الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلسلة مؤلفات فضيلة الشيخ (105)
تفسير القرآن الكريم
«سورة المائدة»
تأليف
فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
[المجلد الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن الكريم
«سورة المائدة» (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
° ثم قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51].
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الخطاب مصدر بالنداء، فلماذا صدر بالنداء؟
أولًا: لتنبيه المخاطب؛ لأنك إذا أتيت بالكلام مرسلًا قد يحصل من المخاطب غفلة، لكن إذا ناديته قد يكون في ذلك تنبيه له، فصدر الخطاب بالنداء للتنبه والعناية به، ثم وجه هذا النداء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} للإغراء والحث؛ لأنه كلما كان الإنسان مؤمنًا كان أقبل للحق، فوجه الخطاب للمؤمنين إغراءً به وحثًا عليه، كما تقول للرجل: يا أيها الكريم، عند بيتك ضيف، المعنى تحثه لأن يكرم هذا الضيف، أي: تحثه على الكرم، وعلى حسن الضيافة له.
ثانيًا: توجيهه للمؤمنين إشارة إلى أن مقتضى الإيمان العمل بما دل عليه الخطاب، والخطاب الذي في الآية: هو النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
ثالثًا: أن مخالفة مقتضى الخطاب منافٍ للإيمان، وهل هو منافٍ للإيمان أصلًا أو كمالًا؟
هذا على حسب ما يقتضيه السياق، قد يكون منافيًا للإيمان أصلًا وقد يكون منافيًا للإيمان كمالًا.
لو قال قائل: إضافة الحكم إلى الجاهلية وإضافته إلى القضاء كما في قول الشافعي: "وطب نفسًا إذا حكم القضاء" هل ينافي أن أصل التحكيم إنما هو إلى الله؟
الجواب: هذه ليست كهذه، وطب نفسًا إذا حكم القضاء، يعني: القضاء القدري، يعني: إذا قضى الله عليك بما تكره فلا تقابل هذا بالجزع والسخط، بل ارضَ بما قدر الله عز وجل عليك.
لو قال قائل: بعض المتأخرين ميز بين الكفار الذين يحادون الله ورسوله والكفار من أهل الذمة، وقال: أهل الذمة يجوز موالاتهم، والكفار المحادون لله ورسوله لا تجوز موالاتهم؟
الجواب: إن هذا غلط، الموالاة ممنوعة دائمًا، أما مسألة البر والمعاملة بالعدل فهذه جائزة فيمن لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا، فيجوز أن نبرهم ويجوز أن نقسط إليهم، يعني: لا بأس أن نعاملهم بالإحسان والعدل، لكن لا يقر في نفوسنا أننا سنكون لهم أولياء، نحامي دونهم ونذود عنهم، وأما الذميون الذين عندنا في بلادنا وتحت إمرتنا ويعطوننا الجزية، علينا أن نمنع العدوان عليهم ما داموا في بلادنا، لكن لو خرجوا فلسنا المسؤولين عنهم.
لو قال قائل: بعض الدول تحكم بشرع الله لكن تسمي هذا التشريع قانونًا وتجعله على شكل مواد، مثلًا مادة رقم كذا: إذا طلق ثلاثًا لا يقع الطلاق ثلاثًا، وما أشبه ذلك هل في هذا محظور شرعي؟
الجواب: على كل حال مسألة تقنين الشريعة غير ترتيب
أبواب الفقه، يعني: مثلًا: إذا جعلوا باب الطلاق مثلًا موادًا فليس في هذا مشكلة، إلا إذا كانوا يريدون أن يلزموا القضاة بالحكم بها، سواء وافق اختيارهم أم لا؛ لأن مسائل الطلاق فيها خلاف، ومسائل النكاح فيها خلاف، وأشياء كثيرة، والعلماء ما زالوا مختلفين بدون قانون، فلا يجوز إلزام القاضي أن يحكم بشيء معين، حتى وإن كان عليه طائفة من الفقهاء.
لو قال قائل: ما رأيكم في قول بعض المعاصرين: إن المحكم الذي تبنى عليه الأصول والقواعد العامة في الشرع لا يتجاوز واحدًا في المائة، وأن المتشابه يقدر بتسع وتسعين في المائة، ولذلك نرى هذا الاختلاف الكبير بين الفقهاء؟
الجواب: أقول: هذا يدل على جهله، وأن كل شيء عنده مشتبه؛ لأنه لا يعرف، وإلا فالمتشابه لا يمثل واحدًا في المائة من أدلة الشرع، كلها والحمد لله واضحة وبينة، لكن الله يقول:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} اليهود مكذبون بجميع الرسل كافرون بجميع الرسل، وكذلك النصارى، واليهود سموا بذلك إما نسبة لأبيهم يهوذا أو أنها من قوله تعالى:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] فالذين هادوا أي: رجعوا، أما النصارى فقيل: إنها من النصرة؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]، وإما نسبة إلى البلد المعروفة في فلسطين اسمها الناصرة؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان هناك فالله أعلم، ويجوز أن تكون من هذا وهذا ولا منافاة.
لو قال قائل: هل يصح الدعاء: اللهم إنا هدنا إليك؟
الجواب: إذا كانت بمعنى رجعنا يصح يعني إذا علم الداعي المعنى يصح.
قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ، اليهود والنصارى: مفعول أول، وأولياء: مفعول ثاني، تتخذ أو اتخذ: هذا الفعل معناه التصيير، أي: لا تصيروهم أولياء، واليهود هم الذين يَدَّعُونَ أنهم أتباع موسى، والنصارى هم الذين يدعون أنهم أتباع عيسى وكلهم ليسوا أتباعًا لا لموسى ولا لعيسى بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن من كذب رسولًا فقد كذب جميع الرسل، هذه أقولها دائما من كذب رسولًا فقد كذب جميع الرسل شاء أم أبى، وشاهد ذلك قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، مع أن قوم نوح ما أدركوا من الرسل إلا واحدًا، ومع ذلك قال: إنهم كذبوا المرسلين؛ لأن من كذب رسولًا فقد كذب جنس الرسالة، فيكون هؤلاء الذين كذبوا نوحًا مكذبين إلى آخر الرسل محمد عليه الصلاة والسلام.
وقوله: "أولياء" جمع ولي، ووزنه أفعلاء، ولهذا مُنِعَ من الصرف لوجود ألف التأنيث الممدودة، فما معنى أولياء؟ الولي: يطلق على معان متعددة في اللغة العربية، لكن لا يمكن أن نفهم أو أن نحدد معناه في موضع إلا بعد أن نتتبع المواضع كلها، فمثلًا:"السلطان ولي من لا ولي له"
(1)
، هذه ولاية لها معنى،
(1)
رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، حديث رقم (2083)، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، حديث رقم (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، حديث رقم (1879)، وأحمد (6/ 47)(24251) عن عائشة رضي الله عنها.
السيد ولي عتيقه هذه ولاية لها معنى، وقوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4] ولاية لها معنى أيضًا.
المهم أن الولاية في اللغة العربية لها معانٍ متعددة، فما هي الولاية التي نهى الله سبحانه وتعالى أن نتولى بها اليهود والنصارى؟ هي المناصرة، أن نناصرهم، سواء ناصرناهم على مسلمين أو على كافرين، فلا يحل لنا أن نناصرهم على كافرين، ما لم يكن في مناصرتنا إياهم على هؤلاء الكافرين مصلحة للإسلام، فإن كان فيه مصلحة مثل أن تقوم حرب بين كَافِرِينَ وكافرين، ويكون الطرف الثاني أكثر إساءة للمسلمين من الطرف الآخر فهنا لا بأس أن نناصرهم، لا لمصلحتهم، ولكن لمصلحة المسلمين؛ لأن هذا من باب دفع أشر الأمرين بأخفهما.
إذًا: أولياء جمع ولي، والمراد بالولاية هنا المناصرة والمعاونة، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يتفرع على ذلك في الفوائد.
لكن لو قال قائل: هل من الولاية المحبة؟
الجواب: المحبة لا شك أنَّها وسيلة إلى المناصرة؛ لأن من أحب أحدًا نصره، لكن المحبة الطبيعية لا تدخل في هذا، ولهذا أباح الله تعالى للمسلمين أن يتزوجوا من اليهود والنصارى، ومن المعلوم أن الزوج مع زوجته لا بد أن يكون بينهما محبة كما قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21].
قوله: {أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} كيف نعرب {بَعْضُهُمْ} ؟ مبتدأ، وعلى هذا تكون استئنافية، ولذا يجب أن نقف على قوله تعالى:
{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لأننا لو وصلنا جعلنا الجملة حالية، يعني: لا تتخذونهم في هذه الحال، وأظن أنَّه مكتوب عليها في المصحف وقف لازم، وهي مع كونها استئنافية كالتعليل للنهي، يعني: لا يليق بكم أن تتولوا؛ لأن هؤلاء بعضهم أولياء بعض، فلا يليق بكم أيها المسلمون أن تكونوا أولياء لهم، يعني: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض؛ لأنهم على ملة واحدة وعلى طريق واحد، فلا بد بمقتضى الفطرة أن يتولى بعضهم بعضًا.
وهل يشمل قوله: {بَعْضُهُمْ} : اليهود أولياء بعض النصارى، يعني: أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض؟ الظاهر أن الآية تشمل هذا، بل لو قيل: إن هذا هو المتبادر لكان أولى؛ لأن النهي عن الطائفتين، فيكون بعضهم أي: كل طائفة من هؤلاء وهؤلاء بعضهم أولياء بعض، وإن كان اليهود يقدحون في النصارى، والنصارى يقدحون في اليهود قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] لكنهم ضد المسلمين شيء واحد يوالي بعضهم بعضًا ويناصر بعضهم بعضًا على المسلمين، وهذا الذي ذكره الله عز وجل موجود إلى يومنا هذا، الآن تجد الدولة النصرانية تساعد الدولة اليهودية علنًا وبكل صراحة ووقاحة ولا يبالون، ومن هنا تعلم أنَّه يجب علينا نحن المسلمين أن نتخذهم أعداءً كما نهانا الله تعالى أن نتخذهم أولياء.
قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} هذا تحذير شديد ووعيد شديد على أن من تولاهم فإنه منهم، لكن هل هو منهم في الظاهر؟
نعم هو منهم في الظاهر لا شك؛ بسبب المعاونة والمناصرة، لكن هل يكون منهم في الباطن؟ نقول: يمكن، قد تكون هذه المناصرة والمعاونة تؤدي إلى المحبة ثم إلى اتباع الملة؛ لأن الذنوب يجر بعضها بعضًا، أما ظاهرًا فالأمر ظاهر، ولذلك قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] يعني: في الباطن، لكن في الظاهر هم مع اليهود مثلًا، والمراد بهم المنافقون في الآية التي سقناها آنفًا، إذا:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} في الظاهر، وربما يؤدي ذلك إلى الباطن ومشاركتهم في عقائدهم وفي أعمالهم وأخلاقهم، وهنا إشكال نحوي في قوله:{من يتولهم} فمن المعروف أن "مَنْ" الشرطية تجزم الفعل، وهنا نجد أن الفعل مفتوح اللام {من يتولهم} .
الجواب: فتحة اللام ليست فتحة إعراب لأن آخر الفعل محذوف، إذًا نقول: هذه مجزومة والفعل المعتل يجزم بحذف حرف العلة، ولولا "مَنْ"، لقيل:"يتولاهم" بالألف.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجملة هنا استئنافية بلا شك، وهي كالتعليل لقوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، كأنه قال: من يتولهم منكم فإنه ظالم، والظلم أصله النقص، ومنه قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 32، 33]، يعني لم تنقص، إذًا أصل الظلم النقص، والظالم ناقص؛ لأنه لم يأتِ بما يجب عليه فهو باخس نفسه حقها.
إذًا قوله: {الظَّالِمِينَ} أي: الناقصين أنفسهم حقها وذلك بإقحامها في المعاصي، إما بترك الواجبات وإما بفعل المحرمات.
وقوله: {الظَّالِمِينَ} يجب أن تعلم أن "أل" إذا اقترنت بمشتق فهي اسم موصول، يقول ابن مالك رحمه الله:
وصفة صريحة صلة أل ..............
…
.........................
فكلما اتصلت "أل" بمشتق اسم فاعل أو اسم مفعول فإنها تكون اسمًا موصولًا لا حرفًا، إذًا "أل" هنا اسم موصولًا.
وعندنا أصل بل عندنا قاعدة: أن الأسماء الموصولة تفيد العموم، وعلى هذا فيكون قوله الظالمين يشمل كل ظالم، أي: فإن الله تعالى لا يهديه، والهداية المنفية هنا هداية التوفيق، أما هداية البيان فهي ثابتة لكل أحد، حتَّى الكفار قد هداهم الله عز وجل، اقرأ قول الله تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 1 - 3] يعني: هو مَهدي هداه الله السبيل، أي: بَيَّنَها له سواء كان كافرأ أو شكورأ، واقرأ قول الله عز وجل:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
إذًا: لا يهدي الله جلَّ وعلا القوم الظالمين هداية توفيق.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان أهمية تجنب اتخاذ الأولياء من اليهود والنصارى، وجه ذلك: أن الله صدر الخطاب بالنداء.
الفائدة الثانية: أن اجتناب اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من مقتضيات الإيمان.
الفائدة الثالثة: أن اتخاذهم أولياء يوجب نقص الإيمان، وربما يوجب محو الإيمان وزواله كله.
الفائدة الرابعة: أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، وهل المراد الملة الواحدة، أم كلتا الملتين؟ المراد العموم، الملة الواحدة وكلتا الملتين، يدل لذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
الفائدة الخامسة: أن النصراني يرث من اليهودي، واليهودي يرث من النصراني، لقوله:{أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} والإرث مبني على الولاية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"
(1)
، وإلى هذا ذهب كثير من العلماء وقالوا: إن الكفر ملة واحدة، فيرث الكفار بعضهم من بعض.
ولعل قائلًا يقول: إن أهل الكتاب يرث بعضهم بعضًا؛ لأنهم يشتركون في كونهم أهل كتاب بخلاف المجوس مع الكتابيين.
والقول الثالث في المسألة: أنَّه لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من اليهودي، وهذا القول أصح الأقوال، لقول النبي:"لا يتوارث أهل ملتين شتى"
(2)
، ولا شك أن اليهود على ملة، والنصارى على ملة.
(1)
رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، حديث رقم (6351)، ومسلم، كتاب الفرائض، باب: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، حديث رقم (1615) عن ابن عبَّاس.
(2)
رواه التِّرمِذي، كتاب الفرائض، باب:"لا يتوارث أهل ملتين"، حديث رقم (2108) عن جابر بن عبدِ الله.
الفائدة السادسة والسابعة: بيان أن النصارى واليهود وسائر الكفار كلهم بعضهم أولياء بعض في مضادة المسلمين؛ لأنه إذا كان هذا بين اليهود والنصارى وبعضهم يضلل بعضًا ويقول للآخر إنه: ليس على شيء، أي: ليس على شيء من الدين، فما بالك بغيرهم.
ويتفرع على هذه الفائدة أنَّه يجب على المسلمين الحذر من أعدائهم وأن يَدَعُوا الخلافات التي بينهم، حتَّى يكونوا يدًا واحدة على أعدائهم الذين يصرحون بالإيذاء.
الفائدة الثامنة: التحذير من موالاة اليهود والنصارى، لقوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، وهل هذا يدل على أن توليهم من كبائر الذنوب؛ نعم؛ لأن كونهم منهم كالبراءة منهم، فهو كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من غش فليس منا"
(1)
.
إذًا: اتخاذ اليهود والنصارى أولياء من كبائر الذنوب، والولاية كما قلنا: المناصرة، لكن هل يدخل في ذلك أن يستعين الإنسان بهم على شيء خاص، مثل أن يكون هناك مهندس يهودي أو نصراني، ويستعين به على إحكام البناء أو إحكام الماكينة أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: لا؛ لأني وإن استعنت به أشعر بأني أعلى منه، وأنه عندي بمنزلة الأجير، ومع ذلك فمتى أمكن أن يتخذ الإنسان عاملًا من المسلمين فهو أولى بلا شك، كقول الله تعالى:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا"، حديث رقم (101) عن أبي هريرة.
خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221]؛ ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنكر على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن يتخذ كاتبًا نصرانيًّا، حتَّى إنه لما قُدِّمَت إلى عمر رضي الله عنه كتابة هذا النصراني أعجبته كثيرًا؛ لأنها كتابة جيدة وحسابات منضبطة تمامًا، فقال لأبي موسى:"هاتِ كاتبك، قال: يا أمير المؤمنين إنه لا يدخل المسجد، فغضب، قال: من هذا؟ قال: نصراني، قال: كيف تأمنه وقد خونه الله"، وأنكر عليه كثيرًا، وألح عليه أَبو موسى قال: هذا رجل جيد، فقال له:"مات النصراني، والسلام"
(1)
.
يعني: نفرض الآن أنَّه مات ماذا تكون حالك وهو سيموت إن عاجلًا أو آجلًا، فانظر كيف كان الخليفة الراشد، يحذر من أن يولى غير المسلمين أحوال المسلمين، يعني: لا يجوز أن تجعله مثلًا أمينًا على بيت المال، أو أمينًا على أشياء تتعلق بعموم المسلمين، هذه خيانة بلا شك؛ لأنه كيف يجعل هذا الذي خونه الله عز وجل أمينًا على أحوال المؤمنين، أما شيء خاص فهذا لا بأس به؛ لأن الصحابة اتخذوا خدمًا من غير المسلمين لكن شيء عام هذا لا يجوز بأي حال من الأحوال؛ لأنه مهما تظاهر الكافر بالنصح لك فاعلم أنَّه عدو.
وهل من الموالاة أن نستعين بهم على أعدائنا؟
الجواب: لا، لكن إذا احتجنا إليهم نستعين بهم، بشرط أن نأمن خيانتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلفاء حين عقد الصلح مع المشركين، وحلفاؤه خزاعة، كانوا مع الرسول عليه الصلاة
(1)
انظر: تفسير الرازي (6/ 77)، نظم الدرر للبقاعي (2/ 411)، تفسير اللباب لابن عادل (6/ 113).
والسلام
(1)
، حتَّى إن قريشًا لما اعتدت على خزاعة، وهم كفار اعتبر النبي ذلك نقضًا للعهد، وغزا قريشًا، فالمهم أن الاستعانة بهم إذا دعت الحاجة إليها جائزة بشرط أن نأمن خيانتهم، فإن لم نأمن فإنه لا يجوز.
وهل من موالاتهم موادتهم؟
الجواب: نعم، من موالاتهم موادتهم، أعني طلب مودتهم حتَّى تكون المودة متبادلة، ولهذا قال:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} [المجادلة: 22]، قال: يوادون، ولم يقل: يودون، فتكون الموادة بين الطرفين؛ لأن المُوَادَّ لا بد أن يبذل ما تكون به المودة، وإذا بذل ما تكون به المودة، فهذا المبذول لا يريد أن يذهب هباءً لا بد أن يكون على حساب شيء ما، لذلك نقول: موادتهم حرام لا تحل، قال تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وهل من الولاية أن نحبهم إذا صنعوا شيئًا نافعًا للعباد؟
على كل حال: نحب فعلهم بلا شك، إذا فعلوا ما فيه مصلحة للبشرية فلا بد أن نحب فعلهم؛ لأنه خير ومصلحة، أما أن نحبهم هم فهذا فيه نظر؛ يعني نحبهم لأجل فعل هذا الخير، ليس على سبيل العموم، لكن ما فعلوه من الخير، لا يمكن أن ننكره وأن نقول: ما فعلوا شيئًا، بل نحب ما فعلوا من الخير، هم الآن مع الأسف الشديد يصنعون لنا الطائرات، هل نحبهم على صنع الطائرات؟
(1)
انظر: مصنف ابن أبي شيبة (36902)، السيرة النبوية لابن هشام (5/ 43)، زاد المعاد (3/ 395).
الجواب: لا نحبهم هم، لكن نحب فعلهم، يعني: صُنْعَ الطائرات نحبه ونود أن يزيدونا من الطائرات الجيدة، أما أن نحبهم هم فلا، مع أننا نعلم أنهم إذا صنعوا ذلك فإنما يريدون مصلحتهم، لكن ما دام فيه خير نحب فعلهم إذا كان خيرًا.
هل من موادتهم أن نبيع ونشتري معهم، فيستفيدون لأنهم يشترون الشيء بعشرة ويبيعونه لنا بعشرين، هل يعتبر هذا من موالاتهم؟
الجواب: لا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعبد الناس لله اشترى منهم، مع أنهم سيكسبون، لكن هذا شيء لا يتعلق بالمودة ولا بالمحبة، وإنَّما يفعله الإنسان لمصلحته، وعلى هذا فمعاملة شركات الكفر لا تعتبر من الموالاة، وإن كسبوا؛ لأننا نحن أيضًا لن نعاملهم ولن نشتري منهم إلَّا لمصلحتنا ولا شك.
هل من موالاتهم أن نضيفهم إذا استضافونا، يعني: لو نزل بك كافر وأكرمته إكرام ضيف، هل يكون هذا من موالاتهم؟
الجواب: لا، لا يكون؛ لأن الله قال:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} وهذا إحسان، {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} هذا عدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة: 8، 9] وهذا ظاهر وحكمة، فإذا كانوا يقاتلونا في ديننا، ويخرجونا من ديارنا، ويظاهرون علينا فليس من الحكمة أن نتولاهم بأي حال من الأحوال.
هل من موالاتهم أن نشاركهم في أفراحهم؟
إن قلنا: نعم، خطأ وإن قلنا: لا، خطأ، أما ما يتعلق بالعبادة والشعائر الدينية، فلا شك أن مشاركتهم في هذه الأفراح نوع من الموالاة والمناصرة؛ لأنك إذا شاركتهم في هذه المناسبات الدينية كأنك تقول: إنكم على حق وهذا لا يجوز، أما المشاركة في أفراح أخرى، ككافر ولد له فجعل له وليمة ودعاك هذا لا بأس أن تذهب إذا لم يكن في ذلك فتنة له، كان يقول: أنا أدعو المسلمين وأدعو كبراء المسلمين فيأتون إليَّ، إن حصلت فتنة فلا، وأما إذا لم تحصل وكانت المسألة عادية فليس هذا من الموالاة ولا من المناصرة.
جار لك أكرمته، وهو كافر، هل يكون هذا من الموالاة؟ الجواب: لا، هذا ليس من الموالاة؛ لأن النبي قال:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"
(1)
، ثم إن إكرامك إياه ربما يكون سببًا لدخوله في الإسلام.
على كل حال: من هنا نعرف أن كلمة الموالاة التي نهى الله عنها هي موالاتهم في المناصرة والمعاونة، بما يعود عليهم بالنفع فهذا حرام، لكن - كما تقدم - إذا عاوناهم وناصرناهم على من هو أشد إيذاءً للمسلمين منهم فهذا لا بأس به.
الفائدة التاسعة والعاشرة: أن من تولاهم فهو منهم، ويتفرع على هذا، التحذير الشديد من توليهم.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فلا يؤذي جاره، حديث رقم (5673)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلَّا عن الخير .. ، حديث رقم (48) عن أبي شريح العدوي.
هل من توليهم التشبه بهم؟
الجواب: نعم، الدليل:"من تشبه بقوم فهو منهم"
(1)
، ولأن التشبه بهم يعطيهم فرحًا وسرورًا، ويرون أنهم مستعلون على غيرهم؛ لأن غيرهم صار مقلدًا لهم، آخذًا بما يتحلون به من أخلاق أو غيرها.
الفائدة الحادية عشرة: التحذير من الظلم لكون الله تعالى لا يهدي الظالم، لقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
فإن قال قائل: ما الجمع بين هذه الآية وبين من هداهم الله تعالى من أهل الشرك، والشرك ظلم عظيم، ومع ذلك في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وجد من كان يسجد للأصنام ويعبد الأصنام، وهداه الله، ما الجواب؟
الجواب عن ذلك أن يقال: هذه الآية مقيدة بآية أخرى، والمراد بهم الذين حقت عليهم كلمة الله، لقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 96، 97]، فتكون هذه الآية المطلقة أو العامة مقيدة بمن حقت عليه كلمة الله، فهذا لا يمكن أن يهديه أحد، قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)} [الأعراف: 186].
