثة أقسام: بداية، وغاية، ووسط، البداية لا تؤثر؛ لأن كل إنسان يغضب، والغاية لا حكم لها، بمعنى أن كل ما صدر عن الغاضب فإنه لا حكم له. وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان في بيان عدم وقوع طلاق الغضبان" أن ذلك بالاتفاق، والثالث: الوسط، هذا محل خلاف بين العلماء، والصحيح أنه لا حكم لقوله، وأن طلاقه لا يقع.
وقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ، العفو ترك المؤاخذة على الذنب، والمعنى هم الذين إذا أساء إليهم أحد قابلوا إساءته بالعفو، وخير من ذلك أن يقابلوه بالإحسان لكن بشرط أن يكون لديهم قدرة على الانتقام، أما من عفا لعدم القدرة على الانتقام فهذا عفو العاجز الذي لا يحمد عليه، بل يكون عفوه هذا عجزًا مذمومًا، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، فأنتم إن عفوتم عن السوء قد تعفون عن قدرة وقد تعفون عن عجز. أما الله عز وجل فإنه يعفو عن قدرة، وهذا هو محل المدح، أما مجرد العفو فليس بمدح حتى يكون عفوًا عن قدرة. فترك المؤاخذة على الذنب عفو وهو محمود، وخير منه الإحسان، ولكن يشترط في
الأمرين أن يكون ذلك عن قدرة لا عن عجز، أما عن العجز فإنه مذمة، ولهذا قال الشاعر يذم قبيلته:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
لماذا؟ لضعفهم وعجزهم ولهذا قال:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا
…
شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا
فالحاصل: أن قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يعني الذين لا يؤاخذون الناس بما أساؤوا به إليهم، بل ربما يحسنون إليهم ولكن عن قدرة، أما العفو عن عجز فليس بعفو حقيقة، بل هو عجز لا يمدح عليه الإنسان.
وقوله: {عَنِ النَّاسِ} عام، شامل، ولكنه ليس على عمومه بالاتفاق، فإن الإساءة إذا كانت في حق الله فهي لله وليس لأحد أن يعفو عنها، فلو زنا رجل بمحرم رجل وأراد أن يعفو عنه قلنا: لا يمكن، الحق ليس إليك، والله عز وجل يقول:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أما إذا كان حقًّا للإنسان ليس فيه شائبةُ حق لله فهذا يُنظر فيه، أي ليس على عمومه بل ينظر فيه، إن اقتضت المصلحة العفو فالعفو خير، وإن اقتضت المصلحة المؤاخذة فالمؤاخذة خير. وإن لم تقتضِ لا هذا ولا هذا بأن تساوى الأمران فالعفو خير؛ لقوله تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] والدليل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فَعُلِم منه أن من عفا بدون إصلاح فلا أجر له، بل قد يأثم على عفوه، مثال ذلك: رجل اعتدى عليه شخص شرير،
كلما عفا الناس عنه ازداد شرًّا، فهنا المؤاخذة خير بل قد تجب. وإنسان آخر اعتدى على شخص ولكنه رجل معروف بالاستقامة -أعني المعتدي- وعدم الاعتداء لكن بدرت منه بادرة فحصلت منه إساءة، فهنا العفو أولى، ولاسيما إذا جاء هذا المعتدي يعتذر ويتعهد أن لا يعود أو ما أشبه ذلك. ورجل ثالث اعتدى على آخر وهو شرير لكنه لم يبلغ في الشر غايته، يعني أحيانًا وأحيانًا، فهنا العفو أفضل لأنه يتساوى الأمران، فالعفو هنا أفضل.
وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يشمل حتى عن الكفار إذا لم يكونوا حربيين، فإن الإنسان إذا عفا عنهم فيما يتعلق بحق خاص، وكان في العفو إصلاح؛ فإنه يدخل تحت الآية الكريمة.
وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني الذين يحسنون إلى الناس، ولكن هل المراد بذلك المحسنين فيما سبق أو المحسنين فيما يستقبل؟ بمعنى هل قوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} عائد على قوله: {لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} وأن هؤلاء من المحسنين؟ أو أنه لما ذكر العفو وهو إسقاط الإنسان حقه عن المؤاخذة ذكر حالًا أخرى أكمل منها وهي الإحسان فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني فإذا أحسنوا مع العفو كان ذلك سببًا لمحبة الله؟ الثاني له وجه، والأول أعم؛ لأننا إذا قلنا:(المتقين) هل هم محسنون؟ نعم، لا شك أن المتقي محسن إذا كان كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم:"تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (50). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإِسلام والإحسان، رقم (8).
فالإنفاق إحسان، وكظم الغيظ إحسان، والعفو عن الناس إحسان، فيكون هذا أشمل، فعليه نقول: هذه الجملة فيها الترغيب والحث على فعل الخصال السابقة، وأنها من الإحسان، وإذا فعل الإنسان خصلة أعلى مما سبق كانت داخلة في هذا من باب أولى كما لو عفا وأحسن فإنني أقول: هذه خصلة زائدة على مجرد العفو فتكون أولى بالدخول في قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} :
1 -
فيها الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والرحمة والجنة. وهل الأمر للوجوب؟ نقول: أما فيما يجب فواجب، وأما فيما لا يجب فليس بواجب، ولكن الإنسان يؤمر بأن يسارع، وفيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يؤثر غيره بالقربات؛ لأنه إذا آثر غيره بالقربات فهذا يعني التأخر، ومن أمثلة ذلك أن يؤثر غيره بمكانه الفاضل في الصف بأن يتأخر عن مكانه في الصف الأول لرجل آخر، فإن هذا خلاف المسارعة إلى الخيرات.
ولكن إذا ترتب على إيثار غيره بهذا المكان مصلحة أكبر من مصلحة التقدم لم يكن إيثاره من باب التأخر عن الخيرات؛ لأنه تنازل عن فضيلة إلى فضيلة أعلى، فلا يكون هذا إيثارًا في الحقيقة، ولا يدل على هذا زهد الإنسان في فعل الخير، بل هو انتقال من خير إلى ما هو خير منه. والإيثار بالقرب، إما: إيثار بواجب فهو حرام، وإيثار بمستحب فهو مكروه. مثال الإيثار بالواجب: رجل عنده مال لا يكفي إلا لحج رجل واحد، فيعطي
غيره ليحج به ويدع نفسه. ومثال الإيثار بمستحب: أن يؤثره بالمكان الفاضل في الصف.
2 -
أن التخلية قبل التحلية؛ لأنه قال: {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} فبالمغفرة الزحزحة عن النار التي أوجبتها الذنوب، وبالجنة دخول الجنة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
3 -
أن المغفرة لا تكون إلا من الله {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} لأن مغفرة غير الله لا تفيد، إنما تفيد في حق الإنسان الخاص إذا سمح عنك وغفر لك فهذا يفيد كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].
4 -
بيان سعة الجنة؛ لقوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} .
5 -
أن الجنة موجودة الآن؛ لقوله: {أُعِدَّتْ} والإعداد التهيئة، وقد تضافرت النصوص الكثيرة على أن الجنة موجودة الآن.
6 -
أن أصحاب الجنة هم المتقون؛ لقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} كما قال في النار: {الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] فالمتقون هم أهل الجنة.
ومن فوائد قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} :
1 -
فضيلة الإنفاق على كل حال؛ لقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} فإن قال قائل: إذا كان الإنسان في ضرورة هو وعائلته فهل ينفق؟ نقول: لا ينفق على أجنبي بل ينفق على نفسه وعائلته، وهو داخل في الآية؛ لأن إنفاقه على نفسه وعلى أهله صدقة.
2 -
الثناء على من أنفق في السراء والضراء، وذلك لأن الإنفاق في السراء ليس بغريب، كل إنسان يهون عليه أن ينفق إذا كان في سراء، لكن الإنفاق في الضراء هو الذي يدل على أن الإنسان ينفق طلبًا للأجر لا زهدًا في المال.
3 -
أنه ينبغي للإنسان أن يكظم الغيظ؛ لأن ذلك من صفات أهل الجنة؛ لقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} .
فإن قال قائل: هل يمدح من لا يبالي بما أصابه من خير وشر، أو يمدح من كظم الغيظ عند وجود الشر؟ .
الثاني؛ لأن الأول لا يبالي سواء وجد ما يثيره أم لم يوجد، لكن من يعرف الخير والشر ولكنه يكظم الغيظ عند وجود الشر هذا هو الذي يُمدح.
4 -
الحث على العفو عن الناس لكنه مقيد بما إذا كان أصلح.
5 -
إثبات المحبة لله عز وجل وأنه يحب، وهل المحبة هنا صفة ثابتة لله أو يراد بها إرادة الإحسان أو الإحسان نفسه؟ الصحيح أنها صفة لله عز وجل، وأن إرادة الإحسان أو الإثابة غير المحبة.
فإن قال قائل: المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.
نقول: هذا غير صحيح أصلًا، فلا يلزم من المحبة تجانس المتحابين، الإنسان يحب بعض السيارات، بعض الإبل، بعض الدور، يحبها محبة حقيقية بقلبه، ويكون عنده قلم سائل نظيف فيحبه. فهذه الدعوى دعوى باطلة يكذبها الحس والواقع، وإذا
قالوا: إن المحبة هي ميل الإنسان إلى ما يجلب له المنفعة أو يدفع عنه المضرة.
نقول: هذا أيضًا غير صحيح. وهذا إن قدر أنه لازم المحبة في المخلوق فليس بلازم المحبة بالنسبة للخالق؛ لأن الله لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين.
فإن قالوا: العقل لا يدل عليها فلا يجوز إثباتها.
فالجواب عن هذا:
أولًا: أن العقل ليس دليلًا في إثبات صفات الله أو نفيها، فنحن نمنع الاعتماد على العقل في إثبات الصفات أو نفيها ونقو ل: من أين لكم أن المدار في إثبات الصفات أو نفيها هو العقل؟
ثانيًا: أن نقول: هب أن العقل لم يدل عليها فإنه لا ينفيها؛ لأن دعواكم النفي بأنه لا تكون المحبة إلا بين متجانسين دعوى باطلة والشرع قد أثبتها، وانتفاء الدليل المعين الذي هو العقل على زعمكم لا يمنع انتفاء المدلول؛ لأن المدلول قد يثبت بدليل آخر غير ما ذكرتم، فهب أن العقل لم يدل عليه فقد دلَّ عليه السمع (الكتاب والسنة) فوجب ثبوته، ثبوت المحبة.
ثالثًا: أن نقول: إن العقل قد دلَّ على ثبوت المحبة لله. فإثابة الطائعين تدل على أن الله أحبهم إذ لا يمكن أن يثيب أحدًا عقلًا إلا وهو يحبه، فتكون إثابة الطائعين دليلًا عقليًا على ثبوت المحبة كما جعلتم أنتم التخصيص دليلًا عقليًا على ثبوت الإرادة ولا فرق بينهما، بل إن إثابة الطائعين أدل على المحبة من دلالة التخصيص على الإرادة، ولكن يجب أن نعلم أن محبة الله
سبحانه وتعالى للإنسان ليست محبة لجماله أو لحسن ثيابه أو ما أشبه ذلك كما تكون بين المخلوقين، بل هي محبة لإيمانه وعمله، ولهذا جاء في الحديث:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
(1)
. فالمدار على القلب والعمل، فكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا بالله وأكثر عبادة له كان أحب إليه.
6 -
الحث على الإحسان من قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فإن كل إنسان يعلم أن الله يحب الإحسان سوف يحسن ويتقدم إلى الإحسان ويحرص عليه؛ لأن محبة الله للعبد هي غاية ما يريد، نسأل الله أن يجعلنا من أحبابه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الغاية أن الله يحبك. حتى الذين قالوا: إنا نحب الله قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} لأن الشأن كل الشأن أن يحبك الله، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أحبابه.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]:
{وَالَّذِينَ} : الواو هذه حرف عطف، والأصل في المعطوف أن يكون مغايرًا للمعطوف عليه، وليس المراد إذا قلنا إن العطف يقتضي المغايرة أن تكون المغايرة في الذات فقط، بل قد يكون
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه، رقم (2564).
التغاير في الصفة وفي اللفظ وفي المعنى، فإذا قلنا: قدم زيدٌ وعمرٌو، فهنا عطف يقتضي المغايرة في الذات؛ لأن هذا غير هذا بلا شك. وفي هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} المغايرة في الصفة، فهي كقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 1 - 4] فالذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى هو الله، لكن هذا عطف صفة على صفة. والتغاير في اللفظ مثل قول الشاعر:
فألفى قولها كذبًا ومَيْنا
المَيْنُ هو الكذب، ولكنه عطف عليه من باب عطف المترادفين، ولهذا لا يأتي في اللغة العربية كذبًا وكذبًا، إنما يأتي كذبًا ومينًا، فلابد من التغاير في اللفظ. والتغاير في المعنى قريب من التغاير في الصفة. والذي معنا الآن قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} من باب تغاير الصفة.
والفاحشة ما يستفحش شرعًا أو عرفًا مثل الزنا، فإن الزنا فاحشة شرعية وفاحشة عرفية. كذلك اللواط فاحشة شرعية وعرفية. قال لوط لقومه:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] كذلك نكاح ما نكح الآباء هو أيضًا فاحشة {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] أو عادة، ولكن في باب الثواب والعقاب المرجع إلى الشرع، ولهذا قال بعض العلماء: المراد بالفاحشة الكبيرة.
وقوله: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} المراد به ما دون الفاحشة وهي الصغائر، وعلى هذا فالعطف بين قوله: {فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ} عطف بين متغايرين، وليس من باب عطف العام على الخاص، وإن كانت الفاحشة لا شك أنها داخلة في ظلم النفس، لكن المراد هنا التنويع، وإذا كان المراد التنويع لزم أن يكون كل نوع سوى النوع الآخر.
وقوله: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} قد يقول قائل: كيف يتصور أن الإنسان يظلم نفسه، الإنسان يدفع عن نفسه الظلم فكيف يظلم نفسه؟
والجواب على ذلك أن نقول: كل من خالف أمر الله بفعل محرم أو ترك واجب فقد ظلم نفسه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] لماذا؟ لأن النفس عندك أمانة تجب عليك رعايتها، وقد أوصاك الله بها فقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]. وقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] فنهى عن قتل النفس وعن ظلم النفس لأنها أمانة عندك.
ومن المناسب أن نورد قول العلماء: إن الله أرحم بك من أبيك وولدك ونفسك، أما كونه أرحم بك من أبيك فإن الله قال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] فأوصى الآباء والأمهات بالأولاد، إذن فهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وأما بالعكس أن يكون أرحم بك من أبنائك، فقال:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8] وأما أرحم بك من نفسك فلأن الله قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
إذن نقول: وجه كون الإنسان ظالم لنفسه أن نفسك عندك أمانة، فإذا فرطت في هذه الأمانة بأن أقحمت نفسك فيما حرم الله
عليك أو تأخرت عما أوجب الله عليك فقد ظلمت نفسك.
وظلم النفس هو في الواقع ظلم في حق الغير؛ لأن ظلم النفس إما في حق يتعلق بالله عز وجل، وإما في حق يتعلق بالمخلوق، فإن كان في حق الله فإنك ظالم في حق الله، وإن كان في حق المخلوق فإنك ظالم في حق المخلوق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مطل الغني ظلم"
(1)
. ولهذا نعرف أن من ظلم نفسه فقد ظلم ثلاثة: ظلم نفسه، وظلم حق الله عز وجل، وظلم المخلوق؛ لأن هذه كلها تتعلق بأوامر الله ونواهيه.
وقوله تعالى: {ذَكَرُوا اللَّهَ} أي: ذكروا الله باللسان وبالجوارح وبالقلب.
أما ذكر الله بالقلب فإنه إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا عظمة الله وما أعد للمخالفين من العقاب، وذكروا كذلك رحمة الله وما أعد للطائعين من الثواب، هذا ذكر بالقلب، فإذا ذكروا الله بالمعنى الأول ذكروا عظمته فخافوا من عقابه واستقاموا على دينه هربًا من عقابه، وإذا ذكروا الله بالمعنى الثاني وهو ذكر رحمته وثوابه فإنهم يستقيمون على شرعه طلبًا للوصول إليه، فذكر الأول من باب الهرب، وذكر الثاني من باب الطلب، والعابد بمقتضى الطلب أعلى حالًا من العابد بمقتضى الهرب، قالوا: لأن الطالب ناصح في غيبة المطلوب وفي حضوره، والهارب ناصح في حضور المخوف لكن في غير حضوره لا يهتم، ويمكن أن يؤخذ هذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(1)
رواه البخاري، كتاب الحوالات، باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟ رقم (2287). ورواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة، رقم (1564).
"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(1)
.
وذكر الله باللسان يمكن أن يكون المراد به الذكر الخاص مثل: لا إله إلا الله كما يروى عن الشيطان أنه قال: (أهلكت بني آدم بالمعاصي، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار)
(2)
. فذكر الله لا شك أنه من أسباب مغفرة الذنوب، فيذكرون الله بألسنتهم يقولون: لا إله إلا الله -كلمة الإخلاص- وهذه إذا قالها الإنسان مخلصًا غفر الله له، وكذلك أيضًا ذكر الله باللسان يكون بالاستغفار: اللهم اغفر لي أو أستغفر الله أو ما أشبه ذلك.
والذكر بالفعل هو أنهم يفعلون ما يكفر هذه الذنوب والخطايا، ومن ذلك الصدقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفى الماء النار"
(3)
. وكذلك أيضًا الصلاة، فإن الإنسان إذا توضأ وأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الفاء: للترتيب والتعقيب، يعني فإذا ذكروا الله استغفروا لذنوبهم، أي طلبوا المغفرة من الله سبحانه وتعالى لذنوبهم، وتقدم لنا مرارًا أن المغفرة تعني ستر الذنب والتجاوز عنه، وقوله:{لِذُنُوبِهِمْ} الذنوب هي المعاصي
(1)
تقدم تخريجه (ص 185).
(2)
مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 142). فقد أوردها عن ابن الجوزي قال: إن إبليس قال: "أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلَاّ الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".
(3)
رواه الترمذي، كتاب الجمعة، باب ما ذكر في فضل الصلاة، رقم (614). ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحسد، رقم (4210).
والآثام، فيسألون الله تعالى أن يغفر لهم هذه المعاصي والآثام، وإذا استغفر الإنسان ربَّه بنية صادقة وافتقار إليه فإن الله تعالى يغفر له، ولهذا قال:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} . (مَنْ) اسم استفهام وليست اسم شرط، والدليل على أنها اسم استفهام لا اسم شرط أن الفعل بعدها وقع مرفوعًا {وَمَنْ يَغْفِرُ} . ثم إن أداة الإثبات جاءت بعدها وهي {إِلَّا} ، وعلى هذا نقول:(مَنْ) اسم استفهام بمعنى النفي. ويدل أنها بمعنى النفي إتيان الإثبات بعدها وهي {إِلَّا اللَّهُ} .
فإذا قال قائل: ما الفائدة من أن يأتي النفي بصيغة الاستفهام؟ فلماذا لم تكن الآية كما في حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت" وهذه الآية جاءت بقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ؟ فنقول: لأن النفي بصيغة الاستفهام أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه إذا جاء النفي بصيغة الاستفهام صار مشربًا بالتحدي كأن المستفهم يقول: ائت لي بكذا وكذا، ائت لي بأحد يغفر الذنوب إلا الله عز وجل، فيكون الاستفهام هنا دالًا على النفي مشربًا بالتحدي.
{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} {إِلَّا اللَّهُ} بالرفع مع أنه وقع بعد {إِلَّا} لأن الكلام مفرغ، والمفرغ: هو الذي لم يذكر فيه المستثنى منه. فإذا قلت: ما قام إلا زيد، فهنا الاستثناء مفرغ لم يذكر فيه المستثنى منه. وإذا قلت: ما قام أحد إلا زيد، فهذا غير مفرغ؛ لأنه ذكر المستثنى منه. وإذا قلت: ما رأيت إلا زيدًا، مفرغ لأنه لم يذكر فيه المستثنى منه. وإذا قلت: ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، فهذا غير مفرغ.
هنا {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} يعني لا أحد يغفر الذنوب إلا الله. لو تستغفر كل الخلق من ذنبك ما نفعوك، لو أنك مثلًا أتيت إلى كل الذين في المسجد وقلتَ: أستغفركم من الذنب الذي فعلت، فهل تنفع مغفرتهم؟
لنفرض أن رجلًا أساء في المسجد إساءة محرمة تؤذي المصلين، فجاء فقال: أيها المصلون أستغفركم مما فعلت هل يمكن أن يغفروا له؟ يقال: يمكن أن يغفروا له ما يتعلق بهم، لكن أصل الذنب لا يمكن أن يغفروا له؛ لأنه يقول:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} .
قال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} :
قوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا} معطوفة على قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} .
ويصروا: أي يستمروا على ما فعلوا ويبقوا عليه؛ لأن طالب المغفرة لا يمكن أن يصر على اقتراف الذنب، يقول اللهم اغفر لي وهو مصرٌّ على معصيته، هذا سخرية واستهزاء، ولهذا قال:{مَا فَعَلُوا} من الفاحشة وظلم النفس.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يحتمل أن تكون استثنائية {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} يعني أتى بجملة مستأنفة فقال: وهؤلاء يعلمون عظم الذنوب، ويعلمون عظم مَنْ عصوه، ولذلك لا يصرون على ما فعلوا، ويحتمل أن تكون الواو للحال يعني: ولم يصروا على ما فعلوا حال كونهم عالمين بأن الإصرار على الذنب لا تحصل معه المغفرة، أو وهم يعلمون بأن هذا ذنب، فهذا وقع منهم ذنب أصروا عليه فإنهم لا يعلمون أنه ذنب، والآية ما دامت تحتمل هذه الأوجه
الثلاثة فإننا نقول على القاعدة أنها تحمل عليها كلها، كل ما تحتمله الآية من معنى ولا تناقض بين المعاني فإنه يجب أن تحمل عليها كلها، فإن كانت المعاني تتناقض أو تتعارض فإنه يطلب المرجح، لأنه لا يمكن أن يحمل الكلام على الشيء وضده.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن المتقي لا يكون معصومًا من فعل الفاحشة أو ظلم النفس؛ لأن الله لم يقل: وهم لا يفعلون الفواحش أو لا يظلمون أنفسهم، بل قال:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ففعل الفاحشة لا يخدش التقوى إذا استغفر الإنسان وتاب، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"
(1)
، وصحَّ عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام:"لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"
(2)
. إذن ليس الشأن في أن لا يفعل الإنسان المعصية، كل إنسان لابد أن يعصي، لكن الشأن في أنه إذا فعل المعصية رجع إلى الله.
2 -
أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: فواحش ودونها؛ لقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ، و (أو) هنا للتنويع، وهذا متفق عليه بين العلماء أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ولكن ما هو الضابط للكبائر والصغائر؟ بعض العلماء يقول: إن
(1)
رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، رقم (4251). ورواه الدارمي، كتاب الرقاق، باب في التوبة، رقم (2727).
(2)
رواه مسلم، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة، رقم (2749).
الكبائر معدودة فجعل يعددها ويقول الكبيرة الأولى، الكبيرة الثانية، الكبيرة العاشرة، إلى أن انتهى إلى ما بلغه علمه من الكبائر.
وبعضهم يقول: إن الكبائر محدودة وليست معدودة، ومعنى محدودة يعني معلقة بوصف لا بعدد، فقالوا مثلًا: ما فيه حدٌّ في الدنيا فهو كبيرة مثل الزنا والسرقة والقذف، كل ما فيه حد في الدنيا فهو كبيرة، وكل ما رتّب عليه اللعنة فهو كبيرة مثل:"لعن الله من آوى محدثًا"
(1)
. ومثل: "لعن الله الراشي والمرتشي"
(2)
وما أشبهه، وكل ما رتب عليه غضب فهو كبيرة، مثل قوله تعالى في القاتل:{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93] وكل ما رتّب عليه وعيد في الآخرة بأن قيل: من فعل كذا فهو في النار أو ما أشبه ذلك، مثل:"ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"
(3)
.
ورأيت لشيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: كل ما رتّب عليه عقوبة خاصة، دنيوية أو أخروية فهو كبيرة، وما جاء النهي عنه بدون ذكر عقوبة فهو صغيرة، فقال مثلًا: الغش من كبائر الذنوب؛ لأن الشارع جعل له عقوبة خاصة: "من غشنا فليس منا"
(4)
. وإيذاء الجار من كبائر الذنوب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من
(1)
رواه مسلم، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله، رقم (1987).
(2)
رواه الإِمام أحمد في مسنده (27477).
(3)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، رقم (5778).
(4)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن غشنا. . ."، رقم (101).
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره"
(1)
. وهذا الذي حدَّه رحمه الله يدخل فيه من الذنوب شيء كثير، ولكن لا شك أن ما قاله رحمه الله ليس معناه أن هذه الكبائر تكون على مرتبة واحدة بل حتى الكبائر فيها ما هو أكبر، وفيها ما هو أصغر، كما في الحديث الصحيح:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"
(2)
. وعلى هذا فنقول: الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، تؤخذ من الآية هذه. ثم إنَّ الكبائر تختلف مراتبها بحسب ما يترتب عليها من المفاسد والآثام.
3 -
سرعة انتباه هؤلاء عند فعل الذنوب؛ لقوله: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} فيبادرون بالتوبة، والمبادرة بالتوبة من صفات المتقين وهل هي واجبة؟ الجواب: نعم، تجب المبادرة بالتوبة؛ لأن التوبة إذا نزل الأجل لا تقبل، والإنسان لا يدري متى ينزل أجله، وعلى هذا فيجب أن يتوب الإنسان من ذنوبه فورًا بدون تأخير.
4 -
أن ذكر الله عز وجل سبب للتوبة والرجوع إلى الله؛ لقوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ} .
5 -
أنهم يبادرون بالتوبة وسبق استغفار هؤلاء المتقين لذنوبهم؛ لقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ويتفرع على هذه الفائدة عجز
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب الوصاية بالنساء، رقم (5186). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت، رقم (47).
(2)
رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم (2654). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، رقم (87).
أولئك القوم الذين يقولون: إن الله غفور رحيم ولا يستغفرون الله، فإن بعض المذنبين إذا نهيته عن الذنب قال: الله غفور رحيم ولكن هو نفسه لا يستغفر، وإذا كان هؤلاء السادة يستغفرون ربهم بل إذا كان الله أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر فما بالك بمن دونهم، قال الله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 106].
6 -
أنه لا أحد يستطيع أن يغفر الذنوب إلا الله؛ لقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ويتفرع عليها أن لا تعتمد على أحد في مغفرة الذنوب أو طلب المغفرة، وإنما يكون اتجاهك إلى الله عز وجل.
7 -
أن هؤلاء السادة المتقين لا يصرون على ما فعلوا من الفاحشة أو ظلم النفس وهم يعلمون.
8 -
أن الرجل إذا أذنب فاستغفر ثم أذنب فاستغفر ثم أذنب فاستغفر، فإنه يغفر له وإن تكرر الذنب منه؛ لأن الله قال هنا:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولم يقل: (ولم يعيدوا ما فعلوا)، والإنسان إذا كان كلما أذنب استغفر فإنه يغفر له؛ لقوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ويجب أن لا يكون استغفاره بلسانه، وقلبُه منطوٍ على الرجوع، فإن كان كذلك فإن هذا الاستغفار لا يفيده، لكن يكون استغفاره حقيقة بقلبه ولسانه، والإنسان بشر ربما تغلبه نفسه في المستقبل فيفعل المعصية مع أنه قد استغفر منها فنقول: مهما عملت ومهما تكرر منك الذنب ما دمت تستغفر فإن الله تعالى يغفر لك.
9 -
توبيخ من أصرَّ على الذنب وهو عالم به؛ لقوله: {وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ولهذا قال العلماء: إن الإصرار على المعصية الصغيرة يجعلها كبيرة؛ لأن إصراره عليها يدل على تهاونه بمَنْ عصاه.
* * *
• ثم قال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]:
{أُولَئِكَ} : هنا إشارة وخطاب، الإشارة مأخوذة من قوله "أولاء"، والخطاب من "الكاف" في قوله:"أولئك"، ويجب أن نعلم من حيث اللغة العربية أن اسم الإشارة يكون بحسب المشار إليه، وأما كاف الخطاب فبحسب المخاطب، ثم إذا كانت بحسب المخاطب فهل تبقى مفردة مفتوحة مبنية على الفتح، أو تكون بحسب المخاطب تذكيرًا وتأنيثًا وتثنية وجمعًا وإفرادًا، أو تكون بالفتح للمذكر مطلقًا ولو جمعًا أو مثنى، وبالكسر للمؤنث مطلقًا ولو جمعًا أو مثنى؟ في هذا ثلاث لغات للعرب:
اللغة الأولى: أنها لازمة للفتح باعتبار أن المخاطب اسم جنس، فإذا قلت:(ذلك) تخاطب اثنين فالمعنى أنك تخاطبهما باعتبار جنس المذكور أو باعتبار جنس الشخص.
اللغة الثانية: أنها بالفتح للمذكر مطلقًا، وبالكسر للمؤنث مطلقًا. ومعنى الإطلاق أي في حالة التثنية والجمع والإفراد.
اللغة الثالثة: هي الأفصح أنها بحسب المخاطب مطلقًا، فإذا كان مفردًا مذكرًا فهي بالفتح مفردة. وإذا كان مثنى فهي بالتثنية، وإذا كان جماعة ذكور فهي تقترن بالميم، وإذا كان جماعة إناث فهي تقترن بالنون، قالت:{فَذَلِكُنَّ} [يوسف: 32]
لأنها تخاطب جماعة نسوة، وقال:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] لأنه يخاطب اثنين، وقال:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 54] لأنه يخاطب جماعة ذكور، هذا هو الأفصح، فهنا يقول:{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ} الخطاب لواحد يعني أولئك أيها المخاطب، والإشارة لجمع يعني أولئك المتقون أيها المخاطب.
{جَزَاؤُهُمْ} أي ثوابهم ومكافأتهم على عملهم مغفرة من ربهم يكون بها النجاة من النار {وَجَنَّاتٌ} يكون بها حصول المطلوب في جنات النعيم.
{مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي عفو وتجاوز عن الذنوب وستر عن الخلق.
{وَجَنَّاتٌ} جنات جمع؛ لأن الجنة درجات كثيرة ومنازل متنوعة يختلف الناس فيها بحسب أعمالهم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أهل الجنة يتراءون الغرف كما نتراءى الكوكب الدري الغابر في الأفق، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم؟ قال:"بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"
(1)
. فهذه منازلهم، نسألك اللهم من فضلك، اللهم اجعلنا منهم.
هذه المنازل يختلف الناس فيها. أهل الجنة يتراءونها مثل ما نرى الكوكب الدري المضيء الغابر في الأفق بعيدًا جدًّا، ليس فوق
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3256). ورواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب، رقم (2831).
مسافة الرؤوس بل هو بعيد، فهي درجات، ولهذا تجمع، وأعلى ما فيها الفردوس؛ لأن فوقه عرش الله جل جلاله، وهو وسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة، ووصفها الله بأنها جنات لأن فيها من أنواع النعيم ما لا يخطر على البال، فهي دار لا يمكن أن يدرك الإنسان كنهها وحقيقتها؛ لأنها أعظم من أن تدركها مخيلتنا، قال الله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وقال تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"
(1)
.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
{مِنْ تَحْتِهَا} قال العلماء: أي من تحت قصورها وأشجارها لا من تحت أرضها؛ لأنه لو كان من تحت أرضها لكانت في الأسفل في قعر، ولكنها تمشي على سطح أرض الجنة تحت القصور والأشجار، وقد ورد في الأثر أن هذه الأنهار تجري بلا أخدود وبلا حفر
(2)
. وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت
…
سبحان ممسكها عن الفيضان
تجري على الأرض بدون أن يكون لها أخدود يعني سواقٍ أو حفر، ومع هذا تجري حيث أراد الإنسان.
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3244). ورواه مسلم، كتاب صفة الجنة ونعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يُرى الكوكب، رقم (2824).
(2)
رواه الطبراني (1/ 384 رقم 509 - 510 - 511) في تفسيره عن مسروق، ورجاله ثقات.
وقوله: {الْأَنْهَارُ} جمع نهر، وقد بيَّن الله تعالى في سورة محمد أنها أربعة أنواع:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]. {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} يعني لا يقبل أن يكون آسنًا بخلاف ماء الدنيا فإنه يكون آسنًا أي متغيرًا، فإنه إذا تأخر وأبطأ تغير، أما ماء الجنة فلا يتغير {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بخلاف ألبان الدنيا فإنها تتغير إذا زادت عن المدة تغيرت وفسدت. {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} لذة {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] لا توجع الرأس، ولا تغتال العقول، وأشد ما يكون من اللذة. الرابعة {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أنهار من العسل ليس من عسل النحل الذي يكون نصفها أو أكثر شمعًا ولكنه من عسل مصفى.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : أي ماكثين فيها مكثًا طويلًا، وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن هذا الخلود خلود تأبيد، وقد أجمع علماء أهل السنة على أنها -أي الجنة- مؤبدة بما فيها من النعيم.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : الجملة هنا إنشائية للمدح والثناء. الثناء على هذا الأجر العظيم و {أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي ثوابهم، وجعله ذو الفضل والإحسان أجرًا ليكون الإنسان مطمئنًا على الحصول عليه إذا قدَّم العوض وإلا فالمنة لله عز وجل أولًا وآخرًا، لكن يمنّ علينا والحمد لله بالعمل ثم يمنُّ علينا ثانيًا بالجزاء، ويقول:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] كأننا نحن محسنون استقلالًا وابتداءً، فإذا أحسنّا فجزاؤنا أن يحسن إلينا
مع أنه سبحانه وتعالى هو الذي أحسن إلينا أولًا وآخرًا، كذلك
يقول جل وعلا: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 22] سبحان الله، يمنّ علينا بالسعي ويوفقنا له ويعيننا عليه ثم يشكرنا عليه، هذا والله هو غاية الفضل والإحسان فله الحمد والشكر. {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الذين يعملون لهذا الأجر العظيم، وقوله:{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} نقول في إعرابها: إن {أَجْرُ} فاعل، والمخصوص محذوف تقديره:(نعم أجر العاملين هو) أو الجنة كما قال الشاعر:
نعمت جزاء المتقين الجنة
…
فيها الأماني والمُنا والمِنَّة
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان جزاء المتقين وأنه جزاء لا يدركه الإنسان بتصوره؛ لأنه أعظم مما يتصور.
2 -
أن جزاءهم متضمن لحصول المطلوب ودرء المكروه، يؤخذ من قوله (المغفرة)(وجنة) فبالمغفرة درء المكروه، وبالجنة حصول المطلوب.
3 -
أن مغفرة الله عز وجل للمرء من أعظم الثواب، فلا تغفل أن تكثر من سؤال المغفرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه سورة النصر يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:"سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، رقم (817). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (484).
4 -
بيان حال الجنات التي وعدها المتقون وما يصوره قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} من النعيم العظيم.
5 -
أن أهل الجنة خالدون فيها؛ لقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} وقد دلَّت النصوص على أن هذا التخليد أبدي.
6 -
عظم هذا الأجر؛ لأن العظيم إذا أثنى على شيء دلَّ على عظمه، والله سبحانه وتعالى هو العظيم جل وعلا وقد أثنى على هذا النعيم.
7 -
بيان فضل الله عز وجل على عباده حيث جعل هذا الجزاء أجرًا بمنزلة الأجر المحتم الذي لابد من أن يناله العبد.
فإذا قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يُدخل أحدًا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة. . ."
(1)
، وظاهر الآية التي معنا أن هذه الجنة التي أعدت لهم هي أجرٌ وعوض على ما قاموا به من العمل؟
والجواب عن هذا أن نقول: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" أي على سبيل المكافأة أي أن الجزاء يكافئ العمل ويكون عوضًا عنه، وأما على أنه سبب من الأسباب ولكن الله بفضله جعله بمنزلة العوض فهذا ثابت، فأعمالنا سبب ولو قوبلت بنعم الله لم تكن شيئًا. لو أنك جمعت نعم الله عليك وقارنت بينها وبين عملك لكان العمل ضئيلًا جدًّا ولا يساوي شيئًا. لو أصيب الإنسان بضيق في نَفَسه لكان يبذل لك ما يملك من أجل زوال هذه
(1)
رواه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم (5673). ورواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، رقم (2816).
المحنة، كذلك البول، الغائط، السمع، البصر إلى غير ذلك، نعمٌ كثيرة لا يقابلها العمل، وقد قال بعض الشعراء:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
…
عليَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العمر
(1)
فإذا وفقت للشكر وشكرت الله فهي نعمة؛ لأن الله قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وما أكثر الذين كفروا نعمة الله، ثم إذا شكرت الله قلنا إنها نعمة تحتاج أيضًا إلى شكر آخر، فإذا وفقت لشكر الشكر فهو نعمة ثالثة تحتاج إلى شكر وهلم جرا، ولهذا قال:
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العُمْرُ
والمصرُّ هو الذي يبقى على الذنب وكأنه ليس بذنب، أما الإنسان الذي يتوب ثم تغلبه نفسه في المستقبل ويفعل المعصية فهذا ليس مصرًّا، ولهذا ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:"أن رجلًا أذنب فاستغفر الله، ثم أذنب فاستغفر الله، ثم أذنب فاستغفر، ثم أذنب فاستغفر، فقال الله تعالى: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء"
(2)
. فكون الإنسان كلما أذنب استغفر، وكلما استغفر عاد فأذنب لا يبطل توبته الأولى.
وهل إذا تاب من ذنب وهو مصرٌّ على آخر تقبل توبته من هذا الذنب أو لا؟
(1)
البيتان للشاعر محمود الوراق. انظر: كتاب الصناعتين الكتابة والشعر (1/ 232)، وكتاب المستظرف (1/ 503)، وكتاب تاريخ دمشق (5/ 190).
(2)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ. . .} رقم (7507). ورواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم (2758).
ذكرنا أن في هذا خلافًا للعلماء رحمهم الله، فمنهم من قال: لا تقبل، ومنهم من قال: تقبل مطلقًا، ومنهم من قال: إن كان الذنب الذي هو مصرٌّ عليه من جنس الذنب الذي تاب منه فإنها لا تقبل، وإن كان من غير جنسه قبلت، فمثلًا إذا تاب من غش الناس في البيع لكن غشَّهم في الإيجار لم تقبل توبته؛ لأن هذين الذنبين من جنس واحد وإن اختلف محل الغش، والصحيح أنها تقبل إذا تاب من ذنب ولو أصرَّ على مثله أو على جنسه، ولكنه لا يستحق الوصف المطلق في مدح التوابين يعني لا يدخل في مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] إنما يقال: هذه توبة مقيدة.
* * *
• ثم قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]:
قوله: {قَدْ خَلَتْ} جملة محققة (بقد) لأن {قَدْ} إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد التحقيق، وإذا دخلت على الفعل المضارع تفيد التقليل، وقد تفيد التحقيق بالقرائن، فقول القائل: قد يجود البخيل، هذه للتقليل. وقوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 18] هذه تفيد التحقيق. أما إذا دخلت على الماضي فإنها تكون للتحقيق كقول المقيم: قد قامت الصلاة.
{قَدْ خَلَتْ} : أي مضت.
{مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} : الخطاب لهذه الأمة، والسنن جمع سنة وهي الطريقة، والمراد بها سنن الله عز وجل في المكذبين حيث يأخذهم ويدمرهم كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]. قال: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} يعني أهلكهم وأبادهم {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} من هذه الأمة. إذن سنن جمع سنة وهي الطريقة، والمراد بها طريق الله تعالى في المكذبين للرسل حيث تكون عاقبتهم الهلاك والدمار.
وقوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} الفاء هنا للترتيب وهي عاطفة، عطف جملة على جملة. {فَسِيرُوا} فعل أمر من السير وهو المشي، والمراد به هنا سير القلوب وسير الأقدام، أما سير القلوب فهو بالتفكير، أن يتفكر الإنسان في الأمم السابقة عليه زمنًا، وكذلك يتفكر في الأمم السابقة عليه مكانًا كما قال تعالى:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138] فالإنسان يسير بقلبه ويسير بقدمه، أما سيره بقلبه فهو أن يتفكر في عاقبة من مضى زمنًا وفي عاقبة من مضى مكانًا، فمثلًا ديار ثمود موجودة الآن يفكر الإنسان فيها زمنًا أو مكانًا، فينظر كيف كان عاقبتهم، والسير بالقدم قد يكون أشد وقعًا من السير بالقلب؛ لأن الإنسان يصل به إلى حق اليقين، والمشاهدة بالعين والسير بالقلب أعم وأشمل؛ لأن الإنسان يصل به إلى ما لا يمكنه الوصول إليه بالسير قدمًا.
وقوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} : (في) ظرفية ولكنها عند المفسرين هنا بمعنى (على) أي سيروا على الأرض؛ لأن السير في جوف الأرض غير ممكن وغير مفيد أيضًا، وإنما يفيد السير على ظهر الأرض.
وقوله: {الْأَرْضِ} أي أرض من سبق فـ (أل) هنا للعهد
المفهوم من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} : أي سيروا في أرضهم وانظروا كيف كانت عاقبتهم.
وقوله: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : انظروا بعين البصر وبعين البصيرة جميعًا، فإن وصل إلى مكان هؤلاء الأمم فالنظر يكون بعين البصر وبعين البصيرة، وإن لم يصل ولكنه فكَّر بقلبه فالنظر يكون بعين البصيرة؛ لأن البصر لا يمكن أن يصل إليه وهو ينظر في قلبه.
"وانظروا": فعل أمر، وهي تنصب المفعول به لكنها عُلِّقت عن العمل لأنه وليها جملة استفهامية، والجملة الاستفهامية إذا وليت الفعل المتعدي علقته عن العمل. وعلى هذا تكون الجملة في قوله:{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في محل نصب مفعول (انظروا)، أما إعراب {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} تفصيلًا:
{كَيْفَ} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر (كان) مقدمًا، وتقديمه هنا واجب؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام، فإذا وقع خبرًا وجب تقديمه، و {عَاقِبَةُ} اسمها و {الْمُكَذِّبِينَ} معروف أنه مضاف إليه.
{عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي مآل أمرهم، وعاقبة الشيء ما يعقبه ويعود إليه الشيء. و {الْمُكَذِّبِينَ} هنا المراد بهم: المكذبين لله ورسله فماذا كان عاقبتهم؟ كان عاقبتهم الهلاك والدمار، وعقوبتهم على حسب ذنوبهم كما قال تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت: 40] الذين أرسل الله عليهم حاصبًا مثل قوم لوط {إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]{وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} كثمود قوم صالح. {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} كقارون. {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} كفرعون وقوم نوح، أغرقهم الله عز وجل حسبما تقتضيه الحكمة.
والعقول قاصرة غالبًا عن معرفة تناسب العقوبة والعمل. وأقول غالبًا، لأنها أحيانًا قد تعرف المناسبة، فمثلًا: نحن نعرف مناسبة إهلاك عاد بالريح، وهي أنهم كانوا يقولون:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فأراد الله عز وجل أن يريهم أنه يهلكهم بما هو من ألطف الأشياء وهو الريح (الهواء)، الهواء لطيف ومع ذلك دمَّر الله به هذه الأمة التي تفخر بقوتها.
في آل فرعون؛ كان فرعون يعتز بالأنهار التي تجري من تحته، ويقول لقومه:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51، 52]، فأهلكه الله عز وجل بجنس ما افتخر به وهو الماء.
وأما الباقي فلا أستطيع أن أحدد التناسب بين العمل وبين العقوبة، لكن قوله تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] يدل على أن العقوبة تناسب العمل، ومن الأمثال المشهورة عند الناس:(كما تدين تدان)
(1)
.
(1)
انظر: "مجمع الأمثال"(3093) لأبي الفضل الميداني، ط. دار المعرفة، بيروت. ت. محمد محيي الدين عبد الحميد.
"أي: كما تجازي تجازى. أي: تجازَى بفعلك، وبحسب ما عملت، وقيل: كما تَفْعل يُفعل بك". لسان العرب (13/ 169) ط. دار صادر بيروت. =
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله سبحانه قد أهلك أممًا قبل هذه الأمة؛ لقوله سبحانه {سُنَنٌ} وسنن جمع كثرة لا جمع قلة.
قال ابن مالك رحمه الله:
أَفْعِلَةٌ أفعُلُ ثم فِعْلَةٌ
…
ثُمَّتَ أفعَالٌ جموعُ قِلَّة
يعني أنَّ جمع القلة محصور بهذه الأوزان الأربعة فقط: أفعِلة، أفعل، ثم فِعلة، ثمت أفعال، جموع قلة.
2 -
تسلية هذه الأمة من وجه، وتحذيرها من وجه آخر.
تسليتها بأن الله سبحانه وتعالى قد عاقب من قبلها، فعقوبته لها في غزوة أُحُد من سنن الله عز وجل؛ لأنه لا شك أن ما حصل في أُحد عقوبة {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152].
وفيها أيضًا تحذير من جهة أخرى من عقوبة أشد؛ لأن الأمم السابقة أهلكوا ودمروا عن آخرهم.
3 -
إثبات القياس؛ لأن المقصود بقوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} النظر والاعتبار، وأن يقاس ما حضر على ما مضى وسلف.
4 -
الأمر بالسير في الأرض، ولكن هل هو على إطلاقه أو من أجل الاعتبار فقط؟
لننظر {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} إذن السير في الأرض
= وهو لفظ حديث، رواه البيهقي، في "الأسماء والصفات"، رقم (79). وذكره العلامة الألباني، في سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم (1576).
لغير غرض شرعي مذموم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(1)
وغيره من أهل العلم؛ لأن السير في الأرض من غير غرض شرعي فيه إتعاب للنفس، وتعريضها للهلاك، وإضاعة المال، وإضاعة الوقت، أما إذا كان لغرض شرعي فهو على حسب هذا الغرض.
وعلى هذا فإن السير في الأرض ينقسم إلى أقسام:
قسم لأغراض محرمة، وهذا لا شك في تحريمه. وقسم آخر لأغراض مشروعة مطلوبة، وهذا لا شك في طلبه. وقسم ثالث لمجرد الفرجة والنزهة، وهذا ينظر فيه، فالأصل فيه الإباحة، ولكن إن توصل به الإنسان إلى محرم كان حرامًا، وإن توصل به إلى مشروع كان مشروعًا.
فمثال الأول وهو السير في الأرض من أجل الحرام: ما يفعله بعض الناس المترفون الذين يسيحون في أرض الكفر وأرض المجون من أجل أن يحصلوا على مآربهم التي لا يستطيعون الحصول عليها في بلادهم، وهذا لا شك أنه حرام، فالسفر لهذا الغرض حرام، ونفس هذا الغرض حرام، وإضاعة المال حرام، فهو حرام مركب، ظلمات بعضها فوق بعض، والعياذ بالله.
ومثال الثاني الذي يكون لغرض مشروع: السير في الأرض لطلب الرزق الواجب، كإنسان ليس عنده ما يقوته وأهله، فسار في الأرض من أجل الحصول على الرزق، وكذلك أيضًا السير في الأرض لطلب العلم، وقد كان السلف رحمهم الله يسيرون في الأرض لطلب العلم مسيرة شهر من أجل مسألة واحدة، يرحلون
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 327).
ارتحالًا في الأرض من أجل مسألة واحدة، والسفر في ذلك الوقت ليس كالسفر في وقتنا هذا، كان فيه مشقة، وفيه أخطار كبيرة.
أما السفر لا لهذا ولا لهذا مثل سفر بعض الناس للاستجمام والنزهة في أيام الإجازة -إجازة الأعياد وما أشبهها- وهذا نقول: ليس فيه بأس في الأصل، لكن قد يكون مفضيًا إلى خير فيكون خيرًا، كما لو كان في هذا السير صلة رحم، أو بر الوالدين أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون في هذا الحال أمرًا مطلوبًا.
وهنا مسألة: وهي إذا سار في الأرض لأمر شرعي كالعلاج لكن صاحبه أمر محرم فهل يمنع من هذا السير؟
الجواب: أنه إذا كان لا يمكن أن يسير للعلاج إلا بارتكاب هذا المحرم صار هذا حرامًا، وذلك لأن العلاج بالمحرم حرام؛ لأن ارتكاب المحرم ضرر محقق، والشفاء من المرض مصلحة متوقعة غير متيقنة، ولولا هذا لقلنا: إن من احتاج إلى أكل لحم الخنزير للعلاج جاز له أن يأكله مع أنه لا يجوز، وهذا هو الفرق بين جواز أكل لحم الخنزير للجوع، وأكل لحم الخنزير للاستشفاء. الثاني حرام، والأول جائز؛ لأن أكل اللحم عند الجوع يفيد قطعًا، فإنه يدفع الجوع، ويسد رمق الإنسان، لكن علاجه بالمحرم قد ينجع وقد لا ينجع، فهو يرتكب مفسدة محققة لتوقع مصلحة موهومة، وإن شئت فقل راجحة أيضًا، لكن ليس الراجح كالمتيقن، ولهذا جاء في الأثر من قول ابن مسعود:"إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"
(1)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل.
السير في الأرض التي أُهلك أهلها هل هو من الأمور المطلوبة؟
نقول: نعم، إذا كان المقصود بهذا الاتعاظ، أما إذا كان المقصود بهذا التفرج على قوة القوم، وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ بديار ثمود في ذهابه إلى تبوك مرَّ مسرعًا مقنعًا رأسه عليه الصلاة والسلام خائفًا، وقال عليه الصلاة والسلام:"لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم"
(1)
. وهذا خلاف ما يفعله بعض الناس الذين ماتت قلوبهم، يذهبون إلى ديار ثمود من أجل الاطلاع على مآثرهم وآثارهم وقدرتهم، فهذا لا شك أنه حرام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فقال:"لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم".
5 -
أن عاقبة المكذب لله ورسله وخيمة؛ لقوله: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .
* * *
• ثم قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]:
{هَذَا} المشار إليه هل هو القرآن أو ما ذكر من قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] إلى آخر الآية؟
(1)
أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} ، رقم (4702). ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، رقم (2980).
في هذا قولان للمفسرين:
أ - فمنهم من قال: إنه عائد إلى القرآن، لجريان ذلك كثيرًا في كتاب الله، كقوله تبارك وتعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها الإشارة التي تعود إلى القرآن نفسه. فتكون (هذا) أي القرآن بيانًا للناس.
ب - ومنهم من قال: إنه عائد إلى أقرب ما ذكر؛ لأن اسم الإشارة والضمير كلاهما يعودان على أقرب مذكور، ولكن الأول أولى أن يكون عائدًا إلى القرآن كله، ومنه هذه الآية؛ لأن هذه الآية من القرآن، فإذا جعلنا {هذا} هو يعود على القرآن كله صار من ضمنه ما ذكر في قوله:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وقوله: {بَيَانٌ لِلنَّاسِ} . {بَيَانٌ} اسم مصدر، بيَّن، يبيِّن تبيينًا، مثل بدَّل يبدّل تبديلًا ومثل: كلَّم يكلِّم تكليمًا، واسم المصدر: كلام.
وقوله: {هَذَا بَيَانٌ} إذا قلنا إنه اسم مصدر فقد عبَّر باسم المصدر الذي هو البيان عن الموصوف بالبيان. وهذا من باب المبالغة أن يجعل الموصوف هو الصفة نفسها، كأننا سلبنا اتصافه بها حتى جعلناه هو نفس الصفة، ولهذا يقولون: إن قول القائل (فلان عدل) أبلغ من قولهم: (فلان ذو عدل) كأنه جعل هذا الموصوف هو الصفة. إذن القرآن ليس فيه البيان، بل هو نفسه البيان {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} .
كيف كان القرآن وهو عربي بيانًا للناس كلهم وفيهم العجم الذين لا يعرفون لغة العرب؟
نقول: لأن هؤلاء سيقيض لهم من يبلغهم إياه، ولهذا كثير من علماء المسلمين الآن الذين لهم قدم صدق في العلم والدين، كثير منهم عجم. وإن شئتم فاعجبوا! إن مرجع أكثر الناس في اللغة العربية الآن كتاب "القاموس المحيط" الذي ألفه أعجمي: الفيزوزآبادي رحمه الله. وفي النحو من إمام البصريين؟ سيبويه رحمه الله.
فالحاصل: أن العجم -والحمد لله- بلغهم القرآن بواسطة، ليس لازمًا أن يأخذوه بأنفسهم، وبعضهم تَعَرَّب وصار لسانه عربيًا.
كل الناس، كل من قرأ القرآن تبيّن له ما دلَّ عليه القرآن، ولكن هل كل من بان له ذلك يهتدي؟
الجواب: لا. ولهذا قال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ، هدى بمعنى دلالة يستدل بها المتقي. وموعظة بمعنى امتثال؛ لأن الموعظة هي تليين القلوب بذكر ما يخاف منه، أو ذكر ما يرغب فيه، فهو هدى يعني دلالة، وموعظة يعني امتثالًا.
فوصف الله القرآن بثلاثة أوصاف، وصف عام، ووصفان خاصان، الوصف العام هو (بيان للناس)، والخاصان (هدى)(وموعظة). فإنه لا يهتدي به إلا المتقون، ولا يتعظ به إلا المتقون. أما مَن ليس كذلك فهو عليهم عمى والعياذ بالله، ولا يزدادون به اتعاظًا، بل يقول الله عز وجل:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} أي نجاسة إلى نجاستهم، {وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125].
فسبحان الله، كلام واحد يكون له هذا التأثير المتباين؛ في
قوم هدى وموعظة، وعلى قوم عمَى ورجس؛ لأن القلوب بمنزلة الأراضي، الأراضي منها أرض طيبة تقبل الماء، وتنبت الكلأ، وينتفع بها الناس، ومنها أرض صلبة، لا تشرب الماء، ولكن تحفظ الماء، فينتفع به الناس، ومنها أرض سَبخَة قِيعَان، تشرب الماء ولكنها لا تنبت، فيزيدها الماء ضررًا؛ لأنها إذا كانت يابسة أمكن السير عليها، وإذا كانت رطبة لا يمكن السير عليها، تكون زلقًا وحرًا، ومع ذلك لا ينتفع بها الناس، لا بماء تحبسه، ولا بنبات تخرجه، فهكذا القرآن بالنسبة للناس؛ منهم من ينتفع به ويزداد هدى وتقوى، ومنهم من لا ينتفع به، بل لا يزداد إلا عمى وضلالة، لأنه كلما كذب بآية ازداد إثمًا وعقوبة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن القرآن بيان للناس في كل شيء، فهو عام من حيث التبيين، وعام من حيث المبيَّن له، المبيَّن له نأخذ العموم من قوله:{لِلنَّاسِ} ، والتبيين من كونه حذف المتعلق، وحذف المتعلق يدل على العموم {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} لكل شيء، ويؤيد هذا الآيات التي ذكرناها آنفًا كقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
2 -
أن القرآن صالح لهداية المؤمن والكافر؛ لقوله: {لِلنَّاسِ} فهو يشمل المؤمن والكافر.
3 -
أنه عِلْمٌ لكن للمتقين، يعني لا ينتفع به إلا المتقون؛ لقوله:{وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} .
4 -
أن من لم يتعظ بالقرآن فليتهم نفسه؛ لقوله تعالى: {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} فإذا لم تتعظ بالقرآن فاتهم نفسك، فإن فيك
بلاء، كما أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليتهم نفسه، فإن صلاته قاصرة؛ لأن الذي أخبر بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر هو الله عز وجل، وخبره صدق مطابق للواقع، فإذا علم الإنسان من واقع نفسه أن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر فليتهم نفسه؛ لأن خبر الله لا يُتَّهم، ولهذا قال بعض السلف من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فإنها لا تزيده من الله إلا بُعدًا -نسأل الله العافية ونسأل الله أن يعيننا- فإذا لم تتعظ فاتهم نفسك بأنك غير متقٍ؛ لأن المتقي لابد بأن يتعظ بالقرآن.
5 -
فضيلة التقوى، وأنها سبب للاهتداء والاتعاظ بالقرآن.
6 -
أنه كلما ازداد الإنسان تقوى ازداد هدى وموعظة؛ لأن الحكم المعلق بوصف يقوى بقوّته، ويضعف بضعفه، فإذا كان الهدى والموعظة معلقًا بالتقوى فإنه لابد أن يزداد ويقوى بالتقوى، ويضعف وينقص بعدم التقوى.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
في هذه الآية نهي المؤمنين عن الوهن.
قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} :
(لا) ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها بحذف النون (تهنوا) وأصله (تهنون) فحذفت النون من أجل الجزم.
{وَلَا تَهِنُوا} ، الخطاب لهذه الأمة، وعلى رأسها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والوهن: الضعف؛ يعني لا تضعفوا، كما قال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104]. أي: لا
تضعفوا وتجبنوا، ولا تحزنوا على ما أصابكم وأنتم الأعلون. فذكر الله سبحانه وتعالى حال إقدامهم وحال إدبارهم، حال إقدامهم نهاهم عن الضعف، وهذا يعطيهم قوة وإقدامًا، وحال إدبارهم نهاهم عن الحزن، وهذا يعطيهم إعراضًا عما وراءهم وعدم الالتفات إليه. ومعلوم أن الحزن يكون فيما يسوء، والحزن على ما مضى لا يفيد الإنسان، بل يفتر عزيمته، ويقلق راحته، ولا يستفيد منه بشيء، فلهذا نهاهم الله سبحانه وتعالى عما يعوقهم حال الإقبال، وعما يعوقهم حال الإدبار.
(لا تهنوا) عما يكون سببًا لتوقفهم في حال الإدبار؛ لأن الإنسان إذا حزن على ما مضى بقي قلقًا لا يحسن التصرف فنهاهم عن هذا وهذا.
ثم قال: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} وقد اختلف المفسرون في الواو هنا هل هي حالية أو استئنافية؟ .
إذا قلنا: إنها حال يعنى: والحال أنكم أنتم الأعلون، صار هذا النهي منحطًا على الأمة ما دامت هي العليا؛ لأن الأعلى لا يليق به أن يضعف أو يحزن. يعني فإذا انخفضت فلها أن تهن، ولها أن تحزن؛ لأنها ضعيفة لا يمكنها أن تتقدم، ولا يمكنها أن تتسلى عما مضى، لأنها كيف تتسلى وبأي شيء؟
وإذا جعلنا (الواو) استئنافية {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} يقرر الله فيها علو المؤمنين، وإذا تقرر علوهم فإن حالهم تقتضي أن لا يهنوا ولا يحزنوا، فيصير فيها تشجيع للأمة بأن لا يضعفوا ولا يحزنوا، لأنهم هم الأعلون حتى لو أصيبوا بما يصابون به فيما تقتضيه حكمة الله بمداولة الأيام بين الناس فإن العاقبة لهم،
وعلى هذا فيكون هذا الوجه الثاني هو أقرب إلى الصواب، وإن كان الوجه الأول محتملًا.
والمعنيان متلازمان؛ لأن من اعتقد أنه الأعلى فسوف لا يجبن ولا يحزن، ومن كانت حاله العلو فإنه كذلك لن يضعف ولن يحزن.
وفي قوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} إشكال من جهة الإعراب؛ لأن المعروف أن واو جمع المذكر السالم يضم ما قبلها، فيقال: مسلمُون، ولا يقال مسلمَون وهنا قال: وأنتم الأعلَون، ولم يقل: وأنتم الأعلُون.
الأعلون مفردها الأعلى، حذف الألف لالتقاء الساكنين، الألف ساكنة، والواو ساكنة، وإذا حذفت الألف لالتقاء الساكنين، يجب أن تبقى الحركة التى قبلها وهى الفتحة على ما هي عليه؛ لأنك لو ضممتها لم يتبين أن هناك ألفًا محذوفة، فأبقيت الفتحة لتكون دالة على الألف المحذوفة.
والإنسان في الحقيقة بين زمن ماضٍ وزمن مستقبل، فإذا فاته الخير أو حصل له الشر في الزمن الماضي فحاله الحزن، يحزن على ما مضى، وإذا ضعف وجبن فاته من الخير في المستقبل بقدر ضعفه وجبنه، ولهذا قال:{وَلَا تَهِنُوا} يعني عن العمل في المستقبل، {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما جرى عليكم في الماضي لأنكم أنتم الأعلون، ومن كان الأعلى فستكون العاقبة له.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} :
هذا شرط للعلو؛ يعني أنتم الأعلون في حال كونكم
مؤمنين، والإيمان أخص من الإسلام؛ لأن الإسلام يقع من المنافق وضعيف الإيمان، والإيمان لا يكون إلا من كامل الإيمان، من المؤمن حقًّا، ولهذا قال الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الأعراب البادية {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} لماذا؟ قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، حتى الآن لم يدخل الإيمان في القلب، عندكم إسلام لكن ليس عندكم إيمان، إلا أن الإيمان قريب منكم؛ لأن قوله:(لما) حرف نفي يدل على قرب المنفي؛ يعني أن الإيمان قريب ما يدخل قلوبكم أما الآن فلا.
إذن هذه الأمة هي العليا بشرط الإيمان، أما إذا لم يكن لديها إيمان فليس لها عهد عند الله بالنصر؛ لأن العهد الموثق بين الله وبين عباده بالنصر، هو أن يكون النصر متبادلًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، {وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، أما إذا لم يكن منا نصرٌ لله عز وجل فإن نصر الله قد يتخلف، يعني ليس بمضمون.
إذن {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وعلامات الإيمان كثيرة، منها:
أن لا يخاف الإنسان في تنفيذ حكم الله أحدًا من الخلق، فإن خاف أحدًا من الخلق فليس بمؤمن، ودليل ذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] يخوّف أولياءه: يعني يخوفكم أولياءه، أي من أوليائه. ويوقع الخوف على أوليائه؟
ولهذا نقول: إن قوله (أولياءه) مفعول ثان لـ (يخوف)، والمفعول الأول محذوف، وتقدير الكلام (يخوفكم أولياءه) يعني يوقع الخوف في قلوبكم من أوليائه.
قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] ، فماذا قالوا؟ قالوا {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فإذا خوَّف الشيطان أولياءه وهم الكفار، فإنه لا يجوز لنا أن نخافهم، بل نفعل ما أمرنا الله به.
غير أَنّ أمره سبحانه وتعالى لنا بقتل الكفار إنما يكون حين نمتلك القوة التي نستطيع أن نقاتلهم بها، أما أن نقاتلهم بسلاح دون سلاحهم، وأقل من سلاحهم بكثير فإن هذا يعتبر تهورًا، ولهذا لم يؤمر المؤمنون بالجهاد إلا حين صار لهم شوكة وقوة، فأما إذا لم يكن فلا، لكن هذا يستلزم أنه يجب علينا أن نتسلح لقتالهم حتى يكون الدين لله جل وعلا.
والخطاب هنا في إيجاب التسلح لولاة الأمر لا للأفراد؛ لأن أفراد الناس لا يستطيعون القيام بهذا، ويجب على ولاة الأمور من المسلمين أن يكوِّنوا جيشًا عرمرمًا مسلحًا بأحدث الأسلحة من أجل أن يقاتل الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. لكن مع الأسف أننا اليوم فقدنا حتى السلاح الدعوي، حتى الدعوة لدين الإسلام، لا نجد أحدًا يدعو كما ينبغي، بينما نجد النصارى على قدم وساق في الدعوة إلى ما هم عليه من الباطل،
يبذلون الأموال الكثيرة ويغامرون بأنفسهم في المجاهل، في الطرقات، في البراري، يحمل القسيس منهم كسرة خبز وجرة ماء، ويضرب الفلاوات من أجل أن يدعو واحدًا من المسلمين إلى أن يكون نصرانيًا، أما نحن مع الأسف الشديد فإننا لا نحمل هذه القوة المعنوية في نفوسنا، مع أننا نحن إذا دعونا فإنا ندعو إلى الحق، فإن ديننا -ولله الحمد- إذا عُرِضَ عرضًا صحيحًا في الدعوة، وعرضًا صحيحًا في التطبيق، فإن ذلك كفيل بأن يدخل الناس في دين الله أفواجًا.
أما إذا كنا ندعو إلى الصدق مثلًا ونحن من أكذب عباد الله، أو ندعو إلى الوفاء بالعهد ونحن من أغدر الناس، أو ندعو إلى حفظ الأمانة ونحن من أخون الناس. فهذا ليس بصحيح، بل هو تلاعب.
إذا كان ديننا ينهى عن الربا ومنا من يرابي، كيف تكون الدعوة؟ ! أين الدعوة؟ !
إذا لم تمثل الدعوة بحال الداعي تطبيقًا تامًا بقدر المستطاع، فإنه سينقص من قبول الناس بقدر ما نقص من تطبيقه، ولهذا نقول: إن الله شرط فقال: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وصدق الله ورسوله.
هل الأمة الإسلامية اليوم هي العليا؟
الجواب: لا؛ لأن الإيمان ناقص، وشرط أن تكون الأمة عليا هو الإيمان، فإذا لم يوجد الإيمان فسنتأخر، وسيكون من سوانا ممن لديه قوة مادية هو الأعلى.
إن الإنسان إذا كان عنده الإيمان، وفعل ما يجب عليه من
الاستعداد المادي، كما فعل الرسول وأصحابه عليه الصلاة والسلام، فسينصرون على عدوهم بقوة لا طاقة لعدوهم بها، لكن بشرط أن يبذلوا الجهد بالسلاحين: سلاح الإيمان، والسلاح المادي بقدر المستطاع. وإذا شئتم مثلًا على ذلك فانظروا إلى غزوة الخندق، اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عشرة آلاف مقاتل من مختلف العرب، وبأقوى السلاح، ومعهم القوة العظيمة التي لا تقابلها قوة المسلمين من حيث القوة المادية، ففعل المسلمون كل ما يستطيعون من الدفاع عن أنفسهم إلى حد أنهم حفروا خندقًا، قاموا بالواجب ولكن مع ذلك حوصروا نحوًا من شهر.
فما الذي حصل؟ أتى الله عز وجل بقوة لا قبل للكفار بها، ولا للمسلمين أيضًا، ليس لهم فيها حول، وهي الريح، ريح شديدة باردة وهي الريح الشرقية، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور"
(1)
، ريح شديدة باردة، وجنودٌ من الملائكة تلقي الرعب في قلوب هؤلاء، حتى رحلوا بين غروب شمس وشروقها. كانت الريح تكفئ قدورهم، وتهدم خيامهم، وتقلقهم إقلاقًا عظيمًا، حتى إن أبا سفيان وكان قائد الجيش في ذلك الوقت، كان يتصلى على النار مع أن النار غير مستقرة من شدة الهواء، وكان حذيفة بن اليمان قريبًا منه يقول: لو شئت لرميته بالسهم حتى يموت، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحدث شيئًا"، ولو كان من بعض شباب عصرنا لقال: هذا قد
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (4105). ورواه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، رقم (900).
أتى الله به ورماه، لكن منعه من ذلك امتثال أمر النبي عليه الصلاة والسلام الذي هو الحكمة، وإلا كان قتله سهلًا. فقال أبو سفيان: لينظر كل واحد منكم جليسه من هو؟ خاف أن يكون أحد من الناس من غير الجيش، يقول حذيفة: فأمسكت بيد رجل قريب مني قلت: من أنت؟ وهذا من ذكائه رضي الله عنه لئلا يسبقه أحد فيقول لحذيفة: من أنت
(1)
؟
وعلى كل حال فالمسلمون إذا بذلوا ما يستطيعون من القوة المعنوية وهي الإيمان، والقوى المادية وهي ما أمروا أن يعدوه للكفار، فإنهم سينصرون بقوة لا قبل لهؤلاء بها.
سمع رجل شخصًا يقرأ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]، فقال له: هذه الأوصاف الأربع: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، هذه الأوصاف كيف تقابل القنابل الذرية والهيدروجينية والكيميائية وغير ذلك؟
فماذا نجيب؟
نجيبه بخاتمة الآية {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. فالذي يملك عواقب الأمور هو الله عز وجل، ولهذا قدّم الخبر {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ، إذا كان الذي يملك عاقبة الأمور هو الله
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (22823).
فما أيسر هذه الأسلحة على الله عز وجل. فإن الله تعالى قادر أن يزلزل أرضهم بهم وبسلاحهم رجفة تفنيهم عن آخرهم، من فيضانات تدمرهم، ورياح تحملهم مثل ما حملت قوم هود. فيجب على الإنسان أن يعلم أنه إذا بذل ما يجب بذله من الإيمان والقوة المادية حسب ما أُمر، فإنه سينتصر مهما كان. لكن مع الأسف فاليقين عندنا ضعيف، بل الإيمان ضعيف، فقد فَقَدْنا الإيمان والعمل الصالح والحكمة، فتأخرنا كل هذا التأخر.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
ينهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن الوهن عن العمل في المستقبل، وعن الحزن على ما مضى؛ لأن هذا في الحقيقة كما أنه خلاف الشرع فهو خلاف العقل؛ لأن الحزن على ما فات لا يرد الفائت.
لو تحزن ليلًا ونهارًا على ما مضى لن تغير شيئًا، الذي مضى وقع كما هو لن يتغير، ولهذا كان من الحزم أن لا يحزن الإنسان على شيء مضى، بل يقول: قَدَرُ الله، وما شاء فعل.
كذلك الضعف عن العمل في المستقبل والوهن والخور كما أنه خلاف الشرع فهو خلاف العقل؛ لأن العقل يقتضي أن تقابل الأمور بجدٍّ وحزم، وفي الحديث:"الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"
(1)
.
2 -
أنه ينبغي للإنسان أن يكون قوي العزيمة لا يضعف ولا
(1)
رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه، رقم (2459). ورواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، رقم (4260). ورواه أحمد في مسنده، رقم (16674).
يجبن، وكم من إنسان ضعف وجبن ففاته خير كثير، ولو أقدم لحصل على خير كثير؛ لأن المستقبل لا تدري ما النتيجة فيه.
3 -
أن هذه الأمة هي العليا بشرط أن تؤمن؛ لقوله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
4 -
التلميح بالتوبيخ إذا حصل الوهن أو الحزن لاسيما إذا قلنا: إنَّ الواو هنا واو الحال؛ يعني: كيف يليق بكم أن تهنوا وتحزنوا وأنتم الأعلون؟ لأن الأعلى لا يليق به أن يهن أو يحزن.
5 -
أنه كلما ازداد إيمان الأمة ازدادت علوًّا؛ لأنه رتَّب العلو على الإيمان، والمرتب على شيء يزيد بزيادته وينقص بنقصه، وهذه الآية قريب منها قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ليظهره يعني: يبينه ويعليه، ومنه قولهم:(ظهر على الجبل) يعني علا عليه، ومنه ظَهْرُ الحيوان وهو أعلى الحيوان.
إذن {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] يعليه، فإذا أردت أن تعلو على البشر فخذ بهذا الدين؛ لأن هذا الدين لابد أن يكون هو الدين العالي على كل شيء.
* * *
• ثم قال تعالى مسليًا الصحابة رضي الله عنهم بقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]:
إن يمسسكم (قَرحٌ) وفي قراءة (قُرْحٌ) في الموضعين {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} فقيل: معناهما واحد، وأن القَرْح والقُرْح
هو الجرح، وقيل: إن القُرْح الجرح، والقَرْح ألم الجرح، والقولان إن قلنا باختلافهما متلازمان؛ لأن القَرْح من لازم الجرح الذي هو القُرح، فالإنسان المقروح لابد أن يكون متألمًا.
يعني: إن يمسسكم جراح وألم فقد مسَّ القوم قرح مثله يعني جرح وألم.
بل قال الله تعالى في نفس سياق الآيات: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، فإذا كان قد أصابتكم مصيبة فقد أصبتم مثليها، ففي أُحد قُتل منكم سبعون، لكن في بدر قُتل من عدوكم سبعون وأسر سبعون، ضعف.
هنا يقول: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وفي هذا تسلية للمؤمنين؛ لأن الإنسان إذا علم أن عدوه أصابه مثل ما أصابه فإنه تهون عليه المصيبة.
تقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرًا:
ولولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أسلي النفس عنه بالتأسي
ولهذا أشار في القرآن: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] فاشتراككم في العذاب لم ينفعكم ولم يخفف عنكم الألم، لكن الله عز وجل يقول للمؤمنين: إن كنتم قد أصبتم بقرح فقد أصيب عدوكم بقرح مثله، بل في آية أخرى يقول الله عز وجل:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي في طلبهم، يعني لا تضعفوا في طلبهم، اطلبوهم، اقتلوهم {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} صدق الله،
وأيضًا {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] هذه الفائدة العظيمة، هم لا يرجون شيئًا إنما يريدون علوًا واستكبارًا، خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس وأنتم ترجون الجنة، ترجون الشهادة، ولهذا قال:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} ، والصحابة ماذا قالوا لأبي سفيان في أُحد، لما قال: يوم بيوم والحرب سجال؟ يقصد بدرًا، يعني مرة لنا ومرة علينا.
قالوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
(1)
والعياذ بالله. إذن فالمؤمنون لا يظنون أن عدوهم لا يصيبه ألم ولا يصيبه قرح، يصيبهم، لا يهولهم دعايته الكاذبة أنه سيفعل ويفعل ويفعل، لا يهولهم هذا. إذا قتل منهم واحدًا ذاقوا ألم هذا المقتول، كما لو أنه قتل منا واحدًا ذقنا ألمه، لكن نحن نرجو من الله ما لا يرجون، ولهذا قال:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} هذه بهذه.
ثم قال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} :
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ} المشار إليه هنا بعيد، ولكنه في الحقيقة قريب، لأن الأيام هي الزمن فهي قريبة، لكن لما كانت الأيام منها ما هو بعيد ومنها ما هو قريب غلَّب جانب البعد {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أي: نجعلها بينهم دولًا: فمرة تكون الدولة لهؤلاء على هؤلاء، ومرة تكون الدولة لهؤلاء على هؤلاء. ففي بدر كانت الدولة على المشركين، وفي أُحد كانت الدولة على المؤمنين، فهذا مرة وهذا مرة، لحِكَمٍ عظيمة بيَّنها الله سبحانه وتعالى فيما بعد.
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (2604).
وقوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} يشمل مداولتها بين أمة وأمة، ويشمل كذلك مداولتها في الإنسان الواحد، فالإنسان يجد يومًا سرورًا ويجد يومًا آخر حزنًا. كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُساء ويوم نُسر
فالدنيا هكذا لا تبقى على حال واحدة، ولهذا يقال: دوام الحال من المحال، فالأيام دول.
وانظر إلى قوله: {نُدَاوِلُهَا} حيث أتت بصيغة نون العظمة إشارة إلى أن الله عز وجل لكمال سلطانه وكبريائه يديل الناس بعضهم على بعض، فتارة تكون أيامًا لهؤلاء وتارة تكون أيامًا لهؤلاء.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا} الواو هنا حرف عطف، فما هو المعطوف عليه؟ هل هي الجملة التي سبقت الأيام {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}؟ نقول: لا؛ لأن {وَلِيَعْلَمَ} تعليل للجملة التي قبلها وهي {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، والعلة غير المعلول ولا يصح عطفها عليه؛ لأن العلة هي السبب في وجود المعلول، إذن فهناك شيء معطوف عليه فيقدر بما يناسب الحال، فالذي يناسب هنا هو أن نقول: إنَّ التقدير {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ليتبين بذلك تمام سلطان الله عز وجل، وأن الله عز وجل هو الذي له الحكم يحكم في عباده بما يشاء؛ فيخذل أقوامًا وينصر آخرين، ويأتي بالعسر ويأتي باليسر حتى يتبين بهذا تمام سلطانه سبحانه وتعالى. حتى المخلوقات بعضها فيها خير وبعضها فيها شر، كل هذا ليظهر للناس تمام السلطان للعلي الكبير سبحانه. إذن فالواو هنا حرف عطف.
{وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا} علم وجود وعلم يترتب عليه الجزاء، وإنما قلنا بذلك لأن الله تعالى قد علم الذين آمنوا قبل أن يؤمنوا، فإن علم الله بالأشياء علم أزلي قديم يعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، لكن يعلمه علم وجود، أي: يعلمه موجودًا، أما العلم السابق فإنه يعلمه أنه سيوجد، وهناك فرق بين علمه الشيء موجودًا حال وجوده وبين علمه الشيء بأنه سيوجد، فهذا هو الأول.
والثاني: يعلمه علمًا يترتب عليه الجزاء، وذلك حين يوجد الإيمان أو يُفقد، أما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الجزاء، وذلك لأن المؤمن لم يكن موجودًا بعد حتى يجازى أو لا يجازى، وبهذا يزول الإشكال الوارد على مثل هذه الجملة، ويحصل به الجواب عن الإشكال، وهو أن يقال: إن الله عز وجل قد علم الذين آمنوا من قبل، فإنه سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، وقد علم المؤمن من غيره من قبل، فكيف يقول:{وَلِيَعْلَمَ} ؟ فالجواب أن نقول: ليعلم علم وجود أي بأن الشيء وجد، وتعلق العلم بالموجود غير تعلقه بالمعدوم الذي سيوجد. الثاني: أن يعلمه علمًا يترتب عليه الجزاء؛ لأن علمه السابق بأنه سيوجد لا يترتب عليه الجزاء.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا} كيف ذلك؟ لأن المؤمن يرضى بهذه المداولة، بمداولة الله الأيام بين الناس، يرضى بها رضًا تامًا؛ إن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر، ويعلم أن ذلك بتقدير الله فيرضى ويسلم، لكن غير
المؤمن بالعكس إن أصيب بالسراء أشر وبطر، وإن أصيب بضراء ضجر وتسخط، يقول الله سبحانه وتعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي: على طرف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} ، والفتنة المراد بها هنا ضد الخير {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11] وكم من إنسان ارتد لأنه أصيب بمصيبة والعياذ بالله.
الحكمة الثالثة قال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} انظر إلى هذا التعبير! لم يقل: وليوجد بل قال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} فهؤلاء الشهداء اتخذهم الله واصطفاهم لنفسه جل وعلا، ولولا مثل هذه الهزيمة لم يكن شهداء، ولكن من أجل أن يتخذ منكم شهداء أي: يتخذ منكم أناسًا قتلوا في سبيل الله، وكم شهيد اتخذهم في غزوة أُحد؟ سبعون رجلًا. لولا هذا لم يكن هناك شهداء.
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الظالمون هم الذين نقصوا حقَّ الله وحقَّ عباده؛ لأن الأصل أن معنى الظلم النقص؛ لقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، أي: لم تنقص. الظالم هو الذي نقص في حق الله وحق عباده بل وحق نفسه {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، فالظالم لا يحبه الله، فإن كان ظلمه ظلم كفر فلا حظَّ له في محبة الله، وإن كان ظلمه دون ذلك فله من محبة الله بقدر ما معه من العدل، ومن كراهة الله بقدر ما معه من الظلم.
وقوله: {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قد يبدو غريبًا على القارئ مناسبة هذه الجملة لما قبلها {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} كيف هذا؟ فيقال: الجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن المراد بقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} بيان أن الذين تخلفوا عن غزوة أحد، وهم مقدار ثلث الجيش لم يكن منهم شهيد؛ لأنهم نجوا بأنفسهم، فلكونهم ظلمة لم يتخذ الله منهم شهداء، فيكون ذلك تنديدًا بالذين تخلفوا ورجعوا من أثناء الطريق، وهم عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين، فكأنه قال: اتخذ منكم أيها الصفوة شهداء ولم يتخذ من أولئك الذين نكصوا على أعقابهم؛ لأن هؤلاء ظلمة والله لا يحبهم.
الوجه الثاني: أن الذين قتلوا في أُحد؛ قتلوا على أيدي المشركين، والمشركون هم الظالمون كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فهل انتصار الظالمين في أُحد واستشهاد من استشهد من المسلمين في أُحد لأن الله يحب الظالمين ويكره المؤمنين؟ لا!
إذن {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} لئلا يظن ظان أن انتصار المشركين في تلك الغزوة من محبة الله لهم، فبيَّن الله عز وجل أنه لا يحب الظالمين.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان رأفة الله سبحانه وتعالى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذه التسلية العظيمة {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} .
2 -
أنه ينبغي للإنسان أن يعزي المصاب بمثل هذه التعزية فيقول مثلًا: يا أخي لست أول من أصيب، كم من أناس أصيبوا بهذه المصيبة أو أكثر، ويقول له مثلًا: قدّر أن المصيبة أعظم من هذا؛ لأن كل شيء ممكن، فإذا أصبت بفَقْدِ ألف فقدِّر أنك
أصبت بفَقْد ألفين؛ لأن هذا ممكن، فإذا قدرت أنك أصبت بألفين والمفقود ألف هان عليك فَقْدُ الألف، إذن فالله علَّمنا كيف نعزي المصاب بأن نسليه بذكر النظائر أو بذكر ما هو أعظم.
3 -
أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدنيا دولًا تتقلب لئلا يركن الإنسان إليها؛ لأن الدنيا لو كانت دائمًا راحة ونعمة ركن الإنسان إليها ونسي الآخرة، ولو كانت دائمًا محنة ونقمة لكانت عذابًا مستمرًا، ولكن الله جعلها دولًا يدال فيها الناس بعضهم على بعض، وتتداول الأحداث على الإنسان ما بين خير وشر.
4 -
تمام سلطان الله سبحانه وتعالى في خلقه، وأن له التدبير المطلق؛ ليظهر أو يتبين بذلك تمام سلطان الله.
5 -
أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العبد ليعلم إيمانه من عدمه، يمتحنه بأنواع من الامتحانات: تارة بالمصائب وتارة بالمعايب، فهنا ابتلاء بالمصائب، وإذا يسَّر الله للإنسان أسباب المعصية فهذا ابتلاء بتيسير المعائب مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94].
6 -
أن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء على قسمين: علم بأنها ستوجد وهذا أزلي، وعلم بأنها وجدت، وهذا يكون عند الوجود، ولهذا قال:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} .
7 -
أن الله تعالى قد يقدر المكروه لحِكَم بالغة كثيرة؛ لقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} .
8 -
فضيلة الشهادة، تؤخذ من قوله:{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ} فكأنه سبحانه اصطفى هؤلاء الشهداء واتخذهم لنفسه.
9 -
فضيلة شهداء أُحد؛ لأن قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} ، أول من يدخل فيها شهداء أحد رضي الله عنهم.
10 -
إثبات المحبة لله، أن الله يحب، وجه ذلك أن نفيها عن الظالمين يدل على ثبوتها لغيرهم أو لضدهم، لأنها لو انتفت عن هؤلاء وهؤلاء لم يكن في نفيها عن الظالمين فائدة، ولهذا استدل الشافعي رحمه الله وغيره من أهل العلم على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة بقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يعني الفجار، قال: فلما حجب هؤلاء عن رؤيته في السخط دلَّ على رؤية الآخرين في حال الرضا. وهذا لا شك استدلال جيد، فهنا نقول: لما نفى المحبة عن الظالمين دلَّ على ثبوتها لمن كان ضدهم، لأنها لو كانت منتفية عن هؤلاء وهؤلاء لم يكن لتخصيص الظالمين فائدة.
والمحبة تعني كون الله يحب الشخص، فهل فيها نقص بالنسبة لله؟ لا. ولهذا كان أهل السنة من السلف يثبتون أن الله تعالى يُحب وأنه يُحَب أيضًا. كما قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، ومحبة الله سبحانه وتعالى إذا وفق العبد لها لا يعادلها شيء ولا تماثلها لذة. يجد الإنسان في محبة الله لذة لا توصف أبدًا، حتى إن بعض السلف يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف! الله أكبر، الملوك هم في قمة النعيم الدنيوي وأبناؤهم كذلك، لكن أحباب الله وأولياء الله أعظم منهم في هذا النعيم، وقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
إذن نقول: من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات المحبة لله،
وأن الله يُحِب وأنه يُحَب ولكن من الناس من أنكر محبة الله ليس إنكار تكذيب بل إنكار تأويل، فقال: المراد بالمحبة الإرادة أو الثواب، فمعنى يحبهم أي يريد أن يثيبهم أو يثيبهم، وهؤلاء هم الأشاعرة، ومن كان أشد منهم في التعطيل، وقد مرَّ علينا مثل هذا كثيرًا وبيَّنا بطلان مذهبهم، وأن ما ذهبوا إليه يعتبر تحريفًا لكتاب الله وليس تأويلًا له.
11 -
التحذير من الظلم؛ لقوله: {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} وكل إنسان يهرب من كل فعل يؤدي إلى عدم محبة الله له.
والظلم أقسام: إما في حق الله وإما في حق الآدمي. والظلم في حق الآدمي إما في المال، وإما في النفس، وإما في العرض، وكل ظلم فإن الله لا يحبه.
12 -
أن محبة الله قد تتبعض بمعنى أنه يحب هذا أقوى من هذا، ويكره هذا أقوى من هذا، وجهه: أن الحكم إذا عُلق بوصف فإنه يزداد بزيادته ويقوى بقوته، وينقص بنقصه ويضعف بضعفه، فإذا كان انتفاء المحبة من أجل الظلم؛ فكلما كان الإنسان أظلم كان أبعد عن محبة الله عز وجل.
* * *
• ثم ذكر الله فائدة أخرى فقال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]:
(يمحص) بمعنى ينقِّي، وهل المراد تنقيتهم من غيرهم؛ بحيث يتبيَّن المؤمن النقي الصافي الإيمان، أو تنقيتهم من الذنوب بما أصابهم من القرح أو الأمران جميعًا؟
الجواب: الأمران جميعًا؛ لأنَّ لدينا قاعدة سبقت وهي: أن
اللفظ إذا كان يحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فإنه يحمل عليهما جميعًا، إذن فهو يمحصهم وينقيهم من الذنوب بما أصابهم من القرح، وينقيهم أيضًا باعتبار الخلاصة؛ يعني يتبين بذلك خلاصة المؤمنين مِمَّن في إيمانهم شيء من الشك أو الكفر، وهذا أمر ظاهر، وهو كما أشار الله في قوله:{وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140]، إذن من الحكمة فيما حصل للمسلمين من القرح أن الله يمحص الذين آمنوا: ينقيهم من الذنوب بما أصابهم من هذه المصيبة، وينقيهم ببيان الخلّص، أهل الصفوة.
وقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} سبحان الله، إذا نصرهم يكون سببًا لمحقهم، لأنهم إذا انتصروا علوا واستكبروا وانتفخوا في أنفسهم، وظنوا أن لهم السيطرة دائمًا، فحينئذ يعيدون الكرة مرة أخرى لقتال المسلمين، وبذلك يكون محقهم، هذا هو وجه الآية، وقال بعض أهل العلم:{وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي يهلكهم بما جنوه على المسلمين من القرح، فجعل المحق يعني العذاب والهلاك في الآخرة، ولكن المعنى الأول أوجه، أنه يمحقهم محقًا حسيًا وذلك لأنهم إذا انتصروا في هذه المرة، حاولوا أن يعيدوا الكرة مرة ثانية لأجل الانتصار مرة أخرى، وبذلك يكون محقهم والقضاء عليهم.
وقوله: {الْكَافِرِينَ} مأخوذ من الكفر، وأصل الكفر في اللغة: الستر، ومنه سمي الكُفُرَّى يعني وعاء طلع النخل لأنه يستر ما كان فيه.
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هاتين الآيتين لمسِّ القرح خمس فوائد.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى قد يبتلي المؤمن من أجل تمحيصه، وقد ذكرنا أن التمحيص من وجهين:
الوجه الأول: بيان منْ إيمانه صادق يصبر على الضراء، ومَنْ إيمانه مهتز لا يصبر.
الوجه الثاني: أن هذه المصائب فيها تمحيص للمؤمنين بتكفير السيئات.
2 -
محق الكافرين، فيستفاد من هذا فائدة وهي أن النعمة قد تكون سببًا للنقمة، فإن انتصار الكفار يوجب فرحهم وبطرهم حتى إذا بطروا محقوا.
3 -
أن الكافر مآله المحق؛ لقوله تعالى: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} ، وهذا كقوله:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] وأمثال ذلك كثير.
4 -
أن الله سبحانه وتعالى له التدبير الكامل في عباده؛ لقوله: {وَلِيُمَحِّصَ} فإن هذا الفعل كان فيه خير للمؤمنين وشر للكافرين.
* * *
• ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]:
{أم} هنا منقطعة، فتكون بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام، أي: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة، وقولنا منقطعة احترازًا من المتصلة، فما هو الفرق بين المتصلة والمنفصلة؟ .
المنقطعة بمعنى (بل)، والهمزة المتصلة بمعنى (أو). و (أم) المتصلة يذكر معها المعادل، و (أم) المنقطعة ليس لها معادل،
الفرق إذن يتضح بالمثال؛ إذا قلت: قال الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] متصلة لأنها ذكر فيها المعادل، ولأنها بمعنى (أو).
وإذا قلت: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32] فهي منقطعة بمعنى (بل)، لأن أمر أحلامهم -يعني عقولهم- بهذا ليس معادلًا لكونهم طغاة، بل قال: أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم لم تأمرهم؟ الجواب: لم تأمرهم، ولكنهم قوم طاغون، هنا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} منقطعة لأنه لم يذكر المعادل، ولأنها بمعنى بل والهمزة.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} أي أظننتم أن تدخلوا الجنة، والاستفهام هنا للتوبيخ، يعني: هل تظنون أن تدخلوا الجنة بلا اختبار، ولهذا قال:{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ، (الجنة) هي مأوى المتقين ودار الخلد جعلنا الله وإياكم من أهلها.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} (لمَّا) هنا جازمة، والدليل على جزمها أن الفعل جزم بعدها، لكن لما كان ما بعده ساكنًا كسر؛ لأنه على القاعدة التي أشار إليها ابن مالك في الكافية:
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق
…
وإن يكن لَيْنًا فحذفه استحق
وقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا} : الواو هنا حالية يعني والحال أن الله لا يعلم الذين جاهدوا منكم. و (لما) تأتي على أربعة أوجه في اللغة العربية وقد ذكرناها فيما سبق، وهي هنا حرف نفي وجزم، ويفرق بينها وبين (لم) بأن مدخولها يترقب الحصول كقوله تعالى:{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] أي لم
يذوقوه ولكنه قريب، وهنا قال:{وَلَمَّا يَعْلَمِ} أي أن الله لم يعلم ولكن علمه بذلك قريب.
وقوله: {جَاهَدُوا} أي بذلوا جهدهم في إعلاء كلمته بالقتال في سبيله. والعلم هنا ليس كالعلم الأول، فإن علم الله عز وجل نوعان: أزلي سابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعلم بما حصل بعد حصوله، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، ويسميه بعض العلماء علم ظهور، أي: يعلمه ظاهرًا بعد أن لم يكن، فالمراد بالعلم هنا علم الشيء بعد كونه ووجوده؛ لأنه هو العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.
وقوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي الذين يصبرون على ما أصابهم، والصبر هنا في هذا المقام يشمل الصبر بأنواعه الثلاثة، وذلك لأن الجهاد فيه صبر على طاعة الله، وفيه صبر عن معصية الله، وفيه صبر على الأقدار المؤلمة.
ففيه الصبر على طاعة الله؛ لأن الإنسان يصبر نفسه ويحبسها، قال الله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فلابد من أن يصبر الإنسان نفسه ويحبسها حتى يخرج في الجهاد. وفيه صبر عن معصية الله، عن الفرار حين يتلاقى الصفان، فإن هذا يحتاج إلى صبر وتحمل؛ لأن صبر الإنسان قبل الدخول في المعركة قد يكون محتملًا لكن بعد الدخول وإذ يرى السيوف أمام وجهه فإنه قد يفر، ولهذا قال الله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16]. وصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأن الجهاد لا يخلو من جراح ومن تعب ومن عناء ومشقة، ففيه أنواع الصبر الثلاثة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان أن التمني رأس مال المفاليس. يعني يكون الإنسان يتمنى بدون أن يفعل السبب، هذا خسران، وذلك رأس مال المفلس الذي لن يحصل له شيئًا؛ لقوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
2 -
أن الجنة لا تدرك بالتمني كما قال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي؛ ليس بالتمني بالقلب، ولا بالتحلي بالمظهر، وإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.
3 -
أن الجنة غالية رخيصة؛ غالية لكون ثمنها غاليًا؛ لأنه بذل النفوس في طاعة الله والجهاد لإعلاء كلمته، ورخيصة لأن هذا الأمر على من سهله الله له يسير جدًا، ولهذا تجد الموفق يسابق إلى أن يكون ممن يكتب اسمه في الجهاد حتى يخرج فيجاهد في سبيل الله.
4 -
أن الله سبحانه وتعالى يمتحن العبد بما يدل على صبره أو ضجره بقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
5 -
أن جزاء الله سواء كان عقوبة أو مثوبة لابد أن يسبقه ما يمتحن فيه العبد؛ لقوله {وَلَمَّا يَعْلَمِ} فلابد من امتحان أولًا لينظر.
6 -
أن علم الله عز وجل الأزلي لا يترتب عليه الثواب والعقاب، وإنما يترتب الثواب والعقاب على علم الله المقرون بالفعل، الذي يكون علمًا بالشيء بعد وجوده.
7 -
أن الجهاد سبب لدخول الجنة؛ لقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} ولا فرق بين الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم فكلاهما جهاد، بل قد تحتاج الأمة الإسلامية إلى جهاد العلم أكثر مما تحتاج إلى جهاد السلاح، وقد يكون بالعكس، وقد يتساويان. ولكن لابد من وجودهما في الأمة الإسلامية، لابد من وجود علماء، ولابد من وجود طلبة علم، ولابد من وجود مسلحين يقاتلون الكفار بالسلاح؛ لأن الجهاد لا ينزل عَلَمه إلى يوم القيامة، لابد أن يكون قائمًا.
8 -
أن الصبر سبب بدخول الجنة أيضًا؛ لقوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ، واعلم أن الجزاء يكون على قدر العمل، فإذا كان ثواب الجهاد الجنة وثواب الصبر الجنة دلَّ على عظم مرتبتهما في دين الله عز وجل.
9 -
أن الصبر درجة عالية لكنه يحتاج إلى مصبور عليه؛ لأن الصبر على ما يلائم الطبيعة ليس بصبر، ولهذا لا يقال للإنسان الذي وقف تحت (الدش) يصب عليه ماءً باردًا في اليوم الحار، لا يقال إنه صابر؛ لأن هذا يلائم طبيعته. الصبر لابد له من شيء يعانيه الإنسان لا يلائم الطبيعة.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]:
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ} أكد الله هذه الجملة لإقامة الحجة عليهم، (لقد كنتم) الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: بالقسم المقدر، وباللام الواقعة في جوابه، وبقد. كنتم فيما مضى تمنون الموت
من قبل أن تلقوه، وكانوا يتمنون الموت في سبيل الله لا الموت على الفراش، وذلك أنه كما يعلم الكثير من الناس تخلف عن بدر جماعات كثيرة من الصحابة، فإن غزوة بدر لم يكن الخروج فيها للغزو، ولكن لأخذ العير، ولهذا لم يخرج من أهل المدينة كلهم إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا على أنهم يريدون العير، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد فاستشهد من استشهد من المسلمين نحو ثلاثة عشر رجلًا، وتمنى الذين لم يدركوا هذه الغزوة أن يكونوا قد خرجوا فيها ولاسيما الشباب منهم، ولهذا لما استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؛ أيخرج إلى العدو أم يبقى في المدينة؟ كلهم قالوا: نخرج. ولاسيما الذين تخلفوا في بدر حيث كانوا يتمنون بذلك الشهادة كما استشهد إخوانهم في بدر، نعم فهم كانوا يتمنون الموت يقولون: يا ليتنا خرجنا، يا ليتنا قتلنا في بدر، يتمنون الموت. والتمني هو أن الإنسان يطلب تقديرًا ما يصعب حصوله، هذا التمني أن يتمنى تقديرًا ما في قلبه يصعب حصوله سواء كان يصعب ثم يحصل أو يصعب ولا يحصل، ولهذا يقع التمني على الأشياء المستحيلة، كقول الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يومًا
…
فأخبره بما فعل المشيب
ولا يمكن أن يعود، ويكون في الشيء الذي فيه العسر، ولكنه قليل، إذن يتمنون الموت، يعني في نفوسهم يتمنون أنهم كانوا مع أهل بدر فاستشهدوا فقتلوا في سبيل الله {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} ، يعني فقد حصل لكم ما تمنون {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يعني رأيتموه وأنتم على أشد ما يكون إحساسًا. وتأمل قوله:
{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ، هل هي مؤكدة أو مؤسسة؟ لأن الإنسان قد يرى ولكن لا يحقق ما يرى، قد يرى الشيء وهو غافل عنه لكن إذا رآه وهو ينظر إليه تمامًا قد ركز، فهذا نظر خاص أخص من النظر العام. نحملها على ذلك؛ لأن الأصل في الكلام التأسيس؛ لأن التوكيد نوع زيادة ليس فيه إلا توكيد ما مضى، وقد لا يحتاج إليه لكن التأسيس هو الأصل.
إذن يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ} ويقيم على ذلك الشهادة بالتوكيد {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} فلماذا يحصل منكم هذا التخاذل؟ ولهذا قال: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: الموت أو من استشهد في غزوة أُحد رأوه بأعينهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد رأوه أي رأوا أسبابه وهو القتال؛ لأن من لم يقتل لم ير الموت، ولكن هذا تفسير فيه نظر؛ لأن رؤية الموت يراها الإنسان في نفسه وفي غيره، فقد رأيتموه فيما بينكم وأنتم تنظرون.
وفي هذه الآية من المسائل النحوية قوله: {تَمَنَّوْنَ} حيث إن صورته صورة الماضي، ولكنه صيغ بصيغة المضارع أصلها: تتمنون الموت.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إقامة الحجة على من كانوا يتمنون الموت وقد رأوه، ومع ذلك حصل منهم تخاذل؛ لقوله:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني فيها، أنتم الآن رأيتموه فما موقفكم؟ .
2 -
وفيه أنه لا ينبغي للإنسان أن يتمنى المكروه؛ لأنه إذا
تمناه ووقع ربما ينكص ولا يصبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"
(1)
. وهكذا الإنسان قد يشعر في نفسه أنه يقوى على الشيء ولكن يعجز عنه، وقد ذكروا أن سحنون صاحب مالك رحمه الله كان من العُبَّاد فقال يومًا من الأيام كلامًا معناه: يا رب إني صابر فكيفما شئت فامتحني، ابن آدم فقير مسكين، يعني أصبر على كل بلاء فامتحني يارب، فأصيب بعسر البول، صار لا يبول إلا بمشقة شديدة، قالوا: فكان يدور على مدارس الصبيان فيقول: ادعوا لعمكم الكذاب. وذهب إلى الصبيان، لأنهم أقرب إلى الإجابة لطهارة قلوبهم وسلامتها ولا ذنوب عليهم، الكذاب! لأنه قال: إني أصبر فكيفما شئت فامتحني. ولم يصبر، وهكذا الإنسان ينبغي له أن يسأل الله العافية لكن إذا ابتلي فليصبر.
3 -
أنه لا بأس أن يوبِّخ الإنسان من تحدى واتخذ لنفسه مكانًا عاليًا إذا وجده قد تخاذل في هذا المكان، مثل لو كان رجل من الناس يزعم أنه صبور وأنه جَلْد وما أشبه ذلك، فإذا ألمّت به الأمور صار جبانًا هلوعًا لا يتحمل فيذكِّره. أظن أن أحد الشعراء كان يقول في شعره:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
شجاعة، وعلم، وكتابة وكل شيء، فحصلت غزوة كان فيها
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، رقم (3024). ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، رقم (4542).
هذا الشاعر، فأراد أن ينهزم ويولي الدبر، وإذا حوله أناس قد حفظوا هذا البيت من شعره فقالوا: ما لك يا فلان ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فعتب على نفسه ورجع وأظن أنه قتل في تلك المعركة. فالإنسان قبل أن يصاب بالبلاء قد يشعر في نفسه أنه قوي يصبر، لكن يعجز، فإذا ذكَّرت أحدًا بشيء كان يفتخر به كأن يقول: أنا أفعل، وأنا أقول، وأنا أصبر، فهذا لا بأس به، ولكن هل هذا محمود إذا كان الأمر ضارًا، أو ينظر للمصلحة؟
الجواب: أنه ينظر للمصلحة فقد يكون هذا المسكين يفتخر فيما لا فخر فيه، فإذا وقع فيه وأراد أن يتأخر عنه ثم أغريته قد يقع في ضرر. فالمسألة يرجع فيها إلى المصلحة.
4 -
جواز التأكيد على رأي من يرى أن قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} فيها توكيد أي: جواز تأكيد اللفظ إذا دعت الحاجة إليه، وكان ذلك مقتضى البلاغة، بل قد يكون مطلوبًا كما في هذه الآية، فهذه الآية على قول بأن قوله:{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} توكيد وأنها لم تأت بمعنى جديد، أما على القول الراجح الذي رجحناه أنها أتت بمعنى جديد فإننا لا نأخذ هذه الفائدة من هذه الآية، لكن نأخذها من آيات أخرى مثل:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17، 18] وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4]، وقوله:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35]، كثير من القرآن تأكيدات للأهمية.
تنبيه: ذكرنا في التفسير أنهم يتمنون الشهادة، الموت في سبيل الله، وليس الموت المطلق؟ لكن يؤخذ منه أنه يجوز أن يتمنى
الإنسان الشهادة، بل لو قيل بمشروعية هذا لم يكن بعيدًا، وقد قال عمر رضي الله عنه: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك والموت في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يقولون: كيف هذا الدعاء وكيف يجاب والمدينة بلد إسلامي؟ ولكن الله أجاب دعاءه فقد قُتل ظلمًا وهو يصلي، ولم يقتل لأنه عمر بن الخطاب بل قتل لأنه قائم بأمر الله، منفذ لشريعة الله، قتله مجوسي مضاد للمسلمين، حرب على المسلمين، قتل في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام ومات فيها، وقد تتمنى الشهادة، لكن ذكر بعض المتأخرين أنه لا يجوز أن تتمنى الشهادة، قال: لأن تمنيك الشهادة يستلزم أن الأعداء يغلبون المسلمين، فليتأمل هذا الكلام هل هو حق أم باطل؟
* * *
• ثم قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} : محمد يعني محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي خاتم الأنبياء كونه (رسولًا) فهذا أمر معلوم، لكن محط الفائدة قوله:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} توطئة لما بعده وهو قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول قد خلت من قبله الرسل فماتوا من قبله ومنهم من قُتل كما قال الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]، فإذا كان كذلك فهل أقوامهم لما ماتت أنبياؤهم أو قتلوا هل تركوا أديانهم؟ الجواب: لا، لم يتركوا الأديان، وذلك لأن الأمم إنما تعبد الله
وتتبع الرسل، والرسل لا تنقطع رسالتهم بموتهم، بل رسالتهم باقية ما بقيت الرسالة حتى تأتي رسالة تنسخها، أما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا ناسخ لها لأنها آخر الرسالات. وهذه الآية نزلت حينما صاح الشيطان في يوم أحد، يقول: إن محمدًا قد قُتل، فلما قال هذا فتَّ ذلك في أعضاد الصحابة رضي الله عنهم.
أولًا: لأن موت النبي صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة تحزن القلب وتضعف النفس.
ثانيًا: لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان قائدهم، وإذا مات القائد فإنه لا شك سيكون له أثر على الذين ينقادون بقيادته، فلما شاع الخبر بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قُتل حصل ما حصل على المسلمين فأثابهم غمًّا بِغَمٍّ وصار عند بعضهم بعض الشك، ولكن الله عز وجل وبَّخهم فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، فإذا كان كذلك فهل الرسل الذين سبقوا وماتوا أو قتلوا هل ارتد أقوامهم من بعدهم؟ لا، ولكن بقيت الرسالات وبقي الاتباع، وهنا قال:{أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الهمزة هنا للاستفهام التوبيخي يعني: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ هذا لا يليق بكم ولا ينبغي لكم، بل ما دامت شريعته باقية فاتباعه باق، ولا يليق بأي مؤمن أن يرتد على عقبه إذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} هذه جملة شرطية، (إن) أداة الشرط، و {مَاتَ} فعل الشرط و {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} جواب الشرط، ولكن محل التوبيخ هو جواب الشرط حقيقة، لأنه يوبِّخهم على انقلابهم على تقدير أن يكون مات أو قتل، أي: أتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ لا يليق بكم.
وقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ} أي بغير فعل بشر {أَوْ قُتِلَ} بفعل البشر.
وقوله: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} أي رجعتم إلى الوراء، والأعقاب: جمع عقب وهو العرقوب، والمنقلب على عقبيه يكون ماشيًا على غير هدى كالذي يمشي مكبًا على وجهه، وقد قال الله تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]، والانقلاب على العقبين أعظم وأبلغ؛ لأن الانقلاب على العقب يمشي الإنسان فيه على غير الهيئة المعتادة. على أنه يحتمل أن يكون المراد بالانقلاب على العقب أي: أنه يسقط على قفاه ولا يستطيع أن يتقدم أو يستقيم.
وقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} :
هنا قال: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ} فعدل من جملة الخطاب إلى العموم دون أن يقول: وإن انقلبتم على أعقابكم فلن تضروا الله شيئًا من أجل أن يكون الحكم عامًا شاملًا، فقوله:{وَمَنْ يَنْقَلِبْ} (من) شرطية تعم كل منقلب على عقبيه، والفعل هنا بعدها مجزومٍ، فعل الشرط. أما جواب الشرط فهو {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} وشيئًا نكرة، والنكرة في سياق النفي تعم، يعني: الذي ينقلب على عقبيه ويرتد عن الإيمان لن يضر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لن ينتفع بطاعة الطائعين، ولن يتضرر بمعصية العاصين، ولهذا قال:{وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرجع بعد أن كان مسلمًا فلن يضر الله شيئًا وإنما يضر في الحقيقة نفسه.
{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} :
السين للتنفيس، وهي تحوّل الفعل المضارع من كونه صالحًا للحال والاستقبال إلى كونه للاستقبال، (وسوف) مثلها إلا
أن سوف تدل على المهلة والسين تدل على الفورية {وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ} أي: سيكافئهم، والشاكرون هم الذين قاموا بشكر نعمة الله، وقد مرَّ علينا أن الشكر هو القيام بطاعة المنعم بالقلب واللسان والجوارح؛ فالاعتراف بالقلب أن النعم من الله شكر، والثناء على الله بها باللسان شكر، والقيام بالطاعة بما يناسب تلك النعمة شكر، فشكر العلم مثلًا العمل به ونشره، وشكر المال صرفه في طاعة الله، وشكر القوة البدنية استعمال البدن في طاعة الله، وهلم جرا. واعلم أن بين الشكر والحمد عمومًا وخصوصًا من وجهين أي أن أحدهما أعم من الآخر من وجهٍ، فباعتبار أن الحمد يكون لكمال المحمود ولإنعام المحمود يكون أعم من الشكر، وباعتبار أن الحمد يكون باللسان يكون أخص من الشكر، والشكر باعتبار كونه متعلّقًا بالقلب واللسان والجوارح أعم من الحمد، وباعتبار أنه في مقابلة نعمة أخص من الحمد.
يقول الشاعر:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
وبهذا التقرير نعرف أنه ليس بين الحمد وبين الشكر ترادف، بل هما متباينان، يتفقان فيما إذا حمد الله سبحانه وتعالى على نعمته كما لو أكل أو شرب فقال: الحمد لله، فهذا يعتبر شكرًا وحمدًا، ويختلفان فيما إذا حمد الله على كماله فهنا لا يكون هذا من باب الشكر، وإذا شكر الله بجوارحه فليس هذا من باب الحمد.
قال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
يبيِّن الله سبحانه وتعالى هذا المجمل في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}
[الأنعام: 160] هذا الجزاء، وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يضاعف الحسنة إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف
(1)
.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يلحقه الموت كما يلحق جميع الرسل؛ لقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
…
}.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ربًّا فيدعى ولا إلهًا فيعبد؛ لقوله: {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} .
3 -
أنه ينبغي الدليل بذكر النظائر ليقتنع الإنسان بما سمع؛ لقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فإن من سمع هذا اقتنع وقال: ما دام الرسل السابقون قد ماتوا أو قتلوا فإن ذلك يكون تسلية له.
4 -
إثبات أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل؛ لقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} و (ال) هنا للعموم ولم يقل: قد خلت من قبله رسل بل قال: الرسل، وإذا كان الرسل كلهم قد خلوا من قبله لزم من ذلك أن يكون هو آخرهم.
5 -
جواز موت الرسول صلى الله عليه وسلم وإمكان قتله؛ لقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} .
فإن قال قائل: يشكل على هذا أن الله قد قال في الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. فإذا كان هذا في الشهداء فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ميتًا مع أنه أفضل من الشهداء؟
(1)
رواه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (1151).
والجواب عن ذلك أن نقول: إن الحياة حياتان: حياة دنيوية جسدية وهي حياة الدنيا، وحياة برزخية ليست كحياة الدنيا، فهذه هي التي تثبت للشهداء. والأنبياء أفضل من الشهداء حيث حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأما الشهداء فقد تأكل الأرض أجسادهم، فالأنبياء أجسادهم باقية وحياتهم البرزخية أكمل من حياة الشهداء بلا شك.
6 -
الرد على من توهم أو زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره؛ لقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} ونحن نعلم بالضرورة من النقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، فإنه ما قتل لا بسيف ولا برمحٍ بل مات على فراشه، ولكن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأَبْهَر مني"
(1)
. الأبهر عرق عُرف عند أهل اللغة على أنه عرق في الظهر إذا انقطع مات الإنسان، فهذا يدل على أن أكلة الشاة المسمومة في خيبر كان لها أثر في موته، ولهذا قال بعض التابعين وأظنه الزهري قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا؛ لأن اليهود قتلوه، ولكن الله تعالى أمد في عمره حتى تأخر، وهذا ليس ببعيد؛ لأن أكلة خيبر كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال أثرها في لهواته، يرى في لهواته أثر السم، والسم كان شديدًا، ولذا مات واحد من الصحابة الذين أكلوا معه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلع اللحم الذي أكل.
7 -
أن الارتداد عن الإسلام انقلاب على العقب، ولا يخفى علينا ماذا يكون أثر الانقلاب على العقب {انْقَلَبْتُمْ عَلَى
(1)
رواه أبو داود، كتاب الدِّيات، باب فيمن سقى رجلًا سمًّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ ، رقم (4513).
أَعْقَابِكُمْ} وهو كذلك؛ لأن الذي على الإسلام يمشي على برهان ونور، يمشي على صراط مستقيم.
8 -
الرد على الملحدين الذين يقولون: إن الإسلام رجعية ورجوع إلى الوراء، فإننا نقول لهم: أنتم الرجعيون، أنتم الذين انقلبتم على أعقابكم، أما من تمسك بالإسلام فإنه التقدمي؛ لأن الإسلام يحث على التقدم لكل فضيلة وأن يسارعوا إلى المغفرة {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، والآيات كلها تدل على أن الإسلام يأمر بالتقدم لكن ليس التقدم إلى الكفر الذي قال الله عن زعيمه:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]، ولكن التقدم إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. المهم أن هذه الآية فيها ردّ على الملحدين الذين زعموا أن التمسك بالإسلام رجعية، فنقول لهم: إن التمسك بالإسلام هو التقدم، والتخلف عن الإسلام هو الرجعية.
9 -
أن الله عز وجل غني عن طاعة الطائعين؛ لقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} .
10 -
انتفاء الضرر عن الله، وأنه لن يضره شئ، ولكن إذا قال قائل: أليس الله تعالى قد قال في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] وفي الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم يسبُّ الدهر"
(1)
فأثبت الأذية لله؟
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} الآية، رقم (4826). ورواه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر، رقم (2246).
فالجواب: أنَّه لا يلزم من الأذية الضرر. فالله تعالى قد يتأذى ولكن لا يتضرر، وأضرب لك مثلًا: لو أن شخصًا جلس إلى جنبك وقد أكل بصلًا أو شرب دخانًا ألست تتأذى برائحته؟ بلى، ولكن هل تتضرر؟ لا تتضرر، إذا رأيت شيئًا مكروهًا فإنك تتأذى ولكن لا تتضرر، إذن لا يلزم من كون الله تعالى يتأذى أن يتضرر.
11 -
الحث على الشكر، لقوله:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، ووجهه أن الجزاء أضيف إلى الله فدلَّ على عظمه؛ لأن الثواب من العظيم عظيم، ولهذا كانت الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
12 -
جواز الإطلاق في الكلام إذا جاء مفسَّرًا في موضع آخر، لقوله:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ، فإن هذه الآية مجملة لم يبين الله تعالى كيف هذا الجزاء، ولكنه قد بيّن في نصوص أخرى، والشريعة يفسر بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا، ويخصص بعضها بعضًا، وما تجده مجملًا في مكان تجده مبينًا في مكان آخر، وهذا من تمام الشريعة؛ لأن الشيء إذا أتاك مجملًا فإن نفسك تتطلع إلى بيان هذا المجمل، فتحرص وتبحث وتقرن بين الأدلة، تقارن بعضها إلى بعض حتَّى يتبين لك الأمر، وحتى تكون ملمًا في كل وقت بجميع النصوص.
13 -
أن الخلق لو كانوا كلهم على الردة فإن الله تعالى لن يتضرر بذلك؛ لقوله: {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} ، وهذا عام يشمل أي ضرر كان من فرد أو جماعة.
• ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]:
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} أي: يمتنع غاية الامتناع لأي نفس من الأنفس أن تموت إلَّا بإذن الله، مهما حاول الناس أن يميتوا أحدًا بدون إذن الله، فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا. وإذا جاءت (ما كان) فإنها للممتنع إما شرعًا أو قدرًا، فهذه الآية {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: ما كان قدرًا لنفس أن تموت إلَّا بإذن الله.
وقوله: {لِنَفْسٍ} نكرة في سياق النفي فتعم كل نفس من الآدميين وغير الآدميين، لا يمكن لأي نفس أن تموت إلَّا بإذن الله.
وقوله: {أَنْ تَمُوتَ} الموت هو مفارقة الحياة، ويحصل هذا بانفصال الروح عن الجسد انفصالًا تامًا، وذلك لأن الروح تتصل بالبدن اتصالًا تامًا، وتنفصل منه انفصالًا ناقصًا، وتنفصل منه انفصالًا تامًا؛ فإذا كان الإنسان يقظًا فالاتصال تام، وإذا كان نائمًا فهو انفصال ناقص، وإذا مات الإنسان فهو انفصال تام، لكن هذا لا يمنع أن تعود إليه في قبره عودًا ليس على الوجه الذي عليه في الدنيا؛ لأن حياة البرزخ تخالف حياة الدنيا، فالإنسان في قبره تعاد إليه روحه ويجلس ويخاطب ويتكلم ويفهم، ولكن ليست هذه الحياة كحياة الدنيا؛ لأنها لو كانت كحياة الدنيا
لهلك فورًا؛ لأنه مغمور بالتراب الذي فوقه، وربما يكون غرقًا في ماء أو محترقًا في نار.
وقوله: {أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} "إِذْن" هنا يراد بها الإذن الكوني؛ لأن إذن الله ينقسم إلى قسمين: إِذن كوني، وإذن شرعي، فالإذن الشرعي ما قضى به شرعًا وأذن فيه شرعًا، وهو تحت المشيئة قد يقع وقد لا يقع، فمثلًا: يقول الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] الإذن هنا شرعي وليس بكوني؛ لأن الله قد أذن به كونًا لكنه لم يأذن به شرعًا، وكذلك قوله تعالى:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الإذن هنا إذن شرعي، أما في مثل هذه الآية:{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فهو إذن كوني يعني لا يمكن أن تموت إلَّا إذا أذن الله بذلك كونًا.
وقوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} أي بقضائه وقدره {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (كتابًا) هذه مصدر مؤكد للجملة التي قبله، أي أن الموت مكتوب كتابًا مؤجلًا محددًا بحد معلوم لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، هذا الكتاب يكتب في عدة كتب؛ يكتب في ليلة القدر بأنه سيموت في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية من الشهر الفلاني، وهذه كتابة سنوية، ويكتب أيضًا إذا كان الإنسان في بطن أمه حين يبعث إليه الملك ويؤمر بِكَتْب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. ويكتب في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فهذه كتب لا تتغير.
{كِتَابًا مُؤَجَّلًا} لا يزيد ولا ينقص.
(من) شرطية، وفعل الشرط {يُرِدْ} وجواب الشرط {نُؤْتِهِ} ، وفي كل من فعل الشرط وجوابه حذف، أما في فعل الشرط فالحذف من وسط الكلمة، وأما في جوابه فالحذف من آخر الكلمة؛ لأن قوله (يرد): أصلها يريد فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، (ونؤته) أصلها نؤتيه فحذفت الياء للجازم؛ لأن الفعل المعتل يجزم بحذف حرف العلة.
{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ} أي من يرد الجزاء في الدنيا من الدنيا فإن الله تعالى يؤتيه منها، {نُؤْتِهِ}: أي نعطه منها وليس نعطيه كل الدنيا، فالإنسان قد يريد شيئًا كثيرًا من الدنيا، ولكن لا يحصل له وإنَّما يؤتى منها، مثلًا منا من يريد القصور والأموال الكثيرة والزوجات والمراكب الوثيرة وما أشبه ذلك. ومن يرد هذا يؤته الله منها؛ لأن من يرد هذا لابد أن يسعى له. فإذا كان لابد أن يسعى له فالغالب أن السعي التام يحصل به الموجب، ولهذا قال: نؤته منها، فقدّر الله الأسباب لحصول ما أراده من الدنيا.
وقوله: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} واضح في أن الله لا يؤتيه كل الدنيا وإنَّما يؤتى منها، وهذا يحتمل أن يكون عائدًا إلى ما أراده، بمعنى: أن الله لا يعطيه كل ما يريد. ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الدنيا من حيث هي على سبيل العموم فيعطيه الله كل ما أراد، وعلى كل تقدير فهذه الآية مقيدة بآية الإسراء، وهي قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} يعنى الدنيا {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] ولم يقل: عجّلنا له ما يريد، قال:{مَا نَشَاءُ} ، وهذا يؤيده الواقع فإن كثيرًا من الناس يريدون الدنيا
ويسعون لها بأيديهم وأرجلهم وألسنتهم وأعينهم ولكن لا يحصِّلونها؛ لأن الله قيَّد هذا العموم في سورة الإسراء بقوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} لا ما يشاء {مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} فقيَّد المعجل، والمعجل له، {مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} هنا هذا الإطلاق مقيد بذلك.
{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} : ولا نعطيه الآخرة كلها؛ لأن الآخرة درجات يختلف فيها الناس، ولا يمكن أن يعطى الإنسان جميع درجات الناس ولكن يعطى من الآخرة، ولهذا قال:{نُؤْتِهِ مِنْهَا} ولكنها تختلف عن عطية الدنيا، كما قال الله تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17] عطية الآخرة ليست كعطية الدنيا بل هي أعظم، ولهذا قال في آية الإسراء:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وهنا قال: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} فدلَّ ذلك على أن من أراد الآخرة فهو من الشاكرين وسيجزي الله الشاكرين بفضله الواسع. من أتى بحسنة أعطي حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وتأمل هذا الفضل العظيم: يتطهر الإنسان في بيته فيسبغ الوضوء فتكفر عنه سيئاته مع آخر قطرة من قطرات الماء، فإذا تشهد فتحت له أَبواب الجنَّةَ الثمانية يدخل من أيها شاء، فإذا خرج من بيته بعد التطهر يريد المسجد لا يخرجه إلَّا الصلاة لم يخط خطوة إلَّا رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة. هذا أيضًا ثواب كثير، كل خطوة لك فيها فائدتان: الأولى رفع الدرجة، والثانية حط الخطيئة، ثواب كثير عظيم في عمل قليل،
فإذا دخل المسجد فصلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، دعاء من الملائكة سخرهم الله عز وجل، فأنت ترى أن من أراد الآخرة فهو من الشاكرين وسيجزي الله الشاكرين، سيجزيهم على شكرهم أكثر بأضعاف مضاعفة من أعمالهم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن آجال الأنفس محددة؛ لقوله: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} .
2 -
تسلية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حين قيل لهم إن محمدًا قد قُتل، فأصابهم ما أصابهم من الغمِّ، فقال الله لهم: لا يمكن أن يقتل محمد قبل أجله {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} . إن كان الله قد أنهى أجله فإنه ينتهي، وإن لم ينته أجله بقي إلى الأجل المحدد. فلماذا تجزعون إذا قيل: إن محمدًا قد مات أو قد قتل، وهذا الشيء مؤجل عند الله عز وجل وبإذنه، وما كان مؤجلًا عند الله وبإذنه فإن الإنسان يجب عليه أن يستسلم له ويصبر عليه ويرضى به.
3 -
إثبات أن كل شيء حتَّى الموت مخلوق لله في قوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وما كان صادرًا عن إذن فهو مخلوق، ويدل لهذا قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2].
4 -
أنَّه لا يمكن أن يتقدم الإنسان أو يتأخر عن الأجل الذي قدره الله له؛ لقوله: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ويؤيد هذا آيات منها قوله تعالى: {فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. ومنها: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11].
فإن قال قائل: يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن
يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه"
(1)
، فإن هذا يفيد بأن الإنسان إذا وصل رحمه زِيد في عمره.
فالجواب عن ذلك أن يقال: مد الأجل كبسط الرزق، والحديث يقول:"أن ينسأ له في أثره، وأن يبسط له في رزقه". والرزق مكتوب، فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرزق يبسط ويوسع إذا وصل الإنسان رحمه، فكذلك الأجل يمدد إذا وصل الإنسان رحمه، ولا فرق، وهذا كقولنا: من أراد أن يولد له فليتزوج، والحديث:(من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في إثره) لا يعدو أن يكون بيانًا لسبب طول العمر، وليس معناه أن الإنسان له عمران، عمر عند قطيعة الرحم وعمر عند صلة الرحم؛ لأن المعلوم عند الله والمكتوب عنده عمر واحد مقرون بسبب، وهو صلة الرحم، فإذا وصل الإنسان رحمه علمنا أن له عمرًا واحدًا زائدًا مقرونًا بالسبب. يوضح ذلك أنك تقول: إذا أكل الجائع سلم من الموت، فهذا الإنسان على آخر رمق في الحياة، أتينا له بطعام فأكل وعاش، هل نقول: إنه كان له عمران مع أننا لو تأخرنا عن إسعافه بالطعام لمدة دقيقة واحدة لمات، فهذا لا نقول له عمران، نقول: له عمر واحد، لكن هذا الطَّعام سبب لاندفاع الموت عنه الذي حصل من الجوع، فالمسألة ليس فيها إشكال، إذا تأملها الإنسان وجد أن سبب زيادة العمر الذي هو صلة الرحم كغيره من الأسباب التي يحث الشارع عليها. أيضًا نقول: من أراد الجنَّةَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم بلفظ:"من سرَّه"، رقم (5985). ورواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها بلفظ:"من أحب"، رقم (2557).
فليعمل عملًا صالحًا وهو مؤمن بالله، هل نقول: إن الإنسان له حالان: حال يكفر وحال يؤمن؟ أو نقول: هذا قد قدّره الله بقضائه السابق أن يكون مؤمنًا من أهل الجنَّةَ؟ فالجواب: الثاني.
هكذا الذي وصل رحمه نقول: هذا من الأول لم يكن له إلَّا عمر واحد مبني على سبب وهو صلة الرحم، إذن فالمراد بيِّن، الحديث حثَّ الناس على صلة الرحم التي هي سبب لطول العمر.
وهناك قول آخر وهو أنَّه ظن بعضهم أنَّه ليس المراد امتداد الأجل فقال: إن المراد بذلك بركة العمر، يعني يبارك له في عمره أو ينسأ له في أجله أي: أن ذكره بعد موته يطول، والإنسان إذا ذكر بعد موته فكأنه حي، قال الله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] ويقول المتنبي:
والذكر للإنسان عمر ثانِ
فهذه ثلاثة آراء: إما أن يكون المراد بذلك ذكره بعد وفاته بالخير، وإما المراد بذلك البركة في عمره، والصحيح أنَّها الزِّيادة الفعلية في عمره، وأن المكتوب عند الله المعلوم عنده هو أن هذا الرجل سوف يصل رحمه ويمتد عمره.
5 -
أن الناس لهم مشارب ولكلِّ مسلك، لقوله:{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا} {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ} وهو كذلك.
6 -
أن الإخبار عن الشيء أو عن وقوع الشيء لا يدل على حلّه، فقوله:{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} لا يدل على حل إرادة الإنسان الدنيا بعمله، إنما هو خبر عن أمر وقع، والحل والحرمة يؤخذ من دليل آخر
من الشرع. ومن ثم يتبين خطأ من قال: إنه لا يشترط للمرأة محرم في السفر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن "الظعينة تخرج من صنعاء إلى عدن لا تخشى إلَّا الله ولا تخاف على نفسها"
(1)
، لأن هذا إخبار عن الواقع وليس إقرارًا له شرعًا، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ! "
(2)
. بلى قال ذلك، فهل يعني هذا أنَّه يجوز أن نتبع سنن اليهود والنصارى لأن الرسول أخبر بأننا سنتبعهما؟ أبدًا .. فالإخبار عن الشيء وقوعًا لا يدل على جوازه شرعًا، إنما يؤخذ جوازه أو عدم جوازه من أدلة أخرى.
7 -
الرد على الجبرية؛ لقوله: {وَمَنْ يُرِدْ} حيث أثبت للإنسان إرادة، والجبرية يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة، وأنه يفعل بدون اختيار ولا إرادة، ولكن كل النصوص السمعية والعقلية ترد على قولهم.
8 -
أن الإنسان قد يريد بعمله أن يُمدح عند الناس، وهذا لا يكون له من عمله إلَّا ما ناله من الدنيا فقط، نسأل الله السلامة. يعنى مثلًا: الإنسان يصلي ليقال مجتهد في العبادة. يقرأ
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام بلفظ:"فإن طالت بك حياة لترين الظعينة قد حل من الحيرة حتَّى تطوف بالبيت لا تخاف أحدًا إلَّا الله. . ."، رقم (3595).
(2)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتتبعن" بلفظ:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع حتَّى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "، رقم (7320).
ليقال قارئ، يتصدق ليقال كريم، يقاتل ليقال شجاع وما أشبه ذلك، فالذي يريد بعمله الصالح هذه الأمور الدنيوية ليس له حظ في الآخرة، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
9 -
إيثار إرادة الآخرة على الدنيا؛ لقوله: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} فإن هذا يدل على أن من أراد الآخرة فإنه من الشاكرين الذين يجزيهم الله عز وجل.
10 -
إثبات الجزاء على العمل، وهذا أعني الجزاء على العمل دائر بين أمرين، بين عدل وفضل، ويمتنع الأمر الثالث وهو الظلم بالنسبة لله عز وجل، والذين يجازون العمال على أعمالهم ينقسمون في جزائهم إلى ثلاثة أقسام: عدل وفضل وظلم.
ولهذا نجد أن منهم مَنْ يظلم عماله، ومنهم من يعطيهم حقهم كاملًا، ومنهم من يزيد، أما بالنسبة لجزاء الله تعالى فإن الظلم ممتنع عن الله، لا عجزًا عنه ولكن لكمال عدله سبحانه وتعالى:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} .
11 -
الحث على الشكر؛ لأن الإخبار بأن الله يجزي الشاكرين يراد به الحث على الشكر. قال العلماء: الشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح؛ فبالقلب بحيث يشعر الإنسان بنفسه أن هذه النعمة من الله عز وجل لا من حول الإنسان وقوته ولكنها بفضل الله. وباللسان يشكر الله يعني: يتحدث بنعمة الله، يتحدث بلسان الحال وبلسان المقال، فلسان المقال أن يقول: أحمد الله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا، أحمد الله الذي أعطاني الولد، أحمد الله الذي أعطاني المال، أحمد الله الذي يسَّر لي
بيتًا وما أشبه ذلك، وبلسان الحال أن يظهر أثر النعمة على العبد، فإن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، وعلى هذا فإذا آتى الله الإنسان مالًا وخرج إلى الناس بالثياب الخلقة أو بثياب رثة أو ما أشبه ذلك هل يعد شاكرًا؟ أليس هذا زهدًا؟ لا، ليس بزهدٍ، هذا من رآه قال: هذا فقير ما أنعم الله عليه بشيء، فيكون هذا المظهر منبئًا عن أن الله لم ينعم على هذا الشخص. والشكر بالفعل وهو الثالث: أن يقوم الإنسان بطاعة الله، إذا أنعم الله عليه بمال يتصدق منه، بعلم ينشره، بجاه يتوسط للناس ويشفع لهم وما أشبه ذلك. هذا من الشكر بالفعل، وعلى هذا يقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
وابن القيم ذكر أن الله يسَّر له شيخ الإسلام ابن تيمية، وأخبر أنَّه لا يستطيع أن يجزيه بيده ولا لسانه. ولقد مرَّت علينا هذه في شرحنا على نونيته رحمه الله تعالى حيث قال:
حتَّى أتاح لي الإله بفضله
…
من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حران فيا
…
أهلًا بمن قد جاء من حرانِ
فالله يجزيه الذي هو أهله
…
من جنة المأوى مع الرضوانِ
* * *
• ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
أولًا: القراءات في هذه الآية كما يلي:
{وَكَأَيِّنْ} هو فيها قراءتان: {وَكَأَيِّنْ} و (كَائِنْ من نبي).
{نَبِيٍّ} فيها قراءتان: {نَبِيٍّ} ونبيء بالهمزة.
{قَاتَلَ} فيها قراءتانِ (قُتِل) و {قَاتَلَ} .
والذي معنا في المصحف {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} .
(كأين) الصحيح أنَّها كلمة غير مركبة يعني بسيطة. البسيطة عند النحويين يعنون بها غير المركب، وقال بعضهم: إنها مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهامية، ولكن الصحيح خلاف ذلك، الصحيح أنَّها كلمة بسيطة نطق بها العرب هكذا، كما نطقوا بـ (كم)، وأن معنى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} كم من نبي. فهي إذن للتكثير، وهي مبنية على السكون (كأين أو كائن) على اللغتين، هي مبنية على سكون النون، أما محلها من الإعراب فهي مبتدأ، والجملة التي بعدها خبرها.
وقوله: {مِنْ نَبِيٍّ} جار ومجرور مميز لكأين؛ لأن (كأين) من الألفاظ المبهمة، والألفاظ المبهمة تحتاج إلى تمييز، من ذلك مثلًا ألفاظ العدد، ألفاظ العدد من الأشياء المبهمة؛ قولك مثلًا: عندي عشرون، فكلمة عشرون مبهمة تحتاج إلى تمييز فتقول: عشرون رجلًا، عشرون كتابًا، عشرون بيتًا، عشرون سيارة، وما أشبه ذلك، وتمييزها -أي كلمة (كأين) - يأتي بعدها مجرورًا (بمن) كأين من نبي.
وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ} يعني كثير من الأنبياء.
وقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} كلمة قاتل أو قُتِلَ اختلف المفسرون فيها، فبعضهم وقف عليها، وقال في قراءته:(وكأين من نبي قتل)، أو {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ} ثم استأنف فقال:{مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} وتكون جملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} جملة مكونة من مبتدأ
وخبر {رِبِّيُونَ} مبتدأ و {مَعَهُ} خبر مقدم، والجملة في موضع نصب على الحال من الضمير في قتل أو قاتل يعني: قاتل أو قتل والحال أن معه ربيين كثير.
وقيل: إن قوله (وكأين من نبي) جملة مستقلة يوقف عليها، ثم يستأنف فيقال:(قتل معه ربيون كثير) يعني: وكأين من نبي وُجد وأُرسل وبُعث وأُيد بالآيات واتبعه ناس فقتل معه وفي صحبته ربيون كثير، وعلى هذا القول تكون ربيون نائب فاعل على قراءة قُتِل، وفاعل على قراءة قَاتَل، ويكون النبي سالمًا على هذا التقدير الثاني. أما على الأول فيكون مقتولًا.
وقوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} :
(مع) ظرف وهي خبر مقدم و {رِبِّيُّونَ} مبتدأ مؤخر على تقدير أن الضمير في قاتل أو قتل يعود على النبي، (وكأين من نبي قتل أو قاتل)، لكن فيه وجه آخر يقول: إن (ربيون) فاعل قاتل أو نائب فاعل على قراءة قتل، وبناء على هذا يختلف الإعراب، فتكون (مع) ظرف مكان متعلق بقاتل أو بقتل، ويكون (ربيون) فاعلًا على قراءة قاتل، ونائب فاعل على قراءة قُتل، وعلى هذا التقدير يكون القتال أو القتل واقعًا على الربيين وليس على النبي، ويختلف الحكم بالنسبة للصحابة، فإذا كان قاتل أو قتل فيه ضمير يعود على نبي صار فيه تسلية للصحابة؛ أي أن الأنبياء قد قتلوا قبل محمد وقاتلوا. وعلى الاحتمال الثاني أن (ربيون) فاعل أو نائب فاعل يكون فيه إشارة إلى أن الصحابة لم يكن الابتلاء بالقتال أو القتل خاصًا فيهم بل هو سابق في الأمم المتقدمين، فيكون المراد من الآية شيئًا من التوبيخ واللوم للصحابة الذين
جزعوا لما أصابهم في أُحد، ولهذا قال:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} إلى آخره.
هذا من حيث تركيب الجملة، أما من حيث الإفراد فقوله:{مِنْ نَبِيٍّ} المراد بالنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، ولكن ليس في القرآن لفظ نبي إلَّا ويراد به الرسول {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [النساء: 163]. ونوح من المعلوم أنَّه من الرسل، بل هو من أولي العزم من الرسل. على كل حال: النبي عند أهل العلم من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، ولهذا سمي رسولًا من الرسالة. ولكن كل من ذكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول.
وقد أشكل على بعض الناس فقالوا: كيف يوحى إليه بالشرع ولا يؤمر بالتبليغ؟ ولكن هذا في الحقيقة ليس محل إشكال؛ لأنه يمكن الجواب عنه بأنه أوحي إليه بالشرع ليتعبد به، ويكون هذا من باب التذكير له إذا كان نبيًا بعد الرسل، ومن باب البيان له إذا كان نبيًا لم يسبق بالرسل. مثال الثاني آدم، فآدم نبي ولم يسبق بالرسل. ومثال الأول ما وجد من أنبياء بني إسرائيل الذين لهم أتباع ولم يؤمروا بالتبليغ، فيكون إنباء الله لهم من باب التفضل عليهم بذكر الشريعة السابقة وإحيائها وإن كانوا لم يلزموا بأن يبلغوا الناس، وبهذا يزول الإشكال. فيمكن أن الله ينبئ أحدًا ولا يأمره ولا يكلفه بالإبلاغ.
وقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} قاتل أو قُتل، المقاتلة مفاعلة تقتضي وجود مدافعة بالقتل من الجانبين؛ وهي أعم من القتل، ولهذا
قد تجوز المقاتلة ولا يجوز القتل، فلو وجدنا أهل قرية لا يؤذنون مثلًا فإنه يجب قتالهم ولكن لا يجوز قتلهم، يعني أننا إذا قدرنا على المعيَّن لا نقتله، ولكن نقاتلهم حتَّى يؤذنوا. مثلًا لو وجدنا قرية لا يصلون العيد فإنه يجب علينا قتالهم حتَّى يصلوا العيد ولكن لا يجوز قتلهم، فالقتل أخص من القتال بمعنى أنَّه يمكن أن يجوز القتال لقوم ولا يجوز قتلهم، ومن ذلك على رأي بعض العلماء الرجل الذي يريد المرور بين يديك أو بينك وبين سترتك فتدافعه فيأبى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن أَبى فليقاتله. ."
(1)
ولكن لا يجوز أن يقتله. والفرق ظاهر؛ لأنه لو قلنا إنه يجوز أن يقتله لجاز لهذا المصلي أن يضرب هذا الذي أراد المرور في مكان مميت، ويسقط ميتًا، ولكن هذا ليس بجائز، وإنَّما يقاتله مقاتلة دفاع، فإن اندفع كفَّ عنه.
وقوله: {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ربيون، قال بعضهم: إن الربيين نسبة إلى الربِّ ولكن كسرت الراء لأنها تغيرت عند النسب، وكم من حركة تغيرت عند النسب، مثلًا بنو أمية نقول فيهم: الأَمويين، تختلف الحركة عند وجود النسبة، فالربيون أصلها رَبيُّون من الرب أو من التربية وهي مفتوحة الراء، ولكنها لما تحولت إلى نسبة كسرت الراء، وعلى هذا فالربيون هم الذين قاموا بعبادة الرب فَنَالوا منه سبحانه وتعالى تربية خاصة.
ونظير ذلك قول العلماء: هذا عالم رباني نسبة إلى الرب والتربية، وقيل: إنها مضافة إلى رِبَّة بالكسر يعني منسوبة إلى
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب يرد المصلي من مرَّ بين يديه، رقم (509). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، رقم (505).
(ربة)، وهي الطائفة فيكون معنى {رِبِّيُّونَ كثَيرٌ} أي طوائف كثيرون. وعلى كل حال فالله تعالى يبين أن كثيرًا من الأنبياء قاتلوا أو قتلوا ومعهم ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قاتل معه ربيون أو قتل معه ربيون.
وقوله: {كَثِيْرٌ} صفة "لربيون" وهي لا تقتضي الأكثر، مثلًا: إذا كان عندنا مائة وسلم منهم خمسون نقول: هؤلاء كثير. سلم منهم عشرون نقول: هذا كثير، سلم منهم ستون نقول: هذا كثير، لكن ما قبل الخمسين لا نقول فيها أكثر، وإنَّما نقول أكثر فيما تجاوز النصف. المهم أن {كَثِيرٌ} هنا يعني طوائف كثيرة قاتلوا أو قتلوا.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} :
أي: ما جبنوا من أجل ما أصابهم في سبيل الله بل لم يزدهم ما أصابهم في سبيل الله إلَّا شجاعة وإقدامًا؛ لأن عندهم من الإيمان ما يدفعهم إلى ما يصيبهم في سبيل الله، كما أن من طبيعة البشر أن الإنسان إذا اعتُدِيَ عليه احتمى أو حمى وزاد إقدامًا، فكذلك هؤلاء ما جبنوا لما أصابهم في سبيل الله.
وقوله: {فِى سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طريقه وشريعته لأنهم مؤمنون بأن كل ما أصابهم فهو على خير، ولما دميت إصبع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات قال:
"هل أنتِ إلَّا أصبعٌ دَمِيتِ
…
وفي سبيلِ الله ما لقيتِ"
(1)
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من ينكب في سبيل الله، رقم (2802). ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى، رقم (1796).
{وَمَا ضَعُفُواْ} أي ما ضعفت عزيمتهم حتَّى لو قتل الكثير منهم، فإنها لا تضعف عزيمتهم خلافًا لمن كان عنده جبن فإنه تضعف عزيمته إذا قُتل أحد من قومه.
{وَمَا اسْتَكَانُوا} : من الاستكانة وهي الذل، أي: ما ذلوا لعدوهم مع أنَّه قُتل منهم كثير لكن كانوا على عزة؛ لأن الذي يعلم أن من قتل من قومه في سبيل الله لا يهتم إذ إنه مؤمن بأنه لو قتل هو لكان مقتولًا في سبيل الله، فلا يذل لأعداء الله.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} :
يحب الصابرين الذين يصبرون على كل ما يجب عليه الصبر، والصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، يعني أن الإنسان يصبر نفسه على الطاعة ولا يضجر منها ولا يدعها، وصبر عن معصية الله، يعني أن الإنسان يصبر نفسه عن المعصية فلا يقدم عليها، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخط بما يقضيه الله عليه من الأشياء المؤلمة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى له عناية خاصة بهذه الأمة، حيث يسليهم بما حصل للأمم السابقة؛ لقوله:(وكأين من نبي قُتِلَ) على قراءة الوقف.
2 -
أن الجهاد مشروع في غير هذه اللأمة؛ لقوله: {قَاتَلَ} والقتال من الأنبياء وأتباعهم لا يكون إلَّا عن جهاد وهو كذلك.
3 -
الثناء على من سبق ممن يستحق الثناء، ولهذا قال:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} .
4 -
أن من طرق التشجيع على الشيء والإغراء به، أن يُذكر للإنسان سلف يقتدي به ويتشجع للحاق به؛ لقوله:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} .
5 -
الإشارة إلى انحطاط مرتبة الذين يذلون لأعداء الله، يؤخذ من قوله:{وَمَا اسْتَكَانُوا} وذلك أن الإنسان المؤمن يجب أن يكون أشم كالطود العظيم بالنسبة لأعداء الله حتَّى إنه يجوز للإنسان الخيلاء وجر الثوب في مقابلة الأعداء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها لمشية يبغضها الله إلَّا في هذا الموطن"
(1)
، حتَّى إن بعض العلماء قال: يجوز للجيش الإسلامي أن يصبغ بالسواد رأسه ولحيته أمام الأعداء من أجل إرهابهم لأنهم يظنون أن المقابل لهم شباب، على كل حال سواء قلنا بهذا القول أم لم نقل، ينبغي للإنسان ألا يذل أمام عدوه بل يظهر له العزة بالقول وبالفعل؛ لأن إذلال الكافرين محبوب إلى الله، قال الله تبارك وتعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. وقال الله تعالى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، فكل شيء تغيظ به
(1)
أخرجه الطبراني من المعجم الكبير (7/ 105)، والهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب المغازي، باب غزوة أُحد، رقم (10071)، وهو في كنز العمال (4/ رقم 10685).
الكفار فهو قربة لك عند الله، وكل شيء تنال به الكفار من أذى أو قتل أو غير ذلك فإنه قربة تقربك إلى الله عز وجل، إلَّا إذا كان بيننا وبينهم عهد، فإن الواجب الوفاء بعهدهم؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7].
6 -
إثبات المحبة لله؛ لقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} والمحبة صفة من صفات الله تعالى المتعلقة بمشيئته؛ فهي من الصفات الفعلية لأنها تتعلق بالمشيئة، ووجه كونها تتعلق بالمشيئة أنَّها مربوطة بسبب، وكل صفة مربوطة أو مُعَلقة بسبب فإنها من الصفات الفعلية، وبناءً على هذه القاعدة المفيدة نقول: الرضا والفرح والضحك صفات فعلية.
فالله تعالى يحب، ولا ألذ للإنسان من محبة الله، من كونه يحب الله عز وجل، ولذلك إذا قمت تصلي وأنت صافي القلب بعيدًا عن الدنيا، مقبلًا على الله، تجد في هذه الصلاة محبة الله ولذة عظيمة تنسيك الدنيا كلها، لأنك لا تجد شيئًا ألذ من محبة الله سبحانه وتعالى.
ومرَّ علينا كثيرًا ولا حاجة إلى التكرار أن أهل التعطيل ينكرون حقيقة المحبة يقولون: إن المراد بالمحبة الإثابة أو إرادة الإثابة. يعني أنَّها الشيء المخلوق المنفصل عن الله، وهو الثواب أو الإرادة؛ لأنهم يثبتون صفة الإرادة، فمعنى {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} على قولهم: أي يثيبهم أو يريد أن يثيبهم.
7 -
الحثُّ على الصبر؛ لقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} لأننا لا نعلم فائدة أجلّ وأعظم من الحث على الصبر في مثل هذا التعبير.
• ثم قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى حسن فعل هؤلاء الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء وقتلوا، وأنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وهذا حسنُ فِعْل ذَكَرَ حسنَ قولهم فقال:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} : (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر، فهي تساوي المصدر أي: وما كان قولهم إلَّا قولهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
وهذه جملة مفيدة للحصر، يعني حصرت أقوالهم عند هذه المصائب أنهم سألوا الله المغفرة؛ مغفرة الذنوب والإسراف، وسألوه الثبات، وذلك لأن ما أصابهم إنما أصابهم بالذنوب كما قال الله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] إذن علاقة هذه الآية بما قبلها أنَّه لما ذكر الله حسنَ فعالهم ذكر حسنَ مقالهم.
أما من حيث الإعراب فيقول المعربون: إن (قول) خبر كان مقدم، و (أن) وما دخلت عليه (أن قالوا) اسمها مؤخر، وعلى هذا فهو من باب تقديم خبر كان.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} يعني عند حدوث القتل {إِلَّا أَنْ قَالُوا} الضمير يعود على الباقين منهم الذين لم يقتلوا؛ لأن الذين قتلوا لا يمكن أن يقولوا هذا. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} ، (ربنا) يعني يا ربنا، فهو منادى حذفت منه ياء النداء تخفيفًا وتيمنًا بالبداءة باسم الله. فحذف ياء النداء هنا له وجهان:
الأول: للتخفيف، والثاني: التيمن بالبداءة باسم الله.
نادوا الله تعالى عند الدعاء باسم الربوبية؛ لأن الربوبية هي التي فيها التصرف، وإجابة الدعاء من باب الربوبية، فتوسلوا باسم الله الذي يناسب ما يطلبون وهو إجابة الدعاء.
{اغْفِرْ} يعني استو وتجاوز؛ لأنه مأخوذ من المغفر وهو ما يقي به المقاتل رأسه من السهام، في المغفر الستر والوقاية، ولهذا لو أن الله سبحانه وتعالى هتك ستر المذنب لم تكن مغفرة تامة، ولو عذبه به وأخفاه عن الناس لم تكن مغفرة تامة، فإذا ستره وعفا عنه صارت المغفرة تامة.
{ذُنُوبَنَا} أصل مادة "الذال والنون والباء" تدور حول معانٍ متعددة منها النصيب كما قال تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] أي نصيبًا. ومنه سمي ذنوب الماء، أي: الدلو؛ لأنه شيء مقدر من الماء، ويطلق الذنب على الإثم؛ لأنه نصيب العامل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
{وَإِسْرَافَنَا} :
الإسراف: مجاوزة الحد، ومجاوزة الحد هي إما في غلو وإما في تقصير، أما مجاوزة الحد في الغلو فظاهر، وأما في التقصير فلأن المطلوب من المكلف ألا يتعدى حدود الله تجاوزا ولا يقربها أيضًا، فإذا كان الإنسان فاعلًا للمحرم فهو مسرف؛ لأنه تجاوز حد العبودية إذ مقتضى العبودية أن يكون مجتنبًا لما حرّم الله. وإذا فرَّط في الواجب كان مسرفًا أيضًا فيما تقتضيه العبودية؛ لأن مقتضى العبودية أن يكون قائمًا بالواجب، فالإنسان
قد يسرف في الواجب وفي المحرم وفي المباح أيضًا، كما لو أسرف في الإنفاق على نفسه وعلى أهله فإنه داخل في الإسراف.
وقوله: {فِي أَمْرِنَا} المراد بالأمر هنا الشأن أي في شأننا، وهو مفرد مضاف فيعم جميع الأمور.
{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} :
ثبّت أقدامنا عند ملاقاة الأعداء وعند حلول الشبهات وعند ورود الشهوات، والإنسان محتاج إلى أن يثبِّته الله في مواطن القتال، إذ لو لم يثبته الله لفرَّ. ومحتاج إلى أن يثبِّته الله عند الشبهات، إذ لو لم يثبته الله لزاغ. ومحتاج إلى أن يثبته الله عند الشهوات، إذ لو لم يثبته الله لهلك. وكثير من الناس ينزلقون عند وجود الشبهات فتجده ذا يقين، ولكنه إذا وردت عليه أدنى شبهة تأثر لأنه لم يثبت. كثير من الناس أيضًا يكون عنده علم ويقين، وليس عنده شك ولكن الشهوة قد تغلبه فلا يثبت. فالمطلوب تثبيت الأقدام في كل موضع يمكن أن تزل فيه، فيدخل في ذلك كما قلت تثبيت الأقدام عند القتال كما هو سياق الآيات، وتثبيت الأقدام عند الشبهات، وتثبيت الأقدام عند الشهوات.
{وَانْصُرْنَا} :
انصرنا يعني اجعل النصر لنا، وهو الغلبة {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يعني الكافرين بالله، فيدخل في ذلك أن ينصرك الله عز وجل على نفسك؛ لأن نفسك إن لم ينصرك الله عليها فإنها تأمرك بالسوء {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فإذا لم ينصرك الله عليها أهلكتك، وإذا نصرك الله عليها
وجعل الغلبة للنفس المطمئنة سلمت منها، ويدخل في النصر على القوم الكافرين النصر على الشيطان، فإن الشيطان كافر، قال الله تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] ويدخل في ذلك النصر على كفار الإنس، وذلك حين قتالهم فإن الإنسان إذا لم ينصره الله عليهم فإنه لا ناصر له كما قال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن هؤلاء الربيين الذين قاتلوا مع النبي كملت منهم الأفعال والأقوال، من الأفعال قوله تعالى:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146] ومن الأقوال: أنهم لجأوا إلى الله عز وجل بسؤال المغفرة، مغفرة الذنوب والإسراف في الأمر، لأنهم يعلمون أن ما أصابهم إنما هو بسبب الذنوب.
2 -
أنَّه ينبغي على الإنسان أن يدعو الله تعالى بهذا الدعاء لاسيما عند ملاقاة الكفار حتَّى ينتصر عليهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
3 -
أن الإنسان مفتقر إلى مغفرة الله؛ لقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ، ولو كان غنيًا عنها ما سألها ولكنه مفتقر إليها غاية الافتقار، حتَّى إن النبي عليه الصلاة والسلام لمّا حدّث أصحابه أنَّه لن يدخل الجنَّةَ أحد بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله برحمته"
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 196).
4 -
أن الإنسان لا يخلو من الإسراف على نفسه إما في غلو وإما في تقصير، وجه ذلك أن سؤالهم الله أن يغفر لهم الإسراف يدل على وجود هذا الشيء، وأنت إذا تأملت نفسك وجدت أنك لن تخلو من الإسراف.
5 -
أن الإنسان مفتقر إلى تثبيت القدم من الله عز وجل؛ لقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ، وقد ذكرنا أن هذا يشمل ثلاثة مواطن: عند مواجهة الأعداء، وعند الشبهات، وعند الشهوات.
6 -
أن الله إذا لم ينصرك على عدوك، فإنك لن تنتصر؛ لقوله:{وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فإن قلت: هل هذا يعارض أمر الله عز وجل باتخاذ ما نستطيع أو بإعداد ما نستطيع للأعداء من القوة؟ فالجواب: لا، لأنك إذا سألت الله شيئًا فإن المطلوب منك أن تسعى في حصوله وإيجاده، ولهذا لو سألت الله الجنَّةَ، فالمطلوب منك أن تعمل لها لا أن تقول: اللهم إني أسألك الجنَّةَ وتترك العمل، كذلك إذا سألنا الله أن ينصرنا على القوم الكافرين فان علينا أن نفعل من الأسباب ما نستطيع، سواء كانت هذه الأسباب معنوية أو مادية.
* * *
• ثم قال الله تعالى مبينًا ما ترتب على حسن حالهم ومقالهم: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]:
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} آتاهم: أي أعطاهم الله. و"أتى": تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر؛ لأنها من باب كسا وأعطى.
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} المفعول الأول هنا: الهاء في آتاهم، والثاني: ثواب {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي جزاءها وذلك بالنصر على أعدائهم والغنيمة فيمن تحل له الغنيمة. ومعلوم أنَّه لا تحل الغنيمة إلَّا لهذه الأمة، لكن المراد النصر على الأعداء والعزة والغلبة عليهم، وحُسْن ثواب الآخرة، ولم يقل: ثواب الآخرة، بل قال: حسن؛ لأن ثواب الآخرة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وليس ثواب مكافأة فقط، إذ لو كان ثواب مكافأة فقط لكان الحسنة بمثلها، لكنه ثواب حُسْن وفضل، ولهذا قال:{وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} هذا وجه، والوجه الثاني أنَّه لم يعبر عن ثواب الدنيا بالحسن؛ لأن الدنيا مهما كانت فهي دار شقاء وعناء وكدر، لا يمكن أن يخلو صفوها من كدر، ولهذا لم يقل: حسن ثواب الدنيا، إذ إنه في الحقيقة ليس له حسن، وهو إن كان حسنًا فهو حسن نسبي وإلَّا ففيه حسن لا شك {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] لكنه أمر نسبي حتَّى المنعمون بالنعمة تجدهم أحيانًا يأتيهم ما ينغص عليهم هذه النعمة.
وقوله: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} يعني يوم القيامة، وذلك برفعة الدرجات في جنات النعيم، والنجاة من دركات الجحيم.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يعني أنهم هم محسنون فأحبهم الله عز وجل، وكان من مقتضى محبته لهم هذا الثواب الحاصل في الدنيا وفي الآخرة.
وقوله: {يُحِبُّ} المحبة صفة من صفات الله حقيقة، فهو عز وجل يحب حقيقة، وليست محبته بمعنى الثواب أو الجزاء
كما قاله بعض أهل التحريف الذين ينكرون من الصفات ما ينكرون ومنها المحبة، فإنهم ينكرونها؛ ويقولون: إن الله لا يحب بل ولا يُحب، وتعليلهم أن الحب لا يكون إلَّا بين متجانسين، مخلوق ومخلوق، ولكن نقول لهم: هذا باطل. فالحب قد يكون بين شيئين متباعدين ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أُحد جبل يحبنا ونحبه"
(1)
وهو جماد، ومن الأشياء المحسوسة الملموسة أن الإنسان يحب أثاثه وأمتعته ورواحله وسياراته ودوره؛ يحبها محبة ظاهرة ملموسة محسوسة وهي ليست من جنسه فهي من جنس آخر، بل هي أيضًا دونه؛ لأنها ملكه، فهذا التعليل الذي نفوا به صفة المحبة لله تعليل باطل.
وقوله: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يشمل المحسنين في عبادة الله والمحسنين إلى عباد الله؛ أما المحسنون في عبادة الله فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يكون الإحسان فقال حين سأله جبريل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأَنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(2)
، يعني أن تعبد الله تعالى طلبًا مع اليقين التام، فإن لم تصل إلى هذه الدرجة فلا أقل من الدرجة الثانية، وهي أن تعبد الله هربًا، تعبده كأنه يراك فتهرب من عقابه بالقيام بطاعته، فالإحسان حقيقة يشير فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنَّه نوعان: إحسان بطلب، وإحسان بهرب.
الأول: أن تعبد الله كأنك تراه، فتطلبه طلب الوصول إليه.
والثاني: كأنه يراك فتخافه وتخشاه وتعظمه، والأول أكمل من الثاني. هذا هو القول الراجح في معنى الحديث، وإن كان بعضهم
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 434).
(2)
تقدم تخريجه (ص 175).
يقول: إنه مرتبة واحدة، وأن المعنى: إن لم تكن تراه فإنه يراك قريب من المعنى الأول، فالجملتان قريبتان من الترادف، والصواب ما قلناه أولًا، وإذا كان يحب المحسنين؛ فإنه يترتب على محبة الله سبحانه وتعالى أشياء كثيرة، منها ما يكون في الدنيا ومنها ما يكون في الآخرة؛ فما يكون في الدنيا فإن الله إذا أحب الإنسان سدد أعماله وخطواته وأقواله وأفعاله، كما جاء في الحديث الصحيح:"من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. . ."
(1)
هذا من فوائد محبة الله.
ومن فوائد محبة الله عز وجل تيسير فعل الطاعة وترك المعصية، وذلك لأن الإنسان إذا أحب شيئًا طلب الوصول إليه؛ فإذا كان يحب المال طلب الوصول إلى المال بالبيع والشراء والتأجير وغير ذلك، وإذا أحب شخصًا طلب الوصول إليه بمصاحبته ومصادقته، وإذا أحب أي شيء فإنه يطلب الوصول إليه، فإذا أحب الله العبد أحبه العبد فطلب الوصول إليه.
ومن فوائد محبة الله للعبد أن الله تعالى يلقي في قلوب العباد محبته، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]. وجاء في الحديث: "أن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه
(1)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502).
أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"
(1)
فيكون مقبولًا عند الناس.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى أثاب هؤلاء الذين أحسنوا في مقالهم وفعالهم بثواب الدنيا وثواب الآخرة.
2 -
أن رحمة الله تعالى سبقت غضبه؛ فهو يثيب الطائع بثوابين: ثواب في الدنيا وثواب في الآخرة، بخلاف العقوبة: فإن الله تعالى لا يجمع بين عقوبتين، فإذا شرَّع عقوبة في الدنيا على ذنب فإنه لا يعاقب به في الآخرة، كما جاء في الحديث:"إن الحدود كفارة"
(2)
. الحدود يعني العقوبات كحد الزنا والسرقة إنها كفارة لأصحابها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين:"عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"
(3)
، بل إن الله تعالى قال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فلن يجمع الله للإنسان عقوبتين على معصية، عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، لكن يجمع بين ثوابين في الطاعة ثوابًا في الدنيا وثوابًا في الآخرة؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب المِقَة من الله تعالى، رقم (6040). ومسلم، رقم (2637).
(2)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} بلفظ:"من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له. . ."، رقم (4894). ورواه مسلم بنفس اللفظ، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم (1709).
(3)
رواه مسلم، كتاب اللعان، رقم (1493).
فإن قال قائل: في بعض الآيات رتَّب الله عز وجل على بعض الأعمال -مثل من حارب الله عز وجل أو سعى في الأرض فسادًا- عذابين في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} ثم ذكر في النهاية {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
فالجواب: صحيح أن هذا الخزي ينالهم في الدنيا، ولكن لعل هذا لعظم أفعالهم صار لهم الحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وإلَّا فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما:"أن من أصاب شيئًا من هذه الدنوب والمعاصي فأقيم عليه في الدنيا، فإنه كفارة له". ولقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وأن الله لا يجمع للإنسان عقوبتين على المعصية. وقد يقال: لشدة جرمهم وذنبهم يجمع لهم بين هذا وهذا.
3 -
الإشارة إلى خفة شأن الدنيا بالنسب! للآخرة، تؤخذ من قول الله تعالى:{ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} كأن الدنيا ليست بشيء حتَّى يكون فيها حسن كما قررنا. ففيه إشارة إلى أن العاقل ينبغي له أن يعتني بثواب الآخرة الذي هو حسن.
4 -
إثبات البعث والجزاء؛ لقوله: {ثَوَابِ الْآخِرَةِ} .
5 -
إثبات المحبة لله، وهي صفة حقيقية ثابتة لله على الوجه اللائق به.
وهكذا جميع الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، كالرضا والفرح والعجب، يجب علينا أن نؤمن بها على أنَّها حق على حقيقتها؛ لأن الله خاطبنا بالقرآن بلسان عربي مبين. ولم
يأتِ عن الصحابة ولا عن الأئمة أنهم حرَّفوا هذه النصوص عن ظواهرها، وهذا يدل على أنهم أقرَّوا بها كما جاءت على ما هي عليه، وهذا مذهب السلف ومذهب أهل السنة والجماعة وفيه الراحة والطمأنينة؛ لأن الإنسان إذا لاقى ربه وقد أثبت له الصفة التي دلَّ عليها القرآن والسنة فإنه يوافيه بحجة؛ لكن إذا وافى ربه وقد حرَّف وقال: معنى {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي يثيبهم فليس له حجة عند الله. ونحن نتكلم دائمًا على أن الذين أنكروا شيئًا من صفات الله بحجة عقلية نجيبهم على سبيل الإجمال بأن نقول:
أولًا: أن هذا خلاف طريقة السلف؛ لأن السلف لم يستدلوا بالعقل على إثبات الصفات أو نفيها.
ثانيًا: أن العقل لا مجال له في باب صفات الله؛ لأن صفات الله خبر محض، والأخبار المحضة ليس للعقول فيها مجال إطلاقًا، ثم لو قال قائل: ألا يمكن أن نقيس الغائب على الشاهد؟ قلنا: لا يمكن القياس؛ لأن الله نفى هذا القياس ونهى عنه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وقال: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] نعم ربما أقيس شخصًا لم أعلم به على شخص أعلم به وأشاهده، ولكني لا يمكن أن أقيس الخالق على المخلوق؛ لأن الله نفى ذلك بل نهى عنه.
ثالثًا: أن نقول لهم: إن نفيكم لما نفيتم بحجة أن العقل لا يدل عليه غير صحيح في الاستدلال عند العقلاء، وذلك لأننا لو قدرنا أن العقل لا يدل عليه فقد دلَّ عليه السمع، وانتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول.
يعني إذا قلنا: هذا لا يدل على كذا، قلنا: لكن عندنا دليل
آخر، هب أن العقل لا يدل على ما نفيتم من الصفات لكن السمع دلَّ عليه، وهذا كما أنَّه في الأمور المعقولات فهو أيضًا في الأمور المحسوسات، لو قلت: إن هذا الطَّرِيقِ لا يؤدي إلى مكة، هل معناه أنَّه لا يمكن أن نصل إلى مكة؟ يمكن أن نصل عن طريق آخر، فهب أن العقل لا يدل على ثبوت ما نفيتم فإننا نستدل عليه بالسمع.
رابعًا: أن نقول: بل إن العقل يدل عليه وأولى مما ذكرتم، يعني أن نثبت ما نفيتم بدليل العقل، نثبته بدلالة العقل إثباتًا على وجه يكون أظهر مما ذكرتم، فمثلًا: هم يقولون والكلام هنا مع الأشعرية: إن الإرادة ثابتة لله عز وجل، لأن العقل دلَّ عليها بالتخصيص، يعني كون السماء سماء والأرض أرضًا هذا تخصيص.
ما الذي خصَّص أن تكون السماء سماء والأرض أرضًا؟ الإرادة: أراد الله أن تكون السماء سماء فكانت، وأن تكون الأرض أرضًا فكانت، إذن فهذا دليل عقلي على ثبوت الإرادة لله. ونقول: أنتم نفيتم الرحمة ونحن نستدل لها بالعقل! ألم تكن نعم الله عليكم لا تحصى؟ سيقولون: بلى لا تحصى. وهي آثار رحمة، ولهذا حتَّى العامة إذا جاء المطر وانتشر الخصب يقولون: هذه من رحمة الله أن أنزل علينا المطر وانتشر الخصب، بل يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، يثبتون الرحمة لله بدليل عقلي. كذلك أيضًا الرضا يمكن أن نثبته بدليل العقل. فإثابة الطائعين تدل على رضا الله عنهم، إذ لو غضب لانتقم لكنه رضي فأثاب. فهذا دليل عقلي، فصار الذين ينكرون ما ينكرون من الصفات بحجة أن العقل لا يدل عليها محجوجين من أربعة أوجه كما ذكرناها سابقًا.
6 -
الحث على الإحسان؛ لأنَّ الإحسان سبب لغاية هي غاية كل إنسان وهي محبة الله، فإذا كان سببًا لهذه الغاية العظيمة كان مأمورًا به محثوثًا عليه. ويدلكم على أن محبة الله هي الغاية أن الله قال في كتابه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ولم يقل: فاتبعوني تصدقوا فيما ادعيتم بل قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، لأن الثمرة العظيمة هي أن الله يحبك، مع أننا نضمن أنَّه من أحب الله حقا فسيحبه الله؛ لأن الله يقول:"من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا"
(1)
. فإذا كانت محبتك لله صادقة فإن محبة الله لك مضمونة. لكن البلاء كل البلاء أن تدَّعي المحبة وليست محبتك صادقة، يكون قلبك مشغولًا بمحابَّ أخرى كمحبة المال ومحبة الأولاد ومحبة القصور ومحبة المراكب ومحبة النساء وهكذا، هذه المحاب تضايق محبة الله في القلب، إلَّا إذا كانت تابعة لمحبته سبحانه وتعالى، ولا يقال عنا: أننا نوصد باب محبة جبلت النفوس عليها، وإنَّما نقول: محبة هذه الأشياء إذا كانت تابعة لمحبة الله صارت من محبة الله. لو أحب المال من أجل أن ينفقه في سبيل الله، كانت هذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل تزيدها. ولو أحب النساء من أجل تكثير الأمة ومن أجل تحصين فرجه ومن أجل الفوائد التي رتبت على النكاح، كان هذا من محبة الله، لكن لمجرد قضاء الوطر تجده يتعلق
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، رقم (7405). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، رقم (2675).
قلبه بكل امرأة، ما يستقر على شيء، حينئذ تكون هناك مزاحمة فتضعف محبة الله سبحانه وتعالى في القلب، المهم أن الشأن كل الشأن هو أن الله يحبك، هذا هو المهم.
7 -
إثبات الصفات الاختيارية لله عز وجل يعني التي تتعلق بمشيئته، فإذا علّق الله الصفة على فعل علمنا أنَّها من الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئته. فإذا كان الإحسان سببًا لمحبة الله وهو فعل العبد وهو حادث، لزم من ذلك ثبوت المحبة المعلقة بالإحسان. والصفات الاختيارية أيضًا أنكرها الأشاعرة ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن يكون لله صفات حادثة اختيارية، لماذا؟
قالوا: لأننا لو أثبتنا لله صفات حادثة لزم قيام الحوادث به، والحوادث لا تقوم إلَّا بحادث، والله عز وجل أزلي أبدي. فيقال: ويلكم هذا كذب أن الحوادث لا تقوم إلَّا بحادث! أليس الله يقول: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، ويقول:{اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] أليس الإنسان منا إرادته ليست تابعة لوجوده، بل للإنسان إرادات تتجدد ولا يلزم أن يكون هذا المريد لم يوجد إلَّا عند وجود الإرادة بل هو سابق عليها. نحن سابقون على إرادتنا يعني أن الإنسان موجود قبل أن يريد، فلا يلزم تساوي الإرادة مثلًا أو الأفعال الاختيارية مع الوجود، فالإنسان يفعل أفعالًا كثيرة متجددة لم تكن معه حين وجوده، فكذلك الرب عز وجل يفعل ما يريد أفعالًا لم تكن معه سبحانه وتعالى أزلية بل هي حادثة، لكن قد تكون حادثة النوع وقد تكون حادثة الآحاد، ويكون نوعها قديمًا أزليًا.