الفائدة الثانية عشرة: الرد على القدرية، لقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، فإن في ذلك دلالة واضحة على أن أمر العباد بيد الله عز وجل، نسأل الله الهداية، فليس الإنسان مستقلًا
(1)
رواه أَبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، حديث رقم (4531)، وأحمد (2/ 50)(5114) عن ابن عمر.
بنفسه أبدًا، ومدبرًا في الأمور الاختيارية والأمور الغير الاختيارية، كما أن الإنسان ليس بيده أن يكون صحيحًا من مرض، أو مريضًا من صحة، فكذلك ليس بيده، أن يكون مهتديًا بعد ضلالة، إنما الأمر بيد الله سبحانه وتعالى.
* * *
° قال الله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52].
قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ، كلما رأيت مثل هذا الخطاب فهو إما للرسول عليه الصلاة والسلام، وإما له ولمن يصح خطابه، وتوجيه الخطاب إليه، أي: فترى أيها النبي الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، أو فترى أيها الإنسان.
لما نهى الله سبحانه وتعالى أن يتخذ المؤمنون اليهود والنصارى أولياء؛ بَيَّنَ أن من الناس من في قلبه مرض، فيسارع في موالاتهم ومهادنتهم وموادتهم، ولهذا لم يقل: في موالاتهم ليفيد العموم بل قال: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في كل ما يكون سببًا لقوتهم وعزتهم، وأمراض القلوب أنواع كأمراض الأبدان تمامًا، أمراض الأبدان أنواع: أمراض عضوية في عضو خاص، وأمراض عامة، وأمراض حمى، وأمراض رعشة، أنواع كثيرة، أمراض القلوب كذلك متنوعة، لكنها تدور على شيئين: إما شبهة وإما شهوة، كل أمراض القلوب لا تخرج عن هذين الأمرين: شبهة من حيث يلتبس عليه الحق والعياذ بالله بالباطل، ولا يهتدي للحق،
هذا مرض شبهة سببه الجهل، ولذلك يجب على كل إنسان أن يزيل عنه هذا المرض بتعلم الشريعة.
والثاني مرض الشهوة، أي: مرض إرادة وتشهي، بحيث لا يريد الحق مع علمه به، وهذا أخبث من الأول؛ لأن الأول يرجى صلاحه، إذا تعلم، لكن هذا لا يرجى صلاحه إلَّا أن يشاء الله؛ يعني: لأن هذا يعلم الحق ولكنه لم يعمل به، وهذا أشد.
ولكن اعلم أن المرض كما قلت: أنواع، ففي قوله تعالى:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، هذا مرض الشهوة في حب النساء والتلذذ بأصواتهن المحرمة استماعها وما أشبه ذلك، لكن في قول الله تبارك وتعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125]، أعوذ بالله، {فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ} يعني: شكًا ونفاقًا، هؤلاء لا يزدادون بالآيات إلَّا رجسًا إلى رجسهم، أجارنا الله من ذلك، ونسأل الله الثبات.
لو قال قائل: عرفنا صورة الموالاة للكفار فكيف تكون صورة الموالاة لأهل البدع، وهل هي كموالاة الكفار؟
الجواب: مثل موالاة الكفار، فمن صور موالاتهم تخفيف بدعهم، ومحاولة أن يختلط هؤلاء بهؤلاء، أي: أهل البدع بأهل السنة، وأتباع السلف.
لو قال قائل: هل استخدام كثير من المسلمين للتاريخ الميلادي يعتبر نوعًا من الموالاة؟
الجواب: نعم، عدول المسلمين الآن من التاريخ الهجري
- العربي - إلى تاريخ اليهود والنصارى لا شك أنَّه نوع من الموالاة، ولهذا كره الإمام أحمد رحمه الله أن يقول: آذرماه وما أشبه ذلك، والعجب منا نحن العرب! الآن التزامنا بالتاريخ الهجري يقتضيه شيئان: الشيء الأول الدين؛ والشيء الثاني: العروبة، لأنه مبني على مناسبة عظيمة، وهي الهجرة التي بها تكونت الدولة الإسلامية، ولهذا لما اختلفوا في زمن عمر: هل يجعلون التاريخ من البعثة أو من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: "لا من الهجرة؛ لأن الهجرة هي التي حصل بها تكوين الدولة الإسلامية" فمن ثَمَّ جعلوا التاريخ من الهجرة ولم يجعلوه من ربيع الأول؛ لأن مناسبة كونه في محرم أقوى من مناسبة كونه في ربيع الأول؛ لأن الناس ينصرفون من الموسم: موسم الحج بعد أن أدوا فريضة الصوم وفريضة الحج.
قوله: {يَقُولُونَ} أي: يقولون بألسنتهم بعضهم لبعض، أو إذا لامهم لائم وبقلوبهم أيضًا {نَخْشَى} أي: نخاف {أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرُةٌ} أي: نائبة من نوائب الدهر، والدائرة الشيء المهلك، فنوالي هؤلاء ليكون لنا عندهم يد نحتمي بها.
يقول الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} عسى: من أفعال الترجي، لكنها بالنسبة لله سبحانه وتعالى، أي: لفعله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن نقول: إنها للترجي؛ لأن الترجي هو تمني ما يصعب حصوله بعض الشيء، والله عز وجل لا يصعب عليه شيء، ولهذا قال بعض المفسرين وأظنه ابن عبَّاس: عسى من الله واجبة، أي: بمعنى سيقع حقًّا، لكنه عز وجل يأتي بعسى في مثل قوله:{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99]،
وما أشبه ذلك من أجل أن يتعلق القلب رجاة بالله عز وجل؛ لأنه لو أخبر بأن هذا سيكون؛ لاعتمد على هذا الخبر الصادق وأنه سيكون، لكن إذا قيل:(عسى)، صار القلب متعلقًا برجاء الله تبارك وتعالى.
قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} : "الفتح" المراد به النصر، كما قال الله تبارك وتعالى:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، يعني: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وقيل المراد بالفتح: فتح مكة، ولكن الصواب الأول، يعني: أن المراد به النصر وذلك من أجل أن يعم فتح مكة وغيره.
قوله: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} ، الأمر من عنده يعني: الشأن من عنده، وذلك في بيان مخازي هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون، فيفضحهم، وقد فضحهم الله تبارك وتعالى أيما فضيحة في القرآن الكريم في سورة التوبة وفي سورة الحشر وغيرهما، فضحهم الله وبين مخازيهم.
فالأمر هو الشأن والمراد به فضيحة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض؛ لأن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض يأتون للمسلمين ويقولون: نحن مسلمون ويتظاهرون بالإسلام، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
قوله: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} كلمة "يصبحوا" هنا: تعني فيؤول أمرهم إلى هذا سواء أدركوا ذلك في المساء أو أدركوه في الصباح، وهذا تعبير لغوي سائغ، يقال: أصبح فلان نادمًا، ويكون ندمه في الليل أو في المساء، فيعبر أحيانًا بالإصباح عن حصول الشيء في أي وقت كان، والنون في
قوله: "يصبحوا" محذوفة والتقدير: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} ، فتكون داخلة تحت خبر عسى.
وقوله: {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: ما أخفوه في أنفسهم عن المؤمنين؛ لأنهم يخفون عن المؤمنين أنهم يسارعون في هؤلاء، ولكن الله تعالى فضحهم.
وقوله: {نَادِمِينَ} خبر يصبحوا، ولهذا نصبت بالياء، والندم: انفعال نفسي على ما بدر من المرء مما يقبح فعله أو قوله، هذا هو الندم، وكل إنسان منا يحس في نفسه معنى الندم؛ لأنه انفعال نفس يحصل بالتأسف على ما مضى مما يقبح فعله أو قوله، ولهذا من شروط التوبة: الندم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون يسارعون في موادة الكافرين.
الفائدة الثانية: أن كل من يسارع في موادة الكافرين وفي مناصرتهم ففي قلبه مرض، وينبني على ذلك أن هذا المرض ربما يتضاعف حتَّى يصل إلى الكفر والعياذ بالله.
الفائدة الثالثة: التحذير الشديد من موالاة هؤلاء الكفار والمسارعة فيهم.
الفائدة الرابعة: أن من سارع فيهم ففي قلبه مرض.
الفائدة الخامسة: ضعف توكل المنافقين على الله وأنهم إنما يتوكلون على الأمور المادية التي يظنون فيها النصر، لقوله:{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} .
الفائدة السادسة: أن من أشار على ولاة الأمور بالمسارعة في موادة الكفار وفي مناصرتهم، فإن فيه شبهًا من هؤلاء المنافقين.
الفائدة السابعة: بشارة المؤمنين بأن الفتح والنصر سيكون لهم، لقوله:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} .
الفائدة الثامنة: أن المنافق لا بد أن يفضحه الله، لقوله:{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} ، وهذا مشاهد، كما روي عن أمير المؤمنين عثمان بنُ عفان رضي الله عنه:"ما أسر أحدٌ سريرة، إلَّا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه"، فلا بد أن يظهر نفاق المنافق، إلَّا أن يتوب إلى الله.
الفائدة التاسعة: تحذير المنافقين مما سيقع بهم من الندم على ما أسروا في أنفسهم، لقوله:{فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .
* * *
° قال الله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)} [المائدة: 53].
قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} ، في هذه الآية ثلاث قراءات:"ويقولُ" بالرفع، ويقولَ" بالنصب، وفيها قراءة ثالثة: "يقولُ" بالرفع بدون واو، وهذه من غرائب القراءات أن يحذف حرف من القرآن في إحدى القراءات، وتقدم مثلها في سورة البقرة: {وَقَالُوا اْتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] فيها قراءة: "قالوا اتخذ الله ولدًا" بسقوط الواو، وكذلك في سورة آل عمران:{وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] فيها قراءة: بحذف الواو، فتكون الآن ثلاث آيات في البقرة، وفي آل عمران، وفي سورة المائدة.
المهم أن الآية فيها ثلاث قراءات بالرفع والنصب مع ثبوت الواو، وبالرفع مع حذف الواو.
قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} الاستفهام هنا: للتعجيب، يعني: اعجبوا أيها الناس لهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم، ولا شك أن المنافقين يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم مع المؤمنين، قال تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] 1 البقرة: 14، وقال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1].
إذًا: الاستفهام هنا للتعجيب، يعني: اعجب أيها الإنسان من هؤلاء الذين يقولون: إننا معكم كيف كانت حالهم.
قوله: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، أقسموا به، أي: حلفوا به، والإقسام والحلف واليمين معناها واحد: وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة، هذا القسم، قولنا بصيغة مخصوصة، وهي الواو والباء والتاء، هذه حروف القسم، تقول: واللهِ، وتقول: باللهِ، وتقول: تاللهِ.
إذًا: لا بد من أن يكون هناك تأكيد ولا بد أن يكون المحلوف به معظمًا، وفي هذه الصيغة يوجد أشياء تكون بمعنى اليمين، ولكنها ليست يمينًا كالحلف بالطلاق، والحلف بالنذر، والحلف بقول: لعمرك وما أشبهها، هذه ليست يمينًا اصطلاحًا، وإن كان معناها معنى اليمين.
قوله: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني: أبلغ ما يكون من الأيمان، وأبلغ ما يكون من الأيمان إما أن يكون بالصيغة، وإما أن يكون بقرنه بالشهادة، وإما بقرنه بالدعاء على الحالف وما أشبه ذلك، فمثلًا إذا قال: أشهد بالله مقسمًا به أن كذا، كذا وكذا، هذا
مؤكد بالشهادة، وإذا قال: والله إني لفاعل كذا وكذا هذا مؤكد بالصيغة، هؤلاء يقسمون أقوى وأشد ما يكون من الإقسام {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أي: مع المؤمنين، يقسمون بذلك إنهم لمعهم لكنهم ليسوا معهم.
وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} قالوا: إنه يحتمل أن يكون من جملة القول، ويحتمل أن يكون استئنافًا من عند الله، يعني: إن قلنا: إنه من جملة القول صار كالتعليل أو كالبيان لقوله: {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} ، يعني: كأنه قال: وما هم معكم؛ لأنهم حبطت أعمالهم، ولا تحبط إلَّا بالكفر، والكافر ليس مع المؤمن قطعًا، وقيل: إنها من عند الله؛ يعني أن الله أخبر المؤمنين بأن هؤلاء حبطت أعمالهم، حتَّى وإن تظاهروا بالإسلام فأعمالهم حابطة، وحبوط الشيء بمعنى: ذهابه سدى، لا يُنْتَفَعُ به ولا يعتد به.
وقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} العمل هنا يشمل القول والفعل، والاعتقاد لأنه أطلق وإذا قرن العمل بالقول صار المراد به عمل الجوارح، و"أصبح" هنا بمعنى صار، المعنى أنهم بعملهم هذا صاروا خاسرين، فعندهم الندم كما سبق في الآية الأولى، وعندهم الخسران والعياذ بالله، وأنهم لم يربحوا ولن يربحوا أيضًا، مع أن المنافقين يعتقدون أنهم المفلحون، وأنهم المصلحون، وأنهم هم الذين أرادوا الإحسان والتوفيق، ولكنهم في الحقيقة هم المفسدون، ولا إحسان ولا توفيق، بل هم الخاسرون.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أنَّه يجوز للمرء أن يجري الكلام على سبيل
التعجيب فيمن يستحق العجب منه، ولا يعد ذلك من باب الغيبة؛ لأن الله تعالى ذكر هذا عن المؤمنين ولم ينكره عليهم بل ذكره كالمادح لهم.
الفائدة الثانية: كذب المنافقين وأنهم يروجون باطلهم ونفاقهم بالأيمان، ولهذا قال بعض الناس: إذا رأيت الذي يكثر الأيمان على ما لا يحتاج إلى كثرة الأيمان فاعلم أنَّه كاذب؛ لأنه يريد أن يروج كذبه بكثرة الأيمان، وإلَّا فالصادق لا يحتاج إلى كثرة الأيمان، بل ولا يحتاج إلى يمين أصلًا؛ لأنه واثق من نفسه؛ إلَّا إذا كان المخاطب منكرًا أو شاكًّا فقد يؤكده.
الفائدة الثانية: أن المنافقين يقسمون بالله ويظهرون تعظيم الله، كما أنهم يذكرون الله ويصلون، ويتصدقون، لكن كل هذا لا ينفعهم لعدم الإيمان في قلوبهم - أجارنا الله من ذلك - فلعدم الإيمان لا ينفعهم هذا كله.
الفائدة الرابعة: أن عمل المنافق حابط لقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ولا يمكن أن ينفعه عمله، لكن لو أنَّه تصدق، هل تنفعه الصدقة في الآخرة؛ قطعًا لا تنفعه، في الدنيا قد يثاب عليها، بالبركة في ماله وكثرته لينفع غيره، لكن في الآخرة قطعًا لا ينتفع بها.
الفائدة الخامسة: أن المنافق خاسر، مهما ظن من الربح فإنه خاسر، وجه ذلك: إن فضحه الله في الدنيا تبين وخسر وصار مكروهًا عند الناس، وإن لم يفضحه الله في الدنيا ففي الآخرة، وحينئذٍ لا يكون منتفعًا بدنياه؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة.
* * *
سبق الكلام على قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وما فائدة تصدير الخطاب بالنداء، ثم بوصف الإيمان.
قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ} ، فيها قراءتان:{يرتدد} ، بفك الإدغام، و {يرتد} بالإدغام، أما على قراءة:{مَنْ يَرْتَدَّ} فهي مجزومة والجزم ظاهر بـ "مَنْ" الشرطية، لكن على قراءة {من يرتدَّ} تكون مجزومة أيضًا لكن نقول: لما أدغمت الدال بالأخرى حركت الثانية بالفتح لالتقاء الساكنين.
قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} عن دينه: يعني: عن عمله الذي يدين الله به وهو العبادة.
قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} ، الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ لأن هذا أحد المواضع السبعة التي يجب اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابًا للشرط، والبقية مذكورة في البيت يقول الشاعر:
اسمية طلبية وبجامد
…
وبما وقد وبلن وبالتنفيس
هذه سبعة مواضع إذا وقعتت جوابًا للشرط، سواء كان الشرط جازمًا أم غير جازم، فلا بد أن تقترن بالفاء ولا تحذف إلَّا قليلًا ولا سيما عند ضرورة الشعر، كما في قول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
…
.............................
والواجب أن يقال (فالله) لأن الجملة اسمية.
قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، قالوا: إن "سوف"
و"السين" تتفقان في دلالتها على التأكيد، لكنهما تختلفان بأن السين تدل على الفورية، و"سوف": تدل على الإمهال.
وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} : (بقوم) يعني: غير المرتدين، ولم نتكلم عن الارتداد، الارتداد عن الدين ينحصر في شيئين: إما الجحود وإما الاستكبار، لو قرأت جميع ما ذكره الفقهاء في كتاب المرتد لوجدته لا يخرج عن هذين الأمرين: وهما الجحد أو الاستكبار. الجحد: يعني: التكذيب في الأخبار، والاستكبار: عن الامتثال، كل الردة تعود إلى هذين الأمرين وما يذكر من التفاصيل، فهذا عبارة عن تشقيق لهذه الجملة وتفريع عليها.
وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} : ذكر أوصافهم، فلنعددها:"يحبهم" و"يحبونه""أذلة على المؤمنين""أعزة على الكافرين""يجاهدون في سبيل الله""ولا يخافون لومة لائم" ستة أوصاف. يعني: إن ارتددتم فلن تضروا الله شيئًا، ولن تضروا الإسلام شيئًا، بل إن الله سيأتي بقوم هذه صفاتهم:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ} فما معنى المحبة؛ المحبة: هي المحبة، ولا يمكن أن تعرفها بأوضح من لفظها، وهكذا جميع الأشياء الانفعالية، لا يمكن أن تحدها بأكثر من لفظها، لو قلت: ما هو الغضب؟ الغضب: هو الغضب، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الكتاب المنسوب إليه - وهو روضة المحبين - ذكر للمحبة تعريفات كثيرة، لكنه قال: كلها لا تصح، كلها تفسير لها بلوازمها أو آثارها أو ما أشبه ذلك.
قوله: {يُحُبُّهُمْ وَيُحِبُونَهُ} {يُحِبُّهُمْ} هو الله عز وجل، {وَيُحِبُّونَهُ} لكن يجب أن نعلم أن محبة الله تخالف محبة الإنسان
في أسبابها وفي آثارها وكيفيتها؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: أنهم لا يستكبرون على المؤمنين ولا يترفعون عليهم، بل يتطامنون لهم، ويذلون لهم، أي: يتواضعون، كما في قوله تبارك وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، ولهذا عديت (أذلة) بـ "على" دون "اللام"، يعني: لم يقل: أذلة للمؤمنين، بل قال: أذلة عليهم، يعني: ذوي شفقة عليهم، وحنان عليهم دون استعلاء واستكبار، فـ "أذلة" مضمنة معنى الشفقة، يعني: أذلة بشفقة، وبعضهم قال: إن هذا يدل على أن الذل صار من علو وليس من ضعف لأن الذليل قد يكون ذليلًا لضعفه لا لعلوه لكن هذه الآية تفيد أنهم أذلة مع العلو والرفعة.
قوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، أعزة: يعني أقوياء يُرُون الكافرين القوة والعزة والافتخار بما هم عليه من الدين.
قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الجهاد: بذل الجهد لإدراك الشيء، والمراد به هنا: بذل الجهد لقتال الأعداء، ثم إن كان لإعلاء كلمة الله فهو جهاد في سبيل الله، وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن المجاهد في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لأن يعلو هو، بل لتكون كلمة الله هي العليا فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام، عن الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؛ قال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(1)
، وسبيل الله: طريقه الموصل إليه، وقد أضافه
(1)
تقدم في (1/ 336).
إلى نفسه وإلى غيره، فقال تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وأضاف الله السبيل إليه في آيات كثيرة، ولا منافاة فإن الله أضاف السبيل إليه لوجهين: الأول: أنَّه هو الذي شرعه وفتحه طريقًا إليه، والثاني: أنَّه موصل إليه، كما تقول: هذه سبيل مكة، وتعني طريقها الموصلة إليها، أما إضافته إلى المؤمنين فلأنهم سالكوه، فهو يضاف إلى الله باعتبار وإلى المؤمنين باعتبار، فلما اختلفت الجهة لم يكن هناك تناقض.
قوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} ، اللوم: هو العذل، يعني: أن الإنسان لا يخاف إذا جاهد في سبيل الله، وصار عزيزًا على الكافرين لا يهمه أن يلام أو لا يلام؛ لأنه يريد هدفًا آخر، لا يريد أن يكون محمودًا عند الناس ولا مذمومًا عندهم وانما يريد مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {لَوْمَةَ لَائِمٍ} يعني: أي: لومة من أي لائم، أخذنا العموم من كلمة: لومة وهي واحدة، "لائم": نكرة فيشمل كل من يلوم سواء كان من الأقارب أو الأباعد، أو الأصحاب، أو غيرهم.
قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} "ذلك": المشار إليه الاتصاف بهذه الأوصاف، {فَضْلُ اللهِ} أي: عطاؤه ورزقه {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} ، وكلما قرأت شيئًا معلقًا بالمشيئة فاعلم أنَّه مقرون بالحكمة، ولا بد، والدليل على هذا قول الله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 30]، فلا يشاء شيئًا إلَّا وهو يعلم أن الحكمة في مشيئته، حتَّى يفعله سبحانه وتعالى.
وقوله: {وَاسِعٌ} واسع هل في فضله فقط أو في كل صفاته؟
الجواب: في كل صفاته، وإذا جاءك معنىً يكون أعم فخذ به إذا كان النص يحتمله، سواء في الكتاب أو السنة، فإذا قلنا: واسع في فضله وعطائه، نعم هو واسع في فضله وعطائه، لكن إذا قلنا: واسع في جميع صفاته فإن ذلك أعم، والأخذ بالأعم أولى؛ لأنه يدخل فيه الأخص.
وقوله: {عَلِيمٌ} أي: ذو علم، والعلم واسع، كما قال تعالى:{وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، وقال تعالى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: الإشارة إلى أن من المؤمنين من سيرتد، لقوله:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ} هكذا قال كثير من المفسرين المتأخرين والمتقدمين: إن هذا إشارة إلى أنَّه سيكون من المؤمنين من يرتد، وعندي وفي نفسي من هذا شيء؛ لأنه قد يكون المراد بالآية: التحذير من الردة، كقوله:{أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] بقطع النظر هل تقع أو لا تقع؟ أما كونها واقعة فمما لا شك فيه أن الردة وقعت، قال العلماء: إنه وقعت ردة إحدى عشرة طائفة، ثلاث في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وسبع في عهد أبي بكر، وواحدة في عهد عمر من طوائف العرب، ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ظهر مسيلمة والأسود العنسي وصاحب غسان، وفي عهد أبي بكر سبعة
طوائف كلهم ارتدوا، ولكن الله عز وجل دحرهم والحمد لله، ولم تقم لهم قائمة وعرف كذبهم وردتهم.
الفائدة الثانية: أن الله غني عن العباد، فلو ارتد قوم جاء الله بقوم آخرين، كما قال الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
الفائدة الثالثة: أن المرتدين مبغوضون عند الله لقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
بقي علينا شيء مهم في مسألة الردة، هنا لم يذكر الله عز وجل ما يترتب على الردة من عقوبة في الدنيا، بل قال:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
وهنا بحوث: أولًا: هل كل ردة يمكن التوبة منها؟
الجواب: نعم، كل ردة يمكن التوبة منها لعموم قول الله تبارك وتعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، ولقوله تعالى في سورة الفرقان:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ، يعني: لا يشركون {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، لا يعتدون على الأنفس {وَلَا يَزْنُونَ} ، لا يعتدون على الأعراض {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 - 70].