فالكلام مثلًا قديم أزلي لم يزل الله سبحانه وتعالى متكلمًا لكن آحاده حادثة لا شك {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ونحن نعلم أن مرادات الله عز وجل تقع {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] يحيي ويميت، يعز ويذل، يرزق ويمنع، وكل هذه الأشياء بإرادة مقرونة بالقول:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ومع ذلك لا يلزم منه أن يكون سبحانه وتعالى حادثًا. فتعليلهم هذا النفي الذي سلكوه تعليل عليل يوجب الوصف بالنقص. فانظر كيف كان أهل الباطل يفرون مما يعتقدونه باطلًا، فيقعون في شيء هو أبطل منه وأشر منه، مع تطاولهم على تحريف النصوص وتعطيل الله عز وجل عما وصف به نفسه، فهم محرفة ومعطلة واقعون في شر مما فروا منه.
فإن قال قائل: وهل يؤثر أخذ المغنم على الثواب الأخروي لحديث: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلَّا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم. . ."
(1)
؟
الجواب: أن أخذ المغنم لا يؤثر على الثواب الأخروي إذا خلصت النية أن تكون كلمة الله هي العليا، لكن قد يكون بعض المجاهدين يغلِّب جانب الغنيمة، فمن هنا ينقص الأجر كثيرًا حسب التغليب الذي قام في قلبه، فالحديث يحتاج إلى نظر في سببه، فلربما يكون سببه يدل على أن لهم إرادة في الدنيا.
(1)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم، رقم (1906).
• قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149 - 150].
صدَّر الله هذه الآية بالنداء، والتصدير بالنداء يدل على العناية بما سيوجه للمخاطب، وذلك لأن النداء يفيد التنبيه، ولا ينبه الإنسان إلَّا لشيء مهتم به. فإذا وجَّه الله الخطاب، أو إذا صدَّر الخطاب بالنداء فهو دليل على العناية به لأهميته، ثم وجّه إلى العباد باسم الإيمان {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} والغرض من ذلك هو:
أولًا: الإغراء والتشجيع على قبول ما يلقى؛ لأن الإيمان هو الذي يحمل الإنسان على قبول ما أمره الله به وعلى ترك ما نهى الله عنه. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه".
ويفيد أيضًا فائدة ثانية، وهي: أن قبول المذكور من مقتضيات الإيمان. كما أنك لو وجهت إلى شخص كريم وقلت له: يا أيها الكريم، أعط الفقير وأعن المحتاج، فهو يدل على أن إعطاء الفقير وإعانة المحتاج من مقتضى كرمه، إذن قبول ما يأتي بعد هذا الخطاب يكون من مقتضى الإيمان.
الفائدة الثالثة أو الغرض الثالث: أن عدم قبوله نقص في الإيمان؛ لأنه إذا وجَّه الخطاب إلى إنسان بلفظ الإيمان ولكن لم يمتثل فهذا نقص في إيمانه؛ لأن ما يأتي بعد النداء بـ {يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا} إما مأمور به أو منهي عنه أو مخبر به، فترك المأمور به نقص في الإيمان، والوقوع في المحظور نقص في الإيمان، والتكذيب بالخبر نقص في الإيمان.
استمع إلى هذا الخبر من الله عز وجل، خبر من العليم بكل شيء سبحانه وتعالى:
{إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} :
(إن) هنا شرطية، وفعل الشرط (تطيعوا) مجزوم بحذف النون والواو فاعل؛ لأنه من الأفعال الخمسة.
أما جواب الشرط فهو قوله: {يَرُدُّوكُمْ} وهو مجزوم بحذف النون والواو فاعل.
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} إذن هناك أمر موجه من الكفار إلى المؤمنين؛ لأن الطاعة تقابل الأمر، أو نهي موجه من الكافرين إلى المؤمنين يأمرونهم بالفحشاء وينهونهم عن المعروف، فإن أطعتموهم في ذلك فالجواب: يردوكم على أعقابكم.
وقوله: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} عامة تشمل اليهود والنصارى والمشركين والملاحدة الذين ليس لهم دين ولا يتعبدون بشيء، أي واحد من الكفرة إذا أمرك بشيء فأطعته فإنه يردك على أعقابك فتنقلب خاسرًا.
وقوله: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي فيما يتعبد به الله، أما في المسائل الأخرى كمسائل الصناعة مثلًا فإنه لا يدخل في الآية بلا شك، فلو أن مهندسًا من الكفار أمرك أن تصنع كذا لتكون النتيجة كذا فإنه لا يدخل في الآية، إنما يقصد به ما يكون
على سبيل التعبد كأن يأمرك بالفحشاء مثل شرب الخمر والسرقة وسوء الأخلاق، أو ينهاك عن المعروف؛ ينهاك عن الصلاة، أو ينهاك عن الإخلاص لله وما أشبه ذلك.
{أَعْقَابِكُمْ} :
الأعقاب جمع عقب، وهو مؤخرة القدم، ويقال له: العرقوب يعني يجعلونكم تمشون على الخلف، ومعلوم أن الذي يمشي على الخلف سوف يقع في الحفر ويطأ الشوك والحصى، وهذا قريب من قوله:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
{فَتَنْقَلِبُوا} الانقلاب يقتضي التحول من حال إلى حال، ولهذا يقال: انقلب في فراشه من الجنب الأيمن إلى الجنب الأيسر. إذن هناك تحول من حال إلى أخرى إذا أطعنا هؤلاء الكفار.
وقوله: {خَاسِرِينَ} هذه حال من الواو في قوله: (فتنقلبوا) أي تكونوا في خسارة بعد أن كنتم في ربح؛ لأن الإيمان ربح كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] كل إنسان، ولهذا "ال" هنا للعموم أي أن كل إنسان في خسر. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع هم الرابحون، ومن سواهم فهو خاسر عصره.
وهذه الحكمة من أن الله أقسم بالعصر دون غيره؛ لأن العصر هو خزائن الأعمال. فإذا لم يقم الإنسان بهذه الصفات الأربع خسر عصره وكان عمره خسارة.
{فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} لأنكم تحولتم من الإسلام إلى الكفر،
وفي آية أخرى سبقت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 100]، فهنا قال:{الَّذِينَ كَفَرُوا} وهناك قال: {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . لأن الذين أوتوا الكتاب بعضهم فيه خير، كما قال تعالى:{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]. وهذا من بلاغة القرآن لما قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] فريقًا منهم.
أما الكفار فكل الكافرين يريدون منا أن نكفر، وأن ننقلب على أعقابنا خاسرين.
فإن قال قائل: لمَ لا نحمل قوله {فَرِيقًا} على العموم فيشمل كل أهل الكتاب لقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] أي: كل يهودي وكل نصراني؟
فالجواب: أن يقال: الآية صريحة {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100] لأن بعض أهل الكتاب معهم نصح لكن ليس كلهم، ثم إن أهل الكتاب في الحقيقة في الوقت الحاضر ليس فيهم نصح؛ لأن الذين فيهم مودة للذين آمنوا أو أقرب الناس مودة هم الذين إذا {سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، هؤلاء قريبون من المؤمنين، يتأثرون بأدنى دعوة ويدخلون في الإسلام، أما نصارى اليوم فالظاهر أنهم كيهود الأمس معاندون ضد الإسلام، ولا يريدون أن تقوم للإسلام قائمة. ولكن الإسلام دين الفطرة تتقبله النفوس وتطمئن إليه، وهو أمر يحث الدعاة المخلصين من المسلمين، والقلوب بيد الله عز وجل.
ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} :
(بل) هنا للإضراب الإبطالي، لكنه إبطال شيء مقدر؛ لأن طاعتنا للكفار تكون لرجاء أو خوف، يعني نحن لو أطعنا الكفار فإما أن نطيعهم رجاء، وإما أن نطيعهم خوفًا؛ رجاء أن ينصرونا أو يمدونا بالمال وما أشبه ذلك، أو خوفًا من أن يسطوا علينا وأن يحاربونا ويقاتلونا.
هنا حسن الإضراب تمامًا فقال: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} يعني لا تطيعوهم وتتولوهم فإن لكم مَنْ هو خير من ولايتهم وهو الله.
ولهذا يعتبر هذا الإضراب إضرابًا إبطاليًا لشيء مقدر {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} من أجل أن يكونوا لكم أولياء فإنهم سوف {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} . ثم قال: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} إذا كان الله مولانا سبحانه وتعالى فإنه لا يهمنا أحد من الخلق ما دمنا نؤمن بأن الله هو مولانا بما معنا من الأوصاف التي نستحق بها الولاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولن يهمونا أبدًا مهما كانوا من القوة، ومهما كانوا من الصناعة، ومهما كانوا من المال؛ لأن معنا الله عز وجل وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن الله عز وجل يأمرنا أن نقاتل بأيدينا، فإذا أعيتنا القدرة مع القيام بما يجب حينئذ جاءنا نصر من الله لا قِبَل للبشر به، وهذه حقيقة يجب أن نفهمها.
نحن مأمورون بأن نعدَّ العدة وأن نقاتل، لكن إذا جاءنا من لا طاقة لنا به حينئذ يأتي نصر من الله ليس لنا به طاقة ولا لغيرنا، وله شواهد في التاريخ.
فموسى عليه السلام لما خرج من مصر وكان فرعون قد
جمع له جميع أهل المدائن، كل المدن جميعهم من أجل القضاء على موسى وقومه وقال:{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ليخفف شأنهم عند قومه حتى يستعدوا ويهموا بالقضاء عليهم، ووصلوا إلى البحر.
هل للإنسان طاقة بالبحر؟ ليس له طاقة، ولهذا قال قومه:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] لأن البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم فكيف ينجون منهم؟ قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. فأمره سبحانه أن يضرب البحر فضربه مرة واحدة بعصا تحمل باليد، مرة واحدة فقط، فانفلق اثني عشر طريقًا يبسًا بلحظة، هذه الأرض الرطبة التي هي وحل وطين صارت بلحظة يبسًا، وها هو الماء السيال صار كل فرق منه كالطود العظيم كالجبل، جبال واقفة ليست سيالة.
حتَّى إن بعض العلماء يقول: إن الله تعالى جعل في هذه الكتل المائية فرجًا حتَّى ينظر بنو إسرائيل بعضهم إلى بعض؛ لأن الإنسان في وسط الماء، المياه عن يمينه ويساره يخشى أن أصحابه قد غرقوا فجعل الله لهم فُرَجًا في هذه الأطواد ينظر بعضهم إلى بعض، بلحظة لا طاقة للبشر بها. فمن كان الله مولاه فهو منصور.
خرجوا من البحر ناجين، ثم دخل فرعون وقومه في البحر، ولمَّا تكاملوا داخلين، أمر الله البحر أن ينطبق فانطبق بلحظة فأغرق فرعون وجنوده، وكان فرعون قد أرعب بني إسرائيل فأخرجه الله جل وعلا لهم جسدًا ينظرون إليه {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] فاطمأنوا أنَّه هلك.
وفيما يذكر من تاريخ هذه الأمة الإسلامية أن العلاء بنُ الحضرمي لما وصل إلى البحرين وجد البحر أمامه وليس معه سفن، فدعا الله عز وجل فعبر الماء على أقدامه والخيول والإبل كلها تمشي على الماء كأنما تمشي على صفا من حجر، هذه ليس لنا بها طاقة.
وكذلك أيضًا ما يذكر عن سعد بنُ أبي وقاص عند فتح المدائن أنَّه وصل إلى دِجْلة وهي تقذف زبدًا من قوة الجريان، وقد عبرها الفرس بسفنهم وجسورهم وكسروا الجسور وأغرقوا السفن، ولم يبق للمسلمين شيء يعبرون به، فقال سعد بنُ أبي وقاص لسلمان الفارسي: أعطنا من آرائك؛ لأنه رضي الله عنه كان ذا رأي في الحرب، وهو الذي أشار بحفر الخندق على المدينة في عام الأحزاب فقال: والله لا أرى حيلة في هذا، البحر بين أيدينا وليس معنا سفن ولا جسور ولكن دعني أنظر في القوم، إن كانوا على ما ينبغي وهم أهل للنصرة فليس بنو إسرائيل بأولى منا من النصرة، والله عز وجل قد فلق البحر لهم فعبروا. فذهب فوجد القوم فرسانًا في النهار رهبانًا بالليل؛ في الليل ركوعًا وسجودًا، وفي النهار يصلحون معدات الحرب ويستعدون. فرجع إليه بعد ثلاث وقال: إني وجدت القوم على أحسن ما يرام، ولكن توكل على الله، فنادى سعد بالرحيل وأنه سوف ينفذ البحر وقال: إني مكبر ثلاثًا، فإذا كبّرت الثالثة فخوضوا البحر باسم الله ففعلوا، فيقال -سبحان الله- إنهم عبروا كلهم بخيلهم ورجلهم وإبلهم. حتَّى إن بعض المؤرخين ذكر أن الخيل إذا تعبت أنشأ الله لها ربوة تقف عليها وتستريح، هذا نصر ليس لنا به طاقة لكنه من الله عز وجل. ولهذا قال هنا: لا تراءوا الكافرين ولا
تطيعوهم استجلابًا للنصر أو خوفًا منهم؛ لأن لكم وليًّا أعظم منهم وهو الله عز وجل.
{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} :
يعني خير من ينصر، بل هو خير الناصرين، وأعظم الناصرين وأقدرهم وأقواهم عز وجل:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] لا أحد.
فالإضراب هنا من أحسن ما يكون في هذا الموضع {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي خير مَنْ ينصر.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
فضيلة الإيمان حيث يوجه الخطاب إلى الناس بوصف الإيمان في مقام الإرشاد والتنبيه، وأن الإيمان مقتضٍ للامتثال.
2 -
أنَّه لا يجوز لنا أن نطيع الكافرين؛ لأن طاعتهم وسيلة إلى الكفر {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .
3 -
وجوب الحذر من الكفار، وأنهم لا يمكن أن يدبروا أمرًا فيه مصلحة للمسلمين والإسلام أبدًا، إن ذلك مستحيل، حتَّى الحلفاء الذين يكون بينهم وبين المسلمين حلف فإنه لا يمكن أن يحالفوا المسلمين إلَّا لمصلحتهم قطعًا. فخزاعة كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حلف في صلح الحديبية لكن لمصلحتهم.
4 -
أن طاعة الكفار نتيجتها الحتمية الكفر؛ لقوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .
الكفار يأخذوننا شيئًا فشيئًا، يوردون علينا أشياء نطيعهم فيها، وهل يقفون عند هذا الحد؟ لا، لا يقفون، يدخلون أشياء
حتَّى ننقلب على أعقابنا، وليس معنى ذلك أن نسجد لهم ونركع لهم. كلا، بل إذا خرج الإنسان من دينه كفى، ولهذا يذكر عن بعض رؤسائهم أنَّه قال: نحن نسعى للتنصير لا من أجل أن نخرج المسلم من دينه إلى النصرانية؛ لأن دين النصرانية معروف بعيد عن الفطرة، وأعني بدين النصرانية الذي هم عليه الآن، أما ما جاء به المسيح فهو حق، لكن ما جاء به المسيح قد انتهى ونسخ بالدين الإسلامي. يقول:(نحن لا نريد أن نخرج المسلم من دينه إلى النصرانية لكن يكفينا أحد أمرين: إما أن نخرجه من دينه إلى (لا دين) ويكون بهيميًا ليس همه إلَّا بطنه وفرجه ومتعه، وإما أن نشككه في الدين)، ومعلوم أن الإيمان لا يصح مع الشك، الإيمان يقين إذا كان عند الإنسان أدنى تردد فليس بمؤمن، لا إيمان مع التردد. هم يقولون: يكفي أن نخرجه إلى أن يكون بهيميًا أو مترددًا شاكًا حائرًا، هذه نتيجة كفرية.
5 -
أن الكفر خسارة؛ لقوله: {فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِيِنَ} وإذا كان الكفر خسارة فالإيمان ربح، ولهذا لا نجد أحدًا أربح من المؤمن في هذه الدنيا، حتَّى لو كان فقيرًا ولو كان وحيدًا ليس عنده أموال ولا بنون، فإنه أربح من الكافر؛ لأن الكافر قد خسر الدنيا والآخرة، ولم يستفد من دنياه حقيقة وإنَّما يعيش كما تعيش البهائم كما قال أعلم العالمين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} ، سبحان الله مثال منطبق تمامًا {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] نتيجة سيئة (النار مثوى لهم) يخرجون من الدنيا والعياذ بالله التي نعموا فيها إلى نار جهنم، وحينئذ يكون خروجهم أشد وأصعب بخلاف المؤمن -عسى الله أن يجعلنا من المؤمنين- المؤمن يخرج من الدنيا ونكدها وتنغيصها إلى دار النعيم كما قال
تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} عند موتهم {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وهذه الآية تدل على نعيم القبر؛ لأنه قال: ادخلوا الجنَّةَ الآن من موتكم. وقد ثبت في الحديث الصحيح: "يفسح له في قبره مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنَّةَ ويأتيه من رَوْحِها ونعيمها"
(1)
كما هو معروف.
6 -
التحذير الشديد من طاعة الكفار وولايتهم، ومع الأسف الشديد إننا اليوم قد هان علينا الولاء والبراء، الولاء والبراء الذي يجب أن يكون من المؤمن وهو الذي به يذوق حلاوة الإيمان مفقود إلَّا مِمَّن شاء الله.
كان الناس -وقد أدركناهم- إذا ذكر النصراني عند أحدهم اقشعر جلده وقال: أعوذ بالله، نصراني أو يهودي. أما الآن فيقال: إن بعض الناس من المسلمين يصف النصراني بالأخوة -أخونا فلان- كيف أخونا فلان؟ ! ماذا قال إبراهيم عليه السلام هو وقومه؟ : {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} ، تبرؤوا منهم قبل أن يتبرؤوا من الأصنام {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا} إلى متى؟ {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
والله عز وجل يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] هذه الأسوة الحسنة أن نتبرأ من
(1)
رواه أحمد (18063). ورواه أَبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم (4753).
الكافرين، وأن نبغضهم، ونعتقد أنهم أعداء مهما ألانوا لنا القول وزخرفوه لنا، فهم أعداؤنا، ووالله لن تعود هذه العداوة ولايةً أبدًا إلى يوم القيامة.
يجب علينا أن نحذر، وهنا نوجه الخطاب إلى ولاة الأمور وإلى عامة الناس بالتحذير من الكفار وولايتهم، وننصحهم بأن يتخذوهم أعداء حقيقيين كما هو الواقع، كذلك أيضًا الرعية يجب عليهم أن يبتعدوا عن الكفار ولاسيما في هذه الجزيرة؛ لأن هذه الجزيرة لها شأن خاص في إبعاد الكفار عنها. قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته عند فراقه الدنيا يوصي أمته يقول:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"
(1)
. ويقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتَّى لا أدعَ إلَّا مسلمًا"
(2)
. الأول في الصحيحين والثاني في مسلم. ويقول فيما صحَّ عنه أيضًا: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"
(3)
. وننصح إخواننا العامة بأن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم وأن لا يُحضِرُوا إلى هذه البلاد أحدًا من اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار إلَّا للضرورة القصوى في حدود معينة. بمعنى أن لا يحضروهم على سبيل الاستيطان المؤبد، بل يحضرونهم عند الضرورة، وتقدر الضرورة بمدة معينة لا على سبيل الاستيطان المؤبد.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم، رقم (3053). ورواه مسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، رقم (1637).
(2)
رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، رقم (1767).
(3)
انظر الآحاد والمثاني (1/ 184) ح (234).
7 -
إثبات الولاية لله عز وجل، إثبات ولاية الله تعالى للمؤمنين لأنه قال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قال: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} وهذه ولاية خاصة؛ لأن ولاية الله للخلق نوعان:
عامة لكل أحد، وهذه معناها تولي الأمور سواء بنصر أو بخذلان أو غير ذلك، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 61، 62].
أما الولاية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وهو عز وجل ولي المتقين، فالولاية هذه خاصة ومعناها أو مقتضاها أن الله سبحانه وتعالى يتولى هذا الذي استحقها باللطف والعناية ويوفقه، ويفسر هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل:"من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتَّى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"
(1)
يعني أن الله يسدده في جميع تصرفاته، إذن هذه ولاية خاصة تختص بمن يستحقها من المؤمنين المتقين.
هنا {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} والمراد بها الولاية الخاصة.
8 -
أن الله عز وجل ناصر لأوليائه؛ لقوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} وهذا من ولايته.
(1)
تقدم تخريجه (ص 271).
فإن قال قائل: كيف نجيب عما أخبر الله به في كتابه أن من الناس من قتل الأنبياء بغير حق؟
فالجواب عن هذا من أحد وجهين:
الوجه الأول: أن المراد بالنصر أو الوعد بالنصر لمن أمر بالجهاد، فإن الله ينصره؛ لأن الله لا يكلفه بشيء إلَّا والعاقبة له فيه، وأما الذين قتلوا من الأنبياء فلم يؤمروا بالجهاد.
الوجه الثاني: أن نقول: إن النصر نوعان:
أ - نصر شخصٍ معين بمعنى أن الإنسان يدركه بشخصه.
ب - نصر معنوي بمعنى أن الله ينصر من جاء بهذا ولو بعد موته.
ولهذا نجد أقوال الأئمة -أئمة المسلمين- كأنهم أحياء بيننا، أقوالهم حية فكأنهم أحياء، إذا أخذت كتابًا لعالم من العلماء وقرأته وانتفعت به فكأنَّما درّسك هذا العالم، إذن هذا نصر، نصر لمبدئه وهدفه ودعوته.
وجه ثالث أيضًا: أن نوزع النصر على الزمن، فنقول: إن النصر قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، والذين قتلوا من الأنبياء سوف يكون نصرهم في الآخرة عندما يختصمون مع أقوامهم، فإنَّ أهل الحق وأهل الباطل يوم القيامة يختصمون عند الله؛ يختصمون فيقضى بينهم فيما هم فيه يختلفون.
فلا تظنوا أن الخلاف الذي يقع بين أهل الحق وأهل الباطل ينتهي بالدنيا، كلا، سوف يحكم الله بينهم يوم القيامة وينصر أهل الحق {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] والآيات متعددة تدل على هذا {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31] إذن إذا حكم الله لأهل الحق على أهل الباطل يوم القيامة فهذا نصر. فصار الجواب على هذه الآية من ثلاثة أوجه:
- إما أن نقول: إن الذين وُعدوا بالنصر هم الذين أُمروا بالجهاد.
- أو نقول: إن النصر نوعان: نصر لشخص منصور يدركه في حياته، ونصر لدعوته وما جاء به، وهذا يكون ولو بعد مماته.
- أو نقول: إن المراد بالنصر هو النصر يوم القيامة عندما يختصمون عند الله عز وجل، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
9 -
ومن الفوائد أيضًا أنَّه يوجد أحد ينصر غير الله عز وجل، وهذا صحيح {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]، لكن الله هو خير الناصرين، كما أنَّه يوجد خالق غير الله لكن الله أحسن الخالقين. وكما ذكرت فيما سبق أن الخلق المضاف إلى غير الله ليس هو الخلق المضاف لله؛ لأن الخلق المضاف لله هو الإبداع، والخلق المضاف إلى غيره ما هو إلَّا تحويل وتغيير الشيء من شيء إلى شيء، ومن صورة إلى صورة مثله.
10 -
وهنا فائدة وهي أنَّه يجب أن يعلم أن ما لم يكن في القرآن وصحيح السنة من الأخبار فإنه لا يصدق ولا يكذب؛
لأن الله تعالى قال: ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، إذن لا نتلقى أخبارهم إلَّا من الله عز وجل؛ إما من كتابه أو صحيح السنة وما عدا ذلك فإنه يتوقف فيه.
* * *
• ثم قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
{سَنُلْقِي} الفاعل هو الله عز وجل، وعبَّر عن نفسه تعالى بفعل يقتضي الجمع مريدًا بذلك التعظيم (أي سنلقي نحن)، ولا يمكن أن يراد به إلَّا ذلك؛ لأن الله واحد ليس متعددًا، فلا يمكن أن يكون معه أحد بخلاف غيره، فإنك إذا قلت لشخص: سنأتيك يحتمل أنك أردت التعظيم، ويحتمل أنك أردت الجمع، أما بالنسبة لله عز وجل فلا يمكن أن يراد الجمع الذي هو التعدد، وإنَّما يراد به التعظيم، ويدل لهذا قوله تعالى في سورة الأنفال:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] فالله سبحانه وتعالى هو الملقي لكنه يذكر نفسه تعالى أحيانًا بصيغة الإفراد لأنه واحد، وأحيانًا بصيغة الجمع لأنه عظيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويحتمل أنَّه يذكر نفسه بصيغة الجمع لما له من الجنود العظيمة التي لا يعلمها إلَّا هو، فيكون هذا إشارة إلى أنَّه ذو عظمة وسلطان وجنود تفعل ما يأمر به جل وعلا.
وقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} السين
تدخل على الفعل المضارع وتفيد أمرين: القرب، والتحقيق. وهي تفيد التحقيق من وجه وتفيد القرب من وجه آخر بخلاف (سوف) فإنها تفيد التحقيق وتفيد الإمهال، ولهذا تكون (سوف) للتسويف، والسين للتنفيس أي القرب.
{الرُّعْبَ} فيها قراءتان: الرُّعُب والرُّعْب، وهذا يوجد في اللغة العربية كثيرًا يعني التسكين للتخفيف، والحركة على الأصل مثل: النهْر والنهَر، والمعنى واحد.
والرعب أشد الخوف، وإنما يذكر الله عز وجل أنه يلقي الرعب في القلب؛ لأن القلب إذا دخله الرعب فإنه لا يمكن أن يثبت البدن، ولو ثبت البدن أو حاول الإنسان الثبات فإن قلبه من شدة الرعب سوف يحمله عن الأرض حملًا ويفر ولا يمكن أن يبقى، ولهذا نجد بني النضير لما ألقى الله في قلوبهم الرعب ماذا صنعوا؟ الواحد منهم ينجو بنفسه حتى إنهم كانوا من شدة خوفهم يحملون الأمتعة ويكسرون البيوت، يعني: لا يقلعون الأبواب بتؤدة وطمأنينة من شدة الرعب الذي أصابهم. والرعب أقوى سلاح يكون على العدو، فإذا ألقى الله الرعب في قلوب العدو؛ فإنه لن يبقى.
{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} الباء هنا للسببية أي بسبب شركهم بالله. و (ما) يسميها العلماء مصدرية أي: بشركهم، وعلامة (ما) المصدرية أن يصح تحويل ما بعدها إلى مصدر، فإذا صحَّ تحويل ما بعدها إلى مصدر فهي مصدرية، وقد ذكروا أن لِـ (ما) معانِيَ عشرة مجموعة -أو مشارًا إليها- في بيت من الشعر:
ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها
…
بكف ونفي زيد تعظيم مصدر
والأخير هو المثال الذي معنا.
و {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} أي بشركهم بالله، وحيث جعلوا لله تعالى شركاء، ولكن هؤلاء الشركاء الذين جعلوهم مع الله إنما جعلوهم شركاء في العبادة لا في الربوبية، ولهذا كان شرك العرب شركًا في الألوهية لا في الربوبية {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85]، فهم يقرون بأن الله هو الخالق، وأن ما في الكون ملكه، لا ينكرون هذا لكنهم يشركون في العبادة، فيعبدون مع الله غيره، ومع ذلك يدَّعون أنهم يعبدون هذه الأصنام لتكون شفعاء لهم عند الله، فهم يقرون أيضًا أنها دون مرتبة الله لكن يعبدونها {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
يقول: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} :
(ما) تحتمل أن تكون اسمًا موصولًا أي الذي لم ينزل به سلطانًا، وتحتمل أن تكون نكرة موصوفة أي شيئًا لم ينزل به سلطانًا، والمعنى لا يختلف على التقديرين، فقوله:{مَا لَمْ يُنَزِّلْ} فيها قراءتان: يُنَزِّل، وُينزِل، أي بالتشديد والتخفيف.
وقوله: {سُلْطَانًا} أي حجة وبرهانًا فيجعلون لله شركاء لم ينزل الله بهم سلطانًا أي ليس لهم بهم حجة.
وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} القيد هنا لبيان الواقع وليس للاحتراز، أي أن واقع هؤلاء الشركاء أنه لا سلطان لشركهم ولا دليل، وليس المعنى أنهم يشركون ما لم ينزل به ولو
أشركوا ما نزل به لكانوا على صواب، لا؛ لأنه لا يمكن أن يأتي سلطان أي "حجة" على أن الله له شركاء.
فإذا قال قائل: ما الفائدة من ذكره هذا الوصف الذي يبيّن الواقع؟
قلنا: الفائدة في ذلك إقامة الحجة على أنه ليس لهم دليل في إشراكهم به؛ لأنهم بنوا على غير سلطان وعلى غير حجة، إذا كان كذلك فالغرض من هذا التنفير عن هذا الإشراك، عكس ذلك أن يأتي وصف لبيان الواقع من أجل الحث والإغراء على لزوم الحكم كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعو الخلق إلى ما يميتهم، وإنما يدعوهم إلى ما يحييهم. فالقيد إذن لبيان الواقع ولكن جيء به للحث والإغراء على إجابة دعوته، كما أن القيد الذي في الآية هذه {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} لبيان بطلان هذا الإشراك وأنه ليس له دليل.
قال: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} واعلم أن السلطان ما كان له سلطة، فالدليل يسمى سلطانًا، والأمير على القوم يسمى سلطاناً، وولاية الرجل على أهله سلطان، وهكذا كل من كانت له سلطة فإنه يسمى سلطانًا. قد يكون السلطان بمعنى القدرة على الشيء مثل قوله تعالى:{لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أي بقدرة، ولا قدرة لكم على نفوذ أقطار السموات والأرض.
قال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} :
{وَمَأْوَاهُمُ} أي: مرجعهم النار، فهم -والعياذ بالله- مغلوبون في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا يلقي الله في قلوبهم
الرعب فلا يقرون ولا يستقرون، وفي الآخرة مأواهم النار، والنار هي الدار التي أعدها الله عز وجل لأعدائه يعذبهم بها، وهي موجودة الآن عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف حتى إنه تأخر مخافة أن يصيبه من وهجها عليه الصلاة والسلام
(1)
ورأى فيها من يعذب.
{وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (بئس) فعل جامد لإنشاء الذم، ويقابله (نِعْمَ)، وهذا الفعل يحتاج إلى فاعل وإلى مخصوص فاعله مثوى، والمخصوص محذوف والتقدير: هي أو النار.
وقوله: {مَثْوَى} المثوى: المستقر الذي يثوي إليه الإنسان ويستقر فيه كالمسكن مثلًا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إثبات الأفعال الاختيارية لله؛ لقوله: {سَنُلْقِي} .
2 -
من كمال الله عز وجل تجدد أفعاله التي تكون تابعة لإرادته وحكمته؛ لأن إلقاء الرعب في قلوب هؤلاء حادث، {سَنُلْقِي} أي في المستقبل. ثم هؤلاء متى وجدوا؟ هل هم أزليون؟ لا، هم حادثون وقلوبهم حادثة والرعب الذي يلقى فيها حادث. وبه نرد على من أنكروا أفعال الله الاختيارية وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى ليس له أفعال حادثة، زعمًا منهم أن الفعل الحادث لا يقوم إلا بحادث، فيلزم من هذا إنكار صفة القدم
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقال بعد التكبير بمعناه، رقم (745).
عن الله، هذا على زعمهم، ونحن نقول: هذه دعوى باطلة، دعوى من يقول: إن الفعل الحادث لا يقوم إلا بحادث، نحن نشاهد أفعالًا لنا لم تكن قديمة كقدمنا، فالإنسان يتعشى اليوم غير عشائه بالأمس، فهذا فعل حادث في محدث فلا يلزم أن يكون الفعل مقارنًا للفاعل أبدًا (لوجود الفاعل).
إذن نقول: في هذه الآية ردٌّ على هؤلاء الذين ينكرون قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل.
3 -
بيان عظمة الله، من قوله:{سَنُلْقِي} . فإن هذه الصيغة تدل على العظمة أو التعدد. والتعدد في حق الله محال فتعيَّن أن تكون للتعظيم.
4 -
أن محل الإرادة والتدبير للبدن هو القلب؛ لقوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} ، وليس المحل هو الدماغ خلافًا للمشهور عند فلاسفة اليوم، فإن الدماغ في الحقيقة لا يدبر، بل يتصور ثم يرسل الصورة إلى القلب، والقلب يحكم، الدماغ بمنزلة ما نسميه "بالسكرتير" يجهز الأوراق ويرتبها ثم يرسلها إلى الملك ويقول له: ماذا تأمر؟ والدليل على هذا قوله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] نصٌّ واضح أن العقل يكون في القلب، وأن محل هذا القلب هو الصدر، وبهذا نرد على من قالوا: إن المراد بقوله: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] القلوب المعنوية هي الدماغ، والله يقول:{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] وهذا نص صريح، ثم إن السنة أيدت هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا
صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
فالتدبير للقلب، والتصور للدماغ.
قال الإمام أحمد رحمه الله: العقل في القلب وله اتصال بالدماغ، واتصاله هو ما ذكرنا أن الدماغ يتصور ثم يرسل إلى القلب، والقلب يأمر بواسطة الدماغ، والدماغ يحرك الأعصاب، وبهذا التقرير يتبين لنا أن ما جاء به القرآن والسنة في هذه المسألة لا يخالف ما هو معروفٌ عند الأطباء اليوم. فإن القلب الصناعي لابد أن يدخله مثلًا العروق ويحصل منه حركة، هذه الحركة يمكن أن نفسرها بأنها أمر من القلب يصدر سواء بشيء ثابت بخلقة الله عز وجل أو بالصناعة.
5 -
أن إلقاء الرعب في قلب الأعداء من أكبر النصر؛ لقوله: {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] ثم قال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} فالرعب من أقوى أسباب النصر وهو أمر معروف، هذا الرعب هل هو خاص في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يشمل ما يحصل لأعداء أتباعه إلى يوم القيامة؟
الثاني هو الثابت، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صحَّ عنه:"نصرت بالرعب مسيرة شهر"
(2)
.
6 -
إثبات الأسباب؛ لقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا} لأن الباء للسببية وهو الحق.
(1)
تقدم تخريجه (ص 103).
(2)
رواه البخاري، كتاب التعبير، باب رؤيا الليل، رقم (6998). ورواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).
والأسباب إما شرعية وإما حسية، وإنكارها سفه في العقل وضلال في الدين؛ لأن النصوص قد تكاثرت وتجمعت على إثبات الأسباب. دخول الجنة لا يحصل إلا بسبب، والنجاة من النار لا تحصل إلا بسبب. والولد لا يحصل إلا بسبب، والرزق لا يحصل إلا بسبب، كل شيء لابد له من سبب، فإنكار الأسباب ضلال في الدين وسفه في العقل.
ومن العجب أن الأشاعرة ومن نحا نحوهم في هذا الباب يقولون: إن الله تعالى يوجد الأشياء بلا واسطة، وتقع الأشياء بتدبيره مباشرة بلا واسطة؛ لأنَّهم يقولون: لو أثبتنا الواسطة وجعلنا لها تأثيرًا لكان هذا نوعًا من الشرك بالله. فمثلًا يقولون: لا أثر للسكين في قطع اللحم، ولا أثر للحجر في كسر الزجاجة، فلو أتى إنسان بلحم وجعل يقطعه بالسكين فلا أثر للسكين في قطع اللحم، ولو رمى زجاجة بحجر وانكسرت، فلا أثر للحجر في كسر الزجاجة، فالأسباب لا تؤثر عندهم، وهذا سفه في العقل، لكنني أقول: هذه الأسباب لا يوجد بها المسبَّب بذاتها وإنما يوجد بما أودع الله فيها من القوى التي خلقها الله عز وجل، ومن ذلك الرعب الذي يلقى في قلوب الذين كفروا بسببٍ وهو الإشراك.
7 -
أنه إذا كان الرعب يلقى في قلوب الذين كفروا لإشراكهم، فإن الأمن يلقى في قلوب الذين آمنوا لتوحيدهم؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت ضده لضده، فإذا ثبت الرعب للكفار بسبب إشراكهم ثبت الأمن للمؤمنين بتوحيدهم، ويدل لهذا قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، والظلم هو
الشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية. قالوا: يا رسول الله، أيّنا لم يظلم نفسه قال:"إنما ذلكم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "
(1)
[لقمان: 13].
إذن كلما كان الإنسان أشد إيمانًا بالله وأشد توحيدًا له كان أشد أمنًا واستقرارًا، وهذا شيء مجرب؛ لأنه من كان أشد إيمانًا بالله وأشد توحيدًا لله كان أقوى توكلًا عليه، ومن أقوى أسباب الأمن ومصابرة الأعداء التوكل على الله عز وجل حتى إن من الناس من يقوم توكله على الله مقام الدواء في الشفاء، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو واقع.
وبعض الناس يكون عنده قوة توكل على الله ويشفى بدون علاج بسبب قوة توكله على الله، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حينما ذكر أن الدواء بالمحرم ليس ضروريًا، حتى يقال: إن الدواء بالمحرم جائز للضرورة، قال: هذا ليس للضرورة؛ لأن المريض قد يشفى بدواء آخر وقد يشفى بالقراءة، قال: وقد يشفى بقوة التوكل على الله.
وقد مرض أبو بكر رضي الله عنه فقيل له: أَلَا ندعو لك الطبيب؟ قال: إنه قد رآني، وقال:"إني أفعل ما أريد". من يعني به؟ الله عز وجل، فالحاصل أن نقول: إن الإنسان كلما قوي إيمانه بالله وقوي توحيده ازداد أمنًا وطمأنينة واستقرارًا، وهذا أمر مشاهد مدرك بالحس.
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، رقم (4776). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه، رقم (124).
8 -
أنه لا دليل لأحد على شركه؛ لقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} .
9 -
النداء والإعلان عن سفه هؤلاء المشركين لكونهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، لو كان لهم دليل لعذروا لكن لا دليل لهم، وهذا نداء عليهم وإعلان بسفههم.
10 -
إثبات الجزاء؛ لقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} .
11 -
إثبات أن النار مأوى الكافرين الذين أشركوا بالله، فنحن نشهد بأن كل كافر مشرك فمأواه النار ولكن هل نشهد بهذا على شخص بعينه؟ .
الجواب: لا، لا نشهد عليه ولكننا نقول: إننا نعامله في الدنيا معاملة الكافر، فمثلًا لو مات زعيم من زعماء الكفرة كزعيم الروس أو زعيم أمريكا أو ما أشبه ذلك نحكم بأنه كافر، وأن كل كافر في النار، فلا نصلي عليه ولا نكفنه ولا ندفنه مع المسلمين، ولا ندعو له بالرحمة، لكن مسألة الجزاء هذا ندخله في العموم، نقول: كل كافر فإنه في النار.
فالمعين غير العموم، وكذا لو مات واحد من المسلمين ومات على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله هل نشهد له بالجنة؟
الجواب: لا، بل نقول: إن كل مسلم يدخل الجنة، ونقول أيضًا: كل كافر سيدخل النار، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة أننا لا نشهد لمعين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزاد شيخ الإسلام رحمه الله أنه لو اتفقت الأمة على الثناء عليه كالأئمة الأربعة مثلًا نشهد لهم بالجنة، لا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم -
شهد لهم، ولكن لأن الأمة أثنت عليهم وقد قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، ولما مرت جنازة من عند الرسول عليه الصلاة والسلام وهو جالس في أصحابه فأثنوا عليها خيرًا، قال:"وجبت" ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شرًّا، قال:"وجبت" قالوا: ما وجبت؟ قال: "أما الأول فوجبت له الجنة، وأما الثاني فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار"
(2)
.
والمقصود أننا لا نشهد لأحد معين بجنة ولا نار، لكن يكفي أن نقول: الأصل في هذا أنه من أهل النار، هذا هو الأصل لكن لا نجزم بالأصل فيجوز أنه في آخر لحظة من حياته ألقى الله في قلبه الإيمان. فإنه إذا كان قد تاب ولم يحضره الموت فإن الله يتوب عليه. وعلى كل حال شهادتنا له بالنار لا توجب له النار، وعدم شهادتنا له بالنار لا تمنعه عن النار، إذن: لا فائدة من أن نلزم أنفسنا بالشهادة لهذا الشخص المعين بالنار.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، رقم (1367). ورواه مسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى، رقم (949).
(2)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، رقم (3332). ورواه مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2643).
12 -
ذم النار ومثواها والعياذ بالله؛ لقوله تعالى: {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} وصدق الله عز وجل فإن أبأس دار وأقبح دار وأخبث دار هي النار، ولهذا استحقت هذا الوصف من الله عز وجل وهو قوله:{وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} .
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} :
هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات:
الأول: القسم المقدر؛ لأن التقدير: (والله لقد).
والثاني: اللام.
والثالث: قد، فهذه ثلاثة مؤكدات في هذه الجملة.
{صَدَقَكُمُ} :
أي أنجزه لكم. وقوله: {وَعْدَهُ} منصوب بنزع الخافض أي: صدقكم الله في وعده، يقال: صدقه، ويقال: صدَّقه، وبينهما فرق، فإذا قيل: صَدَقه يعني أخبره بالصدق، وإذا قال صدَّقه أي قال: إنَّ ما أخبرت به صدق، فالتصديق من المخاطب للمتكلم، والصدق من المتكلم للمخاطب، فمعنى قوله تعالى:{صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي أنجز لكم الوعد فصار ما أخبركم به صدقًا.
{وَعْدَهُ} :
أي ما وعدكم به من النصر، ثم بيَّن موضع هذا الصدق فقال:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فـ"إذ" هنا ظرف متعلق بصدق، أي صدقكم وعده حين حسستموهم بإذنه. وقوله:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} مضارع عبَّر به عن شيء ماضٍ على تقدير حكاية الحال؛ لأن القاعدة أن يعبر عن الماضي بصيغة الماضي، فيقال: قال زيد، لكنه عبَّر هنا عن الماضي بصيغة الحاضر لحكاية الحال لتقريب تصور الماضي في الذهن؛ لأن الماضي قد انقضى فربما يكون الإنسان ناسيًا له، فإذا صيغ بصيغة المضارع صار الماضي كأنه حاضر، وهذا ما يعبر عنه النحويون بحكاية الحال، حكاية الحال الماضي كأنها الآن واقعة من أجل أن يكون ذلك أقرب لحضورها في الذهن.
وقوله: {تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} الحس القتل أو أشد القتل، {تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم أشد قتلة بإذن الله الكوني والشرعي، بإذنه الكوني لأنه قد وقع، وكل شيء قد وقع فإن الله قد أذن به كونًا، وبإذنه الشرعي لأن الله تعالى قد شرع لنا أن نقاتل الكفار فيكون قتلنا لهم مأذونًا فيه شرعًا، إذن في هذه الآية اجتمع الإذنان: الكوني والشرعي.
وقوله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم بإذنه، هذا نصر.
فإن قال قائل: وهل قُتل أَحدٌ من الكفار في يوم أُحد؟ .
فالجواب: نعم، قُتل منهم أكثر من تسعة رجال وانهزموا وفروا حتى رُئي النساء ينطلقن يصعدن في الجبل مذعورات
كاشفات الرؤوس حاسرات السيقان؛ لأنهن قد هربن حيث أيقنّ بالأسر وكانت الغلبة والعزة في أول النهار للمسلمين.
ثم قال: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ} :
{حَتَّى} قيل: إنها ابتدائية، وقيل: إنها للغاية.
فالوجه الأول: أن (حتى) للغاية، أي صدقكم وعده إذ تحسّونهم بإذنه إلى أن فشلتم، وعلى هذا فتكون (إذا) غير شرطية، حتى وقت فشلكم، هذا وجه كون (حتى) للغاية.
{إِذَا فَشِلْتُمْ} أي حتى حين فشلتم، أي أن صدق الوعد والحس استمر إلى أن فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون.
والوجه الثاني: أن (حتى) ابتدائية، فالجملة مستأنفة وتكون (إذا) على هذا الوجه شرطية وجوابها يُذكر إن شاء الله.
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} الفشل معناه الجبن والخور أي: حتى إذا جبنتم وخِرتم وعجزتم عن الانتصار.
{وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} المنازعة: المخاصمة والاختلاف.
وقوله: {فِي الْأَمْرِ} هل المراد بالأمر الشأن أو المراد بالأمر واحد الأوامر؟ على القول الأول يكون الأمر واحد الأمور، وعلى الثاني يكون الأمر واحد الأوامر، ومعنى {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} أي في الشأن على القول الأول أو في الأمر أي: أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، على القول الثاني، ويكون الخطاب موجهًا إلى الرماة وكانوا خمسين رجلًا أَمَّر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير، وقال لهم:"لا تبرحوا مكانكم، ابقوا في الجبل سواء كانت لنا أو علينا"، ولما رَأَوْا المسلمين قد
انتصروا وانهزم المشركون وصار المسلمون يجمعون الغنائم أرادوا النزول من الجبل فنازعهم أميرهم وقال لهم: امكثوا، ولكنهم أصروا على النزول فنزل أكثرهم. إذن: يكون الأمر هنا واحد الأوامر أي تنازعتم في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فمنكم من قال: نبقى امتثالًا لأمره، ومنكم من نزل اغتنامًا لكسب الغنيمة
(1)
. والمعنيان متلازمان لأنه لما اختلفوا في أمر الرسول تنازعوا في شأنهم أي في أمرهم.
{وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} :
أي: وعصيتم الرسول لكن لم يذكر المفعول به كراهة لذكره حيث إنه يكون أشد وقعًا وتوبيخًا، وكأن الله عز وجل أراد أن يوبِّخهم بطريق لين، قال:{وَعَصَيْتُمْ} ولم يقل: عصيتم الرسول؛ لأن هذا أهون مما لو صرح به وقال: (وعصيتم الرسول) فإذا قيل: عصيتم الرسول صار أشد وقعًا في التوبيخ.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ} :
{أَرَاكُمْ} يعني من بعد ما أراكم رؤيا عين ما تحبون من النصر وهزيمة أعدائكم، وجواب الشرط على الوجه الثاني في {إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} قال بعضهم: إن جواب الشرط (تنازعتم) والتقدير: حتى إذا فشلتم تنازعتم في الأمر وعصيتم، وعلى هذا الوجه تكون الواو زائدة.
وقال بعضهم: جواب الشرط (عصيتم) والتقدير: حتى إذا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، رقم (3039).
فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون. وعلى هذا الوجه تكون الواو زائدة أيضًا.
وقال بعضهم: جواب الشرط محذوف تقديره: انقسمتم قسمين: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة.
وقال بعضهم: محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون فاتكم النصر.
وقال بعضهم: الجواب محذوف قطعًا، والقول بأن الواو زائدة في (تنازعتم)، وأنه جواب الشرط، أو في (عصيتم) وأنه جواب الشرط قول ضعيف؛ لأن الحرف هنا حرف جاء لمعنى يفوت بفواته ما جاء من أجله، فالجواب إذن محذوف وفائدة حذفه: أن يذهب الذهن كل مذهب في تقديره، وكل شيء يقدر جوابًا لـ"إذا" لا ينافي المقدر الآخر، فإنه صالح، وعلى هذا ممكن أن نقول:"وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون فاتكم ما تحبون، أو فاتكم النصر، أو خُذِلتم، أو انقسمتم إلى قسمين" كل هذه الاحتمالات صحيحة ولا تتنافى، فقد فاتهم النصر وانقسموا إلى قسمين، وخذلوا، وهذا من بلاغة القرآن؛ فالحذف من أجل أن يكون أشمل للمعنى وأكثر.
ثم قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} :
(مِنْ) هنا تبعيضية أي: بعضكم يريد الدنيا، وبعضكم الآخر يريد الآخرة، فالذين نزلوا لجمع الغنائم ظاهر عليهم أنهم يريدون الدنيا، والذين ثبتوا ظاهر عليهم أنهم يريدون الآخرة، وهذا على سبيل المثال، وإلا فالأمثلة كثيرة في الذين يريدون
الدنيا والذين يريدون الآخرة، حتى في طلب العلم، من الناس من يريد الدنيا، ومن الناس من يريد الآخرة، ومن الناس من يريد الجاه والرفعة والسيادة؛ لأن العلم يرفع بيوتًا لا عماد لها، والجهل يهدم بيوت العز والشرف، ومنهم من يريد الآخرة: أن يحفظ شريعة الله، وأن يعلِّم عباد الله، وأن يتعبد لله على بصيرة، وما أشبه ذلك، فهذا حال الناس كلهم، منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة.
وقوله عز وجل: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} :
{ثُمَّ} أي بعد أن صدقكم الله وعده بحَسِّهم -أي بقتلهم- صرفكم عنهم، يعني: بعد أن فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم صرفكم عنهم، وتأمل قوله:{صَرَفَكُمْ} فإن الصرف يقتضي إقبالًا شديدًا يُعاني فيه المقبل حتى يصرف، كما تقول: صرفت الدابة عن العلف وما أشبه ذلك، فيفيد بأن المسلمين كانوا مقبلين جدًّا على هؤلاء الأعداء لكن صرفوا عنهم مع شدة رغبتهم في القضاء عليهم؛ لأنه كان لهم النصر في أول الأمر لكن صرفوا عنهم.
وقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي ليختبركم؛ والابتلاء في الأصل الاختبار والامتحان، ويكون في الخير ويكون في الشر، قال الله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال سليمان عليه السلام لما رأى عرش بلقيس حاضرًا عنده مستقرًا أمامه قال:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] فالخير ابتلاء، والشر ابتلاء، الشر يبُتلى به الإنسان ليصبر، والخير يُبتلى به ليشكر؛ فكله ابتلاء، ولهذا قال: {لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا
عَنْكُمْ} هذه الجملة أيضًا مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر لأن الأصل: والله لقد، واللام، وقد، وإنما أكدت الجملة هنا والجملة هناك في قوله:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} لأنه قد يتبادر من الوقائع خلاف ذلك، فمثلًا في الجملة الأولى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} قد يتبادر من كون الهزيمة في آخر الأمر على المسلمين أن الله لم يصدقهم وعده، فأكد ذلك بقوله:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ، هذا النصر. والثانية لما ابتلوا بهذه البلوى قد يتبادر إلى الذهن بأن الله سوف يعاقبهم على معصيتهم وتنازعهم وجبنهم فقال:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} فكان التأكيد هنا وفي أول الآية في غاية ما يكون من البلاغة؛ لأن المقام يقتضي التأكيد.
وقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} العفو بمعنى التجاوز، ويكون للإنسان محمودًا ويكون مذمومًا، فإذا كان مع القدرة فهو محمود، ويكون مذمومًا إذا كان مصدره العجز، فلا يُحمد عليه الإنسان؛ لأن هذا يدل على ضعفه وعدم أخذه لنفسه بالحق. أما عفو الله فهو بلا شك كائن مع القدرة؛ لأن الله عز وجل قادر على أن يعاقب لكنه يعفو سبحانه وتعالى مع القدرة كما قال تعالى:{كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
وقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} يشمل كل من وقعت منهم المخالفة، وهذا من فضل الله عليهم، ويجدر بنا هنا أن نذكر قصة عجيبة: جاء رجل من الخوارج إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو مستظل بالكعبة، فوقف عليه بعد أن سأل عنه فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا عبد الله بن عمر. فسأله عن أمير المؤمنين عثمان، قال
له: أما علمت أن عثمان بن عفان تخلَّف عن غزوة بدر؟ قال: بلى تخلف، قال: أما علمت أنه فرَّ يوم أُحد؟ قال: بلى فرَّ. قال: أما علمت أنه لم يبايع بيعة الرضوان؟ قال: بلى. قال الخارجي: الله أكبر -يعني أنه انتصر- لأنه إنما سأل هذه الأسئلة الثلاثة ليقدح في عثمان رضي الله عنه فكبَّر الخارجي، فلما كبَّر قال له: أما وقد قلت فسأحدثك: أما تخلفه عن غزوة بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبقى ليمرّض ابنته -أي: ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مريضة- رقية -زوجة عثمان- فتخلَّف ليمرضها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، إذن لا يلام. أما فراره في أُحد فإن الله تعالى قال:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} وبعد العفو لا يبقى أثر الذنب. وأما تخلّفه عن بيعة الرضوان فإنه لا يوجد أحد من بطون قريش أعز من البطن الذي منه عثمان؛ لأنه بطن قوي في قريش، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا أحق بأن يبعثه إلى قريش من عثمان فبعثه إلى قريش ليفاوضهم؛ لأن له مكانة، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بايع المؤمنين تحت الشجرة أخذ بيده الكريمة ووضعها على اليد الأخرى، وقال: هذه عن يد عثمان -الله أكبر- فكانت يد النبي عليه السلام خير من يد عثمان لعثمان، أليس كذلك؟ سبحان الله! ثم قال: اذهب بها إلى قومك أو كلمة نحوها، يعني أنت جئت تريد أن تقدح في أمير المؤمنين وصار الآن القدح -ولله الحمد- مدحًا.
فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن ينتبه لها ويكون حذرًا، فبعض الناس ربما يسأل سؤالًا ظاهره الاسترشاد ولكن يكون معناه النقد، فإذا جاء به على هذا الوجه ألقم الناقد حجرًا، وصار هذا من سوء فهمه.
وعلى كل حال فلكل مقام مقال، وليس معنى هذا أن نسيء
الظن في كل واحد. فابن عمر رضي الله عنه فَهِمَ من هذا الخارجي أنه يريد الطعن والقدح في عثمان فأجابه.
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ} أي: صاحب فضل {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وأنتم منهم ولذلك عفا عنكم، وهنا في الجملة إظهار في موضع الإضمار، إذ مقتضى السياق أن يقول:"والله ذو فضل عليكم" وفائدته (أي فائدة الإظهار في مقام الإضمار) تقدمت لنا وقلنا: فيه ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: التسجيل على محل الإضمار أو على مرجع الضمير بأنه من أهل هذا الوصف، يعني إثبات هذا الوصف لمرجع الضمير، مثلًا:(والله ذو فضل عليكم) إذا قال: "على المؤمنين" بدل "عليكم" أفاد بأنهم مؤمنون.
الفائدة الثانية: العموم؛ لأنه لو قال: (والله ذو فضل عليكم) اختص الفضل بمرجع الضمير، وإذا قال:"على المؤمنين" تشملهم وغيرهم.
الفائدة الثالثة: العلة (علة الحكم)، الحكم كون الله ذو فضل، والعلة -وهي الإيمان- في هذه الآية، وهي تختلف باختلاف السياق، هذه فائدة الإظهار في موضع الإضمار هنا، فهنا مناسبة لفظية في الإظهار، وهي تناسبُ رؤوس الآيات، لأنه لو قال:(والله ذو فضل عليكم) لم تتناسب مع ما بعدها ومع ما قبلها.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى قد نصر المؤمنين في أُحد كما نصرهم في بدر؛ ودليله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} .
2 -
أن من البلاغة أن يؤكد الخبر إذا كان الحال تقتضي ذلك، يؤخذ من قوله:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} حيث كان فيه قسم وتوكيد باللام وقد.
3 -
شدة عزيمة الصحابة رضي الله عنهم في طلب العدو؛ لأنه قال: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} والحس: القتل أو أشده كأنه يسمع له صوت عند القتل، وهكذا ينبغي للمسلمين أن يأتوا أعداءهم الحربيين على شدة وغلظة، كما قال الله تعالى:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104] يعني: لا تضعفوا في طلبهم، وانظر إلى هذه التعزية للصحابة:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
4 -
أن النزاع والمعصية سبب لفوات كمال النصر؛ لأن المسلمين في أول الأمر انتصروا وقتلوا المشركين، لكن لما حدث هذا المانع امتنع أو انتفى كمال النصر.
5 -
أن مثل هذا الأمر -النزاع والمعصية- سبب للخذلان؛ تؤخذ من واقع الأمر؛ لأن قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} جواب الشرط فيه محذوف، والمعنى أنكم خسرتم هذا النصر وخذلتم، ومن قرأ الغزوة تبين له ما حصل للصحابة من الأمور العظيمة التي ستأتي إن شاء الله عند قوله:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [آل عمران: 153].
6 -
المعصية بعد النعمة أشد من المعصية قبل النعمة؛ لقوله: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} وإلا لكان يقول: {وَعَصَيْتُمْ} فقط، لكن كون المعصية تقع بعد أن أراهم الله ما يحبون هذه أعظم، أعظم مما إذا لم يكن الله قد أراهم ما يحبون.
7 -
الحثُّ على اجتماع الكلمة، وجهه أن النزاع سبب
للخذلان، فيكون الاتفاق سبب للنصر وهو كذلك، الاجتماع اجتماع الناس على كلمة واحدة لا شك أنه سبب للنصر، ولهذا ينبغي لطلبة العلم وللعلماء أن لا يظهر خلافهم ونزاعهم أمام العامة، اختلاف الآراء لابد أن يكون، لكن كون كل واحد منهم يعيب على الآخر إن خالفه، هذا خطر عظيم جدًّا؛ لأن العامة ترى هذا النزاع فلا تثق بواحد منهم، على أن العامة أيضًا سوف يتفرقون، فالنزاع لا شك أنه سبب للخذلان والفشل وتمزق الأمة.
8 -
أن المدار كله على ما في القلب؛ لقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} وكأن هذا -والله أعلم- فيه إشارة إلى أن سبب الجبن والنزاع والمعصية سوء النية من بعض مَنْ كان فيهم، ويمكن أن نجعل قوله:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} جملة استئنافية تعليلية لما حصل، ولا شك أن المدار كله على ما في القلب، وأنه متى كان القلب صالحًا صلح العمل، ومتى كان فاسدًا فسد العمل.
9 -
أنه قد يكون في خير القرون من يعاب عليه الفعل؛ لقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} ولكن الصحابة رضي الله عنهم بخاصة لهم من الفضائل والسوابق والصحبة ما يكفّر ما حصل منهم من الآفات وغيرها، ولهذا للصحابة مزية على غيرهم، يعني المكفّرات العامة لكل أحد مثل (ما يصيب المؤمن من همٍّ ولا غمٍّ ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها عنه)
(1)
. هذه عامة
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده (7967) بلفظ: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله من خطاياه".
لكل أحد، لكن للصحابة أشياء خاصة توجب محو ما حصل منهم من السيئات، ويدلك على هذا أن منع أعظم المصائب وأكبر المعايب التجسس لحساب المشركين، ووقعت من حاطب رضي الله عنه، ولما استأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في قتله قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
(1)
، مع أن هذه مصيبة عظيمة، التجسس لحساب الكفار يوجب القتل ولو كان الإنسان مسلمًا؛ لأن هذا من السعي في الأرض فسادًا، ولهذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لا تقتله لأنه مسلم، بل قال: لا تقتله لأنه شهد بدرًا. وقد قال الله تعالى: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ولهذا كان القول الصحيح الذي لا شك فيه أن الجاسوس يقتل ولو كان مسلمًا، ولو كان يصلي ليلًا ونهارًا فإنه يقتل.
10 -
إثبات الأسباب؛ لقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} ، فإن سبب صرف الله هؤلاء عن الكفار هو ما حصل منهم من الفشل والتنازع والمعصية.
11 -
إثبات الحكمة في أفعال الله، فيكون في هذا ردٌّ على الجهمية ونحوهم ممن ينكرون حكمة الله عز وجل، ويقولون: إن الله يفعل لا لحكمة ولكن لمجرد مشيئة، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئًا ولا يشرع شيئًا إلا لحكمة، لكن من الحِكم ما هو معلوم للبشر وما هو مجهول لا تبلغه العقول.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، رقم (3007). ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، رقم (2494).
12 -
أن ما حصل من المؤمنين من التنازع والفشل والمعصية وإرادة الدنيا كله محاه الله عز وجل، يؤخذ من قوله:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} إذن لا أثر له وكما سبق في قصة الخارجي الذي جاء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
13 -
إثبات الفضل لله عز وجل عليهم وعلى غيرهم من المؤمنين؛ لقوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
فإن قال قائل: وهل لله فضل على غير المؤمنين؟
فالجواب: نعم، إن الله لذو فضل على الناس و {اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] على كل أحد.
لكن الفضل نوعان: فضل خاص، وفضل عام، فالخاص للمؤمنين، والعام للجميع، وإلا فكل أحد قد تفضل الله عليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس والأزواج والبنين وغير ذلك، أما الفضل الخاص الذي يتصل بفضل الآخرة فهو للمؤمنين فقط.
* * *
• قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153].
{إِذْ} هذه ظرف، والظرف لابد له من متعلق، ومتعلق "إذ" على أرجح الأقوال محذوف، والتقدير:(اذكروا إذ تصعدون) هذا أحسن ما قيل فيها وإلا بعضهم قال: إن متعلق "إذ" ما قبلها (ولقد عفا عنكم حين تصعدون). وبعضهم قال: "ثم صرفكم عنهم حين تصعدون" ولكن الأقرب أن المتعلق محذوف،
والتقدير: (اذكروا إذ تصعدون) حتى تكون هذه الحال دائمًا على أذهانكم.
وقوله: {تُصْعِدُونَ} بضم التاء وهي غير (تَصعدون) بفتحها؛ لأن الصعود الرقي إلى أعلى كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] أما الإصعاد فهو السير هربًا في أرض مستوية يقال: (أصعد) أي ذهب هاربًا أو مسرعًا في الأرض، وهذا هو الذي حصل للصحابة رضي الله عنهم ومنهم من صعد الجبل لكن المراد بقوله {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي تهربون سراعًا في أرض مستوية؛ لأن أصعد مأخوذ من الصعيد و (الصعيد) وجه الأرض كما قال تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
قال: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي لا تعكفون أو تلتفتون إلى أحد، ولم يقل: لم تلتفتوا؛ لأن (الليَّ) أبلغ، و (اللي) هو الانعطاف على الشيء، هم لا يلوون على أحد هربًا أو خوفًا من قتل الكفار إياهم، وتصور المشهد كيف كان، حوالي سبعمائة نفر من خيار المؤمنين يهربون لا يبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليل، وانظر أيضًا قوله:{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} الرسول صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم هو الذي يلي الأعداء في الآخر يدعوكم يا عباد الله، كروا، ارجعوا، ولكن لشدة الأمر لا يلوون على أحد، وهذه قضية عظيمة ولكن الله قد عفا عنهم ولم يؤاخذهم بما جرى.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} :
{أُخْرَاكُمْ} يعني الآخر منكم؛ لأن من عادة النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يكون في أخريات القوم، ليس
كالملوك يأخذون الصدر بل هو كالراعي يكون في الآخِر يتفقد الرعية، فقد يحتاجه أحد عندما يتخلف بعيره أو فرسه، فيساعده. كما في قصة جابر رضي الله عنه لما رجعوا في سيرهم وكان على جمل قد تعب ولا يقدر على السير قال: فلحقني رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودعا للجمل وضربه، ضرب الجمل ضربًا عاديًا، ودعا له فسار سيرًا لم يسر مثله قط، سبحان الله! كان لا يمشي إلا قليلًا، ثم أصبح جابر يرده في خطامه لئلا يسبق القوم -الله أكبر- هذه آية من آيات الله وآيات الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال له:"بعنيه" طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من جابر أن يبيعه عليه (بعنيه بِوَقِيَّةٍ) والأوقية أربعون أو خمسون درهمًا ولكنه أبى، قال: لا أبيعه، والآن يساومه النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بعنيه"، فباعه على النبي عليه السلام لكنه استثنى أن يحمله إلى المدينة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، ثم لما وصل المدينة وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد، قال له:"أصليت؟ " قال: لا، قال:"ادخل فصلِّ ركعتين"؛ لأن السنة للمسافر إذا قدم بلده أن يبدأ قبل كل شيء بالمسجد يصلي فيه ركعتين، ثبت هذا من فِعْل الرسول صلى الله عليه وسلم وأَمْرِه
(1)
، وهذه سنة تفوت كثيرًا من الناس، ثم أعطاه الدراهم وجابر يريد أن يعطيه الجمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك"
(2)
.
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (26629).
(2)
رواه البخاري، كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، رقم (2718). ورواه مسلم، كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه، رقم (715).
حقًّا هذا غاية ما يكون من الكرم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بأن يتصدق عليه. بعض العلماء رحمهم الله قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يتصدق عليه بثمن الجمل ففعل هذه الحيلة، هذا غلط. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يعرف كيف كان غلاء هذا الجمل في قلب جابر بعد أن كان عنده رخيصًا يريد أن يتركه، فطلب منه البيع، وإلا فالذي يظهر من قوله:"أتراني ماكستك لآخذ جملك" أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد الشراء من الأصل ولكنه أراد أن يعلم ما عند جابر رضي الله عنه.
قال تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} "أثابكم" الفاعل هو الله، ومعنى {فَأَثَابَكُمْ} أي: أعطاكم و {غَمًّا} هو الثواب الذي أعطاهم الله، فهو المفعول الثاني لأثابكم، والثواب هو المجازاة على العمل إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، حتى الإثابة على الشر تسمى ثوابًا، قال تعالى:{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] لكن إذا قرن الثواب بالعقاب صار العقاب الجزاء على السيئات، وصار الثواب الجزاء على الحسنات، وأمثال هذا في اللغة كثير، تكون الكلمة لها معنى إذا أفردت، ولها معنى إذا قُرنت بغيرها.
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} :
غمًّا: مفعول ثانٍ لأثابكم، بغمٍّ: الباء هنا قيل: إنها للمصاحبة، وقيل: إنها للمبادلة، وقيل: إنها بمعنى على، ولكل وجهة نظر، فأما الذين قالوا للمصاحبة، فقالوا: إن معناها أثابكم غمًا مصحوبًا بغم يعني مقترنًا به لم يفصل بينهما فاصل، غموم متتابعة، والذين قالوا إنها بمعنى "على"، يقولون: إن معناها
أصابكم غمًا على غمٍّ، ولا يلزم أن تكون متتابعة، والذين قالوا إنها للبدل والعوض يقولون: إن معناها أصابكم غمًا (بغم) بدلًا عن الغم الذي حصل منكم، وإذا تأملنا وجدنا أن الآية الكريمة تحتمل كل المعاني الثلاثة كما سيتبين إن شاء الله من تفسير الغم ما هو؟ والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا كانت تحتمل أكثر من معنى وليس بينهما منافاة فإنها تحمل على ما تحتمله من المعاني؛ لأن هذا من بلاغة القرآن. فما هي الغموم التي أصابتهم؟
نحن نعلم أن المسلمين في أُحد أصيبوا بمصائب عظيمة:
أولًا: كان النصر لهم في أول النهار ثم كان عليهم في آخر النهار، وهذا لا شك أنه يحدث غمًا عظيمًا؛ لأنه بعد أن تفرح النفوس بالنصر ثم تنتكس يكون هذا أشد عليها مما لو كانت الانتكاسة لم تسبق بنصر.
ثانيًا: قُتل منهم شهداء من شجعانهم مثل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهذا لا شك أنه يفت في أعضادهم.
ثالثًا: تأخر ثلث الجيش تقريبًا من أثناء الطريق وهم المنافقون الذين انخذل بهم عبد الله بن أبيّ المنافق.
رابعًا: أُشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، كيف تكون نفوس المؤمنين إذا أشيع أن إمامهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم قد قتل؟
خامسًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصيب يوم أحد، فكسرت رباعيته وشجَّ وجهه، وأصابه من الضعف والوهن ما لم يصبه من قبل، فالغموم كثيرة.
وهذه الغموم إذا قلنا: إن الباء بدلية يكون معناها أنكم أصابكم غم بسبب ما أصبتم الرسول صلى الله عليه وسلم به من الغم؛ لأن نزولهم
من الجبل الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه لا شك أنه يحزن الرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك القائد الذي رتَّب الجيش وأمرهم بأن لا يدعوا المكان مهما كان الأمر ثم خالفوه، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واجبة من وجهين:
الأول: أن أمره شرع يجب اتباعه.
والثاني: من وجهة أنه قائد وولي أمر، ومخالفة القائد ولو لم يكن رسولًا تعتبر شديدة في نفسه، فكما أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم منهم غم أصابهم الله بغموم.
أما على القول بأنها للمصاحبة فالأمر ظاهر؛ لأنها غموم متلاحقة في غزوة واحدة.
وأما كونه غمًا على غم فكذلك أيضًا، كلما فات غم أتى غم آخر، ولهذا قال:{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} ، اللام هنا للتعليل، والمعلل قوله:{فَأَثَابَكُمْ} أى: أثابكم غمًا بغم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم كيف ذلك؟ لأن الغم الأكبر ينسي الغم الأصغر فمثلًا:
إذا فاتهم النصر فهذا غم بلا شك، لكن إذا قُتل نبيهم عليه الصلاة والسلام هذا أشد غمًّا، فلما أشيع أنه قتل نسوا الغم الأول ولم يحزنوا عليه لأنهم أصيبوا بغم أكبر. فإذا جاء الفرج وتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بقي زالت الغشاوة كلها، فيكون هذا من لطف الله بهم أنه يصيبهم بمصائب تنسيهم المصائب الأولى، ثم بعد ذلك تنفرج، وهذا من رحمته عز وجل وعنايته بالصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:{لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}
يعني: من النصر والغنيمة {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} من الخذلان وفَقْد الغنيمة، فهذه من حكمة الله عز وجل، هذا هو الصواب في معنى الآية الذي لا يحتمل غيره. وأما قول صاحب الجلالين رحمه الله: إنَّ "لا" زائدة هنا والمعنى لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم، فهذا قول بعيد جدًّا، بل إن الله عز وجل يحب من المؤمنين ألا يحزنوا بل ويسلّيهم إذا وجدت أسباب الحزن. قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] هذا تسلية، فكيف يفعل الله شيئًا من أجل أن يحزنوا؟ لكن المعنى كما سبق أن هذه الغموم التي أصابتهم من أجل أن ينسي بعضها بعضًا فلا يحزنوا على ما أصابهم ولا ما فاتهم، وحينئذٍ إذا انكشف الكل صار له طعم لذيذ في النفوس.
ونصبُ الفعل "تحزنوا" في قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} هل هو بـ"كي" أم باللام؟
يقولون: إذا ذكرت "اللام" و"كي" فالنصب بـ"كي"، وإذا ذكرت "كي" وحدها أو "اللام" وحدها فالكوفيون يقولون: الحرف هو الناصب، والبصريون يقولون: الناصب (أن مضمرة) يعني إذا اجتمعا صار النصب (بكي) مباشرة.
يقول عز وجل: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . خبير مأخوذ من الخُبْرِ وهو العلم ببواطن الأمور، ومنه سمي الزارع خبيرًا لأنه يدفن الحب ويخفيه. فالأصل أن هذه المادة تدل على الخفاء، فالخبير هو العليم ببواطن الأمور، والعليم ببواطن الأمور عليم بظواهر الأمور من باب أولى.
وقوله: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} :
{بِمَا} أي (بالذي) تعملون من خير وشر، من فعل وقول ووسوسة في النفوس، لكن هنا قال:"بما تعملون" لأن المراد بالخبرة هنا ما يترتب عليها من الحساب، فهي جملة خبرية تفيد التهديد؛ لأن الله عز وجل لا يحاسب إلا على العمل. أما حديث النفس فلا يحاسب عليه، ولو حدّث الإنسان نفسه بفعل المعاصي أو ترك الواجبات ثم لم ينفذ فإنه لا يحاسب، ولهذا قال:{خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تذكير المؤمنين بما جرى منهم من المخالفة حيث قال: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ} هذا على القول بأن (إذ) متعلقة بمحذوف تقديره (اذكر)، أما على القول بأنها متعلقة بـ (عفا) فيستفاد منها تذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم في عفوه عنهم حين أَصْعَدوا.
2 -
التوبيخ اللطيف في قوله: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} فإن الشجاعة تمنع أن يقع من الإنسان مثل هذه الحال، يهرب ولا يلوي على أحد، والرسول يدعوه يقول:(إليَّ عباد الله) ففيها توبيخ لطيف للصحابة مما جرى منهم.
3 -
حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في قيادته العظيمة حيث يكون في أخريات القوم، وهذا شأنه صلوات الله وسلامه عليه، أن يكون في أخريات القوم من أجل أن يتفقدهم، وليس كالملوك الذين يتقدمون الناس، بل هو يتأخر، كما حصل في قصة جمل جابر رضي الله عنه حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم وقد
أعيا جمل جابر، فلحقه النبي صلى الله عليه وسلم وضربه ودعا له فمشى الجمل. مما يدل على أنه من أهداف النبي صلى الله عليه وسلم للتأخر مثل هذه الحالة.
4 -
أنه ينبغي للقائد أن يكون ذا شجاعة في قيادته بحيث يثبت ويدعو إلى الثبات بقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} لأنه لو لم يثبت وهرب معهم لم يكن صالحًا للقيادة.
5 -
إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} .
6 -
حكمة الله عز وجل وعدله في إثابته عباده؛ لقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} ، فالعدل ظاهر جدًّا إذا جعلنا الباء للبدل، والحكمة ظاهرة إذا جعلناها للمصاحبة أو بمعنى على؛ لأن هذه الغموم التي يتلو بعضها بعضًا يخفف بعضها بعضًا.
7 -
إثبات الحكمة، إثبات حكمة الله عز وجل في أفعاله من قوله (لكيلا)، فإن اللام هنا للتعليل، وهذه المسألة -أعني إثبات الحكمة لله في أفعاله وأحكامه الشرعية- ينفيها الجهمية بل والأشعرية أيضًا ينفونها ويقولون: إن أفعال الله لا تعلل لأنها لو عللت لكان يفعل لغرض، ولأنها لو عللت لصح أن يتوجه السؤال إليه عنها. فيقال: لم فعلت؟ والله سبحانه وتعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقد بيّنا فيما سبق أن نفي العلة أو نفي الحكمة لأفعال الله يعد تنقصًا لله عز وجل؛ لأنه إذا انتفت الحكمة في أحكامه الشرعية أو القدرية صارت أحكامه عبثًا ولعبًا، وقد أبطل الله سبحانه وتعالى ذلك في عدة آيات من أشهرها قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].
8 -
أن الله عز وجل يحب من عباده ألا يحزنوا؛ لأنه قدّر الغم بالغم من أجل ألا يحزنوا، وذلك لأن الحزن يحدث للإنسان انقباضًا ربما يمنعه عن كثير من المصالح، وربما يحدث له عقدًا نفسية، والإنسان ينبغي أن يعوِّد نفسه على انشراح الصدر وانبساط النفس بقدر ما يستطيع؛ لأنه لا شك أن الإنسان إذا كان صدره منشرحًا ونفسه منبسطة أن يكون مستريحًا قابلًا للتفهم والتفهيم.
9 -
التربية العظيمة للعباد، وهي ألا يحزنوا على ما فاتهم، إذا فاتك خير تظنه خيرًا لنفسك فقل: قَدَّرَ الله وما شاء فعل، وكذلك إذا أصابك ما تكره قل: قدر الله وما شاء فعل، واعلم أن الحزن لا يرد الغائب أبدًا، وإنما يزيد الإنسان بلاءً.
10 -
إثبات علم الله عز وجل الواسع بكل معلوم؛ لقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
11 -
وجوب الحذر من المخالفة، مخالفة الله عز وجل. ووجهه: أنه إذا كان خبيرًا بعملنا فإن ذلك يوجب لنا ألا نخالفه؛ لأننا إن خالفناه علم، وإذا علم فسوف يحاسبنا.
12 -
الرد على الجبرية من قوله: {تَعْمَلُونَ} ووجه ذلك: أنه أضاف العمل إليهم. والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يعمل، لا يفعل شيئًا باختياره.
13 -
الرد على غلاة القدرية من قوله: {خَبِيرٌ} لأن غلاة القدرية ينكرون علم الله بفعل العبد، ويقولون: إن الله عز وجل لا يعلم أفعال العبد لكن إذا فعلها علم بها.
{ثُمَّ} للترتيب بمهلة، {أَنزَلَ} أي الله عز وجل {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} كل الغموم السابقة، فالمراد بالغم هنا جنس الغم فشمل الغم بعد الغم. {أَمَنَةً نُعَاسًا} أمنة يجوز في إعرابها وجهان:
الوجه الأول: أن تكون مفعولًا لأجله.
الوجه الثاني: أن تكون مفعولًا به لأنزل، فعلى الوجه الأول يكون "نعاسًا" مفعول أنزل، وعلى الثاني يكون "نعاسًا" بدلًا أو عطف بيان من أمنة، وأمنة بمعنى أَمن، يعني أنزل لكم من بعد الغم أمنًا، وأمنة وأمن بمعنى واحد، وقال بعض المفسرين: إن هناك فرقًا بين الأمن وبين الأمنة، وهو أن الأمنة أمن مؤقت يكون بعده خوف كما في الآية، والأمن يكون أمنًا مطردًا كما في قوله تعالى:{أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] في الجنة.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأمن مصدرٌ، والمصدر مطلق يشمل القليل والكثير أما {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} فإن فيها (أل) الدالة على الكمال والاستغراق، لكن لو قلت: أَمِن أمنًا لا يدل على أنه دائم أو أمنة لا يدل على أنه دائم، فالظاهر القول الأول، أنه لا فرق بينهما، لهذا فسره كثير من المفسرين قالوا: أمنة يعني أمنًا.
فما المراد بهذا الأمن؟ قال: (نعاسًا) والنعاس: مقدمة النوم، وهو دليل على طمأنينة القلب؛ لأن الخائف لا يمكن أن يَنْعَس، لِأَنَّ قلبه مضطرب، لكن الآمن المطمئن ينعس، ولهذا قال:{نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} وفي قراءة: (تغشى طائفة منكم) فإذا كانت القراءة (تغشى) فالضمير يعود على أمنة. وإذا كانت القراءة (يغشى) فالضمير يعود على نعاسًا.
{يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} :
أي يصيب طائفة، والغشيان في الأصل: التغطية، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54]، لكن قد يراد به مجرد الإصابة وقد يراد به مع الإصابة أنه شملهم جميعًا. {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} الخطاب للمؤمنين.
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} :
يعني فلم يغشهم النعاس لماذا؟ لأن أنفسهم قد أهمتهم، وأوقعتهم في الهم؛ وهم من شدة قلقهم يقولون: لا ندري ما يكون، والذي هكذا حاله لا يأتيه النوم ولا يقربه النعاس، ولهذا قال:{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وطوى ذكر ترك عدم النعاس لأنه يعلم من حَار منهم فإنه لا يمكن أن ينعس إذا كانت قد أهمتهم أنفسهم.
يقول: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} :
جملة {يَظُنُّونَ} يجوز أن تكون خبرًا ثانيًا لقوله: {وَطَائِفَةٌ} والخبر الأول جملة (قد أهمتهم أنفسهم)، يعني: وطائفة أهمتهم أنفسهم وكذلك يظنون بالله غير الحق، ويجوز أن
تكون {يَظُنُّونَ} في موضع نصب على الحال من الضمير في {أَهَمَّتْهُمْ} يعني: أهمتهم حال كونهم يظنون بالله غير الحق، يعني: يظنون بالله سبحانه وتعالى ظنًا غير ظن الحق، فما هو هذا الظن؟
يظنون أشياء كثيرة يقولون مثلًا: هل لنا من الأمر من شيء؟ وظنهم مثلًا أن الرسول عليه الصلاة والسلام قُتل حقيقة، وأنه لا نصر للإسلام بعده، وأن الدولة ستكون للكافرين، وما أشبه ذلك من الظنون الفاسدة، ولا شك أن هذا ظن مبني على الجهل، ولهذا قال:{غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فبدأ ببطلان هذا الظن أولًا، ثم بيَّن أنه صادر عن جهل ولهذا قال:{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي ظن أهل الجهل؛ لأن من عرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته وأحكامه لا يمكن أبدًا أن يظن به هذا الظن، أن الله يديل الباطل على الحق، وأن الله لا ينصر رسوله، لا يظن هذا الظن إلا من لا يعرف الله عز وجل.
جملة (يقولون) يصح أن تكون خبرًا ثانيًا أو ثالثًا لطائفة، ويصح أن تكون حالًا من الواو في (يظنون)، يظنون حال كونهم قائلين.
وقوله: {يَقُولُونَ} بألسنتهم أو بقلوبهم؟
يحتمل الأمرين، يحتمل أنهم يقولون في أنفسهم، ويحتمل أنهم يقولون في قلوبهم بألسنتهم، يعني يقول بعضهم لبعض: هل لنا من الأمر من شيء؟ .
والأصل في القول إذا أطلق فهو قول اللسان، وإذا كان
قول النفس فلابد أن يقيد، كما قال الله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة 8]، فإذن تكون الآية دالة على أن هذا القول صادر منهم بألسنتهم.
إذا قال قائل: أنتم تقولون: إن القول إذا أطلق فهو قول اللّسان فكيف تجيبون عن قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]؟ يقال: هذا من باب التأكيد، وليقابل قول ما ليس في قلوبهم.
{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} :
{هَل} هنا للاستفهام لكن المراد من الاستفهام هنا الإنكار، كأنهم يقولون: هل نحن روجعنا، هل أخذت مشورتنا، أو أنهم ينفون فيكون الاستفهام للنفي يعني يقول: ليس لنا من الأمر من شيء.
وقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} :
هذا يؤيد أن {هَل} بمعنى الإنكار أي أنهم ينكرون أنهم لم يرجع إليهم بشيء، فسياق الآية يدل على هذا، وأن هؤلاء أخذوا على القيادة في هذه الغزوة أنها لم تراجعهم. وقالوا: هل لنا من الأمر من شيء؟ فقال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} . ويؤيد هذا أيضًا قوله: يقولون {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} يعني لو كان لنا من الأمر شيء ما حصلت هذه الهزيمة إلى آخر الآيات. فالظاهر أن الاستفهام هنا ليس للنفي كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولكن معناه الإنكار على القيادة أنها لم تراجعهم في هذا الأمر.
{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ، الأمر هنا واحد
الأمور أو واحد الأوامر؟ الأول: يعني: هل لنا من أمور الحرب شيء؟ لم يوجّه إلينا من أمر الحرب شيء، فكأنهم يريدون أن يتنصلوا مما حصل ويقولون: ما روجعنا ولا رُجِع إلينا ولا أُخِذ رأينا.
قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} :
فيها قراءتان: (كُلُّه) و (كُلَّه) فأيهما أرجح؟
يقال: إن كليهما راجح؛ لأنهما قراءتان سبعيتان، فإذا كانت (كلَّه) صارت كل: منصوبة على التوكيد؛ توكيد الأمر {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وعلى قراءة الرفع تكون (الأمر) اسم إن، و (كل) مبتدأ و (لله) خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر إن، على كل حال هنا (الأمرَ كلَّه لله) يشمل الأمر الكوني والأمر الشرعي، فالأمر لله عز وجل كله هو الذي يتصرف في عباده كما يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة، سواء كان هذا الأمر كونيًا وهو الذي يقول الله له: كن فيكون، أو شرعيًا وهو الأمر الموجه للعباد افعلوا أو لا تفعلوا، كله لله، كما أن الحكم كله لله.
قال الله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} :
{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي يضمرون في نفوسهم ما لا يبدونه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يعلمه، وهذا يعد بلا شك مما جرى من بعض الصحابة رضي الله عنهم، وهو أمر لو تركوه لكان أفضل، فلو كانوا يصارحون الرسول صلى الله عليه وسلم ويصالحونه لكان خيرًا من كونهم يتكلمون فيما بينهم ويخفونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس لجميع الصحابة بل لطائفة منهم؛ لأن المنافقين كلهم رجعوا قبل أن يصلوا إلى أُحد، فإن بقي فقد بقي ناس قليلون، لكن ظاهر الآية
حين قال: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أن هذه الطائفة من المؤمنين مع أنه ربما يقول قائل: بل إن الآية تدل على أن هذه الطائفة ليست من المؤمنين؛ لأنه قال: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ولم يقل: وطائفة منكم لكن الذي يرجح التقسيم الأول؛ لأنه قال: يغشى طائفة وطائفة قد أهمتهم، والمفسرون مختلفون في ذلك على قولين:
القول الأول: أن هذه الطائفة طائفة من المنافقين.
القول الثاني: أنها طائفة من المؤمنين لكنهم ضعاف الإيمان.
وقوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ} :
جملة (يقولون) تفسير للذي يخفونه، والقول هنا قول باللسان؛ لأن القول إذا أطلق فهو قول اللسان.
{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} :
الأمر هنا واحد الأمور، يعني لو كان لنا من الشأن في هذه الغزوة شيء وردّ الأمر إلينا ما قتلنا هاهنا، يعني ما خرجنا ولا قتلنا، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام استشار الصحابة حين الخروج إلى أُحد هل يخرج أم لا؟
فأشار عليه الشبان بأن يخرج لأنهم أو كثيرًا منهم لم يخرجوا في غزوة بدر، فأرادوا أن يعوضوا عن تخلفهم عن غزوة بدر بهذه الغزوة، وقال بعض الصحابة: بل نبقى يا رسول الله في المدينة فإن دخلوا علينا قاتلناهم من على السطوح، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا، ولكنه دخل بيته عليه الصلاة والسلام ثم عزم على أن يخرج ولبس لأمة الحرب وخرج.
فكأنهم أرادوا أن يرجع عن عزيمته وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له فقال: "ما كان لنبي لبس لأمة الحرب أن يضعها حتى يفتح الله بينه وبين عدوه"
(1)
فخرج، فالذين قالوا نبقى في المدينة هم الذين قالوا:{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} يعني لبقينا في المدينة ولم نقتل.
قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} :
يعني قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} : لو كنتم في بيوتكم أي لو بقيتم فيها ولم تخرجوا ليس في مدينتكم فحسب بل في بيوتكم في قعر البيت لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، يعني اختفاءكم وبقاءكم في بيوتكم لا يمنع أن تبرزوا إلى مضاجعكم حيث كتب عليكم القتل.
وقوله: {فِي بُيُوتِكُمْ} فيها قراءتان سبعيتان: ضم الباء وكسرها في (بِيُوتكم).
وفي {كُتِبَ عَلَيْهِمُ} ثلاث قراءات سبعيات: كسر الهاء والميم، وضم الهاء مع ضم الميم، وكسر الهاء مع ضم الميم (عليهِمِ القتل)(عليهُمُ القتل)(عليهِمُ القتل).
وقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ} :
(لو) هذه شرطية، وفعل الشرط:(كنتم) وجوابه (لبرز)، وقد مرَّ علينا أن (لو) تأتي شرطية وتأتي مصدرية للتمني، مثل
(1)
انظر: مسند أحمد، رقم (14373).
قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] يعني ودوا أن تدهن، فتكون مصدرية.
{لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} :
كتب عليهم القتل كتابة قدرية لا كتابة شرعية، فهي كقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] هذه كتابة قدرية. أما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] فهي كتابة شرعية بمعنى فرض.
وقوله: {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} :
أي مكان الاضطجاع؛ لأن الميت يضطجع في قبره ولكنه اضطجاع إلى أمدٍ، إلى أن يبعث يوم القيامة، فإن الاضطجاع في القبور ليس هو آخر شيء، ولما سمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2] قال: والله ما الزائر بمقيم، فاستدل بهذه الآية على أنه لابد من مفارقة لهذه المقابر وذلك في البعث.
وقوله: {إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي محل اضطجاعهم الذي يدفنون فيه.
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} :
الواو حرف عطف، واللام: لام التعليل، ولهذا يجب كسرها ولا يجوز أن تسكنها، يعني لا يجوز أن تقرأ (ولْيبتلي) بل يجب أن تقول (وليبتلي) لأن لام التعليل مكسورة في كل حال بخلاف لام الأمر، فإن لام الأمر تسكن إذا وقعت بعد حرف العطف الواو والفاء وثم، قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أما لام التعليل فإنها مكسورة دائمًا ولو بعد الواو أو ثم أو الفاء.
يقول: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ} :
الواو حرف عطف فأين المعطوف عليه؟
يقولون: إن المعطوف عليه مقدر، والتقدير: فعل ما فعل ليتبين لكم ما حصل بسبب عصيانكم وليبتلي، فالمقدر الآن علة ومعلول لأجل أن يصح عطف العلة الثانية على العلة التي حذفت مع معلولها.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} :
(يبتلي) بمعنى يختبر ويمتحن، و (ما في صدوركم) هي القلوب؛ لقول الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} :
قوله: {وَلِيُمَحِّصَ} معطوفة على يبتلي، والتمحيص بمعنى التخليص، محَّصه أي خلّصه، يخلّص ما في قلوبكم من كل ما يكون فيها من إرادات سيئة كقوله:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] أو فيه شيء من التسخط على القدر أو غير ذلك مما يفسد ما في القلب.
وقوله: {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} وإذا قال قائل: ذكرتم أن ما في الصدور هي القلوب، وأن التمحيص أيضًا للقلوب، فكيف كان ذلك؟
نقول: كان ذلك لأن الابتلاء غير التمحيص، الابتلاء:
اختبار، والتمحيص: تنقية، ولهذا اختلف التعبير فقال:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} ولم يقل: ما في صدوركم بل قال: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الأذى الذي يضركم في دينكم؛ لأن كراهة ما وقع أو إرادة ما لا ينبغي إرادته أين تكون؟ تكون في القلب، ولهذا كان التمحيص على ما في القلب أو كان التمحيص لما في القلب لا للقلب نفسه، والابتلاء للقلب نفسه، ويبتلي ما في صدوركم ويمحص ما في القلوب أي ينقي، فاختلف المورد. المورد في الأول: القلب، وفي الثاني: ما في القلب.
{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :
الجملة هذه استئنافية لبيان إحاطة علم الله بما في القلب {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 16، 17].
وفائدة ختم الآية بها أنه لما بيَّن أن الله تعالى قدّر ما قدّر لهاتين الحكمتين الابتلاء والتمحيص، بيَّن أنه بعد ذلك سيعلم ماذا يكون في القلب بعد هذا الابتلاء وهذا التمحيص.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله عز وجل هو الذي يجلب للمرء النوم أو يرفعه عنه؛ لقوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} ، ولكن الله بحكمته جعل للنوم أسبابًا، فالإنسان مثلًا إذا اضطجع واسترخى أتاه النوم، وإذا انشغل قلبه واهتم لأمر ما فإنه لا يأتيه النوم، وهذا كغيره من الأشياء التي تكون بإرادة الله ولكن لها سبب.
2 -
أنك إذا أرقت ولم يأتك النوم في الليل؛ فالجأ إلى الله عز وجل واسأله أن يذهب عنك الأرق، وادع بما وردت به السنة من دعاء الأرق المشهور
(1)
.
3 -
أن النعاس قد يكون محمودًا ويعتبر من النعم؛ لقوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال العلماء: النعاس في الحرب نعمة، والنعاس في العلم لا يكون نقمة ولكن يكون مذمومًا، يعني محمودًا في الحرب ونعمة، أما في العلم فإنه مذموم، وكذلك أيضًا في الصلاة. ولكنه إذا غلب على الإنسان فإنه لا يؤاخذ به إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان إذا أصابه النعاس في الصلاة أن يضطجع، وأن يستريح قال: فلعله يذهب ليدعو لنفسه فيكون الأمر بالعكس
(2)
.
4 -
أن النعاس الذي أصابهم إنما أصاب المؤمنين الخلّص؛ لقوله: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} .
5 -
أنه قد يوجد في الكمّل من المؤمنين شيء من العيوب كالأنانية، فإن قوله:{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يدل على أنانيتهم وأنهم ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، والذي يليق بالمؤمن أن يكون همّه في مثل هذه المواطن نصرة الإسلام وعزة الإسلام، وأن يبيع نفسه لله.
(1)
انظر كتاب الأذكار للحافظ أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله.
(2)
راجع صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين، رقم (212). وكذلك انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن، رقم (786).
6 -
أن الإنسان الذي لا يكون له همٌّ إلا نفسه في هذه المواطن قد يبتلى -والعياذ بالله- بهذه البلوى العظيمة، وهي أن يظن بالله غير الحق {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ}. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" أنواعًا كثيرة من الظن بالله غير الحق منها:
أنهم ظنوا أن هذه الهزيمة لا انتصار بعدها، وهذا ظن سوء؛ فكل من ظنَّ أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة فقد ظنَّ بالله ظن السوء، ومن أراد أن يرجع إلى كلام ابن القيم في زاد المعاد فهو كلام جيد لم يوجد لا في كتب التفسير ولا في كتب التاريخ.
7 -
ذم من ظنَّ بالله غير الحق؛ لأن الله ذكر ذلك في سياق ذم هؤلاء الذين ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، فإذا كان من ظنَّ بالله غير الحق مذمومًا كان من ظنَّ به ظنَّ الحق محمودًا.
8 -
أنه لا يظن أحدٌ بالله ظنًا غير الحق إلا وهو جاهل؛ لقوله تعالى: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فكل من ظنَّ بالله غير الحق فإنه بلا شك جاهل لم يقدر الله حقَّ قدره.
9 -
أن هؤلاء أنكروا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى أحد، لكنه على وجه خفي؛ لقولهم:{هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} لأنه على زعمهم لو كان لهم شيء من الأمر ما قتلوا.
10 -
بيان أن الأمر كله لله، الأمر الشرعي، والأمر الكوني، ليس لأحد مع الله أمر، فكل الأمر لله؛ لقوله:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} .
11 -
أنه يجب على الإنسان أن ينكر المنكر بذكر الحق؛ لأن الله قال: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} ، والأمر في قوله {قُل} أدنى أحواله أن يكون للاستحباب.
12 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لقوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} لأنه لو كان يعلم الغيب لكان يعلم ما يخفون وإن لم يبدوه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لا في حياته ولا بعد مماته، وإذا كان لا يعلم الغيب في حياته فعدم علمه الغيب في مماته من باب أولى، وقد صرح الله بذلك حيث أمره أن يقول:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] أمر الله أن يعلن هذا وقد أعلنه عليه الصلاة والسلام على الملأ، لم يكتم شيئًا مما أوحاه الله إليه ومنه هذا.
13 -
التنديد بمن يعترضون على القدر؛ لقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} إلخ.
14 -
أن {لَوْ} بعد القدر لا تفيد شيئًا؛ لقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} فقضاء الله لا مفر منه.
15 -
أنه قد يكون فيها إشارة إلى أن الشهداء يدفنون في مكان استشهادهم؛ لقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أي في أماكن قتلهم. وهذا إن لم تفده هذه الآية فقد استفيد من السنة، فإن قومًا من الصحابة حملوا قتلاهم في أحد لدفنهم في المدينة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بردِّهم إلى مصارعهم يدفنون هناك فدفنوا في أحد
(1)
.
(1)
رواه أحمد في مسنده، رقم (13893). ورواه النسائي، كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد، رقم (2004). ورواه ابن ماجه، كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، رقم (1516).
16 -
إثبات الحكمة في أفعال الله بقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} والنصوص في إثبات حكمة الله لا تعد ولا تحصى، بل حتى الأمور الكونية التي لا حصر لها كلها تفيد إثبات حكمة الله عز وجل.
17 -
أن العبرة والمدار على القلوب التي في الصدور؛ لقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} وقد بيَّنا فيما مضى أن أحكام الدنيا على الظواهر، وأحكام الآخرة على البواطن، ودليل ذلك قوله تعالى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 9، 10]، وقوله تبارك وتعالى:{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 8، 9]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقتل المنافقين وهو يعلم ببعضهم ويقول:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"
(1)
إجراءً على ظاهرهم، ولأنه لو رُجِع إلى الباطن في أحكام الدنيا لسادت الفوضى بين الأمة؛ لأن كل إنسان قد يقتل الشخص أو يؤدبه أو يعزِّره ويقول: إن قلبه منطو على الكفر والنفاق، ويحصل في هذا من الشر ما لا يمكن أن تعيش الأمة به، ولكن الله بحكمته ورحمته جعل أحكام الدنيا على الظواهر.
18 -
أن الله تعالى قد يبتلي عباده بما ينقي قلوبهم ويخلصها من الشوائب؛ لقوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} والتمحيص كما قلنا التنقية.
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، رقم (4905). ورواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، رقم (2584).
19 -
إثبات علم الله بما في القلوب؛ لقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
ويتفرع على هذه الفائدة: التحذير من إضمار ما لا يرضى به الله؛ لأنك إذا أضمرت ما لم يرض به الله فسوف يحاسبك عليه وإن كان لا يبدو للناس، فعلى المرء أن يحاسب نفسه دائمًا وينظر ما في قلبه، هل في قلبه الخير وإرادة ما يرضي الله أو أن الأمر بالعكس؟ فليصحح الوضع.
* * *
• قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} هذه جملة مؤكدة بـ (إنّ)، و (الذين) اسمها، وقوله:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} جملة خبر إن.
وقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} :
جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات. وهي: القسَم، واللام، وقد.
يقول الله عز وجل خبرًا عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد وانهزموا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} :
الجمعان: مثنى جمع، والمراد بهم جمع الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع الكفار، المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفار بقيادة أبي سفيان.
يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} :
تولوا: يعني أدبروا وهربوا وهم أكثر الجيش حتى إنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا نحو ثلاثة عشر رجلًا منهم أبو بكر وعمر وعلي
رضي الله عنهم
(1)
، هؤلاء الذين تولوا يوم التقى الجمعان أي تلاقوا وجهًا لوجه. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}: استزل: في الأصل طلب الزلة، يعني إنما صدهم الشيطان من أجل أن يطلب زلتهم، وقيل: استزل بمعنى أزل يعني إنما أزلهم. والمراد بـ"أزل" أي: أوقعهم في الزلل، والزلل هو الخطأ والانحراف عن الصواب.
وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} :
الشيطان: اسم جنس، ولكل إنسان شيطان قرين له يأمره بالشر وينهاه عن الخير، والشيطان هنا يقولون: إنه مشتق من شَطَن إذا بَعُدَ؛ لبعده عن رحمة الله، ومن أجل ذلك كان منصرفًا كما قال تعالى:{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 17]. وقال بعضهم: إنه من شَاطَ، ولو كان كذلك لكان غير منصرف إذا قصد به العَلم؛ لأنه إذا كان من شاط صارت النون والألف زائدتين، وإذا كانت النون والألف زائدتين في عَلَمٍ أو في وَصْفٍ امتنع من الصرف.
{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} :
الباء هنا للسببية، أي ببعض الذي كسبوه، وما هو الذي يكون سببًا لإغواء الشيطان من المكاسب؟ هو المعاصي أي: أن لديهم ذنوبًا كانت سابقة، ثم إن الشيطان استزلهم بها أي أوقعهم في الزلل لسبب هذه الذنوب؛ لأن الذنوب تكون سببًا للذنوب الأخرى، ولهذا قال بعض السلف: إن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامة ردها السيئة بعدها.
(1)
زاد المعاد لابن القيم (3/ 213).
فالإنسان إذا أذنب ذنبًا فإنه إن لم يتب فإن الشيطان يوقعه في ذنب آخر، وهكذا حتى يصبح قد أحاطت به خطيئته، ولهذا قال العلماء: إن المعاصي بريد الكفر، يعني تنتقل بالإنسان مرحلة بعد أخرى حتى يصل إلى قمة المعاصي وهي الكفر.
ثم قال الله عز وجل لما بيَّن خطأهم وأنهم هم السبب في هذا الخطأ: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} . وهذه كالتي سبقت في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152] فكرر الله العفو مرتين.
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} : أي عن الذين تولوا، والعفو: ترك المؤاخذة على الذنب، ويكون في الغالب في ترك الواجبات، يعني أن الله عفا عمن ترك الواجب، والمغفرة وتكون فيمن فعل المحرم.
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} :
الغفور من أسماء الله، والحليم من أسمائه سبحانه، والغفور معناه ذو المغفرة وهي ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأن أصلها من المِغْفَر وهو ما يلبس على الرأس ليتقى به السهام، وهو جامع بين الستر والوقاية، أما الحلم فهو التأني وعدم السرعة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده
…
بعقوبة ليتوب من عصيان
فالحليم معناها: الممهل للعباد المتأني في عقوبتهم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان سبب انهزام من انهزم من الصحابة، وهو استزلال الشيطان لهم، ثم بيان هذا السبب الذي بُني عليه هذا السبب،
وهو بعض ما كسبوا من المعاصي، فيستفاد من هذا أو يتفرع من هذه الفائدة فائدتان:
الفائدة الأولى: أن كل ترك للواجب أو فعل للمحرم فإنما هو من استزلال الشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف، فكل ما حصل من تفريط في واجب، أو وقوع في محرم فإنه من الشيطان.
والفائدة الثانية: أن الإنسان قد يعاقب بالمعصية لمعصية أخرى، أي أنه تكون عقوبته أن يعصي الله مرة ثانية.
ويتفرع على هذا أيضًا فائدة وهي: أن العقوبة لا تختص بالألم البدني أو فوات الشهوات، بل قد تكون العقوبة بخذلان المرء عن الطاعات، ويذكر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن الرجل ليحرم قيام الليل بما فعل من المعصية أو بالذنب يصيبه.
ولا شك أن المعاصي سبب للخذلان، ويؤيد ما قلنا هذه الآية:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ، وهي التي بنينا عليها هذه الفائدة، لكن يؤيدها أيضًا قوله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} هذه عقوبة بدنية، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وهذه عقوبة دينية، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وهذه أيضًا عقوبة دينية {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] كذلك، فالمعاصي لها أسباب سيئة وعواقب وخيمة نسأل الله العفو والعافية.
2 -
تحريم الفرار إذا التقى الجمعان، وجهه أن الله بيَّن أن هذا من استزلال الشيطان وأنه عفا عنهم، ولولا أنهم يستحقون
العقوبة لم يكن لقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} فائدة، نستثني من ذلك -أي من تحريم الفرار عند التقاء الجمعان- مسائل:
المسألة الأولى: إذا كانوا أكثر مثليهم فلهم الفرار ولكن الثبات أفضل.
المسألة الثانية: إذا كان متحرفًا لقتال، يعني من أجل أن يأتي بأسلحة أو يستحث قومًا على الجهاد، أو ذهب من أجل أن يكرّ عليهم من الجهة الأخرى، المهم أنه متحرف لقتال.
المسألة الثالثة: أو متحيزًا إلى فئة، يعني أن الجبهة التي هو فيها ضعفت ففرَّ من أجل أن يتحيز إلى فئة أقوى، أو تكون الجبهتان ضعيفتين فتتحيز إحداهما إلى الأخرى، فهذا لا بأس به، وما عدا ذلك فإن الفرار يوم الزحف من كبائر الذنوب والعياذ بالله كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15، 16].
3 -
إثبات أن للشيطان تأثيرًا على العبد حتى في عمله الصالح وحتى في الجهاد؛ لقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} ، ولكن بماذا تحصل العصمة من هذا الشيطان؟ تحصل العصمة بما ذكره الله عز وجل في قوله:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]، هذه العصمة كلما أحسست بشيء في داخلك ينهاك عن معروف ويأمرك بمنكر فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
4 -
الردُّ على الجبرية وذلك من قوله: {بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا}، ومن قوله:{تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} .
5 -
بيان أن الله عز وجل قد عفا عن هؤلاء؛ لقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} .
6 -
أنه ينبغي التأكيد من أجل زيادة طمأنينة المخاطب؛ لأنه أكَّد هذه الجملة الخبرية التي تفيد العفو عنهم؛ أكدها بقسَم، ولام، وقد، من أجل أن تزداد طمأنينتهم في هذا العفو.
7 -
بيان فضل الله على عباده وإلا فإن الفرار الذي حصل من الصحابة عظيم، لكن رحمة الله أوسع، فمن أجل سعة رحمة الله عفا الله عنهم.
8 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما الغفور والحليم وما تضمناه من صفة، فالغفور تضمن المغفرة، والحليم تضمن الحلم.
* * *
• ثم قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]:
قوله: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} اللام هل هي للتعدية أي: تعدية القيول أم لها معنى آخر؟ نقول: إن لها معنى آخر، وليس لتعدية القول؛ لأن إخوانهم قد ماتوا وقتلوا، فلا يمكن أن يوجَّه القول لهم لكنها بمعنى (في) أي: قالوا في إخوانهم. أو بمعنى (عَنْ) أي: قالوا عن إخوانهم أيضًا.
يقول: {أَوْ كَانُوا غُزًّى} غزى: جمع غازٍ على وزن فُعَّل، قال ابن مالك:
وفُعَّلٌ لفاعل وفاعلة
…
وصفين نحو عاذل وعاذلة
عاذلة يقال: عُذَّل، وغازٍ يقال: غُزًّى، ويقال أيضًا: غزاة كقاضي وقضاة، ولكن هنا نجعل غُزًّى جمع غازٍ، ووزنها الصرفي فُعَّل.
وكذلك أيضًا قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} اللام هل هي للتعليل أو للعاقبة؟ يقال: إنها للعاقبة، يعني يقال هذا القول ليجعل الله هذا القول حسرة في قلوبهم.
وقوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} :
الخطاب أو النداء موجَّه للمؤمنين، وفائدة توجيه النداء للمؤمنين في هذا الخطاب:
أولًا: الحث والإغراء على قبول ما يوجَّه إليهم وامتثاله؛ لأن وصف الإيمان يزيد الإنسان قوة وشجاعة كما لو قلت لشخص: يا أيها الرجل افعل كذا وكذا، أي (لرجولتك) افعل، وهذا سيعطيه قوة واندفاعًا في قبول ما توجه إليه.
الفائدة الثانية: أن ما يأتي بعدها من مقتضيات الإيمان.
الفائدة الثالثة: أن مخالفة ذلك نقص في الإيمان، لأنه إذا كان قبوله والإتيان به من مقتضيات الإيمان، كان مخالفته من نواقص الإيمان.
أما بدء الخطاب بالنداء فإنه يفيد التنبه والعناية بما يذكر، ولهذا قال ابن مسعود:"إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه".
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} :
الإيمان شرعًا: هو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان،
فالإقرار المجرد لا يسمى شرعًا إيمانًا، بل لابد من قبول وإذعان. القبول ضد الرفض، والإذعان ضد الاستكبار.
يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} : يعني مثل الذين كفروا.
ثم قال: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} : وهذا لا شك أنه من جملة كفرهم؛ لأنه دال على ضعف الإيمان.
وقوله: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} :
قال بعض المفسرين: إخوانهم في النسب، وقال بعض المفسرين: إخوانهم في الكفر، والثاني أقرب، أي: قالوا في شأن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض.
يعني لو لم يضربوا في الأرض ما ماتوا، ولو كانوا عندنا ولم يغزوا ما قتلوا، فقوله:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} هذا فيه ما يسمى عند البلاغيين لفًا ونشرًا مرتبًا، (ما ماتوا) مقابل (إذا ضربوا)، (وما قتلوا) مقابل (أو كانوا غزى)، و (إذا ضربوا) قبل (كانوا غزى)، إذن فهو مرتب، فلو كانوا عندنا ولم يضربوا في الأرض ما ماتوا، ولو كانوا عندنا ولم يغزوا ما قتلوا. يقول هؤلاء: لو أنهم لم يسافروا ما ماتوا، ولو أنهم لم يغزوا ما قتلوا، هكذا يقولون.
لكن الله يقول: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} :
أي ليجعل الله هذا القول الذي قالوه وهو لا يغني عنهم شيئًا، يجعله الله حسرة في قلوبهم، حسرة: يعني تحسرًا وندمًا يستحسر به القلب ولا ينبسط ولا يفرح، وإلا فإن هذا القول لا يغني شيئًا.
واللام في قوله {لِيَجْعَلَ} سبق أن بيَّنا أنها للعاقبة، وبيَّنا أن اللام الداخلة على الفعل في مثل هذا التركيب، تكون إما للعاقبة وإما للتعليل وإما زائدة، فقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33] هذه زائدة، وقوله:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8] اللام زائدة، ودليل هذا أنه في الآية الثانية قال:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا} [التوبة: 32]. واللام في قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] للعاقبة، ولو ظنوا أنه يكون عدوًا وحزنًا لقتلوه. هذه الآية {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أيضًا للعاقبة، لأنهم لو ظنوا أن هذا حسرة وأنه لا فائدة منه إلا التحسر والندم وتكرار المصيبة ما قالوا هذا، ولكن الواقع أنه يكون حسرة في قلوبهم وإلا فإنه لا يغنى شيئًا لماذا؟ لأن الأمر بيد الله، ولهذا قال:{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل أي: إذا قدّر الله إماتة شخص على سبب من الأسباب يسَّر له هذا السبب، وصار هو نفسه يفعل ذلك السبب، فالإحياء والإماتة بإذن الله عز وجل.
{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :
يعني ومن جملة ما هو بصير به عملهم، والبصير هنا يحتمل بصر الرؤية، ويحتمل بصر العلم، يحتمل المعنيين جميعًا، فهو بصير بما نعمل بمعنى عليم، وهذا بصر العلم، وبصير بما نعمل بمعنى راء لما نعمل، وهذا بصر الرؤية.
فإذا قال قائل: هل تثبتون لله بصر الرؤية؟ قلنا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور -أي الله عز وجل لو كشفه لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"
(1)
. هذا لإثبات البصر لله، أما بصر العلم فواضح وكثير، إذن في هذه الآية إثباث إحاطة علم الله بكل ما نعمل لقوله:{بِمَا تَعْمَلُونَ} ، و (ما) هنا اسم موصول، واسم الموصول يفيد العموم ولو كان واحدًا. قال الله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].
(فالذي) اسم مفرد وعاد عليه الإشارة والضمير جمعًا؛ لأنه عام، فإن اسم الموصول -وإن كان لفظه لفظ المفرد- يكون للعموم، فالقاعدة: أن (كل اسم موصول فهو للعموم).
فِيها قراءة ثانية، فهل فِي الآية التفات؟ الواقع ليس فيها التفات حقيقة؛ لأنه إذا قال {بِمَا تَعْمَلُونَ} فالخطاب في أول الآية موجه للمؤمنين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا} مخاطبة، لا تكونوا، فإن كنتم فالله بما تعملون بصير، إذن لا التفات، إذا جعلنا (بما يعملون) عائدًا على (الذين كفروا) و (قالوا لإخوانهم) أيضًا، فليس فيه التفات، فالحقيقة أنه ليس في الآية التفات سواء جاءت بالتاء أو بالياء؛ لأنها إن جاءت بالتاء فقد روعي فيها صدر الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا. . . وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وإن كانت بالياء فقد روعي فيها آخر الآية.
وفي هذه الآية إشكال وهو أن قوله: (قالوا) ماض و (إذا ضربوا) مستقبل، ويجاب عنه بأن بعض العلماء قال: إن (إذا) هنا
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام. . ."، رقم (179).
لا يراد بها الاستقبال، وأنها سلبت الدلالة على المستقبل، وأن المراد بها مجرد الظرف، وهذا يشبه قوله:{وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} قالوا: والدلالة على المعنى قد تسلب الكلمة كما في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] هل معناه كان في الأزل ثم لم يكن الله غفورًا رحيمًا؟ لا، سلبت الدلالة على الزمان، لذلك سلبت "إذا" الدلالة على المستقبل، وصار المراد بهذا مجرد الزمان فقط.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تعلية شأن المؤمنين بإيمانهم من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لأن المخاطب لا ينادى إلا بأحب الأوصاف إليه، ولهذا لو ناديت أحدًا بأقبح الأوصاف لسابَّك وشاتمك، ففيه تعلية شأن المؤمنين بإيمانهم. ومنها فضيلة الإيمان وأنه مقتضٍ لكل الأخلاق الفاضلة.
2 -
الإشارة إلى النهي عن التشبه بالكفار؛ لقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} .
والتشبه بالكفار اختلف فيه العلماء، فذهب أصحاب الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنهم إلى أن التشبه بالكفار مكروه، والمكروه عند الفقهاء كراهة تنزيه، أي يثاب تاركه امتثالًا، ولا يعاقب فاعله، لكن قولهم هذا ضعيف. والصواب أن التشبه بالكفار حرام، ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حديث:"من تشبه بقوم فهو منهم"
(1)
في كتابه القيم الذي أشير به
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (5093). ورواه أبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، رقم (4031).
على كل طالب علم وهو (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) لما ذكر هذا الحديث قال: وأقل أحوال هذا الحديث التحريم؛ وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم؛ لأن قوله: "من تشبه بقوم فهو منهم" ظاهره أنه كافر، فالاقتصار على الكراهة التي يراد بها كراهة التنزيه عند الفقهاء فيه نظر ظاهر.
المهم أن في هذه الآية إشارة إلى النهي عن التشبه بالكفار، لاسيما إذا كان الفعل نفسه محرمًا، فإن قولهم هذا فيه اعتراض على القدر كما سيتبين إن شاء الله.
فإن قال قائل: ما هو ضابط التشبه؟ وهل يشترط فيه القصد؟
فالجواب: أن ضابط التشبه أن يأتي بما يختص بالكفار من لباس أو تحلية جسم أو غيره، بحيث يقول من رآه: هذا من الكفار؛ لأنه لا يمكن أن يقول هذا من الكفار إلا إذا كان الشيء مختصًا بهم، أما إذا كان عامًا فإنه لا يمكن أن يقال هذا من الكفار. فمثلًا الذي يلبس البنطلون عند الناس مع أنه في بعض البلاد الإسلامية هو لباس الناس، هل نقول: إن البنطلون تشبه؟ الجواب: لا، لأنه ليس خاصًّا بالكفار.
مسألة: وهل يشترط في التشبه القصد أو لا يشترط؟ الجواب: لا يشترط؛ لأن الإنسان لو قصد التشبه لكان الخطر عظيمًا؛ لأنه لا يقصد التشبه بهم إلا من ملئ قلبه -أو كاد يملأ- بمحبتهم وتعظيمهم، بل إن التشبه حاصل بصورة التشبه سواء قصد أم لم يقصد. هذا نقوله باعتبار الشخص نفسه، أما باعتبار إنكارنا عليه فإننا ننكر عليه مطلقًا، لأننا لو سكتنا عن الإنكار عليه لأمكن كل واحد أن يقول إنني لم أقصد التشبه، فنحن نقول: الإنكار
على المتشبه مطلقًا سواء قصد أم لم يقصد، لكن الكلام على المتشبه نفسه هل يشترط لكونه متشبهًا أن يقصد التشبه أم لا يشترط؟
مسألة: التشبه في الأمور الدينية بالكفار أعظم بكثير من التشبه في الأمور العادية؛ لأن التشبه بهم في الأمور الدينية يعني تعظيم الباطل لذاته لا لكونه من خصائصهم. ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة أنه حرام بالاتفاق، وقال: هذا إن سلم فاعله من الكفر فقد أتى محرمًا لا شك فيه؛ لأن التشبه بهم في الأمور الدينية يعني تعظيم دينهم، ودينهم منسوخ بدين محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين، ومن زعم أن اليهود أو النصارى أو غيرهم على دين صحيح مقبول عند الله فهو كافر، يُعلَّم حتى يرجع؛ لأن الله يقول عز وجل:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ويقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار"
(1)
، وإذا قيل أصحاب النار فهم أصحابها الذين لا يخرجون منها وهم الكفار.
3 -
أن الندم على ما وقع لا يرفع الواقع، قال تعالى:{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} .
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رقم (153).
4 -
أن هذا الدين رحمة؛ لأن نهي الله عن الندم على ما مضى مصلحة للإنسان، لأنه يطمئن قلبه ولا يتحسر ولا يحزن، فإنه يقول لنفسه: هذا الأمر لابد أن يقع كما وقع، فلا حاجة لأن تقول: لو أني فعلت لما حصل؛ إنما تقول: لو أني فعلت في أمر تكون فرطت فيه، أما شيء لم يكن بتفريطك فهذا لا يحل لك أن تندم عليه.
5 -
أنه لو أن شخصًا سافر ثم صار عليه حادث، ثم قال أهله: لو أنه لم يسافر لما حصل له حادث. نفول: هذا من قول الكفار: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا} ، هذا قول الكفار، والمؤمن لا يقول هذا، المؤمن يقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقول:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]، ويقول:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أن الأمر بيد الله ولا يمكن أن يتغير المقدور عما وقع أبدًا.
6 -
أن هؤلاء المعترضين على القدر يكون اعتراضهم حسرة في قلوبهم، ولا ينسون المصيبة، وتجد الشيطان يلعب بهم (ليته ما راح، ليته ما غزا، ليته ما فعل. . .)، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيرًا إلى هذا المعنى:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"
(1)
، وهل المراد القوي في بدنه يحمل الحجر الكبير ولا يبالي ولكن صلاته ضعيفة، أو المؤمن الذي لا يحمل إلا عشر كيلو أو ما شابه ولكنه يتهجد
(1)
رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، رقم (2664).
بالليل ويصوم ما شاء الله ويصلي الواجبات؟ . المراد الثاني، المؤمن القوي في إيمانه؛ لأن القوي وصف عائد على ما سبق، والمؤمن مشتق من الإيمان. إذن المؤمن القوي في إيمانه ولابد، وليس المؤمن القوي في بدنه، فلو قال: البدين القوي، قلنا: معناه القوي في بدنه، ولو قال: الرجل القوي، قلنا: في رجولته، لكنه قال: المؤمن القوي أي في إيمانه، وقوة البدن لا تمدح إلا إذا كان فيها زيادة قوة في الإيمان، وكثرة المال لا تمدح إلا إذا كان فيها زيادة في الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف". ولما كان هذا الكلام من الصادق المصدوق قد يؤدي إلى انحطاط رتبة المؤمن الضعيف، لذلك قال:(وفي كل خير) جبرًا لما يتوهم من نقص الضعيف، وهذا الأدب من الرسول عليه الصلاة والسلام هو مما أدّبه الله به، قال الله عز وجل:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، وقال:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير" ثم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" يعني لا تكسل أو تضعف عن الاهتمام بالعمل، وإن أصابك شيء بعد الحرص والاستعانة بالله والقوة في العمل فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان.
إذن من قال: (لو) معترضًا على القدر فقد شابه الكفار، وقد فتح على نفسه باب عمل الشيطان.
7 -
الرد على القدرية؛ لقوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يعني أن الله قدّر أن يقولوا هذا القول ليجعله حسرة في قلوبهم.
8 -
إثبات أن الإحياء والإماتة بيد الله {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهذا أيضًا مؤجل، الإحياء والإماتة مؤجلة بأجل لا يزيد ولا ينقص أبدًا {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].
9 -
إثبات عموم علم الله عز وجل بكل ما نعمل؛ لقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أو (بما يعملون) ويترتب على هذه الفائدة فائدة مسلكية ينتفع بها الإنسان في سلوكه وعمله، وهي أنه إذا آمن بأن الله بصير بما يعمل لزم من ذلك أن يستقيم على أمره، فعندما تريد أن تفعل معصية تذكر أن الله بصير بعملك، وإذا أردت أن تعمل طاعة تذكر أن الله بصير بعملك فأحسن الطاعة، فهذه تفيد الإنسان في سيره إلى الله عز وجل، إذا آمن بأن الله بصير بما يعمل حسن سيره إلى الله، واستعان بذلك على إحسان العبادات وعلى ترك المحرمات.
10 -
الرد على الجبرية حيث أضاف العمل إليهم، والجبرية لا يضيفون العمل إلى الإنسان يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، فالإنسان الذي يحرك يده اختيارًا كالإنسان الذي فيه رعشة كلاهما سواء لا يستطيعان أن يمنعا أنفسهما.
• ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]:
في هذه الآية كلمتان فيهما قراءتان: الأولى: (مُتُّم) مأخوذة من مات يموت، وتكون (مُتم) بضم الميم، وإذا أخذت من مات يَمَات تكون:(مِتُّم) بكسر الميم، تقول: مات الرجل يَمَات الرجل، ومات الرجل يَمُوت الرجل، ويمات كيخاف، وأصلها: مَوِتَ يَمْوَتُ، كخَافَ يَخَاف أصلها خَوفَ يَخْوَفُ، إذن هي من باب فَرِح يَفْرَح، خَوِف يَخْوَف. ففيها قراءتان: قراءة بكسر الميم (مِتم) وقراءة بضم الميم (مُتم).
الكلمة الثانية: قوله: {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فيها قراءتان: قراءة بالياء (يجمعون) وقراءة بالتاء (تجمعون).
هل في الآية التفات؟
يقال: نعم، وهذا على قراءة الياء، أما على قراءة التاء فليس فيها التفات؛ لأن الآية كلها للخطاب، وفي الآية أيضًا من جهة اللغة العربية {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} أنه اجتمع في الجملة قسَم وشرط، والسابق هنا القسم، وإذا تقدم القسم أيهما يحذف جواب الشرط أم جواب القسم؟ الجواب: أن الذي يحذف هو جواب المتأخر وهو هنا الشرط.
قال ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخرت فهو ملتزم
يعني عند اجتماع شرط وقسم في الجملة احذف جواب ما أخرت فهو ملتزم، وهنا المتقدم القسَم. إذن الذي يحذف جواب الشرط، ولهذا جاء الجواب {لَمَغْفِرَةٌ} وهو جواب قسم، فاللام
هنا واقعة في جواب القسم، واللام في لئن موطئة للقسم، وجواب الشرط محذوف. فإن قال قائل: كيف يحذف وهو ركن في الجملة؟ قلنا: لأنه وجد ما يسد مسده وهو جواب القسم.
يقول الله عز وجل: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} الخطاب للمؤمنين {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في الجهاد في سبيله، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك بمعنى قتلتم في سبيل الله في الجهاد، أو قتلتم في سبيل الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو قتلتم في سبيل الله في الدعوة إليه، أو قتلتم في سبيل الله في بيان الحق، كل هذا داخل في سبيل الله؛ لأن الجامع بينها أن هذا قتل وهو يدافع عن دين الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} : خير من الدنيا وما فيها.
وقوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مُتُّمْ} نقول: إن المعنى أو مُتُّم في سبيل الله فيكون المراد به من مات في الجهاد؟ أو متُّم مطلقًا؟ الظاهر الثاني؛ لأن الله عز وجل لو أراد الأول لقال: (ولئن قتلتم أو متم في سبيل الله) فلما أخَّر (متم) عن القيد علم أنه غير مراد في الجملة الثانية، ولهذا يقول العلماء قاعدة، وهي:(أن كل قيد بشرط أو صفة أو استثناء أو غيره، إذا تعقب جملًا -أي: صار في آخرها- فهو عائد على الكل، وإن توسط عاد على ما سبق فقط دون ما تأخر عنه إلا ما دلَّ عليه الدليل)، وعلى هذا نطبق قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[النور: 4، 5] هذه الآية فيها قيد بالاستثناء تعقب الجمل الثلاث، فهل يعود إلى الثلاث؟ نقول: أما الأولى فلا يعود إليها بالإجماع، وأما الثالثة فيعود إليها بالإجماع، وأما الوسطى ففيه خلاف. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الجملة الأولى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} والثانية {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} والثالثة: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الاستثناء لا يعود إلى الأولى بالاتفاق، فلو تاب القاذف، فإن حق المقذوف لا يسقط ويجلد القاذف ثمانين جلدةً، ولو تاب القاذف زال عنه وصف الفسق بالاتفاق، وإذا تاب القاذف فهل تقبل شهادته أم لا؟ في هذا خلاف، فمنهم من قال تقبل، ومنهم من قال لا تقبل.
يقول عز وجل: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} :
يقول الله عز وجل مبيّنًا ومسليًا لعباده المؤمنين أنهم إذا خرجوا من ديارهم وقتلوا أو ماتوا، فإن ما يقبلون عليه خير مما يرحلون عنه، وهذا بما قبله {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] يعني: لو متم أو قتلتم فإن هذا ليس حسرة، بل هذا خير {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في الجهاد في سبيل الله، ويحتمل أن يكون المعنى أعم من الجهاد في سبيل الله بالسلاح ليشمل الجهاد في سبيل الله بالدعوة إلى الله عز وجل والعلم، فمن قتل لكونه داعية فإنه مقتول في سبيل الله؛ لأنه كالمجاهد بسلاحه، وقوله:{أَوْ مُتُّمْ} يعني دون أن تقتلوا في سبيل الله {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من الدنيا كلها أي: (المغفرة) لكم من الله ورحمة لكم أيضًا، والفرق بين المغفرة والرحمة أن
المغفرة بها زوال المكروه، والرحمة بها حصول المطلوب، أي أنكم يحصل لكم مطلوبكم وتنجون من مرهوبكم، والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه، والرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم والإنعام عليه.
وفي قوله {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} إضافة المغفرة إلى الله تدل على عظمة هذه المغفرة، وذلك لأن الشيء يعظم بعظم باذله، فمثلًا: إذا قلت: أعطاني الملك عطية، وقلت: أعطاني الصعلوك عطية، والصعلوك هو الفقير، إذا قلت: أعطاني الملك عطية يتصور الناس أنها كثيرة. وإذا قلت: أعطاني الصعلوك عطية يتصورون أنها قليلة، فالشيء يعظم بحسب ما يضاف إليه؛ فلهذا قال {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} أي ابتداؤها منه فهو الذي يبتدئها عز وجل ويتفضل بها.
{وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني خير مما يجمعون أو خير مما تجمعون من الدنيا كلها، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن من قتل في سبيل الله أو مات من المؤمنين فقد انتقل إلى خير من الدنيا كلها؛ لقوله: {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
2 -
مِنَّةُ الله عز وجل على عباده بتسليتهم في الأمور التي يهمهم فواتها، فالإنسان يهمه فوات الدنيا، فكلٌ يحب أن يبقى في الدنيا، فإذا جاءت التسلية من الله وقيل: إنك إذا مت أو قتلت انتقلت إلى ما هو خير، فإن الإنسان يتسلى بهذه ويقول: الحمد لله أنني إذا انتقلت إلى الآخرة فأنا أنتقل إلى خير من الدنيا.
3 -
الجمع بين المغفرة والرحمة ليكمل للإنسان سعادته، إذ بالمغفرة زوال المكروه، وبالرحمة حصول المطلوب.
4 -
جواز إيقاع التفضيل بين شيئين بينهما بُعدٌ تام؛ لأنك إذا نسبت ما في الدنيا للآخرة فليس بشيء، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
(1)
، وأبين من ذلك قول الله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59].
* * *
• ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158]:
نقول في {وَلَئِنْ مُتُّمْ} من حيث الإعراب ما قلنا في الآية التي قبلها أي: أنه اجتمع فيها جواب القسم وجواب الشرط، فحذف جواب الشرط ونقول: في (متم) قراءتان كما في الآية التي قبلها بكسر الميم على أنها من مات يمات، وبضم الميم على أنها من مات يموت.
يقول الله عز وجل: إن متم أو قتلتم فإن مرجعكم إلى الله مهما طالت بكم الأيام أو قصرت فالمرجع إلى الله، وإذا كان المرجع إلى الله فإن الإنسان سوف يبقى مطمئنًا، إذ إن من كان مرجعه إلى الله عز وجل فإنه لا يخاف ظلمًا ولا هضمًا، بل إنه إذا كان مؤمنًا فإنه يستبشر؛ لقول الله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] ولما حدَّث النبي عليه الصلاة والسلام عائشة فقال: "من أحب لقاء الله أحب الله
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 90).
لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت: يا رسول الله، كلنا يكره الموت ولقاء الله يكون بالموت، قال: "ليس الأمر كذلك ولكن المؤمن إذا حضره الأجل فبشِّر بالجنة اشتاق إلى ربِّه وأحب لقاء الله، والكافر -والعياذ بالله- إذا حضره الأجل بُشِّر بالنار فكره لقاء الله فكره الله لقاءه"
(1)
. ففي هذه الآية أن المرجع إلى الله عز وجل مهما طالت بالإنسان الحياة، وعلى أي صفة كان موته سواء كان بالقتل أو بغيره فالمرجع إلى الله.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
زيادة التسلية للمؤمنين؛ لأن المؤمن إذا علم أن مرجعه إلى الله فإنه سوف يطمئن وسوف يستبشر وينشرح صدره بذلك.
2 -
إثبات لقاء الله عز وجل؛ لقوله: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} .
3 -
إثبات الحشر يوم القيامة، فإن الناس يقومون من قبورهم ويحشرون إلى الله عز وجل ليجازيهم.
* * *
• قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]:
قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} :
الفاء عاطفة، والباء حرف جر، وما زائدة ولكنها زائدة لفظًا
(1)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم (6507). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم (157).
ومعنى، أي تفيد زيادة المعنى، وقد كره بعض العلماء أن نقول زائدة، أو أن نقول عن أي حرف في القرآن أنه زائد، قال: لأن القرآن لا زيادة فيه، ولكن نقول: إن المراد بقولنا زائدة: أي من حيث الإعراب لا من حيث المعنى، وقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ} إذا جعلنا (ما) زائدة تكون رحمة مجرورة بالباء، وهذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] أي فبنقضهم ميثاقهم، ومنه قوله تعالى:{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] أي عن قليل.
وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} : الجار والمجرور متعلق بالفعل (لنت).
وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ} "لو" هذه شرطية وفعل الشرط {كُنْتَ} وجوابه {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .
يقول الله عز وجل مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم ومبينًا نعمته عليه وعلى أمته يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي فبسبب رحمة الله لك ولأمتك {لِنْتَ لَهُمْ} أي كنت لينًا لهم، لينًا في مقالك، لينًا في جلوسك، لينًا في مقابلتك، في كل أحوالك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أسهل الناس خُلقًا وأكرمهم نُزُلًا، وقد قال الله عنه وكفى به قولًا:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أسند الرحمة إلى الله عز وجل لأنه المتفضل بها، ولأن إسنادها إليه يفيد عظمتها وأنها رحمة عظيمة.
وقوله: {لِنْتَ لَهُمْ} الضمير يعود على الصحابة رضي الله عنهم وعلى من بعدهم أيضًا؛ لأن التشريع الذي يقع في
عهد الصحابة تشريع لهم وللأمة إلى يوم القيامة، وكونه رحمة له واضح، وكذلك كونه رحمة لهم واضح أيضًا من أجل أن يألفوه وأن يستأنسوا به وتتسهل معاملته إياهم، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام: لا يخير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا
(1)
.
قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} :
هذه عطف على قوله {لِنْتَ لَهُمْ} اللين يقابله الشدة، والشدة تكون في الهيئة وفي القول وفي القلب، قال:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} (الفظ) الجافي الشديد في مقاله الذي يصعِّر خده للناس، جافيًا أيضًا في قوله عنيفًا شديدًا لا يلين، والغِلَظ يكون في القلب؛ تجد قلبه قاسيًا لا يرحم، ولا يُنزل الناس منازلهم، ولا ينظر إلى الأحوال المقترنة بالأفعال، فأحيانًا تكون هناك أحوال تقترن بفعل الشخص يعذر بفعله من أجلها، فتجد غليظ القلب -والعياذ بالله- يعامل الناس معاملة واحدة لا ينظر إلى أحوالهم، ولا ينظر إلى ظروفهم -كما يقولون-، وإنما تجده غليظ القلب قاسيًا لا يلين. ومن أعظم ما يدل على ذلك ما يبدر من بعض الناس في معاملة الصغار، تجده في معاملة الصغار عنيفًا يريد من الصغير أن يكون أدبه كأدب الكبير، وهذا لا شك أنه خطأ عظيم، وهذا من غلظ القلب، ولما رأى الأقرع بن حابس
(1)
رواه البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، رقم (6786). ورواه مسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، رقم (2327).
النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل الحسن والحسين قال: أتقبّلون أولادكم؟ قال: "نعم"، قال: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتهم، قال:(أوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك)
(1)
. فالإنسان ينبغي له أن يكون رحيمًا، وأن يكون لين القلب.
قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} :
الفظ: الجافي الشديد القول.
غليظ القلب: القاسي القلب الذي لا يلين قلبه لأي سبب من الأسباب.
يقول تعالى: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} :
انفضوا: أي تفرقوا وخرجوا، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أي تفرقوا إليها وخرجوا.
وقوله: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ولم يقل منك؛ لأن من حولك أبلغ من قوله منك. يعني انفضوا وبعدوا حتى لا يقربوا إلى مكان قريب منك، أي يبعدون حتى عما قارب مكانك.
يقول الله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} :
هذا تفريع على قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} فاعف عنهم إذا قصروا في حقك. والعفو: هو التسامح وعدم المؤاخذة.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} :
في حق الله عز وجل إذا قصروا فيه، فالصحابة قد يقصرون في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يقصرون في حق الله،
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم (5998).
أما في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (اعف عنهم) وما أكثر ما يحصل من جفاة الأعراب أو غيرهم من الكلام المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصبر ويتحمل ويعفو عنهم إلى حد أن رجلًا من الأنصار قال له لما حكم فيه في خصومة بينه وبين الزبير بن العوام قال له: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ وهذا اتهام، اتهام فظيع. فالزبير بن العوام أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام
(1)
. فقال هذا الرجل الأنصاري عفا الله عنه قال: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ وقال له رجل وهو يقسم فيئًا قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، وقال له: اعدل
(2)
. كل هذه الكلمات كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبر ويحتسب الأجر من الله ويعفو حتى أحيانًا يأتيه من زوجاته ما يأتيه مما يحصل بسبب الغيرة بين النساء وهو يعفو عنهن
(3)
.
قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} :
الضمير في (شاورهم) يعود على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أي شاور أصحابك في الأمر. والمشورة هي استطلاع الرأي بحيث يعرض الشيء على المستشار ليستطلع الرأي وينظر ما رأيه فيه، والمستشار مؤتمن يجب عليه أن يؤدي الأمانة على الوجه الذي يرى أنه أصلح لمستشيره.
(1)
رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار، رقم (2360).
ورواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، رقم (2357).
(2)
رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي، رقم (3150).
(3)
انظر مسند الإمام أحمد، رقم (24648).
وقوله عز وجل: {فِي الْأَمْرِ} كلمة الأمر: المراد بها واحد الأمور لا واحد الأوامر؛ لأن الأوامر لا يستشير فيها أحدًا، الأوامر يؤمر بها شرعًا، لكن في الأمر أي في الشأن وهو مفرد محلى بـ (ال) فهل (ال) هذه للعموم؟ أي شاورهم في كل أمر أو هو عام أريد به الخاص؟ أي شاورهم في الأمر الذي يكون مشتركًا أو مشتبهًا عليك وجهه؟ الجواب: الثاني بلا شك؛ لأنه لا يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره الله بأن يشاورهم في كل شيء، إنما يشاورهم في الأمر العام المشترك بدليل قوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أمرهم الذي يجمعهم جميعًا شورى بينهم، أما الأمر الخاص فإنه تطلب الاستشارة عند اشتباه الأمر، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام حين استشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في شأن عائشة لما حصلت قصة الإفك، وكثر فيها القيل والقال، وغير هذا من الأمور الخاصة التي قد تشْكل على الرسول عليه الصلاة والسلام فيستشير فيها
(1)
، إذن (شاورهم): استطلع رأيهم (في الأمر) أي في الأمر المشترك أو في الأمر الخاص إذا اشتبه عليك؛ وذلك لأن الشورى يحصل فيها فوائد نذكرها إن شاء الله في الفوائد.
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} :
إذا عزمت أي صممت على الفعل، هل بعد المشورة أو قبل المشورة؟ الظاهر بعد المشورة؛ لأن الفاء تدل على أن ما بعدها مفرع على ما قبلها، أي {فَإِذَا عَزَمْتَ} بعد الاستشارة واستطلاع
(1)
انظر صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، رقم (2661).
الرأي، فلا تعتمد على مشورتهم بل اعتمد على الله {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهنا أمر بالأسباب والاعتماد على الله عز وجل، الأسباب هي المشورة، والاعتماد على الله هو التوكل عليه، فما معنى التوكل؟ معنى التوكل هو الاعتماد على الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله وشعور النفس بأنها محتاجة إلى الله.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} :
لما أمره بالتوكل بيَّن الثمرة العظيمة من هذا التوكل، وله ثمرات كثيرة منها هذه الثمرة التي ذكرها الله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} أي: إن الله يحب المتوكلين عليه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان رحمة الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم وبأمته، وذلك بجعله لينًا لهم، فهذه رحمة به وبهم.
2 -
أنه ينبغي لمن له سيادة في قومه أن يكون لينًا ليتعرض لرحمة الله عز وجل، دليل ذلك واضح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد قومه بل سيد الأمة جميعًا فألانه الله لهم.
3 -
أن اللين أولى بكثير من الفظاظة والشدة؛ لأن الله جعله من الرحمة، ولكن الفقهاء رحمهم الله لما ذكروا ما ينبغي للقاضي أن يتأدب به قالوا: ينبغي أن يكون لينًا من غير ضعف؛ لأن بعض الناس قد يكون لينًا ويكون بسبب لينه ضعيفًا غير حازمٍ، وهذا نقص في اللين، لكن ينبغي أن يكون لينًا مع الحزم والقوة في موضعها؛ لأن القوة في موضعها حكمة، فاللين إن ضاعت منه الحكمة فهو مذموم، وإن اجتمع مع الحكمة فهو محمود.
4 -
بيان مضار الفظاظة والغلظة، وأن من أعظم مضارها نفور الناس عن الإنسان إذا كان فظًا غليظ القلب؛ لقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . هذا مع أنهم يرجون. من قربهم من الرسول عليه الصلاة والسلام ما يرجون، فكيف إذا كان الإنسان لا يرجى منه ما يرجى من الرسول إذا كان فظًا غليظ القلب؟ فالظاهر أنه لا يكفي أن ينفضوا من حوله، فربما رموه بالحجارة؛ لأن الصحابة يرجون من الرسول الخير بقربهم منه، فإذا قدّر أنه غليظ القلب ينفضون من حوله فمن سواه من باب أولى.
5 -
الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل مع الناس كل ما يجلبهم إليه، ووجهه: أن الله جعل الفظاظة والغلظة سببًا للتنفير على سبيل الذم لا على سبيل المدح، فينبغي للإنسان أن يستعمل في معاملة الناس كل ما يقربهم إليه بشرط ألا يضيع شيئًا من الواجبات.
6 -
أن الإنسان قد يعذر في الابتعاد عن أهل الخير إذا كانوا جفاة غلاظ القلوب؛ لقوله تعالى: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ويعني بهم الصحابة رضوان الله عليهم، ويعني بالمنفض عنه، الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الصحابة لا يلامون على الانفضاض عن الرسول إذا كان فظًا غليظًا فما بالك بمَنْ دونه بمراحل، فلهذا إذا كان الإنسان فظًا غليظًا ولم ير الناس حوله فلا يلومن إلا نفسه، ونحن نرى الآن أن الإنسان ربما يكون كافرًا فإذا كان يعامل الناس باللين والرفق والبشاشة والسماحة ربما يفضلونه على مسلم فظ غليظ القلب.
7 -
أنه ينبغي للإنسان أن يعفو عن حقِّه في معاملة إخوانه؛ لقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} ولكن هذه الآية مقيدة بما إذا كان العفو إصلاحًا، قيَّدها قوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، أما إذا كان في العفو زيادة إفساد وطغيان فإن هذه مصلحة تضمنت مفسدة أعظم، مثل: لو كان الجاني معروفًا بالشر والفساد فهل الأولى أن نعفو عنه أو أن نؤاخذه بالذنب؟ الأولى أن نؤاخذه بالذنب، ولهذا ينبغي في حوادث السيارات ألا يتعجل الإنسان بالعفو عمن تسبب فِي الحادث، بل ينظر إذا كان من الرجال المتهورين الذين إذا عفونا عنه اليوم أحدث حادثًا غدًا، فهنا الأولى أن لا نعفو، أما إذا علمنا أن الرجل شديد الحرص على سلامة الأنفس والأموال، ولكن هذا أمر لم يستطع التحرز منه ونعلم أنه سوف يتحرز غاية التحرز في المستقبل، فإن الأولى في هذا العفو، إذن فالعفو مقيد بالإصلاح {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} .
وهل العفو واجب؟ الجواب: أنه ليس بواجب؛ لأن الله يقول: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] فمن انتصر لنفسه بعد أن ظلم فليس عليه سبيل، لكن الأفضل أن يعفو إذا كان في العفو إصلاح.
8 -
أن التفريط في حقِّ النبي عليه الصلاة والسلام قد يكون ذنبًا؛ لأن الله لما أمر نبيه بالعفو عن حقِّه الخاص قال: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وهو كذلك، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كغيره؛ لأن له حق الإسلام وحق الرسالة، ولأنه أعظم الناس حقوقًا علينا، فالاعتداء في حقه أشد من غيره بل يكسب الإثم، ولهذا
قال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، أما غير الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا عن حقِّه الخاص انتهى، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما كان الأمر الذي يتعلق به متعلقًا بحق الله عز وجل قال:{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ولهذا إذا سبَّ أحد شخصًا من الناس لم يكفر ولو سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم كفر لعظم حقه.
9 -
الأمر بالشورى؛ لقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وهذا الأمر قد يكون للوجوب وقد يكون للاستحباب حسب الأمر المشاور فيه، وحسب الإشكال الواقع فيه، فالأمور الكبيرة مع الإشكال الكبير تكون المشاورة فيها واجبة، والأمور الصغيرة مع الإشكال اليسير تكون المشورة فيها مستحبة، فإذن الأمر هنا شاورهم مشترك بين الوجوب والاستحباب حسب ما تقتضيه الحال، وهنا مسألتان:
الأولى: هل معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يكوِّن مجلسًا للشورى يرجع إليه؟
الجواب: لا، بل شاورهم عند وجود سبب الاستشارة لا أن يُكوَّن مجلس يُرجع إليه، لأنه إذا كُوِّن مجلس يُرجع إليه ربما يبقى هذا المجلس دائمًا مع تغيُّر أحوال أهله، ومع وجود أناسٍ جُددٍ خيرٍ منهم، فإذا قلنا: إن ولي الأمر إذا نزلت به نازلة حينئذٍ يستشير من يرى أنه مؤهلٌ للشورى، يبقى وليُّ الأمر تتجدد له الرجال الذين يستشيرهم، ولا يبقى المجلس الاستشاري هذا، ولا يبقى رافعًا رأسه، وإليه يُرجع الأمر، ولا شك أن هذا هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه قد يكون لولي الأمر أصحاب خاصُّون يستشيرهم، مثل أبي بكر وعمر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى رأيهما
دائمًا ويستشيرهما، ويرى أنه في رأيهما السداد والرشد، ولكن ليس في كل شيء يرجع إليهما، أحيانًا يستشير بقيَّة الصحابة عمومًا.
المسألة الثانية: قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} هل إذا صدر من المستشارين أمر هل هو مُلزِمٌ أو كاشف للرأي؟ الجواب: أنه كاشف للرأي، وليس بمُلزِم؛ لأنه لو كان مُلزمًا لكان الحكم بأيدي جماعة، والحكم بيد واحد، لكن يجب على المستشير أن يتبع ما يرى أنه أصلح، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه لأنه رأيه، بل الواجب عليه -لحق الله ولحق من ولاهم الله عليه- أن يتبع ما هو أصلح حتى لو خالفوه، والأصلح في رأيهم يجب عليه أن يتبع رأيهم، لكنه ليس بمُلزِم. بمعنى أننا لا نقول: إن هؤلاء لهم سلطة على الحاكم، بل الحاكم له السلطة، ولهذا قال هنا:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، ولم يقل: إذا أشاروا عليك فخذ به إذا عزمت، وهو قد يعزم على ما أشاروا به، وقد يعزم على غيره.
10 -
الحكمة من الأمر بالمشاورة ما يترتب عليها من فوائد، فللمشاورة فوائد منها:
أولًا: ألا يستبد الرئيس أو ولي الأمر برأيه، هذه فائدة مهمة جدًا.
ثانيًا: تعويد أفراد الأمة على النظر في شؤونهم حتى يتمرنوا ويمارسوا هذا الأمر.
ثالثًا: التواضع ممن شاور، فلا شك أنه إذا شاور فهو متواضع.
رابعًا: تنشيط الأمة حيث ترى أنه يُرجَع إليها في الرأي،
فتنشط وتعمل ما فيه الخير العام، بخلاف ما إذا استبد ولي الأمر في رأيه، فإنه وإن كان صوابًا ربما تشمئز النفوس منه فيقولون مثلًا: لم يرجع إلينا، لم يشاورنا في هذا الأمر الكبير وما أشبه ذلك.
خامسًا: أنه إذا اجتمعت الآراء مع حسن النية فإن الغالب أن الله يوفقهم للصواب.
سادسًا: أن الإنسان ربما يرى في هذا الأمر مصلحة ويفوته ما يترتب عليه من مفسدة لاسيما إذا كان له هوى، فإن الهوى كما قيل: يُعمي ويُصِم، أحيانًا يكون للإنسان هوى فيرى المصلحة ولا يرى المفسدة في الشيء، فإذا حصل التشاور تبينت المصالح من المفاسد.
سابعًا: ومن فوائد المشورة أيضًا: أن الأمة إذا اجتمعت على رأيها لم يكن للناس اعتراض، ومعلوم أن الذي يُشاوَر هم أهل الأمانة وأهل الحل والعقد والمعرفة، فإن ولي الأمر إذا أشكلت عليه المسألة الشرعية يشاور علماء الشرع، وإذا أشكلت عليه مسألة سياسية يشاور علماء السياسة، وإذا أشكلت عليه مشكلة اجتماعية يشاور علماء الاجتماع، وإذا أشكلت عليه مسألة جيولوجية يشاور علماء الجيولوجيا، وإذا أشكلت عليه مسألة طبية يشاور علماء الطب. والمراد أن يجعل مستشارين لكل حال ما يناسبها؛ لأن من شرط الاستشارة أن يكون المستشار ذا رأي سديد وأمانة، ومعلوم أنك لو استشرت عالمًا من علماء الشرع من أحسن العلماء في مسألة طبية لم يقدر أن يقول لك شيئًا.
إذن الاستشارة تكون في كل إنسان بحسب ما يناسبه؛ لأن المستشار مؤتمن.
ثامنًا: ومن فوائد الشورى أيضًا: أنه إذا أخطأ الإمام أو ولي الأمر لم يُنسب الخطأ له بل يُنسب إلى المستشارين، ولهذا يقول بعضهم في المشورة: إن الشورى ستر لعيبي، إذا أخطأت قالوا: هذا من المستشارين، وإن أصبت مدحوني وإياهم.
تاسعًا: أنها طاعة لله ورسوله؛ لأن الله أمر بها.
11 -
أنه يجب على الإنسان أن يكون اعتماده على الله عز وجل مع فعل الأسباب؛ لقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
12 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم يعتريه ما يعتري البشر من التردد في الأمور، ووجه الدلالة: أولًا في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ} وثانيًا في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} فإن العزيمة قد يسبقها تردد كما هو الواقع.
13 -
أنه ينبغي على الإنسان إذا عزم على الأمر ألا يتردَّد؛ لأن التردد يُحيِّر الإنسان ويوقعه في القلق، ولهذا قال الشاعر:
إذا كنتَ ذا رأيٍ فكن ذا عزيمةٍ
…
فإن فساد الرأي أن تتردَّدا
وكثير من الناس يرى المصلحة في شيء ويعزم عليه ثم يتردد فيكون مذبذبًا، أحيانًا كذا وأحيانًا كذا، ويُؤْثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمة نافعة جدًا، وهي قوله:(من بورك له في شيء فليلزمه). . كلمة عجيبةٌ لو توزن بالذهب لوزنته.
(من بورك له في شيء فليلزمه) يعني إذا عمل الإنسان عملًا ورأى فيه البركة والثمرة فليلزمه، ولنضرب لهذا مثلًا بحال طالب العلم الذي شرع في دراسة كتاب أو مراجعته، ووجد فيه خيرًا، ووجد أنه يستفيد وينتفع، فنقول له: الزم هذا وأكمله، ولا تقل: هذا كتاب مختصر قليل، كمن شرع في مطالعة كتاب "زاد
المستقنع"، ورأى فيه بركة، وانتفع به، إلا أنه لم يكمله وقال لا يكفي هذا، أريد أن أطالع "الإنصاف"، ثم قال: لا يكفي هذا، أريد أن أطالع "المُغني"، هذه طريقة غير مجدية، بل إذا بارك الله لك في شيء فالزمه حتى لا يضيع عليك الوقت.
وهنا مسألة أيضًا قد ترد وهي: أنه يريد أن يطالع مسألة في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، فيُراجع الفهرس حتى يقع عليها، ثم يُلاحظ مسألة ثانية، فيذهب ينظر فيها فيضيع عليه الوقت، ولهذا كان من حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يبدأ بالشيء الذي يريده، لما دعاه عتبان بن مالك رضي الله عنه، ليُصلي في مكان في بيته يتخذه مصلى، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه، فلما دخل البيت قال: يا رسول الله، قد صنعت لكم طعامًا. قال:"أين تحب أن أصلي من بيتك؟ "
(1)
، سأله قبل الطعام، لماذا؟ . لأنه جاء لهذا الغرض. فابدأ بالغرض الذي أتيت إليه، فهذه المسألة ينبغي للإنسان أن يجعلها على باله في تصرفاته في العلم وفي الدنيا أيضًا. وهذه نأخذها من قوله:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
14 -
إثبات المحبة لله عز وجل، أن الله يحب، وهل محبة الله حقيقية؟ نعم، حقيقية؛ لأن لدى أهل السنة والجماعة قاعدة أن كل ما وصف الله به نفسه فهو حقيقة، لكن مذهبهم مُبرَّأ من التمثيل والتكييف، والتحريف والتعطيل، فلا يُمثِّلون صفات الله بصفات خلقه، ولا يُكيِّفونها، فما هي المحبة؟ المحبة هي المحبة، لا يمكن أن تعرف المحبة بأوضح منها. من لفظها، لأننا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب صلاة النوافل جماعة، رقم (1186).
كما قلنا فيما سبق: الانفعالات النفسية لا يمكن تحديدها بغير ألفاظها أبدًا، فلو قال قائل: ما معنى البُغض؟ الجواب: الكراهة، وما معنى الكراهة؟ الجواب: البغض، فكل هذه لا يمكن تحديدها إلا بآثارها.
وأما إثبات المحبة لله أي: صفة المحبة، فإن أهل القِبلة الذين ينتسبون للإسلام اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: نفي حقيقتها عن الله وعن المخلوق، فيقولون: إن الله لا يُحِب ولا يُحَب. أعوذ بالله، عِلَّتُهم: أن المحبة إنما تكون بين شيئين من جنس واحد، ومعلوم الفرق بين الخالق والمخلوق.
القول الثاني: يقولون: إن الله يُحَب ولا يُحِب.
القول الثالث: أن الله يُحِب ويُحَب، قال الله عز وجل:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وفي القرآن الكريم كثير من الأوصاف علَّق الله بها المحبة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وأمثلةٌ كثيرة.
نحن نرى أن المحبة صفة حقيقية ثابتة لله، وأن من آثارها الثواب والرضا وغير ذلك مما يترتب عليه، والذين يُنكرونها يقولون: المراد بمحبة الله الثواب، فيقولون مثلًا:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} يعني يُثيب المتوكلين، وهذا خطأ.
15 -
فضيلة التوكل، ووجهه أن الله علَّق المحبة عليه، وهذا يدل على فضيلته وعلى الحث عليه، فإن قال قائل: هل التوكل خاص بالله؟ فنقول: أما توكُّل العبادة الذي يعتمد الإنسان فيه على ربه، ويفوِّض الأمر إليه فهذا خاص بالله، وأما توكُّل
الاستنابة، بمعنى أن الإنسان يُنيب غيره عنه في شيء من الأشياء، فهذا جائز، والفرق بينهما ظاهر:
التوكل على الله: يقطع الإنسان العلائق مما سوى الله عز وجل حتى من نفسه، ويُفوِّض أمره إلى الله تفويضًا كاملًا، لكن الاستنابة يرى فيه أنه فوق الوكيل، أنا وكَّلت إنسانًا يشتري لي حاجة، فأنا متوكِّل عليه ولكن هل توكُّلي عليه كتوكُّلي على الله؟ أبدًا؛ لأن توكُّلي على الله تفويض إلى الله تفويضًا مُطلقًا، وأعتقد أنه هو حسبي، لكن هذا الرجل توكُّلي عليه على أنه نائبٌ عنِّي، لا على أني طريح عليه، أفوِّض الأمر إليه، على أنه نائب عني أستطيع أن أعزله، وأستطيع أن أوبِّخه إذا خالف مرادي. وأستطيع أن أحبسه إذا تسبَّب علي بضررٍ بخلاف التوكل على الله.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} :
هذه الجملة جملة شرطية، فعل الشرط فيها مضارع مجزوم (إن ينصرك)، وجواب الشرط فيها جملة اسمية مصدَّرة بلا، واقترنت بالفاء لأنها جملة اسمية.
كما في قول الناظم:
اسمية طلبية وبجامدٍ
…
وبما لن وبقد وبالتنفيسِ
{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} :
أيضًا الجملة هذه جملة شرطية، فعل الشرط فيها فعل مضارع مجزوم، وجواب الشرط فيها جملة استفهامية مرتبطة بالفاء وجوبًا؛ لأن الجملة اسمية.
وقوله: {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ، فيها (من) و (ذا) و (الذي)، فهل (ذا) التي بعد (من) اسم موصول أو مُلغاة؟ الجواب: أنها مُلغاة؛ لأن ما بعدها اسم موصول، و (ذا) التي بعد (مَنْ) تكون اسمًا موصولًا بشرط ألا يأتي بعدها اسم موصول، فإن أتى بعدها اسم موصول تعيَّن أن تكون ملغاة.
وقال بعض النحويين: لا يتعيَّن أن تكون ملغاة، ويكون الاسم الموصول الثاني توكيدًا للاسم الموصول الأول، كأنه يُقال: من الذي ينصركم من بعده، هذا ما يتعلَّق بالآية من حيث الإعراب.
أما قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :
فقد سبق الكلام على مثلها.
يقول الله عز وجل في هذه الآية: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} يعني إذا قدَّر الله نصركم فإنه لن يغلبكم أحد، وإنما قلت:(إن يُقدِّر الله نصركم) لأنه لو كان المراد النصر بالفعل لم يكن لقوله: {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} فائدة؛ لأن النصر قد حصل. وعلى هذا يكون المعنى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ} أي إن يُقدِّر نصركم، وهذا نظير قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطِئك"
(1)
. قال بعض العلماء: أن ما أصابك أي: ما قُدِّر أن يُصيبك، لأن ما أصابك بالفعل قد حصل، فلا يستقيم قوله:"لم يكن ليُخطئك".
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 485).
ولكن الصحيح أن الحديث على ظاهره: "أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك". يعني أن الأمر لا يمكن أن يقع على خلاف الواقع. فما أصابك لم يكن ليُخطئك أبدًا فلا حاجة إلى الندم.
هنا يقول: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} ، و (لا) هذه نافية للجنس، والنافية للجنس نصٌّ في العموم؛ لأن النفي قد يكون للعموم نصًّا وقد يكون للعموم ظاهرًا، والفرق بين النص والظاهر: أن النصَّ لا يحتمل التخصيص، والظاهر يحتمل أن يكون عامًا أُريدَ به الخصوص.
قال أهل العلم في النحو: و (لا) النافية نصٌّ في العموم، كما أن (مِن) الزائدة إذا جاءت بعد النفي، صار النفي نصًّا في العموم، كما لو قلت:(ما في الدار من رجلٍ) هذه نص في العموم كقولكَ: (لا رجلَ في الدار).
الحاصل: أن قوله: {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} عام، يعني: لا أحد يغلبكم مهما كانت قوته ومهما كان عدده، وإنما قال الله عز وجل ذلك من أجل أن نعلِّق النصر بالله عز وجل لا بغيره.
قال: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} . معنى {يَخْذُلْكُمْ} مقابل {يَنْصُرْكُمُ} فالخذلان ضد النصر، وهذه من القواعد التي تُفيدك في تفسير القرآن، أن الكلمة قد يظهر معناها بما قُرِن معها من الضد.
لو قال قائل: في قوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]، ما معنى ثُبات؟
الجواب: فُرادى؛ لمقابلتها لقوله: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71].
قوله: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} أي إن يُقدِّر لكم الخذلان، وهو عدم النصر {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
ويمكن أيضًا أن نستدل على معنى الخذلان بقوله: {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ، فـ (مَن): استفهام جاء بمعنى النفي؛ لأنه مُشْرَب بمعنى التَّحدِّي، يعني كأن الله يقول: نتحدَّاكم إذا أراد الله خذلانكم أن ينصركم أحدٌ من بعده، حتى لو اجتمعت قوى الأرض كلها على أن تنصركم، والله تعالى لم ينصركم فإنه لا يمكن أن تنتصروا، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ الجواب: لا أحد.
وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (على الله): جار ومجرور مقدَّم على عامله وهو (يتوكل)، وتقديم ما حقه التأخير يُفيد الحصر، أي على الله لا غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ} ، والفاء هنا قال النحويون: إنها زائدة لتحسين اللفظ، ولا يمكن أن تكون عاطفة؛ لأن الواو في قوله {وَعَلَى اللَّهِ} تُغني عنها، ولهذا لو قيل:(وعلى الله ليتوكل) صحَّ، فهي زائدة لتحسين اللفظ، ووجه كونها لتحسين اللفظ: أن اللفظ لو جاء (وعلى الله ليتوكل المؤمنون) لم يكن بذاك بلاغة، فإذا قيل:{فَلْيَتَوَكَّلِ} أي: فليعتمد، ولكن التوكل على الله عز وجل ليس كالتوكل على الآدمي، التوكل على الله فيه إنابةٌ وخضوع وذل وتفويض واعتمادٌ تام على الله، بخلاف ما إذا توكل الإنسان على شخص وكيل له، فإنه لا شك يعتمد عليه فيما وكله فيه، لكن لا يجد من قلبه أنه مفوَّض تفويضًا تامًّا، فالتوكل على الله عبادة، فلهذا قال:{وَعَلَى اللَّهِ} يعني وحده فليتوكل المؤمنون أي: المؤمنون به.
والإيمان بالله إذا أُطلق شمل جميع ما يجب الإيمان به من الأركان الستة التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله لجبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره"
(1)
.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان كمال قدرة الله عز وجل؛ لقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} .
2 -
وجوب تعلّق القلب بالله وحده في طلب الانتصار؛ لقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} ، إذن يُطلب النصر بناءً على هذه القاعدة من الله عز وجل.
3 -
أن الله إذا قدَّر خذلان أحدٍ فلا ناصر له؛ لقوله: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
4 -
أنه إذا آمن الإنسان بهذا فإنه لابد أن يفعل الأسباب التي يكون بها النصر، ومنها:
الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. الإخلاص لله في العبادة.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (50). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8).
ثانيًا: إقامة الصلاة.
ثالثًا: إيتاء الزكاة.
رابعًا: الأمر بالمعروف.
خامسًا: النهي عن المنكر.
وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] يتبيَّن لك أن هذا النصر محقَّق؛ لأنه إِذا كان الله قويًا عزيزًا فكل من أمامه ضعيفٌ ذليل، ثم تأمل مرة أخرى قوله:{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41] يتبيَّن لك أن القوى الظاهرة المادية مهما عظمت فإن عاقبتها بيد الله عز وجل، هو الذي يجعل العاقبة لمن يشاء والعاقبة للمتقين، وإذا أردت أن تعرف هذا من الناحية التاريخية فانظر ما جرى للأمة الإسلامية في أول عهدها، أسقطت الدول الكبرى العظمى، دولة الروم ودولة الفرس ودولة القبط في مصر، ملكوا مشارق الأرض ومغاربها، هذا من الناحية التاريخية، ومن الناحية الواقعية زلزلة واحدة في لحظات من رب العرش تدمر كل شيء، ولا يستطيع أحد أن يمنع هذه الزلزلة، فلهذا نقول: إن من ضعف الإيمان أن ينظر الإنسان إلى الأمر المادي، ولا ينظر إلى قدرة الله عز وجل وقوته، إِذن لابد أن
نسلك أسباب النصر، ونحن إذا سلكنا أسباب النصر بإيمان ويقين تحقق لنا.
5 -
التحذير من فعل أسباب الخذلان؛ لقوله: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} . ومن أسباب الخذلان: تولي الكفار ومناصرتهم ومعاضدتهم، فإن هذا من أسباب الخذلان، فالاعتماد يكون على الله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى قال:{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} .
6 -
وجوب التوكل على الله وحده؛ لقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وإفراده بالتوكل يؤخذ من تقديم المعمول على عامله؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وهذه قاعدة، حتى للمبتدأ والخبر، فلو قلت: لله ملك السموات والأرض يعني لا لغيره.
7 -
أن التوكل من مقتضيات الإيمان؛ لأنه علق الحكم على وصف، وهو الإيمان، فدلَّ ذلك على أنه كلما قوي الإيمان قوي التوكل على الله، وكلما ضعُف الإيمان ضعف التوكل على الله.
فإن قال قائل: هل إفراد الله بالتوكل يُنافي فعل الأسباب؟
فالجواب: لا، بل فعل الأسباب من التوكل على الله؛ لأنك إذا توكَّلت على الله فمن مقتضيات التوكل عليه أن تفعل ما أمرك به.
لو قال قائل: أنا سأدخل النار متوكلًا على الله، نقول: هذا غير صحيح، اللهمَّ إلَّا أن يقع ذلك على سبيل التحدي، فيمكن لهذا أن يكون آية من آيات الله، وينصر الله هذا الفاعل لنصرة دينه، ويكون هذا الذي حصل من دخوله في النار كرامة، ولهذا
ذُكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ناظر رئيس البطائحية الذي جاء يُناظره في مسائل من أصول الدين قال له رئيس البطائحية: أنا أصوب منك؛ لأني أنا أستطيع أن أدخل في النار ولا يُصيبني منها شيء، فهل تستطيع أن تدخل في النار ولا يُصيبك شيء؟ قال شيخ الإسلام: نعم، أنا أستطيع بشرط أن أنزل أنا وإياك في هذا النهر، ونغتسل تمامًا ثم ندخل النار؛ وذلك لأن الرجل قد طلى جسمه بشيء يُضاد النار، فيريد أن يموِّه على الناس بدخول النار، وعلى كل حال أقول: إن فعل الأسباب لا يُنافي التوكل، ولهذا شواهد:
نعلم علم اليقين أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، ومع ذلك كان يتوقَّى الحرَّ، ويتوقَّى البرد، ويأكل لدفع الجوع، ويشرب لدفع الظمأ، وفي الغزوات كان يلبس الدرع يتوقَّى به السهام، وفي غزوة أحد لبس درعين، وفي غزوة الخندق لما أحاط الأعداء بالمدينة حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، ولم يقل نتوكل على الله، والوقائع على هذا كثيرة تدل على أن فعل الأسباب لا يُنافي التوكل، ولكن يجب أن نلاحظ شرطًا مهمًا، وهو أن تكون الأسباب أسبابًا شرعية أو كونية، لا أسبابًا وهمية.
أسباب شرعية يعني ثبت بالشرع أنها سبب، أو أسباب كونية أي ثَبت بالتجارب أنها سبب.
أما السبب الوهمي كتعليق التمائم غير الشرعية والتطير وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الاعتماد عليه.
• ثم قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:
القراءات: يقول: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ} فيها قراءة أخرى (لنبيءٍ) بالهمز (أن يَغُل) فيها قراءة (يُغَل)، والفرق بين القراءتين في (نبي) و (نبيء) أن قراءة (لنبيء) على وزن فعِيل من (النبأ) بالهمزة، وهل هو بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول، أو بمعناهما جميعًا؟ الجواب: يشملهما، فإن (النبيء) فَعِيل بمعنى فاعل، لأنه منبِّئ وفَعِيل بمعنى مفعول، لأنه مُنبأ. فالرسول صلى الله عليه وسلم مُنبَّأ، مُنبِّئ. . أما على قراءة (لنبي) بالياء، فقيل: إنه مسهَّل وأن أصله (لنبيء) فسُهِّلت الهمزة إلى ياء، وقيل: بل هو مشتق من (النَبْوَة) وهي الارتفاع، وعلى هذا يكون (لنبي) أصله (لنبيو) لكن لعلَّةٍ تصريفية صارت الواو ياء، فالقاعدة فى هذا أن تُجعل الواو ياء، وذلك أنه إذا اجتمعت الواو والياء في كلمة، وسُبقت إحداهما بالسكون قُلبت الواو ياء، إذا قلنا:(لنبيو) فقد اجتمعت الواو والياء في كلمة وسُبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، فصار (لنبيٍ)، هل يمكن أن نقول على هذه القراءة: إنه مُشتق من الوجهين، من النبأ ومن النبوة؟ الجواب: يمكن ذلك بناءً على ما سبق من أن الكلمة فِي القرآن إذا احتملت معنيين لا يتنافيان تحمل عليهما جميعًا؛ لأن معاني القرآن واسعة.
أما قوله: (أَنْ يَغُل) ففيها قراءة: (أن يُغَل)، والفرق بينهما ظاهر. (أَنْ يَغُل) مبنية للفاعل، و (أن يُغَل) مبنية للمفعول، أما على وجه (أن يَغُل) فالمعنى أن الله نفى أن النبي صلى الله عليه وسلم يغل،
وغلول النبي يحتمل معنيين، غلول المال، وغلول العلم، فغلول العلم: كتمه، وغلول المال: إخفاؤه وأخذه، وكل هذا منتفٍ عن النبي شرعًا، ولم نعلم أنه واقع قَدَرًا، ولا يمكن أن يقع قدَرًا فيما نعلم، فالنبي لا يمكن أن يكتم ما أنزل الله إليه، ولا يمكن أن يسرق من مال المسلمين.
أما على (أن يُغَل) فمعناه أن النبي يغُلُّه غيره، يعني ما كان لنبيٍّ أن يُغَل شرعًا، أما قدرًا فقد يُغَل كما وقع هذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
الإعراب: قوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} في {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} إشكال، وهو أن {يَأْتِ} ، مجزوم لجواب الشرط، فلماذا صارت مكسورة، وجواب الشرط يكون مجزومًا؟
الجواب: أن الكسرة بقيت قبل الياء دليل على أن المحذوف ياء، إذن يأتي مجزوم على هذا الحال، جواب الشرط مجزوم بحذف الياء، والكسرة قبلها دليلٌ عليها.
و{يَوْمَ} مفعول فيه، أو منصوب على الظرفية، كلها واحد، متعلِّق بـ {يَأْتِ} .