إذا: القول الراجح أن كل إنسان أذنب ذنبًا مهما عظم ثم تاب إلى الله توبة نصوحا، فإن توبته مقبولة.
تنبيه: من كان ذنبه بالكفر فإن الله يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولهذا لو تاب المرتد قبلنا توبته ورفعنا عنه القتل، ولو تاب الزاني بعد وصوله إلى القاضي لا تنفعه التوبة، مع أن المرتد تنفعه التوبة حتَّى عند القاضي.
استثنى بعض العلماء من هذا مسائل:
أولًا: صاحب البدعة قالوا: المبتدع ولو تاب لا تقبل توبته، ولكن يقال: أين الدليل على خروجه من العمومات؟
قالوا: لأن مفسدته متعدية، فنقول في الجواب عن هذا: هذه المفسدة المتعدية يمكن إصلاحها بأن يقول هذا الذي ابتدع: إنه رجع عن بدعته وأن الصواب كذا وكذا، مثل ما جرى لأبي الحسن الأشعري رحمه الله، فأبو الحسن الأشعري كان في أولى أمره معتزليًّا تمامًا، معتزليًّا جلدًا لا يلين، وبقي على ذلك مدة طويلة من الزمن ثم تاب، وأعلن توبته في المسجد الجامع وخلع عمامته وقال: من كان يعرفني فهو يعرفني، ومن لا يعرفني فأنا فلان، ثم أنكر إنكارًا شديدًا على المعتزلة، هذه توبة، وربما يكون أجره على إنكار البدعة أعظم من عقوبته على هذه البدعة، مع أن العقوبة انمحت بالتوبة.
كذلك أيضًا: لا بد لتحقيق توبة المبتدع من أن يكتب ما يبطل بدعته، حتَّى يكون صادقًا في توبته.
فإن قال قائل: أرأيت لو أن الذين أخذوا ببدعته أَبوا أن يرجعوا برجوعه؛ فهل يأثم بإثم بقاء هؤلاء على البدعة؟
الجواب: لا يأثم؛ لأنه أدى ما يجب عليه من التوبة وبَيَّنَ الحق، وإذا أصر هؤلاء على باطلهم فهم على باطلهم.
ثانيًا: من سب الله، هل تقبل توبته أو لا تقبل؟
في هذا خلاف بين العلماء، منهم قال: من يسب الله لا تقبل توبته، وذلك لأن ردته عظيمة جدًّا، حيث سب رب العالمين جلَّ وعلا، فلا تقبل توبته؛ لعظم جرمه بهذه الردة، ولكن هذا التعليل في مقابلة النصوص، والتعليل في مقابلة النصوص مرفوض، كالقياس في مقابلة النص، إذا: هذا مرفوض، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام: 108] فدلت الآية على أن من الكفار من يسب الله عز وجل إذا سبت آلهتهم.
ثم يقال: إن الله سبحانه وتعالى قال في المنافقين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] يعني نتحدث حديثًا لا نقصد معناه، نتحدث حديث الركب لنقطع به عناء الطَّرِيقِ، فقال الله تعالى للرسول عليه الصلاة والسلام:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، وهذا نص صريح بأن المستهزئ بالله أو آياته أو رسوله كافر؛ لأن الله عز وجل قال:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 66] وهذا يدل على أنَّه قد يكون منهم طائفة يعفى عنها ولا يمكن أن يعفى عنها إلَّا بتوبة.
وعلى هذا فالقول الراجح: أن من سب الله ورسوله ثم تاب فإن توبته مقبولة.
ثالثًا: لكن من سب الرسول عليه الصلاة والسلام ثم تاب تقبل توبته، لكنه يقتل، يقتل مسلمًا؛ لأن هذا حق آدمي وهو
الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن نثأر له، لا بد أن نقتل من سبه، أما من سب الله فالله عز وجل قد أخبرنا عن نفسه أنَّه يتوب عليه، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام هل يتوب على من سبه؛ لا ندري، ولهذا وجد أناس سبوا الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته وعفا عنهم؛ لأن الحق حقه، لما تابوا عفا عنهم، أما بعد موته فإن الحق علينا نحن أتباعه؛ لأنه ليس بحاضر فلا بد أن نثأر لرسولنا صلى الله عليه وسلم ونقتل من سبه، ثم الحمد لله ماذا يكون له إذا قتل؟ ينتقل من الدنيا إلى الآخرة، ينتقل بصفته مسلمًا، والذي لا يموت اليوم يموت غدًا، لكننا إذا أخذنا بالثأر للرسول عليه الصلاة والسلام كان هذا من أدنى الواجبات علينا، وإن كُنْتَ قاضيًا وعرض عليك فقل: اضربوه بالسيف ولا تبالي.
رابعًا: الساحر، السحر نوعان: نوع يكفر به الساحر، ونوع لا يكفر به.
أما الذي لا يكفر به الساحر فإنه يقتل حدًا، كما جاء ذلك عن الصحابة، كفًّا لفساده؛ لأنه من الساعين في الأرض فسادًا، وقد قال الله تبارك وتعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، ولا أحد يشك في إفساد السحرة في الأرض، فيقتلون كفًّا لشرهم وردعًا لغيرهم، والساحر الكافر: هو الذي يستعين بالشياطين ومردة الجن على إيذاء عباد الله، بأن يضع سحرًا يستهوي به الشيطان أو مردة الجن حتَّى يسكنوا في جسم إنسان، ويأبوا أن يخرجوا منه إلَّا بحل السحر؛ هذا يكفر لقوله
تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102]، انظر ملائكة من ملائكة الله أنزل الله عليهم علم السحر وهم ملائكة، لا من أجل أن يجعلوه مهنة، لكن من أجل الاختبار، ولهذا قال الله عز وجل:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، فهذا يقتل كفرًا وردة كما تقدم.
ولكن إذا تاب فهل تقبل توبته؟ في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: لا تقبل، ومنهم من قال: تقبل، والأسعد بالدليل؟ من قال: تقبل، فنقبل توبته، ونرفع عنه القتل، ونجعله من إخواننا، لكن لا بد أن يكون هناك دليل على استقامته وصلاح حاله، ولا يكفي مجرد أن يقول: تبت.
لكن ما ترتب على فعله هذا محل نظر؛ لأن الكفار إذا آذوا المسلمين وقتلوا منهم وأخذوا أموالهم ثم أسلموا سقط عنهم الضمان.
خامسًا: المنافق نفاق كفر، هو كافر لا شك قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145]، والنفاق من شر خصال بني آدم، المنافق إذا علمنا نفاقه يقينًا لا مجرد وَهم وقرائن؛ لأنه بمجرد الوهم والقرائن لا يجوز أن نتهم أحدًا بالنفاق، فإننا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس وبطونهم، لكن إذا علمنا يقينًا ورأينا هذا الرجل يذهب إلى مجمعات اليهود والنصارى والملحدين ويقول: إنه معهم، ويأتي إلى المسلمين يتملق ويقول: إنه مسلم، هذا ظهر نفاقه، فنحكم
عليه بالنفاق، وهل يقتل أو لا يقتل؟ يقتل؛ لأن هذا معلوم نفاقه، لكن المنافقون في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام رفع عنهم القتل لسبب، وهو: أن لا ينفر الناس عن الإسلام والإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"
(1)
وهو يعلمهم عليه الصلاة والسلام، لكن خوفًا من تنفير الناس عن الإسلام امتنع لهذه المصلحة العظيمة أن يقتلهم وأخذ بظواهرهم.
ولكن إذا تاب المنافق فهل تقبل توبته؟ المذهب لا تقبل توبته؛ لأن الرجل في الأصل يقول: إنه لم يكفر، يقول: إنه مسلم، فإذا قلنا: أنت منافق قال: أبدًا، أشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، وستجدونني في الصف الأول في كل الصلوات، فيقولون: إنه لا يقتل، قال السفاريني رحمه الله:
لأنه لم يبدُ من إيمانه
…
إلَّا الذي أذاع من لسانه
فلا نقبله؛ لأنه في الأصل يقول: إنه مسلم.
ولكن الصحيح أن توبته مقبولة إذا دلت القرائن على صدقه، بدليل قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 145، 146]، انظر إلى الشروط؛ لأن المسألة ليست هينة، هذا الرجل يبدي إيمانه، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة (المنافقون)، حديث رقم (4622)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، حديث رقم (2584) عن جابر بن عبدِ الله.
[النساء: 146] شروط ثقيلة في توبتهم؛ لأنهم لا يظهرون إلَّا الإسلام، فإذا تيقنا ذلك، فالله يقول:، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146]، ومنهم هؤلاء المنافقون الذين تابوا؛ لأن الله يقول:{فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
مسألة: هل يستتاب المرتد أو لا، بمعنى إذا ثبت كفره فهل يستتاب؟
الجواب: الذين يقولون: إنها لا تقبل توبة هؤلاء لا يقولون بالاستتابة؛ لأنهم لو تابوا لم تقبل توبتهم، ومنهم الأصناف التي ذكرنا على القول الراجح، فإن هذا يرجع إلى رأي الإمام؛ لأن النصوص في هذا، بعضها فيه قتل المرتد بدون استتابة، وبعضها فيه قتل المرتد باستتابة، فيرجع في ذلك إلى رأي الإمام أو نائبه في الحكم كالقضاة، فإذا رأوا أن يستتاب استتيب، وإذا رأوا أن لا يستتاب لم يستتب.
فإن قال قائل: الاستتابة حق له، فلماذا تمنعونه منها؟
قلنا: ليست حقًّا مطلقًا، بل هي حق إذا دعت المصلحة إليه، وإذا كانت مصلحته في عدم الاستتابة، فالحق العام للمسلمين، ومنعهم من التلاعب في الدين أهم من حق هذا الرجل الخاص.
إذا قال قائل: إذا ارتدت طائفة من الناس أو قبيلة من القبائل فهل يجوز قتالهم؟
الجواب: يجب قتالهم؛ لأن هذا هو الذي أجمع عليه الصحابة بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجب أن نقاتلهم، ولكن بشرط أن يكون لدينا قوة نستطيع بها المقاتلة، فإن
لم يكن لدينا قوة فإن الله لم يوجب القتال على المسلمين في مكة لعدم القوة، ومن المعلوم أنَّه من التهور الذي لا يأمر به الشرع ولا يقتضيه عقل، أن يقاتل الإنسان الجحافل المسلحة بالأسلحة المتطورة وليس معه إلَّا سكاكين المطبخ، هذا ليس من الحكمة، ولا يمكن أن تقتضيه الشريعة وأن تأمر به، ولا يقتضيه العقل؛ انتظر حتَّى يكون لديك قوة ثم حينئذٍ قاتل.
فإن قال قائل: أليس أَبو بكر رضي الله عنه أرسل جيش أسامة مع حاجته إليهم في قتال أهل الردة؟
الجواب: بلى، لكن يجاب عن هذا بأمرين:
الأمر الأول: أن جيش أسامة عقد رايته محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أَبو بكر رضي الله عنه: والله لا أحل راية عقدها الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثاني: أن في ذلك إظهارًا لعزة المسلمين وقوتهم، ولهذا لما رأى العرب المرتدون أن أهل المدينة صاروا يبعثون الجيوش إلى الشام؛ قالوا: هؤلاء عندهم قوة وقدرة فتراجع بعضهم، فصار في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بركة عظيمة تغني عن القتال أشهرًا، وهذا مما يدلنا على أن التمسك بالإسلام له بركات عظيمة، قد لا يشعر بها الإنسان إلَّا بعد مدة.
الفائدة الرابعة: بيان قدرة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى إذا أذهب أقوامًا أتى بآخرين خيرٍ منهم.
الفائدة الخامسة: إثبات أفعال الله الاختيارية، يعني: التي يفعلها باختياره، لقوله:{فَسُوْفَ يَأْتِى} وسوف: للمستقبل، وإنَّما ذكرت ذلك؛ لأن كثيرًا من المتكلمين من الأشاعرة وغيرهم
ينكرون أن تقوم الأفعال الاختيارية بالله، يقولون: لا يوجد شيء من صفات الله إلَّا هو أزلي، أما شيء حادث فلا يمكن، وتعليلهم، يقولون: إن الحوادث لا تقوم إلَّا بحادث، وهذا لا شك أنَّه خطأ، بل كون أفعال الله حادثة تدل على كماله سبحانه وتعالى وأنه فعَّال لما يريد، فإذا قلنا: إنه ليس يفعل، فلا شك أن هذا تعطيل محض وتنقص لله عز وجل.
الفائدة السادسة: إثبات المحبة من الله ولله، من الله في قوله {يُحِبُّهُمْ} ولله في قوله:{وَيُحِبُّونَهُ} وهذه الآية جمعت بين محبة الله لعباده الصالحين ومحبة العباد الصالحين لله، وفي آيات كثيرة إثبات المحبة من الله لعباد الله الصالحين المستحقين لها، وهي عندنا معشر أهل السنة الذين نأخذ بما أخذ به السلف الصالح محبة حقيقية تليق بالله عز وجل، وعند آخرين ليست محبة حقيقية، بل يحرفونها إما بالثواب وإما بإرادة الثواب، إما بالثواب عند من لا يثبت الصفات السبع، يثبتون الثواب؛ لأن الثواب منفصل مخلوق، لكن لا يجعلون المحبة صفة قائمة بالله، أو إرادة الثواب عند من يثبت الصفات السبع كالأشاعرة، ولهذا الأشاعرة نجدهم يفسرونها إما بإرادة الثواب، وإما بالثواب، لكنهم متناقضون في الواقع؛ لأن الثواب لا يقع إلَّا بإرادة، وإرادة الثواب لغير المحبوب أمر منكر لا يمكن، فإن الله لا يثيبه إلَّا وقد أحب عمله فأثابه عليه لكنهم متناقضون، وهكذا جميع الأقوال الباطلة ولنجعل ذلك منا على بال، كل الأقوال الباطلة تجدها متناقضة، والدليل:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولهذا من أكبر الأدلة على ضعف القول
أو بطلانه أن يكون متناقضًا، فإذا رأيت القول متناقضًا فاعلم أنَّه ضعيف، لا يمكن أن يكون حقًّا.
إذًا: نحن نؤمن بأن الله عز وجل يُحِب ويُحَب، وأن المحبة التي يجدها الإنسان في قلبه لله عز وجل لا تساويها أي محبة، فالإنسان يحب ولده ويحب أباه ويحب أمه، ويحب أهله، ويحب أصدقاءه، لكن المحبة لله غير هذه المحبة، من نوع آخر يجد الإنسان فيها لذة وراحة، لا يعرفها إلَّا من فقدها والعياذ بالله، فهي محبة عظيمة لا تشبه تعلق الإنسان بغير الله عز وجل.
إذًا: الآية هي رد على الأشاعرة، والمعتزلة والجهمية، وكل من لا يثبت الأفعال الاختيارية، أو لا يثبت المحبة.
الفائدة السابعة والثامنة: الثناء على من كان ذليلًا على المؤمنين، وهو الذي يخفض جناحه لهم ويتطامن ويتواضع، فإن هذه من الصفات التي يحبها الله عز وجل، عكس ذلك يؤخذ منه فائدة ثانية، وهي أن ترفع الإنسان على إخوانه المسلمين، ليس محمودًا عند الله بل ولا عند الخلق، ولذلك اعلم أنَّه كلما ازداد إيمانك ازددت تواضعًا، وكلما ازداد علمك ازددت تواضعًا، بعض الناس، نسأل الله أن لا يجعلنا منهم، إذا ازداد علمه انتفخ وتكبر وصار لا يكلم الناس إلَّا بأنفه، وصار إذا كلمه الناس يتجاهل، يقول: ماذا تقول، وهو يدري، قد ملأ سمعه كلامه، لكن من باب الاستكبار، وهذا لا شك أنَّه نقص عظيم، لأنه كلما كثر علمك ينبغي أن يكثر تواضعك.
الفائدة التاسعة: الثناء على عزة النفس وقوة الشخصية أمام الكفار وأن نكون أعزة عليهم، نرى في أنفسنا العلو عليهم
والظهور عليهم لا بذواتنا، ولكن بما معنا من الدين؛ لأن الله تعالى يقول:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} ، لماذا؟ {لِيُظْهِرَهُ} [التوبة: 33] أي: الدين أو الرسول صاحب الدين، فيجب علينا نحن المسلمين أن نعرف قيمتنا في المجتمع الأممي، وأننا أحق الناس بالبقاء على الأرض وأحق الناس برزق الله وأحق الناس أن نعلو عليهم، هذا إذا كان لنا شخصية إسلامية، لكن لضعف الإيمان وضعف التوكل على الله عز وجل صرنا أذنابًا لغيرنا، أعزاء على قومنا أذلاء أمام الكافرين، نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية.
لو قال قائل: قلتم: إن المؤمن يكون عزيزًا على الكفار، فهل يشمل ذلك فساق المسلمين؟
الجواب: الذي لم يخرج من الإيمان لا ترى نفسك عزيزًا عليه ولا ذليلًا عليه؛ لأن معه إيمانًا يقتضي أن تكون ذليلًا عليه، ومعه معصية تقتضي أن تكون عزيزًا، لكن لا كعزتك على الكافر، بل أحبه لما معه من الإيمان واكرهه لما معه من المعاصي، وحاول أن تصلحه، فإن كثيرًا من الفساق الآن يبتعدون عن الاستقامة؛ لأنهم يجدون من بعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر شدة وصعوبة وتنفيرًا، لكن لو أنهم سلكوا سبيل الرفق لحصل خير كثير، فأحيانًا يقع الإنسان مع أحد العصاة ويدعوه بأسلوب طيب، لكن يكون رده شديدًا فيقول للداعي: لماذا تتدخل، الأمر لا يهمك، أنت فضولي، فاذا قال: الأمر لا يهمك، لماذا تتدخل، قل: يا أخي، أنت أخي والرسول صلى الله عليه وسلم -
يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"
(1)
، واصبر على ما أصابك، أما أن تقول: بل الأمر يهمني، أنت فاسق يجب أن نربيك، يجب أن نؤدبك، هذا لا يستقيم.
لو قال قائل: هل يستقيم القول: على قدر ما يكون في الإنسان من صفات النفاق، على قدر ما يحبط مقابله من العمل، أو يقال: لا بد من وصفه بالنفاق ويحبط عمله بالكلية؟
الجواب: لا، حبوط العمل كاملًا لا يكون إلَّا في النفاق الكامل، في المقابل تأتي الموازنة، يعني: هناك موازنة بين الحسنات والسيئات سواء كانت السيئات من أعمال المنافقين أو لا، والموازين يوم القيامة تدور على الموازنة، وإذا كان الإنسان فيه من صفات المنافقين كإخلاف الوعد والكذب وغير ذلك لا يمكن أن نقول: يحبط من عمله الصالح مقابل ذلك؛ لأنه يأتينا إنسان آخر يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فيقال: الموازنة، لكن لا شك أن الذي فيه خصال المنافقين الظاهرة يخشى أن تتحول إلى صفات المنافقين الباطنة؛ لأن الشيء يجر بعضه بعضًا، والشبه الظاهر قد يؤدي إلى الشبه الباطن.
الفائدة العاشرة: فضيلة الجهاد في سبيل الله، لقوله:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
الفائدة الحادية عشرة: الإشارة إلى الإخلاص، لقوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأن الجهاد، وهو القتال يحمل عليه عدة أسباب، والجهاد المحمود هو الجهاد في سبيل الله.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا، حديث رقم (5680)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، حديث رقم (2585) عن أبي موسى.
فإن قال قائل: مما هو الجهاد في سبيل الله؟
قلنا: فسره النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأنه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله
(1)
، وقد تقدم.
لو قال قائل: ذكرتم أن البراء بن مالك رضي الله عنه ألقى بنفسه في أرض العدو
(2)
، استدل البعض بهذه القصة على جواز العمليات الانتحارية، فما الجواب على هذا الإيراد؟
لو قال قائل: الإنسان إذا لم يستطع الجهاد في سبيل الله، وكان فرضًا عينيًّا عليه، فكيف يكون حاله، ثم ما صحة ما يروى عن حسان بن ثابت في هذا، هل هذا صحيح أي: أنَّه لم يكن مجاهدًا؟
الجواب: بعض المتأخرين في الحقيقة ليس عندهم أدب مع الصحابة، ولا شك أن حسان بن ثابت رضي الله عنه ليس كخالد بن الوليد في الإقدام والشجاعة، ولكن كوننا نقول: إنه جبان وأن المرأة أشجع منه، فهذا غلط عظيم، مع أنَّه يدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام دفاعًا بلسانه أشد من وقع النبل على الكفار
(3)
، والذين يتكلمون في الصحابة رضي الله عنهم ينصحون
(1)
تقدم في (1/ 336).
(2)
تقدم في (1/ 276).
(3)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد، حديث رقم (453)، كتاب المناقب، باب من أحب أن لا يسب نسبه، حديث رقم (3531)، كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، حديث رقم (6152)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، حديث رقم (2485)، جامع التِّرمِذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في إِنشاد الشعر، حديث رقم (2846) عن عائشة.
ويقال لهم: لا تكونوا من آخر هذه الأمة الذين يلعنون أولها
(1)
فاتقوا الله، وأما حكم الجهاد لمن يعرفون بالجبن إذا كان الجهاد فرض عين فإنه يجب عليهم فإن تخلفوا فهم آثمون.
الجواب: تقول الأعمال الانتحارية هل هي موت محقق؟
الجواب: نعم هي موت محقق، وقصة البراء بن مالك موت غير محقق فليس فيها دليل، لكن هناك واحد من الألف أنَّه ينجو، والمنتحر ألفان أنَّه يموت، فرق عظيم.
الفائدة الثانية عشرة: أنَّه ينبغي للإنسان أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فما دام على حق، فلا يهمنه أحدًا؛ لأنه لا بد لكل عابد من عدو، قال الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]، وأتباع الأنبياء كذلك، لا بد أن يكون لهم أعداء من المجرمين، ولكن:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، انظر لماذا ختم الآية بقوله:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} لأن هؤلاء الأعداء؛ إما أن يضلوا الناس بالفكر والتشكيك وما أشبه ذلك؛ فقطع طمعهم بقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وإما أن يحاولوا صد الناس بالقوة فقابل ذلك بقوله: {وَنَصِيرًا} .
إذًا: كل إنسان يتمسك بالشريعة، فلا بد من ملامة، يلومه أكثر الناس؛ لأن بني آدم من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في
(1)
بمعناه رواه التِّرمِذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، حديث رقم (2215) عن علي بن أبي طالب، وابن ماجة المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، حديث رقم (263) عن جابر بن عبدِ الله، ولفظهما: ولعن آخر هذه الأمة أولها.
النار وواحد في الجنَّةَ
(1)
، جعلنا الله منهم.
لكن هل يدخل في قوله: {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} أن الإنسان يتهور ولا يستعمل الحكمة، أو لا بد من استعمال الحكمة؟
الجواب: الثاني، لا بد من استعمال الحكمة؛ لأن التهور يحصل منه انعكاس المقصود، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يدع ما يمكن أن يقال خوفًا من المفاسد أو ما يمكن أن يفعل خوفًا من المفاسد، حتَّى، إنه لا يسب الرجل لسوء خلقه أو دينه، فإذا استأذن عليه لاقاه بوجه منشرح، كل ذلك من أجل التآليف؛ لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف
(2)
.
الفائدة الثالثة عشرة: أن هذه الصفات العظيمة من فضل الله تعالى لقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} .
الفائدة الرابعة عشرة: أن كل من سعى في فعل الخير فإن الله تعالى يجود عليه؛ لأن قوله: {مَنْ يَشَاءُ} ليس لمشيئة مطلقة، بل لمشيئة مقيدة بالحكمة، ولهذا قال الله عز وجل:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فمن كان أهلًا للرسالة أرسله، كذلك الله أعلم حيث يجعل آثار هذه الرسالة وأتباع هذه الرسالة، فمن كان أهلًا لذلك أعطاه، ومن لم يكن أهلًا حرمه،
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وترى الناس سكارى، حديث رقم (4464)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف
…
، حديث رقم (222) عن أبي سعيد.