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إذا جاء (ما كان) في القرآن فإن معناها نفي محقَّق مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ومثل قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 179] وقوله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. والشواهد في هذا كثيرة. يعني أن هذا مُنْتفٍ قطعًا، ولا يمكن أن يكون.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} على هذه القراءة يقول الله: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمكن أن يَغُلُّوا؛ لأن (نبي) نكرة و (ما) نافية، والنكرة في سياق النفي تُفيد العموم. فالله تعالى ينفي أن يَغُلَّ النبي شرعًا، وقَدَرًا أيضًا؛ لأننا لا نعلم أن الله قدَّر على نبيٍّ الغلول.
أما على قراءة (أن يُغَل)، فإن الله تعالى ينفي شرعًا أن يُغَلَّ النبيُّ، يعني ما كان شرعًا أن يُغلَّ النبي، يعني أن النبي إذا كسب المال فإن ماله للمسلمين جميعًا، وإذا كان للمسلمين جميعًا فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يَغُلَّ منه شيئًا؛ لأنه لو غَلَّ منه شيئًا لكان هذا متعلِّقًا بجميع المسلمين، فإذا أخذت منه شيئًا فقد خُنت جميع المسلمين لاسيما المشتركون في هذه الغنيمة.
ثم يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
{وَمَنْ يَغْلُلْ} هنا عموم، ولم يقل: من يغلُل من الأنبياء، لو فُرِض أن يَغُل. قال:{وَمَنْ يَغْلُلْ} يعني من أتباع الأنبياء.
{يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : يأت به يوم القيامة حاملًا له أمام الناس، في هذا الموقف العظيم الذي تشهده الخلائق كلُّها، كما قال تعالى:{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 2، 3].
وقوله: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
هل يأتي بنفس الذي غلَّ أم يأتي بالعقاب المرتَّب عليه؟
نقول: إن ظاهر الآية يدل على أنه يأتي بنفس الذي غلَّ، إن كانت شاة أو بعيرًا أو أي شيء يغُلُّه يأتي به يوم القيامة، وكذا لو غلَّ ثيابًا أتى بها يوم القيامة، لكن هل يأتي بها مكتسيًا بها؟
الجواب: لا، بل يأتي بها حاملًا لها وهو عارٍ. البعير الذي غلَّه وركبه، يأتي به يوم القيامة حاملًا له تعذيبًا له.
قال تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :
{ثُمَّ} أي: بعد أن يُبعث الناس يوم القيامة ويأتي كل إنسان بما غلَّ {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} .
{تُوَفَّى} : من التوفية، يُقال: وفَّاه حقّه أي أعطاه إياه.
وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} يشمل حتى الرسل، والمُرسل إليهم {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]. كلٌّ يُعطى ما كسب.
وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} ، يحتمل أن يكون المراد بالعموم هنا كل من كان مكلَّفًا؛ لأن غير المكلَّف لا يُعاقب؛ لأنه مرفوع عنه القلم، وقد يُقال: إنه يشمل حتى غير المكلَّف؛ لأن التوفية لا يلزم منها عقوبة، فقد يوفَّى حقَّه بالأجر، ومعلوم أن غير المكلَّف يؤجر، ويُكتب له ولا يُكتب عليه.
وقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الجملة (حال) من قوله {كُلُّ نَفْسٍ} ، ومعناها العموم.
{وَهُمْ} : أي الأنفس {لَا يُظْلَمُونَ} أي لا يُنقصون من الحسنات، ولا يُزَادون في السيئات؛ لأن الظلم في الأصل هو النقص، كما قال الله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] أي لم تنقص، وهو يشمل -أي الظلم- شيئين:
الأول: الزيادة في السيئات.
والثاني: النقص من الحسنات.
وكلاهما ممتنعٌ في حقِّ الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وإنما انتفى الظلم عنه لكمال عدله، لا لعجزه عن الظلم، هو قادرٌ على أن يظلم عز وجل ولكنه لكمال عدله لا يظلم، ولدينا قاعدة في العقيدة وهي: أن جميع الصفات التي نفاها الله عن نفسه لا يُراد بها مجرد النفي، وإنما يُراد بها إثبات كمال الضد.
فمثلًا: الظلم ضده العدل، فإذا نفى الله عن نفسه الظلم، فالمراد بذلك أنه لكمال عدله لا يظلم، وإنما قلنا ذلك لأن النفي المحض لا يوجد في صفات الله أبدًا، إذ إن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء فضلًا عن أن يكون كمالًا.
وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] يعني من تعب، فالمراد به إثبات القوة يعني: وما مسَّنا من لغوب لكمال قوَّتنا، وهلُمَّ جرّا.
قال العلماء: النفي قد يكون للعجز عن الشيء، وقد يكون لعدم قابلية الشيء، فإذا قلت:(إن جدارنا لا يظلم) هذا لعدم القابلية؛ لأن الجدار لا يقبل الظلم، ولا العدل.
وإذا قلنا عن رجل ضعيف يضربه الناس ولا يستطيع أن يدافع عن نفسه، نقول:(هذا الرجل لا يظلم) هذا ذم، ولهذا يقول الشاعر في ذم قبيلة:
قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمَّةٍ
…
ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
الذي يقرأ البيت هذا يقول: هؤلاء الناس جيِّدون، لا يغدرون بذمة، أي يوفون بالعهد، ولا يظلمون الناس حبة خردل،
يعني أنهم عاجزون لا يقدرون أن يغدروا بالذمم؛ لأنهم يخافون أن يُعاقبوا، ولا يظلمون الناس؛ لأنهم لا يستطيعون أن يظلموا الناس، ومن ذلك قول الشاعر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ
…
ليسوا من الشر في شيءٍ وإن هانا
يعني هم بعيدون عن الشر وإن كان هيِّنًا.
يجيزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
عندما يسمع السامع هذا البيت يظن أنهم في قمة الأخلاق العالية، ولكنه العكس، ولذلك قال:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا
…
شنُّوا الإغارة فرسانًا وركبانا
(فليت لي بهم): أي ليت لي بدلهم.
إذن فهمنا الآن أن الكلام الأول ذم، أما صفات الله عز وجل إذا وجدت فيها النفي فهي مدح، فإذا وجدت نفي الظلم فلكمال العدل، وإذا وجدت نفي اللغوب فلكمال القوة، وإذا وجدت نفي العِي {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33]، فلكمال القوة أيضًا، وإذا وَجدت نفي الغفلة {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] فلكمال العلم والمراقبة، وهكذا.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز في حقِّهم كتمان ما أنزل الله عليهم؛ لقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} .
2 -
أنه لا يجوز لأتباع النبي الغلول {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} إذن فأتباعه ليس لهم أن يَغُلُّوا، ولهذا كان الغلول من كبائر الذنوب، حتى إن العلماء يقولون: إن الغالَّ يُحرَّق رحله، إلا المصحف وما فيه روح والسلاح، وتحريق الرحل من أجل التنكيل
به وإلا فمن الممكن أن يقول القائل: لماذا تحرقون رحله؟ لماذا لا تضعونه في بيت المال ينتفع المسلمون منه؟
لكن نقول: إن إحراقه خيرٌ من إدخاله لبيت المال، لأجل التنكيل به ليكون ردعًا له ولغيره أن يعود إلى الغلول.
3 -
أن الأنبياء لا يُغلُّون شرعًا، وأن النبي لا يَحل لأحد أن يَغُلَّهُ، أن يَغُل من الغنيمة التي اكتسبها بِحَربِه.
4 -
أن الجزاء من جنس العمل؛ لقوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهذا على سبيل العقوبة، ولهذا نعرف ضعف قول من قال من السلف:(غُلّ المصحف لتأتي به يوم القيامة). هذا خطأ؛ لأنه يأتي به يوم القيامة على سبيل العقوبة لا على سبيل الثواب، وربما يأتي به يوم القيامة لا على الوجه الذي غله في الدنيا.
5 -
إثبات البعث؛ لقوله: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
6 -
إثبات قدرة الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يأتي الإنسان بما غلّ مع أنه قد فني وزال، وإن كان طعامًا قد أكل، ولكن الله على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
7 -
جزاء كل نفس بما كسبت؛ لقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} لا زيادة ولا نقص، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إهداء ثواب القرب لا يجدي شيئًا؛ لأنه ليس من كسب المهْدَى إليه، مثاله رجل صلى ركعتين ينويهما لفلان أو فلانة، وأن ثوابه إما أن يضيع وإما أن يكون للعامل، وذلك لأن المهدي للقرب ليس له ثواب إلا الإحسان إلى الغير فقط، أما ثواب العمل المخصوص المرتب عليه، فإنه إن قيل بصحة إهداء القُرَب
يكون للمُهدى له، وإن قلنا بعدم صحته فإنه يذهب هدرًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"
(1)
. وعلى هذا فيقولون: إن ما جاءت به السنة من العمل للغير مستثنى من هذا العموم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(2)
، وكذلك الحج وكذلك في الصدقة، كلها جاءت بها السنة، ولكن الإمام أحمد رحمه الله يرى التعميم، أي: يرى أن الإنسان إذا عمل عملًا ونواه لشخص وهو أهل لأن يثاب، والأهل لأن يثاب هو (المسلم) فإنه يصل إليه الثواب، واستدل بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
والحقيقة أنك إذا تأملت الأدلة وجدت أن بعضها بينه وبين الأدلة الأخرى عموم وخصوص من وجه، فبعضها عام في أنه لا ينفع النفس إلا ما كسبت، وبعضها عام في أن الإنسان له ما نوى، والقاعدة فيما إذا تعارض نصَّان عامان أحدهما أعم من الآخر من وجه فإنه يطلب المرجح؛ لأنه لا يمكن أن ترجح عموم أحدهما على الثاني، فهنا سؤال: هل لعموم قوله: "إنما الأعمال بالنيات" ما يرجحه؟
نقول: نعم، ورد أن الصدقة تجزئ عن الميت، وأن الحج يجزئ عن الميت، وأن الصيام يجزئ عن الميت، إذن فَعُموم قوله:{مَا كَسَبَتْ} خصص بمقتضى السنة، والعام إذا خصص ضعفت دلالته على العموم، حتى إن بعض العلماء قال: إن العام إذا خصص سقطت دلالته على العموم؛ لأن تخصيصه يدل على أنه
(1)
تقدم تخريجه (ص 103).
(2)
رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم (1952)، ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت، رقم (1147).
لا يراد به العام، لكن الصحيح أن العام إذا خصص بقي على عمومه في غير ما خصص به، فالصحيح في هذه المسألة أننا نرجح عموم قوله:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، لكن بشرط أن يكون المنوي له العمل مسلمًا أهلًا لذلك، لو أن شخصًا تصدق عن أبيه الذي مات وهو لا يصلي فإن الصدقة لا تصح لأبيه، وهل يشمل قولنا على الراجح أن جميع القرب يصح إهداؤها لمن هو أهل لذلك العمل؟ وهل يشمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ بمعنى: هل الإنسان إذا أراد أن يهدي للرسول صلى الله عليه وسلم قربة من الصلوات أو غيرها يقول: اللهم إن صلاتي هذه التي سأصليها ثوابها للرسول، أو هذه الدراهم التي أتصدق بها ثوابها للرسول صلى الله عليه وسلم؟
نقول: إن هذا فعله بعض العلماء ولكن لم يفعله السلف الصالح، فالصحابة ما أهدوا للرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرب، وكذلك التابعون وتابعوهم، وقد ذكر أن أول ما حدث هذا الأمر في القرن الرابع أي بعد القرون المفضلة، وذلك لأن القرون المفضلة أعمق علمًا ممن بعدهم، يقول أهل القرون الأولى: إننا إذا عملنا أي عمل صالح فإن للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ثوابنا، وإذا كان كذلك فلا حاجة أن أقول: اللهم اجعل ثوابه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحق الثواب فلا فائدة من ذلك إلا أني حرمت نفسي الأجر.
8 -
إثبات نفي الظلم عن الله؛ لقوله: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ويتفرع على هذا -بناء على القاعدة التي ذكرناها في الصفات- إثبات كمال عدله سبحانه وتعالى.
• ثم قال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 162].
الهمزة هنا للاستفهام ويليها حرف عطف، وقد ذكرنا فيما سبق أنه إذا جاءت همزة الاستفهام وبعدها حرف عطف فإن لعلماء النحو في ذلك رأيين:
الرأي الأول: أن الهمزة داخلة على جملة مقدرة تناسب المقام، والفاء عاطفة على تلك الجملة.
الرأي الثاني: أن الهمزة داخلة على الجملة الموجودة ولم يحذف شيء، ولكنها مقدمة عن موضعها؛ لأن لها الصدارة، وأن الفاء في مثل قوله:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ} محلها في الأصل قبل الهمزة، والتعديل "فأمن اتبع" ولكن لما كان الاستفهام له الصدارة قُدِّمت على حرف العطف، وهذا الرأي أسهل، ووجه سهولته أنه لا يحتاج إلى تكلف تقدير المحذوف؛ لأنه أحيانًا يصعب عليك أن تقدِّر المحذوف، وربما تقدِّر محذوفًا ويُقدِّر غيرك غيره. إذن نعتمد أن الهمزة للاستفهام، وأن الفاء عاطفة على ما قبلها.
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ} :
(مَن) هنا اسم استفهام أو اسم موصول، التقدير (أفالذي اتَّبع). إذن هي اسم موصول لئلا نجعل أداة الاستفهام داخلة على اسم استفهام أو على جملة استفهامية.
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} أي يتبع ما يُرضي الله عز وجل، فكل ما يُرضي الله يقوم به.
{كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} : أي: كالذي باء أي رجع بسخطٍ من الله، والسخط ضد الرضوان، فمن هو الذي يتعرَّض للرضوان؟ ومن هو الذي يتعرض للسخط؟
المطيع يتعرض للرضوان، والعاصي يتعرض للسخط.
{كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} :
الواو يحتمل أن تكون للاستئناف، ويكون المراد بها الإخبار عن مآل هذا الذي باء بسخطٍ من الله، ويُحتمل أن تكون عاطفةً على جملة صلة الموصول، وهي (باء). أي: كمن باء كمن مأواه جهنم.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} : أي مرجعه، يأوي إليه إيواءً لا مغادرة بعده، وجهنم اسمٌ من أسماء النار -أعاذنا الله منها- وسُمِّيت بهذا الاسم المشتق من الجُهْمَة، وهي تتضمَّن السواد واللّبس؛ لأن جهنم سوداء عميقة بعيدة العمق، وقيل: إن جهنم لفظ معرَّب من (كهنَّام) فارسية ثم عرِّبت إلى (جهنم).
وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} :
{بِئْسَ} جملة إنشائية لإفادة الذم، و (نِعم) جملة إنشائية لإفادة المدح، و (بئس) و (نِعم) يحتاجان إلى شيئين: إلى فاعل ومخصوص. كلما جاءت (نِعم) أو (بئس) فإنهما تحتاجان إلى فاعل ومخصوص.
فهنا {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . {الْمَصِيرُ} فاعل، والمخصوص محذوفٌ تقديره (وبئس المصير هي) أي: جهنم، أو (وبئس المصير مصيره) فيجوز الوجهان.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان أنه لا يستوي من يتبع رضوان الله، ومن يبوء بسخطه؛ لقوله:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} والاستفهام للنفي.
2 -
إثبات أن الرضا صفة من صفات الله؛ لقوله: {رِضْوَانَ اللَّهِ} ، ومن قاعدة أهل السنة والجماعة (أن كل وصفٍ وصف الله به نفسه فإنه يجب علينا أن نؤمن به ونصف الله به) فنقول: إن لله رضوانًا وأنه يرضى، والرضا صفة فعلٍ؛ لأن الرضا له سبب، وكل صفة من صفات الله لها سبب فإنها من الصفات الفعلية.
وأنكر بعض الناس الصفات الفعلية لله متعللين بعلتين:
العلة الأولى: أن صفات الأفعال حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بحادث؛ لأن حدوث الصفة يدل على حدوث الموصوف، فالحوادث لا تقوم إلا بحادث.
العلة الثانية: قالوا: إن كانت هذه الصفة كمالًا لزم أن يكون متَّصفا بها دوامًا، وإن كانت نقصا لزم أن لا يتَّصف بها دوامًا؛ لأن النقص لا يمكن أن يتصف الله به.
فنقول: إن قولكم إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث غير صحيح؛ لأن الحوادث فعل الفاعل، والفعل عقلًا يتأخر عن الفاعل بلا شك؛ لأن الفعل يكون بإرادة الفاعل وقدرته، وهو متأخر عن وجوده، فالفاعل سابق للمفعول وسابق للفعل أيضًا، فكيف نقول: إن الحادث لا يقوم إلا بحادث؟
الثاني: قولكم: أنها إن كانت هذه الصفة كمالًا وجب أن يتصف بها دوامًا، وإن كانت نقصًا لزم ألا يتصف بها دوامًا. الجواب عنه: هي كمالٌ حال فعلها ولا شك، وحال عدمها ليست كمالًا، والكمال في عدمها.
خذ الرضا مثالًا: الرضا على من يستحق الرضا كمال، ولا يستحق الرضا إلا بعد فعل ما يوجبه، والرضا عمن لا يستحق
نقص يُنافي الحكمة، فإذا اتصف بالرضا فإنه يتصف بها في الحال التي يكون بها كمالًا.
والرضا يُفسِّره الذين يقتصرون على إثبات سبع صفات بأنه الثواب أو إرادة الثواب، والصحيح أن الرضا صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل، وليست هي الثواب؛ لأن الإثابة خَلْقُ ما يُثَابُ به غير الرضا، وهي -أي الإثابة- من مقتضيات الرضا وآثاره، وليست هي الرضا بلا شك.
وعليه فلا يصح أن نُفسر الملزوم باللازم؛ لأنهما شيئان متباينان، فحينئذٍ يتبيَّن أن الصواب ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة -جعلنا الله منهم-.
3 -
إثبات السخط لله؛ لقوله: {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} ، والسخط والغضب معناهما متقارب، وأهل السنة يقولون: إن السخط صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل، وأهل البدع يقولون: لا يمكن أن يسخط الله عز وجل، بل المراد بالسخط الانتقام أو إرادة الانتقام. فيقولون: إن سخطه ليس وصفًا في نفسه، بل معناه انتقم وعاقب المسخوط عليه أو أراد أن ينتقم منه، وهذا بناءً على أن صفات الأفعال لا تقوم بالله، والتعليل هو ما سبق، ونحن نقول: إن الانتقام من آثار السخط، وإرادة الانتقام أيضًا من آثار السخط، والدليل على ذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]. {آسَفُونَا} بمعنى أغضبونا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، فجعل الانتقام بعد وجود الغضب، وهذا يدل على أن هذا ليس هو هذا.
4 -
التحذير من التعرض لسخط الله؛ لقوله: {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} .
5 -
إثبات النار؛ لقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} وهي ثابتة الآن وموجودة، ولا تفنى أبدًا؛ لأن الله ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من كلامه: في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن، فقال في سورة النساء:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168، 169]، وقال في سورة الأحزاب:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64، 65]، وقال في سورة الجن:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ولا قول بعد قول الله عز وجل؛ لأن قوله أصدق الكلام وأبين الكلام، وهو الخالق عز وجل.
6 -
ذم النار والثناء عليها بالقدح؛ لقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
7 -
التنبه لأمرٍ يتكلم فيه الناس كثيرًا الآن، يقولون: إذا مات الرجل فإنه يرجع إلى مثواه الأخير، وهذا لو أخذنا بظاهره، لكان يتضمَّن إنكار البعث، مع أن القبر ليس المثوى الأخير، وإنما المثوى الأخير الآخرة، الجنة أو النار، والقبر مزار.
سمع أعرابي رجلًا يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1، 2] فقال: والله إن الزائر ليس بمقيم، فَهِمَ هذا من قوله:{زُرْتُمُ} وهذا مفهوم فهمًا فطريًّا لا يحتاج إلى دراسة، وهذا كالذي سمع قارئًا يقرأ:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ والله غفور رحيم). قال الأعرابي: اقرأ الآية صوابًا، فقال:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ والله غفور رحيم). قال: اقرأها صوابًا ما هكذا، فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. قال: الَان عزَّ وحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع، ولهذا قال في الذين يُحاربون الله ورسوله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33، 34]. قال العلماء: في هذا دليل على أنهم إذا تابوا قبل القدرة عليهم خُلِّي سبيلهم، يعني: أن الله قد غفر لهم ورحمهم، فمن أين أخذ أن الله قد غفر لهم ورحمهم؟ الجواب: من ختم الآية: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ لأن مقتضى علمنا بهذا أن نفهم أن الله قد غفر لهم ورحمهم.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163].
قوله: {هُمْ} يعود الضمير على من اتبع رضوان الله وعلى من باء بسخط من الله، ولكن هنا يشكل علينا أنه أعاد الضمير بصيغة الجمع (هم) مع أن (مَن) وصِلَتها بصيغة الإفراد (أفمن اتَّبع
…
كمن باء).
والجواب عن ذلك: أن الاسم الموصول يُفيد العموم، فيجوز أن يعود الضمير إليه باعتبار لفظه، ويجوز أن يعود عليه باعتبار معناه، ألم تسمع إلى قوله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]؟ لم يقل: (هو
المتَّقي) بل قال: (هم المتَّقون)، فأعاد الضمير على معنى اسم الموصول وهو الجمع.
قال: {هُمْ} أي: الذيني اتَّبعوا رضوان الله، والذين باءوا بسخط من الله {دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي: منازل عند الله، يختلفون، فكل من كان أتبعَ لرضا الله كان أرفع عند الله، وكل من كان أبعد من الله كان أنزل، فالمراد أنهم درجات عند الله، أي في المراتب، وميزان هذه الدرجات أن كل من كان أتبع لرضا الله كان أرفع درجات عند الله، والعكس بالعكس. والدرجات إذا جاءت عامة دخل فيها المؤمن وغير المؤمن كما قال:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] أما إذا خُصت بأهل النار فإنه يقال: دركات كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} :
{بَصِير} : اسم فاعل، يجوز أن يكون من الإبصار بالعين، ويجوز أن يكون من الإبصار بالعلم، فيكون {بَصِير} بمعنى: عليم، أو {بَصِير} بمعنى: راءٍ. وهل لله بصرٌ؟ .
الجواب: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"
(1)
.
وقوله: {بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: بالذي يعملونه من ظاهر وباطن، وخير وشر.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الناس عند الله منازل مختلفة، ويتفرَّع على هذه الفائدة:
(1)
تقدم تخريجه (ص 349).
أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن زيادة الدرجات بعد زيادة الإيمان باليقين والعمل الصالح، وهل هي زيادة اليقين أم زيادة الأقوال أم زيادة الأفعال أم الجميع؟ الجواب: الجميع، فاليقين يتفاضل، والأقوال تتفاضل، ليس من قال: لا إله إلا الله عشرًا كمن قالها عشرين مثلًا، والأفعال كذلك تتفاضل، ليس من صلى ستَّ ركعات كمن صلى عشر ركعات، وهذا ما جرى عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد باليقين والقول والفعل، كيف يزيد باليقين؟ هل اليقين يتفاضل؟ الجواب: نعم يتفاضل بنص القرآن. قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لربه عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] هذا دليل من القرآن، والدليل من الواقع هو أن الإنسان كلما كثر المُخبرون بالخبر ازداد يقينًا، وإذا شاهد ازداد أكثر، ولهذا جاء في الحديث:"ليس الخبر كالمعاينة"
(1)
. أما زيادة الأقوال والأفعال فهذا شيءٌ واضح ولا إشكال فيه.
2 -
إثبات العلو لله عز وجل؛ لقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} والعندية تعني: عندية المكان، وإذا كانوا درجات فالدرجات ترتفع شيئًا فشيئًا، فيؤخذ منها إثبات علو الله، فهذا أمر متفق عليه، ومجمع عليه بين السلف، وقد دلَّت عليه الأدلة الخمسة كلها: الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، يعني علو الله عز وجل دلَّت عليه هذه الأدلة الخمسة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
الكتاب والسنة مملوءان من ذلك، والإجماع، يقول شيخ الإسلام: والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (1845، 2443).
كلام السلف ما رأيت أحدًا منهم قال: إن الله ليس في السماء. وأما العقل فقد دل على علو الله. كيف دلَّ؟ لا شك أن العلو (علو المكان) كعلو المكانة، أي أنه كمال، وإذا كان كذلك فلله كل صفة كمال. أما الفطرة فإن كل إنسان لم يقرأ كتب أهل البدع يتجه قلبه إذا ذُكر الله إلى العلو، ولهذا يُقال: إن أبا المعالي الجويني كان يُقرر في العلو ويقول: إن الله تعالى كان ولم يكن شيءٌ قبله، وهو الآن على ما كان عليه.
وهذا الكلام قد لا يفهمه الإنسان، لكنه يُريد أن يُنكر استواء الله على العرش، فقال له الهمذاني رحمه الله: يا شيخ دعني من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي يجدها الإنسان، فما قال عارف قط (يا الله) إلا وجد من قلبه ضرورة طلب العلو؟ . فجعل يضرب على رأسه، ويقول: حيَّرني الهمذاني، حيَّرني الهمذاني. فلم يجد له جوابًا.
إذن نقول: علو الله ثابت بالأدلة الخمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، وابن القيم رحمه الله يكرِّر هذا المعنى في النونية كثيرًا؛ لأنه من أعلى صفات الكمال.
3 -
إثبات إحاطة الله عز وجل بما نعمل؛ لقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، ويترتب على هذا، الأدب السلوكي، وهو أن نحذر من مخالفته، لأننا إذا كنا نعلم أنه بصير بما نعمل، فسوف نتجنَّب كل ما يُسخطه جل وعلا، ونأتي بكل ما يُرضيه، لاسيما وأن الآية جاءت بعد قوله:{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162].
• ثم قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
لقد ذكرنا فيما سبق ضوابط عامة في القراءات وهي:
أولًا: ضمير (هُوَ) و (هِي) الأول بضم الهاء، والثاني بكسر الهاء عند جمهور القراء مطلقًا، وسكَّن الهاء فيهما الكسائي وقالون وأبو عمرو بعد الواو والفاء واللام مثل:(وهْو، وهْي، فهْو، فهْي، لَهْي، لَهْو). فإذا جاءت في القرآن فلك أن تُسكِّنها أو تضُمها، وسكّنها الكسائي وقالون في قوله:{ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] في هذا الموضع فقط، لأنها وقعت بعد (ثم).
ثانيًا: ضمير (عليهِم، إليهِم، ولديهِم) مكسور الهاء، وقرأه حمزة بضم الهاء في كل القرآن (غير المغضوب عليهُم، إليهُم، لديهُم).
ثالثًا: ميم الجمع في مثل (عليهم) ساكنة إذا وقع بعدها متحرِّك غير ضمير، وضَمَّها موصولًا ابن كثير، فيقرأ (عليهِمُو)، وضمَّه موصولًا ورش إن وقع بعد همزة قطع، فيقرأ "عَلَيْهِمُو أأنذرتهم". وإن وقع بعده ساكن فهو مضموم بدون وصل عند جميع القراء، مثل:(آتيناهمُ الكتاب) وإن وقع بعد ضمير ضُم موصولًا للجميع مثل: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا)، فلا يصح أن تقول: أنلزمكمُهَا، لابد من الواو.
ويستثنى من ذلك ميم الجمع إذا وقعت بعد (هاء) قبلها كسر أو ياء وبعده ساكن؛ ففيه في حال الوصل ثلاث قراءات: ضم الهاء والميم وهي لحمزة والكسائي، وكسرهما وهي لأبي عمرو،
وكسر الهاء وضم الميم وهي للباقين، وأما حال الوقف فكلهم كسر الهاء وسكَّنوا الميم مثل:{بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]. {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [البقرة: 167].
رابعًا: إذا لم يقع بعد هاء الضمير ساكن، وكان قبله متحرك فهو موصول عند جميع القراء، مثل:{أَمَاتَهُ} [عبس: 21]، وإن وِقع بعده ساكن، فهو غير موصول عند الجميع مثل:{يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، وإن كان ما قبله ساكن فهو موصول عند ابن كثير وحده مثل:(اجتباه - عقلوه - عليْهِ) ووافقه حفص في آية واحدة وهي قوله تعالى: {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69].
قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
(لقد): كلما وجدت في القرآن (لقد) فإنها جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي القسم المقدر، واللام، وقد. وتقدير الكلام:(والله لقد منَّ الله على المؤمنين).
فإن قال قائل: القسم إنما يُقال للشاك أو المنكر، فلماذا أقسم الله في هذه الآية على أنه مانٌّ على المؤمنين ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، مع كون الأمر ظاهرًا، ولم يقل: لقد منَّ الله على الناس، بل قال على المؤمنين الذين يعرفون أن ذلك منَّة؟ .
فالجواب: أن الداعي للقسم ليس هو الإنكار أو الشك من المخاطب، بل قد يكون الداعي للقسم أهميَّة المُقسم عليه، وإن لم يكن هناك شك، وهذه الآية من هذا النوع؛ فالمقصود بذلك بيان أهمية هذه المنَّة العظيمة التي لا يُعادلها شيء.
ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] فأكَّد مع أن الموت محقَّق، ولكن يُقال لمَّا كان بعض الناس غافلًا كأنه لن يموت، أُكِّد.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : على المؤمنين خاصة دون غيرهم؛ لأن الكفار لم يعرفوا هذه المنَّة ولم يرفعوا بها رأسًا، ولم يروا في مخالفتها بأسًا، فتركوها وأعرضوا عنها، وحُرموا خيرها، أما المؤمنون فهم الذين تبيَّنت لهم هذه المنَّة واستمسكوا بها.
وقوله: {إِذْ بَعَثَ} هذه إما أن تكون ظرفًا لـ (مَنَّ)، وإما أن تكون للتعليل، أي: لأنه بعث، وكلاهما لا يتنافيان، فهي بيان لمحل المنَّة، وهي البعثة، وهي كذلك تعليل للمنَّة.
وقوله: (بعث) أصل البعث الإنشاء، وسُمِّيت الرسالة بعثًا؛ لأنها إخراج للناس من حالٍ إلى حال، فكأنهم بُعثوا خلقًا جديدًا، وأُنشئوا خلقًا جديدًا.
وقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} :
(في): للظرفية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث في (سِطَة) المؤمنين، وكان هو عليه الصلاة والسلام أشرف من بُعث فيهم نسبًا.
وقوله: {رَسُولًا} أي: مُرسلًا من عند الله.
وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . أي: من جنسهم، وفي سورة الجمعة:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 1، 2] لأن النبي صلى الله عليه وسلم من الأميين، وأما عامة الناس فليس منهم، ولكن من أنفسهم، أي من جنسهم كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. ومعنى "من أنفسهم" أي: من جنسهم، ولا شك أن كونه من جنسنا أتم في النعمة؛ لأنه لو كان من الملائكة ما أَلِفَه الناس، ولا ركنوا إليه، وربما لا يقبلون منه، فإذا كان من جنسهم يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، وينام كما ينامون، ويكون معهم في أسواقهم وفي بيوتهم، كان ذلك أبلغ في المنَّة.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} :
جملة (يتلو) صفة ثانية لـ (رسولا) أي: رسولًا من أنفسهم تاليًا عليهم آياته.
والتلاوة هنا تشمل التلاوة لفظًا، والتلاوة معنى، والتلاوة حكمًا؛ فالتلاوة لفظًا: أن يقرأ الكتاب بينهم، والتلاوة معنًى أن يُعلِّمهم معانيه، والتلاوة حكمًا أن يعمل بأحكامه عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذه الثلاثة كلها تحتملها كلمة (يتلو)؛ فهو عليه الصلاة والسلام يتلوه لفظًا ويتلوه معنًى. قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ويتلوه عليهم كذلك حكمًا. قالت عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يتأول القرآن)
(1)
يعني: يطبقه.
{آيَاتِهِ} هل هي الآيات الكونية أو الشرعية؟ الظاهر المراد آياته الشرعية، وهي الوحي الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يُطهِّرهم حسًّا ومعنى. أما الطهارة حسًّا
(1)
تقدم تخريجه (ص 195).
فقد أمرهم بالوضوء عند الصلاة، وأمرهم بالغسل من الجنابة، وأمرهم بإزالة النجاسة، بل حثَّ على النظافة عمومًا. وأما التزكية معنى فهي أنه طهّر قلوبهم من الشرك والشك والنفاق وسوء الأخلاق، وهذّب أخلاقهم عليه الصلاة والسلام، حتى زكت نفوسهم وأخلاقهم.
وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} :
ليست تكرارًا مع قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} لأن الأول تلاوة والثاني تعليم، والتعليم أخص من التلاوة؛ لأن الإنسان إذا تلا عندك القرآن لا يُعد معلمًا لك يُعلمك. إنما يكون معلمًا إذا أقرأك إياه ولقنك إياه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يُعلمهم الكتاب، والتعليم هنا شامل لتعليم اللفظ، وتعليم المعنى، وتعليم الحكم، أي العمل به.
وقوله: {الْكِتَابَ} أي: القرآن، وسُمِّي كتابًا لأنه مكتوب، فهو فِعَالٌ بمعنى مفعول، وقد تكرَّر علينا كثيرًا أن فِعَال تأتي بمعنى مفعول، ومن أمثلته: فِراش بمعنى مفروش، وغراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني؛ فالقرآن كتاب، يعني: مكتوب؛ كُتب في اللوح المحفوظ، وفي الكتب التي بأيدي السفرة، والكتب التي بأيدينا.
قال بعض أهل العلم: إن المراد بالكتاب هنا الكتابة؛ لأن العرب كانوا أميين، فلما نزل هذا الكتاب العظيم تعلموا الكتاب؛ فصاروا يكتبونه للرسول صلى الله عليه وسلم ثم صاروا يكتبون بعض الأحاديث، ثم انتشرت الكتابة فيهم.
ومعلوم أن من جملة الفداء الذي أُخذ من أسرى بدر أن يُعلِّموا صبيان أهل المدينة القراءة والكتابة.
وأيَّد هذا القائل قولَه بأن تعليمهم الكتاب مستفاد من قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} ولكن في هذا نظر؛ وإن كنا لا نمنع أن يكون المراد بالكتاب هنا الكتابة والقرآن جميعًا؛ لأن القاعدة عندنا في التفسير: أنه متى احتملت الكلمة معنيين فأكثر، ولا منافاة بينهما، فإن الواجب حملُها عليهما؛ لأن كتاب الله عز وجل واسع المعنى. فعلى هذا يكون المراد بالكتاب: القرآن والكتابة.
وقوله: {وَالْحِكْمَةَ} قال بعض العلماء: أي السنة، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]. وقيل: المراد بالحكمة أنه علّمهم كيف يضعون الأشياء مواضعها؛ لأن الشريعة الإسلامية تُعلّم الإنسان كيف يضع الشيء في موضعه.
وأيضًا علَّمهم الحكمة التي هي أسرار التشريع؛ لأن الشرع كما نعلم أحكام وحِكَم، فالأحكام ظاهرة. والحِكَم هي الأسرار والمعاني التي تُناط بها هذه الأحكام، والإنسان إذا عرف هذه الحكم والأسرار، تبين له أن الشريعة ليست لهوًا ولا لعبًا، وأن الشريعة ذات معانٍ سامية، لا يدركها إلا من فتح الله عليه.
ويمكن أن نقول: إن الحكمة تشمل هذا وهذا؛ أي علَّمهم السنة التي يطلق عليها الحكمة، وعلَّمهم وضع الأشياء مواضعَها، وأسرار الشريعة وحِكَمها ليزدادوا بصيرة في دين الله.
قال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
"إِنْ" تأتي في اللغة العربية لعدة معانٍ، والسياق هو الذي
يعين المعنى. فتأتي (إِنْ) شرطية، ومثالها {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، وتأتي (إِنْ) نافية؛ وعلامة "إِن" النافية أن تأتي بعدها (إِلَّا) {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]، {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25]، {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} [يوسف: 31]، وتأتي مخففة من الثقيلة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} هذه (إن) المُخففة من الثقيلة، وأصلها (وإنهم كانوا من قبل) وعلامة (إن) المخففة من الثقيلة: أن تأتي اللام في خبرها؛ فإذا أتت بعدها اللام فهي المخففة من الثقيلة، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي} .
قال ابن مالك:
وخففت (إن) فقل العمل
…
وتلزم اللام إذا ما تهمل
وتأتي (إِنْ) زائدة:
بنو غدانة ما إن أنتم ذهب
…
. . . . .
أي: (ما أنتم ذهب).
والتي في الآية الكريمة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (إن) المخففة من الثقيلة وعلامتها أن تأتي اللام في خبرها أو في اسمها إن تأخر، بمعنى أن تأتي بعدها اللام، وأين اسمها؟ قيل: إنه محذوف مقدر باسم ظاهر، والتقدير:(وإن الشأن كانوا من قبل في ضلال مبين).
وقال بعضهم: بل هو محذوف مقدر بضمير مناسب. وهذا هو الصحيح؛ فإذا كان الخبر جمعًا كان الضمير المقدر جمعًا. وعلى هذا يكون التقدير هنا: (إنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين)؛ فيقدر ضمير الشأن بما يناسب المقام، (وإن كانوا) الضمير يعود على المؤمنين الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل بعث هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
{لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : "في" للظرفية، يعني أن الضلال محيط بهم، كإحاطة الظرف بمظروفه.
{مُبِينٍ} : بمعنى بيِّن.
وقوله: {مِنْ قَبْلُ} نقول (مِن) حرف جر، و (قبلُ) هنا غير مجرورة، بل هي مبنية؛ والمبني لا تظهر عليه علامة الإعراب كما في قوله تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، ولم يقل:(من حيثِ) وهنا قال: (من قبلُ)، ولم يقل (من قبل)، ولكن في بعض الأحيان تُجر (قبل)، فيُقال:(من قبلِهم){كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وإنما تُبنى على الضم إذا حُذف المضاف إليه ونُوِيَ معناه، هذا كلام النحويِّين.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
عظيم منَّة الله عز وجل على المؤمنين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لتأكيد هذه المنَّة بالقسم.
2 -
أن المنة ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت على المؤمنين؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بها لقوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
3 -
أن من لم يعترف بالمنة فهو كالمسلوب منها، أو هو كالمسلوبة منه؛ لأنه خصَّ المنة بالمؤمنين.
4 -
وجوب شكر نعمة الله على مَن مَنَّ الله عليه بالإيمان؛ لقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ} لأن المراد بهذا الخبر هو شكر نعمة الله تعالى على هذه المنة، وأن لا يتعاظم الإنسان في نفسه.
5 -
الرد على الأعراب الذين منّوا بإيمانهم وإسلامهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ
إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
6 -
اللجوء إلى الله تعالى بأن يثبتك على الإيمان؛ لأنه إذا كان هو المانُّ به فهو الذي يملك ثبوته وزواله؛ فارجع إليه.
7 -
فضيلة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث كان مبعوثًا من قِبَل الله، والرسول يَشْرف ويَعْظُم بحسب مَنْ أرسله، ولهذا يفرق الناس بين رسول السلطان ورسول الرجل العادي، رسول السلطان يرونه أعظم من رسول الرجل العادي.
8 -
ثبوت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
9 -
إثبات منّة الله تعالى بكون الرسول من جنسنا؛ لقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . ويتفرع على هذه الفائدة:
الردّ على أولئك السفهاء المعاندين الذين قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7]، قال تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9]؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الملك بين البشر، ولا يمكن أيضًا للبشر أن يتقبلوا منه كما يتقبلون ممن كان مِن جنسهم.
10 -
الثناء العظيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
11 -
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ الرسالة، حيث كان يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة.
12 -
أن القرآن معجز؛ لقوله: (آيات)؛ لأن الآيات بمعنى العلامات، والعلامة على الشيء هي المُعَيِّنَة له، والتي لا تصلح لغيره، فهي آية لله لا تصلح لغيره.
13 -
جواز إضافة الشيء إلى سببه {وَيُزَكِّيهِمْ} ، مع أن الله
قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، لكنه صلى الله عليه وسلم سبب للتزكية. ففي الآية جواز إضافة الشيء إلى سببه، لكن بشرط أن يكون معلومًا أنه سبب إما عن طريق الشرع، أو عن طريق العقل أو الحس.
* * *
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران: 165].
قوله: {أَوَلَمَّا} الهمزة هنا تلاها حرف عطف، وقد مرَّ علينا كثيرًا أن الهمزة إذا وليها حرف عطف، فلعلماء النحو في ذلك قولان:
أحدهما: أن العطف على شيء مقدر يناسب المقام.
والثاني: أن العطف على ما سبق. وعلى هذا الوجه تكون الهمزة مقدمة عن موضعها، وموضعها بعد حرف العطف، وهذا أسهل على المعرب؛ لأنه لا يحتاج إلى تكلف المقدر، وأحيانًا قد يصعب على الإنسان أن يقدر شيئًا مناسبًا.
وقوله: {لَمَّا} : شرطية؛ ودليل كونها شرطية أنها تحملت فعل الشرط وجوابه؛ فعل الشرط في قوله: {أَصَابَتْكُمْ} وجوابه في قوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} .
(ولمّا) تأتي على عدة وجوه: فتأتي بمعنى (إلا) وتأتي بمعنى (حين) وتأتي بمعنى (لم) وتأتي شرطية؛ ففي قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] بمعنى: إلَّا، وفي قوله تعالى:{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] بمعنى: لم، وإن كان بين "لم" و"لما" فروق لكن هي هنا بمعنى "لم" النافية. وفي قوله تعالى:{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ} [يونس: 98] قال
بعض العلماء: (لما) هنا بمعنى حين. فهذه وجوه أربعة و"لَمَّا" الواردة في كتاب الله عز وجل.
وقوله: {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} : أصابتكم يعني: حلَّت بكم مصيبة قد أصبتم مثليها، أي حلَّ بكم مثلاها. وهذه المصيبة هي ما حلَّ بهم في أُحد؛ فإنه قتل منهم سبعون رجلًا، وعلى رأسهم أسد الله وأسد رسوله وعم النبي صلى الله عليه وسلم: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يشير سبحانه وتعالى إلى ما حصل في يوم بدر؛ حيث قُتل سبعون رجلًا من المشركين، وأُسر منهم سبعون رجلًا، فسبعون مع سبعين ضعفان، ولهذا قال:{أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ، وأما قول من قال: إن في الآية إشارة إلى موقعة الأحزاب، وأن النصر سيكون للمسلمين فإنه غير صحيح؛ أولًا: لأنه خلاف الظاهر حيث قال: {قَدْ أَصَبْتُمْ} وهذا فعل ماضٍ، ولم يقل: قد تصيبون. والشيء الثاني: أنهم في غزوة الأحزاب لم يصيبوا مثليها في الواقع؛ لأن غزوة الأحزاب لم يحصل فيها إلا قتل يسير جدًا، وانتصارهم في الأحزاب كان بما أرسل الله عليهم من الريح والجنود.
فإن قال قائل: كيف قال: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} مع أن المقتول سبعون، والمأسور سبعون، والأسر ليس كالقتل؟ .
قلنا: إن الأسر يحصل به من الإذلال مثل ما يحصل بالقتل، وربما يكون أكثر؛ لأن المقتول يقتل ويستريح، ولكن المأسور يستذل، ولهذا يخير الإمام في المأسورين بين أربعة أمور: الفداء بمال أو بأسير مسلم، أو الرق، أو القتل، أو المنّ
بدون شيء: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، فالحاصل أن الأسر في الإذلال كالقتل إن لم يكن أشد منه.
وقوله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} : قلتم جواب "لمَّا" أي: إذا أصابتكم مصيبة قلتم: كيف أصابنا هذا؟ ! وكيف تأتينا الهزيمة ونحن جنود الله، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !
وقوله عز وجل: {أَنَّى هَذَا} (أنَّى) هذه استفهامية، وتأتي شرطية؛ ففي قولك: أنى تقم أقم، هذه شرطية.
وفي مثل هذه الآية استفهامية، وهذا الاستفهام للتعجب، ولا أظن أن يكون للإنكار؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لا ينكرون من قدر الله شيئًا، ولكنهم يتعجبون: كيف يصيبنا هذا، ونحن جند الله، ومع رسول الله؟ ! قال تعالى:{قُلْ} أي: قل يا محمد {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وهنا أَمَرَ الله نبيَّه أن يقول ولم يقل عز وجل: {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ، بل أمر نبيه أن يبلغهم. وهذا الأمر للتبليغ الخاص، وقد قلنا: إن القرآن كلَّه قد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه جميعًا للناس.
وتوجد بعض الأحكام والأخبار التي يؤمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغها تبليغًا خاصًا، أي: قل لهؤلاء الذين قالوا: {أَنَّى هَذَا} : {هُوَ} أي: ما أصابكم {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: منكم، (ومِنْ) هنا للسببية؛ أي: فأنتم السبب.
والسبب الذي يظهر لنا هو ما حصل من النزاع والمعصية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أمرهم أن يبقوا في المكان الذي عيَّنه لهم، سواء كانت الغلبة للمسلمين، أو كانت الغلبة
للكافرين، ولكنهم رضي الله عنهم، وعفا عنهم، لما رأوا المشركين قد انهزموا، ورأوا أن المسلمين بدأوا يجمعون الغنائم، ظنوا أن الحرب انتهت، فنزلوا من المكان الذي عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وحصل ما حصل؛ فإن الفرسان من المشركين لما رأوا الثغر الذي يحمي المسلمين من ورائهم خاليًا، كروا من وراء المسلمين واختلطوا بهم، وحصل ما أراد الله عز وجل. هذا معنى قوله:{هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وخَتْمُ الآية بهذه الجملة في غاية ما يكون من المناسبة؛ فهو قدير على أن ينتصر من هؤلاء المشركين، ولكنه لم يفعل ذلك لحكمة، كما قال تعالى:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] لأن الله لو شاء لأماتهم، أو خسف بهم، أو أنزل عليهم صواعق، أو ما أشبه ذلك {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "كل شيء" عامة تشمل كل شيء؛ تشمل ما كان موجودًا؛ فهو قادر على إعدامه، وما كان معدومًا؛ فهو قادر على إيجاده، ولا استثناء في هذا العموم. وأما قول بعض المفسرين رحمهم الله في سورة المائدة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]: وخصّ العقل ذاته فليس عليه بقادر؛ فهذا تخصيص في غير محله.
أولًا: لأن العقل ليس له تدخل في صفات الله عز وجل.
وثانيًا: نقول: ما تريد بقولك: وخص العقل ذاته؟ هل تريد
أن الله سبحانه وتعالى لا يقدر أن يفعل، لا يقدر أن ينزل، لا يقدر أن يستوي، لا يقدر أن يأتي يوم القيامة للفصل بين عباده؟ أم ماذا تريد؟
إن أردت هذا، فهذا خطأ؛ فالله قادر على أن يفعل، على أن يستوي على العرش، على أن ينزل إلى السماء الدنيا، على أن يأتي للفصل بين عباده، كما صحَّ بذلك النقل.
أم تريد بقولك: خصَّ العقل ذاته، أنه لا يقدر على أن يفعل بنفسه ما لا يليق به؛ كالموت مثلًا؟ إن أردت ذلك فهذا خطأ منك أيضًا، وذلك لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات، أما المستحيلات فهي مستحيلة غير واقعة؛ هل يمكن أن نقول: إن الشيء يكون متحركًا ساكنًا في آن واحد؟ لا يمكن؛ لأن هذا لا تتعلق به القدرة أصلًا، والله عز وجل لا يمكن أن يتصف بالنقص، ولله المثل الأعلى، فكونك تفرض أن الله تعالى يمكن أن يتصف بالنقص، ولكنه غير قادر عليه، فهذا خطأ عظيم. فنقول: هذا أصلًا غير وارد على القدرة، كما قال السفاريني رحمه الله:["بقدرةٍ تعلقت بممكن"].
فالشيء المستحيل مستحيل، لا تتعلق به القدرة أصلًا؛ لأنه إذا كان الشيء ساكنًا لا يمكن أن يكون متحركًا، وإذا كان متحركًا لا يمكن أن يكون ساكنًا، والله قادر على كل شيء، لكن إذا قدر أن يجعله متحركًا صار غير ساكن، وإذا قدر أن يكون ساكنًا صار غير متحرك، فهذا أصلًا لا يرد على العقل، فإذن نقول: إن الله على كل شيء قدير عمومًا مطلقًا لا استثناء فيه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله وبَّخ الذين قالوا: {أَنَّى هَذَا} ويتفرع على هذا جواز توبيخ من كان كامل الإيمان إذا فعل ما يستحق التوبيخ عليه؛ يعني أننا لا نقول: إن كمال إيمانه يمنع أن نوبخه إذا فعل ما يقتضي التوبيخ.
2 -
من المستحسن أن يُذَكَّر الإنسان بما يهون المصيبة عليه؛ لقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} .
3 -
أنه ينبغي لمن أجاب غيره أن يجيبه بما يمنع احتجاجه؛ لقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: أنتم السبب.
4 -
إثبات الأسباب في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
5 -
منَّة الله على الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الله قد جعل على أيديهم مصيبة أكبر مما أصابهم، بل هي مِثْلَا ما أصابهم في قوله:{قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} .
6 -
إثبات اسم القدير من أسماء الله؛ لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . والقدرة صفة يتصف بها القادر، تمنعه من وصف العجز. وذكرنا فيما سبق ما تستلزم.
7 -
أنه ينبغي إذا وصفنا الله بالقدرة أن نصفه كما وصف نفسه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، خلافًا لِمَن قال: إن الله على ما يشاء قدير؛ لأنه إذا قال: إن الله على ما يشاء قدير، فقد يكون مفهوم العبارة: أن ما لا يشاؤه لا يقدر عليه. والله قادر على ما يشاء، وعلى ما لم يشأ.
وأيضًا إذا قلنا: "إنه على ما يشاء قدير" فإنه يدخل علينا
مذهب القدرية الذين قالوا: إن الله لا يشاء أفعال العباد، فإذا كان لا يشاء أفعال العباد، وقلنا: إنه لا يقدر إلا على ما يشاء، لزم أن لا يكون قادرا على أفعال العباد.
ثالثًا: أننا إذا قلنا: على ما يشاء قدير، فقد خرجنا عما وصف الله به نفسه؛ لأن الله قال:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قصة الرجل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكون آخر أهل الجنة دخولًا، وأن الله يقول له: إني على ما أشاء قادر
(1)
؟
فالجواب عن ذلك: أن هذا حديث عن مسألة وقعت، فإذا وقع شيء من الأشياء وكان الإنسان يستغرب وقوع هذا الشيء فقال: كيف يقع هذا الشيء؟ فنقول له: "إن الله على ما يشاء قادر" يعني أن الله لمَّا شاءه وقع.
أما إذا أردنا أن نصف الله بالوصف المطلق غير المقيد بفعل فإن الأولى أن نقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
* * *
قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ} (ما) هذه شرطية، ودليل أنها شرطية
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (3889).
أنه وجد في الجملة فعل شرط وجوابه. فعل الشرط قوله: {أَصَابَكُمْ} وجوابه قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقرن بالفاء لأنه جملة اسمية، وتقدير الكلام: فهو بإذن الله.
قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} :
يعني بالتقاء الجمعين التقاؤهما يوم أُحد، فإنه لما التقى الجمعان، وصارت النهاية أن هزم المسلمون واستشهد منهم سبعون رجلًا، وهذه تعتبر نكبة أمام الكفار؛ لأن الكفار سيكون لهم في هذا الحال سيطرة وعلو واستكبار كما وقع؛ فإن أبا سفيان قال في ذلك اليوم:(اُعْلُ هبل) فافتخر بعلو صنمه على المسلمين الذين يعبدون الله. وهذا الذي حصل يوم التقى الجمعان يقول الله عز وجل فيه: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} . بإذن الله القدري؛ لأن الله هو الذي قدّره، وإذن الله ينقسم إلى قسمين: إذن شرعي، وإذن كوني.
فما تعلق بالتكوين والخلق فهو إذن كوني؛ مثل قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وما تعلق بالشرع فهو إذن شرعي، مثل قوله تعالى:{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس: 59] وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] أي: إذن شرعي.
فإن قال قائل: فما الفرق بينهما؟
فالجواب: أن الفرق بينهما: أولًا: أن الإذن الشرعي يكون فيما يحبه الله، والإذن الكوني يكون فيما يحبه وما لا يحبه.
ثانيًا: أن الإذن الكوني يقع فيه المأذون به، والإذن الشرعي قد يقع وقد لا يقع.
وقوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: فهو كائن بإذن الله؛ والباء للسببية، ولذلك صحَّ أن يعطف عليه قوله:{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ} اللام للتعليل، ولا يجوز أن تسكن اللام، فتقول:{وَلِيَعْلَمَ} لأن التي تسكن بعد حروف العطف هي لام الأمر، أما لام التعليل فهي مكسورة دائمًا.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني الذين صدقوا الله في إيمانهم، وقالوا فيما أصابهم: إنه بقدر الله، ورضوا به، وتابوا إلى الله من أسبابه، وهي المعاصي والتنازع.
والعلم هنا علم ظهور وليس علم إدراك أي: وليعلمه بعد ظهوره، أما علمه قبل ظهوره فهو ثابت لله عز وجل؛ لأن الله علم كل شيء إلى يوم القيامة.
وأيضا هذا العلم علم يترتب عليه الثواب، أما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الثواب، ولا يترتب عليه العقاب. هذان فرقان.
والفرق الثالث: أن هذا العلم علم بالشيء بعد أن يقع، فهو علم بأنه وقع، وأما العلم الأزلي فهو علم بأنه سيقع، وهناك فرق بين العلم بأنه وقع، وبين العلم بأنه سيقع.
هذه ثلاثة أوجه، وإلا فإن كثيرا من الناس يقول: كيف {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} ؟ أليس الله قد علمهم من قبل؟ .
فنقول: بلى، علمهم؛ لكن العلم يختلف من هذه الوجوه الثلاثة.
ثم قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} يعني: يعلم المؤمنين، ويعلم الذين نافقوا، فيميز هذا من هذا.
وقال في المؤمنين: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} بالوصف، وأما في المنافقين فقال:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ} إلى آخره فأتى بالفعل، وذلك لأن النفاق طارئ عليهم، فلأنَّ كثيرًا من المنافقين كان آمن ثم كفر {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3]، ولهذا أتى بالفعل الذي يدل على التجدد، وأيضًا لينالسب قوله:{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا} .
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} :
النفاق في الأصل هو إظهار خلاف الواقع، ومنه سمي نفق الجربوع أو اليربوع؛ فإنه من ذكائه إذا حفر له جحْرًا جعل له بابًا ظاهرًا يدخل منه ويخرج منه، ويجعل في أقصى ذلك الجحْر طبقة خفيفة؛ يعني: يخرق إلى أن يصل إلى قريب من الانفتاح، فتبقى طبقة خفيفة جدًا من أجل أنه إذا فوجئ من باب الجحر، خرج من هذه القشرة الرقيقة، لأنها تكون سهلة عليه، فيكون هذا مخادعة؛ لأن الصائد إذا أراد صيده وهجم عليه من الباب، لا يدري أن هناك نفقًا يخرج منه.
واليربوع حلال، وهو يشبه الفأر إلى حدٍّ كبير، لكن له أرجلًا طويلةً وأيادِيَ قصيرة، وذيلًا طويلًا في طرفه هدب.
فنقول: إن النفاق أصله من هذا؛ لأن فيه مكرا ومخادعة.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} مثل عبد الله بن أُبي، فإن عبد الله بن أُبي كان من المعارضين للخروج إلى أحد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج بمشورة الصحابة، ولاسيما الذين لم يدركوا بدرًا، فهم الذين أشاروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكدوا عليه المشورة أن يخرج إلى أحد، فخرج الناس مؤمنهم ومنافقُهم، وفي أثناء
الطريق انخذل عبد الله بن أبيّ بنحو ثلث الجند، ولحقهم من لحقهم من المؤمنين، يوبخونهم ويأمرونهم بالرجوع
(1)
.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} يعني: فإما قتال في سبيل الله، أو دفاع عن أوطانكم. فالقتال في سبيل الله قتالٌ يعتبر جهادًا، يثاب عليه المقاتل ثواب المجاهد، وقتال الدفاع بحسب نية المقاتل، فهم قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله جهادًا، أو ادفعوا عن أوطانكم. ولو رجعوا لما قاتلوا إلا دفاعًا، لعدم إيمانهم بما في سبيل الله.
وجملة {وَقِيلَ لَهُمْ} إما أنها معطوفة على (نافقوا)، أو أنها جملة حالية على تقدير (قد)؛ أي: وقد قيل لهم.
وقوله: {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} : (لو) سبق الكلام عليها، وأنها في مثل هذا السياق تكون شرطية.
ومرادهم من هذه المقولة تبرير رجوعهم من الجيش، فهم يقولون: نحن معكم، لكن ما نعلم أنه يكون قتال. وهذه قولة رجل مخذول جبان، والإنسان الشجاع هو الذي يقول: نعم نأتي لنقاتل أو ندفع، ثم إن حصل قتال فنحن مستعدون، وإن لم يحصل رجعنا من حيث جئنا.
وقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (يومئذٍ): أي: في هذا الوقت أو في هذا اليوم الذي انصرفوا فيه، وانخذلوا عن المسلمين، هم للكفر أقرب منهم للإيمان، وإن كان فيهم شيء من الأيمان، ولعل هذا في بعضهم، لكن هم للكفر أقرب.
(1)
تقدم تخريجه (ص 107).
وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يعني: كما أنهم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، ويذكرون الله فيقولون: لا إله إلا الله، ويحضرون بعض الصلوات على أنهم مسلمون، فهم -والعياذ بالله- يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؛ فالذي في قلوبهم الكفر، والذي في أفواههم الإسلام.
قال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} يعني: هو أعلم من غيره بما يكتم هؤلاء، ولهذا أبدى الله ما يكتمونه، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وفي قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} خلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: إن {أَعْلَمُ} بمعنى عالم، عالم بما يكتمون، خوفًا من أن تقع المفاضلة بين علم المخلوق وعلم الخالق؛ لأنك إذا جئت بأفعل التفضيل فإن مقتضى ذلك أن يكون بين المفضل والمفضل عليه اشتراك في الأصل، ولكن المفضل زاد على المفضل عليه، ولهذا تجدهم في مثل هذه الآية {وَاللَّهُ أَعْلَمُ}؛ يفسرون أعلم بعالم؛ أي: والله عالم بما يكتمون. وقوله: {أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} : أي: بما يخفون في نفوسهم من الكفر، وأما ما يظهرون من الإسلام فهو معروف للمسلمين وغير المسلمين. والله عالم بما يكتمون.
ولكن هذا القول ضعيف.
أولًا: لأنهم صرفوا اللفظ عن ظاهره؛ لأن اللفظ باسم التفضيل، والمعنى الذي أثبتوه باسم الفاعل، وبينهما فرق، ولا يجوز أن نصرف القرآن عن ظاهره إلا بدليل.
والثاني: أنهم إذا قالوا عالم، لم يمنع المشاركة على وجه المماثلة؛ لأنه يقال: فلان عالم وفلان عالم، لكن إذا قيل: فلان أعلم من فلان، امتنعت المشاركة على وجه المماثلة لظهور التفضيل. فهم الآن فروا من شيء ووقعوا في شر منه، ففروا من أن يطلقوا أعلم على الله لأنها تقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى، لكن وقعوا في معنى لا يمنع المشاركة على وجه المماثلة، وهذا شر.
إذن نقول: إن أعلم اسم تفضيل على ظاهرها، ولا يستلزم ذلك شيئًا مما ينزه الله عنه، ونحن نعلم أن هناك اشتراكًا في العلم بين الخالق والمخلوق، لكن يمتاز الخالق بما يختص به، والمخلوق بما يختص به، فمثلًا الله يعلم أن هذا عمود من الحديد، والإنسان يعلم، لكن علم الله أشد إحاطة من علم الإنسان وأسبق، وهو علم لا يزول، فعلم الإنسان ليس كإحاطة علم الله، وليس أزليًا، وليس أبديًا، فيختص الخالق بعلمه والمخلوق بعلمه، ولهذا قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
من فوائد الآيتين الكريمتين:
من فوائد قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} :
1 -
تسلية المؤمن بقضاء الله وقدره؛ لقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، لأن المؤمن إذا علم أنه من عند الله رضي وسلَّم.
فإن قال قائل: ما الجمع بين هذا وبين قوله فيما سبق: {أَوَ
لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]؟
قلنا: الجمع بينهما: أنّ إضافتها إلى الأنفس من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ يعني أنتم السبب، وأما إضافتها إلى إذن الله فهي من باب إضافة الشيء إلى فاعله؛ فالذي قضى هذا هو الله، لكن السبب أنتم، وإذا انفكت الجهة زال التعارض، فالجهة في الآية الأولى سبب، والثانية: فعل وتقدير.
2 -
أن الله قد يقدّر على عبده المؤمن ما يكرهه لحكم عظيمة؛ لقوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} وفي الحديث الصحيح أن الله قال: "ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه"
(1)
. فتأمل الآن أن الله عز وجل يفعل ما يكره المؤمن لكن لحكمة، وهو أنه قضى عز وجل بحكمته بالفناء على كل الخلق {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، ويتفرع على هذه الفائدة: أن المقضي المكروه محنة للعبد، فعليه أن يعتبر وأن يصبر، حتى يكون من المؤمنين الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].
1 -
إثبات النفاق في هذه الأمة؛ لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
(1)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502).
نَافَقُوا} أي: بعد إيمانهم، ولم يبرز النفاق إلا بعد غزوة بدر، وغزوة بدر كانت في السنة الثانية في رمضان، وحصل بها للمسلمين من العز ما جعل المنافقين يظهرون نفاقهم؛ لأنهم صاروا يخافون من المؤمنين فصاروا ينافقون، أي: يظهرون أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
2 -
التحذير من النفاق، وفي الآية الأولى: الترغيب في الإيمان، والذي يميز بين هذه وهذه هي قرينة الحال، فإن المنافقين سيأتي من أفعالهم أنهم في غاية الذم.
3 -
أن المنافقين من أكذب الناس؛ لقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ، ويقولون:{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} وهم كاذبون في هذا؛ لأنهم يعلمون أنه سيكون قتال؛ لأن أعداء المسلمين جاءوا من بلادهم، وتركوا أهليهم، وتركوا بلادهم، وتركوا أموالهم، وهم في غاية الحنق على الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي غاية الاستعداد، فهل يعقل أن قومًا جاءوا على هذه الصفة يرجعون دون قتال؟ ! .
فقول المنافقين: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} هم كاذبون فيه، ولهذا قال:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} .
4 -
أن القول عند الإطلاق ما تواطأ عليه القلب واللسان؛ لقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} لأنه لو قال: {يَقُولُونَ} ، لكان القول في الأصل ما تواطأ عليه القلب واللسان، لكن لما كان هذا القول يختلف فيه القلب عن اللسان قيّده بالأفواه، قال:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ، وبهذا التقدير يندفع عنا قولان: القول الأول: أن بعض المفسرين قالوا:
إن قوله بأفواههم من باب التأكيد، فهو كقوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، قالوا: لأن القول لا يكون إلا بالأفواه، ويندفع به أيضًا قول آخر أشد منه، وهو القول بالكلام النفسي، قالوا: إنه لما قيّد هذا القول بالأفواه، دلَّ على أن هناك قولًا نفسيًا، وهو ما كان في القلب، وهذا أخطر من الأول؛ لأن هذا مبني على بدعة الأشاعرة ومن وافقهم في أن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس، وقد أبطل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا القول من تسعين وجهًا في كتاب سماه (التسعينية)، وأشار إليه ابن القيم في النونية.
إذن الفائدة من قوله: {بِأَفْوَاهِهِمْ} أن هذا القول ليس قولًا مطلقا؛ لأن القول المطلق ما تواطأ عليه القلب واللسان.
ويمكن أن نفرع على هذا فائدة مهمة؛ وهي أن من نطق بقول دون أن يكون له قصد في قلبه، فإنه لاغ؛ يعني أن أثر هذا النطق لاغ، كما يشهد لِذلك قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وهذا يفيد في مثل طلاق السكران؛ أنه لا يقع، لأنه باللسان فقط، والموسوس -نسأل الله العافية- يوسوس دائمًا أنه طلق زوجته، ربما حتى في الصلاة يقول هذا، ويعجز عن كبح نفسه، نقول: هذا الرجل لو طلق بلسانه ألف مرة فليس بشيء.
4 -
أن المنافقين يحرصون غاية الحرص على كتم نفاقهم، ولكن الله يعلم بذلك، وقد كشفهم الله بقوله:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)} [النساء: 108].
6 -
أن المنافقين لا خير فيهم، لا في الجهاد في سبيل الله، ولا في الدفاع عن المسلمين، يستفاد ذلك من قوله:{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} .
7 -
أن الإنسان تتغير أحواله، فيكون في حال أقرب إلى الإيمان من الكفر، وفى حال أخرى بالعكس؛ لقوله:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} واستدل بعض العلماء بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه، فما وجه الاستدلال؟ الجواب: أنه كلما قرب الإنسان من الإيمان ازداد إيمانًا، وكلما بعُد سوف ينقص، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، ولكن هل يزيد بالعمل الظاهر أو يزيد حتى بالعمل الباطن؟ الجواب: أنه يزيد بهذا وهذا؛ فالعمل الظاهر كأن يكثر الإنسان من الأعمال الصالحة فيزداد إيمانا، وأما في الباطن فكذلك يزداد إيمان الإنسان في الباطن بحسب ما يكون عنده من البينات، فهذا إبراهيم قال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] والإنسان يدرك بحسِّه أنه إذا أخبره ثقة بخبر ثم أخبره ثقة بنفس الخبر ثم ثقة ثم ثقة يحس بنفسه أنه كلما زاد المخبرون ازداد إيمانًا، وهذا شيء مشاهد ليس فيه إشكال.
8 -
أن الكفر ضد الإيمان؛ لقوله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} ، ولكن هل يجتمع الإيمان والكفر في قلب رجل، نقول: أما الإيمان المطلق والكفر المطلق فلا يمكن أن يجتمعا أبدًا، وأما الإيمان الناقص أو الكفر دون الكفر فيمكن أن يجتمعا على مذهب أهل السنة والجماعة. فإن الإنسان يكون فيه خصال إيمان وخصال كفر، فيُحَب على ما معه من الإيمان، ويُكره على ما معه من الكفر.
9 -
أنه ينبغي للإنسان أن يحترس في الحكم، وألا يطلق الحكم بل يحترس فيه؛ لقوله:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ} ، ربما في المستقبل أيضًا يغير الله حالهم فيكون الإيمان أقرب، فأنت إذا حكمت على شخص فينبغي لك أن تقيّد؛ لأن الإطلاق ربما يأخذ المحكوم عليه هذا الحكم مطلقًا.
* * *
• ثم قال: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)} [آل عمران: 168]:
يقول عز وجل: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} (الذين) هنا بدل من (الذين) السابقة في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} أو صفة، وكونها صفة أولى بل هو المتعين، وذلك لأن البدل يكون هو المقصود من الحكم دون المبدل منه، فإذا قلت: أكرم زيدًا عمرًا، عمرًا بدل من زيد، فالذي يُكرم عمرو. وإذا قلت: كُلِ الرغيفَ ثُلُثَه، يأكل الثلث، فلو أكل النصف لأكل السدس بغير حق، فإذا قال: أنت قلت لي: كُلِ الرغيف، قلت: لكني أبدلت وقلت: ثلثه، فالسدس الذي أكلته زائد فتكون آثمًا، ولصاحب الرغيف أن يطالبك بقيمة السدس، على كل حال البدل هو المقصود بالحكم كما قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:
التابع المقصود بالحكم بلا
…
واسطة هو المسمى بدلا
وعلى هذا فيتعين أن تكون (الذين) الثانية صفة لـ (الذين) الأولى، واسم الموصول يصح أن يكون صفة، لأنه بصلته يكون بمعنى المشتق.
وقوله: {لِإِخْوَانِهِمْ} أي: إخوانهم ظاهرًا، هذا هو الصحيح،
وقال بعضهم: لإخوانهم في النسب، والمعنى الأول أصح؛ لأنهم لا يخاطبون إخوانهم في النسب فقط بل يخاطبون كل من استشهد في غزوة أحد، وليس كل من استشهد أخًا لواحد من المنافقين، فيكون المراد بإخوانهم أي: ظاهرًا؛ لأن المنافقين مع المؤمنين كأنهم مؤمنون، ولهذا لما استئذن النبي في قتلهم، قال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"
(1)
، إذن فهم ظاهرًا إخوان وأصحاب، فلهذا نقول في {لِإِخْوَانِهِمْ} الصواب لإخوانهم ظاهرًا لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
وقوله: {وَقَعَدُوا} أي: قعدوا عن القتال، والله يسمي المتخلفين عن القتال قعودًا، فقال:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] فسمى المتخلفين عن القتال قعدة. وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)} [التوبة: 46].
إذن "وقعدوا" يعني عن القتال، والجملة في قوله:(وقعدوا) في محل نصب على الحال بتقديم "قد" أي: (وقد قعدوا) وهذا أولى من أن نجعل الجملة معطوفة على الصلة، يعني قالوا وقعدوا؛ لأن قولهم حال كونهم قعودًا أشد، فهم جمعوا بين أمرين، بين السوء في القول والسوء في الفعل. حيث قالوا:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} أي: لو أطاعوهم بعدم الخروج؛ لأن المنافقين أشاروا بعدم الخروج ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والصادقين من المؤمنين أبوا إلّا أن يخرجوا، وفي أثناء الطريق انخذل عبد الله بن أُبي ومن
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، رقم (4622). ومسلم في كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، رقم (2584).
معه بثلث العسكر فتخلفوا والعياذ بالله، ولهذا قال:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} وفي قراءة (ما قُتِّلوا) بالتشديد على سبيل المبالغة؛ لأنه حصل في الذين استشهدوا، حصل فيهم تمثيل مثل حمزة رضي الله عنه، فإنه مثِّل به، حتى إن هندًا بنت عتبة أخذت كبدَهُ ومضغتها، ولكنها لم تستطع أن تهضمها، فلم تبلعها.
فنقول: (قُتِّلوا) بناءً على أن هذا التقتيل مبالغ فيه لما فيه من المثلة، أما (قُتِلوا) بالتخفيف فأمرها ظاهر.
قال الله تعالى: {قُلْ} يعني يا محمد لهؤلاء: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
{فَادْرَءُوا} بمعنى: ادفعوا، يعني لما تخلفتم هل أنتم نجوتم من الموت؟ . الجواب: لا.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا من باب التحدي، يعني إن كنتم صادقين في أن من تخلف لا يموت فادفعوا عن أنفسكم الفوت، والجواب أنهم لا يستطيعون ذلك. وفي ختم هذا التحدي {فَادْرَءُوا} بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تأكيد لكذبهم في قوبهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} يعني هم لو تخلَّفوا فالموت سيأتيهم، والله أعلم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
التنديد بهؤلاء الذين جمعوا بين قبح الفعل وقبح القول، يؤخذ من قوله:(قالوا)، (وقعدوا) قبح الفعل من كونهم قعدوا، والقول من قولهم:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .
2 -
أن هؤلاء مع قبح قولهم وإدخال الندم على قومهم اعترضوا على القَدَر؛ لقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .
3 -
الإشارة إلى أن مثل هذا القول عند حلول القدر لا يجوز؛ لأنه سيق في سياق الذم، وهو كذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا"
(1)
، أما لو قاله الإنسان خبرًا لا اعتراضًا على القدر ولا ندمًا على ما وقع؛ فإن هذا لا بأس به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا"
(2)
، وليس هذا من باب التمني مثل ما ذهب إليه بعض العلماء، وأن (لو) هناك استخدمت في تمني الخير، بل نقول: هي خبر، وهذا يقع كثيرًا. وقد تقول للشخص: لو زرتني بالأمس لأكرمتك وما أشبه ذلك، تريد بذلك الخبر، وعلى هذا فنقول: إن استعمال (لو) يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يكون اعتراضًا على المقدر، فهذا لا يجوز، وهو منازعة للرب عز وجل في قضائه وقدره.
الوجه الثاني: أن يكون مثارًا للندم والتحسر، فهذا لا يجوز أيضًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فقال:"إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا".
والوجه الثالث: أن يكون خبرًا عن الواقع، فهذا لا بأس به؛ لأنه لا يحمل الإنسان على الندم، وليس فيه منازعة لقدر الله عز وجل، وهو يقع كثيرًا في كلام الناس.
(1)
تقدم تخريجه في حديث: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله"، (ص 353).
(2)
رواه البخاري، كتاب التمني، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت. . ."، رقم (7229). ورواه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج، رقم (1226).
4 -
تحدي هؤلاء الذين قالوا هذا الكلام بدفع الموت عنهم؛ لقوله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} .
5 -
أنه لا يمكن درء الموت؛ لأن ما وقع التحدي به فإنه لا يمكن وقوعه، إذ لو أمكن وقوعه لم يكن للتحدي به فائدة، ومن هنا نعرف أن قول الله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] لا يصح تنزيله على وصول الناس الآن إلى أعماق الفضاء وإلى الكواكب كما زعم بعضهم عندما وصل الناس إلى القمر وحلوا به قالوا: إن هذا دَلَّ عليه القرآن؛ لِأَنَّ الله قال: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} ، والسلطان هو العلم، فهؤلاء أوتوا علمًا حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فالقرآن شاهد لذلك، ولكن هذا في الحقيقة تحريف للقرآن، فالقرآن في الآيات هذه إنما هو للتحدي بدليل أن الله تعالى قال:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} [الرحمن: 33] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]. وهذا كله يدل على أن المراد بذلك التحدي، ويكون يوم القيامة وليس هو في الدنيا، ولهذا نقول: هؤلاء لو نفذوا من أقطار الأرض لم ينفذوا من أقطار السموات، والآية فيها تحد في هذا وهذا، المهم أنه لا ينبغي أن نخضع نصوص القرآن من أجل أن نقول إنها دالة على ما حدث أو ما يحدث، بل نقول: ما حدث أو يحدث إذا قامت البراهين على صدقه فإنه لا يحتاج إلى أن نقحمه في دلالة القرآن، نقول: هذا شيء وقع،
وهذا شيء شهد به كل الناس فهو صحيح، ولو كنا نقحم كل ما حدث من العلوم في الوقت الحاضر في القرآن، لكنا نحمل القرآن ما لا يحتمل، وليعلم أن تفسير القرآن تعبير عن مراد الله، فمن فسَّره في غير ما يظهر من مراده فهو كاذب على الله مفتر عليه، وليس الكذب على الله كالكذب على الناس، فليحذر من هذه المسألة.
6 -
تكليف النبي صلى الله عليه وسلم تكليفًا خاصًا بإبلاغ شيء من القرآن أو مجادلة أحد من الناس؛ لقوله: {قُلْ فَادْرَءُوا} يعني: أنت جادلهم وقل: فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.
7 -
معاملة الناس بما يظهر من حالهم؛ لقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} فإنه سبق لنا أن قلنا: إن الصواب في الأخوة هنا أخوة الظاهر لا أخوة النسب؛ لأنه ليس كل من قتل في أحد يكون له قرابة لهؤلاء المنافقين.
* * *
قوله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} فيها قراءتان: (قتَّلوا) و (قُتِلوا) وكذلك (تحسَب) و (تحسِب) وكلاهما سبعيتان.
وقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} الخطاب هنا إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل
من يصح توجيه الخطاب إليه، فإن كان لكل من يصح توجيه الخطاب إليه دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم دخل فيه غيره بالتبعٍ، فيكون المقصود قصدًا أوليًا بهذا الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره تبعا له، أما إذا قلنا: إن الخطاب موجه لكل من يصح توجيه الخطاب إليه فهو عام، يعني:(فلا تحسبن أيها المخاطب) هذا على الثاني أو (لا تحسبن أيها النبي)، هذا على الأول (والحسبان) هنا بمعنى الظن أي: لا تظن أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.
وقوله: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يشمل من قتله العدو ومن قُتِل حِرْفةً للعدو، كما لو ارتد السهم على حامله فقتله، فإنه يكون مقتولا في سبيل الله.
وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بيَّنها الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن المراد بذلك من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وذلك حين سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويُقاتل حمية، ويقاتل رياءً، وفي لفظ:"يُقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ ".
فقال صلى الله عليه وسلم كلمةً جامعة مانعة: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
.
إذن ما المراد بالذين (قُتلوا) في سبيل الله؟ .
الجواب: هم الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، لا شجاعة ولا حمية ولا رياء.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، رقم (2810). ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، رقم (190).
والشجاعة معناها: الإنسان تحمله شجاعته على أن يُقاتل؛ لأن الشجاع يُحب القتال، وكذا من قاتل حمية وطنية أو قومية فليس في سبيل الله، ومن قاتل لأجل الدفاع عن الديار فقط، فقتاله مساوٍ لقتال الكافر، حتى الكفار يُقاتلون دفاعًا عن بلادهم، لكن من قاتل دفاعًا عن بلده من أجل أنه بلدٌ إسلامي، ليحمي الإسلام في هذا القتال فهو في سبيل الله، ولذلك يجب إذا وجَّهنا جندنا للدفاع عن الوطن أن نقول: لاحظوا أنكم تُدافعون عن وطنكم باعتباره وطنًا إسلاميًا لا لمجرد الوطنية.
الثالث: من قاتل رياءً ليُرى أنه رجل يُقاتل في سبيل الله، هذا ليس في سبيل الله، وكذا من قاتل لمجرد طاعة أمير فقط، فليس في سبيل الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم سُئل عن ثلاثة ولم يُجب عن كل واحدة بعينها، بل أجاب بكلمة جامعة مانعة، لأجل أن تشمل حتى النيات الأخرى سوى هذه الثلاث:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
.
وهؤلاء الذين قُتلوا في سبيل الله هل هم أهل بدر، أو أهل أحد، أو هو عام؟ .
الجواب: أنه عام، لكن أول من يدخل فيه الشهداء في بدرٍ وفي أحد.
وقوله: {سَبِيلِ اللَّهِ} أي: طريقه، وقد يطلق ويُضاف أحيانًا إلى المؤمن، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
(1)
تقدم تخريجه (ص 434).
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115].
فهو يُضاف إلى الله باعتبارين: باعتبار أنه واضعه، فالله تعالى هو الذي شرع هذا الطريق، وباعتبار أنه موصِلٌ إليه، أي: أن هذا الطريق موصل إلى الله تعالى. ويُضاف إلى المؤمنين باعتبار واحد وهو أنهم هم الذين سلكوه.
هنا المضاف إلى الله باعتبار أن الله تعالى هو الذي شرع هذا الدين، وأن هذا الدين موصل إليه.
{أَمْوَاتًا} هذا مفعول ثانٍ لـ (تحسب)؛ لأن (حسب) تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، بخلاف (كسا - وأعطى) فإنهما تنصبان مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
يقول: {أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} :
والمعروف أنه إذا قُتل مات، فكيف يقال: إنهم أحياء؟ المراد أي: لا تحسبن أنهم إذا ماتوا انتهوا، بل هم إذا ماتوا انتقلوا إلى حياة أخرى أفضل مما فارقوه، فيكون المعنى لا تحسبهم ماتوا وانتهوا، ليس الأمر كذلك بل هم أحياء ماتوا مِيتة الدنيا، لكنهم هم أحياء حياة أخرى تتميز عن الحياة الدنيا، وهي خير وأفضل.
وقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} :
(عند): تُفيد القرب من الله عز وجل وهو كذلك، فإن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديل معلَّقة تحت العرش، فهذه عندية خاصة يمتاز فيها بالقرب من الله تعالى، فقوله:{بَلْ أَحْيَاءٌ} المراد بذلك حياة أرواحهم، أما أبدانهم فقد ماتت بلا شك لكن أرواحهم حية حياة برزخية، ولهذا قال:{عِنْدَ رَبِّهِمْ} وليست
الحياة المطلقة التي هي كالحياة الدنيا؛ لأنها لو كانت الحياة الدنيا لم يصيروا قُتِلوا في سبيل الله بل كانوا باقين، ولما صحَّ أن يُدفنوا، وهم فارقوا الدنيا ودُفِنوا، ولكنهم أحياء عند الله عز وجل حياة لا تُشبه حياة الدنيا.
وقوله: {يُرْزَقُونَ} أي: يُعطون؛ لأن الرزق في اللغة العطاء، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ} [النساء: 8] أي: أعطوهم، يعني يعطون من رزق الله في الجنة حيث شاءوا، ولكن هذا العطاء عطاء ناقص بالنسبة للعطاء الأكمل الذي يكون بعد البعث؛ لأن العطاء قبل القيامة عطاء للبدن وعطاء للروح، وكلاهما ناقص بالنسبة لما بعده. فهو عطاء للبدن؛ لأنه في القبر يُفسح له مد البصر، ويُفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من رَوحها ونعيمها لكنه لا يتمتَّع التمتُّع الكامل، كذلك الأرواح لا تتمتَّع التمتع الكامل في وجودها في الجنة، إنما يكون التمتُّع الكامل بعد البعث حين تلتقي الأرواح بالأجساد اللقاء الذي لا مفارقة بعده؛ لأنه إذا التقت الأرواح في البعث فلا مفارقة، تبقى أبد الآبدين، وحينئذٍ يحصل كمال النعيم.
ثم قال: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} :
الفرح ضد الحزن، وهو قريب من معنى السرور، والمعنى أنهم مسرورون بما آتاهم الله من فضله.
وقوله: {فَرِحِينَ} منصوبة على الحال. ولكن هل هي حال من الضمير المستتر في (أحياء){بَلْ أَحْيَاءٌ} أي حال كونهم فرحين، أو حال من الظرف {عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: من متعلق
الظرف، أو حال من نائب الفاعل في {يُرْزَقُونَ} ؟ كل هذا جائز، والمعنى لا يختلف فيه اختلافًا كثيرًا.
وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} : أي: بالذي أعطاهم من فضله ولم يُبيِّنه سبحانه وتعالى، بل أتى به مجملًا؛ لأنه ذكر مفصلًا في آياتٍ أخرى بعد دخول الجنة يوم القيامة.
و{آتَاهُمُ} : بمعنى أعطاهم، وأما (أتاهم) فبمعنى جاءهم.
وقوله: {مِنْ فَضْلِهِ} :
(الفضل) في اللغة الزيادة، والمراد بالفضل هنا ما تفضَّل الله به عليهم من النعيم الذي لم يكن يخطر على بالهم.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} :
الواو هنا حرف عطف، وهل هي معطوفة على (فرحين) من باب عطف الفعل على الاسم، أو معطوفة على {يُرْزَقُونَ} ؟ .
نقول: يحتمل هذا وهذا، ولا يختلف المعنى كثيرًا.
قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ} هو أي: يبشر بعضهم بعضًا بما سيُذكر، فمعنى (استبشر): أي بشَّر غيره، أو دخلت عليه البشرى بفعل غيره.