(2)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، حديث رقم (2593) عن عائشة.
اقرأ قول الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، واقرأ ما مر قبل عدة آيات:{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49].
الفائدة الخامسة عشرة: إثبات المشيئة لله عز وجل فيما يتعلق بفعل العبد لقوله: {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 73] وهذا هو الذي عليه السلف الصالح، وعليه أهل السنة والجماعة، وأئمة المسلمين، أن لله مشيئة في أفعال الخلق، كما أن له مشيئة في أفعاله جل وعلا، قال الله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28، 29]، ولهذا دائمًا الإنسان يريد أن يفعل شيئًا؛ وإذا به يعدل عنه دون أي سبب ظاهر، ولكنها مشيئة الله عز وجل.
قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم، وهذا معناه: أن الإنسان قد يعزم على الشيء ثم إذا به ينتقض عزمه، وكذلك صرف الهمم، تجد الإنسان يتجه إلى شيء معين وإذا به ينصرف بدون أي سبب ظاهر، لكنها مشيئة الله تبارك وتعالى.
ومشيئة الله عز وجل لأفعال العباد من تمام ربوبيته، حتَّى لا يكون في ملكه ما لا يريده؛ لأن الذين يقولون: إن الإنسان منفرد بمشيئته وليس لله مشيئة في فعله يلزمهم أن يقولوا: إن في ملك الله ما لا يريد.
الفائدة السادسة عشرة: بيان سعة الله عز وجل في كل شيء، في الإحاطة بالخلق علمًا، وقدرة، وسلطانًا، ورحمة، وغير ذلك، الله واسع وكفى في كل شيء سبحانه وتعالى.
الفائدة السابعة عشرة: إثبات العلم لله عز وجل لقوله: {عَلِيمٌ} والعلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه، فمن لم يدرك الشيء فهو جاهل، ونوع جهله بسيط، ومن أدركه على خلاف ما هو عليه فهو جاهل ونوع جهله مركب؛ لأنه لا يدري ولا يدري أنَّه لا يدري.
الفائدة الثامنة عشرة: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله عز وجل واسع وعليم، وعلى هذا لك أن تدعو الله بذلك، فتقول: اللهم يا واسع أوسع عليَّ في الرزق، اللهم يا عليم اختر لي ما فيه صلاحي، وما أشبه ذلك؛ لأن الله قال:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
واعلم أن جميع أسماء الله مشتقة؛ يعني: دالة على معنى، فليس في أسماء الله اسم جامد لا يدل على معنى أبدًا، حتَّى اسم الله مشتق خلافًا لمن قال إنه جامد؛ لأنه مشتق من الألوهية، والإلوهية مصدر يدل على معنى، فكل أسماء الله دالة على معنى، ولو لم نقل: إنها دالة على معنى لم تكن حسنى؛ لأن الجامد ليس فيه مدح ولا ثناء.
إذًا: كل أسماء الله حسنى وهل كل أسماء الله مشتقة؟
الجواب: نعم مشتقة؛ ولذلك نقول: كل اسم لا بد أن يكون متضمنًا لصفة، وليس كل صفة يشتق منها اسم، بعض الصفات لا يمكن أن تشتق لله منها اسمًا مثل قوله تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، لا يمكن أن تثبت لله اسم الماكر؛ لأن هذا وصف، والوصف يتقيد بما قيد به.
* * *
° قال الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55].
قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} هذه الصيغة تفيد الحصر لأنها بمنزلة قوله: ما وليكم إلَّا الله ورسوله، فلا تتولوا اليهود والنصارى، إنما وليكم الله ورسوله، ونِعْمَ الوليان: رب العالمين وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام،
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} لأن الذين آمنوا بعضهم أولياء بعض، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة براءة:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وهكذا يجب أن يكون المؤمنون بعضهم أولياء بعض؛ لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وما ظنك برجل وليه الله ورسوله والمؤمنون، لا يستطيع أحد أن يهزمه.
قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} هذا صفة لقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} فهم جمعوا بين الإيمان وهو العقيدة، وبين إقامة الصلاة.
قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} "الزكاة": هي المال المقدر في الأموال الزكوية يؤتونها أهلها المستحقين لها.
قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} الجملة هذه هل هي جملة حالية - يعني: أنهم يؤتون الزكاة وهم راكعون في الصلاة - أو أنَّها استئنافية؟
الجملة استئنافية، ثم على القول بأنها استئنافية، هل المراد بها الركوع الذي هو جزء من الصلاة، وهو انحناء الظهر تعظيمًا لله عز وجل، أو المرأد الخضوع لشريعة الله؟ الثاني، ولهذا قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن
…
تركع يومًا والدهر قد رفعه
وهذا يأتي به النحويون شاهد على أن الفعل المضارع يبنى على الفتح ولو حذفت نون التوكيد، وأصل:"لا تهين" لا تهينن، فقوله:(تركع) يعني تخضع، يومًا والدهر قد رفعه، يعني: لا تنظر للحاضر، انظر للمستقبل، أنت الآن غني وهذا فقير، ربما يكون في يوم من الأيام غني وأنت فقير.
إذًا جملة {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة مستأنفة وليست جملة حالية، والمراد بالركوع هنا الخضوع للشريعة والذل لها.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: فضل المؤمنين، الفضل الذي لا شيء فوقه، لقوله:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ثلاثة أشياء: الله والرسول والذين آمنوا.
فإن قال قائل: ولاية الله عز وجل صالحة لكل زمان ومكان، لكن كيف ولاية الرسول؟
الجواب: أما ما كان في حياته؛ فالولاية واضحة ظاهرة، وأما بعد وفاته فإن تمسكنا بسنته من توليه لنا؛ لأننا ننصر بها، ونعان بها، فكأنه عليه الصلاة والسلام معنا يناصرنا ويعيننا، وأما الذين آمنوا فواضح أن المؤمنين لا يزالون ظاهرين على الحق حتَّى يأتي أمر الله.
الفائدة الثانية: فضيلة من تولى الله ورسوله والذين آمنوا.
الفائدة الثالثة: فضيلة الصلاة؛ لأن الصلاة دائمًا في المقدمة، ولا شك أن الصلاة أفضل العبادات بعد التوحيد والشهادة بالرسالة، ولهذا فرضت من الله عز وجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بدون واسطة، وفرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان يصل إليه البشر، وفرضت على الرسول في أشرف ليلة كانت له، وفرضت
على الرسول خمسين صلاة؛ لأن كونها خمسين صلاة يدل على أن الله يحبها؛ لأن خمسين صلاة تستوعب أكثر الوقت، ولكن الله بمنه وكرمه جعلها خمسًا لكن كأنها خمسون، هي خمس بالفعل وخمسون في الميزان
(1)
.
لو قال قائل: ما السبب في أن كثيرًا من العبادات كالصيام والحج وأكثر العبادات لا تكثر فيها الهواجس والأفكار، وأما الصلاة فيكثر فيها ذلك؟
الجواب: تكثر الأفكار في الصلاة لأنها خير موضوع، والشيطان يريد أن يفسد علينا هذه الصلاة، الصلاة لو أتينا بها على الوجه المطلوب، لكان الأمر كما قال الله عز وجل:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] فتنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر وتعينه أيضًا على البر، قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45]، هذا هو السبب، ولذلك إذا قوي إيمان العبد أتاه الشيطان من كل وجه يوسوس له في أصل الإيمان لأنه عرف أنَّه إذا قوي إيمانه نجا من هذا العدو الخبيث، وإذا ضعف إيمانه تسلط عليه.
الفائدة الرابعة: أن مرتبة الزكاة في دين الإسلام بعد مرتبة الصلاة، وهكذا في الآيات الكريمة وفي الأحاديث النبوية؛ تاتي الزكاة بعد الصلاة.
(1)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، حديث رقم (342)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (163) عن أبي ذر.
فإن قال قائل: الزكاة والصيام، الصيام أشق على الإنسان من الزكاة فلماذا لم يقدم؟
قلنا: أولًا: لا نسلم بهذا؛ لأن حب الإنسان للمال حبُّ شديد، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} يعني: حب المال {لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وقال:{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19، 20]، وربما يسهل على الإنسان أن يصوم عشرة أيام ولا يؤدي عشرة دراهم.
ثانيًا: الزكاة فيها نفع متعدي، نفع للإسلام ونفع للمسلمين، فإن من أصناف الزكاة سبيل الله وهذا نفع للإسلام، ومن أصناف الزكاة الفقراء والمساكين والغارمون، وهذه مصلحة للمسلمين، فمصلحة الزكاة متعدية، والصيام غير متعدٍ، فلذلك - والله أعلم بحكمته سبحانه وتعالى صارت الزكاة تلي الصلاة.
الفائدة الخامسة: أنَّه لا بد أن يقترن بهذه الأعمال الصالحة الذل والخضوع لله عز وجل، بحيث يشعر الإنسان أنَّه متعبد لله خاضع له، وهذا يفوت كثيرًا من الناس، أكثر الناس يؤدي الصلاة على أنَّها مفروضة عليه فقط لكن لا يشعر بأنه متعبد لله بذلك، وكذلك يقال في الزكاة، من أين أخذنا أنَّه ينبغي التنبه لذلك؟ من قوله:{وَهُمْ رَاكِعُونَ} .
والعجب أن الرافضة قالوا: إنه لم يعمل بهذا الآية إلَّا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقالوا: إنه أدى الصدقة وهو راكع، وجعلوا هذا من مناقبه، وحاشاه رضي الله عنه أن يكون ذلك من فعله؛ لأن الحركة في الصلاة غير محمودة، ليست محل حمد، فكونه إذا ركع جاءه الفقراء قال: خذ، خذ، خذ، هذه
ليست منقبة هذه مثلبة، لما يترتب على صدقته في ركوعه من انشغاله بأمر خارج عن الصلاة فلا يحمد عليه، والصدقة ليست كالجهاد؛ لأن الإنسان يمكن أن يصلي وينهي صلاته ثم يتصدق، لكن الرافضة لا يفهمون، عندهم سفه، كما قالوا في مدحه: إنه يصلي ما بين المغرب والعشاء ألف ركعة! من يصلي ألف ركعة بين المغرب والعشاء؟ ! لو أن إنسانًا يريد أن يفعل هذا ولو كان يرقص رقصًا ما تمكن من أن يصلي ألف ركعة! لكن جعلوا هذا من مناقبه، وهو في الحقيقة من المثالب، ونحن نشهد أنَّه لن يفعل هذا ولم يفعله، لا هذا ولا هذا، ولا نشك أن عليًّا رضي الله عنه له من المناقب والفضائل ما اختص به من بين الخلفاء، وله من الفضائل والمناقب ما شاركه فيه الخلفاء، وللخلفاء من المناقب والفضائل ما لم يحصل لعلي بن أبي طالب، ليس في ذلك شك، فعلي له مناقب، والخلفاء لهم مناقب، يشتركون في بعضها، وينفرد بعضهم عن الآخر في بعضها، لكن الفضل المطلق على هذا الترتيب: أَبو بكر، عمر، عثمان، علي رضي الله عنهم.
فمثلًا قرابة علي من الرسول عليه الصلاة والسلام لا يشاركه فيها أحد لا أَبو بكر ولا عمر ولا عثمان، كون الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج علي بن أبي طالب ابنته فاطمة، يشاركه عثمان بل هو أولى؛ لأن عثمان رضي الله عنه لما ماتت بنت الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى زوجه الثانية، فقد تزوج ابنتين للرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلن في آخر حياته إعلانًا لا يمكن أن يحصل لغير أبي بكر قال وهو على المنبر، ويبلغ قوله كل
الأمة قال: "إن أمنَّ الناس عليَّ في ماله وصحبته أَبو بكر"
(1)
الله أكبر، من حصَّل هذا؟ وقال صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا؛ لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الاصلام ومودته"
(2)
هذه ما حصلت لأحد، خَلَّفَهُ في الصلاة، وخلفه في الحج، خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك في أهله، وقال له لما قال: يا رسول الله تجعلني في النساء والضعفاء، قال:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبي بعدي"
(3)
هذه المنقبة ما حصلت لأبي بكر، وكان خليفته في أهله، كما قال موسى لهارون:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142].
* * *
° قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 56].
قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} "مَنْ" شرطية، يعني أي إنسان يتولى هؤلاء الثلاثة: الله ورسوله والذين آمنوا، أي: يتخذهم أولياء يتولاهم بالمحبة والمودة والنصرة وجميع ما تقتضيه الولاية.
(1)
رواه البخاري أَبواب المساجد، باب الخوخة والممر في المسجد، حديث رقم (454)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، حديث رقم (2382) عن أبي سعيد.
(2)
الحديث السابق.
(3)
رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، حديث رقم (3503)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، حديث رقم (2404) عن سعد بن أبي وقاص.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ} هل الله في حاجة لأن يتولاه أحد؟
الجواب: الله عز وجل ليس بحاجة لأن يتولاه أحد، لكنّ الدين بحاجة إلى أن يتولاه أهله، ومن تولى دين الله فقد تولى الله كما قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، ومن المعلوم أن الله عز وجل لا يحتاج إلى نصر، لكن {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} أي: تنصروا دينه {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
وقوله: {وَرَسُولَهُ} لرسول عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى من يتولاه في حياته ويتولى سنته ويدافع عنها بعد وفاته، فيكون تولي الرسول بمعنى تولي سنته ونصرها، كما قلنا: إن تولي الله يعني تولي دينه ونصرة دينه.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} تولي المؤمنين إلى يوم القيامة؛ لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق حتَّى تقوم الساعة وحتى يقبضوا قبل قيام الساعة؛ لأن الساعة لا تقوم إلَّا على شرار الخلق.
قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، لم يقل عز وجل فإنه الغالب، بل قال {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} ليكون دالًّا على شيئين:
الشيء الأول: أن من تولى الله ورسوله والذين آمنوا فهو من حزب الله.
الشيء الثاني: إرادة العموم أن حزب الله لا بد أن يكون غالبًا؛ لأن دين الله لا بد أن يكون غالبًا، فالمتمسك بدين الله؛ هو من حزب الله وهو غالب ولا بد، لكن الغلبة قد تكون في حال الحياة وقد تكون بعد الموت، ولهذا نجد الأئمة الذين لم
يقدر لهم أن يظهروا ظهورًا كاملًا في حياتهم؛ ظهروا ظهورًا كاملًا بعد وفاتهم كالإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما من العلماء والأئمة الذين لحقهم من الإهانة من ولاة السوء ما لحقهم، وكانت الغلبة لهم إما في الحياة وإما بعد الممات.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى والثانية: الحث على تولي الله ورسوله والمؤمنين، ويتفرع على ذلك أو هو حقيقةً بمعنى التولي: أن يكون الإنسان دائمًا مرتبطًا بهذه الثلاث: كتاب الله والثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث سبيل المؤمنين، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]، فكن دائمًا مرتبطًا بهذه الثلاث.
الفائدة الثالثة: الثناء التام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وأن توليهم من أسباب الغلبة، أما تولي الله فهو شأن فوق ذلك.
الفائدة الرابعة: أن لله تعالى حزبًا، ومَنْ حزبه؟ حزبه الذي يقابل حربه؛ لأن الله له حزب، وله حرب فمن أقام على شريعته فهو حزبه، ومن خالف شريعته فهو حربه، فإعلان المخالفة حرب لله، لا سيما فيما نص على أنَّه حرب لله عز وجل كالربا وقطع الطَّرِيقِ وما أشبهها.
فإن قال قائل: أيمكن أن يستدل بهذه الآية من أقاموا الأحزاب في بلادهم؟
الجواب: لا، لا يمكن؛ لأن المفروض أن المسلمين حزب واحد لا يتفرقون، بل إذا تفرقوا فقد قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ، فبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم وقال:{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ثم توعدهم بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] فهذا كان هذا شأن من فرقوا دينهم كل واحد يقول: الدين معي؛ فكيف يقال: إن إقامة الأحزاب في الدين الإِسلامي جائزة لأن الله قال: حزب الله؟
نقول: كل المسلمين حزب لله عز وجل والدين الإِسلامي حزب واحد ومن خالف خرج عن هذه الحزبية، لكن لا يعني ذلك أن نقول: إنه لا بد أن تقام الأحزاب في الدين الإِسلامي، ولذلك انظر الآن إلى الأمة التي بنت كيانها على قيام الأحزاب ماذا يكون فيها؟ الشر والبلاء العظيم حتى إذا صار حزب في الطليعة وله الغلبة؛ حصل الشر وربما قامت الجيوش على هذا الحزب.
لو قال قائل: هل الحزبية مشروعة؟
الجواب: الحزبية بين المسلمين غير مشروعة، بل هي أداة للتفرق، أما الحزبية بين الكفار وبين المسلمين واجبة؛ لأن غير المسلمين هم حزب الشيطان، فالله تعالى جعل لنفسه حزبًا، وجعل للشيطان حزبًا، ولا بد من هذا، لكن بين المسلمين محرمة لأنها تؤدي إلى الفرقة.
وهل يمكن أن نقيم حزبًا إسلاميًّا ضد حزب شيوعي أو لا يمكن؟
يمكن؛ لأن الله جعل حزبًا لله وحزبًا للشيطان، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] هذا لا بد منه؛
لأن بني آدم كلهم حزبان: الإيمان والكفر، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] هذا لا بد منه، لكن أحزاب في الحزب الواحد هذا خلاف الإِسلام، ولا يمكن أن يقال، ولذلك يحصل التفكك العظيم إذا قامت هذه الأحزاب.
لو قال قائل: تقدم في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} التأكيد على عدم التعددية الحزبية بين المسلمين لكن يظهر الآن في كثير من المجلات مقالات لمن يسمون بأهل الفكر تنص على أولًا: أنه يجوز التعدد الحزبي لأن هناك تعددًا مذهبيًّا مقبولًا عند المسلمين؟
الجواب: أن يقال: إن تعدد المذاهب ما هي إلا تعدد أقوال فقط لكن لا يتحزبون، وإن كان وجد من المتعصبين للمذاهب ما يقتضي أن يكون تحزبًا لكنهم مستحقون للذم وإلا فقد وجد في العصور الوسطى تعصب، حتى إن بعض الحنابلة يضربون الشافعية، والشافعية يضربون الحنابلة لكن هذا منكر بلا شك، أما مسألة الخوارج فالخوارج يقاتلون على أنهم مسلمون، ومع ذلك فإن كثيرًا من علماء السلف أخرجهم من الإِسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:"يمرقون من الإِسلام كما يمرق السهم من الرمية"
(1)
، أما مسألة الفكر وما الفكر هذه، فالفكر إن كان مخالفًا لما جاء به الإِسلام فهو فكر باطل مردود على
(1)
رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، حديث رقم (6533)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، حديث رقم (1064) عن أبي سعيد الخدري.
صاحبه، وهذا مثل قول الكفار:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وإن كان فكرًا صوابًا فلا بد أن يكون في الإِسلام ولا يقتضي التحزبية.
لو قال قائل: الذين يجوزون التعدد الحزبي كيف يصوبون رأيهم والكتاب والسنة أمرا بعدم التفرق؟
الجواب: قل: اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه.
لو قال قائل: قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، هذه الجملة فيها حصر لأن الغلبة لحزب الله عز وجل، لو أُورد علينا إِيرَادُ هذا القائل فإننا نجد أن المسلمين صارت عليهم هزائم وصارت الغلبة لأعدائهم حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: المراد هم الغالبون باعتبار النهاية وغلبة غير المسلمين لا بد أن يكون لها حكمة، فمثلًا: في أُحُد سببها المخالفة والمعصية، وفي حنين سببها الإعجاب، فالله تعالى قد يُدِيلُ الكفار على المسلمين لحكمة، إما لتقصير المسلمين أو لغلوهم في أنفسهم أو لأي سبب لكن في النهاية تكون الغلبة لحزب الله، الذين هم أولياء الله.
الفائدة الخامسة: البشرى لحزب الله بالغلبة؛ فهم الغالبون على أعدالهم واقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 13] ، بشر المؤمنين بأن لهم النصر.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)} [المائدة: 57].
في هذه الآية كلمتان فيهما قراءات:
الأولى: {هُزُوًا} بالواو وضم الزاي لا غير، ولا يصح أن نقول: هُزْوًا، بل لا بد أن تضم الزاي، وبالهمزة قراءتان: هُزُؤًا بضم الزاي، وهُزْءًا بتسكين الزاي، فالجميع ثلاث قراءات.
والكلمة الثانية: {وَالْكُفَّارَ} ، فيها قراءتان:"والكفارِ" بالجر، "والكفارَ" بالنصب، فعلى قراءة الجر تكون معطوفة على "الذين" الثانية أي: على قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني: "ومن الكفارِ" وعلى قراءة النصب تكون معطوفة على {الَّذِينَ} الأولى، يعني:"لا تتخذوا الذين أتخذوا دينكم ولا تتخذوا الكفارَ".
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تأمل الآن كم مرة تكررت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في صفحة واحدة، مما يدل على الاهتمام التام بما ذكر في هذه الآيات حيث كرر الله عز وجل النداء للمؤمنين.
قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} وذكر أصنافهم، {تَتَّخِذُوا}: بمعنى تصيروا، وهي تنصب مفعولين: المفعول الأول: {الَّذِينَ} ، والمفعول الثاني:{أَوْلِيَاءَ} يعني: لا تتخذوهم أولياء، وهي نظير الآية السابقة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51].
وقوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} أي: صيروا، والدين بمعنى:
العمل هنا، وقد جاء لفظ الدين في القرآن الكريم، ويراد به الجزاء ويراد به العمل الذي يجازى عليه.
مثال الأول: قول الله تبارك وتعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] يعني: يوم الجزاء، ومثاله أيضًا قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17، 18] ويأتي بمعنى العمل كثيرًا، مثل قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] ، ومثل هذه الآية، أي: العمل الذي تدينون الله به وترجون عوضه من الله، ومنه الدَّيْن في المعاملات، الاشتقاق واحد، فالدَّيْن في المعاملات: دفع شيء لانتظار عوضه.
قوله: {هُزُوًا وَلَعِبًا} يعني: جعلوه محل استهزاء، يسخرون به بألسنتهم، واعتقدوا بقلوبهم أنه لشعب، واللعب: هو الذي ليس له هدف وليس له فائدة، وقالوا: ما معنى أن الإنسان يأتي إلى المسجد ويتحرك قائمًا وقاعدًا وساجدًا وما أشبه ذلك؟ وقالوا: هذا لعب ليس هذا بدين ويسخرون به.
قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني بهم اليهود والنصارى، وقوله:{مِنْ قَبْلِكُمْ} بيان للواقع وليس تقييدًا؛ لأنه لم يؤتِ أحد الكتاب معنا ولا بعدنا، وإنما كل الذين أوتوا الكتاب كانوا قبلنا، ولكن المراد بهم هنا كما هي طريقة القرآن اليهود والنصارى.
وقوله: {وَالْكُفَّارَ} قلنا: فيها قراءتان، يعني: ولا تتخذوا الكفار أولياء سواء اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، هذا على قراءة النصب، وعلى قراءة الجر، يعني: لا تتخذوا الكفار الذين
اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا، وكل من القراءتين مفيد جدًّا، فنقول: إذا جعلناها بالجر تفيد أن الكفار سوى الكتابيين ممن اتخذوا ديننا هزوًا ولعبًا، وعلى قراءة النصب تفيد أن نتجنب الكفار ولا نتولاهم مطلقًا، لكن على قراءة الجر فيها إشارة إلى أن الكفار غير الكتابيين يتخذون ديننا هزوًا ولعبًا، فيجتمع فيهم السخرية منا واعتقاد أن ديننا لعب.
قوله: {وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} {أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي أي: منصور تناصرونه وتعينونه وتتقربون إليه وما أشبه ذلك مما يقتضي أن يكونوا أولياء لنا لا أعداء.