وقوله: {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} :
يعني بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ولم يُقْتَلوا حتى الآن في سبيل الله. {أَلَّا خَوْفٌ} (أن) المصدرية أدغمت بـ (لا)، والقاعدة الأخيرة في الكتابة أن تكتب (أن) فتكون (أن لا) لكن القاعدة القديمة أن لا تكتب، وهنا لم تكتب {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ، وأصل الكلمة: أن لا خوف، وأن هنا بدل من قوله:{بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} وكأنه قال: (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم بأن لا خوف عليهم)، ونوع البدل هنا بدل اشتمال؛ لأن
الخوف ليس بعض الإنسان وإنما يشتمل عليه الإنسان، يعني (يستبشرون بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي: لا خوف عليهم فيما يستقبل من أمرهم، ولا هم يحزنون على ما قضى من أمرهم؛ لأن الأصل أن الخوف للمستقبل والحزن للماضي.
وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} :
الجملة استئنافية تُبين استبشارًا آخر سببه غير السبب الأول، الأول سببه أنهم ينتظرون إخوانًا لهم لم يلحقوا بهم، والسبب الثاني للاستبشار ما أنعم الله عليهم من النعمة والفضل.
وهنا قال: {يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقبلُ بقليل قال:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ} ولا منافاة بينهما، فهم فرحون بما حصل، ويستبشرون بالذي سيحصل، فهم فرحون بما آتاهم الله مغتبطون به مسرورون به، ومع ذلك يستبشرون بفضل زائد، ولهذا قال:{بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} ، ومن ذلك أنهم يُؤمِّلون النظر إلى وجه الله، وأنهم بُشّروا بالخلود الذي لا موت بعده، ويستبشرون أيضًا بما وعدهم الله تعالى في الدنيا وما زالوا يذكرونه؛ لأن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} :
فيها قراءتان: (وإِنَّ الله) بالكسر، (وأَنَّ الله) بالفتح، فعلى قراءة الفتح تكون معطوفة على نعمة، أي: وبـ (أن الله)، وعلى قراءة الكسر تكون استئنافية من كلام الله عز وجل، لا من كلامهم، أي: يستبشرون بنعمة من الله وفضل. والله قد جازاهم على عملهم وبـ {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: لا يتركه هملًا وسدًى بل لابد أن يُثيبهم عليه.
من فوائد الآيات الكريمة:
1 -
فضيلة من قُتل في سبيل الله لكونهم أحياء عند الله عز وجل.
2 -
الترغيب في الجهاد ليحصل الإنسان على الشهادة، ولكن هنا مسألة: هل يُشرع للإنسان أن يُجاهد ليُقتل في سبيل الله، أو الذي يُجاهد لتكون كلمة الله هي العليا؛ الجواب: الثاني، ولهذا ينبغي للإنسان إذا ذهب للجهاد في سبيل الله أن ينوي القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمجرد أن يُقتل في سبيل الله؛ لأن كونه (في سبيل) مفرَّعٌ على كونه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، حتى إن بعض العلماء يقول: إذا قاتل من أجل أن يُقتل فقط، فهذا قاتل ليموت، ولكن القتال الحقيقي هو أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإذا قتل فهو في سبيل الله، وبعض العلماء يقول: لا بأس أن ينوي بالجهاد أن يُقتل في سبيل الله؛ لأنه لن يتم له أن يُقتل في سبيل الله إلا إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولكن حتى لو قيل بهذا فإن النية الأولى والرتبة الأولى (هي العليا) أن يخرج ليقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ثم يتمنى الشهادة بناءً على هذا.
3 -
أنه يصح نفي الشيء باعتبار، لا نفيًا مطلقًا؛ لقوله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} فإن نفي كونهم أمواتًا هنا يُراد به الموت الذي حصل فيه العدم بلا فائدة، وبدون ثواب.
4 -
فضيلة الشهداء لكونهم عند الله؛ لقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
أما الحديث الذي في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه"
(1)
.
فإن بعض العلماء يرى أن المراد بالمؤمن هنا المؤمن المجاهد الذي قُتل في سبيل الله، ويرى آخرون أنه عام، وهو الصحيح، وأن الفرق هو أن نسمة المؤمن في الجنة طائر يعلق فيها، يعني يأكل منها، أما أرواح الشهداء في حواصل أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل معلَّقة، فهي كما أنها تمزّق بدنها في الدنيا أبدلها الله بأبدان أخرى، وهي هذه الطيور الخضر، فتمتاز أرواح الشهداء عن بقية المؤمنين بهذا، وهذا هو الأقرب، أن أرواح المؤمنين في الجنة، ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: قد تُحبس بعض الأرواح بسبب، مثل الدَين قد يمنع صاحبه من دخول النسمة الجنة، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة هل تُكفِّر الذنوب قال:"تكفّر كل شيء". ثم جاءه جبريل فقال: إلا الدَّين، فقال:"إلا الدَّين"
(2)
.
وهذا يدل على أنه قد يُحبس ثواب المجاهد عنه إذا كان عليه دَين، فقد يكون هناك عوائق لكن الأصل أن أرواح المؤمنين في الجنة.
5 -
إبطال حجة من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره يُرزق، وقال: إن مقام النبوة أعلى من مقام الشهادة، ولا شك في
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (15365).
(2)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفّرت خطاياه إلا الدَّين، رقم (1885).
هذا أن مقام النبوة أعلى من مقام الشهادة، لكن قولهم: أنه حيٌّ في قبره يُرزق، إن أرادوا أنها حياة برزخية فهذه حقيقة، وإن أرادوا أنها حياة دنيويَّة فهذا كذب ولا شك، لأنها لو كانت حياة دنيوية، ما غُسِّل ولا كُفِّن، ولا صُلِّي عليه، ولا دُفن، ولكان الصحابة رضي الله عنهم وَأدوا النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنوه حيًّا، ولا يَردُ على هذا أنها تُرَدُّ عليه روحه، فيرد السلام على من سلَّم عليه
(1)
، لأن ردّ الروح في البدن في القبر ليس كردّها في الحياة الدنيا، بل هو رد خاص، ولذلك لا يحتاج الميت في قبره إلى طعام وشراب وهواء، وإن رُدت إليه روحه.
6 -
أن الشهداء يُرزقون وهم أموات؛ لقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ولكن هذا الرزق هل يحتاج إلى ما يحتاجه الناس في الدنيا؟ الجواب: لا، لأن هذا رزق أخروي، والرزق الأخروي لا يحتاج إلى ذلك، بل إن أهل الجنة باقون فيها أبد الآبدين، ولا يحتاجون إلى هذا، وإنما يخرج الطعام والشراب بصفة عرق، ولكنه ليس كعرق الدنيا أيضًا، عرق منتن كريه الرائحة، بل هو أطيب من رائحة المسك. اللهم اجعلنا منهم. هذا معنى قوله:{عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} .
7 -
أن الذين قُتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتًا بل أحياء، ووجه الدلالة قوله:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} ، ولكن هذه الحياة ليست كالحياة الدنيا بل هي حياة برزخية.
8 -
أنه إذا ثبت هذا للشهداء فإنه يثبت للأنبياء من باب أولى، فالأنبياء أحياء، ويمتاز الأنبياء عن الشهداء، بأن الله حرم
(1)
رواه أبو داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، رقم (2041).
على الأرض أن تأكل أجسادهم بخلاف الشهداء، فإن الأرض تأكلهم، وقد لا تأكل بعضهم إكرامًا لهم، وإلا في الأصل أنهم كغيرهم تأكلهم الأرض.
9 -
إثبات العندية لله عز وجل أي: أن يكون أحد من الخلق عند الله؛ لقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وهذه عندية خاصة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206].
10 -
أن هؤلاء الشهداء لهم شعور؛ لقوله: {فَرِحِينَ} ، لأن الفرح من الشعور النفسي، وهل يحزنون؟ ذُكر في بعض الآثار أن الميت تُعرض عليه أعمال أقاربه، فإذا كانت سيئة حزن، وإن كانت حسنة فرح، لكنها آثار يشك في صحتها.
11 -
قوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أن هذا الثواب الذي يناله هؤلاء الشهداء، ثواب عظيم، وجه الدلالة أنه من عند إلهٍ عظيم ذي إفضال، والثواب يعظم بعِظم المُثِيب، لاسيما وقد قال:{مِنْ فَضْلِهِ} .
12 -
أن الفضل لله على عباده في الدنيا والآخرة؛ لقوله: {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فكما أن لله فضلًا في الدنيا فله فضل في الآخرة، فمن أمثلة فضله في الدنيا قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59] فهذا فضلٌ دنيوي.
13 -
أن هؤلاء الشهداء يستبشرون، أي: يُبشِّر بعضهم بعضًا بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أي: من بعدهم، يعني: يستبشرون بأن سيلحقهم أناسٌ شهداء يكونون في منازلهم.
14 -
أن هؤلاء الشهداء ليس عليهم خوفٌ ولا حزن، لا خوف يتعلق بالمستقبل، ولا حزن يتعلق بالماضي؛ أما كونهم لا خوف عليهم في المستقبل، فلأنهم قد أحلّهم الله الجنات، والجنة من يدخلها ينعم فلا يبأس، ويصح فلا يسقم، ويحيى فلا يموت، وفيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وأهل الجنة في الآخرة هم أهل الجنة في الدنيا، ولهذا لا تجد أحدًا أنعم بالًا وأسرّ حالًا من المؤمن، إن أُعطي شكر، وإن ابتُلي صبر، وإن أذنب استغفر، ودائمًا مع الله عز وجل في حكمه الكوني، وفي حكمه الشرعي، راضٍ بقضاء الله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن"
(1)
. وقد ذكر بعض العلماء أن قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان: 56] ذكروا أنه قال: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] مع أن الموتة الأولى قد انتهت؛ لأن نعيم أهل الجنة مستمر من الحياة الدنيا إلى دخول الجنة. وأما كونهم لا يحزنون على ما مضى -أعني الشهداء- فلأنهم استكملوا عملًا من أفضل الأعمال، وهو الجهاد في سبيل الله، الذي أدى بهم إلى الشهادة، فلا يحزنون على الماضي، فمن خرج من الدنيا شهيدًا فقد خرج أكمل خروج وهو في الطبقة الثانية من طبقات الذين أنعم الله عليهم.
(1)
رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم (2999).
15 -
استبشار الشهداء مرة ثانية بما أنعم الله عليهم من الفضل؛ لأن الاستبشار الأول فيما يكون لإخوانهم، والثاني فيما أنعم الله به عليهم، فهم لهم استبشارات متعدِّدة، حسب ما يجدون من النعيم.
16 -
إسناد النعمة إلى مسديها، وهو الله جل جلاله، فهم لا يرون لأنفسهم فضلًا بل يرون المنَّة والفضلى لله عليهم، ولهذا قال:{بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} .
17 -
عظم النعمة التي يُعطونها، ووجهه أن الله أضافها إليه، وإضافة العطاء إلى الله يدل على عظمته.
18 -
أن كل مؤمن فلن يُضيع الله أجره؛ لقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} أو على القراءة الثانية: (وإِنَّ)، فالله عز وجل لا يُضيِّع أجر المؤمنين، كل إنسان يعمل وهو مؤمن فإن أجره لن يضيع.
19 -
إثبات عدل الله عز وجل، وذلك بعدم إضاعته أجر المؤمنين، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
20 -
فضيلة الإيمان، وأنه سبب للحصول على الثواب والأجر.
* * *
• ثم قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 172 - 173].
{الَّذِينَ} : يحتمل أن تكون بدلًا مما سبق، أو نعتًا،
ويحتمل أن تكون مبتدأ، فعلى الثاني يكون خبرها جملة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
يقول تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} :
{اسْتَجَابُوا} بمعنى أجابوا وانقادوا لله والرسول حينما دعاهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغزوة مرة أخرى بعد أحد، لما قيل: إن المشركين أرادوا الكرَّة على المسلمين لما علموا بالجراح التي أصابت المسلمين والوهن والضعف، وقفوا في حمراء الأسد، وقالوا: لماذا لا نرجع ونقضي على محمد وأصحابه؟ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعدوا للقتال فاستجابوا لله والرسول مع ما أصابهم من الجراح والتعب النفسي والتعب البدني، فقد جُرح النبي صلى الله عليه وسلم وكُسرت رباعيته، وحصل ما حصل من الأمور التي قد لا نشعر بها الآن ونحن نصورها بأفكارنا، لكن لو كنا نشاهدها عين اليقين لكان الأمر فظيعًا جدًا، فهؤلاء الذين أصابهم القَرْح، وفي قراءة (القُرْح) هم الذين استجابوا لله وللرسول {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} بالاتباع (واتقوا) بترك المخالفة، فلهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي كثير واسع.
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} :
هذه أيضًا بدل مما سبق، أو عطف بيان، أو صفة، وهي الأقرب، وذلك لأن البدل لا يراد به البدل والمبدل منه، وإنما يراد به البدل الثاني، بخلاف النعت فإنه يراد به المنعوت والنعت، ولهذا نقول هنا: إن البدل ضعيف؛ لأنه لو كان المراد
البدل لسقط الوصف السابق كما قال ابن مالك في الألفية:
التابع المقصود بالحكم بلا
…
واسطةٍ هو المسمى بدَلا
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} :
القائل: رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن أبا سفيان قد جمع لك يريد الكرَّة عليك.
{فَاخْشَوْهُمْ} أي: احذروهم، اتقوهم، وما أشبه ذلك.
{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} :
وذلك أن المؤمن عند المصائب يزداد إيمانًا، ومن أمثلة ذلك أنه لما أحاط الأحزاب بالمدينة قال المؤمنون:{هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] فازدادوا إيمانًا، هنا أيضًا لمَّا قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} بالله واعتمادًا عليه وتوكُّلًا عليه.
{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} :
{حَسْبُنَا} : يعني كافينا الله جل جلاله، وهذه الجملة {حَسْبُنَا اللَّهُ} فيها مبتدأ وخبر، لكن الخبر فيها مقدم، والتقدير (الله حسبنا)، ويجوز أن يكون (حسبنا) مبتدأ، و (الله) خبر، لكن المعروف أن المحكوم عليه هو المبتدأ، والمحكوم به هو الخبر، وعلى هذا فيكون (حسبنا) خبر مقدم، و (الله) مبتدأ مؤخر.
{حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا، ولو جمع لنا الناس فإننا لا نخشاهم إنما نخشى الله عز وجل.
{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (نعم): فعل إنشاء يقصد به المدح، وفاعله لابد أن يكون مُحلَّى بـ (ال) أو مضاف إلى محلى بـ (ال) مثل {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، فهذه مضافة إلى محلى
بـ (ال)، وهنا (نعم الوكيل)، الفاعل فيها محلَّى بـ (ال)، وهي تحتاج إلى فاعل وإلى مخصوص، والغالب أن المخصوص يكون محذوفًا، والتقدير في هذه الآية:(ونعم الوكيل هو).
و{الْوَكِيلُ} ليس المراد به المتوكل عن غيره، ولكن المراد المدافع عن غيره؛ لأن الله عز وجل لا يتوكل عن أحد، بل بيده الأمر كله، فيكون المراد بالوكيل هنا (المدافع).
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
بيان فضيلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم بما معهم من الأعمال نالوا خيرية هذه الأمة؛ لأنهم استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، وقد بيَّنَّا في التفسير أن أهل مكة المشركين لما انصرفوا من أحد ندموا على ما حصل، وقالوا: لماذا لا نرجع ونقضي على محمد، ونسبي ذراريهم، ثم تركوا ذلك وعدلوا عنه إلى العام القادم.
2 -
أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لله؛ لقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ومعلوم أنه لم ينزل الوحي بأمرهم بالخروج إلى المشركين، إنما الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن المصائب محك لمعرفة الرجال، وذلك أن هذه المصيبة التي حصلت في أحد كانت محكًا للصحابة رضي الله عنهم، لولا فضلهم وميزتهم عن الخلق ما خرجوا بعد أن أصابهم القرح.
4 -
أن هذا الذي عملوه من الإحسان؛ لقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ولم يقل: (لهم أجر عظيم) بل قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} ويحتمل أن يكون هذا القيد قيدًا تخصيصيًا، يعني
الذين استجابوا لله والرسول منهم من أحسن واتقى، ومنهم من حصل منه بعض الخلاف، مثل الرماة الذين جعلهم النبي عليه الصلاة والسلام على الجبل فإنهم عفا الله عنهم لم يحصل منهم إحسان كما ينبغي ولا تقوى كما ينبغي.
5 -
فضيلة الإحسان والتقوى؛ لقوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقد بيَّن الله تعالى شيئًا من أجر الإحسان والتقوى وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
6 -
أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنه لا شك أن التقوى والإحسان من أعظم عمل العبد فكان ثوابها عظيمًا.
7 -
بيان أن المؤمن كلما ضاقت عليه المصائب فإنه يلجأ إلى ربه ويزداد إيمانًا به؛ لقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فالمؤمن كلما أصابته النكبات والمصائب ازداد إيمانًا بالله ومعرفة به.
8 -
جواز إرادة الخصوص بلفظ العموم، وأن هذا أسلوب لغوي لا يخرج به الإنسان عن قواعد اللغة العربية؛ لقوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} والقائل واحد. {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} والجامع لهم بعضٌ من الناس.
9 -
أن المؤمن حقًا لا يهمه أن يجمع له أعداء الله؛ لقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} .
10 -
أن الحسب هو الله وحده ولا أحد معه؛ لقوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، بل قالوا: حسبنا الله وحده، فالله وحده هو الحسب كما أنه وحده المتوكل عليه، وبهذا نعرف أن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أن (مَنْ) في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوفة على الكاف في قوله "حسبك" وليست معطوفة على لفظ الجلالة {حَسْبُكَ اللَّهُ} ، لأنها لو عطفت على لفظ الجلالة لكان المعنى أن الله حسبك ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، وليس الأمر كذلك وإنما حسبه وحسب من اتبعه هو الله عز وجل.
11 -
الثناء على الله عز وجل لكونه وكيلًا لعباده أي حسيبًا لهم وعمدة لهم؛ لقوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .
12 -
إثبات اسم {الْوَكِيلُ} لله لأن تقدير الآية: ونعم الوكيل هو، وقد ذكر الله تعالى في آية أخرى أنه على كل شيء وكيل، (فالوكيل) من أسماء الله تعالى، ومعناه المتكفل بشؤون عباده، وليس معناه القائم بالأمر نيابة عنهم.
* * *
• ثم قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
قوله: {فَانْقَلَبُوا} أي: انقلب هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول وخرجوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لقتال هؤلاء الكفار الذين بلغهم عنهم أنهم مجمعون على الكرة على المسلمين {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ .. } فإنه لما خرجوا بلغوا ما بلغوا من الطريق؛ بلغوا حمراء
الأسد وجدوا المشركين قد ذهبوا، صرفهم الله وقالوا: نرجع في العام القادم.
يقول الله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} :
انقلبوا يعني عائدين إلى المدينة بعد أن وصلوا إلى حمراء الأسد.
{بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} ما هي هذه النعمة؛ النعمة أنهم سلموا من ملاقاة العدو ولم يحصل حرب؛ لأن العدو مضى في سبيله ولم يرجع.
وأما قوله: {وَفَضْلٍ} ففسرت بأن المراد به فضل الجهاد، وأن الله كتب لهم بهذا الخروج أجر غزوة كاملة، فسلموا من الحرب ونالوا ثواب المجاهدين.
وقوله: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: لم يصبهم ما يسوؤهم لا من جهة عدوهم ولا من جهة أحوالهم، بل كانوا على أحسن ما يرام ذهابًا ورجوعًا.
وقوله: {رِضْوَانَ اللَّهِ} فيها قراءتان: (رُضوان)(رِضوان) بضم الراء وكسرها، ومعنى (اتبعوا رضوان الله) أي: اتبعوا ما يرضي الله عز وجل وذلك بالاستجابة لله ورسوله، فإن الاستجابة لله ورسوله سبب رضاء الله عز وجل، أسأل الله أن يجعلنا ممن يرضى الله عنهم.
{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} :
{ذُو فَضْلٍ} : بمعنى صاحب فضل عظيم على العباد في الدنيا والآخرة، ومنه أن تفضل على هؤلاء بأن انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
فضيلة هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول لما أصابهم من الثواب.
2 -
ومنها أن الإنسان إذا عمل العمل وسعى فيه ولم يكمله كتب له أجر كامل، ولهذا شواهد منها قوله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"
(1)
، فالإنسان إذا سعى في العمل ولكنه لم يدركه فإنه يكتب له أجره كاملًا، حتى طالب العلم لو مات قبل أن يدرك ما يريد من العلم فإنه يكتب له ما نوى؛ لأنه شرع فيه وعمل ما يقدر عليه فينال الأجر.
3 -
إثبات الرضا لله؛ لقوله: {رِضْوَانِ اللَّهِ} والرضا: صفة من صفات الله الحقيقية، وهي من الصفات الفعلية لماذا؟ لأن القاعدة عند السلف أن كل ما يتعلق بمشيئة الله من الصفات فهو صفة فعلية، والرضا يتعلق بمشيئة الله، كل صفة متعلقة بسبب فإنها بلا شك تتعلق بالمشيئة، فرضوان الله معلق بفعل ما يرضيه، وعلى هذا فتكون هذه الصفة متعلقة بمشيئته.
أما أهل التعطيل فإنهم يفسرون رضا الله بالثواب؛ لأن الثواب شيء منفصل بائن عن الله، وليس من صفاته مخلوق مفعول، أو يفسرونه بإرادة الثواب؛ لأنهم يثبتون الإرادة، أما الرضا نفسه فإنهم لا يثبتونه، ولا شك أن هذا التفسير للرضا بإرادة الثواب
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، رقم (2996).
أو بالثواب نفسه أنه تحريف للكلم عن مواضعه، ويا سبحان الله كيف يثبت الله لنفسه أنه رضي ونحن نقول:(لا) بل رضي يعني أثاب أو رضي يعني أراد أن يثيب، أنحن أعلم بالله من نفسه؟ ! .
إذن نحن نثبت الرضا لله حقيقة، وأنه صفة من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته، ولكن هل رضاه كرضانا؟ الجواب:(لا) لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فكما أن سمعا، وبصره وحياته وعلمه وقدرته لا تماثلها صفات المخلوقين، فكذلك هو لا يماثل المخلوقين، وكذلك الرضا والفرح والعجب وغيره.
4 -
إثبات اتصاف الله عز وجل بالفضل العظيم في كميته، العظيم في كيفيته، أما في كميته فإن الله تعالى يقول:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وجعل جزاء الحسنة عشرًا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وأما في كيفيته فقد قال الله عز وجل:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]:
{إِنَّمَا} أداة حصر، والحصر عند العلماء إثبات الحكم للمحصور فيه، ونفيه عما سواه، إذن فهو بمنزلة نفي وإثبات، وله طرق: منها {إِنَّمَا} ، ومنها تقديم ما حقُّه التأخير، ومنها النفي والإثبات مثل (لا قائم إلا زيد)، ومنها إذا كانت الجملة اسمية معرّفًا طرفاها، وهذا معروف في كتب البلاغة.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} :
يعني ما الشيطان إلا مخوف لأوليائه، وقوله:{ذَلِكُمُ} تضمّن إشارة أي مشارًا إليه ومخاطبًا، فالإشارة (ذا) والمخاطب (الكاف). الإشارة بحسب المشار إليه، والكاف بحسب المخاطَب، فإذا كنت مشيرًا إلى جماعة من الذكور أو مخاطبًا جماعة من الذكور قلت:(أولئكم)، لأن المشار إليه جماعة، والمخاطب جماعة فتأتي بالميم، وإذا كنت مشيرًا إلى جماعة من الذكور مخاطبًا جماعة من الإناث قلت:(أولئكن) أولاء لأن المشار إليه جماعة ذكور، (كُنّ) النون للنسوة، أولئكن، وإذا كنت مشيرًا إلى اثنين مخاطبًا اثنتين، قلت:(ذانكما)(ذان) للمثنى و (كما) للمثنى، وإذا كنت مشيرًا إلى جماعة نسوة مخاطبًا جماعة نسوة قلت:(أولائكن)، وإذا كنت مشيرًا إلى مثنى مؤنث مخاطبًا جماعة ذكور قلت:(تانكم)، على كل حال اسم الإشارة يراعى فيه المشار إليه، وكاف الخطاب يراعى فيها المخاطب، ولهذه المسألة في اللغة العربية بالنسبة إلى الكاف ثلاث لغات:
اللغة الأولى: أن يراعى المخاطب إفرادًا وتثنية وجمعًا مذكرًا ومؤنثًا، فنقول (ذلكَ) بفتح الكاف مخاطبًا رجلًا واحدًا. و (ذلكِ) بالكسر مخاطبًا امرأة واحدة و (ذلكما) مخاطبًا اثنين ذكورًا وإناثًا و (ذلكن) مخاطبًا جماعة نسوة و (ذلكم) مخاطبًا جماعة ذكور، فالكاف تتبع المخاطَب وتتحول حسب المخاطب. واسم الإشارة يتبع المشار إليه.
واللغة الثانية: أن تكون الكاف مفردة مفتوحة للمذكر، ومفردة مكسورة في المؤنث، فنقول مخاطبًا جماعة ذكور:
(ذلكَ)، ومخاطبًا اثنين:(ذلكَ)، ومخاطبًا واحدًا (ذلكَ) و (للنسوة) تقول:(ذلكِ) مخاطبًا امرأة واحدة، و (ذلكِ) مخاطبًا امرأتين، و (ذلكِ) مخاطبًا جماعة نسوة.
واللغة الثالثة: فتح الكاف مطلقًا وتقول لكل واحد تخاطبه: (ذلكَ) وهذا باعتبار المبتدئين أسهل. وفي هذه الآية يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ} راعى في اسم الإشارة المشار إليه وهو الشيطان واحد، وراعى في الكاف الجماعة المخاطبين.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} :
{الشَّيْطَانُ} : يجوز في إعرابها وجهان:
الوجه الأول: أن تكون خبرًا للمبتدأ (ذا).
الوجه الثاني: أن تكون بدلًا من المبتدأ (ذا) أو عطف بيان عليه.
فعلى الأول: تكون جملة {يُخَوِّفُ} في موضع نصب على الحال.
وعلى الثاني: تكون جملة {يُخَوِّفُ} خبر المبتدأ، وكلاهما صحيح، فالشيطان يخوف أولياءه.
وقوله: {يُخَوِّفُ} معروف أنها تنصب مفعولين بالتحويل؛ فالمفعول الأول محذوف وتقديره (يخوفكم أولياءَه)، وأولياء هنا هي المفعول الثاني، وليس المعنى {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} ، فإن المعنى أنه يخوف الناس من أوليائه فيكون على هذا المفعول الأول محذوف، والثاني هو الموجود والتقدير (يخوفكم أولياءه) أي: يعظمهم في صدوركم حتى تخافوهم وتتركوا الجهاد وتتركوا الدعوة؛ لأنكم تخافون منهم بسبب تخويف الشيطان.
قوله: {أَوْلِيَاءَهُ} أولياء الشيطان كل مجرم وفاسق وملحد وكافر، هؤلاء هم أولياء الشيطان، كما قال تعالى:{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] فكل كافر ملحد فاجر فهو من أولياء الشيطان.
وقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ} أي: لا يؤثر فيكم تخويفه فتخافوا منهم، فيؤثروا عليكم بهذا في ترك الجهاد. {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فلا تتأثروا بهم وجاهدوا.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} : (إن) شرطية، ولعلماء العربية في مثل هذه الجملة وجهان:
الوجه الأول: أنها جملة شرطية لا تحتاج إلى جواب؛ لأنه مفهوم مما سبق، وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله.
الوجه الثاني: أنها تحتاج إلى جواب، وأن جوابها محذوف معلوم مما سبق أي: فلا تخافوهم إن كنتم مؤمنين فلا تخافوهم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان شدة عداوة الشيطان لبني آدم حيث يرعبهم ويخوفهم بأوليائه.
2 -
أن الشيطان يدافع عن أوليائه بل يهاجم بهم؛ لقوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوفكم أولياءه.
3 -
أنه يجب على المؤمن أن لا يخاف من أولياء الشيطان؛ لقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
فإن قال قائل: الخوف أمر طبيعي يعتري الإنسان عندما يرى ما يخافه أو يسمع به ولا يستطيع مدافعته، فالجواب عن ذلك أن يقال: بل يستطيع مدافعته بأن يشق طريقه الذي أوجب الله عليه
ولا يهتم بأحد، وإلا فمن المعلوم أن طبيعة الإنسان الخوف مما يكره، لكن نقول: امضِ لسبيلك ولا تلتفت، فقوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} أي: لا يؤثر خوفهم فيكم شيئًا {وَخَافُونِ} لأنكم إن تركتم الجهاد عذبتكم.
4 -
أنه كلما قوي إيمان الإنسان بالله قوي خوفه منه؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
5 -
أيضًا أنه كلما قوي الإيمان بالله قوي الخوف منه، وضعف الخوف من أولياء الشيطان؛ لقوله:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
ثم اعلم أن العلماء رحمهم الله قالوا: إن الخوف ينقسم إلى أقسام:
الأول: خوف العبادة، وهو خوف السر الذي يخاف فيه الإنسان شيئًا خفيًا؛ كخوفه من الولي الميت أو من الشيطان أو ما أشبه ذلك، وهذا عبادة ولا يجوز إلا لله عز وجل.
الثاني: خوف طبيعي يعتري الإنسان بسبب وجود ما يخاف منه، وهذا لا يلام عليه العبد إلا أن يكون سببًا في ترك واجب أو وقوع في محرم، وإلا: فإن العبد لا يلام عليه وقد وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال الله عن موسى:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18]، وقال سبحانه وتعالى يخاطب موسى حينما ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى:{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه: 21]، وقال عن موسى حينما اجتمع السحرة له قال:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]، وقال عن إبراهيم لما جاءته الملائكة ولم يأكلوا: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} [هود: 70]، والآيات في هذا كثيرة، فالخوف الطبيعي من طبيعة الإنسان ولا يلام عليه العبد إلا إذا تضمن ترك واجب أو فعل محرم.
الثالث: خوف الجبناء، وهذا هو السيئ فالجبان يخاف من كل شيء حتى لو حركت الريح سَعْفَةً لقال: هذا صوت مدافع لأنه جبان، ولهذا لا يأتيه النوم كما قال الله تعالى فيما سبق:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154]، هذا القسم الثالث يجب على المؤمن أن يطارده ما أمكن؛ لأن المؤمن ليس بجبان، المؤمن قوي، ومن أكبر أسباب دفعه أن يذكر الإنسان ربه عز وجل، فإنه بذكر الله تطمئن القلوب، وتزول الكروب، وينشرح صدر المرء، ويزول عنه الخوف والرعب والذعر. فهذه أقسام الخوف: خوف عبادة، وخوف طبيعة، وخوف جبن.
6 -
أن الخوف من الله هو من مقتضيات الإيمان ومستلزماته؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
* * *
• ثم قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176].
في قوله: {يَحْزُنْكَ} قراءتان: القراءة الأولى (يَحْزنُك) من الثلاثي (حَزَنَ) والقراءة الثانية (يُحزِنك) من الرباعي (أحزنه).
{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: يدخلون فيه بسرعة. وذلك أنه من المعلوم أن المسارعة تتعدى بـ"إلى" كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:
133] وهنا جاءات (في) مكان (إلى) وهذا من باب التضمين، وقد اختلف علماء النحو في مثل هذا التركيب إذا عُدي الفعل بغير الحرفِ المعتاد هل التجوز بحرف الجر أو بالفعل الذي تعدى بحرف الجر؟ على قولين:
الأول: أن التجوز في حرف الجر يعني أن نقدر حرفًا مناسبًا للفعل فنقول: (في) بمعنى (إلى).
الثاني: أن التجوز في الفعل؛ بمعنى أن نضمن الفعل معنى يتعدى بـ (في).
والفرق بين القولين أنه على القول الأول: نُحوّل معنى الحرف الموجود إلى الحرف المناسب للفعل، وعلى الثاني: نُحوّل الفعل إلى المعنى المناسب للحرف، وأوضح مثال لذلك قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] المعروف أن يشرب تتعدى بـ (مِن) وهنا تعدت بالباء، فقال بعض النحويين: الباء بمعنى (مِن) والتقدير (يشرب منها عباد الله).
وقال بعض العلماء: يشرب بمعنى يَروَى، ومعلوم أن الرِّيَّ يستلزم الشرب، فيكون: يشرب دالة على معنى الشرب باللزوم وعلى الري، ويكون هذا أبلغ مما لو قلنا يشرب منها؛ لأن الإنسان قد يشرب ولا يروى، وهذا الأخير هو مذهب نحاة البصرة أي: أنهم يحوّلون الفعل إلى معنى مناسب للحرف ليكون الفعل دالًا على معناه اللفظي وعلى معناه التضميني أو المعنى اللزومي. وعليه فيكون معنى الآية {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أي: يدخلون في الكفر مسرعين.
وهذا المعنى الثاني أولى وأدق وأعمق، فإذا فسرنا
{يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بقول: (يدخلون فيه بسرعة) تضمن المسارعة والدخول في الشيء.
وقوله: {فِي الْكُفْرِ} أصل الكفر في اللغة: الستر، ومنه الكُفُرَّى وهو وعاء طلع النخل وهو معروف لدى الجميع. أما في الاصطلاح فإنه جَحْدُ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه أو ترك ما يستلزم الكفر بتركه مثل الصلاة، فتركها كفر وإن لم يجحد وجوبها.
{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} :
الجملة هنا محلها مما قبلها تعليل، أي: مهما سارعوا في الكفر فإنهم لن يضروا الله شيئًا.
وقوله: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} أي: لن يلحقوا الضرر به جل وعلا وتقدس عن أن ينال بضرر، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال:"يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني"
(1)
.
وقوله: {شَيْئًا} نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لن يضروا الله أي شيء في ذاته ولا في ملكه ولا في أسمائه وصفاته ولا في غير ذلك، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي أشرنا إليه آنفًا:"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا"
(2)
.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} :
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2577).
(2)
تقدم تخريجه في الحديث السابق.
أي: يريد الله سبحانه وتعالى بكفرهم أن لا يجعل لهم حظًا، أي: نصيبًا في الآخرة، والإرادة هنا إرادة كونية، أي يشاء الله ألا يجعل لهم حظًا في الآخرة؛ لا قليلًا ولا كثيرًا. وهكذا كل كافر ليس له نصيب في الآخرة، والمؤمن له نصيب في الآخرة.
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :
أي لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر (عذاب) أي عقوبة (عظيم) أي: ذو عظمة، وعظمة كل شيء بحسبه؛ فقد يكون مدحًا وقد يكون ذمًا، ففي مقام المدح تكون العظمة مدحًا، وفي مقام الذم تكون العظمة ذمًا، فقوله تعالى:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] كلمة عظيم هنا من باب الذم، وقوله:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] من باب المدح، وفي هذا الموضع نقول: إن العقوبة لا شك أنها مكروهة عند الإنسان فهي بالنسبة لفعل الله عدل، وبالنسبة للمخلوق المعذب قبح وذم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تهديد هؤلاء الذين يسارعون في الكفر؛ لقوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} أي: لا يهمنك أمرهم فسوف يعذبون.
2 -
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق؛ لأنه يحزنهُ هؤلاء الذين يسارعون في الكفر، ولولا حرصه عليه الصلاة والسلام ما حزن لكفرهم.
3 -
بيان ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من الهمِّ ومن الحزن لعدم إسلام الأمة، وذلك لمحبته للخير عليه الصلاة والسلام حتى الذين
يسارعون في الكفر يحزن عليهم لأنه يود أن يسلموا.
4 -
بيان ما يقع فيه سفهاء بني آدم من الخطأ والخطل كما في فعل هؤلاء، يسارعون في الكفر مع أنه ضرر عليهم وهلاك.
5 -
انتفاء الضرر عن الله وأنه لا تضره معصية العاصين كما لا تنفعه طاعة الطائعين؛ لقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} فإن قيلِ: إن الله قد أثبت أن بعض عباده يؤذيه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] وفي قوله في الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر"
(1)
فكيف نجمع بين نفي الضرر وإثبات الأذية؟
الجواب: أن يقال: لا يلزم من الأذية الضرر، فقد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر به، أرأيت لو صلى إلى جانبك أو جلس إلى جانبك رجل قد أكل بصلًا وثومًا فإنك تتأذى برائحته ولكن لا تتضرر، فلا يلزم من الأذية الضرر، وحينئذٍ لا معارضة بين نفي الضرر عن الله عز وجل وإثبات الأذية.
6 -
بيان غنى الله عز وجل؛ لقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} .
7 -
إثبات الإرادة لله عز وجل؛ لقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} وقد قسم العلماء إرادة الله تعالى إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية؛ فالكونية هي ما يتعلق بفعله، والشرعية ما يلزم فيها وقوع المراد، فالفروق ثلاثة:
الأول: أن الإرادة الكونية تتعلق بفعله والثانية بشرعه.
(1)
تقدم تخريجه (ص 55).
الثاني: الكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة.
الثالث: الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
فإذا قال قائل: ما تقولون في إيمان أبي بكر؟ أهو مراد بالإرادة الكونية أو الشرعية؟ .
الجواب: إرادة كونية وشرعية؛ لأنه وقع بالإرادة الكونية، ولأنه متعلق بالشرع، فهو مما يحبه الله.
وما تقولون في إيمان أبي لهب؟ الجواب: أنه مراد شرعًا لا كونًا؛ لأن الله لو أراده كونًا لكان، وما تقولون في كفر المسلم؟ الجواب: أنه ليس مرادًا لا كونًا ولا شرعًا؛ لأنه الآن مسلم ولو أراد الله أن يكفر لكفر، وهل هو مراد شرعًا أن يكفر؟ الجواب: لا، إذن انتفت في هذا الإرادتان، وإيمان المؤمن اجتمعت فيه الإرادتان، وإيمان الكافر وجدت فيه الإرادة الكونية. فإيمان الكافر مراد شرعًا وغير مراد كونًا، وإسلام المسلم مراد كونًا وشرعًا، وكفر الكفار مراد كونًا لا شرعًا، فهناك ما تجتمع فيه الإرادتان، وما تنتفي فيه الإرادتان، وما فيه الإرادة الشرعية فقط، وما فيه الإرادة الكونية فقط، وهذا التقسيم مهم؛ لأن من الناس من قال: إن المعاصي غير مرادة لله لا كونًا ولا شرعًا مع أنها واقعة، فنوافقهم بأنها غير مرادةٍ شرعًا لكنها مرادة كونًا.
8 -
أنه لا حظَّ للكافر في الآخرة؛ لأنه مخلد في النار؛ لقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} .
9 -
ومن فوائدها بالمفهوم أن الكافر قد يكون له حظ في الدنيا، وكفره لا يمنعه من الحظ في الدنيا.
فإن قال قائل: إن الله قال في كتابه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] فهذا يدل على أن الكافر لا يحصل له نعيم في الدنيا، قلنا: نعم، الأصل ألا يحصل له نعيم في الدنيا ولكنه قد ينعم استدراجًا كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183].
10 -
إثبات الآخرة، وأنها حق، وأن الناس ينقسمون فيها إلى قسمين: منهم من له نصيب، ومنهم من لا نصيب له؛ لقوله:{فِي الْآخِرَةِ} .
11 -
إثبات العقوبة لهؤلاء الكفار، فليس حظهم ألا يجدوا حظًا في الآخرة فقط بل مع ذلك يعذبون، ولهذا يقولون:{يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي: فنستريح {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] نسأل الله العافية.
* * *
• ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 177].
هذه الآية صلتها بما قبلها أنها كالتوكيد لها.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ} :
أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وإلا فإن الكفر ليس سلعة يباع ويشترى، فالاشتراء هنا بمعنى الاختيار وترك الطرف الآخر. يقول بعض علماء البلاغة: في هذه الجملة مجاز بالاستعارة المكنية أو الاستعارة التصريحية التبعية، فإنه شبَّه الكفر بالسلعة التي تباع
وتشترى، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الشراء، هذا على أنها مكنية، وتصريحية تبعية معناها: أنها تجري مجرى الاستعارة بالفعل أو اسم الفاعل، يعني بالشيء المشتق، فهنا {اشْتَرَوُا} بمعنى اختاروا، فشبَّه الاختيار بالشراء ثم اشتق من لفظ الشراء (اشتروا) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
وقوله: {اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} فإذا قال قائل: هم لم يؤمنوا؟ قلنا: لكن اختيارهم للكفر أخرجهم من الفطرة التي كانوا عليها، وهي التوحيد فهم اشتروا الكفر بعد الإيمان وقد سبق معنى الكفر.
أما الإيمان فإنه في اللغة قيل: التصديق، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وقيل: الإقرار، والإقرار أخص من التصديق، واستدل هؤلاء بأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة فلابد أن تتعدى بما تتعدى به، ومن المعلوم أن الإيمان لا يتعدى كما يتعدى التصديق، فإنك تقول: صدقته ولا تقول: آمنته. إذن فليس معناهما واحدًا، فمعنى الإيمان الإقرار، هذا في اللغة. أما في الشرع فهو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فليس مجرد الإقرار إيمان، بل لابد أن يقبل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويذعن له، ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنًا مع أنه مقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يقبله ولم يذعن له فلم يكن مؤمنًا، وإذا كان هذا هو الإيمان أي الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، فإنه يتضمن جميع شرائع الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان شامل للاعتقاد وقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب، أربعة أشياء كلها من الإيمان.
{لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} كالآية السابقة تمامًا.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هنا قال: إنه أليم، وهناك قال: إنه عظيم، فيجتمع في عذابهم -والعياذ بالله- العظيم والأليم، وأليم هنا بمعنى مؤلم، وليس بمعنى شديد، فهو بمعنى اسم الفاعل من الرباعي آلمه يؤلمه إيلامًا فهو مؤلم، وهل يأتي فَعِيل بمعنى مُفْعِل؟ الجواب: نعم، مثاله:
أمن الريحانة الداعي السميع
…
يؤرقني وأصحابي هجوع
(الداعي السميع) يعني المسمع.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان شدة رغبة الكفار في الكفر؛ لأنهم اشتروا الكفر اشتراء، والمشتري طالب للسلعة، فهم يأخذون الكفر عن رغبة.
2 -
بيان خسران هؤلاء حيث أخذوا الكفر بدلًا عن الإيمان، وهذه أَخْسَرُ صفقة على وجه الأرض أن يأخذ الإنسان الكفر بالإيمان طائعًا طيبة به نفسه والعياذ بالله.
3 -
بيان كمال الله عز وجل، وأنه لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائعين، لقوله:{لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} .
4 -
كمال سلطان الله حيث إن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لن يضروا الله شيئًا، مع أن المعروف أن الملك كلما قلّت جنوده ضعفت قوته إلا الله عز وجل فإنه لا يضره شيء.
5 -
عذاب هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان عذاب مؤلم، ولذلك قال تعالى:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فينادون توبيخًا {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37].
• ثم قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} :
أي: لا يظن الذين كفروا، وفيه قراءة ثانية سبعية (ولا تحسبن الذين كفروا).
وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} :
أي: نمهلهم عن الأخذ بالعقوبة {خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} وهنا يقع تساؤل: لماذا كانت {خَيْرٌ} بالرفع مع أنه قال: نملي، والفعل المضارع ينصب المفعول به؟ والجواب: أن يقال: (ما) اسم موصول وليس حرف حصر، فتكون اسم (أنَّ) وعليه يكون التقدير (أن الذي نملي لهم خيرٌ) وإن كانت في المصحف مرسومة متصلة (بأن) وصورتها صورة الحصر، ولكن هذا لا يمنع أن تكون اسمًا موصولًا؛ لأن العلماء اتبعوا في رسم المصحف الرسم العثماني، وإلا فهي على القاعدة الإملائية الموجودة الآن تكتب (أنَّ) وحدها و (ما) وحدها.
قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} {إِنَّمَا} هنا للحصر. أي: نمهلهم {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} :
وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} اللام للتعليل باعتبار فعل الله، يعني أنه عز وجل يملي من أجل زيادة الإثم، وللعاقبة باعتبار حال المشركين أو الكافرين؛ لأنهم لم يكفروا لأجل أن يزدادوا إثمًا، ولكن كفرهم كان سببًا في زيادة الإثم.
وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} أي: إلى إثمهم؛ لأن الرجل إذا كفر عشرة أيام وزاد يومًا زاد كفرًا، وإذا زاد عشرة أيام أخرى زاد أكثر، فهم والعياذ بالله لا يستفيدون من دنياهم وإنما يزدادون فيها كفرًا.
أي: مهين مذل من الإهانة، وذلك لأنهم إنما كفروا استكبارًا وعلوًا، فعوقبوا بعذاب يُذلهم ويهينهم.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنه يجب على الإنسان أن لا يظن أن إمهال الله له خيرًا له، تؤخذ من النهي، فإن الأصل في النهي التحريم، فلا يجوز للإنسان أن يغتر بإمهال الله له.
2 -
أن الله عز وجل بحكمته قد يستدرج بعض الخلق، فيعطيه النعم تترًا وهو متجاوز لحدوده؛ ليبلغ في الطغيان غايته حتى إذا أخذه لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
(1)
[هود: 102].
فإن قال قائل: هل تقيسون العاصي على الكافر بمعنى أنه قد يمهل له وهو مقيم على المعصية؟ .
الجواب: نعم، قد نقول بالقياس بجامع أن كل واحد منهما
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} ، رقم (4686).
أمهله الله ولم يعاقبه، وقد نقول بعدم القياس؛ وذلك لأن الكفر أعظم من الفسوق، ولكن من رجع إلى ظاهر القرآن تبيَّن له أنه حتى الفاسق ريما يمهل في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
3 -
أنه يجب على الإنسان أن يعتبر في عمره هل أمضاه في طاعة الله فليبشر بالخير، أو أمضاه في معصية الله، والله تعالى يدرُّ عليه النعم فليعلم أن هذا استدراج.
4 -
الإشارة إلى أن الإنسان قد يغتر بظواهر الحال {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فالإنسان قد يغتر بظاهر الحال ويقول: إن الله لم يُنعم علي نعمة إلا لأنني أهلٌ لها كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
5 -
إثبات زيادة الآثام؛ لقوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فتدل بالمفهوم على زيادة الإيمان؛ لأنه إذا ازداد إثمًا، فما نقص عن الإثم كان زيادة في الإيمان، ولهذا قال أهل السنة: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
6 -
إثبات العقوبة المذلة لهؤلاء؛ لقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
7 -
أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هؤلاء لما استكبروا على الخلق وعلوا عليهم أذلهم الله.
قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} : (ما): نافية. و (كان): فعل ماضٍ ناقص، واللام هنا لام الجحود، يعني لام النفي، وهي التي تأتي بعد كونٍ منفي إما:(ما كان)، وإما:(لم يكن). ومثالها في (ما كان) هذه الآية: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} ومثالها في (لم يكن): {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137].
وسُمِّيت لام الجحود؛ لأنها واقعة في سياق النفي، والجحود هو النفي، وهو (لم يكن) أو (ما كان). وهي تنصب الفعل المضارع، إما بنفسها كما هو اختيار الكوفيين، أو بـ (أن) مضمرة بعدها وجوبًا كما هو اختيار البصريين.
قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ} أي: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، وإذا جاء مثل هذا التعبير في القرآن، فإنه يعني الامتناع، أي: أنه ممتنع على الله عز وجل غاية الامتناع أن يفعل كذا، وهذا الامتناع ليس امتناعًا لعدم المقدرة عليه، فهو قادر، لكنه امتناعٌ شرعي، أي: يمتنع بحسب ما تقتضيه حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.
وقوله: {لِيَذَرَ} أي: ليترك.
وقوله: {الْمُؤْمِنِينَ} أي: الذين آمنوا بالله. وقد تقدم تعريف الإيمان.
وقوله: {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي: على ما هم عليه من غير بيان ولا تمييز بين الخبيث والطيب، هذا مستحيل على الله، وذلك لأن المجتمع النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خليط بين المؤمنين الخُلَّص والكافرين الخُلَّص، والمنافقين، أما الكافرون الخُلَّص فهم متميزون بإعلانهم للكفر وتصريحهم به، ولا تخفى حالهم على أحد، وأما المؤمنون الخُلَّص فكذلك أمرهم واضح ظاهر، يبقى الاشتباه بين المؤمن الخالص وبين المنافق؛ لأن المنافقين يُظهرون الإيمان، قال تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] فالأمر يحتاج أن يُميِّز الله عز وجل بين الخبيث والطيب، ولهذا قال:{عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} . يعني من الخفاء والإشكال.
{حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} :
{يَمِيزَ} بمعنى: يفصل، يعني يفصل بين الخبيث والطيب بما يُخبر به عز وجل.
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} :
يعني: وما كان الله ليطلعكم على الغيب في تمييز الطيب من الخبيث، فأنتم لا تعلمون ما في صدورهم، أي: ما في صدور هؤلاء الخبثاء المنافقين؛ لأنكم لا تعلمون الغيب، والله عز وجل ما كان ليطلعكم على الغيب، وهذه الآية تشبه آية الجن:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26 - 27]، ولهذا قال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} :
هذا استدراك على قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} ،
وأن هذا الخطاب عام حتى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء الاستدراك فقال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
{يَجْتَبِي} : يعني يختار من رسله من يشاء فيُطلعه على الغيب الذي يُريد أن يُطلعه عليه، كما قال:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27].
قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} :
هذه الجملة من الآية تُصوِّر لنا حال المجتمع النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أن فيهم أناسًا يخفى أمرهم، فبيَّن الله عز وجل أن هؤلاء الناس الذين يخفى أمرهم، لابد أن يفصل الله بينهم وبين المؤمنين بالعلامات التي يُظهرها، ولا يكون هذا باطلاعهم على الغيب؛ لأن الله عز وجل لا يُطلع أحدًا على الغيب إلا من ارتضى من رسول، ويكون هذا عن طريق اطلاعنا على ما في قلوب هؤلاء عن طريق الوحي، ولهذا سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من المنافقين لحذيفة بن اليمان الذي كان يُلقَّب بصاحب السر، سرّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة بأسماء رجال من المنافقين ولم يُسِرّ إلى أبي بكر ولا عمر، ولا إلى من هو أفضل من حذيفة، وهذه تذكِّرنا بقاعدةٍ ذكرها ابن القيم في النونية، وهي أن الخصيصة بفضيلة معيَّنة لا تستلزم الفضل المطلق، وأن الفضل نوعان: مطلق، ومقيد، فهنا لا شك أن حذيفة رضي الله عنه امتاز عن الصحابة بما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء هؤلاء المنافقين، لكنه لا يلزم من هذا أن يكون أفضل ممن له فضلٌ مطلق عليه، كأبي بكرٍ وعمر ومن أشبههما، وعليه فإننا لا نعلم عما في قلوب هؤلاء ولكن الله يُميِّزهم بما يُطلع عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} والذي اجتباه الله من الرسل في عهد النبوة المحمدية هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نبي غيره.
ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} :
يعني: . حقِّقوا إيمانكم بالله ورسله، وذلك بالتصديق التام، والانقياد والإذعان بدون اعتراض، لا على القضاء والقدر، ولا على الحكم الشرعي. وهكذا حال المؤمن حقًّا وهو الانقياد لأمر الله الكوني فيرضى به، والانقياد لأمر الله الشرعي فينفِّذه ويُذعن له، مع أن الانقياد للحكم الكوني يعمُّ كل أحدٍ سواء طوعًا أو كرهًا.
قوله: {وَرُسُلِهِ} :
جمع رسول، والرسل هم الذين كلَّفهم الله تعالى بما أوحى إليهم أن يعملوا به ويدعوا إليه، ويُبلِّغوا الناس، ولهذا قال جمهور العلماء في تعريف الرسول: أنه مَنْ أوحي إليه بشرعٍ، وأُمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرعٍ يتعبد به ولم يُكلَّف أن يُبلِّغه الناس، فآدم عليه الصلاة والسلام نبي، ولكنه ليس رسولًا، فإنه نُبِّئ ليس عنده أحدٌ وصار يعمل بما يوحى إليه واتبعه على ذلك ذريته، ولما طال الزمن واختلف الناس، احتاجوا للرسالة، فأرسل الله إليهم، وأول من أرسل إليهم نوح عليه السلام.
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الإيمان بالله يتضمَّن أربعة أمور:
الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته. لابد من هذا كله، فمن نقص شيئًا منها فإنه لم يؤمن بالله حقيقة.
والإيمان بالرسل يتضمن تصديقهم فيما جاءوا به من الوحي، ويتضمن التعبَّد لله بشريعتهم على من أُلزموا باتباعه، وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الخلق إلا باتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّ شريعته نسخت جميع الأديان. إذن كيف نؤمن بعيسى مثلًا؟ نؤمن بأنه رسول الله حقًّا، وأن الله أنزل إليه الكتاب، وأنه صادق بما جاء به من الرسالة، وأما شرعه فلسنا مأمورين باتباعه، فنحن مأمورون بالإيمان به فقط.
قال: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} :
إن تؤمنوا بقلوبكم وتتقوا بجوارحكم، فلكم أجر عظيم، (الإيمان بالقلب) هو الإقرار المتضمِّن للقبول والإذعان. و (التقوى) هي اتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل، وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا أجمع ما قيل في التقوى، ولكن ليعلم أن التقوى قد تقرن بالبِّر، وقد تُقرن بالإحسان {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} [النساء: 128]، وقد تُقرن بالإصلاح، فإذا قُرنتْ بمثل هذا تُفسَّر بأن المراد بها تقوى المحارم، يعني اجتناب محارم الله، أما إذا أُطلقت فإنها تشمل الأوامر والنواهي، وهذا كثير، فإن من الأسماء ما إذا قُرِن مع غيره صار له معنى، وإذا وحِّد صار له معنى، لكن أيهما أشمل أو أعم إذا قُرِن أو إذا أُفرد؟ .
الجواب: إذا أُفرد لأنه إذا قُرِن مع غيره فهذا الذي قُرن معه سيأخذ جانبًا كبيرًا من المعنى.
قال: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} :
الفاء هنا واقعة في جواب الشرط، لربط الجملة الجوابية بالجملة الشرطية الفعلية، وإنما قُرنت بالفاء؛ لأن الجواب وقع
جملة اسمية، وهناك بيت جمع المواضع التي يقترن فيها جواب الشرط بالفاء وهو:
اسميَّةٌ طلبيةٌ وبجامد
…
وبما وقد وبلن وبالتنفيسِ
معناه: أن هذه الجمل السبع إذا وقعت جوابًا للشرط فيجب أن تقترن بها الفاء.
وقوله: (أجرٌ) يعني ثوابًا، وسمّى الله الثواب أجرًا من باب التكرم والتفضُّل كأننا نحن مستأجَرين أدَّيْنا العمل، فنطالب بالأُجرة، مع أن الحقَّ لله علينا لكنه عز وجل أوجب على نفسه أنه: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
…
} [النساء: 123 - 124].
وهذا كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] فهل الله فقيرٌ حتى نُقرضه؟ كلا، ولكن هذا من باب إظهار التزام الله عز وجل بالوفاء لعبده إذا أوفى بعهده:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وقوله: {عَظِيمٌ} هذا وصف من الله عز وجل لهذا الأجر، والوصف بالعظم من العظيم يدلُّ على عظمه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء الذي علَّمه أبا بكر رضي الله عنه:"فاغفر لي مغفرةً من عندك"
(1)
أضافها إلى عندية الله عز وجل.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، رقم (834). ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، رقم (2705).
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله عز وجل لابد أن يُميِّز الخبيث من الطيب؛ لقوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} ، فإن قال قائل: بماذا يحصل التمييز؟ .
قلنا: يحصل بالوحي في عهد النبوَّة، ويحصل بالقرائن في غير عهد النبوة وفي عهد النبوة أيضًا، فإن القرائن قد تُبيِّن الخبيث من الطيب بحيث نلاحظ أعماله وننظر كيف يسير وكيف يعمل، فيتبيَّن لنا خبثه من طيبه.
2 -
بيان رحمة الله عز وجل بعباده حيث لا يتركهم هكذا يشتبه بعضهم ببعض، بل لابد من ميْز هذا عن هذا.
3 -
بيان حكمة الله عز وجل في أفعاله وشرعه أيضًا؛ لقوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} .
4 -
انقسام الناس إلى خبيث وطيب؛ لقوله: {يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ، وهذا كقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، ولم يذكر قسمًا ثالثًا، وكقوله تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] ففي العمل قسَّم الله الناس إلى قسمين، وفي الجزاء أيضًا قسَّمهم إلى قسمين.
فإذا قال قائل: أليس في هذا دليل على مذهب الخوارج الذين يقولون: إن الناس إما مؤمن أو كافر. ولا يمكن لأحد أن يجمع بين الإيمان والكفر؟
الجواب: أن يُقال: ليس فيه دليل على مذهبهم؛ لأن المؤمن إذا لم يفعل ما يخرج به من الإيمان فإنه لا يصدق عليه
وصف الخبيث على سبيل الإطلاق، بل هو من قسم الطيب، لكنَّ فيه خُبثًا، وهذا الطيب غلب على خبثه، كما أن الكافر وإن فعل ما يُحمد عليه، كالبر والجود والشجاعة، وطلاقة الوجه، وما أشبه ذلك، هذه خصال إيمان، لكن خُبثه أعظم من هذه الخصال فهو من قسم الخبثاء، وليس من قسم الطيبين، إذن نقول: هؤلاء المؤمنون الذين عندهم صفات كفر من قسم الطيب الذي فيه خبث، لكن طيبه يغلب على خبثه، والكفار الذين فيهم خصال من الطيب من قسم الخبيث، لكن الطيب الذي فيهم قد انغمر في جانب الخبث، وعلى هذا فليس هناك قسم ثالثٌ بل هما قسمان.
5 -
أن من ادَّعى علم الغيب فهو كاذب، وتؤخذ من:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} بل هو كافر؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، ولأنه إذا ادَّعى علم الغيب فقد كذَّب بمضمونها؛ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} ، ولكن ما المراد بالغيب؟ .
المراد بالغيب هنا ما غاب غيبًا مُطلقًا، وذلك الذي يكون في المستقبل، أما الشيء الحاضر، ولكنه غائبٌ من أناسٍ دون أناس؛ فهذا قد يطَّلع عليه الإنسان، وإن لم يُشاهده بِخبر الجن يسيحون في الأرض، يذهبون شمالًا ويمينًا، وهم سريعو التصرف فربما يسعون في الأرض ثم يُخبرون أولياءهم بما شاهدوا في أراضٍ بعيدة، فيكون هذا غيبًا إضافيًا.
ومعنى الغيب الإضافي: أي بالإضافة إلى قوم دون قوم، فالذين شاهدوه ليس غيبًا عندهم، أما البعيدون عنه فإنه غيب عندهم، ويقال: المغيب النسبي.
فالمراد بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، هو الغيب المطلق، هو الذي يكون في المستقبل، فهذا لا يطلع عليه إلا الله، فإن قال قائل: ألسنا إذا رأينا السماء مدلهمَّة والرعد قاصفًا، والبرق خاطفًا، أننا نتوقَّع المطر؟ ! .
الجواب: بلى، فإذا قلنا ستمطر، فليس هذا من علم الغيب، بل هذا ظن مبنيٌّ على القرائن، وقد يخطئ ظننا وقد يأمر الله هذا السحاب فيتمزَّق ولا يُمطر، ولكن حسب ما نتوقَّع، ولسنا نقول هذا علم، والخلاصة أن الغيب هنا هو المطلق، وهو الذي يكون في المستقبل، أما الغيب الإضافي النسبي فهذا قد يُطلع الله عليه من يشاء من عباده، بواسطةٍ كالجن مثلًا، فالجن يعلمون ما حصل في الأرض، وُيخبرون به أولياءهم، وأولياء الجن قد يكونون متقين وقد يكونون مجرمين، فإن كانت ولاية الجن لهم بسبب الشرك فيهم، كالذبائح للجن وما أشبه ذلك، فهذه ولاية إجرام، لكن يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن الجن قد يتولون المؤمن لإيمانه، يحبونه في الله، ويخدمونه في أمره، قال: وهذا جائز بشرطين: ألا تكون وسيلة استخدامهم محرَّمة، وألا يستخدمهم في محرَّم، فمثلًا إذا قالوا: لا نخدمك حتى تسجد لنا، فهذا حرام وشرك، وإذا قالوا: لا نخدمك حتى تُدخل فلانًا السجن، فهذا حرام لكنه ليس بشرك، يعني خدموه بدون شرك، لكن استخدمهم في شيء محرَّم. فلو قال قائل: إن استخدامهم حرام بكل حال؛ لأن الله تعالى يقول: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]،
وهذا يدل على أن استمتاع الإنسي بالجني محرم بكل حال، فالجواب عن ذلك أن نقول: اقرأ الآية التي بعدها حيث قال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] فهذا الاستمتاع استمتاع في ظلم، ولا شك أنه حرام، أما إذا كان استمتاعًا بما ينفع وخلا من المحرم في طريقه أو في استخدامه فإن هذا لا بأس به.
6 -
أن الله قد يطلع الخلق على الغيب بواسطة الرسل؛ لقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
7 -
أن الرسل ممن اجتباهم الله واصطفاهم على الخلق، وهذا موجود في القرآن، بأن الأنبياء هم الصفوة كما قال تعالى:{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 47].
8 -
إثبات المشيئة لله عز وجل، في قوله:{مَنْ يَشَاءُ} ، ولكننا نقول: كل شيء علَّقه الله بالمشيئة، فإنه لابد أن يكون مقرونًا بالحكمة، ليست مشيئةً مجرَّدة، بل لابد أن تكون مقرونة بحكمة، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، فقال:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] أشار إلى أن مشيئته تتبع علمه وحكمته.
9 -
وجوب الإيمان بالله ورسله عمومًا؛ لقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، وقد بيَّنا في التفسير كيفية الإيمان بالرسل، وأنه يؤمن بأنهم حقٌّ، وجاءوا من عند الله وهم صادقون، أما الاتباع فهو خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
10 -
فضيلة الإيمان والتقوى، وأنه يترتب عليهما الأجر العظيم.
11 -
بيان منة الله على العباد، حيث جعل إثابتهم على العمل بمنزلة الأجر المتقرَّر لهم، كأن شخصًا استأجر أُجراء وأعطاهم أجرهم فرضًا إلا أنه تعالى هو الذي فرض ذلك على نفسه.
12 -
إثبات الجزاء، وأنه من جنس العمل، فكما أن الإيمان والتقوى يُعتبر أمرًا عظيمًا ظاهرًا وباطنًا، فكذلك الأجر، كان أجرًا عظيمًا.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]:
{يَحْسَبَنَّ} : فيها ثلاث قراءات:
الأولى: ولا يحسِبنّ.
الثانية: ولا يحسَبنّ.
والثالثة: ولا تَحسَبنّ بالخطاب.
وكلها قراءات سبعيَّة، يُسنُّ للإنسان أن يقرأ بهذه أحيانًا، وبهذه أحيانًا، إلا أنه لا ينبغي أن يقرأ بالقراءة الخارجة عن المصحف أمام العامة؛ لأن ذلك قد يُوجد فتنة.
يقول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ} أي: لا يظن الذين يبخلون بما آتاهم الله. والبخل هو المنع مع شحٍّ، ولهذا عُدِّي بالباء، ولم يقل:(يبخلون ما آتاهم) بل قال: يبخلون به، أي: يمنعونه مع شح يعني: يشِحُّون به.
وقوله: {بِمَا آتَاهُمُ} أي: بما أعطاهم الله من فضله، وفيه إشارة إلى أن هذا البخل في غير موضعه؛ لأنهم بخلوا بشيءٍ ليس من كسبهم، ولا من كدِّهم، وهذا من الحمق البالغ، إذ إن الأمر يقتضي أن الذي أعطاك إذا أمرك أن تصرفه في شيء، أن تصرفه فيه كما أمرك، لأنه فضله.
وقوله: {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} :
أي: من خيره؛ لأن الفضل في الأصل هو الزيادة، فالإنسان قد يعمل عملًا يؤمِّل أن يكسب فيه ألفًا، فيكسب ألفين أو أكثر من فضل الله عز وجل.
قوله: {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} :
{خَيْرًا} مفعول ثانٍ لـ (يحسب) والمفعول الأول محذوف تقديره: بخلهم هو خيرًا لهم. يعني: (ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرًا لهم بل هو شر لهم) كما ذكر الله عز وجل.
وقوله: (هو خيرًا لهم)(خير) هنا اسم تفضيل، فلابد فيه من مفضَّل، ومفضَّل عليه، فالمفضَّل عليه هو البخل، هو خير لهم من العطاء. يعني لا يظنُّوا أن البخل خيرٌ لهم من العطاء، فهم يظنُّون أن البخل أفضل لهم من العطاء، وهذا الظن خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما نقصت صدقة من مال"
(1)
. وكم من إنسان يزداد ماله بالصدقة، ولا تنقِص الصدقة مالًا مع الاحتساب؛ لقوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39].
(1)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، رقم (2588).
ومعنى {يُخْلِفُهُ} أي: يأتي بخلَفِه.
يقول الله عز وجل: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} :
أي: شرٌ لهم من العطاء، والعطاء ليس فيه شر، ولكن الله خاطب هؤلاء بحسب اعتقادهم، حيث يظنُّون أنهم إذا أنفقوا ضاق عليهم الرزق، فيقول القائل منهم: أنا عندي ألف، إذا أنفقتُ منه مائةً نقص، وصار تسعمائة، فيظنون أن هذا شر، فيقول الله عز وجل: إن المنع هو الشر، ولهذا قال:{بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} . شرٌ من العطاء، فالعطاء خيرٌ، والمنع شر.
وقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} إضراب إبطالي، وقد يأتي الإضراب في القرآن انتقاليًا كما في قوله تعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] فالثاني لا يبطل الأول بل يؤكده.
ثم قال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
(السين) يقول علماء النحو: إنها للتنفيس، وتُفيد التحقيق. والتنفيس معناه: حصول الشيء عن قرب، والتحقيق واضح، يعني: أن كلمة (سيطوَّقون) أبلغ في التحقيق من كلمة (يطوَّقون) لأن السين تُفيد التحقيق وتُفيد أيضًا التنفيس، فتفيد (سيطوَّقون) أن هؤلاء سوف يُعاقبون هذه العقوبة حتمًا وعن قرب، ومن أين أخذنا الحتمية؟ .
الجواب: من السين الدالة على تحقق وقوع العذاب، وأخذنا القرب لأن التنفيس الذي تدلُّ عليه السين معناه القرب، فإذا قال قائل: إن تحققه معلوم، ولكن كيف يكون قريبًا؟ قلنا: إن يوم القيامة قريب، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ
قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]، وقال تعالى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] فيوم القيامة وإن كان بعيدًا في نظر الناس، لكنه في الحقيقة قريب، وانظر إلى الأيام كيف تنطوي بسرعة حتى تنتهي، لتعرف أن يوم القيامة وإن بعُد أمده فهو في الحقيقة قريب.
وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
أي: سيُجعل ما بخلوا به طوقًا في أعناقهم. والطوق معروف مثل طوق القميص يحيط بالعنق، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون هذا التطويق فقال:"من آتاه الله مالًا فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه فيقول: أنا كنزك، أنا مالك"
(1)
. قال العلماء: الشجاع الأقرع هو: الذكر من الحيات. والأقرع: كثير السُّم؛ لأن رأسه من كثرة سمِّه قد تمزّق شعره، فهو أقرع.
"وله زبيبتان": أي غدَّتان تُشبهان الزبيب، قد امتلأتا من السُّم.
"فيأخذ بلهزمتيه": أي شدقيه كما جاء مفسَّرًا في الحديث. ويقول: أنا كنزك، أنا مالك: يقول ذلك توبيخًا له فيزداد بذلك حسرة.
هذا هو تفسير الآية الكريمة كما فسَّرها النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} :
(1)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم (1403).
يُعبِّر الله تعالى عن الجزاء بالعمل نفسه، وهو كثير في القرآن مثل:{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهنا {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه هو العمل نفسه، فلهذا يُعبِّر الله عن الجزاء بالعمل كثيرًا.
{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
(يوم القيامة): هو يوم يبعث الناس، وسمِّي يوم القيامة لوجوه ثلاثة: يقوم فيه الناس لرب العالمين، ويقوم فيه الأشهاد، ويقوم فيه العدل.
فالوجه الأول: يقوم فيه الناس لربِّ العالمين، كما قال تعالى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].
والثاني: يقام فيه القسط، لقوله:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].
والثالث: يُقام فيه الأشهاد، كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] فلهذا سُمِّي يوم القيامة.
يقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
(لله): اللام هذه للاختصاص، والجار والمجرور خبر مقدم، وتقديمه يفيد الحصر، أي: أنه له وحده عز وجل.
وَ (الميراث): انتقال المال من سابقٍ إلى لاحق، كانتقاله من الميت إلى الحي. فالذي يرث السموات والأرض ويبقى بعدها هو الله سبحانه، ولهذا قال:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولا يتحوَّل ميراثها إلا إليه وحده عز وجل، ومناسبة هذه الجملة لما
قبلها واضحة، وذلك أن الذي يبخل بماله إنما يبخل به ليبقى له، فبيَّن الله أنه لم يبقى له، لابد أن يموت ويرثه ورثته ثم يموتون ويرثهم ورثتهم وهكذا إلى أن ينتهي الإرث إلى الله عز وجل. فالمناسبة إذن بين هذه الجملة وما قبلها ظاهرةٌ جدًا.
وقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :
فيها قراءتان (تعملون) و (يعملون). وخَتْمُ الآية هذه بهذا الاسم وهو الخبير واضح المناسبة؛ لأن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله قد لا يطَّلع عليهم الخلق، فالإنسان قد يكون عنده ملايين ولا يعلم الناس عنه، ويبخل بزكاتها ولا يُعْلَم عنه، فبيَّن الله تعالى، أنه خبير بعملهم، والغالب أن من منع الحق في ماله سُلِّط على هلكته في الباطل، يعني: فتح له أبوابًا من الباطل يَصرف فيها ماله فيكون مانعًا لما يجب، واقعًا فيما يحرم، ولهذا هدَّدهم الله بقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تهديد من بخل بما آتاه الله من فضله، وسبق لنا أن البخل المتوعد عليه هو منع الواجب في المال.
2 -
أن الشيطان قد يُغِرّ الإنسان فيقول: لا تنفق فيهلك مالك؛ لقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} ، ولا شك أن هذا هو الواقع، ودليل ذلك أن الله يُحذِّرنا دائمًا من هذا الشيطان ويقول:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وأول من يغُرُّنا بالله هو الشيطان.
3 -
إقامة اللوم والتوبيخ على هؤلاء الذين بخلوا؛ لقوله:
{بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: كيف يبخلون بشيءٍ ليس من كسبهم ولا مِن كدِّهم، بل هو من فضل الله، فيبخلون به في طاعة الله.
4 -
أن ما أوتيه الإنسان من علم أو مال أو ولد، فإنه من الله عز وجل، فالولد لا يقول الإنسان: أوتيته بسبب أني تزوَّجت، وأتيتُ أهلي، والعلم لا يقول: أوتيته لأني سعيت فيه، والمال كذلك لا يقول: أوتيته لأني سعيت فيه؛ لأن الجميع من فضل الله، فتوفيقكَ للسعي في هذا الأمر من فضل الله، ثم حصول النتيجة التي كنت ترجوها من فضل الله، فكم مِن إنسانٍ خُذل فلم يسعَ، وكم مِن إنسانٍ سعى ولم يحصل على ثمرة، فأصل السعي والثمرة كلها من الله، ولهذا قال:{بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
5 -
تحذير الباخلين من البخل؛ لقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} .
6 -
أن الإنسان قد يُزيَّن له سوء عمله فيظنه حسنًا، فالبخل خلق سيئ وعمل سيئ قد يُزيَّن للإنسان فيبخل مع أنه من الأعمال السيئة، والأخلاق السيئة.
7 -
إثبات الجزاء، بل إثبات العقوبة العظيمة على هؤلاء الباخلين، وهي أنهم يطوَّقون به يوم القيامة، حين لا ينفعهم الندم ولا يمكنهم الخلاص.
8 -
تحقُّق وقوع الجزاء؛ لقوله: {سَيُطَوَّقُونَ} وذلك بواسطة السين.
9 -
إقامة الحجة على أن هذا البخل ليس بنافعٍ أصحابه،
مأخوذ من قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فبخلهم لن يُخلِّدهم في الدنيا، ولن يخلَّد المال لهم، بل هم سوف يجازون عليه، وسوف ينتقل المال منهم إلى ورثتهم، ومن ورثتهم إلى الآخرين حتى ينتهي الأمر إلى الله عز وجل.
10 -
إثبات علم الله عز وجل؛ لقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، {بِمَا يَعْمَلُونَ} ، و {بِمَا تَعْمَلُونَ} قراءتان. (خبير) لأن الخِبرة كما قال العلماء: هي العلم ببواطن الأمور، ومن المعلوم أن العليم ببواطن الأمور عليم بظواهرها من باب أولى.
11 -
الإشارة إلى اسم الله "الآخر"، فإن الله هو الأول والآخر، وذلك من قوله:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فإذا ثبت إرثه لهما لزم منه أن يكون هو الآخر عز وجل.
* * *
• ثم قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181]:
القراءات في هذه الآية:
(سنكتب) و (قتل) و (الأنبياء) و (نقول).
كل واحدة منها فيها قراءتان: فقوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ
…
} تقرأ: {سَنَكْتُبُ} {وَنَقُولُ} : بالنون، وبناءً على هذه القراءة تكون (ما) مبنية على السكون في محل نصب مفعولًا به، وتكون (قتلَ) معطوفة على المفعول به (ما)، والمعطوف على المنصوب منصوب.
وعلى القراءة الثانية (سيُكتب ما قالوا) تكون (ما) مبنية على
السكون في محل رفع نائب فاعل، وتكون (قتلُ) معطوفًا على نائب فاعل فتكون بالرفع، وعليه فلا يجوز أن تقرأ (وسنكتب ما قالوا وقتلُهم الأنبياء بغير حق) برفع (قتل) لأنه لا يُرفع إلا إذا قرأنا (سيُكتب ما قالوا وقتلُهم الأنبياء بغير حق ويقول). (يقول) بالياء توافق قراءة (سيُكتب).
أما الأنبياء ففيها قراءتان: "الأنبئاء" و"الأنبياء" .. بالياء كما في "النبيين" وبالهمزة كما في "النبئين".
فعلى قراءة (الأنبئاء) تكون من (النبأ) بالهمز، وهو الخبر. وعلى قراءة الياء تكون من (النَّبْوة) وهي الارتفاع.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} :
أكد الله هذا الخبر بثلاثة مؤكدات:
الأول: القَسم المقدَّر؛ لأن اللام هنا واقعة في جواب قسم.
والثاني: (قد).
والثالث: اللام في قوله: {لَقَدْ سَمِعَ} .
وإنما أكده سبحانه وتعالى للمبالغة في تهديد هؤلاء، وأما نحن المؤمنين فإننا نعلم أنه بمجرد ما يُخبرنا عن شيء فهو مؤكد، لكن من أجل تهديد هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} :
{سَمِعَ} هنا بمعنى: أدرك هذا القول جل وعلا، أي سمعه سماعًا، ولا نقول بأذنه لأنه لم يثبت لنفسه ذلك جل وعلا، ولأنه لا يلزم من السماع الأذن، بخلاف قولنا:(استوى على العرش).
فنقول: بذاته سبحانه وتعالى؛ لأن الله أضاف الفعل إلى نفسه، أما هنا فلا نقول سمع بأذنه؛ لأنه لا يلزم من السماع ثبوت الأذن، فها هي الأرض يوم القيامة تُحدِّث أخبارها، أي تُخبر عما فعل الناس عليها، أو عما قالوا عليها، مع أنه ليس لها أذن، والجلود والأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة على الإنسان بما عمل، وهي ليس لها آذان، إذن لا يجوز أن نقول: إن الله له أذن بناءً على أن الله أثبت له السمع، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم سبحانه وتعالى.
فإذا قال قائل: ألستم أثبتم لله عينًا؟ نقول: بلى. ولكن كيف أثبتنا؟ أهو من طريق أنه يرى أو من طريق أنه أثبت لنفسه عينين؟ الجواب: الثاني، فلولا أن الله أثبت لنفسه سبحانه وتعالى عينين ما جاز لنا أن نثبت العين، ولهذا نحن نؤمن أن الله يتكلم، ولكن لا نقول باللسان، لأن الله لم يُثبت ذلك لنفسه، ولا يلزم من الكلام ثبوت اللسان، بدليل أن الأرض تُحدِّث أخبارها، والجلود تشهد، ويقول صاحب الجلد لجلده: لِمَ شهدت عليَّ؟ فتقول: {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] ولا تقول: لي لسان وشفتان.
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} :
وهم أناس من اليهود منهم رجلٌ يسمى (فِنحاص) ولكن الله عز وجل في كتابه لا يذكر شيئًا خاصًا إلّا لسبب، لابد من تعيين الشخص، ولهذا لم يذكر الله عز وجل أحدًا باسمه في القرآن من هذه الأمة إلا رجلًا مؤمنًا ورجلًا كافرًا فقط. الرجل المؤمن زيد بن حارثة {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:
37]، والرجل الكافر من هذه الأمة أبو لهب؛ لأن الوصف أكثر فائدة لوجهين:
الأول: أنه قد تتغير حال المعيَّن، يكون بالأول فاسقًا ماردًا كافرًا، ثم يسلم ويتوب الله عليه، فإذا تاب ولم يذكر اسمه في القرآن كان أحسن مما لو ذكر، فإنه لو ذكر اسمه لبقي العار عليه ولو تاب.
الثاني: أنه أعمُّ؛ لأن تعليق الحكم بالوصف أعَمُّ من تعليقه بالشخص، ولهذا إذا عُلِّق الحكم بالشخص احتمل الخصوصية، وإذا قلنا بعمومهِ -بعموم الحكم المعلق بالشخص- فإنه ليس عمومًا شموليًا، ولكنه عمومٌ تمثيلي، يعني بالقياس، إذن ينبغي لنا في مثل هذه الأمور أن لا نعيِّن الشخص بعينه، فإذا أردنا مثلًا أن نتكلم على صحيفةٍ خبيثة فالأولى ألا نعينها بل نقول: قالت بعض الصحف، وإذا ذكرنا الكلام عُرف. أولًا: لأن الصحيفة قد تتغير، والثاني: أنه إذا حصرنا وعينَّا فقد يفهم السامع أنه لا يوجد سوى هذه الصحيفة، ولكن إذا عمَّمنا وجعلنا الحكم معلقًا بالوصف شمل غيرها، وصار هذا أنفع، وهذه مسألة دل عليها القرآن وكذلك السنة أيضًا تدل عليها، كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول: ما بال فلان يقول كذا؟ بل كان يقول: ما بال أقوام، من أجل الفائدتين اللتين أشرنا إليهما.
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} :
هؤلاء هم اليهود، وسبب قولهم هذا أن الله قال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] فرحت اليهود بهذا وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا محمد، إن ربك
قد افتقر لأنه يطلب القرض منا -نسأل الله العافية- ولم يعلم هؤلاء البلهاء إن كانوا صادقين فيما ادّعوا وهم كاذبون في هذا، لكن تنزلًا معهم نقول: إن الله عز وجل جعل الإنفاق في سبيله له بمنزلة القرض إشعارًا للمنفق بأنه سوف يجازى عليه، كما أن المقترض يجب عليه أن يوفي مقرضه، فهكذا جعل الله العمل له بمنزلة القرض تفضلًا منه عز وجل وإحسانًا للعباد، واليهود لا يُستغربُ منهم أن يصفوا الله بمثل هذا، فهم قالوا: يد الله مغلولة، فوصفوه بالبخل، وهم قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم تعب واستراح يوم السبت، ولهذا يجعلون يوم السبت هو يوم الراحة عندهم -قاتلهم الله- وهم كاذبون في هذا، قال الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38].
قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} وليتهم اقتصروا على هذا القول -مع كونه من أعظم المناكر- لكنهم قالوا: (ونحن أغنياء) فجعلوا أنفسهم أكمل من الله، وهذا غاية ما يكون من الوقاحة.
قال تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} :
وإضافة الكتابة إليه لأن جنوده يكتبون ذلك، ودليل هذا قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الإنفطار: 9 - 11]، وقوله تعالى وهي أصرح:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، إذن الكتابة هنا كتابة الله عز وجل بملائكته؛ لأنهم يكتبون
بأمره وهم جنده، كما يقول القائد: فعلت كذا، والفاعل الجنود، فالملك والسلطان يتكلم بالشيء مضيفًا إياه إلى نفسه لأنه حصل بأمره وسلطته، إذن سنكتب ما قالوا بملائكتنا، والله عز وجل أحيانًا يضيف الشيء إلى نفسه مريدًا به الملائكة مثل قوله تعالى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 - 85]، أقرب إليه بالملائكة ولهذا قال:{وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} مما يدل على أنه أي: القريب في نفس المكان لكننا لا نبصره، وهم الملائكة. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] الراجح فيها أن المراد أقرب إليه بملائكتنا بدليل قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]، وهذا ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كلامه، منها كلامه في شرح حديث النزول وهو مشهور ومتداول.
يقول: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} :
هل هو لمجرد الاطلاع عليه أو للمجازاة؟ الجواب: للمجازاة بدليل ما يأتي في آخر الآية قال: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ذكر قتل الأنبياء بغير حق مع أنهم لم يقولوا: إنا قتلنا الأنبياء، لكن ليبين أن هؤلاء اعتدوا على حق الله وعلى حق رسله وأنبيائه، فقتلوا الأنبياء بغير حق، وهو شامل لقتل الأنبياء والرسل؛ لأن كل رسول نبي.
قاعدة: وهي أن الأنبياء المذكورين في القرآن رسلٌ، فما نجد نبيًّا ذُكر في القرآن إلا وهو رسول، والدليل على ذلك من
القرآن قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، فإن استقام هذا فالأمر واضح، وإن لم يستقم فنقُل: إن المقصود بهم الأنبياء الذين لم يوحَ إليهم بشرع جديد يُبلِّغونه الناس.
وقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} : (بغير حق) هذا قيد كاشف وليس احترازي، يعني أن قتلهم للأنبياء بغير حق، وليس المعنى أن الأنبياء ينقسم قَتْلهم إلى قَتْلٍ بحق وقَتْلٍ بغير حق، فكل قَتْلٍ للأنبياء إنما هو بغير حق، ومع ذلك لا يقتلون النبي لشخصه، وإنما يقتلونه لما جاء به من الحق أي أنهم يقتلونهم لكونهم أنبياء. ففي هذا القيد فائدتان: الأولى: بيان الواقع، فهي صفة كاشفة. والثانية: المبالغة في التشنيع عليهم، فإنهم يقتلونهم بغير حق.
وقوله: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} :
وذلك يوم القيامة أو في القبر أيضًا، والقول هنا:{ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} يقصد به الإهانة والإذلال وإلا فإنهم سيذوقون عذاب الحريق، قيل لهم ذلك أم لم يُقل، فهو حق.
ومن هذا الباب قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. يقال له: وهو يعذب في النار: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} إهانة له، أي: أن عزك وكرمك لم ينفعك.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إثبات سمع الله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} ، والسمع هنا بمعنى إدراك الصوت وإن خفي.
والمراد به هنا (التهديد)، والعلماء رحمهم الله قسَّموا سمع الله عز وجل إلى قسمين:
الأول: بمعنى الاستجابة.
والثاني: بمعنى إدراك الأصوات.
أما السمع بمعنى الاستجابة فهو كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]، {سَمِعْنَا}: يعني بآذانهم، {وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}: أي لا يستجيبون.
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا} [التغابن: 16]"اسمعوا" يعني سمعَ استجابةٍ. ومنه قوله تعالى عن إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] أي لمستجيب الدعاء.
وهذا القسم من السمع معلوم أنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلَّق بمشيئة الله.
والقسم الثاني من السمع: سمع الإدراك، قالوا: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم يُراد به التهديد، وقسم يُراد به التأييد، وقسم يُراد به بيان الإحاطة والشمول لسمع الله، فأما الذي يراد به التأييد كقوله تعالى لموسى:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، والمراد بالسمع هنا التأييد، وقد يقول قائل: والتهديد بالنسبة إلى فرعون. وأما ما يراد به التهديد فمثل هذه الآية: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} .
وأما الذي يراد به بيان شمول علم الله وسمعه فمثل قوله
تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] قالت عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كنت في طرف الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها، والله عز وجل فوق عرشه فوق سبع سموات يسمع كلام هذه المرأة
(1)
، {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1]، أي تحاور الرسول والمرأة سمعه الله.
2 -
بيان ما عليه اليهود من الوقاحة والعدوان حيث اعتدوا على الربِّ عز وجل بوصفهم إياه بأنه فقير.
3 -
أنهم لشدة عتوِّهم وبغيهم لم يقتصروا على أن وصفوا الله بأنه فقير، بل قالوا: ونحن أغنياء، فهم بذلك أثبتوا الكمال لأنفسهم والنقص لله عز وجل.
4 -
إثبات الكتابة لله عز وجل في قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} ، ولكننا ذكرنا أن المراد هنا الملائكة التي تكتب بأمره، وذكرنا لهذا دليلًا:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
5 -
أن اليهود كما اعتدوا على الله اعتدوا أيضًا على رسل الله، فقتلوا الأنبياء بغير حق، فصار منهم عدوان على مقام التوحيد ومقام الرسالة، فلم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله ولا أنَّ رسلَ الله رسلُ الله.
6 -
إثبات القول لله عز وجل في قوله: {وَنَقُولُ ذُوقُوا
(1)
انظر: سنن النسائي، كتاب الطلاق، باب الظهار، رقم (3460). ورواه ابن ماجه، في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم (188). ورواه أحمد في مسنده، رقم (23675).
عَذَابَ الْحَرِيقِ} والله سبحانه وتعالى قد ثبت له القول بإجماع السلف أن يقول ويتكلم بكلام حقيقي بحرف وصوت مسموع، وهذا الكلام صفة من صفات الله ليس بمخلوق.
وقالت المعتزلة والجهمية: أنه خَلْقٌ من مخلوقاته، هو كلامه لكنه خلق من مخلوقاته.
وقالت الأشاعرة ومن ضاهاهم: إنه لا يتكلم بكلام مسموع، وكلامه هو الكلام القائم بنفسه والذي يسمع عبارة عنه أو حكاية، وهو مخلوق فالمسموع مخلوق.
وقد ذكر ابن القيم أن شيخ الإسلام رحمهما الله أبطل هذا القول من تسعين وجهًا في رسالة تسمى "التسعينية".
7 -
أن هؤلاء سوف يذوقون العذاب بالألم البدني والألم النفسي في قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، ففي الحريق: ألم بدني وفي قوله (ذوقوا): ألم نفسي؛ لأن هذا توبيخ وإهانة، فالأمر هنا للتوبيخ والإهانة.
8 -
الردُّ على من قال: إن أهل النار لا يذوقون العذاب؛ لأن أجسامهم تأخذ على النار وتتكيف بها، فيصبحون لا يذوقون ألمًا؛ لقوله:{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
9 -
بيان قدرة الله عز وجل حيث يحترق هؤلاء وتنضج جلودهم، وكلما نضجت جلودهم بُدِّلوا جلودًا غيرها، ومع ذلك لا يموتون مع أن مثل هذا الحريق لو أصاب أحدًا في الدنيا لهلك كما قال سبحانه:{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13]، فلا يموت ويستريح ولا يحيا حياة هنيئة.
• ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182]:
هذا من تمام قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: يقال لهم زيادةً في التوبيخ والندم والحسرة ذلك، أي ما أصابهم من العذاب والتوبيخ، فالمشار إليه ما سبق في قوله:{ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، وهنا قال:(ذلك) مع أنه يتحدَّث عن جماعة وأتى بكاف الخطاب المفردة؛ لأنه مرَّ علينا قريبًا أن اسم الإشارة بحسب المشار إليه، وأن الكاف بحسب المخاطب على اللغة الفصحى، أو هي بفتح الكاف مفردة للمذكر وبكسرها مفردةً للمؤنث، أو هي بفتح الكاف المطلقة، وكلها لغات، لكن الأكثر أنها بحسب المخاطب.
قال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} :
أي بسبب، فالباء هنا للسببية. و (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي بالَّذي، وقوله:{قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} : أي في الدنيا. والمراد بالأيدي هنا أنفسهم، لكن أُضيف العمل أو المقدَّم بالأيدي؛ لأن الغالب أن الأيدي هي محل البطش والعمل، وإلا فمن المعلوم أنه قد قدَّمت أيديهم وألسنتهم وأرجلهم، فكلها عملت بالشرك.
قال: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} :
{وَأَنَّ} هنا بالفتح عطفا على (ما) في قوله {بِمَا قَدَّمَتْ} أي: وذلك بأن الله ليس بظلّامٍ للعبيد.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ} ، (ظلّام) على صيغة المبالغة، ولكنها في نفس الوقت على صيغة النسبة، والفرق بينهما:
أن صيغة المبالغة تدلُّ على الكثرة، والنسبة تشمل الكثرة والقلَّة، فهل المراد هنا صيغة المبالغة أم النسبة؟ المراد النسبة، لأننا لو قلنا: إن المراد بذلك صيغة المبالغة لكان المنفي كثرة الظلم، مع أن الله لا يظلم مثقال ذرَّة، وعلى هذا فنقول:(ظلَّام) هنا نسبة، أي: ليس بذي ظلم، كما نقول: فلان ليس نجارًا، يعني: ليس بذي نجارة، أي ليس منسوبًا إلى النجارين.
وقوله: {لِلْعَبِيدِ} جمع عبد، وعبد: اسم مفرد، وهو من أكثر المفردات جموعًا، وله جموعٌ متعدِّدة كثيرة، مثل:(شيخ) اسم مفرد له جموع كثيرة تصل إلى عشرة جموع.
و(العبيد) هنا: المراد بهم: العبيد كونًا. فهو لا يظلم أحدًا من العبيد كونًا، وإنما قلنا كونًا لندفع أن المراد بذلك العبيد شرعًا، وهم المتعبِّدون لله، فالعبودية في هذه الآية هي العبودية العامة والشاملة للكافر والمؤمن، فالله لا يظلم كافرًا، ولا يظلم مؤمنًا، بل يُجازي كل إنسان بعمله.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
إثبات الأسباب، وتؤخذ من قوله تعالى:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} .
2 -
نفي الظلم عن الله عز وجل في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وهنا نقف لنبيِّن أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالإثبات وموصوفٌ بالنفي، أما الإثبات: فإن الله عز وجل وصف نفسه بإثبات كل صفة كمال، فكل صفة كمال فهي ثابتة لله عز وجل، وميزان الكمال نصوص الكتاب والسنة، ولهذا نحن لا نحكم على الله فنقول: هذه صفة لائقة بالله عز وجل، وهذه صفة
غير لائقة به، بل المرجع في هذا إلى الكتاب والسنة في التفصيل، أما في الإجمال، فالعقل يدل على أن الربَّ لابد أن يكون كاملًا.
أما الصفات المنفية: فإنه لا يُراد بها مجرد النفي، بل المراد انتفاء هذه الصفة لثبوت كمال الضد، فإذا نفى أن يكون ظلّامًا للعبيد فذلك لكمال عدله، وإذا نفى أن تأخذه سِنةٌ ولا نوم فذلك لكمال حياته وقيوميته، وإذا نفى أن يصيبه لغوب فذلك لكمال قوته، وهكذا، ويجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يوجد في صفات الله نفيٌ مجرَّد، وهذه قاعدة:(لا يوجد في صفات الله نفي مجرَّد) والدليل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] والنفي المجرد ليس مثلًا أعلى، المثل الأعلى أي: الوصف الأعلى والأكمل، والنفي المجرد عدم، والعدم ليس بشيء فضلًا عن أن يكون وصفًا أعلى.
ثانيًا: أن النفي المحض قد يكون لعجزِ الموصوف عنه، وقد يكون لعدم قابليته لهذا المنفي، أي معناه: نفينا عنه هذا الشيء لأنه عاجز لا يستطيع أن يفعل هذا الشيء الذي نفيناه عنه، وقد يكون لعدم قابليته لهذا الشيء، فمثلًا: إذا قال قائل: فلان رجل حُبَيِّب لا يظلم الناس ولا يعتدي عليهم، نعرف من هذا الكلام عجزه، ولهذا قلنا:(حُبيب)، و (حبيب) عند الناس كلمة تصغير وتحقير، وهذا كقول الشاعر:
قُبَيِّلة لا يغدرون بذمَّةٍ
…
ولا يظلمون الناس حبَّة خردلِ
وقد يكون النفي لا يتضمن كمالًا، كأن يكون لعدم القابلية، يعني أن ما نفي عنه هذا الوصف ليس لكماله ولكنه لا يقبل هذا
الوصف ولا يقدر عليه، وقد مثَّل العلماء لذلك بأن تقول: إن جداري لا يظلم، فقولك: الجدار لا يظلم ليس بمدح؛ لأنه لو أراد أن يظلم لم يقدر.
فالقاعدة: أنه (لا يوجد في صفات الله نفي محض، بل كل ما نفى الله عن نفسه فهو متضمِّنٌ لكمالٍ).
3 -
أن الله يخبر عما يخبر من صفاته لتطمين الخلق؛ لقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} حتى يطمئن الإنسان أنه لن يجازى إلا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.
4 -
جواز إطلاق البعض على الكل إذا وجدت قرينة تدل عليه؛ لقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} فاليد بعض من الإنسان لكن (القرينة) تدل على أن المراد الكل يعني (بما قدمتم)، ونظيرها في صفات الله قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، هل نقول: إن الله خلق الإبل مثلًا بيده كما خلق آدم؟ الجواب: لا، فيكون المراد:(مما عملت أيدينا) أي: مِمَّا عملنا؛ لأن الله لم يخلق الإبل بيده كما خلق آدم، ولكن لا يعني هذا أن الآية ليس فيها دلالة على ثبوت اليد لله، بل فيها دلالة على ثبوت اليد لله تعالى؛ لأنه لولا أن له يدًا ما صحَّ أن يضيفها إلى نفسه.
5 -
ومن فوائدها: إمكان الظلم من الله لولا أن الله نفاه عن نفسه في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، لأنه لو كان الظلم غير ممكن في حقِّه، لم يصح أن يمتدح بتركه عز وجل، إذ لا يتمدَّح بترك شيء إلا إذا كان تَرَكه اختيارًا، أما لو كان مستحيلًا في حقه، لم يكن للتمدُّح به فائدة، وبناءً على هذه
الفائدة يكون فيها ردٌّ على الجهمية الذين يقولون: (إن الظلم محالٌ على الله، محالٌ لذاته، لا لأن الله نفاه عن نفسه)، لأنهم يقولون:(إنه مهما تصرَّف فقد تصرف في ملكه، والمتصرِّف في ملكه يفعل ما يشاء، فالظلم عنده المحال لذاته). كما قال ابن القيِّم في النونية: "والظلم عندهم المحال لذاته".
ونحن نقول: الظلم ليس محالًا على الله لذاته، لو شاء الله أن يظلم لظلم، لكنه نفاه عن نفسه تمدُّحًا بذلك، ولذلك قال في الحديث القدسي:"إني حرَّمتُ الظلم على نفسي"
(1)
، وهذا يدلُّ على إمكانه منه، لكنه لا يفعله.
فإن قال قائل: قد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأرضه، لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم"
(2)
.
فالجواب: أن نقول: لا معارضة بين هذا الحديث وبين الآية؛ لأن الله لو عذَّبهم لم يمكن أن يُعذِّبهم وهو ظالمٌ لهم، إذن لا يُعذِّبهم إلا وهم مُستحقُّون للعذاب، وعلى هذا فيكون الحديث مُطابقًا للآية. أو يُقال من وجهٍ أخر:"لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأرضه، لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم" أي: إذا أراد أن يُناقش العباد فإن من نوقش الحساب عُذِّب؛ لأنه لو ناقشهم لكانتْ نعمةٌ واحدةٌ من نعمه تُقابل جميع أعمالهم، فحينئذٍ يستحقُّون أن يُعذبوا.
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 153).
(2)
رواه ابن ماجه، في المقدمة، باب في القدر، رقم (77). ورواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4699). ورواه أحمد في مسنده، رقم (21101).
فلنا في هذا الحديث مخرجان:
الأول: أنه يُعذِّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، أي لا يُعذِّبهم إلا لذنب، فيكون الحديث مطابقًا للآية.
والثاني: أن المراد بذلك مناقشة الحساب؛ لأن الله لو ناقشهم لكانتْ نعمة واحدة من نعمه سبحانه وتعالى تُحيط بجميع أعمالهم، فيبقون وليس لهم رصيد.
فإن قال قائل: هذه صفة سلبية كما يقولون، فهل توجد الصفات السلبية في صفات الله؟
فالجواب: نعم، ولكن المراد بالصفات السلبية: ثبوت كمال ضدِّها، فهو لا يظلم لا لعجزه عن الظلم، ولكن لكمال عدله.
* * *
• ثم قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183]:
هذا أيضًا من كذب هؤلاء اليهود، أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أي: أوصانا وصيةً موثقةً بالعهد. يُقال: عهِد إليه: أي أوصى إليه وصيَّةً موثقةً بالعهد، ومنه العهد بالولاية، أي: ولاية الحاكم إلى من بعده، فإنه يُوصي بالحكم إلى من بعده، مثل عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى عمر.
فمعنى عهِد إلينا، أي: أوصانا وصيَّةً مُثَبَّتة بالعهد {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} هكذا قالوا، وهذا من كذبهم كما سيأتي.
يقول: {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} أي: لرسول من عند الله.
{حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} :
وذلك بأن نُقرِّب قُربانًا من طعام أو بهائم أو لحم أو ثياب، ثم تنزل نار من السماء فتأكل هذا القربان، يعني أنهم حصروا الآيات التي يطلبونها من الرسول، بأن يأتي بنارٍ تأكل هذا القربان، وكانوا فيما سبق إذا غنموا غنائم من الكفار جمعوها ثم نزلت نارٌ من السماء فأكلتها حتى أُحلَّت الغنائم لهذه الأمة، فهؤلاء يقولون: لا نؤمن لرسول إلا إذا أتانا بهذه الآية فقط، وهي: أننا إذا قرَّبنا قربانًا أكلته النار.
فقال تعالى لرسوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} :
أي: قد جاءتكم رسلٌ بأكثر مما تدّعون الآن.
{بِالْبَيِّنَاتِ} : أي بالآيات البيِّنات التي تُبيِّن صدق رسالتهم.
{وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} : أي بالقربان الذي تأكله النار.
{فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} : أي ومع ذلك كذَّبتموهم وقتلتموهم.
فإن قال قائل: لماذا عَدَل الله عز وجل عن المطالبة بصدق ما ادَّعوه؟
قلنا: هذا من باب موافقة الخصم، يعني على فرض أن الأمر كما قلتم فقد اعتديْتم حتى فيما جيء به من مطلوبكم، فاعتديتم على الرسل. وهنا فائدة وهي: أن من ادَّعى دعوةً فإننا نُعامله بمراتب:
المرتبة الأولى: صحة ما قال.
المرتبة الثانية: مخالفته لما قال.
فهنا لم يُطالبهم الله بصحة ما قالوا من باب موافقة الخصم، وقولنا من باب موافقة الخصم أحسن من قولنا من باب التنزّل؛ لأن الذي معنا قرآن وإن قلنا: تنزّل فإنه بناء على العبارة المعروفة عند العلماء.
والمعنى أن يقول: هب أن الأمر كما قُلتم وأنه عهد إليكم ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار، فقد جاءكم رسولٌ بقربانٍ تأكله النار ومع ذلك قتلتموه، إذن فطلبكم هذه الآية المعيَّنة ليس عن صدق، لأنها قد جاءتكم ومع ذلك فقد كذَّبتم الرسل وقتلتموهم، فهنا عَدَل عن المطالبة بصحة الدعوى، من باب موافقة الخصم، أي أنكم لا تُريدون أن تُصدِّقوا الرسل، وإنما تُريدون تكذيبهم.
وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} :
أي الآيات البينات الدالة على رسالتهم وصدقهم {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} يعني: والذي قلتم دون البينات التي جاؤوا بها، بدليل أنه قدَّم قوله "بالبينات" فدلَّ هذا على أن ما قالوه وإن كان آية، لكنه دون البينات التي جاؤوا بها، لأنهم جاؤوا بأعظم من هذا، فمثلًا موسى عليه الصلاة والسلام جاء ببينة أعظم من ذلك: كان يلقي العصا فتكون حية، ويحملها فتكون عصا، وكان يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء لكن من غير عيب أو من غير برص، كذلك عيسى كان يخرج الأموات من القبور أحياء، أو يقف على الميت قبل أن يدفن فيحيا بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله
فينفخ فيه (فيكون طيرًا) أو (فيكون طائرًا) فيه قراءتان. يعني: يكون طيرًا طائرًا أيضًا بالفعل. أيهما أعظم: هذا أم أن تنزل من السماء نار تأكل القربان؟ الجواب: الأولى أعظم ولهذا قدَّمها.
{فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} : قوله: {فَلِمَ} الفاء: عاطف، و (لِمَ): اللام حرف جر و"ما" استفهامية، ومن قواعد الإملاء أن "ما" الاستفهامية إن دخل عليها حرف جر فإنها تحذف ألفها مثل: عَمّ - بِمَ - لِمَ. {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : في أنكم تقبلون الرسل إذا جاؤوا بهذه الآية.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجملة شرطية، وهل تحتاج إلى جواب أم لا؟ ذهب بعض العلماء إلى أنها لا تحتاج إلى جواب؛ لأن المعنى مفهوم بدونه، والجواب إنما يؤتى به ليتمم المعنى. وقال بعضهم: بل جوابها محذوف دلَّ عليه ما قبله، وعلى هذا الرأي يكون التقدير: إن كنتم صادقين فلم قتلتموهم، وإلى القول الأول ذهب ابن القيم رحمه الله في أن مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان تعنت اليهود الذين ردُّوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البينات بناءً على ما ادَّعوه من هذه الآية.
2 -
أنه ينبغي عند المخاصمة إفحام الخصم بما يدعيه؛ ليكون ذلك أبلغ في دحض حجَّته، ويؤخذ من قوله:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} لأنه إذا خوصم بما يقوله لم يبق له حجة، ومن ذلك مخاصمة شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله للرافضة وأهل التعطيل حيث يخاصمهم بما يقرّون به، فمثلًا: الأشاعرة أو المعتزلة -أهل التعطيل عمومًا- قالوا: إن المراد بآيات الصفات خلاف الظاهر؛ لأن العقل يمنع من الأخذ بظاهرها، فقالت الفلاسفة -أهل التخييل-: المراد بنصوص المعاد خلاف الظاهر لامتناع القول بظاهرها، أي: أنه لا يوجد بعثٌ ولا ربٌّ ولا جنةٌ ولا نارٌ، فبماذا ردَّ عليهم أهل التعطيل، وأهل التعطيل يقرون بالبعث واليوم الآخر؟ قالوا: إن كلامكم هذا غير مقبول، بل البعث حق واقع، وذلك لأننا علمنا أن الرسل جاءت به، وأن الشبهة المانعة منه فاسدة، الشبهة المانعة هي قول القائل:{مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]، فلزم القول بثبوته.
ونحن نقول لهم أيضًا: آيات الصفات علمنا بأن الرسل جاؤوا بها، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فوجب إثباتها، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن نصوص الصفات في الكتاب والسنة أكثر بكثير من نصوص المعاد؛ لأنك لا تكاد تجد آية في كتاب الله عز وجل إلا وتجد فيها اسمًا من أسماء الله أو صفة من صفاته، لذلك فإن إفحام الخصم بحجته أنكى وأقوى في خصمه، أي في أننا نخصمه ولا يستطيع أن يجادل بعد ذلك.
3 -
أن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بالبينات الدالة على رسالتهم ولابد من هذا عقلًا كما هو واقع شرعًا، وذلك أنه لو جاء رسول من البشر يقول: أنا رسول الله إليكم أدعوكم إلى كذا وأمنعكم من كذا ومن خالفني قاتلته، فإنه لا يقبل ذلك إلا ببينة تشهد لما قال، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما
من نبي من الأنبياء إلا أُعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"
(1)
، فقال: ما من رسول إلا آتاه الله ما على مثله يؤمن البشر، وهذا لابد منه.
4 -
إقامة الحجة على هؤلاء الذين ادعوا هذه الدعوى؛ لأنهم قتلوا الأنبياء الذين جاؤوا بما قالوه.
* * *
• ثم قال تعالى مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 184]:
وفيها قراءة (وبالزبر والكتاب) أي زيادة الباء.
يقول الله عز وجل: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والفاعل قريش وأهل الكتاب وكل من كذَّب الرسل.
{فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} :
{فَقَدْ} : الفاء: واقعة في جواب الشرط؛ لأنه مقرون بقد.
{فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} وفي آية أخرى: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] فلماذا جاء التذكير والتأنيث؟
نقول: لأن رسل جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز فيه ثبوت التاء وحذفها، قال ابن مالك:
والتاء مع جمعٍ سوى السالم
…
من مذكر كالتاء مع إحدى اللَّبن
(1)
رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، رقم (4981).
مع إحدى اللَّبِن: اللّبن إحداها لبنة، فاللبنة تذكر وتؤنث، وجميع الجموع تؤنث وتذكر ما عدا جمع المذكر السالم على رأي ابن مالك، ويضاف إليها على رأي ابن هشام جمع المؤنث السالم، ويقابله من قال بأن جميع الجموع يجوز تذكيرها وتأنيثها حتى السالم من مذكر أو مؤنث، ومنه قول الزمخشري رحمه الله يردُّ به على أعدائه يقول: لا أبالي بجمعكم كل جمع مؤنث. فالمؤنث لا يقابل الرجال، الشاهد قوله: كل جمع مؤنث. والذي يظهر -والله أعلم- أن الرأي الصحيح رأي ابن هشام؛ أن السالم من جمع المذكر يجب تذكيره، ومن الجمع المؤنث يجب تأنيثه، وأما جمع التكسير فيجوز فيه التذكير والتأنيث، لذا قال هنا {فَقَدْ كُذِّبَ} وفي آية أخرى {فَقَدْ كَذَّبَتْ} .
وقوله: {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الرسول كما مرَّ علينا كثيرًا هو الذي أوحي إليه بالشرع وأُمر بالتبليغ.
وجملة: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} يجوز أن تكون صفة للرسل، ويجوز أن تكون حالًا، أما جواز أن تكون صفة فظاهر؛ لأن (رسل) منكَّر، فالذي يأتي بعده يكون صفة، وأما جواز كونه حالًا مع أن الذي قبلها منكر فلأن هذه النكرة وُصفت، وإذا وُصفت النكرة جاز وقوع الحال منها؛ لأنها إذا وُصفت تخصَّصت.
{جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} (البينات) هي: الآيات البيِّنات الشرعية والكونية، فالآيات الشرعية هي الكتب التي جاءوا بها، والآيات الكونية هي ما يُسمَّى بالمعجزات الحسِّية.
{وَالزُّبُرِ} جمع زبور، والمراد به ما اشتمل على المواعظ
والزواجر، ولهذا كان الزبور الذي أوتيه داود أكثره مواعظ وزواجر.
{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : (الكتاب) بمعنى المكتوب، و (المنير) بمعنى المنير للظلمات.
وهذا العطف الذي في قوله: {وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} هذا من باب عطف الصفة على الصفة الأخرى؛ لأن الزبر تتضمَّن الكتاب المنير، وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في القرآن، ومنه:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 1 - 4]. فقوله: {وَالَّذِي قَدَّر} هذا من باب عطف الصفات، و (الذي أخرج المرعى) أيضًا من باب عطف الصفات، فالتغاير تغاير صفة وليس تغاير ذات.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتفرَّع عليها أن يتسلى الإنسان في كل ما أصاب غيره، فمثلًا: الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر قد يؤذى فليتسلى بأذيَّة غيره؛ لأن الإنسان إذا علم أن غيره أُصيب بما أُصيب به لا شك أنه ينسى الحزن، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخرًا:
ولولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أسُلِّي النفس عنه بالتأسي
الشاهد هنا قولها: "أُسلِّي النفس عنه بالتأسي"، فالإنسان إذا نظر يمينًا وشمالًا، وإذا هذا مصاب بعقله، وهذا مصاب ببدنه، وهذا مصاب بأهله، وهذا مصاب بماله؛ يتسلَّى.
كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال الله له: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ
قَبْلِكَ}، لا شك أنه تهون عليه المصيبة وأنه يتسلى بذلك؛ لأنه بشر يلحقه من أحكام البشرية ما يلحق غيره.
2 -
أن الرسل يؤذون بالتكذيب، ولا أظن أن شيئًا أشق على النفس من التكذيب فيمن جاء بالصدق. والإنسان يكاد يتقطَّع إذا أَخبر بشيء صدقٍ ثم قيل له: كذبت، فكيف وهُم من عند الله عز وجل مؤيدون بآياته، لا شك أنها شديدة عليهم ولكنهم يصبرون عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: 34]، يعني: وعلى ما أوذوا، أو معطوفة على كذبت أي: وحصل لهم الأذية أيضأ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم النصر.
3 -
أن الرسل لابد أن يؤيدوا بالبينات؛ لقوله: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} .
4 -
أن الرسل السابقين كلهم جاؤوا بكتاب، ما من رسولٍ إلا ومعه كتاب، ويؤيد هذا قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وذلك لأنه لابد لكل رسولٍ من شريعة، والشريعة إنما تكون بما يكتب سواءً نزلت وحيًا ثم كتبت، أو نزلت مكتوبة كالتوراة، فإن الله كتبها بيده وأنزلها عز وجل.
5 -
أن الكتب السابقة ككتابنا كلها تنير الطريق لمن أراد المسير، ولكن أعظمها إنارة هو هذا القرآن الكريم، ولهذا كان مهيمنًا على ما سبق من الكتب، فكل الكتب التي سبقت منسوخة به.
• ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]:
{كُلُّ نَفْسٍ} : "كلّ" من صيغ العموم، والنفس قد يراد بها الروح، وقد يراد بها البدن بالروح، وكلاهما صحيح، فالموت يذوقه البدن وتذوقه الروح.
وقوله: {ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي ذائقة طعمه أي: لابد أن تموت، ولكن الله عبَّر بالذوق لأنه أبلغ في الحصول؛ لأن الذوق يحصل به حق اليقين، وقد قسَّم العلماء اليقين إلى ثلاث درجات: علم، وعين، وحق، فالعلم بالخبر، والعين بالمشاهدة، والحق بالذوق.
فإن قال قائلٌ: هذه تفاحة وقد أخفاها في كيس، والقائل صدوق، فهذا تسميه: علم اليقين، فإذا كشفها فهو عين اليقين، فإذا أكلها المُخبر فهو حقُّ اليقين، ولهذا عبر بالذائقة؛ لأن الموت حق لابد لكل حيٍّ من موت، إلا الحي القيوم عز وجل.
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ} : هل المراد من بني آدم ومن الجن ممن على الأرض، بحيث نقول: إن الملائكة لا يموتون؟
الجواب: لا. كل أحدٍ يموت، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] ذكر العلماء أنه يستثنى من هذا من لا يموت ممن خُلقوا للبقاء كالولدان الذين في الجنة والحور اللّاتي في الجنة، فإنهم خلقوا للبقاء فلا يموتون. أما الملائكة وجميع الخلق فإنهم يموتون.
وقوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
هذه حصر، يعني: لا توفَّون أجوركم إلا يوم القيامة، والمراد بالتوفية هنا: توفيَة الكمال، وإلا فإن الإنسان قد يوفَّى أجره في الدنيا ويُدَّخر له أيضًا زيادة على ذلك، والكافر أيضًا يوفَّى أجره في الدنيا، مثل ما عمل من خير فإنه يُطعم به في الدنيا، لكن في الآخرة ليس له خلاق.
وقوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بعد قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} قد يُشعر بأن المراد بيوم القيامة هنا ما هو أعم من القيامة الكبرى، فيشمل القيامة الصغرى التي تكون لكل موجود من ذوات النفوس.
وقال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} :
{زُحْزِحَ} : أي دُفع ببطء، وذلك لأن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- محفوفةٌ بالشهوات، والشهوات تميلُ إليها النفوس، فلا يكاد الإنسان ينصرف عن هذه الشهوات إلا بزحزحة؛ لأنه يُقبل عليها بقوَّة، لهذا قال {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} أي دُفع عنها بمشقَّةٍ وشدَّة.
{وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} : لأنه نجا من المرهوب وحصل على المطلوب.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} :
(ما) هذه نافية، ولم تعمل عمل (ليس) لأن النفي انتقض، وإذا انتقض النفي بطُل عمله كما قال ابن مالك:"مع بقا النفي. . ."، فإن انتقض فهي مهملة.
وقوله: {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وصفُ هذه بالدنيا لوجهين:
الوجه الأول: لدنوِّها زمنًا، والوجه الثاني: لدنوِّها قدرًا.
أما دنوها زمنًا فظاهر؛ لأنها قبل الآخرة، وأما دنوها قدرًا فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
(1)
.
(موضع السوط): لعله يقارب المتر، (خير من الدنيا وما فيها)، من الدنيا: ليست دنياك التي أنت فيها، وليست دنياك الخاصة بك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها. إذن فالحياة هذه بالنسبة للآخرة دانية، من الدنو وهو الانحطاط.
وقوله: {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} : أي إلا متعة تغر صاحبها وتخدعه، وكم من أناس زُيِّنت لهم الدنيا فانخدعوا بها، وكان مآلهم إلى وادٍ سحيق -والعياذ بالله- لأنهم اغتروا بها.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الموت حقٌّ لابد منه؛ لقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
2 -
حث الإنسان على المبادرة للعمل الصالح؛ لأنه إذا كان ميتًا ولا محالة وهو لا يدري متى يموت، فإن العقل كالشرع يقتضي أن يبادر ولاسيَّما في قضاء الواجبات والتخلي عن المظالم. فلا تُهْمِلْ ولا تؤخِّر، فإن التأخير له آفات، كثيرًا ما يقول الإنسان: أنا سأفعل هذا غدًا ولكن يتهاون، ثم يأتي غد وما بعده، ويضيع عليه الوقت.
3 -
أن كمال الأجر إنما يكون يوم القيامة؛ لقوله: {وَإِنَّمَا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، رقم (2892).
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. والتوفية تقتضي أن هناك شيئًا سابقًا يُزاد، وهو كذلك، فإن الإنسان قد يُثاب في الدنيا على عمله، ولاسيَّما الإحسان إلى الخلق، وقضاء حوائجهم؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"
(1)
وقال: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"
(2)
.
4 -
إثبات يوم القيامة؛ لقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وسُمِّي يوم القيامة لأنه يقوم الناس فيه لربِّ العالمين، ويقوم الأشهاد، ويُقام فيه القسط، وأدلة هذا معروفة: قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال سبحانه وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].
5 -
أنه لا يكمل الفوز إلا بأمرين: أن يُزحزح الإنسان عن النار، وأن يُدخل الجنة، ومعلوم أن من زُحزح عن النار فلابد أن يُدخل الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا داران فقط: إما النار وإما الجنة، وقد بيَّن النبي في الحديث الصحيح ما يحصل به هذا الثواب العظيم مِن الزحزحة عن النار وإدخال الجنة، فقال: "من أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيَّته وهو يؤمن بالله
(1)
رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم (2699).
(2)
رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم (2442). ورواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2580).
واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يُؤتى إليه"
(1)
.. فذكرَ حقَّ الله وحقَّ العباد، فمن وجد من نفسه هذين الوصفين: الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنه يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه، فليبشر بهذا.
6 -
هل تدلُّ على أن الله لا يُرى في الجنة؟ الجواب: أنه لا يوجد نفي ولا إثبات، ولكن الزمخشري رحمه الله في تفسيره قال:(أي فوزٍ أعظم من أن يُزحزح الإنسان عن النار ويُدخل الجنة) .. يُريد بذلك نفي الرؤيا، فنقول له: إذا دخل الإنسان الجنة فإنه سيرى ربَّه، وتكون رؤيته لربه أعظم النعيم، فليس في الآية ما يدل على نفي الرؤية إطلاقًا، وإذا لم يكن فيها دليل على نفي الرؤية، فإن هناك نصوصًا من القرآن والسنة تدلُّ على ثبوت الرؤية، والمؤمن هو الذي لا يتتبع المتشابه من القرآن بل يتَّبع المحكم، ويحمل عليه المتشابه. والمحكم مثل الآيات الواضحات، والمتشابه مثل الآيات التي وقع فيها الخلاف بين العلماء.
7 -
التزهيد في الدنيا؛ لقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
8 -
أنه يجب على الإنسان الحذر من مغبَّة الدنيا وغرورها، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتُنافسوها كما تنَافسها مَن قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم. ."
(2)
.
(1)
رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول، رقم (1844).
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرًا، رقم (4015).
وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام فإن هذا هو الخوف، وانظروا الآن لمَّا فُتِحت الدنيا على الناس حصل الهلاك، بل حتى الذين لم تُفتح عليهم إذا سمعوا من فُتحت عليهم هلكوا.
* * *
• قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]:
قوله: {لَتُبْلَوُنَّ} : هذه الجملة مؤكَّدة كما هو معلوم بثلاثة مؤكدات:
لام التوكيد، واللام، والقسم المقدر؛ لأن اللام هذه موطأة للقسم أي (والله لتبلون).
والابتلاء: الاختبار، والله سبحانه أحيانًا يختبر بخير وأحيانًا يختبر بِشَرِّ كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وكما قال تعالى عن سليمان:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، وذلك أن الإنسان دائر بين حالين إما شيء يسر به ويفرح به، فهذا وظيفته الشكر، وإما شيء يسوؤه ويحزنه فهذا وظيفته الصبر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له" وقال: "ذلك لا يكون إلا للمؤمن"
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه (ص 444).
هنا يقول عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} :
(في أموالكم): إما من قِبَل الله عز وجل كالجوائح، وإما من قِبل المخلوقين كتسلط المشركين على أموال المسلمين، وكل ذلك من البلاء الذي يبتلي الله به العباد.
وقوله: {وَأَنْفُسِكُمْ} يشمل أيضًا البلوى المتصلة والمنفصلة.
البلوى المتصلة: ما يحصل على الإنسان من بلوى من الله عز وجل في بدنه مثل: المرض والعجز وما أشبه ذلك.
والبلوى المنفصلة: ما تكون في الأولاد؛ لأن الأولاد من أنفسنا، يبتلى الإنسان في ولده، أو في أهله، أو في زوجته، أو في غير ذلك، وهذا أيضًا من الابتلاء، ثم إن الابتلاء الذي يكون إما من الله وإما من المخلوق، فيبتلى الإنسان في نفسه من المخلوقين يؤذونه أحيانًا بالضرب، وأحيانًا بالقول، وأحيانًا بالقتل، كما قتلوا الأنبياء بغير حق.
قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ} فعل مضارع متصل بنون التوكيد، ومع ذلك كان مرفوعًا، والمعروف أن الفعل المضارع إذا اتصل بنون التوكيد يبنى على الفتح، وذلك أن الاتصال يجب أن يكون لفظًا وتقديرًا، وهذه متصلة لفظًا لا تقديرًا؛ لأن الأصل فيها (لتسمعونن) فهنا واو ونون محذوفتان.
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : وهم اليهود والنصارى.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : وهم الوثنيون كقريش وغيرهم.
تسمعن منهم أذىً كثيرًا بالقول، لأنه هو الذي يُسمع، مثل أن يعيّروكم أو يسبّوا دينكم، أو يسبّوا نبيكم، وقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وقالوا: إنه مجنون {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] وقالوا: إنه كاهن، ووصفوه بكل عيب، ولا شك أن هذا يؤذي المؤمنين، ويؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن وظيفتنا نحو هذا الأمر الصبر، ولهذا قال:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
وقوله: {أَذًى كَثِيرًا} يعني: وأذى قليلًا، لكن الأذى الكثير أشد على الإنسان من الأذى القليل، ومع ذلك فإنه مأمور بالصبر فيه، ولهذا قال:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
وتأمّل (ولتسمعن أذىً) ولم يقل ضررًا؛ لأن هذا الذي نسمع يؤذينا ولكن لا يضرنا.
قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وهنا فرق بين الأذية وبين الضرر، قد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر منه، ولهذا أثبت الله سبحانه وتعالى أن عباده يؤذونه، أي من عباده من يؤذيه، ونفى أن يكون أحدٌ يضره، فقال الله عز وجل في الحديث القدسي:"يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"
(1)
، وقال:{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]
(1)
تقدم تخريجه في الحديث القدسي الطويل: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي. . ." في المجلد الأول (ص 560).
فأثبت الأذية، وقال تعالى في الحديث القدسي:"يؤذيني ابن آدم، يسبُّ الدهر وأنا الدهر"
(1)
فأثبت الأذية أيضًا، أما الضرر فلا. فهنا يسمع المؤمنون من أهل الكتاب ومن المشركين ما يؤذيهم ولكنه لا يضرهم.
ثم قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} :
تصبروا على ما سمعتم، وعلى ما ابتليتم به في أموالكم وأنفسكم. والصبر بمعنى الحبس، ومنه قولهم:(قتل صبرًا) أي حبسًا، يوقف ويحبس ويقتل.
وهو في الشرع: حبس القلب واللسان والجوارح عمَّا يغضب الله عز وجل.
قال أهل العلم: والصبر على ثلاثة أقسام:
1 -
صبرٌ على طاعة الله، وهو أعلى الأقسام.
2 -
صبر عن معصية الله، وهو دونه.
3 -
وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة، وهو دون الاثنين الأوليين؛ لأن الاثنين الأوليين: صبرٌ على شرع الله، والثالث صبرٌ على قدر الله، والصبر على قدر الله يكون من المؤمن والكافر، ومن الناطق والبهيم، لكن الصبر على شرع الله لا يكون إلا من المؤمن، ثم الصبر على المأمور أعلى من الصبر عن المحظور؛ لأن الصبر عن المحظور كفٌّ فقط، والصبر على المأمور فعل؛ فهو إيجاد وعمل، ففيه نوع من الكلفة بخلاف الصبر عن فعل المحظور، فإنه ليس إلا مجرد كفّ، على أنه قد
(1)
تقدم تخريجه (ص 55).
يكون أحيانًا بالنسبة للنفس أشد من الصبر على فعل المأمور، فيسهل على بعض الناس مثلًا أن يصلي، لكن يصعب عليه أن يدع ما حرّم الله عليه من الأمور التي تحثه نفسه إليها حثًّا.
صبر الصائم على الصيام، من الأول، وصبره على ألمه الذي يحصل بالجوع والعطش، من الثالث، وصبره عمّا حرم عليه بالصوم من الثاني، ولهذا يسمى شهر رمضان شهر الصبر؛ لأن جميع أنواع الصبر الثلاثة تحصل للصائم، ففيه -أي في الصيام- صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ على الأقدار.
ومن الأمثلة: صبر يوسف على إلقاء إخوته إياه في البئر من الثالث، وصبره عن إجابة امرأة العزيز من الثاني، صبرٌ عن المعصية، وصبره على الدعوة إلى الله وهو في السجن من الأول.
يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} :
تتقوا الله عز وجل بأن لا تتجاوزوا أو تعتدوا على غيركم، وذلك لأن النفس مجبولة على محبة الانتقام من الغير، فربما إذا سمعت أذى أن تأخذ أكثر من نصيبها، ولهذا قال:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} أي تتقوا الله عز وجل فلا تعتدوا على الذين أسمعوكم الأذى.
{فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} :
أي من معزومات الأمور، فعزم هنا: مصدر بمعنى اسم المفعول، أي من الأمور المعزومة التي تحتاج إلى عزم وإلى همة وإلى مكابدة لأنها شاقة على النفس، والعزم في الأمور من الصفات الحميدة التي وصف بها الكُمّل من الخلق، قال تعالى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، فالعزم
لا شك أنه خُلق عالٍ يهبه الله عز وجل لمن يشاء، فإذا كان الإنسان عنده عزم في أموره فهذا هو الموفق، أما الإنسان الذي ليس عنده عزم فتجده دائمًا في ملل، وفي كسل، وفي تهاون، فإن هذا لا شك خاسر، فالإنسان العازم في أموره هو الرابح دنيا ودينًا:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن من البلاغة تأكيد الشيء بما يوجب الاطمئنان فيه؛ لقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} . والتأكيد يقول علماء البلاغة: "إنه قد يكون حسنًا، وقد يكون واجبًا، وقد يكون لغوًا".
يكون لغوًا: إذا لم تدعُ الحاجة إليه، وذلك لأن التأكيد لابد فيه من زيادة؛ وهي زيادة الحروف التي حصل بها التأكيد، فإذا لم يكن حاجة إليه صار لغوًا، ثم إنه أيضًا لغو من حيث المعنى، ولهذا لو أنك أكدت لشخص شيئًا شاهده لعتب عليك، كما لو قلت: والله لقد صليت ركعتين حين دخلت المسجد، وهو يراك ويشاهدك، فإنه سيقول لك: كيف تقسم لي وأنا أشاهدك، هذا لغو من القول.
ويكون حسنًا: -أي التوكيد- إذا كان عند المخاطب شيء مِن التردد، فيحسن أن تؤكِّد له الكلام ليطمئن.
ويكون واجبًا: إذا كان المخاطب مُنْكِرًا أو فاعلًا فعل المُنْكِر، والمُنْكِر: هو الذي إذا ألقيت إليه الخبر أنكره، وقال: أبدًا ما يصح، فهنا يجب أن تؤكد له الكلام، وفاعل فعل المُنْكِر: هو الذي يفعل فعلًا لو كان مصدقًا ما فعله، ولهذا قال الله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] هنا فيه تأكيد
بإن واللام، وهل الموت يحتاج إلى توكيد؟ ! فكل يعلم أنه سيموت، لكن لما كان فعل أكثر بني الإنسان فعل المُنْكِر حسن التوكيد.
2 -
أنه ينبغي للإنسان أن يتفطن لما فيه من خير وشر ليعلم أنه ابتلاء من الله، ففي الخير يبتلى ليشكر، وفي ضده يبتلى ليصبر.
3 -
التأكيد على الحذر من أهل الكتاب اليهود والنصارى والمشركين أيضًا؛ وجهه: أن الله أكَّد لنا أننا سنسمع منهم ما يؤذينا، هذا بالقول، وهم يمكرون بنا بالقول وبالفعل، ولهذا يجب التحرز من اليهود والنصارى، وأن لا نتخذهم أولياء، وأن نعلم أنهم لن يعطونا قرشًا إلا في مقابلة درهم أو أكثر، ولن ينفعونا بشيء إلا وقد ضرّونا بأكثر منه؛ لأن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بيَّن عداوة هؤلاء، وأنه لا يجوز اتخاذهم أولياء، وقد ذكر أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للذين آمنوا. أما قوله:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، فإن الخطاب هنا في نصارى معينين وصفهم الله بقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 82، 83] فهل في نصارى اليوم من يكون هذا وصفهم؟ بالعكس بل نجد أنهم يحاربون الدين الإسلامي ربما أكثر من محاربة اليهود؛ لأنه صارت بينهم وبين المسلمين معارك أدمت قلوبهم وأيتمت أولادهم ولن ينسوها، وهي المعروفة بالمعارك الصليبية التي لن ينسوها أبدًا، فهم في الحقيقة إذا سمعنا ما ينشرونه من دينهم المنسوخ الذي لا يقبل
عند الله وحرصهم على ذلك، وكونهم يجمعون حتى من العجائز من الأموال ما يقضون به على الإسلام ليدخلوا الناس في النصرانية عرفنا أنهم يسعون بكل وسيلة إلى القضاء على الإسلام، ولهذا يأملون أنه في حدود الألفين من تاريخهم الميلادي ستكون أفريقيا كلها على زعمهم نصرانية، لكن بحول الله الأمر سيكون منقلبًا عليهم، وستكون إن شاء الله إسلامية، وسيدحرهم الله عز وجل ويردهم على أعقابهم خائبين.
4 -
في هذه الآية الكريمة الثناء على الصبر أمام ما نسمعه من أذية الأعداء، وأن لا يردنا ذلك على أعقابنا، وأن نحذر منهم.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل هذه الآية منسوخة وأننا نصبر ونتقي إذا كنا عاجزين عن الرد بالمثل، أو هي محكمة؟ والصحيح أنها محكمة، وأنها إنما تكون في حال يكون الصبر فيه على الأذى خيرًا، أما إذا كان الأمر بالعكس فالخير مطلوب في جميع الأحوال.
5 -
التنبيه على فضيلة العزم في الأمور؛ لقوله: {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وكل ما كان الإنسان عازمًا في أموره كان ذلك أنجح له وأحسن.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]:
(إذ): ظرف لما مضى، وتأتي في القرآن كثيرًا محذوفة
العامل، ويقدره العلماء بقولهم:(اذكر إذ)، أي: واذكر إذ أخذ الله، يعني: اذكر هذا للناس مبينًا ما حصل.
وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ} :
الميثاق: هو العهد الثقيل، وسمي العهد الثقيل ميثاقًا من الوِثاق، وهو الحبل الذي يشد به الإنسان ويربط، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4]، يعني الحبل الذي تربطونهم به، وتأسرونهم به، فالميثاق: بمعنى العهد الثقيل، وسمي العهد الثقيل ميثاقًا؛ لأنه كالرباط للمعاهد.
وقوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} :
المراد بهم اليهود والنصارى، أخذ الله عليهم العهد والميثاق، بما أعطاهم من الكتاب أن يبيِّنوه للناس، ولهذا قال:{لَتُبَيِّنُنَّهُ} اللام موطأة للقسم، أي أخذ عليهم عهدًا بهذا.
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} :
هنا قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} فكيف يصح قول: {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} مع أنه قال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} ؟ الجواب: لأن البيان ضد الكتمان، ولكن نقول: المعنى: لتبيننه بيانًا لا كتمان فيه.
والكتمان نوعان: إما إخفاء لبعض الآيات كما قال تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91]، وإما تحريف للآيات إلى معانٍ أخرى، فإن هذا يعدُّ كتمًا؛ لأن الذي يحرّف الآيات إلى معانٍ أخرى لم يبين الآيات على ما هي عليه بل كتم المعنى الحقيقي المراد إلى معنىً آخر.
ومن ذلك مثلًا: أن النصارى قالوا: إن محمد بن عبد الله
عليه الصلاة والسلام ليس هو الذي بشَّر به عيسى؛ لأن الذي بشَّر به عيسى اسمه أحمد، وهذا اسمه محمد، وهذا كتمان، كتمان معنى.
فإن قال قائل: هل يشعر العالِم بهذا الميثاق وأنه جرى بينه وبين الله عز وجل صفقة عهد؟
الجواب: أنه لا يشعر به، لكن إيتاء الله العلم له يعتبر ميثاقًا، فالله تعالى لم يهبه هذا العلم إلا من أجل أن يبيِّنه وإن كان الإنسان لا يستحضر أنه جرى بينه وبين الله عهد.
قال: {وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} :
نبذوه: أي نبذوا الميثاق، أي طرحوه، ومع ذلك لم يطرحوه بين أيديهم بل طرحوه وراء ظهورهم، وهو كناية عن شدة إعراضهم عما آتاهم الله من الكتاب حيث نبذوه نبذًا ولم ينبذونه أمامهم بل وراء ظهورهم، فيكون هذا أشد في كراهية ما أنزل الله وفي الاستكبار عنه والإعراض عنه.
{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} :
اشتروا به؛ أي: استبدلوا به ثمنًا قليلًا، أي بهذا العهد والميثاق ثمنًا قليلًا، وما هو الثمن القليل الذي اشتروه؟ هو إبقاء رئاستهم وجاههم وسلطانهم على قومهم؛ لأن هؤلاء الأحبار والقسيسين لو تبعوا محمدًا زالت رئاستهم ووجاهتهم وصاروا كعامة الناس، فقالوا: نكذب محمدًا ونبقى على ما كنا عليه من الرئاسة والجاه والتقديم، إذن ما هو المبيع، وما هو الثمن؟
المبيع: العهد. والثمن: الجاه والرئاسة وما أشبه ذلك.
ووصف الله هذا بأنه قليل؛ لأن جميع ما في الدنيا قليل،
قال تعالى: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]، فهذا الذي استبدلوه هو ثمن قليل زهيد لا يدوم للإنسان، ولا يدوم الإنسان له، بل لابد من زواله، إما زوال الإنسان وإما زوال الثمن الذي اشتراه.
قوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} :
(بئس): فعل ماضٍ جامد، جامد يعني لا يتصرف، والنحويون يسمون الفعل الذي لا يتصرف جامدًا؛ لأنه باقٍ على حالٍ واحدة، والمتصرف يسمونه متصرفًا؛ لأنه يشبه المائع الذي يسيل ويسيح، لكن هذا جامد لا يتصرف.
وقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} :
كلمة بئس ونعم وما أشبههما تحتاجان إلى شيئين إلى فاعل ومخصوص بالذم أو بالمدح، فقوله:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} هذا هو الفاعل، والمخصوص محذوف والتقدير: فبئس ما يشترون هذا الثمن أو هذا الشراء.
وفي هذه الآية قراءات:
قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} فيها قراءة: (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) يعني بالياء، بدلًا عن التاء.
فعلى القراءة الأولى بالتاء يكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام نسقًا واحدًا ليس فيه التفات.
والالتفات ذكرنا أن فيه فوائد منها:
التنبيه على هذه الجملة؛ لأن الكلام إذا صار على نسق واحد شرد الذهن، فإذا جاء التفات تنبه.
ومنها: تشويق السامع.
ومنها: أن العدول عن الغيبة إلى الخطاب أشد وقعًا من الغيبة، يعني أن المشافهة بالخطاب أشد وقعًا من المشافهة بالغيبة، ولهذا قال تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2] ولم يقل: عبست وهو يريد سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أسلوب الغيبة أهون وقعًا من أسلوب الخطاب، وتأملوه في قصة الخضر مع موسى في الجملة الأولى قال له:{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 72]، {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} وفي الثانية {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} فكانت الثانية أشد وقعًا من الأولى.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن الله عز وجل أخذ على أهل العلم العهد ببيان العلم وعدم كتمانه؛ لقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ} .
2 -
التحذير من كتمان العلم؛ لأن الله ذكر ذلك على سبيل الذم لا على سبيل المدح، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من سئل عن علم عَلِمَه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار"
(1)
نعوذ بالله منه، أي: أنه مَنْ كتم العلم ولم ينطق به فإنه يجعل له يوم القيامة لجام يُلجم به على فمه لسكوته عن بيان العلم.
3 -
وجوب بيان العلم على أهل العلم فيبينوا العلم الذي آتاهم الله، ولم يذكر الله عز وجل الوسيلة التي يحصل بها البيان، فتكون على هذا مطلقة راجعة إلى ما تقتضيه الحال، قد يكون البيان بالقول، وقد يكون بالكتابة، وقد يكون في المجالس العامة، وقد يكون في المجالس الخاصة، على حسب الحال؛ لأن الله أطلق البيان ولم يفصّل ولم يعيّن.
(1)
رواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، رقم (2649).
4 -
أنه في الأمور الهامة ينبغي أن يُقرن النفي بالإثبات ليتحقق الكمال؛ لقوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ} ، {وَلَا تَكْتُمُونَهُ} ووجه ذلك ما أشرنا إليه قبل، أن البيان عدم الكتمان، لكن لما قال:{وَلَا تَكْتُمُونَهُ} أكد البيان بأن يكون بيانًا كاملًا ليس فيه كتمان.
5 -
الذم القبيح لأهل الكتاب اليهود والنصارى؛ لقوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وأنتم تجدون شدة القذف في قوله: (نبذوه) ثم شدة الاستكبار لقوله: {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} .
6 -
أن هؤلاء الذين نبذوا العهد والميثاق وراء ظهورهم أخذوا بدله ثمنًا قليلًا، أي لم يأخذوا مقابله ولا مماثله ولا ما فوقه، لكنهم أخذوا بدله ثمنًا قليلًا، مما يدل على خسة هممهم، وأن هممهم دنيئة حيث أخذوا الأدنى بدلًا عن الأعلى.
7 -
القدح في هذه الطريقة؛ لقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ويتفرع على هذه الفائدة تحذير أولئك الذين يحابون الرؤساء والأُمراء والوجهاء والأعيان في ترك بيان العلم؛ لأن الله تعالى أثنى بالقدح واللوم والتوبيخ على من كانت هذه حاله، والواجب البيان حتى عند الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء، بل إن بيان الحق عندهم يكون أوجب، وكلمة الحق عند السلطان الجائر من أفضل الجهاد.
* * *
• ثم قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]:
قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ} فيها قراءات: (لا تَحسَبن) بفتح السين،
و (لا تحسِبن) بكسر السين، وفيها قراءة (لا يحسَبن) بالياء بدل التاء، فالقراءات ثلاث:(لا تحسَبن)، (لا تحسِبن)(لا يحسَبن الذين يفرحون)، فعلى قراءة التاء يكون الخطاب موجهًا إما للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما لكل من يصح أن يتوجه إليه الخطاب، والمعنى الثاني أعم وأشمل، يعني: لا تحسبن أيها المخاطب.
وقوله: {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} :
(الذين): محلها من الإعراب أنها مفعول أول لتحسبن، والمفعول الثاني إما أن نقول: إنه محذوف قبل الجملة {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} ويكون المعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ناجين، ثم فرَّع عليه قوله تعالى:{فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} ، ويحتمل أن قوله:{فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} جملة مؤكدة لقوله: {لَا تَحْسَبَنَّ} وعلى هذا فيكون قوله: {بِمَفَازَةٍ} هو المفعول الثاني، والأول أقرب، أي: لا تسحبنهم ناجين، فلا تحسبنهم بمفازة.
وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُم} فيها قراءتان أيضًا بل ثلاث قراءات: (فلا تَحسِبَنَّهم) و (فلا تَحسَبَنَّهم) و (فلا يَحسِبُنَّهم) أي لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب.
يقول الله عز وجل: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} :
أي يفرحون فرح أشرٍ وبطرٍ ومنةٍ على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {بِمَا أَتَوْا} ، أي بما أتوا من الأعمال التي يتقربون بها إلى الله على زعمهم.
وقوله: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} :
أي يحبون أن الناس يحمدونهم على شيء لم يفعلوه مثل:
أن يتظاهروا للناس بالصلاح من أجل أن يثني الناس عليهم ولو لم يفعلوا الصلاح، مثل ما فعل أهل الكتاب كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبينوها؛ فقالوا: الآن غلبنا محمدًا حين قلنا: إنه ليس هو المبشر به، ففرحوا بما أتوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، كذلك المنافقون يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأما المسلم إذا فرح بما أنعم الله عليه من العمل وأحب أن يُحمد بما يفعل لا رياء ولكن من طبيعة البشر أنه يحب أن يحمده الناس، فإن هذا لا يدخل فى الآية، فالذي يدخل في الآية صنفان:
الصنف الأول: أهل الكتاب الذين فرحوا بما أتوا من كتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الإيمان به، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا حيث يتظاهرون للناس بأنه لو جاء الرسول الذي بشَّر به عيسى لآمنا به.
والصنف الثاني: المنافقون، فإن المنافقين يفرحون بما أتوا ويقولون: نحن أسلمنا أمام محمد وأصحابه وهم على العكس من ذلك، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الإخلاص والمحبة لله ورسوله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} :
المفازة؛ مكان الفوز، أي لا تحسبنهم بمكان يفوزون به وينجون به من العذاب، بل هم منغمسون في العذاب والعياذ بالله.
الجملة هذه استئنافية، لمّا بيَّن أنهم ليسوا بمفازة من
العذاب وليسوا ناجين أكَّد هذا بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أليم بمعنى مؤلم، فهي فعيل بمعنى مُفعل، وفعيل بمعنى مُفعِل تأتي في اللغة العربية كثيرًا، ومنه قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
…
يؤرقني وأصحابي هجوع
بمعنى: المُسْمِع! !
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
تحذير من يفرح بما أتى فرح منةٍ أو فرحَ غدرٍ وخيانةٍ كالمنافقين.
2 -
التحذير من محبة الإنسان أن يُحمد بما لم يفعل، وهذا يقع كثيرًا، أحيانًا يصرح الإنسان بأنه عمل عملًا وهو كاذب، وأحيانًا يورّي فيظن السامع أنه فاعل وهو لم يفعل، أما الأول كأن يقول مثلًا: صليت البارحة آخر الليل ودعوت الله وهو كاذب، لكن من أجل أن يُحمد على ذلك، أو يقول: رأيت فقيرًا فتصدقت عليه، أو يقول: طبعت كتابًا، أو أنقذت غريقًا، أو ما أشبه ذلك وهو كاذب، هذا قسم صرّح بما لم يفعل، وأحيانًا يورّي فيتظاهر أمام الناس أنه فعل وهو لم يفعل، فالذي يسمع كلامه يقول: هذا هو الفاعل وهو لم يفعل. وكلاهما مذموم، أما من أحب أن يُحمد بما لم يفعل ولكنه لم يتظاهر أمام الناس بالشيء ليُحمد عليه فهذا لا يضر؛ لأن كل واحد يحب أن يحمد وإن لم يفعل، ولكن إذا حُمد على فعل وهو متظاهر للناس بأنه فعل فهذا مذموم.
3 -
أن من كان على هذا الحال فلن ينجو من العذاب؛ لقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} .
4 -
إثبات العذاب الأليم لمن هذه حاله، وقد عرفتم أنها منطبقة على صنفين من الناس: أهل الكتاب الذين كتموا صفة الرسول عليه الصلاة والسلام، والثاني: المنافقون.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 189]:
قوله: {وَلِلَّهِ} الجار والمجرور خبر مقدم.
{مُلْكُ} : مبتدأ مؤخر.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} : جملة استئنافية.
قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
ملك السموات أي ملك الأعيان وملك التصرف، فهو مالك لأعيانها، وهو مالك للتصرف فيها. قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]:
{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني على سبيل الاستقلال، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} على سبيل المشاركة، {وَمَا لَهُ} أي ما لله، {مِنْهُمْ} أي من هؤلاء الآلهة التي تدعونها، {مِنْ ظَهِيرٍ} أي من معين، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه.
هذه الآيات يقولون: إنها قَطَّعت علائق المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثان؛ لأنه يقول: هذه الأصنام هل لها ملك مستقل في السموات والأرض؟ هل شاركت الله؟ هل أعانته؟ هل
تنفع شفاعتها بدون إذنه؟ الجواب بالنفي، وعلى هذا فلا تنفعهم عبادة هذه الأصنام.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} يعني السبع، {وَالْأَرْضِ} للجنس فتشمل الأرضين السبع.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
والقدرة هي التمكن من الفعل بلا عجز، فالتمكن من الفعل بلا عجز يسمى قدرة، والتمكن من الفعل بلا ضعف يسمى قوة، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]، فقابل الضعف بالقوة، وقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، فقابل القدرة بـ {لِيُعْجِزَهُ} بالعجز، فالقدرة ضدها العجز، والقوة ضدها الضعف.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
عام في كل شيء، فما من موجود إلا والله قادر على إعدامه، وما من معدوم إلا والله قادر على إيجاده، وما من موجود إلا والله قادر على تغييره وتحويله من شيء إلى آخر، إذن هو على كل شيء قدير، وهو قادر على أفعاله يفعل ما يشاء، وهو قادر على ذاته.
يقولون: إن ذات الله عز وجل إذا قصدْتَ أن الله قادر على إعدامها مثلًا، فإن هذا لا تتعلق به القدرة أصلًا؛ لأنه من المستحيل، ولهذا قال السفاريني رحمه الله في عقيدته:
له الحياة والكلام والبصر
…
سمعٌ إرادةٌ وعلمٌ واقتدر
بقدرةٍ تعلقت بممكن
…
كذا إرادةٌ فَعي واسْتَبِن
ولكن مع ذلك فإن من الأدب أن نقول: إن الله على كل شيء قدير ونسكت ولا نفصل؛ لأن الآيات التي جاءت بهذا عامة، ولا تقل: إن الله لا يقدر على الشيء المستحيل؛ لأن المستحيل أصلًا لا يتعلق به الفعل، يعني مثلًا: السكون والحركة هل يمكن أن يجتمعا؟ لا يمكن؛ لأنه إن تحرك لم يكن ساكنًا، وإن سكن لم يكن متحركًا، إذن، الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الساكن متحركًا، والمتحرك ساكنًا، فإذا قال قائل: هل يمكن أن يجعل الله المتحرك ساكنًا؟ الجواب: نعم يحول المتحرك إلى ساكن أو يجعل الساكن متحركًا، لكن أن يجعل الشيء متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد فهذا لا يمكن أصلًا؛ لأنه مادام متحركًا فيساوي عدم سكون، ومادام ساكنًا فيساوي عدم حركة، فبمجرد ما يتحرك انتفى عنه السكون، وبمجرد ما يسكن انتفت عنه الحركة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن ملك السموات والأرض خاص بالله عز وجل، ووجه تقديم الخبر القاعدة التي تقول:"أنه إذا قدّم ما حقّه التأخير كان ذلك دليلًا على الحصر".
2 -
أن الملك المطلق لله وحده؛ لأنه قدَّم الخبر على المبتدأ في قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ} ، وتقييدنا الملك "بالمطلق" ينفي توهم التعارض بين قوله تعالى:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} حيث حصر الملك له وحده، وقوله تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وقوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]. ووجه ذلك: أن الملك المضاف إلى المخلوق ملك مقيد "ليس ملكًا مطلقًا".
ودليل هذا: أن هذا المالك المخلوق لو أراد أن يتصرف بماله على خلاف ما جاءت به الشريعة كان ممنوعًا من هذا ولا يملكه، والله جل وعلا يملك ملكًا عامًا شاملًا يستغني به عن غيره.
3 -
الإشارة إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملكه إلا على حسب إذن الشارع؛ لأن كون الملك لله يدل على أن تصرفنا فيه إنما يكون بطريق الوكالة، يتقيد بما أُذِن له فيه، ولهذا لو وكلت شخصًا على بيع بيت لا يملك أن يؤجره؛ لأنه إنما وُكِّل على البيع فقط. والمالك الذي يملك البيت لم يأذن له في التأجير، إنما أذن له في البيع. فنحن باعتبار ما ملكت أيماننا لا نملكها ملكًا مطلقًا نتصرف فيها كيف شئنا، وإنما تملّكنا لها تملك مقيد.
4 -
أن الشيء العام للخلق ليس ملكًا لأحد؛ وهو الذي أخرجه الله عز وجل، وليس من صنع إنسان، فهو ليس بملكٍ لأحد إلا مَنْ سبق إليه بمقتضى النصوص الشرعية، ووجه ذلك أن الله جعل ملك السموات والأرض له، فإذا كان له، فإنك لا تملك شيئًا من أرضه إلا على الوجه الذي أذن فيه.
5 -
عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وأنت إذا قرأت هذه الآية وطبقتها على ما يريده بعض أهل الباطل من التشكيك في الشريعة فإنك تستريح؛ مثلًا يقول بعض الملحدين الذين لا يؤمنون باليوم الآخر: كيف يعود الإنسان إنسانًا بعد أن كان ترابًا؟ .
وجوابنا على هذا سهل أن نقول: إن هذا من قدرة الله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
6 -
أن من آمن بهذا -أي بأن الله على كل شيء قدير- فإنه يطرد عنه اليأس؛ لأن الإنسان قد يصاب بمرض مثلًا فييأس من برئه بعد العلاج، فيقال له: لا تيأس إن الله على كل شيء قدير، وأنت إذا أراد الله أن يبقي المرض بك فقد يكون خيرًا لك؛ لأنك تكسب من ورائه الثواب من الله عز وجل. فإنه لا يصيب المؤمن من همٍّ ولا غمٍّ ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله به -يعني من ذنوبه-. فأنت لا تيأس إذا أصابك مرض لا يرجى زواله مثلًا، فإن الله على كل شيء قدير.
7 -
أن ما أخبر الله به عن نفسه من الأمور والآيات فإنها حق؛ لأن الله على كل شيء قدير، فلو قيل: كيف ينزل إلى السماء الدنيا وهو على العرش؟ ! فنقول: الله على كل شيء قدير، وليس لك أن تعارض ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه في أحاديث متواترة بمجرد وَهْمٍ.
* * *
• قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191]:
قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
هذه الجملة مؤكدة (بإن)، وفيها اختلاف في ترتيب الجزأين أعني:"جزأي المبتدأ والخبر" وهو تقديم الخبر في قوله: {فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} هذا الخبر، ثم إن فيها مؤكدًا آخر غير {إِنَّ} وهو (اللام) في قوله:{لَآيَاتٍ} .
يقول الله عز وجل مؤكدًا مضمون هذه الجملة الخبرية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
الخلق: "هو الابتداع على غير مثال سبق". يعني: إيجاد الشيء على غير مثال سبق يسمى خلقًا. وفي خلق السموات والأرض آيات من عدة أوجه:
الوجه الأول: من جهة الكبر والسعة.
الوجه الثاني: ما فيهما من الحسن والبهاء والجمال، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. والذي يطّلع على ما صوَّره العلماء من هذه الآيات العظيمة يتبين له عظمة الله عز وجل في هذا الخلق.
الوجه الثالث: في خلق السموات من جهة إتقانها وعدم تخلخلها، قال الله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4].
الوجه الرابع: في خلق السموات والأرض مما أودع الله فيهما من المواد المتعددة المختلفة الأنواع والأشكال والمنافع، كما قال الله تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] يعني متجاورات بعضها إلى جوار بعض ولكن بينهما من الاختلاف ما لا يعلمه إلا الله.
فيهما أيضًا ما فيهما من المنافع العظيمة للخلق. فالشمس فيها خير عظيم، والقمر كذلك، والأشجار وغيرها كلها فيها خيرات عظيمة من آيات الله عز وجل.
فأنت ترى النخيل على أرض واحدة، وتسقى بماء واحد، ويفضل الله بعضها على بعض في الحجم واللون والمذاق والادخار، وهي جنس واحد لكنها مختلفة، والآيات في هذا كثيرة. لو أن الإنسان جلس يتدبر ويتأمل ويكتب كل ما يعبر على خاطره لجمع آيات كثيرة في هذا، ونحن مأمورون أن نتدبر {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مأمورون بأن نتدبر ما في السموات والأرض من الآيات، لنستدل بها على كمال قدرة الله عز وجل وما في ذلك من الحكم العظيمة والرحمة.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
هذا هو التعبير القرآني الغالب: وهو أن الله تعالى يذكر السموات مجموعة والأرض مفردة، ولم يأت في القرآن الكريم التصريح بعدد الأرض، بخلاف السماء فقد جاء التصريح بأنها سبع سموات، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86].
أما الأرضون فجاءت مشارًا إليها بأنها سبع؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] أي في العدد لا في الكيفية ولا في الماهية.
وجاءت السنة صريحة في هذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبرًا من الأرض طوّقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"
(1)
.
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 467).
وقوله: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} :
أيضًا هذا فيه آيات. اختلاف الليل والنهار على أي وجه من الاختلاف يراد؟ ! .
الجواب: أنه يراد اختلافهما من وجوه شتى:
أولًا: من جهة أن الليل ظلمة والنهار نور، وهذا من آيات الله. قال الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73].
فهذا من آيات الله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12].
ثانيًا: كذلك أيضًا اختلافهما من جهة الطول والقصر. أحيانًا يطول الليل، وأحيانًا يطول النهار، وأحيانًا يتساويان. ولا أحد يستطيع أن يقوم بهذا، فهو من آيات الله. ولو أن أهل الأرض كلهم اجتمعوا على أن يدخلوا من الليل جزءًا في النهار ما استطاعوا ولا العكس. فهذا من آيات الله.
ثالثًا: اختلاف الليل والنهار يدخل فيه اختلافهما حَرًّا وبردًا، أحيانًا يكون هذا حارًا وهذا باردًا، وأحيانًا يتساويان.
رابعًا: ومن ذلك أيضًا اختلافهما في الرخاء والشدة. أحيانًا تمرُّ بك الأيام رخاء، وأحيانًا تمر بك الأيام شدة.
خامسًا: من هذه الآيات: اختلافهما في العز والذل والنصر والخذلان. ينصر أحيانًا أقوامًا ويخذل هؤلاء الأقوام في آنٍ آخر،
وهكذا فإن الليل والنهار فيهما آيات، تختلف باختلافهما في ذاتهما وفيما يقع فيهما، قال الله تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ولو تأمل الإنسان لوجد أكثر مما ذكرنا من اختلاف الليل والنهار.
وقوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} :
آيات: جمع؛ لأنها متنوعة ومتعددة ولكنها لا يفهمها ولا يتخذها آيات إلا أولو الألباب، ولهذا قال:{لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: لأصحاب العقول.
وسمي العقل لبًّا: لأنه "خالص الإنسان"، كما أن "اللب خالص الحبة"، فالإنسان بعقله، والعقل ليس هو الذكاء كما قد يتبادر بأذهان كثير من الناس، ولكن العقل هو:"الرشد في التصرف". فكلما كان الإنسان أشد رشدًا وتصرفًا كان أعقل. وليس كلما كان أذكى فهو أعقل؛ لأنه قد يكون من الأذكياء من هو أبعد الناس عن العقل، ولهذا يمكن أن نقول لصناديد الكفرة الممتلئين ذكاءً نقول: إنهم غير عقلاء وإن كانوا أذكياء.
قال الله لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] مع أنهم عندهم ذكاء.
فأصحاب الألباب: هم الذين يعرفون ما في هذه الأشياء الأربعة من الآيات العظيمة، خلق السموات، خلق الأرض، اختلاف الليل، اختلاف النهار.
ثم بيَّن الله تعالى ما يتصف به هؤلاء فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} ، وهذه صفة مبينة، وعليه فإن لنا أن نجعلها "عطف بيان" ولنا أن نجعلها "صفة مبينة لحالها".
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} :
يعني: يذكرون الله على كل حال قيامًا "وهي أعلى ما يكون الجسد عليه"، وقعودًا "وهي مرتبة بين القيام والاضطجاع". والثالثة: على جنوبهم.
يذكرون الله سبحانه وتعالى بالتأمل في هذه المخلوقات، كلما رأوا شيئًا استدلوا به على كمال حكمة الله وقدرته وعلمه، وهذا ذكر.
يذكرون الله بألسنتهم بالتهليل والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن وغير ذلك.
يذكرون الله بجوارحهم بالقيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة وبالطواف بالبيت، وبالوقوف بمزدلفة، وبالوقوف بعرفة. وبالوقوف بمنى لرمي الجمار. كل عبادة تتعبد لله تعالى بها هي عبادة فعلية وهي من ذكر الله؛ لأنك تريد بها وجه الله. وبذلك تكون ذاكرًا له.
وقوله: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} . نعم يذكرون الله على جنوبهم بالقلوب والجوارح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"
(1)
.
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
يتفكرون: التفكر: "إعمال الفكر". وذلك بأن يفكر في خلق السموات والأرض، لأي شيء خلقت؟ ! وكيف خلقت؟ ! وكيف رفعت السماء؟ ! وكيف سطحت الأرض؟ ! وما أشبه ذلك، فهم
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب تقصير الصلاة، رقم (1066)، وهو في سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب صلاة القاعد، رقم (953)، وفي سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة المريض، رقم (1223).
يعملون أفكارهم، ثم يتفكرون هل هذه السموات والأرض خلقت نفسها أم كانت مخلوقة؟
يستنتجون بهذا التفكير أن السموات والأرض كانتا غير مخلوقتين؛ لأنهم بالتفكير يطلعون على ما لا يطلع عليه غيرهم.
وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} :
هذه الجملة مقول لقول محذوف. يعني: (يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلًا).
يعني: بعد أن يتفكروا في خلق السموات والأرض تحصل لهم هذه النتيجة المباركة {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} .
قوله: {مَا خَلَقْتَ} هذه نافية.
وقوله: {بَاطِلًا} حال لازمة لو حذفت لفسد الكلام. وعلى هذا فتكون لازمة، والقاعدة في الحال اللازمة "هي التي لو حذفت لفسد الكلام". لأنه لو حذفت {بَاطِلًا} لكان اللفظ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} مع أنه خلق، وكم من "جملة حالية" أو "مفرد حال" صار لابد منه في الكلام، وتسمى هذه "حال لازمة".
وقوله: {بَاطِلًا} حال من {هَذَا} {هَذَا بَاطِلًا} ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي: خلقًا باطلًا.
وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} :
يعني: يا ربنا، فهو منادى منصوب بياء النداء المحذوفة.
{سُبْحَانَكَ} سبحان اسم مصدر منصوب على المفعولية المطلقة، وعامله محذوف، والتقدير من حيث المعنى:"نسبحك تسبيحك" أي: "ننزهك تنزيهك اللائق بك". وأصل التسبيح:
التنزيه والإبعاد عن السوء؛ ومنه قولهم: "تسبح فلان"، يعني بَعُد ونزل في الماء يسبح.
وقوله: {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهًا لك أن تخلق هذه السموات والأرض باطلًا، وقد بيَّن الله في آيات أخرى أن من ظن أن الله خلق شيئًا باطلًا فقد أخذ بظن الكفار.
الدليل قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]. ولهذا قال: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} "الفاء" هذه مفرِّعة للجملة الثانية عن الأولى، و"قِ" فعل أمر مكون من حرف واحد لأنه فعل ناقص، وأوله حرف علة. والفعل الثلاثي الناقص الذي أوله حرف علة يكون عند الأمر أو الجزم على حرف واحد فتقول:"قِ" مأخوذ من "وقى"، "عِ" من "وعى"، "دِ" من الدية من "ودى" ولها أمثلة كثيرة ذكرها الخضري رحمه الله في حاشيته على شرح "ابن عقيل على الألفية".
وهذه الحاشية أعني حاشية الخضري على شرح ابن عقيل من أحسن الحواشي التي كتبت على شروح ألفية "ابن مالك"، لأنه متأخر وجمع أقوال من سبقه، وله تحرير جيد في بعض الأشياء التي يحررها، فأشير بها على كل من أراد أن يقرأ ألفية "ابن مالك" وشرحها "لابن عقيل". فإن هذه الحاشية مفيدة، وقد ذكر عدة أمثلة للفعل الثلاثي المبدوء بحرف علة المختوم بحرف علة بأنه تحذف منه العلتان.
والنحويون يقولون: ما أوله حرف علة فهو "مثال". وما وسطه حرف علة فهو "أجوف". وما آخره حرف علة فهو "ناقص" أو "مقصور".
"قنا" مأخوذ من الوقاية. أي: قنا عذاب النار بما تشاء؛ إما بعدم إدخالنا فيها، يعني: أن لا ندخلها أصلًا، أو بإخراجنا منها بالشفاعة؛ لأن المؤمن الفاسق يستحق دخول النار على فسقه ثم بعد ذلك يخرج منها، وقد يعفو الله عنه؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
الحث على التأمل في خلق السموات والأرض؛ لأن الله ذكر أن فيهما آيات. والآيات هي: العلامات، وكلما ازدادت الآيات وضوحًا ازداد الإيمان قوة.
2 -
النظر إلى خلق السموات والأرض على الوجه التي ذُكرَ في التفسير، من حيث ذواتهما ومنافعهما وما فيهما من الخير والمصالح حتى لا يذهب ذاهب إلى أنها خلقت عبثًا.
3 -
الإشارة إلى اختلاف الليل والنهار من رخاء إلى شدة وبالعكس، ومن حرب إلى سلم، ومن عزٍّ إلى ذلٍّ، ومن فقر إلى غنى وبالعكس في هذه الأمور.
4 -
الثناء على أصحاب العقول؛ لأن الله جعل هذا الاختلاف لذوي العقول. أما من لا عقل له فإنه لا ينتفع بهذه الآيات، ولا يعتبر بها وتمرُّ عليه وكأنها مظاهر طبيعية لا علاقة لفعل الله تعالى بها، وهذا -والعياذ بالله- من الطمس على القلوب وعمي الأبصار؛ لأن هذا الكون على هذا النظام البديع لا يمكن أبدًا أن يقع إلا من رب حكيم عز وجل، ولا يمكن أن يقع من فاعل على وجه السفه أبدًا.
5 -
أن الربَّ عز وجل أظهر آياته لخلقه مع أن مجرد الإيمان بأن الله تعالى حي موجود يكفي؛ لكن كلما تعددت الأدلة والآيات ازداد الشيء يقينًا، ودليل هذا أن إبراهيم قال لله عز وجل:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. فالإنسان قد يكون مؤمنًا ولا إشكال عنده في الأمر لكن يحتاج إلى من يطمئنه.
6 -
الثناء على العقل، وهو عقل الرشد لا عقل التكليف؛ لقوله عز وجل:{لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} .
7 -
أنه كلما كان الإنسان أعقل كان بالله وآياته أعلم؛ لقوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} والحكم المعلق على وصف يثبت لثبوته ويعدم لعدمه، فإذا كان أصحاب العقول هم الذين ينتفعون بهذه المخلوقات ويستدلون بها على الخالق عز وجل وعلى ما له من صفات الكمال، فإن مَن عقله عقل بهيمي لا ينتفع بهذه الآيات؛ لأنه ليس من ذوي الألباب.
فإن قال قائل: العقول هبة من الله عز وجل فكيف يذم الإنسان على فقدها أو يمدح على وجودها؟ !
فالجواب: أن العقل -أعني عقل الرشد- نوعان: عقل غريزي وعقل اكتسابي؛ فالعقل الغريزي لا يحتاج إلى تأمل وتفكر، وأما العقل المكتسب فإنه يحتاج إلى تأمل ونظر وتفكر، لأنه كلما ازداد تفكره ازداد إيمانه ويقينه ورشده.
8 -
الثناء على ذوي العقول؛ لأن الله جعل هذه الآيات نافعة لأولي العقول، وعلى هذا فينبغي لك أن تكرس جهودك
على التأمل المبني على العقل، حتى يكون عندك عقل غريزي وعقل مكتسب.
9 -
أن ذكر الله عز وجل من لوازم العقل ومقتضياته؛ لقوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ} .
10 -
فضيلة إدامة الذكر؛ ذكر الله عز وجل على كل حال؛ لقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} وكان أبلغ مَنْ وفَّى بهذا حقه عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه"
(1)
.
11 -
جواز ذكر الله تعالى للجنب: أي أنه يجوز للجنب أن يذكر الله لدخوله في العموم {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} .
12 -
أن ذكر الله في حال كون الإنسان على جنب لا يعد استهانة بالذكر، وكذلك قراءة القرآن، (وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن متكئًا في حجر عائشة وهي حائض رضي الله عنها
(2)
.
13 -
فضيلة التفكر في خلق السموات والأرض؛ لقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولكن التفكر المقرون بقول: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} لا التفكر الذي يراد به الاطلاع على العلم المادي فقط في خلق السموات؛ لأن هذا التفكر وإن كان
(1)
رواه مسلم، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها، رقم (373).
(2)
انظر سنن النسائي، كتاب الطهارة، باب في الذي يقرأ القرآن ورأسه في حجر امرأته، رقم (274).
يفيد الإنسان في الدنيا، لكنه لا يفيده في الآخرة. لابد أن يكون التفكر هذا منتجًا هذا القول والإقرار:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} .
14 -
أنه إذا أثنى على المتفكرين في الخلق، فالمتفكرون في الشرع من باب أولى؛ لأن الشرع ليس أمرًا محسوسًا، فالتفكر فيه أبلغ في الإيمان من التفكر في الخلق. الخلق أمر محسوس كل إنسان يدركه، لكن حِكم وأسرار الشرائع ليس لكل أحد أن يدركها.
15 -
التوسل إلى الله تعالى بالربوبية حال الدعاء، وأكثر ما يكون التوسل به من أسماء الله بالدعاء هو الربوبية؛ لأن الربوبية بها الخلق والملك والتدبير، فلهذا نجد أن أكثر ما يدعى به الربوبية؛ اسم الربوبية، أو وصف الربوبية.
16 -
انتفاء الباطل في خلق الله نفيًا مطلقًا، وذلك من قوله:{مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} ، وإذا انتفى الباطل نفيًا مطلقًا ثبت الحق كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39].
17 -
إثبات ما أثبته أهل السنة من أن من صفات الله ما هو منفي أو ما هو سلبي؛ لقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} .
والقاعدة عند أهل السنة: "أن الصفات المنفية لا يراد بها مجرد النفي وإنما يراد بها النفي مع إثبات كمال الضد"؛ لأنه لثبوت كمال الضد انتفى هذا الوصف.
18 -
الإقرار من هؤلاء العقلاء بأن الله هو الخالق: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} وهو من تقرير توحيد الربوبية.
19 -
إثبات الحكمة في أفعال الله؛ لقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} ؛ لأنه لو خلقها باطلًا لانتفت الحكمة، فإذا انتفى الباطل ثبتت الحكمة، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من أن أفعال الله وشرائعه كلها لحكمة ليس فيها شيء عبث إطلاقًا، وما خفيت علينا حكمته فهو لقصور أفهامنا وليس لانتفاء الحكمة فيه؛ لأن الله قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ونحن نؤمن بأن الله عز وجل لا يحكم بشيء حكمًا كونيًا ولا قدريًا إلا لحكمة.
20 -
تنزيه الله عز وجل عن كل عيب ونقص، مأخوذ من قوله:{سُبْحَانَكَ} . والذي ينزَّه الله عنه شيئان: "النقص"، "ومماثلة المخلوقات"، حتى فيما هو كمال في المخلوقين، فإن الله منزه عن مماثلتهم، قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال تعالى:{وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] فكل نقص قد تعالى الله عنه.
21 -
أن صفوة الخلق محتاجون إلى الدعاء للوقاية من النار؛ لقولهم: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
22 -
إثبات التوسل في الدعاء بصفات الله من قوله: {فَقِنَا} لأنهم بنوا {فَقِنَا} على قولهم: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا} يعني: أننا نتوسل إلى الله عز وجل بتنزُّهه عن النقص أن يقينا عذاب النار؛ لأننا مؤمنون؛ لقوله: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ويقرون بأنها خلقت بالحق وللحق، وينزهون الله عز وجل عن كل نقص وعيب.