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: اتخذوا وقاية من عذابه، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه تقربًا إليه تبارك وتعالى، ولهذا قال بعضهم في تعريف التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، فجمع هنا بين العمل والإخلاص والعلم، أن تعمل بطاعة الله، "عمل" على نور من الله، "علم" ترجو ثواب الله، "إخلاص" لا ترجو الدنيا، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله، تخشى عقاب الله، ولهذا إذا قلنا: إنها اتخاذ وقاية بفعل الأوامر فلا بد من ملاحظة الإخلاص؛ لأنه إذا لم يكن إخلاص لم تكن طاعة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه الشرطية من باب التحدي، يعني: إن كنتم صادقين في إيمانكم فلتتقوا الله؛ لأن الصادق في إيمانه لا بد أن يتقي الله، وأن يتجنب محارمه، أن يقوم بأوامره، فإن لم يفعل فإيمانه ناقص ضعيف، والآن الناس ضيعوا أمر الله وضيعوا أنفسهم، ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنا أذلة فأعزنا الله بالإِسلام فمتى طلبنا العزة في غيره أذلنا الله.
هل الشرطية هنا لها علاقة بما قبلها بحيث نقدر جواب الشرط ما قبلها؟ فيكون التقدير {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} "فاتقوا الله"، يستقيم الكلام أو لا يستقيم؟ يستقيم، إذًا فهي موصولة بما قبلها، وأحيانًا تأتي الشرطية غير موصولة بما قبلها، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9] هذه الشرطية ليست متعلقة بما قبلها؛ لأنه ينعكس المعنى، لو قلنا: ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإن لم تعلموا فليس خيرًا لكم، لا يستقيم، ولهذا في الآية الثانية التي قرأتها الآن؛ ينبغي للإنسان أن يقف، على قوله:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} لأنك لو وصلت، فُهِمَ منه أنه خير إن كنا نعلم، وإن لم نعلم فليس بخير، مع أنه خير على كل حال، لكن معنى هذا إن كنتم من ذوي العلم فافهموا هذا، هذا معناها إجمالًا، على كل حال الآية التي معنا:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} نقول: هذا الشرط متعلق بما قبله، أي: إن كنتم مؤمنين حقًّا فاتقوا الله؛ لأن الإيمان حقًّا يحمل على التقوى.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء، فتكون هذه أعم من الآيات السابقة لقوله:{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [المائدة: 51]؛ لأنه انضم إليهم في هذه الآية الكفار.
الفائدة الثانية: الإغراءُ التام عن اتخاذهم أولياء وذلك بإثارة الحمية والغيرة في قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} لأن أي إنسان يشعر بأن شخصًا يهزأ به في دينه ويقول: هذا الدين لشعب لا فائدة منه؛ لا شك أنه سيثور.
الفائدة الثالثة: إظهار عداوة هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والكفار للإسلام، وأن عداوتهم ظاهرة حيث كانوا يسخرون بأهله المتمسكين به.
لو قال قائل: بالنسبة لمن له أقارب كفار هل يؤمر بمدافعة الحب الطبيعي؟
من له أقارب كفار فإن الحب الطبيعي لا يؤثر على دينه؛ لأن هذا أمر لا بد منه ولا يمكن الفرار منه.
الفائدة الرابعة: أن العلم قد يكون وبالًا على صاحبه، لقوله:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فإن هؤلاء أعطوا العلم ووصف لهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وصفًا يجعلهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك لم ينفعهم هذا العلم.
الفائدة الخامسة: الحث على التقوى التي من جملتها البعد عن اتخاذ هؤلاء أولياء لقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} .
الفائدة السادسة: أن الإيمان الحقيقي مقتضي للتقوى، لقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
فإن قال قائل: هل التقوى خاصة بالله؟
نقول: أما تقوى العبادة فإنها خاصة بالله، ولا يجوز أن يُتقى شيء على وجه التعبد إلا الله عز وجل، وأما تقوى ما يُخشى منه؛ فهذه تكون لله ولغيره، قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] قال: {يَوْمًا} ومعلوم أن هذه ليست تقوى عبادة، يعني: لم يأمرنا الله عز وجل أن نعبد اليوم بالتقوى، لكن هذا في اتقاء ما يُخشى منه، ويقال: اتقِ شر من أحسنت إليه، هل هذه تقوى عبادة؟
الجواب: لا، يعني احذر واخشَ، وليست هذه تقوى عبادة، وعبارة "اتقِ شر من أحسنت إليه" السابقة ليست بحديث لكن قد يكون معناها صحيحًا في بعض الأحيان، فإذا أحسنت إلى أحد قال هذا خائف مني ثم يهينك.
* * *
° قال الله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 58].
قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ذكر ذلك مبينًا حال هؤلاء الذين أوتوا الكتاب وكذلك الكفار.
وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أي: دعوتم الناس إليها بالصفة المعروفة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وصار للأمة دولة إسلامية ومجتمع كبير؛ تشاوروا فيما بينهم كيف يجمعون الناس إلى الصلاة؛ فمنهم من اقترح: أن توقد نيران إذا دخل الوقت، يُعلم بها دخول الوقت، ورُفض هذا الاقتراح بأن هذا من عادة المجوس؛ ولأن هذه النيران في النهار لا تفيد شيئًا، ثم اقْتُرِح ناقوس فرفض هذا الاقتراح؛ لأن هذا من علامة صلاة النصارى، ثم اقترح بوق ينفخ ويكون له صوت، ورُد هذا الاقتراح؛ لأنه من شعار دين اليهود، ويسر الله عز وجل أن أحد الصحابة وهو: عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه، رأى في المنام رجلًا معه ناقوس أو بوق فقال له: أتبيع هذا؟ قال: لأي شيء، قال: لأعلن به الصلاة، فقال: ألا أدلك على خير من هذا؟ ثم أسمعه الأذان كله، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال: إنها لرؤيا حق وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عبد الله بن زيد أن يلقيه إلى
بلال؛ وعلل ذلك فقال: "إنه أندى صوتًا منك"
(1)
، ولم يقل: ألقه وسكت؛ لأنه لو سكت لكان في قلب عبد الله بن زيد شيء، إذ إنه هو الذي رآه فكان أولى الناس بالقيام به، لكن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يُبَيِّنُ حكمة الشيء حتى يطمئن القلب، فَبَيَّنَ أنه أندى صوتًا منه فنادى به، ونعم النداء، تعظيم لله عز وجل، شهادة له بالتوحيد، شهادة للرسول به. بالرسالة، دعوة للصلاة، دعوة للفلاح، ختام بالتعظيم والتوحيد، أي دعوة أحسن من هذه؟ لا شيء، دعوة عظيمة، ولهذا يقول مجيب المؤذن:"اللهم رب هذه الدعوة"، ماذا؟ "الدعوة التامة"
(2)
حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام جعلها من شعار البلاد الإِسلامية فكان إذا نزل بقوم انتظر، فإذا أذنوا ترك قتالهم
(3)
؛ لأن الأذان من شعائر الإِسلام الظاهرة، التي لا يجوز للمسلمين أن يدعوها، ولا يجوز للمسلمين أن يهجموا على بلد يؤذن فيه، وربما يكون هذا هو علامة كون الدار دار إسلام، أن يعلن فيها الأذان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع الأذان كف عنهم، وعلم أن بلادهم بلاد إسلام ويكون هذا هو الفيصل في معنى دار الإِسلام.
(1)
رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، حديث رقم (499)، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، حديث رقم (189)، وابن ماجه، كتاب الأذان والسنة فيها، باب بدء الأذان، حديث رقم (706)، وأحمد (4/ 43)(16525) عن عبد الله بن زيد.
(2)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، حديث رقم (589) عن جابر بن عبد الله.
(3)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، حديث رقم (585) عن أنس.
وقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ناديتم بماذا؟ بالأذان.
وقوله: {إِلَى الصَّلَاةِ} كلمة عامة تشمل: الجمعة والفرائض الخمس، وهل نقول: وغيرها؟
الجواب: لا نقول وغيرها، إذًا: هو عام أريد به الخاص، وهو ليس العام الذي خصص؛ لأن العام الذي خصص، أُريد عمومه أولًا، ثم ورد عبيه التخصيص ثانيًا، والعام المراد به الخاص، لم يرد عمومه أصلًا.
ولهذا نقول: الصلاة هنا عام أُريد به الخاص، الاستسقاء لا يؤذن له مع أنه يجتمع له، العيدان لا يؤذن لهما مع أنه يجتمع لهما، الكسوف لا يؤذن له مع أنه يجتمع له، قيام الليل في رمضان لا يؤذن له مع أنه يجتمع له، لكن الكسوف اختص بدعوة خاصة حتى لا يلحق بالفرائض التي تتكرر كل يوم وذلك بأن يقال: الصلاة جامعة؛ لأنه يأتي بغتة والناس غافلون.
إذًا: المراد بقوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ست صلوات، الصلوات الخمس والجمعة.
قوله: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} أي: جعلوا يسخرون ويستهزئون.
وسبق الفرق بين الهزو واللعب.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} ذلك: المشار إليه قولهم أو اتخاذهم إياها هزوًا ولعبًا، و"الباء" في قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} : للسببية، أي: بسبب أنهم، {قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} أي: ليس لهم عقول، أي: عقول راشدة لكن لهم عقول مدركة، والفرق بينهما:
العقول المدركة: هي العقول التي يترتب عليها التكليف، وهو الوصف الذي تجده في كتب الفقهاء من شروط الصلاة مثل التمييز والعقل
…
إلخ، والعقل هذا عقل إدراك.
لكنَّ عقل الإرشاد: هو الذي انتفى عن كل كافر، فكل كافر ليس عاقلًا عقل إرشاد، أي: ليس له عقل يرشده، عنده ذكاء وعنده إدراك للأمور، ويعرف من الواقع ما لا يعرفه كثير من المسلمين لكنه ليس بعاقل؛ لكفره بالله عز وجل والعقل يهدي إلى الحق.
إذًا قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} أي: ليس عندهم عقل إرشاد، ولو عقلوا لعظموا هذه الصلاة العظيمة التي لا نعلم أن في دين الإِسلام شيئًا أعظم منها ما عدا التوحيد والرسالة؛ لأنها اختصت بخصائص عظيمة، ولا يخفى على كثير من الناس أنها فرضت من الله إلى رسوله بدون واسطة، ولم تفرض علىى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في الأرض؛ بل في أعلى مكان يصله البشر، وأيضًا لم تقرض عليه بهذا القدر الكمي -يعني: خمس صلوات- بل فرضت خمسين صلاة تستوعب كثيرًا من الوقت إن لم يكن أكثر وقت اليقظة، وهذا يدل على محبة الله تبارك وتعالى لها، ولما كان الله يحبها؛ كانت قرة عيسى للرسول صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم"حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"
(1)
اللهم صل وسلم عليه.
هذه الصلاة العظيمة هل يمكن لأي عاقل عقل إرشاد أن يتخذها هزوًا ولعبًا؟ أبدًا بل يتخذها مقام التعظيم والاحترام؛ لأن الإنسان إذا جاء يصلي، فمن يناجي ومن يقف بين يديه؟ يقف بين
(1)
رواه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، حديث رقم (3939)، وأحمد (3/ 128)(12315)، والحاكم (2/ 174)(2676) عن أنس.
يدي الله ويناجي الله، ليس بينه وبينه أحد، "يقول: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله جل وعلا: حمدني عبدي"
(1)
.
ثم يأتي برياض من العبادات قرآن، تكبير، تعظيم لله، انحناء لله، سجود لله، يعني: روضة عظيمة من رياض العبادات، فكيف يمكن لعاقل أن يتخذها هزوًا ولعبًا؟ ! والله لو أن الإنسان منا قيل له: الآن عندك مقابلة مع الملك أو مع الرئيس، ماذا يكون؟ يتأهب ويتجمل ويتطيب، ويتخذ بذلك عدة واستعدادًا، فكيف إذا كان يريد أن يقف بين يدي الله عز وجل؟ الذي هو أحب الأشياء إليه، سيكون لهذا تأثير عظيم لو كنا نعقل، لكن العقل عندنا قليل، نحن نعرف أن الواحد نصف الاثنين هذا عقلًا، لكن العقل الذي هو عقل الإرشاد قليل.
بل كثير من المسلمين اليوم -ونسأل من الله أن يعفو عنا وعنهم- يأتون إلى الصلاة ويقيمون الصلاة جسمًا لا روحًا، ولا تتسلط على الواحد منهم الشياطين بالهواجس إلا إذا دخل يصلي، ثم إذا سلم من الصلاة فكأنه سحاب استدبرته الريح، كل الهواجس هذه تذهب ولا يجد لها فائدة أيضًا، فلذلك كان الذين يتخذون الصلاة هزوًا ولعبًا؛ لا شك أنهم قوم لا يعقلون، والذين يعظمونها وينزلونها منزلتها هم أهل العقل والرشاد.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان لشدة وقع الصلاة في أعدائنا الكفار اليهود والنصارى، وجه ذلك: أنه لما ذكر في الآية التي قبلها
(1)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم (395) عن أبي هريرة.
أنهم يتخذون ديننا هزوًا ولعبًا؛ الصلاة بعد هذا، وتخصيص الشيء من العموم يدل على العناية به وعلى شرفه على العموم.
الفائدة الثانية: مشروعية النداء للصلاة، لقوله:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وكما قلنا: إن النداء يعني الأذان.
الفائدة الثالثة: أن النداء للصلاة أمر معلوم بالضرورة من الدين، لقوله:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} فكان هذا أمر معلوم مفروض منه.
الفائدة الرابعة: أنه إذا كان النداء للصلاة مشروعًا كان عبادة يتقرب به المنادي إلى الله، وهو كذلك، فالأذان من أفضل الأعمال، حتى إن الله خص المؤذنين بخصيصة يوم القيامة ليست لغيرهم؛ وهي كونهم أطول الناس أعناقًا، رفع الله رؤوسهم بطول أعناقهم؛ لرفعهم ذكره بين العباد، فهم يختصون بهذه الخصيصة التي لا يشاركهم فيها غيرهم.
والظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا"
(1)
هذا فيمن يسمى مؤذنًا، أي: يداوم على الأذان ولا يحصل ذلك لمن أذن مرة أو مرتين، وإلا لقال الرسول عليه الصلاة والسلام: من أذن كان أطول الناس.
فإن قال قائل: ما تقولون: أهو أفضل أم الإمامة؟
الجواب: أنه أفضل من الإمامة؛ لأن النصوص الواردة فيه أكثر من النصوص الواردة في الإمامة من حيث الفضل، فالمؤذن أفضل من الإِمام من حيث الأجر ومن حيث المرتبة، صحيح أنه
(1)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهروب الشيطان عند سماعه، حديث رقم (387) عن معاوية بن أبي سفيان.
متبوع، لكن المؤذن تلحقه مشقات عظيمة، وفي الزمن السابق كان يصعد المنارة الطويلة خمس مرات، ثم إذا تأخر المؤذن فضح نفسه كُلٌّ عرف أنه لم يحضر والإمام ليس كذلك.
فإن قال قائل: يرد عليكم إذا كان أفضل من الإمامة، فلماذا لم يؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يؤذن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي؟
قلنا: لانشغالهم بما هو أهم، ونحن الآن لا نريد المفاضلة بين الأذان وغيره من سائر العبادات، بل بين الأذان والإمامة، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين، لو ألزموا أنفسهم بالأذان لكانوا يبقون مراقبين للأوقات مدة طويلة، وفي ذلك الوقت ليست الساعة في جيب الإنسان ليخرجها ويعرف أنَّ الوقت حضر، مَنْ يرقب الشمس ليعرف أنها الآن ستزول أو لا تزول أو زالت أو لم تزل؟ فهم مشتغلون بما هو أهم من التفرغ للأذان.
فإن قال قائل: أفلا يمكنهم أن يوكلوا من يرقب الأوقات، فإذا دخلت جاؤوا؟
قلنا: هذا يسقط عنهم عناء كثير من الأذان الذي ربما يكون الفضل من أجل هذا المعنى فيفوت المقصود.
فالحاصل أن القول الراجح من أقوال العلماء: أن الأذان أفضل من الإمامة.
فإن قال قائل: غير المؤذنين أفلا يكون لهم حظ؟
قلنا: بلى، لهم حظ والحمد لله وهو مشروعية متابعة المؤذن، يعني: أنه شرع لنا أن نقول مثل ما يقول المؤذن، حتى
لا يمتاز عنا بعمل ليس لنا منه حظ، وهذا من نعمة الله ورحمته وحكمته، أنه لم يُضِعْ غير المؤذنين من الأجر الذي يخص الأذان، فنحن مأمورون بمتابعة المؤذن، وأن نقول مثل ما يقول إلا في حيَّ على الصلاة حي على الفلاح لا نقول هذا؛ لأننا لو قلنا مثله لكنا ندعوه، فالمؤذن يدعونا بقوله: حي على الصلاة، فإذا قلنا:"حي على الصلاة" تعارض النداءان، لكننا نقول إذا قال:"حي على الصلاة" نقول ما يدل على أننا نقول: سمعًا وطاعة، وهو: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكأننا قلنا: سمعًا وطاعة، ولكننا نسأل الله أن يعيننا؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
الحاصل أنه شُرع لنا متابعة المؤذن حتى لا يمتاز عنا بعمل، وليس معنى ذلك أن تحصل على الأجر الذي يحصل عليه المؤذن، لكن نشارك المؤذن في بعض الثواب، ونظير ذلك من بعض الوجوه أنه شرع لمن لم يحج أن يضحي حتى يشارك الحجاج في شيء من أفعالهم كذبح القربان، وأن يتجنب الأخذ من الشعور والأظافر والجلد، كل هذا لأجل أن يعرف الناس حكمة الله عز وجل.
فإن قال قائل: إذا ثبت أن الأذان عبادة، فما تقولون في بعض الناس الذين ثبطهم الكسل والوهن، وصاروا يجعلون مسجلًا عند مكبر الصوت، فإذا جاء وقت الأذان فتحوا المكبر؟
نقول: هذا خطأ وغلط عظيم وتفويت الخير على الأمة وهذا ليس مؤذنًا؛ لكنه حاكيًا لصوت مؤذن سابق، ولذلك يجعل المسجل بصوت إنسان قد مات، فليس هذا عبادة، وفي رأيي
أنه، لا يحصل به أداء الفريضة، إذا لم يكن مؤذنًا آخر يسمع في هذا المكان؛ لأن هذا مجرد صوت، ليس رجلًا متعبدًا لله عز وجل بهذا الأذان كما لو جعلنا للجرس ساعة إذا لسُمع، معناه: دخل الوقت، وهذه نقطة ينبغي لنا أن نعرفها؛ أن الدين الإِسلامي عبادة ذات جسد وروح، ليست مجرد طقوس تسمع أو حركات تفعل، بل هو عبادة، فالأذان عبادة، إذَا يجب أن يكون عبادة، ولو أراد أن يقيس قائس على هذا، وقال: ننقل بالشريط صلاة إمام حسن القراءة حسن الصوت ونجعل الشريط أمام المصلين ونجعله يصلي بهم، يصح أو لا يصح؟ بالاتفاق لا يصح ولا إشكال، مع أنه سيقول: الله أكبر لتكبيرة الإحرام على أحسن ما يكون، والقراءة على أحسن ما يكون، ويقول الله أكبر للركوع، ويرفع صوته قليلًا عندما يقول: سبحان ربي العظيم لأجل ألا يشتبه لأنه لا يرى، لكنه بدلًا من أنهم لا يرونه يرفع صوته بالتعظيم، سبحان ربي العظيم وهكذا، لا أحد يقول: هذا يجزئ، فالأذان مثله حذو القذة بالقذة؛ لأننا لا نريد مجرد صوت نعلم به دخول الوقت.
لو قال قائل: انتشر بين الناس اليوم قول لا إله إلا الله بعد الإقامة وصاروا يجعلون هذا سنة، يعني: شاع في كثير من المساجد يضجون بها ضجًا حتى يستغرب الإنسان؟
الجواب: هذا مبني على صحة الحديث وهو متابعة المقيم والصحيح أن الحديث ضعيف وأن متابعة المقيم ليست بسنة، ومنها أيضًا أن يقال: أقامها الله وأدامها، فلا يقال: أقامها الله وأدامها، ولا يقال: لا إله إلا الله في آخرها، ولا يقال بعد ذلك: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة.
الفائدة الخامسة: تعظيم الصلاة حيث ينادى لها، وحتى يعلم الناس دخول وقتها؛ فيصلوا ويحضروا إن كانوا ممن يجب عليهم الحضور للجماعة.
الفائدة السادسة: أن القيام بالصلاة دليل على كمال العقل وأن من لم يهتم بها فإن ذلك دليل على نقص عقله، لقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} فتكون إقامة الصلاة من تمام العقول والتهاون بها من نقص العقول، كما أنه نقص في الدين.
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59].
قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} الخطاب هنا للرسول عليه الصلاة والسلام، يعني: قل لهم، ناظرهم، جادلهم، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} المراد بهم: اليهود والنصارى هَل تَنقِمُونَ هل هنا: استفهامية، والمراد بها: النفي؛ لأننا ذكرنا أنه إذا جاء الاستثناء بعد الاستفهام فهو دليل على أن الاستفهام للنفي، {هَلْ تَنْقِمُونَ} أي: ما تنقمون منا إلا كذا، وهو نظير قوله تعالى في أصحاب الأخدود:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} [البروج: 8].
قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} بماذا تعيبونا، بأي شيء إلا بهذا، وهل هذا عيب، الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل من قبل هل هو عيب أم ليس بعيب؟ الجواب: ليس بعيب.
فكأنه قال: أنتم لا تعيبون علينا شيئًا، هو عيب بل تعيبون علينا شيئًا هو كمال وهو الإيمان بالله وبما أنزل إلينا، ومثل هذا الأسلوب يسميه علماء البلاغة: تأكيد المدح بما يشبه الذم، وله صورتان:
الصورة الأولى: نفي وإثبات، تنفى صفة الذم ويؤتى بعدها بصفة مدح مثبتة، أولًا: تنفى صفة العيب، ثم يؤتى بعدها بصفة كمال فهذا يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم
…
يعاب بنسيان الأحبة والوطن
لا عيب فيهم غير أن نزيلهم الذي ينزل عليهم، يعاب بنسيان الأحبة والوطن، فإذا نزل عليهم ضيف فإنَّه ينسى كل شيء لإكرامهم الضيف واحتفائهم به، يعني: أن فيهم تسلية عن الأحبة والوطن هذا مدح، لكن أول ما تسمع "ولا عيب فيهم غير أن"، تترقب الذم، وكذلك قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
الأول: يمدحهم بالكرم، والثاني: يمدحهم بالشجاعة، فيقول: لا عيب فيهم غير أن سيوفهم، يعني: ليس فيهم أي جبن، وليس فيهم عيب إلا أن سيوفهم قد تثلمت من قرع الكتائب لشجاعتهم، هذا نوع وصورة من صور تأكيد المدح بما يشبه الذم.
الصورة الثانية: أن يؤتى بصفة مدح، ويستثنى بعدها صفة ذم، بأداة استثناء تقول: هذا الرجل عالم إلا أنه شجاع، هذا مدح عالم، إلا أنه ماذا يتوقع؟ صفة ذم، فهذا به يقال: إلا أنه شجاع، تقول: فلان طالب علم غير أنه مجتهد، هذا أيضًا من تأكيد المدح بما يشبه الذم، ومثاله أيضًا: الآية التي معنا.
لننظر الآية: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} هذا مدح.
إذًاا لخطاب لهؤلاء نقول لهم: إنكم لا تنقمون منا شيئًا إلا هذا، وهذا ليس مما يقتضي أن تنقموا منا.