وينبني على ذلك أنهم جعلوا ذلك وسيلة لوقاية الله تعالى
إياهم من النار {سُبْحَانَكَ فَقِنَا} ؛ لأنه من المعروف في اللغة العربية أن "الفاء" تدل على تفرع ما بعدها على ما قبلها.
23 -
إثبات النار وهي دار المجرمين والعصاة والظالمين والكفرة؛ لقوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
24 -
في الآية الكريمة كلمتان لا يجوز فصل إحداهما عن الأخرى، وهي قوله:{مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} فلو قلت: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} وسكتَّ أوهم معنىً فاسدًا، ولهذا يجب الوصل {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}. وهذا مثل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] لابد أن تصل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] لو قلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] فقط لفسد المعنى.
ومثل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] لابد أن تصل فتقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، وذلك لأنك لو سكت لأوهم أن الوعيد لمن يصلي.
* * *
• ثم قال الله عز وجل: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192]:
هذه الآية كالتعليل للدعاء السابق {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ؛ لأن من أدخلته النار فقد أخزيته.
{رَبَّنَا} هذه منادى حذفت منها "ياء النداء"، والتقدير:"يا ربنا".
إِن واسمها في "إنك"، والجملة الشرطية {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} في محل رفع خبر "إن".
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} :
مبتدأ وخبر، الخبر مقدم، و"الأنصار" مبتدأ مؤخر وهو مجرور بـ"من" الزائدة "من أنصارٍ"، والتقدير:(وما للظالمين أنصار). هذا إعراب الآية.
يقول هؤلاء السادة العقلاء: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} .
"مَن" تشمل العصاة والكفار؛ فالعصاة مستحقون لدخول النار، وإذا أُدخلوا النار فإنهم غير مظلومين؛ لأنهم مستحقون لذلك، والكفار مستحقون لدخولها على وجه التأبيد والتخليد، وكل منهم إذا أُدخل النار فقد أخزاه الله أمام العالم، أي: فضحه وهتك سره.
وقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} :
هنا إظهار في موضع الإضمار، فإن مقتضى السياق أن يقول:(وما لهم من أنصار)، ولكنه أظهر في موضع الإضمار لثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أن هؤلاء الذين يدخلون النار مستحقون لهذا الوصف، أي: وصفهم بالظلم.
الفائدة الثانية: العموم؛ أن كل ظالم حتى وإن لم يدخل النار إذا أراد الله أن يعاقبه فإنه لن يجد من ينصره.
الفائدة الثالثة: إثبات العلة في الحكم، فلو قال:(وما لهم من أنصار) لم يتبين لنا أن السبب لأنهم ظلموا أنفسهم، فإذا وصفهم بهذا فكأنه بيَّن الحكم بعلته.
وقوله: {مِنْ أَنْصَارٍ} يعني: من أعوان؛ لأن الناصر بمعنى المعين. وسواء كان العون في دفع العذاب عنهم أو في تخليصهم منه، فلا أحد ينصرهم عند إدخالهم فيمنعهم، ولا أحد ينصرهم إذا سقطوا فيها فيخرجهم. قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وقد يستدل بعض الخوارج بهذه الآية: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} على أن من دخل النار فهو منزوع الإيمان؛ لأن الله تعالى يقول: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم: 8]، فالرد عليهم: أنه ليس فيه دليل على هذا؛ لأن الخزي قد يكون عامًا دائمًا، وهذا لأهل النار الذين يستحقون الدوام فيها، وقد يكون خزيًا جزئيًا يفضح به ثم يزول عنه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
فقه هؤلاء السادة أولي الألباب حيث بيَّنوا سبب دعائهم أن يقيهم الله من النار، وأن سبب ذلك هو أن النار دار الخزي والعياذ بالله {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} .
2 -
إثبات النار؛ لقوله: {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} .
3 -
أنه لا نصير للظالم وذلك في الآخرة، أما في الدنيا فقد ينصر الظالم، ولكن تدور عليه الدوائر، أما في الآخرة فلا أحد ينصره.
4 -
أن الظلم سبب دخول النار؛ لقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} بعد قولهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} .
• ثم قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]:
نقول في: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا} مثل ما قلنا في: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} أو {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} أي: أنها منادى حذف منها "ياء النداء".
{إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} :
سمعوا مناديًا ينادي للإيمان، جملة (ينادي للإيمان) صفة لقوله:(مناديًا) لكن فائدتها أنها بيَّنت ماذا ينادي له؛ وذلك أن المنادى قد ينادي لكذا ولكذا، فبيّنت ماذا ينادي له. فهي إذن صفة لـ"مناديًا".
وقوله: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} :
"أن" هذه تفسيرية، لأنها جاءت بعد جملة تتضمن معنى القول دون حروفه، وكل "أَنْ" تقع بعد جملة تتضمن معنى القول دون حروفه فإنها تسمى تفسيرية، فهي بمعنى "أي" ومنه قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون: 27] يعني: "أي اصنع الفلك". "فأَنْ" هنا تفسيرية.
وقوله: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} :
"الفاء" هذه عاطفة ولكنها تفيد السببية؛ لأنها عطفت جملة على جملة.
وقوله: {سَيِّئَاتِنَا} : بالكسر مع أنه مفعول به؛ لأنها "جمع مؤنث سالم".
وقوله: {مَعَ الْأَبْرَارِ} ظرف، ولكن هنا المراد بالمعية المعية الحكمية لا الزمنية؛ لأن ميتات الأبرار تختلف.
يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} : قالوا ذلك تحدثًا بنعمة الله على ما أنعم به من إرسال هذا المنادي.
وقولهم: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} : المنادي أصله: "المصوِّت" لأن النداء هو رفع الصوت، ولكن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وسماعهم له يقع على وجهين: أحدهما: أن يسمعوا صوته مباشرة بدون واسطة.
والثاني: أن يسمعوا من ورثته ما جاء به، وهم العلماء، وكل هذا داخل في الآية؛ يعني السماع المباشر الذي سمعوه من صوته، والسماع غير المباشر الذي سمعوه بالواسطة من ورثته وهم العلماء.
وقوله: {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} :
قد يقول قائل: إن المتوقع أن يقال: إلى الإيمان، فيقال إليه، ولكنه أتى باللام؛ لأن اللام ألصق من "إلى"، إذ إن "إلى" تفيد الغاية، والغاية لابد لها من مغيَّى، والمغيَّى طرف فهو مؤمن بالبعد. أما "للإيمان" فهي للإلصاق فتكون ألصق من "إلى".
وقوله: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} هذا بيان للإيمان الذي دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}:
الإيمان بالله عز وجل: هو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان وليس مجرد الإقرار، ولو كان الإيمان مجرد الإقرار لكان أبو طالب مؤمنًا لأنه مقر، ولكنه لا يكون إيمانًا حتى
يتضمن القبول والإذعان، يعني الانقياد، فأما إذا لم يقبل أو قبل ولم يذعن فإنه ليس بمؤمن.
وقوله هنا: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} قد يقول قائل: هل الإيمان يقتصر على ركن واحد؟ وهو الإيمان بالله.
فالجواب: أن من آمن بالله آمن بكل ما أخبر الله به ومنه بقية الأصول الستة: "ملائكة الله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره".
فعلى هذا يكون الإيمان بالله متضمنًا للإيمان ببقية أركان الإيمان، ويكون ذكرها أحيانًا مفصلة من باب التفصيل والبيان وليس من باب التخصيص، فإن الإيمان بالله يتضمن هذا كله.
{أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} : يعني أقررنا بذلك مع الانقياد والقبول والإذعان.
{رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا} : أي: بسبب إيماننا اغفر لنا ذنوبنا. و"المغفرة": هي ستر الذنب والتجاوز عنه، وإنما نقول: إنها ستر وتجاوز لأنها مأخوذة من "المِغْفَر" وهو ما يلبس على الرأس من الحديد الذي يقي السهام، ومعلوم أن هذا "المِغْفَر" فيه ستر وفيه وقاية، فمن قال من العلماء: المغفرة هي الستر فإن تفسيره لها ناقص، لابد أن يقال: الستر مع الوقاية.
وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} :
الذنوب: هي المعاصي، وأصلها "النصيب" كما قال تعالى:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] أي: نصيبًا مثل نصيب أصحابهم، ولكنها خصت بالنصيب من الآثام والعياذ بالله.
وقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} :
السيئات طلبوا تكفيرها، والذنوب طلبوا مغفرتها؛ لأن السيئات: هي "الصغائر" وهي تكفّر بالأعمال الصالحة؛ بالطاعات، ولا يمكن أن تكفر بالطاعات إلا بعد أن تكون الطاعات على الوجه الأكمل؛ لأن الطاعات إذا نقصت لم تقوَ على تكفير السيئات. إذ إن الإنسان قد يفعل الطاعة ولا يحصل له منها إلا إبراء الذمة، لكن لا تقوى على التكفير حتى تكون "تامة" بقدر المستطاع، ولهذا قالوا:{وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} بما نفعله من الأعمال الصالحة.
ثم اعلم أن تكفير السيئات قد يكون معيَّنًا من قبل الشرع، أي: ما يكفَّر به قد يكون معينًا من قبل الشرع مثل كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الجماع في نهار رمضان. فهذا مقيد بالشرع، وقد يكون عامًا كتكفير السيئات عمومًا بالصلاة، وبالوضوء، وبالجمعة إلى الجمعة، وبرمضان إلى رمضان، وبالعمرة إلى العمرة. فالتكفير إما مقيد وإما مطلق عام.
وهناك فرق بين الكبائر والصغائر؛ فإن الكبيرة أحسن ما قيل فيها: هي ما رتب عليه عقوبة خاصة، سواء كانت العقوبة دنيوية أو دينية في الدنيا أو في الآخرة، هذا أحسن ما قيل فيها، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله. وقال بعضهم: إن الكبيرة ما رتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، أو لعنة أو غضب أو نفي إيمان، أو تبرؤ منه، وصاروا يعدّون مثل هذا.
فإذا قلنا: ما رتب عليه عقوبة خاصة صار أشمل، ومن المعلوم أن الكبائر بعضها أهون من بعض أو أعظم من بعض؛
لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكرة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"
(1)
.
وهم طلبوا من الله تكفير الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا تكفَّر، وإنما تحتاج إلى مغفرة من الله عز وجل، إما مجرد فضل منه سبحانه وتعالى، وإما بعمل أسباب كالاستغفار والتوبة حتى ترفع حكم هذه الكبائر.
{وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} :
"توفنا" يعني "اقبضنا إليك""والتوفية" بمعنى "القبض"، ومنه قولهم: تَوَفَّى فلان حقّه أي قبضه وافيًا.
وقولهم: {مَعَ الْأَبْرَار} المعية هنا ليست معية زمنية لتعذر اجتماع وفاة الأبرار في آنٍ واحد، لكنها معية حكمية ومصاحبة حكمية. يعني: أن نكون معهم، أي: في جملتهم ولو كنا بعدهم.
و(الأبرار) جمع بَرْ؛ والبَرُّ هو: كثير الخيرات، قال الله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]، وأهل الحق والأعمال الصالحة لا شك أنهم مكثرون لفعل الخيرات، وعليه فإنهم أبرار.
فإن قال قائل: هل في هذا الدعاء جواز الدعاء بالموت؟
الجواب: ليس كذلك، فمعلوم أن الله سبحانه وتعالى لن يتوفاهم إلا إذا جاء أجلهم، وليس فيها أنهم يتمنون تقديم الوفاة،
(1)
رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم (2654). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، رقم (87).
وهذا نظير قول يوسف عليه الصلاة والسلام: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. ليس المعنى أنه يسأل الله أن يتوفاه الآن، بل أن يتوفاه على الإسلام متى جاء أجله، وكذلك قول مريم:{قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23] ليس معناه أنها تمنت الموت بل تمنت أن هذا لم يقع، يعني معناه نقول:"يا ليتني مت وأنا ما رأيته".
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنه ينبغي للإنسان أن يعترف بنعمة الله عليه غير مانٍّ بها على ربه؛ لقولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} .
2 -
أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إلى الإيمان: {يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} .
3 -
بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذل الجهد في دعوة الخلق إلى الحق؛ لأن النداء يكون برفع الصوت، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأعلى صوته يناديهم للإيمان.
4 -
أن الكلمات قد يستغنى بمضمونها عن تفصيلها؛ لقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} أي: بكل شيء يجب الإيمان به، فكل ما أخبر الله به وصدقنا به وأقررنا به فهو داخل في الإيمان بالله عز وجل.
5 -
الإشارة إلى بيان علة الإيمان؛ لقوله: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ} فالرب أهل لأن يؤمن به الإنسان لأنه رب خالق، مالك، مدبر، فهو جدير بأن يؤمن به العبد.
6 -
أن ذكر الإنسان لعمله الصالح لا يحبطه، فإذا قال: أمرني ربي بالصلاة فصليت، أو بالزكاة فزكيت، أو بالحج
فحججت، فإن هذا لا يبطل العمل؛ لأنهم قالوا:{أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} .
7 -
جواز التوسل في الدعاء بالأعمال الصالحة؛ لقولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عطفًا على قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} والتوسل بالأعمال الصالحة مما ثبت بالسنة أيضًا.
ففي قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار بصخرة عظيمة لم يستطيعوا زحزحتها فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من ذلك إلا أن تتوسلوا إلى الله بصالح أعمالكم؛ فتوسل كل منهم بصالح عمله، فلما دعا الأول وتوسل بصالح عمله انفرجت الصخرة قليلًا، ثم الثاني قليلًا لكن لا يستطيعون الخروج، ثم الثالث انفرجت كلها فخرجوا يمشون.
هنا يحسن أن نذكر أنواع التوسل:
التوسل ينقسم إلى قسمين: ممنوع، وجائز.
فالممنوع: ما لم يرد به الشرع.
والجائز: ما ورد به الشرع، هذا هو الضابط.
فما لم يرد به الشرع من أنواع التوسل فهو ممنوع، مثل التوسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أحدهم: أتوسل إليك بجاه نبيك، فالتوسل هنا غير مشروع فيكون ممنوعًا؛ لأن التوسل "جعل الشيء وسيلة" وكون الشيء وسيلة لا يثبت إلا بدليل من الشرع، وجاه النبي صلى الله عليه وسلم ليس سببًا لقبول دعائنا؛ لأن جاهه عليه الصلاة والسلام مما يختص هو نفسه بفضله، أما نحن فليس لنا تعلق فيه.
أما الجائز فهو ما جاء به الشرع وهو أنواع منها:
الأول: التوسل بأسماء الله، أن تقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، ودليله حديث ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الكرب والغم:"أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي .. إلخ"
(1)
. فهذا توسل بأسماء الله: "بكل اسم هو لك".
الثاني: التوسل بصفات الله عز وجل، ومن ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام:"اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي"
(2)
. فقوله: "بعلمك الغيب" هذا توسل لله بصفته، ومن ذلك:(اللهم برحمتك أستغيث)
(3)
، فإن هذا ليس استغاثة بالرحمة ولكن استغاثة بالله لصفته وهي الرحمة، فإن الرحيم يغيث.
الثالث: التوسل إلى الله بأفعاله وإن كان من الصفات، لكن هو صفة ليست أزلية أبدية، ومنه قولنا في التشهد:"اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"
(4)
.
(1)
رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم (3704، 4306).
(2)
رواه النسائي، كتاب السهو، رقم (1305). ورواه أحمد في مسنده، رقم (17861).
(3)
رواه الترمذي، كتاب الدعوات، رقم (3524).
(4)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. . .} ، رقم (3370). ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (405).
فقوله: "كما صليت على إبراهيم" المراد بذلك التوسل إلى الله، يعني: مثل ما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم فصلِّ على محمد، فإذا قلنا بهذا صارت الكاف للتعليل.
وبهذا التقرير يرتفع الإشكال الذي أورده بعض العلماء وقالوا: من المعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، والقاعدة:"أن المشبه دون مرتبة المشبه به" وهنا قال: "صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم"، وإذا قلنا: بأن الكاف ليست للتشبيه ولكنها للتعليل، وأن هذا من باب التوسل؛ يعني: أننا لا نسألك أمرًا غريبًا، بل نسألك أمرًا فعلته من قبل، فإن الإشكال هنا يرتفع ولا يبقى في هذا إشكال.
الرابع: التوسل إلى الله تعالى بالايمان به وبرسله، ومنه هذه الآية:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا} ، فجعلوا إيمانهم بذلك وسيلة لسؤال المغفرة {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} .
الخامس: التوسل إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، وليس بالإيمان بالأعمال الصالحة، ومن ذلك قصة أصحاب الغار الثلاثة حين انطبقت عليهم صخرة فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، توسل أحدهم بكمال برِّه لوالديه، وتوسل الثاني بكمال عفته، وتوسل الثالث بكمال أمانته، ففرّج الله عنهم.
فإذا قال قائل: التوسل بهذا والذي قبله فيه إشكال؛ لأنه قد يقول قائل: أليس هذا إدلالًا على الله عز وجل، وإعجابًا وفخرًا بالعمل؟ كأنه يقول: يا رب إني فعلت كذا وفعلت كذا، فاغفر لي مثلًا.
فالجواب: لا، بل هذا من باب التذلل له عز وجل وأنني يا رب قد ذللت لك وعلمت أنك الملجأ فعبدتك وآمنت بك، فأسألك أن تغفر لي مثلًا.
السادس: التوسل إلى الله عز وجل بذكر حال الداعي، أن تذكر حالك، فتقول: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي.
الأول توسل بالعمل الصالح، وهنا على العكس بالحال، ومن ذلك قول موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ما ذكر إلا هذا، وهذا توسل بذكر الحال؛ لأن الإنسان إذا ذكر حاله وأنه مفتقر إلى الله أوجب ذلك له أن يلجأ إلى ربه عز وجل، ويكون هذا من أسباب إجابة الدعاء.
السابع: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح، ومنه قول عكاشة بن محصن للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال:"إن من أمته سبعين ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، قال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم"
(1)
.
ومنه قول الأعرابي: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا فدعا
(2)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب البرود والحبرة والشملة، رقم (5811). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، رقم (216).
(2)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، رقم (1013). ورواه مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897).
ومنه قول عمر للعباس: قم فادعُ الله، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا
(1)
.
وهذا النوع السابع ينبغي أن يُلاحَظ منه ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إذا طلب منه أن يدعو له فإنما يقصد بهذا منفعة الداعي وأجره؛ لأن الداعي يؤجر إذا دعا لأخيه، وإنما قال ذلك احترازًا مما إذا أراد الطالب نفع نفسه فقط. قال: فإن هذا من المسألة المذمومة، أن تقول: ادعُ الله لي. وقصدك منفعة نفسك.
بل قل: ادعُ الله لي، وتقصد أن ينتفع هو أيضًا بدعائه لك؛ لأنه يؤجر على الإحسان إليك؛ لأنه إذا دعا لك بظهر الغيب، قال الملك: آمين ولك بمثله. هذا إذا أردت أن تطلب من شخص أن يدعو لك أنت خاصة، أما إذا طلبت منه أن يدعو للمسلمين عمومًا فهذا ليس من المسألة المذمومة، حتى وإن لم تلاحظ نفعه هو. ونظيره: لو أنك سألت رجلًا درهمًا لنفسك، أو قلت: أعطني درهمًا لفلان الفقير، كان الأول من السؤال المذموم، والثاني من الإحسان إلى المعطي وإلى المعطى؛ لأنك تنفع المعطي في الآخرة، وتنفع المعطى في الدنيا.
فهذه سبعة أنواع من التوسل كلها جاءت بها السنة وهي جائزة، لأنها حقيقة سبب من الأسباب، والوسيلة هي أصلًا تشبه الوصيلة، والسين والصاد يتناوبان كثيرًا. كما في قوله تعالى:
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، رقم (1010).
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} و (اهدنا السراط المستقيم)، كلاهما قراءتان سبعيتان. إذن نأخذ من هذه الآية جواز التوسل بالإيمان، واستطردنا بذكر أقسام التوسل.
وهنا مسألة: هل شرك المشركين بآلهتهم من باب التوسل الممنوع أم ماذا؟
الجواب: ليس من التوسل، بل هو عبادة؛ لأنهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم يقصدون العبادة، يدعون هذه الأصنام ويركعون لها ويسجدون لها، وينذرون لها ويذبحون لها، فهذا ليس من باب التوسل، بل من باب القصد والغاية أن هذه الأصنام تعبد.
8 -
أن كل أحد محتاج لمغفرة الذنوب؛ لقوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} . فلا تغرنك كثرة الطاعات، فالإنسان كلما كثرت طاعاته ينبغي أن يكون أخوف على نفسه من أن تُرد هذه الطاعات ويذهب عمله سدىً.
9 -
التفريق بين المعاصي؛ بعضها ذنوب، وبعضها سيئات، وهو كقولنا: إنها تنقسم إلى كبائر وصغائر، والكبائر والصغائر تختلف في ذاتها وتختلف فيما بينها، فالكبائر منها كبرى، ومنها صغرى. والصغائر منها ما يقرب من الكبائر، ومنها ما هو دون ذلك.
10 -
جواز سؤال الموت على طريق أهل الخير؛ لقولهم: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} ، وقد ذكرنا فيما سبق أن هذا ليس من باب الدعاء بالموت العاجل، وإنما من باب الدعاء بالموت على صفة مطلوبة، وهي أن يموت على ما مات عليه الأبرار، وذكرنا لهذا
نظائر، مثل قول مريم:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]. والمعنى: يا ليتني مت قبل المصاب، وكذلك قول يوسف عليه السلام:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
11 -
الثناء على أهل البر والإحسان؛ لقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} .
* * *
• ثم قال تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]:
انظر إلى التكرار في قوله: "ربنا"، لأنهم يتلذذون بهذا التعبير أن يكون الله ربهم، وإذا كان الله ربهم فهم عبيده، وتلذذ الإنسان بعبوديته لله عز وجل دليل على كمال إيمانه؛ لأنه كلما كان الإنسان أذل لله كان أكمل إيمانًا، ولهذا يكررون "ربنا" تلذذًا بهذا الاسم الكريم.
وقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} .
آتنا: بمعنى أعطنا، بخلاف ائتنا: بمعنى جئنا، آتِ بمعنى أعطِ، وأتى بمعنى جاء.
والمصدر من آتى: إيتاء؛ لقوله تعالى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]. أما المصدر من أتى فهو إتيان.
يقول: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} :
"ما": هذه موصولة ومحلها من الإعراب مفعول ثانٍ لآتِ، لأن "آتِ" تنصب مفعولين وهي من أخوات أعطى، بمعنى ليس أصلهما من المبتدأ والخبر، فالذي ينصب مفعولين ينظر فيه: إن
كان أصلهما المبتدأ والخبر فهو من أخوات ظن، وإن لم يكن أصلهما المبتدأ والخبر فهو من أخوات أعطى وكسا، وهذه من أخوات أعطى وكسا.
قوله: {مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي عهدت به إلينا من الثواب الجزيل على أعمالنا، وقوله:{عَلَى رُسُلِكَ} تحتمل معنيين:
أحدهما: على الإيمان برسلك.
والثاني: على أيدي رسلك.
فعبَّر بالرسل عن أيدي الرسل؛ لأن الذين وعدوهم هم الرسل أنفسهم، وعدوا المؤمنين بما وعدهم الله به، ووعدوا المخالفين بما توعدهم الله به.
{وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} :
"تخزنا": أي تفضحنا وتذلنا يوم القيامة، أي يوم يقوم الناس من قبورهم لله عز وجل، وسمِّي هذا اليوم يوم القيامة لأمور ثلاثة:
الأول: أنه يقوم الناس فيه من قبورهم لله.
الثاني: أنه يقام فيه العدل.
الثالث: أنه يقوم فيه الأشهاد.
وقولهم: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} :
تعليل لسؤالهم، يعني: سألناك يا ربنا أن تعطينا هذا لأنك لا تخلف الميعاد، وإنما انتفى عنه إخلاف الوعد لكمال صدقه وكمال قدرته؛ لأن إخلاف الوعد، إما أن يكون لكذِب الواعد، كميعاد أهل النفاق، وإما أن يكون لعجز الواعد أي أنه يفي لكنه عجز، والله عز وجل قد انتفى في حقِّه الأمران، أعني الكذب
والعجز، فهو لكمال صدقه وكمال قدرته لا يخلف الميعاد، وهذه الصفة من الصفات السلبية، والسلب بمعنى النفي. وقد قررنا غير مرة أن الصفات السلبية يراد بها شيئان:
الأول: انتفاء الصفة التي نفيت.
الثاني: إثبات كمال ضدها، يعني: انتفى عنه هذا لكمال ضده، هذا هو المعنى. فإذا قلت: فلان لا يكذب، فالمعنى أنه كامل الصدق لا يوجد في كلامه كذب، ولهذا نقول: إن الصفات المنفية عن الله سبحانه لا يراد بها مجرد النفي، وإنما يراد بها إثبات كمال الضد.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أنه ينبغي للداعي أن يكثر من الثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ لأن هذا من وسائل إجابة الدعاء.
2 -
كمال إيمان هؤلاء بوعد الله؛ لقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} إذ لو كان عندهم شك ما سألوا هذا السؤال.
3 -
أن الرسل هم الواسطة بين الله وبين خلقه؛ لقوله: {عَلَى رُسُلِكَ} ولا شك أن الرسل هم الواسطة بين الله وبين خلقه؛ ومن حكمة الله أن جعلهم من البشر؛ لأنه لا يمكن التلاؤم بينهم وبين البشر إذا لم يكونوا من جنسهم، ولهذا قال الله تعالى رادًا على الكفار الذين قالوا: لو كان محمدٌ ملكًا لآمنا به، قال الله سبحانه وتعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 8، 9] وحينئذ تعود المشكلة على زعمهم {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].
4 -
إثبات أن الخلق لهم أكثر من رسول {عَلَى رُسُلِكَ} لأن رسل جمع رسول، وهذا أمر معلوم باليقين القطعي، فالقرآن كله مملوء بقصص الأنبياء، فإذا قال قائل: قد ورد الجمع ويراد به الواحد، كقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ومعلوم أن قوم نوح لم يكذبوا إلا نوحًا، فالجواب عن ذلك أن نقول: إن هذه الآية قد دلت على أن المرسل إليهم واحد، ولكن لما كان تكذيب الرسول الواحد تكذيب لجميع الرسل، قال:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] لأن المقصود التكذيب بالجنس لا بالواحد، فكأنهم كذبوا بجنس الرسالة وقالوا: لا يمكن أن يبعث الله الرسل كما قال تعالى في بيان تكذيب الأمم أنهم يقولون لرسلهم: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15].
5 -
أن هؤلاء الأبرار يؤمنون بيوم القيامة وبما يلحق الناس به من الذل والخزي؛ لقوله: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
6 -
أن الخوف من عذاب الله لا ينافي البر؛ لقولهم: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} بل إن الخوف من عذاب الله يزيد البر؛ لأنه يزيد تصديقًا بما أخبر الله به.
7 -
كمال صدق الله وقدرته، تؤخذ من قوله:{إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
8 -
أن الله تعالى لا يخلف الميعاد أبدًا.
فإن قال قائل: يرد على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وقد توعد الله عز وجل العصاة بما يستحقون من الذنوب مثل قوله: (لا يدخل
الجنة قتات)
(1)
أي: نمام.
فالجواب: أن نقول: إن النفي يراد به بيان كمال الله في الصدق والقدرة، فإن عفوه عمن استحق العقاب لا يعد إخلافًا للوعد لأنه قادر، ولكنه كمال فوق كمال، فإن العفو عن الانتقام مع القدرة كمال، قال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
* * *
استجاب بمعنى أجاب كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الشورى: 38].
وقوله: {رَبُّهُم} ولم يقل (الله) لأنهم كانوا يدعون بقولهم: (ربنا) فالموقع هنا يقتضي الربوبية، وهي هنا ربوبية خاصة؛ لأن ربوبية الله تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122].
ومقتضى الربوبية العامة مطلق التصرف، ومقتضى الربوبية
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم (6056). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم النميمة، رقم (105).
الخاصة النصر والتأييد واللطف، وغير ذلك مما يقتضي عناية خاصة. الربوبية هنا من الخاصة.
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ} هذا بيان المستجاب.
فما الذي استجاب لهم؟ قال: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} ؛ {لَا أُضِيعُ} يعني لا أهدره بل أحتسبه.
وقوله: {عَمَلَ عَامِلٍ} (عمل) هنا مضاف فيقتضي العموم يعني: أي عمل قلَّ أو كثر فإن الله لا يضيعه، وهذا كقوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، وقوله:{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} :
هذه بيان لـ"عاملٍ" فـ"مِن" هنا بيانية؛ بيان للعامل، يعني سواء أكان العامل ذكرًا أم أنثى، ثم قال:{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} يعني في الدعاء واستجابته، أما فى المناصرة فقد قال الله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] لكن في باب العمل والاستجابة له والثواب بعضهم من بعض فرق بين الذكر والأنثى.
ثم قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} :
هذه خمسة أوصاف: "هاجروا" يعني هجروا بلادهم وخرجوا منها إلى بلاد الإسلام.
إما مباشرة بأن طردوا من البلاد، أو بالتضييق عليهم حتى يخرجوا؛ لأن الإخراج من البلاد، إما أن يكون مباشرة بالطرد، وإما أن يكون بالتضييق عليه حتى يخرج، فأيهما أشد؟
الجواب: الأول أشد؛ لأن الثاني يمكنه أن يصبر ويتحمل ولا يخرج، يختفي أحيانًا ويهرب أحيانًا، ويبقى في بلده، لكن الطرد بأن يمسك ويطرد لا شك أنه أشد، ولهذا قال أهل العلم خصوصًا الحنابلة فيمن فعل ما يوجب الحد من زنا أو غيره، ثم لجأ إلى مكة إلى الحرم فإنه لا يخرج من الحرم ولا يقام عليه الحد في الحرم، لأنه لجأ إليه، ومن دخله كان آمنًا، ولكنه يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يبايع ولا يكلّم، حتى تضيق عليه الأرض ويخرج، أما أن يخرج بالقوة ليقام عليه الحد فلا.
إذن هناك فرق بين من أُخرج بالفعل أي بالقوة مباشرة ومن أُخرج بواسطة التضييق عليه.
{وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} :
ديارهم: يعني التي يسكنونها سواء بأجرة أو بغير أجرة، فإن الدار المستأجرة مثلًا تسمى دار الإنسان.
وقال عز وجل: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} :
مع أنهم أخرجوا حصل لهم أذية في سبيل الله، أي في دين الله كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان ساجدًا تحت الكعبة، فذهب قوم من قريش وأتوا بسلا الجزور ووضعوه على ظهره
(1)
،
(1)
انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1794).
هذا إيذاء ولم يضره ولكنه أذية له، وفعل أيضًا في كثير من الصحابة من الأذى ما هو معروف بالسيرة.
وقال تعالى: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} :
وفي قراءة: (قَاتَلوا وَقُتِّلوا) وقراءة ثالثة: (وقُتِلُوا وقَاتَلوا) فالقراءات هنا ثلاث: الأولى: قَاتَلُوا وقُتِلوا، والثانية: قَاتَلُوا وقُتِّلُوا، والثالثة: قُتِلُوا وقَاتَلُوا. والمعنى لا يختلف اختلافًا كبيرًا؛ أما قوله: (قَاتَلُوا) فهذا يعني الجهاد، هم قاتَلُوا الكفار. وأما قوله:(قُتِلُوا) فهذا يعني الاستشهاد، قتلهم الكفار في سبيل الله.
وأما قوله: (قُتِلُوا وقَاتَلُوا) فهي هي ولكن فيها تقديم وتأخير، وأما قوله:(قَاتَلوا وقُتِّلُوا) فهي أشد. كما قال تعالى: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61]؛ فالتقتيل أشد من مجرد القتل.
وقوله تعالى: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ} :
الجملة في قوله: {لَأُكَفِّرَنَّ} خبر المبتدأ في قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} ولكنها جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: اللام، والقسم، ونون التوكيد.
{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} :
أي بما حصل لهم من هذه الأشياء من هجرة، وإخراج من ديار، والإيذاء في سبيل الله، والمقاتلة في سبيل الله والقتل {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ، وقد مرَّ علينا أن الفرق بين مغفرة الذنوب وتكفير السيئات عند الجمع بينهما: أن المغفرة في الكبائر، والتكفير في الصغائر؛ تكفّرها الأعمال الصالحة وتكفّرها المصائب.
{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} :
أي صغائر ذنوبهم، ويجوز أن يراد بالسيئات هنا ما هو أعم؛ لأنها لم تقرن بالذنوب حتى نقول: كل واحدة لها معنى، وهذا له نظائر كثيرة؛ تجد بعض الكلمات يكون لها معنى وحدها ولها معنى إذا اقترنت بغيرها.
{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ} الجملة أيضًا فيها تأكيد باللام، والقسم، والنون، وهي معطوفة على قوله:{لَأُكَفِّرَنَّ} فمحلها الرفع على أنها خبر المبتدأ كالأولى.
{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
{جَنَّاتٍ} بالجمع، وأحيانًا يقال: بالإفراد، فإذا كانت بالإفراد فالمراد بها مطلق الجنس، وإذا قيلت بالجمع فالمراد بها أنواع الجنات، وفي القرآن في سورة الرحمن أن أنواع الجنات أربع، وربما يكون هناك أنواع أخرى لا نعلم بها. المهم أن الجمع باعتبار الأنواع، والإفراد باعتبار الجنس. فما هذه الجنات؟ ! .
أصل الجنة البستان الكثير الأشجار، وسُمِّيَ بذلك لأنه يجنّ مَنْ فيه؛ أي يستره، والمادة هذه "ج ن ن" كلها دالة على الستر والخفاء، ومنه الْجُنَّة للمقاتل يأخذها يستتر بها عن السهام، ومنها الجَنَان يعني القلب لاختفائه، ومنه الجِنَّة أي:(الجن) لاستتارهم.
يقول عز وجل: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
الجريان معروف، والأنهار جمع نهر، وجمعت لأنها أربعة أنواع مذكورة في سورة محمد: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ
لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]، وهذه الأنهار لا تنضب ولا تنقص، ولا تحتاج إلى حفر ولا إلى إقامة جدر.
قال ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت
…
سبحان ممسكها عن الفيضان
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
هل المراد من تحت الأرض أم من تحت الأشجار الساترة؟ الجواب: الثاني من تحت الأشجار الساترة والقصور، فهي أنهار مطردة، لكنها لا تؤذي لأنها تنقاد لأمر مالكها، إذا أمر هذا النهر أن ينصرف يمينًا أو شمالًا فعل بأمر الله عز وجل، وإذا أمره أن يقف وقف.
وقوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
قوله: {ثَوَابًا} في نصبه ثلاثة أوجه:
الأول: أنه نصب على المصدرية، فيكون مصدرًا مؤكدًا لعامل محذوف؛ لأن معنى الجملة قبله يقتضيه، والتقدير:(لأثيبنهم إثابة أو تثويبًا) فوضع ثوابًا موضع أحد هذين المصدرين؛ لأن الثواب في الأصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى، ثم قد يقعان في موقع مصدر، وهو نظير قوله:{صُنْعَ اللَّهِ} و {وَعْدَ اللَّهِ} في كونهما مؤكدين.
الثاني: أن يكون منصوبًا على الحال من جنات أي: مثابًا بها، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها بصفة.
الثالث: أنه حال من الضمير المفعول به، أي حال كونه مثابًا. يعني مع الحال أو مصدر، لكنه مصدر غريب، يكون
العامل فيه لأكفرن ولأدخلن على اعتبار أن التكفير والإدخال ثواب، وفي النفس من هذا شيء، فالظاهر أنه مصدر لعامل محذوف.
وقوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
الثواب يطلق على العطاء الذي يعطاه الإنسان كما في قوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] أي هل أعطي؟ ويطلق على الإثابة التي هي فعل المثيب. والأصل الأول، أن الثواب اسم لما يثاب به، كالعطاء اسم لما يعطى، وقد يراد به الإثابة.
وقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
العندية هنا تقتضي تعظيم هذا الثواب؛ لأن الثواب من العظيم يكون عظيمًا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي علمه أبا بكر:"اغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"
(1)
.
وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} :
الجملة هذه مؤكدة لما سبق، أي أن الله سبحانه وتعالى يثيبهم الثواب الحسن؛ لأن هذا هو الذي عند الله، ولهذا يجازي المحسن بحسنته عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
بيان فضل الله عز وجل بإجابة هؤلاء الذين دعوا بما سبق؛ لقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ} .
(1)
تقدم تخريجه في المجلد الأول (ص 53).
2 -
بيان ثبوت سمع الله لأنه لم يثبهم إلا حين سمع دعاءهم.
3 -
أن تكرار الدعاء من أسباب الإجابة، ونأخذ منها بناء على ما سبق أن الدعاء باسم الربوبية أقرب إلى الإجابة من الدعاء باسم آخر؛ لأن أكثر الأدعية الواردة في القرآن جاءت باسم الربوبية.
4 -
عناية الله عز وجل بهؤلاء الأبرار؛ لقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} لأن هذه الربوبية، قلنا: إنها ربوبية خاصة.
5 -
أن الله يعطي الأجر كاملًا؛ لقوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} ، وهذا النفي يتضمن إثباتًا، فإذا كان لا يضيع عمل عامل فمقتضاه أنه يعطي العامل كل ما عمل، أي أجر كل ما عمل.
6 -
استواء الذكر والأنثى في الجزاء على الحسنات وإجابة الدعوات؛ لقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} .
فمعناه أنهم إذا دعوا الله عز وجل استجاب للذكر والأنثى، يعني لا يستجيب للذكر فقط دون الأنثى، وكذلك في ثواب الأعمال الصالحة يشتركان فيه؛ لا يفضل الذكر على الأنثى في الثواب على عمل عمله.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن"
(1)
وذكر من نقصان دينها أنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ .
فالجواب: بلى. ولكنها إذا صلت في الوقت الذي
(1)
رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بنقص الطاعات، رقم (80).
تطالب بالصلاة فيه، فإن أجرها وأجر الرجل سواء، فإذا صلت امرأة صلاة الظهر، وصلى الرجل صلاة الظهر، فهما في الأجر سواء.
7 -
فضيلة الهجرة فى قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} وقد قال العلماء: إن الهجرة تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: هجر ما حرم الله، فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وهذا يعني أن المهاجر هو الذي قام بفعل الواجبات وترك المحرمات.
القسم الثاني: الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، كما فعل المهاجرون من مكة إلى المدينة، وهذه هي التي يكون فيها المدح الذي جاء في القرآن.
القسم الثالث: الهجرة من بلد الفسق إلى بلد الاستقامة، فإن بعض البلاد تكون بلادًا إسلامية تقام فيها الشعائر الإسلامية، وينادى فيها بالأذان، وتقام الجماعات، وتقام الجُمُعات، فهي بلاد إسلامية، ولكنها بلاد فسق من جهة أخرى لكثرة المعاصي والفواحش وغيرها في هذا البلد، فيهاجر الإنسان منها إلى بلد الاستقامة، فلننظر ما هو الواجب من هذه الأنواع الثلاثة؟ !
نقول:
أما الأول: (وهو هجر ما حرم الله) فهو واجب على كل إنسان، حتى في بلاد الإسلام المستقيمة يجب عليه أن يهجر ما حرم الله.
وأما الثاني: (المهاجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام) فان العلماء رحمهم الله يقولون: إن كان قادرًا على إظهار دينه لم
تجب الهجرة، وإن كان عاجزًا وجبت عليه الهجرة، فإذا كان في بلاد يحبسون الحريات ويمنعون المسلمين من إقامة شعائر دينهم كالصلوات في الجماعة مثلًا؛ فالهجرة هنا واجبة؛ لأن المسلم لا يقدر على إظهار دينه. وإن كان في بلد تعتبر نفسها بلد حرية فإن الهجرة ليست بواجبة، لكن مع هذا نقول: هي أكمل وأحسن مما لو بقي. وعليه فإذا كان يمنع من إظهار الدين وجب عليه الهجرة حتى لو كان من أهل البلد أصلًا، أما إذا كان في بلد الحرية فالهجرة أكمل، خوفًا من الفتنة.
وأما الثالث: (الهجرة من بلد الفسق إلى بلد الاستقامة) هذه فيها تفصيل أيضًا: إن كان يخشى على نفسه من الفتنة وجبت عليه الهجرة، وإن كان لا يخشى لم تجب عليه الهجرة، وربما يكون بقاؤه أحسن في هذه البلاد إذا كان يدعو إلى الله.
8 -
الإخراج من الديار سبب لتكفير السيئات؛ لقوله: {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} وكذلك أيضًا قوله: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} .
لكن لو قال قائل: إن التكفير للسيئات مرتب على كل الأوصاف الخمسة؟
فالجواب عن ذلك أن نقول: إن تعليق التكفير بهذه الأوصاف الخمسة دليل على أن لكل وصف منها تأثيرٌ في الحكم، ولولا التأثير لكل واحد منها ما صحَّ أن تكون تكفيرًا للسيئات، وهذه فائدة مهمة؛ لأن بعض المجادلين قد يقولون: إن الحكم مرتب على أسباب خمسة أو أكثر فنقول: نعم إذا رتب على أسباب أكثر من واحد فإن هذه الأسباب تدل على أن لكل
واحد منها تأثيرًا، ولولا أن له تأثيرًا ما ترتب الحكم أصلًا، لو أننا قلنا: رقم واحد ليس له تأثير، ورقم اثنين ليس له تأثير، ورقم ثلاثة ليس له تأثير، ورقم أربعة ليس له تأثير، لم يثبت الحكم. لكن نقول: كل واحد له تأثير بنفسه، لكن قد يقوى على حصول الحكم وقد لا يقوى إلا على حصول بعضه.
9 -
أن الإيذاء في سبيل الله يزداد الإنسان فيه أجرًا، ويتفرع على هذه القاعدة أنه ينبغي للإنسان أن يصبر على الإيذاء في سبيل الله مادام ينتظر الأجر به؛ لأن الإنسان كلما علم أنه ينال أجرًا وثوابًا بإيذائه، فإنه لابد أن يصبر عليه.
10 -
فضيلة القتال في سبيل الله؛ لقوله: (وقاتَلوا).
11 -
فضيلة القتل في سبيل الله وذلك أن القتل في سبيل الله من الشهادة.
12 -
أن الأعمال الصالحة تكفر بها السيئات، أي: تستر؛ لأن التكفير مأخوذ من الكفر وهو من الستر، ومنه الكُفُرَّى: الغلاف الذي يكون على طلع النخل لأنه يستره، لهذا سمي ستر السيئات بالحسنات تكفيرًا.
13 -
أن الله سبحانه وتعالى ضمن ضمانًا مؤكدًا لهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الخمس، ضمن لهم ضمانين:
الضمان الأول: تكفير السيئات.
والضمان الثاني: إدخال الجنات.
وهذا الضمان مؤكد بثلاثة مؤكدات: اللام، والقسم، ونون التوكيد.
14 -
التشويق إلى الجنة ليزداد الإنسان قوة في العمل لها؛
لقوله: {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والجنات في الأصل البساتين الكثيرة، لأنها أي البساتين الكثيرة الأشجار تجن مَنْ فيها، أي تستره وتغطيه، فيستفاد منها التشويق إلى هذا الثواب العظيم.
15 -
أن في الجنة قصورًا؛ لقوله: {مِنْ تَحْتِهَا} والتحت لا يكون إلا في مقابل الفوق العالي، وهو كذلك.
16 -
أن الجنة فيها عدة أنهار وهي مجملة هنا، مفصلة في سورة محمد على أنها أربعة أنهار، قال تعالى:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15].
17 -
أن هذا الجزاء مثوبة لهم من الله، فلله فيه المنة عليهم، وليس لهم المنة على الله بعملهم؛ لقوله تعالى:{ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ولو شاء الله لم يثبهم، ولو شاء لأثابهم دون ذلك، ولكنه بفضله جعل الثواب لهم، هذا الثواب العظيم {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
18 -
الإشارة إلى عظم هذا الثواب من قوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وذلك لأن العطية تعظُم بحسب معطيها، والهبة تعظُم بحسب واهبها، وإذا كان ذلك من عند الله كان هذا دليلًا على أنه ثواب عظيم؛ لأن الثواب من العظيم عظيم.
19 -
أنه لا يتلقى حصول الثواب إلا من الله؛ لقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ -أي: وحده- حُسْنُ الثَّوَابِ} فلا تذهب تتلقى الثواب إلا من عنده؛ لأنه مهما آتاك الخلق من ثواب، فإنه لن يكون مثل ثواب الله تعالى.
فحسن الثواب إنما هو عند الله وحده، وفي هذه الجملة ما سبق بيانه من أن فيها تأكيدًا لعظم هذا الثواب، لأنه لما قال من عند الله استفدنا منه عظم الثواب.
20 -
وفيها فائدة أخرى وهي تأكيد لما سبق أن هذا الثواب ثواب عظيم، وأنه أحسن مثوبة يثاب بها الإنسان {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} .
وهل يستفاد من هذه الآية الكريمة علو الله؟ .
الجواب: أن هناك من العلماء من يقرر: أنه كلما جاءت العندية في القرآن فإنها دليل على العلو، ولكنها في بعض المواضع ليست واضحة وفي بعض المواضع واضحة مثل {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] ومثل قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] فهنا الفوقية واضحة، لكن في مثل هذه الآية ليست ظاهرة جدًا.
* * *
• قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196 - 197].
لا يخفى أن {لَا} أي في قوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ} ناهية، ولكن سيقول قائل: كيف تكون ناهية والفعل مفتوح {لَا يَغُرَّنَّكَ} لأن النون هي آخر الفعل؟ ! .
والجواب عن هذا: أنه إذا اتصلت نون التوكيد بالفعل المضارع لفظًا وتقديرًا صار مبنيًا على الفتح. فإن اتصلت به لفظًا لا تقديرًا لم يكن مبنيًا مثل {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فهي نون التوكيد متصلة بالمضارع لفظًا لا تقديرًا،
لهذا نقول عند الإعراب: (يغرن) فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
وقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ} الخطاب هنا يحتمل أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من يتأتى خطابه، والقاعدة في التفسير: أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين متباينين لكن لا يتناقضان حملت عليهما جميعًا، وإذا احتملت معنيين أحدهما أعم حملت على الأعم؛ لأن الأخص يدخل في الأعم ولا عكس، فهنا إذا قلنا: إن الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجنا عنه بقية الأمة، وإذا قلنا: إن الخطاب عام لكل من يتأتى خطابه صار شاملًا للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره، وعلى هذا فيكون الخطاب هنا عام يعني {لَا يَغُرَّنَّكَ} أيها الرائي الذي ترى تقلب الكفار في البلاد، لا يغرنك هذا.
وقوله: {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} التقلب يعني التردد، أي ترددهم في البلاد وتقلبهم من بلد إلى آخر، وتقلبهم في التجارات وفي أنواع الصناعات وفي غيرها مما فتح الله عليهم، فهذا لا يغرك، ووجه الغرور الذي قد يحصل هو أن الإنسان قد يغتر بهذا الذي أعطاهم الله عز وجل، فيصنع مثل صنيعهم، أو يظن أن إعطاء الله إياهم هذا الشيء دال على أنه لا ينكر ما هم عليه، ولو أنكر ما هم عليه لم يمكِّنهم مِن التقلب في البلاد. وعلى هذا فيكون وجه الغرور من وجهين:
الوجه الأول: ظن أن ما هم عليه حق؛ لأنه يقول: لو كان باطلًا ما مكَّنهم الله تعالى من هذا التقلب.
الوجه الثاني: أن يفعل مثل فعلهم، كما انخدع كثير من
الناس اليوم حيث ظنوا أن الكفار وصلوا إلى ما وصلوا إليه من أجل تحللهم من دينهم، فصار يرى أن الالتزام بالدين -ولو كان هو الدين الحق وهو الإسلام- سبب للتأخر والتقهقر -والعياذ بالله-.
إذن الغرور له وجهان:
الأول: أن الله مكّنهم من هذا التقلب، ولو كان ما هم عليهم باطلًا لم يمكنهم.
والثاني: أن يفعل مثل فعلهم ظنًا منه أن ما فعلوه سبب لهذا التقلب والاتساع في التجارات وغيرها. والحقيقة أن هذا لا يغر المؤمن؛ لأن الله قال في كتابه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] ويقول تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 - 45]، فلا تغتر، هذا ليس إلا زيادة حسرة فيما عليهم.
وقوله: {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} :
البلاد: جمع؛ والمفرد بلد، ويجمع البلد أيضًا على بلدان، وكيف التقلب في البلاد؟ الجواب: يذهبون من هذا البلد إلى هذا البلد يتنقلون ويحملون تجارتهم في أمن وطمأنينة يتاجرون ويربحون، فيغتر الإنسان بذلك.
وقوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} :
خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو متاع، هو: أي تقلبهم {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} والمتاع ما تقوم به المتعة سواء كانت متعة نفسية أو متعة جسدية، وكل متعة أضيفت إلى الدنيا أو إلى الكفار فهي
متعة جسدية، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]، والمتاع ما تحصل به المتعة، والمتعة نوعان:
الأولى: متعة قلبية روحية، وهذه لا تكون إلا للمؤمن؛ يتمتع بذكر الله وبما أنعم الله عليه من الإيمان.
والثانية: متعة جسدية يشترك فيها الإنسان والبهائم، وهي ما يحصل للجسد من اللذة والنعيم وغير ذلك.
يقول تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} فهو قليل في زمنه، قليل في كميته، قليل في كيفيته، قليل في كل شيء، فالزمن قليل محدود وهو عمر الإنسان؛ ذلك العمر المجهول الذي لا يدري الإنسان متى ينتهي.
قليل أيضًا في الكمية؛ لأن الإنسان لا يملك كل شيء، قليل في الكيفية، لأن الإنسان قد يحرم التمتع في هذه الدنيا بأمراض تعتريه ولا يتمتع بها، قد يحرم بفَقْدِ بعض الأشياء والله أعلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} يعني ثم بعد هذا المتاع القليل مأواهم جهنم، وأتى بـ"ثم" وإن كانت دالة على التراخي للإشارة إلى أنه مهما طالت بهم المدة في هذه الحياة فإن مآلهم هذا المآل الخبيث والعياذ بالله.
والمأوى بمعنى: ما يأوي إليه الإنسان، فهو اسم مكان، أي: المصير الذي يصيرون إليه وهو جهنم؛ وجهنم اسم من أسماء النار -أعاذنا الله منها- وسميت بذلك؛ لأنها مشتقة من التجهم، أو من الجهمة وهي السواد، وقيل: إنه اسم أعجمي
وأصله "كهنام" لكن عرِّب إلى جهنم، وهو اسم من أسماء النار فهو غير مشتق، وأيًّا كان فهو اسم من أسماء النار.
{وَبِئْسَ الْمِهَادُ} "بئس" فعل من أفعال الذم له فاعل وله مخصوص، فالفاعل هو "المهاد" والمخصوص محذوف والتقدير: وبئس المهاد هي، وإنما احتاج النحويون إلى هذا التقدير لأن المهاد غير النار، والذم للنار، فكان لابد من ذكر مخصوص بالذم غير فاعل الفعل، والمخصوص بالذم هو الضمير المحذوف، أي: وبئس المهاد هي، هذا ما قدره النحاة. و"المهاد" ما يكون مهدًا للإنسان، أي: مقرًا له، ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6]"مهادًا" أي مقرًا تستقرون فيه.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
1 -
نهي الإنسان أن يغتر بما أُوتي الكفار من النعم والرفاهية؛ لقوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} .
2 -
أن ما يعطيه الله العبد من الرخاء وسعة الرزق والانطلاق في الأرض يمينًا وشمالًا ليس دليلًا على رضاه عن العبد، وإنما المقياس لرضا الله عن العبد هو اتباع العبد لشرع الله.
3 -
أن الله عز وجل قد يستدرج المرء بإغداق النعم عليه فتنة له، كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ووجه ذلك أن الله مكَّن هؤلاء الكفار من التقلب في البلاد كما يشاؤون فتنة لهم، ليستمروا على ما هم عليه فيكون ذلك شرًا -والعياذ بالله- كما قال تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
4 -
أن المؤمن قد يضيِّق الله عليه في الرزق أحيانًا ليرجع إليه بخلاف الكافر، وإنما قلت ذلك لئلا يقول قائل: أفليس قد قال الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، نقول: إن المؤمنين هم الذين يبتلون بالضراء من أجل أن يرجعوا إلى الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، أما الكفار فقد تمهد لهم الدنيا ويعطون ما يريدون وتكون جنتهم دنياهم بخلاف المؤمنين.
5 -
أن الدنيا مهما أعطي الإنسان فيها من النعيم فإنها متاع قليل، قليل في زمنه، وفي كميته، وفي كيفيته، لكن الآخرة خلاف ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
(1)
، "السوط" متر أو أقل، خير من الدنيا وما فيها، وليست الدنيا الحاضرة فقط بل خير من كل الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها. وإلى هذا يشير قوله تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 16 - 19].
6 -
الحذر من لعب أعداء المسلمين بالمسلمين حيث يغرونهم بوسائل الترفيه، ويفتحون لهم وسائل الترفيه ليلهوهم عما خلقوا له من عبادة الله، وعما ينبغي أن يكونوا عليه من العزة والكرامة، فإن هذه الوسائل "الترفيهية" هي في الحقيقة حَبٌّ مسموم للدجاج، والحب المسموم للدجاج تغتر به؛ تجده حبًّا
(1)
تقدم تخريجه (ص 513).
منتفخًا لينًا فتفرح به وتأخذه بطرف مناقيرها وتبتلعه بسرعة ولكنه يقطع أمعاءها، فهكذا أعداؤنا فتحوا علينا أبواب الترفيه من كل ناحية، من أجل أن ننغمس فيها ولا يكون لنا هَمٌّ إلا الرفاهية، وننسى ما خلقنا له من عبادة الله، وننسى ما ينبغي لنا أن نكون عليه من العزة والكرامة، قال تعالى:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ} .
7 -
أنه لا يمكن للكافر أن يدخل الجنة؛ لقوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ، لا يمكن أن تكون مأواهم الجنة أبدًا لأنهم كفار.
8 -
الإشارة إلى أن هذا النعيم الذي يدركونه في الدنيا سوف ينسى بهذا المأوى السيئ، فإذا كان المأوى هو النار نسوا كل شيء كما جاء في الحديث:"أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة من أهل النار من أنعم أهل الدنيا -يعني أكثرهم نعمة ورفاهية- فيغمس في النار غمسة واحدة فيقال: هل رأيت خيرًا قط؟ فيقول: لا، ما رأيت خيرًا قط". لأنه نسيه بهذه الغمسة الواحدة، فقد نسي كل ما حصل له في الدنيا من نعيم.
"ويؤتى بأبئس أهل الدنيا من أهل الجنة -أي أشدهم بؤسًا- فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال: هل رأيت شرًّا قط؟ فيقول: ما رأيت شرًّا قط"
(1)
، لأنه نسيه بهذا النعيم الذي هو لحظة، فقد نسي كل ما حصل له في الدنيا من بؤس وفقر وأذى، وهذه الحقائق نحن نؤمن بها لكن الغفلة تستولي علينا، نسأل الله العافية، وأن يوقظ قلوبنا بذكره.
(1)
رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار، رقم (2807).
9 -
بيان قبح هذا المأوى؛ لأن الله أثنى عليه بأسوأ الثناء فقال: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهذا يدل على قبح مأوى أهل النار، نسأل الله السلامة منها.
* * *
• ثم قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]:
وهنا قد يقول قائل: ما وجه مجيء الاستدراك في هذه الآية: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} ، لأن الاستدراك إنما يكون فيما يتوقع دخوله فيما سبق، (قام القوم لكن فلان لم يقم) ممن يتوقع أن يكون فيهم قائم، فهنا {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} ما وجه الاستدراك؟
وجه الاستدراك أن الذين اتقوا ربهم لو حصل لهم في الدنيا مثل ما حصل لهؤلاء الكفار لم يكن ذلك حائلًا بينهم وبين ما عند الله، يعني قد يحصل تقلب المؤمنين في البلاد كتقلب الكفار، فهل يكون مأوى المتقين كمأوى الكافرين؟
الجواب: لا، ولهذا قال:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} فالاستدراك هنا من ألطف ما يكون لئلَّا يظن الظان أن الله لو مكَّن للمؤمنين أن يتقلبوا في البلاد تقلب الكفار لفاتهم ما عند الله، فبيَّن أنه لن يفوتهم فقال:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} . والتقوى تمرُّ بنا كثيرًا، وأحسن ما فسِّرت به أنها:(اتخاذ ما يقي من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه)، هذا أجمع ما قيل في التقوى: اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وقوله: {الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} :
ولم يقل: (اتقوا الله) إشارة إلى أن ربوبية الله لهم ربوبية خاصة أعانهم فيها على التقوى، ووفَّقهم لها، فكانت ربوبيته لهم ربوبية خاصة بهم كربوبيته لبعض الأنبياء مثل {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 122]، فهي ربوبية خاصة لا يشركهم فيها أحد.
{اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} :
إذا رجعنا إلى الإعراب بعد معرفة المعنى نقول: (لكن): حرف استدراك غير عاملة، و {الَّذِينَ}: مبتدأ، و {لَهُمْ جَنَّاتٌ}: مبتدأ وخبر، والمبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} :
جنات: جمع جنة، وأصلها: البستان الكثير الأشجار، سمي بذلك لأنه يجن مَنْ كان فيه أي يستره، ولكننا لا نفسر "جنات" أو "جنة" التي في القرآن، والتي يريد الله بها جنة الخلد، بهذا التفسير (عند العامة)، لأنك لو فسرتها هذا التفسير عندهم لنزلت رغبتهم في الجنة نزولًا كثيرًا. بل نقول -وهو المراد-: الجنة هي: الدار التي أعدَّها الله تعالى للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
لهذا أقول: ينبغي لطالب العلم أن يفسر القرآن بمعناه، ولكن إذا خاف فتنة فليفسره بما يوافق العقول ولا يخالف النصوص.
فإذا قلت عند العامة: الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالتفسير هذا صحيح. لكن عندما تتكلم مع طالب علم يقول: ما معنى الجنة؟ ولماذا سميت بهذا؟
نأتي إلى المادة (الجيم والنون) نجد أنها كلها تدل على الاستتار، فتقول: هي في الأصل البستان الكثير الأشجار، ولنا أن نقول: إن الجنة في الأصل هي هذا المعنى، لكن نقلت شرعًا إلى الدار التي أعدها الله للمتقين كما نقلت الصلاة والزكاة والحج والعمرة إلى معناها الشرعي.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} :
سبق لنا أن قوله: {مِنْ تَحْتِهَا} يدل على علو قصورها وأشجارها، وأن الأنهار أربعة، وأنها تجري بلا أخدود وبلا شق ساق، بل تجري حيث شاء صاحبها، يقول ابن القيم رحمه الله في (النونية):
أنهارها من غير أخدود جرت
…
سبحان ممسكها عن الفيضان
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهلها.
يقول: {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} :
الخلود: هو البقاء، باقون فيها أبدا كما قال الله تعالى في آيات أخرى متعددة:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57].
{نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
نزلًا: هذه منصوبة على الحال، أي: حال كون هذه الجنات نزلًا.
فإذا قال قائل: كيف تكون حالًا وصاحبها نكرة؛ لأن "جنات" نكرة والحال لا تأتي من النكرة، بل لابد أن يكون صاحبها معرفة؟
فالجواب عن ذلك أن نقول: وإن كان صاحبها نكرة إلا أنه خصص بالنعت: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والنكرة المخصصة تأتي
منها الحال كما تأتي من المعرفة، والنزل اسم جامد وليس بمشتق، فإن قيل: إن الحال لا يكون جامدًا بل لابد أن يكون مشتقًا.
فالجواب أن يقال: إنه قد تأتي الحال جامدة، لكنها مؤولة بالمشتق، يعني: أنهم مكرمين بهذا النزل.
والنزل اسم لأول ما يقدم للضيف من الطعام، ومعلوم أن أول يوم للضيف يقدم له أطيب وأحسن شيء، فجعل الله هذه الجنة كلها نزلًا لا يختلف آخرها عن أولها بخلاف نُزل الضيافة في الدنيا، فإنه يكون أول يوم من أطيب ما يكون ثم يقل في اليوم الثاني وهكذا.
وقوله: {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
أي: أن هذا النُزل ليس من فلان أو فلان بل من عند أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وهو الله، والنُزل من الأكبر يكون عظيمًا وكريمًا وكثيرًا.
قال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} :
(ما) اسم موصول، ولا يمكن أن تكون نافية؛ لأن المعنى يفسد كثيرًا، لو قلت (ما) نافية صار المعنى: ليس عند الله خير للأبرار، وهذا كذب، فهي (ما) الموصولة، يعني والذي عند الله خير فتكون مبتدأ "وخير" خبره.
يعني: وما عند الله خير مما ذكر من وصف الجنات، وهذا كقوله تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] ففي الجنة أكثر مما يتمناه الإنسان وأكثر مما يتصوره؛ وهو النظر إلى وجه الله عز وجل، فإن النظر إلى وجه الله أعظم ما يكون من النعيم،
ولهذا سماه الله "زيادة" في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقد فسَّر أعلم الخلق بالله وهو النبي صلى الله عليه وسلم "الزيادة" بأنها النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} :
الأبرار: جمع بَر، والبَرُّ كثير الخير، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] أي كثير الخيرات، فالأبرار جمع بر، وهم كثيرو الخيرات، وذلك بفعلهم ما أمر الله به وتركهم ما نهى الله عنه.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
أن المتقين وإن تقلبوا في البلاد فليس مآلهم كمآل الكافرين؛ لقوله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} .
2 -
فيه بيان فوائد التقوى، وأن من فوائدها ما حصل لهؤلاء المتقين من النزل العظيم عند الله عز وجل، وهي هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
3 -
أن هؤلاء المتقين ثوابهم عند الله عز وجل أكثر بكثير مما يعطى هؤلاء الذين يتقلبون في البلاد؛ لأن الله قال في المتقلبين: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} ، أما هؤلاء فقال:{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} دائمًا وأبدًا.
4 -
عظم هذا الجزاء والثواب الذي يحصل لهم؛ لأنه نُزل من عند أكرم الأكرمين وهو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
5 -
ما استنبطه بعض أهل العلم من أن قوله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} يفيد العلو، وذلك لأنه لا يمكن أن يفيد السفلى؛ لأن ذلك
نقص ينزه الله عنه، فتعيَّن أن يكون ذلك في العلو {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} .
6 -
أن الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء لما كانوا بررة كثيري الخيرات كان لهم عند الله هذا النزل العظيم.
7 -
أن في الجنات أنهار عظيمة تجري من تحت غرفها وأشجارها؛ لقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
8 -
أن مَنْ مَنَّ الله عليه بالتقوى فإن ذلك من مقتضى ربوبية الله تعالى الخاصة، حيث قال:{اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} فتخصيص الربوبية هنا بهؤلاء المتقين هو من باب الربوبية الخاصة، وقد مرَّ علينا كثيرًا أن ربوبية الله عز وجل لخلقه نوعان:"عامة، وخاصة"، فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق. والخاصة هي الخاصة بالمؤمنين، كما أن "العبودية لله عز وجل" أيضًا نوعان:
عامة: وهي التي لجميع الخلق كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
وخاصة: وهي للمؤمنين كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].
وهذه الخاصة منها ما هو أخص كما في عبودية الرسول فهي أخص من العبودية العامة للمؤمنين المتقين، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، وعلى هذا ففي العبودية عموم مطلق وعموم نسبي.
فالعموم المطلق: هو الذي يشمل جميع من في السموات والأرض.
والنسبي: هو عموم عبودية المؤمنين، فإنه عام بالنسبة لعبودية الرسول، خاص بالنسبة للعبودية المطلقة.
9 -
أن هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار إذا كانت نزلًا، وهو ما يقدم للضيف من الكرامة، فما بالك بما يكون بعد هذا؟ لا شك أنه سيكون خيرًا كثيرًا.
* * *
• ثم قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]:
قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ} :
"إن" للتوكيد و"اللام" أيضًا للتوكيد، ففي الآية مؤكدان "إنَّ" و"اللام"، وهنا لا يخفى أن في الجملة تقديمًا وتأخيرًا، فإن {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} خبر مقدم و {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}: أي للذي يؤمن بالله وما أنزل إليكم.
وقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} هم اليهود والنصارى.
وهؤلاء كثير في النصارى؛ لأن من آمن منهم كثير بمحمد صلى الله عليه وسلم، أما في اليهود فلم يبلغوا العشرة الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في حال حياته.
فمن اليهود الذين أسلموا (عبد الله بن سلام رضي الله عنه) فإنه كان حبرًا من أحبارهم فأسلم، ومن النصارى كثير مثل النجاشي ملك الحبشة.
وقوله: {لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} :
ومن جملة ما أنزل إلينا، أي: يؤمنوا بعموم الرسالة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل إليهم كما أنه مرسل إلى العرب، فأما من قال: أنا أُومن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكن للعرب خاصة فإنه لم يؤمن بما أنزل إلينا، لا يمكن أن يتم إيمانه بما أنزل إلينا حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول لجميع الخلق، وأنه رسول إليهم يجب عليهم أن يتبعوه.
ولهذا أقسم النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع به أحد من هذه الأمة يعني (أمة الدعوة) يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جاء به إلا كان من أصحاب النار، إذا مات وهو لم يؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب النار
(1)
.
وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} :
أما ما أنزل إليهم فظاهر أنهم سيؤمنون به، اليهود يؤمنون بالتوراة، والنصارى يؤمنون بالإنجيل، ولكن إذا لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يؤمنوا بالتوراة ولا بالإنجيل؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قد بشَّرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] فقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد أن جاءهم بالبينات وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى قالوا: هذا سحر مبين، ولم يؤمنوا به ولم يتبعوه، إذن الذين يؤمنون بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، يقول: لا يتم إيمانه بأن محمدًا أرسل إلى
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، رقم (153).
العرب، وأن القرآن كلام الله مثلًا، بل لا يتم إيمانه حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله إلى جميع البشر، وأنه ملزم باتباعه؛ يتبعه كما يتبعه غيره.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} :
قوله: {خَاشِعِينَ} يحتمل أن تكون حالًا مِن (مَن) في قوله: {لَمَنْ يُؤْمِنُ} وبناء على ذلك يكون مراعًا بها المعنى؛ لأن (مَن) لفظها مفرد ومعناها الجمع؛ لأن اسم الموصول وإن كان مفردًا يصح للعموم مع أن (مَنْ) مِن الأسماء الموصولة للمفرد وللجماعة.
أقول: إن {خَاشِعِينَ} تحتمل أن تكون حالًا من (مَنْ) أي: للذي يؤمن حال كونه خاشعًا، أو من فاعل {يُؤْمِنُ} لمن يؤمن حال كونه خاشعًا، والمعنى لا يتغير.
والخشوع هو: الذل، أي: متذللًا لله عز وجل، يؤمن بالله متذللًا له خاشعًا له.
{لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} :
{لَا يَشْتَرُونَ} أي: لا يأخذون ويطلبون بآيات الله ثمنًا قليلًا، فالشراء هنا بمعنى الأخذ؛ لأنه ليس هناك عقد بيع وشراء، لكن لما كان المشتري يأخذ السلعة طالبًا لها حريصًا عليها صار الذين يأخذون الحياة الدنيا بالآخرة بمنزلة المشترين، ولهذا قال:{لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} وهي الدنيا أو بمالها أو بجاهها أو بغير ذلك، وفيه إشارة إلى أن من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب من يبقى على رئاسته وعلى جاهه وماله ليكفر بالرسل. فمثلا (أبو جهل) وغيره من زعماء العرب (قريش) ما الذي صدَّهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم غير الكبر والإبقاء على الجاه
وعلى الرئاسة؟ ! . ولهذا يقولون: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، يعني هلا أنزل على رجل عظيم حتى نتبعه وهم يقولون ذلك وهم يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من خيرهم، بل هو خيرهم نسبًا، وأنه أعظمهم وأشرفهم، وهم يسمونه قبل الرسالة (الأمين والصادق)، لكن لما جاءت الرسالة شرقوا بها والعياذ بالله وأنكروها وقالوا: هذه من رجل مهين، كما قال فرعون لموسى:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، فهؤلاء قالوا:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
{لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} :
والمراد بآيات الله هنا: الآيات الشرعية؛ لأن مِن الناس من يشتري ثمنًا قليلًا بالآيات الشرعية، ومعنى (يشتري ثمنًا قليلًا) أي يأخذ الجاه والرئاسة والمال وغير ذلك بدلًا عن آيات الله الشرعية واتباعها.
ووصف الله ذلك بأنه قليل؛ لأنه بالنسبة لما في الآخرة ليس بشيء كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها"
(1)
.
{أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} :
أولئك الذين عدلوا عن الدنيا ولم يأخذوها بدلًا عن طاعة الله والإيمان به:
(1)
تقدم تخريجه (ص 513).
أجر، أي: ثواب، وإضافته إلى الله {عِنْدَ رَبِّهِمْ} يدل على عظمهِ وأنه عظيم جدًا، فإن الشيء من العظيم عظيم، ومن الكريم كثير، ولهذا قال:{لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : فيه إشارة كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد أنه باقٍ؛ لأن ما عند الله يبقى، ولهذا يخلد أهل الجنة فيها أبدًا، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :
{سَرِيعُ الْحِسَابِ} السرعة: عدم التباطؤ في الشيء، فالله تعالى سريع الحساب من وجهين، الوجه الأول: أن الدنيا قليلة وفانية وسريعة وما هي إلا لحظات ثم تنقضي بسرعة، فاليوم الجمعة مثلًا، أو السبت أو الأحد أو أحد أيام الأسبوع ما تأخذ إلا شيئًا قليلًا حتى يصل الإنسان إلى نهايته ويموت، فيجد الحساب أمامه، فهذه سرعة، والسرعة الثانية: يوم القيامة فإن الله تعالى يحاسب الخلائق كلها في نصف يوم؛ لقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] والقيلولة إنما تكون في نصف النهار، ويلزم من هذا أن الله يحاسب الخلائق كلهم في نصف يوم حتى إن كل واحد منهم يقيل في منزله ومستقره.
من فوائد الآية الكريمة:
1 -
الثناء على بعض أهل الكتاب؛ لقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (ومِنْ) هنا للتبعيض، وهم قليل.
2 -
كمال عدل الله عز وجل بإسناد الفضل إلى أهله، فإن الله عز وجل لما ذكر عقاب الكافرين وثواب المؤمنين قال:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ} فأسَند الفضل إلى أهله عز وجل.
3 -
أن هؤلاء الذين يؤمنون بما أنزل الله على رسوله عليه الصلاة والسلام مع إيمانهم بكتبهم إنما يفعلون ذلك تعظيمًا لله وذلًا له، لا طلبًا للدنيا، أو المدح أو ما أشبه ذلك؛ لقوله تعالى:{خَاشِعِينَ لِلَّهِ} .
4 -
بيان إخلاص هؤلاء حيث لم يؤمنوا بالله وما أنزل إلينا من أجل الدنيا، فهم لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا؛ لقوله:{خَاشِعِينَ لِلَّهِ} فإنه يدل على أنهم مخلصون في إيمانهم بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم، يعني: لا يقصدون شيئًا من الدنيا أو جاهًا أو رئاسة أو رياء.
5 -
أن هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب عن إخلاص سوف يكون لهم الأجر، يعني: الثواب من الله، وإن فاتهم ما يفوتهم من الدنيا بسبب إسلامهم؛ لقوله:{أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} .
6 -
بيان قدرة الله عز وجل في سرعة حسابه حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، وقد أورد بعض الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم إشكالًا في هذا المعنى وقال: كيف يحاسبنا في ساعة ونحن جمع -يعني كثير-، فقال:"ألا أخبرك بشيء من آلاء الله -أي من آياته- يقرب لك هذا؟ " وذكر له القمر
(1)
.
القمر مخلوق من مخلوقات الله، وكل الناس يرونه في ساعة واحدة لا يضامون في رؤيته، فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله يضيء نوره على كل من رآه، ويشترك فيه من العالم ما لا يحصيه إلا الله، فما بالك بالخالق جلَّ وعلا؟ !
7 -
إثبات الحساب، وأن الإنسان سوف يحاسب على عمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر؛ لقوله:{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
(1)
انظر مسند الإمام أحمد، رقم (15773).
وليعلم أن "الحقوق" نوعان:
(حق لله عز وجل فهو مبني على المسامحة وعلى العفو والإحسان.
(وحق للخلق) بالاعتداء عليهم وعلى أعراضهم، فهذا لا يغفره الله عز وجل، بل قد قال النبي عليه الصلاة والسلام حين بعث معاذًا إلى اليمن قال:"إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"
(1)
.
فالمظلوم يلجأ إلى الله عز وجل، فإذا لجأ إلى ربِّه فهو سيلجأ بصدق لأنه قد ضيم من الخلق، فإذا رجع إلى الله عز وجل بهذا الصدق فإن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوته، يقول عز وجل:"وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"
(2)
، فلذلك يجب على الإنسان أن يحذر من ظلم نفسه بحق الله عز وجل، ومن ظلم غيره بالعدوان عليه بالقول أو الفعل، فإن الدنيا لن تدوم، لابد لها من زوال، ولابد من رجوع إلى الله عز وجل.
* * *
• ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]:
(1)
رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، رقم (2448). ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم (19).
(2)
رواه الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، رقم (2525). ورواه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا تُرد دعوته، رقم (1752).
دائمًا نتكلم على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ونستشهد بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك -يعني استمع لها- فإما خيرًا تؤمر به، وإما شرًّا تنهى عنه". وقلنا: إن الله تعالى إذا صدَّر الخطاب بهذا فهو دليل على العناية به.
ووجهه: أنه صدّره النداء الذي يفيد تنبيه المخاطب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم إذا كان النداء بوصف الإيمان كان دليلًا على أنَّ ما يأتي بعده من مقتضى الإيمان؛ لأنه لولا أنه من مقتضاه ما صدّر الخطاب لمن يوجه إليه بلفظ الإيمان. فكأنه قال: (يا أيها الذين آمنوا بإيمانكم افعلوا كذا وكذا)، أو:(لإيمانكم لا تفعلوا كذا وكذا).
ثانيًا: يدل على أن مخالفة ذلك من "نواقض الإيمان" أو من "نواقص الإيمان"، إن كان الشيء من "أصول الدين" مثل (يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله) فإن مخالفته من "نواقض الإيمان".
وإن كان في "فرع من فروع الدين" فإن مخالفته من "نواقص الإيمان"، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] لو لم يتفسح الإنسان لم نقل: إنه كافر، بل نقول: إنه مخالف للأمر، وإيمانه ناقص؛ لأن مقتضى الإيمان أن يفعل ما أمر الله به حيث وجّه الله له هذا الأمر بوصف الإيمان.
ثالثًا: أنه يفيد الإغراء، يعني: إغراء الإنسان وحثّه على أن يفعل ما وجِّه إليه من الأمر أو النهي؛ لأن الإنسان إذا وصف بوصف فإنه يغريه هذا الوصف، فإذا قيل لشخص: يا أيها الكريم "جُد" على هذا، فمعناه: أنك تغريه وأنه لكرمه لابد أن يجود، ولهذا لما قيل للمتنبي حين أحجم في مجال القتال: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟
قال: الآن قتلتني ثم أقدم حتى قُتل.
وذلك لأن الوصف الذي يتصف به الإنسان ويفخر به إذا لم يطبقه فعلًا فإنه كاذب في دعواه، فكأن الله يقول:(يا أيها الذين آمنوا بإيمانكم افعلوا كذا).
{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} :
{اصْبِرُوا} على كل ما يحتاج إلى صبر، ومعلوم أن الذي يحتاج إلى الصبر هو الذي يخالف هوى النفس؛ فالذي يخالف هواك هو الذي يحتاج إلى الصبر؛ لأنه يشق عليك تحمله، فطاعة الله عز وجل ثقيلة على النفوس فاصبر عليها، والمعاصي ثقيل تركها على النفوس فاصبر على الترك، والآلام والمصائب التي تصيب الإنسان ثقيلة على النفس فاصبر عليها.
فالمصائب التي تصيب الإنسان هي بنفسها مكفرة للذنوب، فإذا احتسب الإنسان أجرها على الله وانتظر بذلك ثواب الله كانت مع التكفير زيادة حسنات، والإنسان في الدنيا لابد أن يبتلى كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُساء ويوم نُسر
لم تبقَ الدنيا لأحد زاهية مطلقًا أبدًا، وهذه من حكمة الله عز وجل يبتلي الإنسان بالنعم ويبتليه بالمصائب، قال الله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فعلى الإنسان أن يصبر على كل ما يخالف هواه، والصبر ثقيل على النفس متعب لها، ولكن الإنسان ينظر إذا صبر إلى ما أمامه، فإن النتيجة خير. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] إذا صبر فليبشر بالخير، وفي المثل (من صبر ظفر)، وفي الشعر:
والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته
…
لكن عواقبه أحلى من العسل
وهذا شيء مجرب دائمًا، إذا صبر الإنسان ظفر، ولاسيما إذا قرن صبره باحتساب الأجر على الله عز وجل، فإنه يكون في ذلك الثواب والعاقبة الحميدة.
وقوله: {وَصَابِرُوا} المصابرة تكون من اثنين، ولهذا جاءت على وزن فاعل، كقاتل وجاهد، فصابر أيضًا لابد من شخص آخر يضادك فصابِرْه.
"الصبر الأول": لا أحد يضادك في الشيء إنما هو شيء بينك وبين نفسك تصبر.
"الصبر الثاني": إنسان يضادك ويثيرك ويعتدي عليك فصَابِرْه .. بمعنى غالبه بالصبر، وهذا يكون في ملاقاة الأعداء. فالعدو يصابرك وأنت تصابره، ولكن الله تعالى قد سلا عباده المؤمنين فى قوله تعالى:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104]، أنت إذا جُرِحت تتألم وهو إذا جرح يتألم بلا شك، {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] فرق عظيم، فالذي يرجو من الله عز وجل هذا الثواب على ما حصل له يهون عليه هذا الشيء، حتى إنه أحيانًا لا يشعر به من شدة احتسابه الأجر على الله عز وجل.
إذن الصبر: حبس النفس مع غير مصابر، وتكون على ما لا يلائم الإنسان وما يشق عليه. والمصابرة: مع شخص مضاد يصابِرُك ويصبر عليك على معاندتك وعلى مضادتك فأنت تصبر، وقد قال الله عز وجل:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
أما قوله: {وَرَابِطُوا} المرابطة: أخص المصابرة، يعني
رابطوا على الطاعات، ومن ذلك ما بيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد"
(1)
، إسباغ الوضوء على المكاره، يعني: في أيام البرودة، فإن الإنسان إذا أسبغ الوضوء، يعني: أتمه وأكمله دلَّ هذا على إيمانه بالله عز وجل وعلى شدة تصديقه ورجائه لثواب الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كثرة الخطا إلى المساجد) فإن الإنسان إذا ذهب إلى المسجد البعيد الذي يحتاج إلى كثرة الخطا دلَّ هذا على مرابطته في الخير ومثابرته عليه، وعلى صدق الإيمان في قلبه، ولهذا يذهب إلى المسجد ولو كان بعيدًا، ويتردد إليه على الأقل في اليوم والليلة خمس مرات، هذا أيضًا يدل على المرابطة على الخير.
ومن المرابطة: المرابطة في الثغور، لكنها غير موجودة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام "لم توجد مرابطة"، يخرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى العدو ويغزو ويرجع، لكن بعد ذلك لما فتحت الفتوحات وانتشر الإسلام في أقطار الأرض بعد ذلك صارت المرابطة، واحتاج المسلمون إلى مرابطة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط ثلانًا"
(2)
، لأن الرباط على الحدود الإسلامية غير موجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : أي من أجل أن تفلحوا.
(1)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، رقم (251).
(2)
تقدم تخريجه في الحديث السابق.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} هذا أمر بتقوى الله عز وجل، وسبق لنا مرات كثيرة أن المراد "بالتقوى" اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا أحسن ما قيل في التقوى، هذه هي التقوى، وعطفها على ما سبق إما أن يقال من باب عطف العام على الخاص، وهو كثير في القرآن. وإما أن يقال: إن ما سبق أوامر والتقوى للنواهي كما نقول في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، إن "البر" فعل الخير، و"التقوى" اجتناب الشر، وإذا ذكرت "التقوى" وحدها شملت فعل الخير وترك الشر.
والمعنيان لا يتنافيان؛ فهذه الأوصاف أو الأوامر الأربعة: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} كلها تشتمل على شيء واحد وهو فعل الأوامر واجتناب النواهي.
ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :
لعل: هنا للتعليل وليست للرجاء، لأن كلام الله عز وجل ليس فيه رجاء، فإنه على كل شيء قدير، ولا يصعب عليه شيء ولا يعسره شيء، لكنها للتعليل أي: لأجل أن تفلحوا.
و(الفلاح) قالوا: إنها كلمة جامعة للفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، الفلاح: أن يفوز الإنسان بمطلوبه، وأن ينجو من مرهوبه، ولا شك أن كل واحد من الخلق يتمنى هذا.
من فوائد الآية الكريمة:
في هذه الآية الكريمة يوجِّه الله النداء إلى المؤمنين فيستفاد منه:
1 -
فضيلة الإيمان، وأن أهل الإيمان هم أجدر الناس بتوجيه الخطاب إليهم؛ لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
2 -
أنه ينبغي للإنسان أن يأتي في أسلوبه بما يحمل
الإنسان على فعل ما طلب منه أو ترك ما نهي عنه؛ لقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} .
3 -
الحث على الصبر بل الأمر بالصبر؛ لقوله: {اصْبِرُوا} وهو في الحقيقة مشترك، قد يكون "واجبًا" وهو الصبر على الواجب وعلى ترك المحرم وعلى الأقدار المؤلمة.
وقد يكون "مستحبًا" وهو: الصبر على المستحبات أو على ترك المكروهات، فإن الصبر هنا ليس بواجب لكنه أكمل وأفضل.
4 -
الأمر بالمصابرة، وأن الإنسان يصابر من يضاده ويعد له، فإن العاقبة ستكون له عليه إذا صابره امتثالًا لأمر الله عز وجل ورجاءً لثوابه، وتحسبًا للعاقبة الحميدة التي تكون فيها الدائرة على مَنْ ضاده.
5 -
الأمر بالمرابطة، والمرابطة إن كانت على واجب فهي واجبة، وإن كانت على مستحب فهي مستحبة، حسب الأمر المرابط عليه.
6 -
الأمر بالتقوى، و"التقوى" واجبة لأنها اتقاء الوقوع في المحرم إما بترك الواجب وإما بفعل المحرم.
7 -
النتائج الحميدة لمن قام بأوامر الله من الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى وهي -أي: العاقبة الحميدة- الفلاح؛ لقول الله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
* * *
وبذلك انتهت الدروس العلمية المسجلة التي كان يلقيها فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين في تفسير سورة آل عمران. تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.