قوله: {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} "ما أنزل إلينا" هو: القرآن {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} هو: التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم والزبور وغير ذلك، نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على كل رسول، هل هذا يُنْقم من الإنسان؟ لا، لا يمكن أن يُنْقم، لكن هؤلاء ننقم منهم أنهم لم يؤمنوا بما أنزل إلينا، بل نقول: لم يؤمنوا بما أنزل إليهم أيضًا؛ لأن أهل الكتاب الآن لا يؤمنون بما أنزل إلينا، وحقيقةً أنهم لا يؤمنون بما أنزل إليهم؛ لأنهم لو آمنوا بما أنزل إليهم لآمنوا بما أنزل إلينا، إذ إن ما أنزل ألينا مصدق لما أنزل إليهم، لكن هم يكذبون هذا وهذا.
قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} هذه الجملة هل هي معطوفة على قوله: {إِلَّا أَنْ آمَنَّا} ، أو معطوفة على لفظ الجلالة؟ فيها وجهان: لكن الصواب الذي قد يكون متعينًا أنها معطوفة على قوله: "بالله"، يعني: إلا أن آمنا بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن طاعة الله بالكفر.
قد يقول قائل: إذا حملتها على هذا المعنى فهم ينقمون؛ لأنهم لا يريدون أن أكثرهم فاسقون، فينقمون منا أن نؤمن بأن أكثرهم فاسقون، فيقال: هذا لا نستحق أن ينقموا منا به؛ لأننا لم نقل: وأنكم فاسقون، بل نقول: وأن أكثركم فاسقون وهذا هو العدل؛ لأن منهم من كان مؤمنًا وآمن فعلًا، مثل: النجاشي من النصارى وعبد الله بن سلام من اليهود، لكن أكثرهم فاسقون، فهذا
عدل، كأنه قال: ما تنقمون منا إلا أن قمنا بما يجب لله وما يجب لعباد الله، الذي يجب لله الإيمان به وبما أنزل، وما يجب لعباد الله العدل، أن نعطي كل إنسان ما يستحق، فمعظم هؤلاء فاسقون بلا شك، ونحن نؤمن بهذا ونؤمن بأن من اليهود من آمن وحسن إيمانه، ومن النصارى من آمن وحسن إيمانه، وهذا هو العدل، لم نحكم على الأمة بفعل أكثرهم بل أعطينا كل إنسان ما يستحق.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: تحدي أولئك الذين ينقمون من أهل الخير خيرًا، لقوله:{هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا} وهذا ليس في محل نقم أو كراهة.
الفائدة الثانية: فضيلة هذه الأمة، وأن هذه الأمة لها فضل ومزية على الأمم السابقة؛ لأنها تؤمن بالله وما أنزل إليها وما أنزل من قبل، وهذا لا يوجد في أمم آخرين، لا يوجد إلا في هذه الأمة، ولهذا قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ولا يمكن أن نكون شهداء على الناس إلا إذا سبقونا، حتى نعلم ما حصل لهم.
الفائدة الثالثة: أنه ينبغي للمؤمن أن يكون صريحًا فلا يداهن، لقوله:{وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} وهذه المقابلة الصريحة بوصفهم بالفسق.
الفائدة الرابعة: الاحتراز الذي يراعى فيه العدل، لقوله:{وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} ولم يقل: وأنكم فاسقون؛ لأننا لو كنا نؤمن بأن كلهم فاسقون لكان هذا محل نقد، لكننا لا نقول إلا أن أكثرهم فاسقون.
الفائدة الخامسة: أن الفسق يراد به الكفر وهذا واضح، حتى في القرآن في غير هذه الآية ما يدل على أن الفسق يراد به الكفر، ويراد به الخروج عن الطاعة فيما دون الكفر، فقوله تبارك وتعالى في سورة السجدة:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18] فالمراد بالفسق هنا: الكفر، لقوله:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 20] والذي يكذب بالنار فسقه كفر لتكذيبه خبر الله عز وجل، والفسق الذي لا يخرج من الملة مثل قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
إذًا المراد بقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} المراد: فسق الكفر لأنهم كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60].
قوله: {قُلْ} يعني: يا محمَّد، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} يا أهل الكتاب أي: أخبركم بالأمر العظيم؛ لأن النبأ إنما يراد به الشيء الهام العظيم، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)} [ص: 67] وقال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)} [النبأ: 1 - 2] ، بخلاف الخبر، الخبر: قد يكون في أمور تافهة، لكن النبأ لا يكون إلا في أمور هامة، ولعل ذلك والله أعلم؛ لأن أحد اشتقاقاته من النَّبْوَة، والنبوة: بمعنى الارتفاع.
قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} المشار إليه صلاة المسلمين التي اتخذها هؤلاء هزوًا ولعبًا، وقالوا: ما هذا العمل، ما هذا اللعب؟ يستهزئون، ومعلوم أن الاستهزاء بالعمل يستلزم الاستهزاء بالعامل، فقال الله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} {مَثُوبَةً} أي: عاقبة وهي منصوبة على التمييز؛ لأنها مفسرة لما انبهم من التفضيل في قوله: {بِشَرٍّ} ؛ لأن أصل شر: أشر فهو اسم تفضيل، والاسم المنصوب بعد اسم التفضيل المفسر يسمى عندهم، تمييزًا، مثل أن تقول: محمَّد أكثر منك علمًا، فـ (علمًا) هنا تمييز؛ لأنه مفسر للمبهم من اسم التفضيل.
إذًا: مثوبة: نعربها على أنها تمييز، والمثوبة بمعني: العاقبة؛ لأنها من ثاب يثوب إذا رجع، فهي بمعنى: العاقبة والمآل عند الله، وهذا هو المهم، المهم المنزلة عند الله عز وجل لا عند الخلق، إذا كانت منزلتك عالية عند الله وخير فهذا هو المهم وهذا هو المطلوب، واعلم أنه متى كنت في منزلة عالية عند الله؛ فسوف تكون في منزلة عالية عند الخلق، والعكس بالعكس، ولهذا جاء في الحديث:"من التمس رضي الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"
(1)
.
قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} "من" هذه اسم موصول وهي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هو من لعنه الله، هذا شر المثوبة عند الله من حصلت عليه هذه النكبات العظيمة، {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي: طرده وأبعده
(1)
رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب حفظ اللسان، حديث رقم (2414)، وابن حبان (1/ 510)(276) عن عائشة.
عن رحمته، وهم: اليهود والنصارى، {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب: 57] قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى"
(1)
، فهم ملعونون مطرودون من رحمة الله كما لعن إبليس، لكن هم يرجى أن يؤمنوا، أما إبليس فلن يؤمن، هذا هو الفرق وإلا فهم ملعونون مطرودون من رحمة الله عز وجل.
الثاني: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} غضب الرب عز وجل أشد من لعنته؛ لأن الطرد والإبعاد عن الرحمة قد يصحبه غضب وقد لا يصحبه، فقد يكون المقصود حرمان هذا الإنسان من الجنة وإن لم يكن غضبًا، فالغضب أشد، ويدل على أن الغضب أشد قوله تبارك وتعالى في آيات اللعان، واللعان سببه: أن الرجل يرمي زوجته بالزنا، ومن المعلوم أنه لا يمكن لأحد أن يرمي زوجته بالزنا إلا وهو صادق؛ لأن هذا يدنس فراشه، ومن ثم صارت الشهادات قائمة مقام الشهود، لكن غير الزوج لو رمى امرأة بالزنا، قلنا: إما أن تقيم أربعة شهود وإلا حد في ظهرك، أما الزوج فلا يحتاج أن نقول له هذا، نقول له: إذا لم تقر الزوجة فلاعن، فيؤتى بالرجل ويقول: أشهد أربع مرات أن الزوجة هذه قد زنت؛ فيقول: أشهد، وفي الخامسة يقول: وأن لعنة الله عليه، والضمير هنا يجب أن يكون ضمير متكلم عندما يتكلم به الزوج،
(1)
رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (13267)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها
…
، حديث رقم (531) عن ابن عباس وعائشة.
لكن هذا من باب تحاشي الإضافة إلى ضمير المتكلم؛ لأن اللعنة ليست على المتكلم، اللعنة على الزوج.
ولهذا يقول هو: عليَّ، فيشهد خمس مرات أن زوجته زنت، وفي الخامسة يقول: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وهي تشهد في رد كلام الزوج أربع مرات أنه كاذب، وفي الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ومعلوم أن كذبها -أي: الزوجة- أشد من كذب الزوج؛ لأن الزوج أقرب منها إلى الصدق، وهي ربما تفعل هذا يعني: تشهد على أنه كاذب لدرء السمعة السيئة عنها وعن قومها، لكن الزوج لا يمكن أن يراعي هذا، ولهذا كان الغضب في جانبها، واللعنة في جانب الزوج، وبه عرفنا أن الغضب أشد من اللعنة.
قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} إذًا اليهود: مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق ولم يعملوا به، وأما النصارى: فالآية هذه تدل على أن النصارى مغضوب عليهم؛ لأن الخطاب مع أهل الكتاب، ولا شك أن النصارى بعد تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مغضوب عليهم، ولا فرق بينهم وبين اليهود، بل هم أخبث من اليهود بالنسبة للمسلمين، والحروب الصليبية إذا قرأها الإنسان عرف شدة عداوة النصارى للمسلمين، وهم الآن ردء لليهود في وقتنا الحاضر، يناصرون اليهود ويدافعون عنهم ولا تفتيش على أسحلتهم ولا إنكار على فعائلهم، وهذا شيء لا يخفى على العميان فضلًا عن المبصرين.
إذَا قوله: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ينطبق في هذه الآية على اليهود والنصارى؛ لأن اليهود بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم علموا الحق،
والنصارى بعد بعثة الرسول علموا الحق وأنكروه؛ فيكونون جميعًا تحت هذه المظلة، مظلة الغضب.
قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وسبب جعلهم قردة: هو أنهم تحيلوا على صيد الحيتان المحرم عليهم صيدها في يوم السبت، ليلتقطوها يوم الأحد.
يقول العلماء: يضعون شُبَّاكًا في يوم الجمعة، ويوم السبت سبحان الله ابتلاهم الله عز وجل بأن تأتي الحيتان شرعًا على الماء طافح من كثرتها لكن لا يجوز لهم أن يصطادوا؛ لأنه محرم عليهم، فكأنهم عجزوا عن تحمل هذا الحكم، فتحيلوا، فوضعوا الشِّبَاك يوم الجمعة، فتأتي الحيتان يوم السبت وفيها الشبك، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، فالفعل ظاهره الإباحة؛ لأنهم لم يصطادوا يوم السبت، اصطادوا يوم الأحد، فلما كانت هذه الفعلة المحرمة شبيهةً بالحلال، مسخهم الله عز وجل قردة لأن القرد شبيه بالإنسان، انظر الجزاء من جنس العمل؛ صاروا قردة، هل هم صاروا قردة معنى أو حسًّا؟ صاروا قردة حسًّا، هذا الذي عليه جمهور المفسرين، وهو ظاهر القرآن، وإن كان بعض المعاصرين ذهب إلى أنهم كانوا قردة معنىً، أي: صاروا مثل القرود ليس عندهم أفكار بني آدم ولا عقول بني آدم، لكن يقال: الأصل هو الحقيقة. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] الذي خلق الإنسان على هذا الوصف؛ قادر على أن يقلبه على وصف آخر، ولهذا قال:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] فصاروا قردة، لكن هل بقوا؟
الجواب: لا؛ لأن المقصود من كونهم قردة أن يكونوا عبرة ونكالًا، ولا يلزم من هذا أن تتسلسل الذرية، ولذلك قال أهل
العلم: إنه لا نسل لمن مسخوا حيوانًا من أجل العقوبة، فمن مات منهم لا يخلف أحدًا.
لو قال قائل: هل في القرآن أن بني إسرائيل صاروا خنازير؟
الجواب: نعم، نقول هذه الآية قال الله تعالى فيها:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} ، أما أن نعلم كيف كانوا أو بأي سبب، هذا ليس بلازم، فإذا حكى الله عنهم أنهم صاروا خنازير فقد صاروا خنازير، ولعلها والله أعلم، ولا نقول على الله ما لا نعلم: لعل هؤلاء الذي قلبوا خنازير لعل حيلهم كانت على الزنا؛ لأن المعروف أن الخنازير ليس عندها غيرة إطلاقًا، الحيوان غير الخنزير يغار فلا أحد يأتي أنثاه إلا إذا كان غائبًا، لكن الخنزير ينزل من أنثاه ويقول لصاحبه: اصعد، يقولون: ليس عنده غيرة، ولذلك من حكمة الله عز وجل أن حرم الخنزير؛ لأنه ليس عنده غيرة، فعلى كل حال إن صح هذا فالله أعلم، ولا ندري.
المهم على أن نؤمن بأن الله جعل من أهل الكتاب قردة وخنازير.
قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} الآية فيها إشكال من جهة التركيب، في قوله:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ} فقوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ} جاء بضمير الجمع {مِنْهُمُ} مع أنه قال في أول الآية: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} بالإفراد.
الجواب: (مَنْ) اسم موصول يجوز في ضميرها أن يرد على اللفظ وعلى المعنى.
قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} : فيها قراءتان:
الأولى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، على أن (عَبَدَ): فعل ماض، فيها ضمير مستتر يعود على (مَنْ) في قوله:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} والطاغوتَ: مفعول به يعني عبد عبادة الطاغوت، وعلى هذا فتكون معطوفة على صلة الموصول، وهو قوله:{لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} .
والقراءة الثانية: {وعَبُدَ الطاغوتِ} ، لكن يكون على هذه القراءة الطاغوت بالجر، على أن عَبُدَ: اسم مفرد، كما يقال: السبَع والسبُع، فيقال: العَبْدُ، والعَبُدُ فهما لغتان، وعلى هذه القراءة نقول: عبُد الطاغوتِ، وتكون معطوفة على القردة، يعني: وجعل منهم عبد الطاغوت، وأهل الكتاب عبدوا الطاغوت باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فإن الله قال عنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لسنا تعبدهم؛ فَبَيَّنَ أن طاعتهم في معصية الله هي عبادتهم
(1)
.
وقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي: عبده عبادة بركوع وسجود وطاعة فيما يأمر، والمراد بالطاغوت ما ذكره ابن القيم رحمه الله بتعريف من أجمع التعاريف قال: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل إنسان يتجاوز الحد في عبادة أحد غير الله فهذا المعبود طاغوت، وكل إنسان يتجاوز الحد في اتباع
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، حديث رقم (3095) عن عدي بن حاتم.
غير شريعة الله فقد اتخذه طاغوتًا، وكل إنسان يتجاوز حده في طاعة سلطان أو أمير فقد اتخذه طاغوتًا، وقلنا في التعريف: ما تجاوز به العبد حده؛ لأن أصل الطاغوت من الطغيان.
فإن قال قائل: هذا المعبود كيف نسميه طاغوتًا، هذا المتبوع كيف نسميه طاغوتًا، هذا المطاع كيف نسميه طاغوتًا؟
قلنا: الطاغوت هنا بمعنى: الطغيان، والطغيان ليس وصفًا للمفعول؛ ولكنه وصف للفاعل العابد الذي عبد غير الله أو أطاع غير الله في معصية الله عز وجل، أو اتبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في معصية الله عز وجل.
قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} الجملة هذه من أحسن ما يكون في تقرير أن هؤلاء شر من المسلمين في المكان، ولهذا لم تأتِ جوابًا من الرسول بل جاءت جوابًا من الله عز وجل، أول الآية {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} يقول القائل: نعم نبئنا، فذكر الأوصاف، لكن هنا قال: أولئك أي: الموصوفون بهذه الصفات: اللعنة والغضب والمسخ والرابع: عبادة الطاغوت، هؤلاء شر مكانًا.
وقوله: {مَكَانًا} تمييز لما انبهم من اسم التفضيل، والقاعدة: أن كل اسم منصوب يأتي بعد اسم التفضيل فهو مميز له، مثل:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] لكن هم شر مكانًا من المؤمنين بالله، الذين آمنوا بالله وما أنزل إليهم من قبل، وذلك لأن هؤلاء مكانهم النار والعياذ بالله، فمأواهم النار، وأولئك المؤمنون مأواهم الجنة.
فإن قال قائل: المعروف أن اسم التفضيل يشترك فيه المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى، فهل في الجنة شر؟
الجواب: لا، ليس فيها شر، لكن هذا يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"خير صفوف النساء؛ آخرها وشرها أولها"
(1)
شرها يعني: الآخر ليس فيه شر، "وخير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها"
(2)
وعكسه مثل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24] ، مع أن أصحاب النار ليس عندهم خير ولا حسن المقيل، فمثل هذا التفضيل، يقول علماء البلاغة: هو تفضيل ليس في الطرف الآخر منه شيء سواء كان في خير أو في شر.
لو قال قائل: في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} قلنا: المشار إليه استهزاؤهم بالصلاة، أين الفعل الآخر الذي حصل بينه وبين الاستهزاء المفاضلة؛ لأن الله حكم عليهم باللعن لأنهم استهزؤوا، فهل تكون المفاضلة بين الاستهزاء والاستهزاء أم ماذا؟
الجواب: لا، المفاضلة بين حال الصحابة رضي الله عنهم وحال هؤلاء أيهما أشر، فقوله:{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} أي: مما رميتمونا به من الاستهزاء والسخرية، فيكون المعنى: عمل من لعنه الله.
لو قال قائل: قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ} ألا
(1)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، حديث رقم (440) عن أبي هريرة.
(2)
تكملة الحديث السابق.
تحتمل الآية أن المراد المقارنة بين أهل الكتاب وغيرهم ممن ليس عندهم كتاب؟
الجواب: لا؛ لأن المناظرة بينهم وبين المسلمين، ولا شك أن غيرهم أضل منهم، ولهذا أباح الله لنا من اليهود والنصارى ما لم يبح من غيرهم، أباح لنا نكاح نسائهم وأباح لنا ذبائحهم، مما يدل على أنهم أرفع مرتبة من المشركين والمجوس.
لو قال قائل: وقوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} هل المراد بالمكان ما يقابل الزمان، أو المراد بالمكان المكانة والمنزلة، أو الأمران؟
الجواب: الأمران، فهم مكانهم شر لأنه النار، ومكانتهم شر لأنهم الأرذلون.
قوله: {وَأَضَلُّ} "أضل" هذه معطوفة على "شر"، يعني: وأولئك أضل عن سواء السبيل، وأضل اسم تفضيل من الضلال، يعني: أشد ضلالًا عن سواء السبيل، أي: عن الطريقة المستوية المستقيمة، فهو يشبه إضافة الصفة إلى موصوفها، يعني: عن السبيل السواء، هؤلاء شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل.
لو قال قائل: وهل في المؤمنين ضلال؟
الجواب: لا، لكن نقول فيها مثل ما قلنا في {شَرٌّ مَكَانًا} ، فلا ضلال في المؤمنين، وقد يقول قائل: لعل هذا من باب التنزل مع الخصم؛ لأن الخصم يدعي أن المؤمنين شرّ مكانًا، وأضل عن سواء السبيل، فيقال: أنتم شرّ مكانًا، وأنتم أضل عن سواء السبيل، لكن ما قررناه أولًا واضح وليس فيه إشكال، وهو أنه قد يأتي التفضيل بين شيئين؛ ليس في أحدهما شيء من المعنى.
وقد قيل: إن أهل الطاعة عندهم استقرار وعندهم طمأنينة، ولو كان الواحد منهم فقيرًا فإن الله يعطيه سعة بال وقناعة، وأما صاحب المعصية لو أن ماله كثير فإنه في قلق وحيرة؟
ويشهد لصدق هذا القول قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] وما جاء عن السلف الصالح حيث قالوا: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
لو قال قائِل: ذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها باليهود والنصارى
(1)
، هل هذا صحيح؟
الجواب: هذا الحديث ضعيف، ثم لو صح لحمل على النصارى قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: عرض الخطاب بصيغة الاستفهام؛ لأن ذلك أمكن في النفس وأحضر للقلب، لقوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} ، ومثله قوله تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)} [الشعراء: 221] ومثله قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} [الكهف: 103].
الفائدة الثانية: أن هؤلاء اليهود الذين سخروا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ هم شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل لما اتصفوا به من الصفات المذكورة.
(1)
رواه الطبراني في الأوسط (6/ 279)(6411).
لو قال قائل: هل كل صفة ثبتت بأنها صفة من صفات اليهود أو النصارى في الكتاب أو السنة ثابتة لهم إلى يوم القيامة، أو أنه لا بد أن يدل دليل على استمرارها؟
الجواب: أما أفعالهم فلا تستمر، يعني: ما ذكر من أفعالهم، قد يكون في وقت نزول القرآن أو قبله، مما يعلمه الموجودون في وقت نزول القرآن، ويتغير كما أن دين بني إسرائيل الذين هم عليه الآن ليس هو الدين الذي جاء به عيسى ولا موسى، واقرأ ما عندهم الآن من الكتب المؤلفة تجد أن فيها مخالفة لما نقل الله عنهم في أفعالهم.
الفائدة الثالثة والرابعة: أن العبرة بالمنزلة عند الله لقوله: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ويتفرع على هذا: أنه ينبغي لنا أن لا ننظر إلى منزلتنا عند الناس وإنما ننظر إلى منزلتنا عند الله عز وجل، وإذا صححنا ذلك كفانا الله مؤونة الناس.
الفائدة الخامسة: أن اسم التفضيل قد يقع بين شيئين لا يشتركان في أصل المعنى، لقوله:{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} لأن المعنى: باشر من ذلك وكذلك في الخير {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] ولا خير في مستقر أهل النار.
الفائدة السادسة: أن أولئك اليهود بل أهل الكتاب عمومًا وُصِموا بهذه الصفات الأربعة: اللعنة والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
الفائدة السابعة: إثبات الغضب لله عز وجل، لقوله:{وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ، وفي سورة الفاتحة:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] والغضب: صفة من صفات ذاته عز وجل، لكنه من
الصفات الفعلية، وقلنا: من صفات ذاته لئلا يقول قائل: إن الغضب هو الانتقام، والانتقام شيء منفصل عن ذات الله، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الغضب صفة من صفات الله ثابت لله حقيقةً بلا تحريف، وفسره أهل التحريف بأن المراد به: الانتقام، أو إرادة الانتقام، فمن أثبت الإرادة قال: المراد به إرادة الانتقام، ومن لم يثبتها قال: المراد به الانتقام، ولكن هذا التفسير مردود:
أولًا: لمخالفته ظاهر اللفظ، والأصل في الأخبار أن تؤخذ على ظاهرها إلا بدليل صحيح.
ثانيًا: أنه مخالف لما عليه السلف، فلم يأتِ عن الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة حرف واحد يفسر الغضب بالانتقام أو إرادته، وسكوتهم عن تفسيره بما يخالف الظاهر دليل على إجماعهم على أن المراد به ظاهره، فيكون تفسيره بالانتقام أو إرادته مخالفًا لإجماع السلف، وهذه قاعدة نافعة تفيد في كل صفات الله عز وجل.
ثالثًا: أنه يكذبه القرآن، يعني يبطل هذا التفسير القرآن الكريم وذلك في قول الله تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)} [الزخرف: 55] فإن معنى آسفونا أي: أغضبونا، {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ومعلوم أن الجزاء غير الشرط، {انْتَقَمْنَا}: جواب الشرط، و {آسَفُونَا}: فعل الشرط، وجواب الشرط يخالف الشرط بلا شك، فهذه الآية الكريمة ترد عليهم ذلك التفسير.
رابعًا: أننا إذا تنزلنا معهم وقلنا: إنه إرادة الانتقام أو
الانتقام؛ فإن لازم ذلك أن يكون هناك غضب؛ لأن إرادة إلانتقام أو الانتقام نفسه؛ لا يكون إلا عن فعل شيء لا يرضاه المنتقم، وهذا يكون نتيجة للغضب فهم مهما فروا لا بد أن يلزمهم إثبات الغضب لله عز وجل.
هنا عبارة يذكرها بعض المحققين يقولون: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذه العبارة فيها حق وباطل، أما الحق: فقولهم: طريقة السلف أسلم، وأما الباطل: فقولهم: طريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأن هذه الجملة الأخيرة تناقض الأولى تمامًا؛ لأنه كيف تكون السلامة مع الجهل أو السفه؛ لأن ضد العلم الجهل وضد الحكمة السفه، فكيف يمكن أن تكون هناك سلامة بدون علم وحكمة، فمتى كانت طريقة السلف أسلم لزم أن تكون أعلم وأحكم، ويدل على هذا أن السلف والحمد لله كتبهم مملوءة بتفسير آيات الصفات وأحاديثها، فلم يأتِ عنهم كلمة واحدة يقولون فيها: والله لا نعرف هذا المعنى، ولا نعرف معنى الآية، ولا نعرف معنى الحديث أبدًا، بل كانوا يقولون: المعنى معلوم والكيف مجهول، ويقولون: أمروها كما جاءت بلا كيف، فطريقة السلف إذًا أسلم وأعلم وأحكم.
الفائدة الثامنة: قدرة الله عز وجل على مسخ الإنسان قردًا وخنزيرًا، لقوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} وهل هذا الجعل جعل كوني أو جعل شرعي؟
الجواب: قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً} [الأعراف: 166] هذا أمر كوني وليس أمرًا شرعيًّا.
لو قال قائل: هل يقال: من استهزأ بشيء من شعائر الإِسلام يناله ما نال اليهود من هذه العقوبات المسخ والغضب
…
إلخ؟
الجواب: أما إذا قلنا: إن القردة والخنازير أمر معنوي فقد يصيبه هذا وقد ينتكس والعياذ بالله ولا ينتفع بحق، وإذا قلنا: إنه حسي فكذلك أيضًا، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام، أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار"
(1)
.
لو قال قائل: هل يجوز للإنسان أن يقول: اليهود والنصارى إخوان القردة والخنازير؟
الجواب: لا بأس أن يقول هذا، لكن أنا عندي أنه غير مناسب، خصوصًا في مقام الدعوة تأتي مثلًا ليهودي تقول: تعال يا أخا القردة والخنازير آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، هذا لا يصح، لكن على سبيل الخبر قد يقال بالجواز، فعبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما جمعهم ليخرص عليهم النخل قال: إني جئتكم من أحب الناس إليّ وإنكم لأبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير
(2)
.
الفائدة التاسعة: أن لا يستعصي على الإنسان طلب الشيء من الله عز وجل ما دام ليس في طلبه عدوان، ولنضرب لهذا مثلًا: برجل مريض بمرض السرطان، بعض الناس يقولون: مرض
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب إثم من رفع رأسه قبل الإِمام، حديث رقم (659)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم سبق الإِمام بركوع أو سجود ونحوهما، حديث رقم (427) عن أبي هريرة.
(2)
تقدم في (1/ 414).
السرطان لا يرجى برؤه، وهذا هو الغالب بلا شك، لكن بعض الناس ييأس ويقول: كيف أدعو الله أن يبرئني من هذا المرض، والعادة أنه لا يبرأ منه، وهذا غلط عظيم؛ لأن الذي أوجد المرض قادر على رفعه، والذي خلقك ولم تكن شيئًا قادر على أن يعيدك كما كنت، ولهذا لما قال زكريا عليه الصلاة والسلام:{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} [مريم: 8] قال الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 9] فلا تيأس فالله على كل شيء قدير.
الفائدة العاشرة: حكمة الله تعالى في العقوبة، حيث يجعل الجزاء من جنس العمل، وسيأتينا في قول اليهود:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] أنهم عوقبوا بغل اليد، فالجزاء دائمًا يكون من جنس العمل، الجزء بالجزء والكل بالكل، سواء في الثواب أو في العقاب، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار"
(1)
هذا في الثواب.
وفي العقاب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"
(2)
؛ لأن التفريط حصل في الأعقاب، توضأ الصحابة رضي الله عنهم
(1)
رواه البخاري، كتاب العتق، باب ما جاء في العتق وفضله، حديث رقم (2381)، ومسلم، كتاب العتق، باب فضل العتق، حديث رقم (1509) عن أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، حديث رقم (60)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، حديث رقم (241) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
على عجل فكانوا يمسحون أقدامهم ولا يسبغون، فنادى عليه الصلاة والسلام:"ويل للأعقاب من النار"، وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:"ما أسفل من الكعبين ففي النار"
(1)
، فهنا الجزاء كان جزئيًّا على قدر المخالفة، وسبق أن قلنا: الحكمة في جعلهم قردة وخنازير، أن القرد أقرب ما يكون للإنسان، والحيلة التي فعلوها أقرب ما تكون للحل والإباحة ولكنها محرمة.
الفائدة الحادية عشرة: أن كل من عبد غير الله فقد عبد الطاغوت، يعني: عبد عبادة الطاغوت.
فإن قال قائل: هل يشمل هذا ما جاء في الحديث: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة"
(2)
؟ قلنا: نعم، إذا جعل المال هو أكبر همه فإن هذا نوع من العبادة.
ومعني عبد الطاغوت أي: عبد عبادة الطاغوت، يعني: الطغيان، فالطغيان يعود على العابد، ولما أنزل الله تبارك تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)} [الأنبياء: 98، 99] قال المشركون للرسول عليه الصلاة والسلام: إذًا عيسى ابن مريم في النار؛ لأنه ممن عُبدَ من دون الله، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
(1)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، حديث رقم (5450) عن أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقي من فتنة المال، حديث رقم (6071) عن أبي هريرة.
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101] وبَيَّنَ أن تمثيلهم بعيسى ما هو إلا جدل، قال تعالى:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} [الزخرف: 58].
الفائدة الثانية عشرة: أن من اتصفوا بهذه الصفات فهم شر الناس مكانًا، لقوله:{أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} .
الفائدة الثالثة عشرة: أن من اتصف بهذه الصفات فهو أيضًا أضل الناس سبيلًا، لقوله:{وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
* * *
° قال الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)} [المائدة: 61].
قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} الخطاب في قوله: {جَاءُوكُمْ} : للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والفاعل: منافقو اليهود، حيث إنهم يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: آمنا؛ لكن بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} (الباء) هنا قالوا: إنها للملابسة والمصاحبة، يعني: متلبسين بالكيفر، {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}: أي: بالكفر متلبسين، فهم عند الدخول وعند الخروج على الكفر، حتى لو قالوا: آمنا، فإن قلوبهم لم تؤمن؛ لأنهم منافقون.
قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} من قبل خرجوا بالكفر، ويخرجون إذا دخلوا عليكم بالكفر أيضًا، حتى قال بعضهم يناصح بعضًا مع المسلمين:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 72، 73].
قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} ، أعلم منكم بما كانوا يكتمون، أي: يخفون من الكفر، واسم التفضيل هنا على بابه، وهكذا كلما جاء هذا الوصف بهذه الصيغة فهو على بابه اسم تفضيل، وقد غلط من فسره باسم الفاعل حيث قال في تفسير قوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} قال: والله عليم أو عالم بما كانوا يكتمون؛ لأنه إذا قال: عليم أو عالم لم يمنع المشاركة، لكن إذا قال: أعلم، منع المشاركة، أعلم: يعني لا أحد مثله، لكن هم فروا من شيء فوقعوا في شر منه، قالوا: إذا قلت: أعلم فإن القاعدة أن اسم التفضيل يدل على اشتراك المفضل والمفضل عليه في الصفة، فتقول: نعم لا شك أن الرب عز وجل والمخلوق مشتركان في أصل الصفة وهي العلم فلا بد من هذا، فإثبات العلم للمخلوق جاء في القرآن، قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] لكن الذي يمتنع أن تجعل علم المخلوق كعلم الخالق، أما أن يشتركا في أصل الصفة فهذا لا بد منه حتى الحياة، حتى القدرة، حتى السمع، حتى البصر، لا بد من الاشتراك في أصل المعنى فنقول: أنتم منعتم من أن يكون اسم التفضيل على بابه؛ خوفًا من الاشتراك في أصل المعنى، لكن إذا قلتم: عالم أو عليم سويتم بين الخالق والمخلوق؛ لأن المخلوق يطلق عليه عليم، فلهذا لا يمكن أن تجد إنسانًا خرج عن مدلولات النصوص من الكتاب والسنة، إلا ووقع في شر مما حذره.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: التحذير من المنافقين؛ لأن الله لم يقص علينا قصصهم أو حالهم إلا لنحذر، لا لنعلم فقط.
الفائدة الثانية: إثبات علم الله تبارك وتعالى بما في القلوب، لقوله:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} فإثبات العلم بما في القلوب، ثابت لله عز وجل.
الفائدة الثالثة: أنه ليس لنا أن نحكم إلا بما ظهر؛ لأن الله لم يخبرنا إلا لنحذر، ولو أننا بقينا على ما يبدو لنا لكان هؤلاء مؤمنين حسب ما يقولون، لكن الله أخبرنا بهذا لنحذره.
الفائدة الرابعة: تحذير المرء من أن يبطن في قلبه ما يخالف لسانه، وهذه مسألة يجب علينا أن نعالج أنفسنا منها، احذر أن تضمر في قلبك ما يخالف ما تنطق به بلسانك أو تفعله بجوارحك، يجب أن تصفي القلب أولًا، وتطهر القلب، ثم بعد ذلك تبني أعمالك على حسب هذه التصفية.
* * *
° قال الله عز وجل: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 62، 63].
قوله: {وَتَرَى} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام،
والظاهر أن المراد بالرؤية هنا: البصرية، ويجوز أن تكون علمية، ويكون قوله: كَثِيرًا مفعولًا أولًا، و"يسارعون": مفعولًا ثانيًا.
وقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} أي: من هؤلاء الذين يأتون إليكم، ويقولون: إنهم مؤمنون؛ {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ} يعني: يتسابقون إليه أيهم أسرع، والإثم فيما يتعلق بحق الله عز وجل، والعدوان فيما يتعلق بحق الآدمي.
ومنهم من فسر الإثم: بالكذب، والعدوان: بالظلم، ولكنا إذا قلنا: الإثم فيما يتعلق بحق الله، والعدوان فيما يتعلق بحق الآدمي كان أعم وأشمل.
قوله: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} يعني: يسارعون في أكلهم السحت، يتسابقون إليه، السحت: كل كسب محرم، فيدخل في ذلك الربا ويدخل في ذلك الرشوة، ويدخل في ذلك الغش، وكل كسب محرم فهو داخل في لفظ السحت، ووصف بهذا الوصف المنفر لوجهين:
الوجه الأول: أنه لا بركة فيه.
الوجه الثاني: أنه سبب لسحت المال الموجود، فهو شر في نفسه شر في غيره، ولذلك إذا دخل الحرام على الإنسان؛ نزعت البركة من ماله واشتد طلبه للمال، يعني: يبتلى بالشح.
قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "اللام" هذه في جواب القسم والتقدير: والله لبئس ما كانوا يعملون، و"بئس": تعمل على أن ما بعدها فاعل، والمخصوص: محذوف، والفاعل هو الذي قام بالفعل، والمخصوص يكون مبتدأ، والفاعل يكون ضمن الجملة، فمثلًا إذا قلت: نعم الرجل زيد، أو بئس الرجل زيد، المخصوص زيد والفاعل الرجل، ولهذا نعرب (زيد) مبتدأ مؤخر، و (نِعْمَ الرجل) الجملة خبر مقدم، وفي الآية تكون "ما" فاعل والتقدير لبئس الذي يعملون، أي: لبئس ما كانوا يعملون عملهم، وإن شئت فاجعلها مصدرية ويكون الفاعل المصدر، والتقدير لبئس عملهم، والحاصل أن عملهم مذموم يصدق عليه هذا الوصف بئس ما كانوا يعملون، والذي عملوا المسارعة في الإثم
والمسارعة في العدوان وأكل السحت، وهذه الأمور الثلاثة مستحقة للذم.
قوله: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} {لَوْلَا} بمعنى: هذا، فهي أداة تحضيض، ومَثَلَها مَثَلُ قوله تعالى:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] أي: هلّا جاءوا.
قوله: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَار} الربانيون: المربون، والأحبار: العلماء الكبار، جمع حَبر أو حِبر، يقال: حَبْر وحِبر، وهو موافق في الاشتقاق مع البحر، فالباء والحاء والراء في البحر وفي: الحبر، ولهذا لا يطلق الحبر إلا على العالم الواسع العلم، والربانيون: هم المربون سواء كانوا علماء كبارًا أو غير علماء، والأحبار: هم العلماء الكبار كما تقدم.
قوله: {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} يعني أن الله عز وجل حض الربانيين والأحبار على نهي هؤلاء عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، فما هو الإثم الذي يقولونه؟ أعظمه وأشده أنهم ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم من ذلك أنهم يقولون: إن عزيرا ابن الله، والمسيح ابن الله، والقائل: عزير ابن الله اليهود، والقائل: المسيح ابن الله النصارى؛ هذا قول الإثم، كذلك يقولون الكذب، كما سبق أنهم يقولون لعوامهم قولًا يكذبون به الرسول، ويستمعون للكذب.
وقوله: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} يعني: أكل المال المحرم، سواء بالرشوة أو بالربا، أو غير ذلك.
وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} يقال في إعرابها ما قيل في الجملة التي قبلها، لكن الفاعل في يصنعون هنا ليس عائدًا
على ما تعود عليه الواو في يعملون الأولى؛ لأن الواو هنا عائدة إلى الربانيين والأحبار.
وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} الصنع والفعل بينهما خصوص وعموم مطلق؛ لأن الصنع إنما يكون فعلًا بترتيب وإعداد للقول أو للفعل بخلاف الفعل المجرد، فالفعل يطلق على كل فعل سواء كان عن قصد أو عن غير قصد، حتى البهيمة لو أكلت قلنا: إنها فعلت، لكن الصنع لا يكون إلا بتدبير وتنسيق وإصلاح، وذلك أن هؤلاء الربانيين والأحبار يصنعون ما يصنعون من كتمان الحق وعدم الأمر به؛ يريدون أن يبقوا وجهاء في قومهم؛ لأن الشيطان يقول لهم: إن نهيتموهم صريح أعداء لهم ولم تحصل لكم الرئاسة، فلذلك تجدهم يعملون هذا العمل عن ترتيب وعن سياسة كما يقولون.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى: أن من أوصاف هؤلاء اليهود أنهم يسارعون في هذه الأمور الثلاثة: الإثم والعدوان وأكل السحت.
الفائدة الثانية: أتى من سارع في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ ففيه شبه من اليهود.
الفائدة الثالثة: أن هذا العمل عمل مذموم يستحق فاعله أن يذم، لقوله:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
الفائدة الرابعة: تحريم قول الإثم وتحريم العدوان وتحريم أكل السحت؛ لأن الله تعالى ذم هذا العمل وقدح فيه.
فإن قال قائل: الآية الكريمة عبرت بالأكل، أرأيت لو كانوا لا يأكلون السحت؛ لكن يستعملونه في اللباس والفرش والمساكن والنكاح، فهل يدخل في أكلهم السحت؟
الجواب: نعم لا شك، لكنه عبر بالأكل؛ لأنه هو الغالب؛ ولأن أعلى ما يمكن أن ينتفع به الإنسان بالمال هو الأكل؛ لأنه يغذي البدن، لكن اللباس لا يغذي البدن، صحيح أنه يقي البدن كذلك المساكن والنكاح، لكن الذي يغذي البدن وينميه هو الأكل، فعبر به لهذا الوجه.
الفائدة الخامسة: التحذير من الكسب المحرم، وجهه أن الله سماه سحتًا، فاحذر أن تخسر الدنيا والآخرة بأكل المحرم.
الفائدة السادسة: أنه لا حرج أن نذم الأفعال المكروهة بقطع النظر عن فاعليها، لقوله تعالى:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
الفائدة السابعة: عظم مسؤولية المربين والعلماء لقوله: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} فجعل الله اللوم على الربانيين والأحبار؛ لأنهم لم يقوموا بما أوجب الله عليهم من نهي هؤلاء عن قولهم الإثم وأكلهم السحت.
الفائدة الثامنة: أن الواجب على العلماء والمربين النهي عن المحرم، لكن هل عليهم أن يهدوا الناس؟
الجواب: لا؛ لقول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، ويقول الله تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]، ولقوله:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] فالإنسان إذا نهى أبرأ ذمته سواء امتثل من نهاه أم لم يمتثل.
الفائدة التاسعة: سوء صَنْعِ هؤلاء العلماء والربانيين لقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
الفائدة العاشرة: أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق بقطع النظر عن مكانتهم الشخصية، حتى لو فرض أنهم أهينوا أو أذلوا بسبب ذلك فالعاقبة لهم، قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49].
لو قال قائل: متى يجب على الإنسان أن ينكر المنكر، هل إذا غلب على ظنه الإصلاح أم ماذا، ثم إنه قد يواجه بالاستهزاء؟
الجواب: الواجب إنكار المنكر سواء غلب على ظنه -يفعل- أو لم يغلب على ظنه، لكن بشروط معروفة، لكن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون حكمة فهذا الأمر لا تقام به حجة، بل فعله منكر يجب أن ينكر، ومسألة الاستهزاء فلا بد من هذا في الغالب، ولكن نقول: هل يحصل أذى ولا أقصد الأذى النفسي بل الأذى الجسمي، فإن لم يحصل يصبر الإنسان ويحتسب، ورب كلمة سمعها واحد من هؤلاء فتنفعه، ولكن لا يشترط الإعلان في الأمر، بل يستطيع أن يمسك الرؤساء خاصة من هؤلاء القوم، يتكلم معهم بهدوء ويبين لهم، والرؤساء إذا وفقت لهدايتهم اهتدى بهدايتهم كثير من الناس.
لو قال قائل: الإنسان أحيانًا يجد في نفسه وإن كان صالحًا في نفسه إلا أنه لا يجد عنده القوة والقدرة على الإصلاح فيحس بالرهبة فكيف تزول هذه الصفة؟
الجواب: الحمد لله هذه الرهبة تزول إذا قرأت قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وعرفت أنك قمت بما استطعت، فأنت إذا قمت بما استطعت كأنما قمت بالكمال
كله؛ لأنك ممتثل لأمر الله ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكن الذي يدخل على الإنسان في هذه المسألة هو التأويل أحيانًا، إذ يقول لنفسه: المقام هنا ليس مقام تذكير أو أمر أو نهي؛ لعلي أتكلم في مكان آخر أو ما أشبه ذلك، هذا اجتهاد، والإنسان مأجور عليه إما أجران وإما أجر واحد، وأما أن يكلف الإنسان نفسه وأن يريد من الناس أن يصلحوا على يديه، هذا مستحيل، بل قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3] وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} [الكهف: 6] أما إذا كانت هذه الحال صفة دائمة فليحاول أن يعالجها فلا يكون جبانًا ولا يكون ثقيلًا على الناس أيضًا، والإنسان الذي يسأل الله دائمًا التوفيق والحكمة والسداد ييسر لذلك.
لكن لو قال قائل: أحيانًا تجد شخصًا على معصية ومن شكله تعرف أنه لن يقبل فما العمل؟
الجواب: ما أكثر هذا وما أكثر انتفاعهم من الناس، تجد الواحد منهم ليس على شكله سيما أهل الخير، هذا صحيح، وتظن أنه كذلك، لكن تجد نفسه لينة وهذا مجرب، فقد يكون حليق اللحية مسبل الثوب ووجهه ليس بوجه خير، لكن سبحان الله تجد قلبه لينًا، أقل ما يقول لك إذا لم تأته بعنف يقول: جزاك الله خيرًا وأسأل الله الهداية وهذا مجرب، خذ بيده لكن بسهولة وتنحى به عن الطريق قليلًا تجد فيه خيرًا كثيرًا، لكن بلاؤنا من
أنفسنا إذا رأينا الرجل مخالف يغار الإنسان ولا يتحمل ثم يبتدئ يتكلم بكلام ينفر صاحبه.
لو قال قائل: أحيانًا يجلس الإنسان مع العاصي ولا يستطيع نصحه، وأيضًا قد لا تتوفر الفرصة لنصحه مرة أخرى، فماذا يصنع في هذه الحال؟
الجواب: إذا كان لا يمكنه اللقاء به إلا في هذه الجلسة فربما يسمح له في نصحه، وأما إذا كان لا يمكنه نصحه فليقم عن المعصية ولينصحه في وقت آخر.
لكن لو قيل: قيامه يحدث مفسدة، لا سيما إن كان جلوسه مع الأقارب يعني كونه يقوم من مجلس الضيوف؟
نقول يستطيع الإنسان أن يقوم مُوَرِّيًا إما أن يضع يده على أنفه كأنه حصل له رعاف وإما أن يقوم ويضع يده على رأسه كأن رأسه به وجع.
لو قال قائل: في بعض الأحيان يكون الإنسان في سيارة ومعه قوم لا يريدون النصيحة، فهل ينصحهم أم ماذا؟
الجواب: راكب السيارة لا يصح بمجرد ركوبه السيارة يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم يأتي بمواعظ لن يحتملوا هذا، لكن يستطيع أن يدخل إلى عقولهم بأشياء، إما قصصًا ولتكن قصصًا مضحكة أو مسائل علمية غريبة يلقيها عليهم حتى تتهيأ أذهانهم لهذا، وإلا فمن المعلوم أن الواحد إذا جلس مجلسًا فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم يعظهم سيستثقلون هذا، ولكل مقام له مقال.
لو قال قائل: أحيانًا يجلس الإنسان مع جماعة يكونون على منكر فلو أنه قام مباشرة لم ينكر هذا المنكر، وأيضًا لا يستطيع
أن ينكر عليهم مباشرة، فهل يجلس معهم لكي يستطيع إنكار هذا المنكر أم ماذا؟
الجواب: لا بأس كالطبيب يشق الجرح ويشم رائحة كريهة من أجل إصلاحه، ولأحد العلماء تأثير بالغ في بعض جهات المملكة، كان يدخل معهم في منكرهم ويحتفل معهم في احتفالاتهم.
لو قال قائل: إنسان رأى رجلًا مع امرأة في سيارته، وليست المرأة من محارمه، ويستطيع منعها بدون فتنة، هل له منعها أو لا؟
الجواب: والله لا أدري، أتوقف في هذا، إذا كان لا يحدث فتنة وهو قادر على المنع فأنا أتوقف فيه، لو فرضنا هذه المسألة وقعت وهذا الرجل يمكنه أن يوقف السيارة ويقول: يا فلان! أنزل هذه المرأة، مَنْ هذه المرأة؟ فإن حصلت لواحد من الناس الذين نريد أن نُغَيِّرَ عليهم قد لا تحصل للآخرين، فنتوقف من أجل أن نخشى أن العواقب قد تكون وخيمة من أناس آخرين.
لو قال قائل: إذا غلب على ظن إنسان بأن فلانًا سوف يرتكب المنكر الفلاني وأخذ يتغيب هذا الذي يريد أن يرتكب المنكر، فهل لهذا الغالب على ظنه أن يتتبع وينظر هل سيفعل هذا المنكر أم لا، وذلك لكي ينكر عليه؟
الجواب: يعني: هل لنا أن نبحث ونتجسس عن المنكر؟ القاعدة العامة: إذا وجدت قرائن فلا بأس، وإن لم توجد قرائن فالأصل البراءة.
* * *
قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} اليهود: هم الذين يَدَّعون أنهم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام وسموا بذلك؛ قيل: إنه من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: من الَهْودِ وهو الرجوع، وقيل: إنه نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكنها عربت فصارت يهودا، وأيًّا كان فالمراد به: من ينتسبون إلى موسى عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أولًا: قالوا: {يَدُ اللَّهِ} ولم يقولوا: "يدا" بالألف؛ لأنهم يريدون أن ينقصوا صفة الله عز وجل في ذاتها وفي تصرفاتها، أما في ذاتها فمعلوم أن ذا اليدين أكمل من ذي اليد الواحدة، وأما في تصرفاتها فقولهم إنها:{مَغْلُولَةٌ} أي: محبوسة عن الإنفاق، وذلك أن اليد إما أن تكون مغلولة مضمومة إلى العنق، بحيث لا تنبسط حتى تعطي، وإما أن تكون مبسوطة تعطي، ولهذا قال الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29].
وقوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قالوا أيضًا في وصف آخر:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] ، فوصفوا الله مرة بالبخل ومرة بالفقر، عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة؛ لأنهم أهل مال وأهل طمع ويريدون أن يغدق الله عليهم
المال على حسب ما يريدون، فإذا لم يكن المال على حسب ما يريدون قالوا: هذا بخل من الله أو فقر منه.
قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فقلت أيديهم: وهذا خبر وليس دعاءً؛ لأنه صادر من عند الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يخبر ولا يدعو، هذا هو الأصل، أن ما أخبر الله به عن نفسه فهو خبر عن نفسه ووقوع -أي: وقوع الشيء- إلا إن دل دليل ربما يكون دليل على أن الله جلَّ وعلا عَلَّمَ العباد أن يدعوا، وأما أن يسأل نفسه أن يفعل فلا يرد.
الحاصل أن الله أخبر أن أيديهم غُلت، أي: حبست عن الإنفاق، ولهذا نقول: إن أشد الناس بخلًا هم اليهود من جميع الأمم، ولا يمكن لليهودي أن يبذل دينارًا، إلا وهو يريد أن يعود عليه الدينار بدينارين، أو فلسًا إلا وهو يريد أن يعود عليه بفلسين، لا تفكر في غير هذا؛ لأنهم قد غلت أيديهم.
قوله: {وَلُعِنُوا} أي: طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عنها؛ بسبب هذا القول ولهذا قال: {بِمَا قَالُوا} و"الباء" هنا: واضح جدًّا أنها للسببية، وأما:"ما" فيحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة، فإن كانت مصدرية فالتقدير: ولعنوا بقولهم، وإن كانت موصولة فالتقدير: ولعنوا بما قالوه، ولو جاء الضمير قالوه لتعين أن تكون اسمًا موصولًا لكنه حذف.
على كل حال سواء جعلناها مصدرية أو موصولة؛ فإنها تفيد أن هذه هي العقوبة التي حلت بهم بسبب قولهم.
قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "بل" هنا: للإضراب الإبطالي، ليبطل قولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فقال: بل يداه ولم يقل: يده؛ لأن
له يدين اثنتين عز وجل، مبسوطتان: يعني غير مقبوضتين فضلًا عن أن تكونا مغلولتين.
قوله: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} {يُنْفِقُ} يعني: يعطي المال، {كَيْفَ يَشَاءُ} أي: على أي كيفية شاء، إن شاء بسط وإن شاء قدر، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] فقد يعطي وقد يمنع على حسب ما تقتضيه الحكمة، وليس على حسب ما يريده الإنسان، ولهذا قد يريد الإنسان كسبًا كثيرًا بعمل من الأعمال ولكنه يخذل، وقد يعمل عملًا يسيرًا لا يظن أنه يكسب به كثيرًا ويكسب به شيئًا كثيرًا.
قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} "زاد" هنا: ينصب مفعولين، ليس أصلهما المبتدأ والخبر، المفعول الأول:"كثيرًا"، والثاني:"طغيانًا"، وأما قوله:{مَا أُنْزِلَ} فـ"ما" هنا: فاعل، يعني: أن ما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يزيد كثيرًا منهم -وليس كلهم- طغيانًا على عباد الله وفي حق الله، وكفرًا بالله عز وجل. و"اللام" في قوله:{وَلَيَزِيدَنَّ} واقعة في جواب القسم، وعليه فالجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر تقديره: {وَاللَّهُ} ، واللام، ونون التوكيد، وإنما أكد الله ذلك لأهميته ولئلا ينكر منكر أن يكون النازل شفاءً لما في الصدور -وهو القرآن- يزيد هؤلاء طغيانًا وكفرًا، لكن لا تعجب.
إذًا {طُغْيَانًا} : في حق الله وحق عباده، {وَكُفْرًا} أي: بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلن ينتفعوا بما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} يحتمل أن تكون "الواو"استئنافية، وأن تكون معطوفة على قوله:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ومعنى قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} ، أي: وضعناها بينهم، أي: العداوة والبغضاء، والبغضاء مؤنثة، والبغض مذكر، وهما بمعنى واحد، والعدو: ضد الولي، والبغيض: ضد الحبيب، أي: أن الله سبحانه وتعالى ألقى بينهم البغضاء في القلوب والمعاداة في الأبدان والأقوال، فلا أحد ينصر أحدًا ولا أحد يوالي أحدًا ولا أحد يحب أحدًا، بينهم العداوة والبغضاء، إلى يوم القيامة، يعني: إلى آخر الدنيا، واليهود بعضهم عدو لبعض، وبعضهم بغيض لبعض؛ لأن الله تعالى أخبر بأنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وخبره حق ووعده صدق.
قوله: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} "كلما" هذه شرطية، فعل الشرط فيها:"أوقدوا"، والجواب:"أطفأها الله"، أي: كلما أرادوا الحرب وأوقدوا نارها، فإن الله يطفئها، ولن تقوم لهم قائمة بل هم مخذولون، ويدل لهذا قول الله تعالى في آية أخرى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112].
قال العلماء: الحبل من الله: الإِسلام، والحبل من الناس: العهد والميثاق، وقيل: الحبل من الناس: المساعدة والسبب الذي يَعِزُون به؛ لأن الحبل يطلق على السبب كما في قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] أي: بدينه الذي هو سبب للسعادة.
إذًا: نقول: إن الله سبحانه وتعالى بيَّن أن هؤلاء اليهود كلما
أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، أي: لم ينالوا بها مرادهم، وليس المعنى أن الحرب لم تقم، بل تقوم الحرب وقد قامت بينهم وبين المسلمين في عدة وقائع لكن النتيجة: أن الله يطفئها ولا يحقق لهم ما يريدون من أكل هذه النار لعدوهم.
قوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} "يسعون" أي: يلقون فيها الفساد، وعبر بالسعي إشارة إلى مسارعتهم في هذا، ولهذا كان اليهود أفسد أهل الأرض في الأرض لما لهم من الوقائع، ومن أراد أن يطلع على شيء في ذلك فليراجع كتاب:"إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم رحمه الله.
قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لم يقل: ولا يحبهم؛ لإرادة العموم وبيان العلة، فمثلًا: لا يحب المفسدين من اليهود وغير اليهود، أيضًا تفيد أن الله لا يحب هؤلاء لأنهم مفسدون، وهذا أعم، فكل مفسد فإن الله لا يحبه.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان عدوان اليهود وأنهم يصرحون بالعدوان والاعتداء، حتى في حق الخالق عز وجل، لقولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} .
الفائدة الثانية: أن اليهود يقرون بصفات الله عز وجل الحقيقية؛ لأنه لا يقال: يد أحد مغلولة إلا لمن له يد، فيكون إقرار اليهود بالصفات الخبرية أحسن من إنكارهم، وإن كان اليهود ليس لهم دين لكن يجب أن يقبل الحق من أي إنسان.
الفائدة الثالثة: الإشارة إلى حرص اليهود على المال، وجه الدلالة: أنهم لم يحملهم على هذا القول إلا الجشع والطمع.
الفائدة الرابعة: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن البخل، ووجه ذلك: أن الله عاقبهم على هذه المقالة، ولا يعاقب تبارك وتعالى إلا على شيء محرم.
الفائدة الخامسة: الإشارة إلى بخل اليهود، لقولهم:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، وقد سبق أن هذا خبر وليس دعاء.
الفائدة السادسة: أن اليهود ابتلوا بهذين الأمرين: البخل واللعنة، فهم أبعد الناس عن رحمة الله، أو من أبعد الناس عن رحمة الله، لقوله:{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} ولم يبين الله عز وجل من اللاعن لإفادة العموم، أن الله يلعنهم ويلعنهم اللاعِنون أيضًا، وهذا كقوله:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بعد قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ولم يقل: غير الذين غضبت عليهم لإفادة العموم، وأن هؤلاء مغضوب عليهم من قبل الله ومن قبل أولياء الله.
الفائدة السابعة: إثبات الأسباب، لقوله:{بِمَا قَالُوا} يعني: إن الله سبحانه وتعالى لم يغل أيديهم ويلعنهم إلا بسبب قولهم، والأسباب نوعان: حسية وشرعية وكلاهما ثابت، من الأسباب الشرعية: أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والكفر سبب لدخول النار.
من الأسباب الحسية: ما نجده في الكون كون النار محرقة، والصقيع مجمد للماء والأكل سبب للشبع، وما أشبه ذلك، هذه أسباب حسية، ولا تحصى أفرادها.
وهل الأسباب مؤثرة بنفسها؟
الجواب: لا، لكنها مؤثرة بإرادة الله عز وجل بما أودع فيها من القوى المؤثرة، وهذا القول هو الذي تدل عليه دلالات
الكتاب والسنة والعقل، وأما من قال: إنه لا تأثير لها؛ فقد قال قولًا يضحك منه السفهاء، ومن قال: إنها مؤثرة بطبيعتها؛ فقد قال: قولًا منكرًا.
أما الأول: الذي يقول: إنها لا تؤثر؛ فهذا قال قولًا يضحك منه السفهاء، فيكون إذا أكل الإنسان وهو جائع ثم شبع؛ فليس سبب شبعه الأكل، لكن حصل الشبع عند الأكل وإلا فإن الأكل لم يشبعه، وإذا وضعت ورقة في النار واحترقت فالنار لم تحرقها، إنما احترقت عند النار -سبحان الله-! ولو ضربت زجاجة بحجر وانكسرت فالحجر لم يكسرها، انكسرت عنده لا به، هذا شيء أدنى صبي يعرف أنه غلط، والذين قالوا: إنها مؤثرة بطبيعتها أيضًا أشركوا بالله، أثبتوا خالقًا مع الله، وهؤلاء نرد عليهم بأن الله تعالى خالق كل شيء، وبأن الله تعالى قد يغير حقائق هذه الأشياء، ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال للنار التي أضرمت وكانت سعيرًا عظيمًا ليلقى فيها إبراهيم وألقي فيها، قال الله لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم، فهذا يدل على أن الأسباب لا تؤثر بذاتها إنما تؤثر بما أودع الله فيها من القوى، وإلا فقد يوجد موانع، بل حتى الأسباب الشرعية قد يوجد لها موانع، فمثلًا سبب الإرث: القرابة، وإذا كان قريبًا مخالفًا لقريبه في الدين لم يرث منه.
فالمهم أن نقول: من أثبت أن الأسباب تؤثر بذاتها فهو مشرك، ومن نفى تأثيرها مطلقًا فهو سفيه، بقي أن نقول: تؤثر بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة التي قد تتخلف بإرادة الله ومشيئته.
الفائدة الثامنة: أن الجزاء من جنس العمل، لقوله:{بِمَا قَالُوا} فإن قوله: {بِمَا قَالُوا} يفيد فحوى الخطاب وقوة الخطاب، أنهم إنما عوقبوا بمثل ما فعلوا.
الفائدة التاسعة: إثبات اليدين لله عز وجل، لقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
الفائدة العاشرة: أنهما اثنتان لا زيادة فيهما ولا نقص فيهما؛ لأن المحصور بعدد يتعين أن لا يزيد عنه ولا ينقص، فمثلًا قولك عندي له دراهم يحتمل ثلاثة وعشرة ومائة وألف، لكن عندي له ثلاثة دراهم لا يحتمل زيادة ولا نقص، فكل شيء محصور بعدد فإنه يقتضي ألّا يزيد عنه ولا ينقص.
إذًا: الله عز وجل له يدان اثنتان، وهذا ما أجمع عليه السلف لدلالة القرآن والسنة عليه.
لكن لو قال قائل: قولكم: كل شيء محصور بعدد فإنه يقتضي ألا يزيد عنه ولا ينقص، يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"سبعة يظلهم الله في ظله"
(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"
(2)
قد وردت في عدة أوصاف أكثر من الثلاثة؟
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، فضل المساجد، حديث رقم (629)، ومسلم، كتاب الزكاة، فضل الصدقة، حديث رقم (1031) عن أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث رقم (2230)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب في بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، حديث رقم (107) عن أبي هريرة.
الجواب: لولا الأدلة وورود أحاديث لاقتصرنا على هذا العدد ولقلنا: ليس هناك أحد إلا هؤلاء السبعة، ثم إن العدد في قوله صلى الله عليه وسلم:"سبعة يظلهم الله" هذا في باب حصر الأوصاف لا الأعيان.
فإن قال قائل: ألم يقل الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} [يس: 71]، ألم يقل الله:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
الجواب: بلى، لكن الجواب أن الآية الأولى:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لا يراد بها اليد الحقيقية، بل المراد مما عملت أيدينا، أي: مما عملنا، لكن العرب يطلقون اليد على الفاعل، انظر إلى قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ومعلوم أن كسبنا لا يختص باليد، بل يكون باليد وبالرجل واللسان والعين والأنف والفرج والقلب، لكن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، فالتعبيرات الموجودة في كلام العرب تكون في القرآن، ولذلك لو أن المراد باليد هنا حقيقة اليد دون الفاعل؛ لكانت الإبل أشرف منا؛ لأننا نحن خلقنا بالكلمة إلا آدم خلقه الله بيده، والإبل على تقدير أن المراد عملها الله تعالى بيده خلقت باليد.
أما المفرد: فلا ينافي التعدد؛ لأن من القواعد المعروفة أن المفرد المضاف يعم ما يقتضيه مدلوله، فمثلًا لو قال رجل: امرأتي طالق، وعنده امرأتان؛ طلقت المرأتان إلا إذا أراد واحدة، ولو قال: عبدي حر وعنده أعبد؛ عتق الأعبد كلهم إلا بنيَّة، فعليه نقول: المفرد لا ينافي التثنية لأن المضاف يعم،
والجمع لا ينافي التثنية؛ لأنه ليس المراد به حقيقة اليد بل المراد بها الذات، يعني: مما عمله الله عز وجل، ولكن جمعت في قوله:{بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] للتناسب بين المضاف والمضاف إليه، فإن "نا" موضوعًا للجمع أو للتعظيم فجمعت الأيدي، تعظيمًا لها وتكريمًا لها ولمراعاة المضاف إليه، بحيث يتناسب الكلام بعضه مع بعض، المهم أن يثبت أن لله يَدَيْن.
وهنا أسئلة، هل هما حقيقيتان أو لا؟
الجواب: نعم، هما يدان حقيقتان، ومن فسرهما بقوة فقد قال على الله ما لا يعلم، بل ما دل النص على خلافه، ولذلك نقول: كل محرف للنص عن ظاهره فقد ارتكب خطأين: الأول: صرفه عن ظاهره المراد به، والصاني: إثبات معنىً لم يراد به، إذًا: المراد اليدان الحقيقيتان.
السؤال الثاني: هل هاتان اليدان تماثلان أيدي المخلوقين؟
الجواب: لا، لا يمكن؛ لأن كل صفة ظاهرها التمثيل، وأقول: ظاهرها باعتبار الظاهر السطحي، فإنه مردود لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
السؤال الثالث: هل اليد هذه تأخذ وتقبض وتهز أو لا؟
الجواب: نعم؛ لأن ذلك وردت به السنة، بل ورد في القرآن:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
هل هاتان اليدان توصفان بأنهما يمين وشمال؟
الجواب: في هذا قولان للسلف: منهم من قال: لا،
وأنكر لفظ الشمال الوارد في صحيح مسلم
(1)
، ومنهم من قال: بلى، وكل منهما له شبهة، لكن الصواب أنها تثبت، وأن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين"
(2)
يعني: اليُمن والبركة والتساوي؛ لأن المخلوق الذي له يمين وشمال، تختلف اليمين والشمال، تختلف في القوة حتى في القوة الجسمية تختلف، لكن يدا الله عز وجل وأريد التثنية لا تختلف، كلتاهما يمين وهذا هو الصحيح، أننا نثبت الشمال لله لكن لا على أنها ناقصة عن اليمين بل كلتاهما يمين.
الفائدة الحادية عشرة: كثرة عطاء الله وجوده، لقوله:{مَبْسُوطَتَانِ} لا يمكن أن تقبضا بالنسبة للعطاء {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يد الله ملأى سحّاء الليل والنهار""ملأى" يعني: مملوءة من الخير والجود والبركة، "سحّاء": كثيرة العطاء، "الليل والنهار": ظرف يعني: يعطي ليلًا ونهارًا "لا يغيضها نفقة"، يعني: ولا ينقصها ما أنفق وأعطى عز وجل، ثم ضرب مثلًا فقال:"أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ ".
(1)
رواه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب، حديث رقم (2788) عن ابن عمر:
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ".
(2)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (94)، حديث رقم (3368)، وابن حبان (14/ 40)(6167)، والحاكم (1/ 132)(214) عن أبي هريرة.
الجواب: نعم رأينا لكن لا نحصيه، "فإنه لم يغض ما في يمينه"
(1)
أي: لم ينقص ما في يمينه تبارك وتعالى، إذًا: يد الله مبسوطة ملأى سحّاء الليل والنهار.
الفائدة الثانية عشرة: أن عطاء الله ومنعه تابع لمشيئته، لقوله {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فهذا يعطيه أموالًا كثيرة، وهذا يعطيه صحة كبيرة وعقلًا كبيرًا، وهذا بالعكس، وهذا وسط، فجميع ما ينفقه الله عز وجل من العطاء المعنوي والعطاء الحسين يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ.
ويجب أن يكون لديك قاعدة: أن كل شيء قرنه الله بمشيئة فإنه مقيد بالحكمة، يعني: ليست مشيئة مجردة كما ذهب إليه بعض الجهمية الذين يقولون: إن الله يفعل الشيء لمجرد المشيئة وليس لحكمة؛ لأنه لا يسأل عما يفعل، فلا يقال: ما حكمة كذا؟ ولماذا فعل كذا؟
بل نقول: إن كل شيء مقيد بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، والدليل ما لا يحصى مما وصف الله به نفسه بأنه حكيم وأنه أحكم الحاكمين، ومعلوم أن الحكيم لا يصدر عنه فعل إلا لحكمة.
ثانيًا: أن الله قال: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 29 - 30]. ففي هذا إشارة إلى أن مشيئته تابعة لحكمته.
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75](7411) عن أبي هريرة.
وعلى هذا إذا وقع شيء في الدنيا من الحوادث الأرضية والسماوية واستنكرته وقلت: لِم يقع؟ فهنا يجب أن تقول لذهنك الذي فرض هذا السؤال، أن تقول: لحكمة، لكن لا يلزم أن نحيط بحِكم الله عز وجل، كما أن جميع صفاته لا نحيط بها فكذلك حكمته، قد تكون هناك حكمة خفية ما تعلم إلا بعد زمان، لكن يجب عليك أيها المؤمن أن تؤمن بأن كل شيء فعله الله عز وجل فإنه لحكمة، لا يمكن أن يكون لعبًا ولا لهوًا، فاعرف هذا، إذا عرفت هذا وعرفت أن مشيئته مقرونة بالحكمة، فلا تقل: لماذا كان هذا السيد في قومه فقيرًا، ولا لماذا كان لكع بن لكع غنيًّا؟ ! لا تقل هذا: لماذا؟ لأننا نعلم أن هذا العطاء أو هذا المنع من الله عز وجل وأنه مقرون بالحكمة.
لو قال قائل: بعض أهل العلم يقول: إن الحكمة يكشفها الله سبحانه وتعالى للناس يوم القيامة، فهل هذا القول صحيح، وهل عليه دليل؟
الجواب: والله لا أدري هل تؤخذ من أن الله بَيَّن أنه يوم القيامة يبين للناس ما ذكروا به فالله أعلم، لكن من حكمة الله عز وجل أنه جعل بعض الحِكم خفية لأنه لا تتحقق عبودية الإنسان إلا إذا انقاد لما ظهرت حكمته وما لم تظهر، لكن لو كان كل شيء بَيِّن لكان الأمر واضحًا، فإخفاء بعض الحكم لا شك أنه من حكمة الله عز وجل، ولذلك تمام الانقياد أن نقول: سمعنا وأطعنا، ولا نسأل.
وهنا أنبه على مسألة ربما كانت غائبة على كثير من الناس وهي أنه إذا قيل: أمر الله بكذا أو أمر الرسول بكذا، قال: هل
الأمر للاستحباب أم للوجوب؟ هذا ليس بصواب، كمال العبودية أن تقول: سمعنا وأطعنا، وتفعل، نعم إذا تورطت في الأمر وخالفت المأمور أو فعلت المحظور حينئذٍ لا بأس أن تسأل لأجل إذا كان على سبيل الوجوب تستعتب، وإذا كان النهي على سبيل التحريم تستعتب أيضًا، وأنا أعتقد أنه ليس من تمام العبودية أنك إذا أمرت تقول: هل أنا ملزم أو غير ملزم؟ الآن ولله المثل الأعلى، لو قال لك أبوك مثلًا: يا فلان، اذهب اشترِ كذا هل يستقيم أن تقول: ملزم أو غير ملزم؟ لا يستقيم، ولذلك الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم لا أعلم الآن أن أحدًا منهم إذا أمر الرسول بشيء قال: يا رسول الله أعلى سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحبياب؟ أنا لا أعلم، وإنما يستفصلون أحيانًا والاستفصال في موضع الإجمال حق، القلم لما أمره رب العرش وقال له: اكتب، قال له: ماذا أكتب؟
(1)
.
لو قال قائل: لماذا نقف على قوله: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} حيث إنه توجد علامة وقف لازم بالمصحف؟
الجواب: وجه ذلك أن الأول خبر عما كان لليهود، والثاني: خبر عن صفات الله تبارك وتعالى، ولذلك قرن بـ"بل".
الفائدة الثالثة عشرة: أن من الناس من لا تزيده الآيات إلا طغيانًا وكفرًا، لقوله:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ولا تعجب فقد ذكر الله في القرآن في آخر سورة
(1)
رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، حديث رقم (4700)، والترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الرضا بالقضاء، حديث رقم (2155)، وأحمد (5/ 317)(22759) عن عبادة بن الصامت.
التوبة أنه إذا نزل انقسم الناس في قسمين: قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، فلا تعجب أن يكون شيء واحد لقوم دواء ولقوم داء، فإن هذا كما هو في المعقولات هو أيضًا في المحسوسات، أرأيت المصاب بمرض يمنعه الأطباء مثلًا من أكل التمر، إذا أكله مرض، وآخر إذا أكله صح مع أن التمر واحد، الدهن بعض الناس يؤمر بالإكثار منه، وبعض الناس ينهى عنه وأشياء كثيرة، فلا تعجب إذا كان في المعقولات ما يزيد أقوامًا وينقص آخرين.
الفائدة الرابعة عشرة: عناد اليهود، وأنهم لا يمكن أن يخضعوا لما نزل من السماء، لكونه لا يزيدهم ما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم إلا طغيانًا وكفرًا.
الفائدة الخامسة عشرة: الإنصاف والعدل في حكم الله عز وجل؛ لأنه قال: {كَثِيرًا مِنْهُمْ} ولم يقل: أكثرهم، ولم يقل: كلهم، ولهذا يجب على الإنسان إذا رأى في قوم انحرافًا من بعضهم؛ ألا يُجري الحكم على الجميع بل يقول: كثير أو بعض أو منهم أو ما أشبه ذلك؛ لأنه لو عمم مع وجود استقامة في الآخرين لكان ظالمًا من وجه وكاذبًا من وجه آخر، ولهذا تجد الله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} ولم يقل: أكثر ولا الجميع.
لو قال قائل: ما حد الكثير؟ الجواب: الكثير حسب النسبة يعني مثلًا ثلاثة من عشرة كثير، ثلاثة من عشرة حوالي الثلث، لكن ثلاثة من ثلاثين ألفًا قليل.
لو قال قائل: الله سبحانه وتعالى عبر بقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} [المائدة: 68] ولم يقل: أكثرهم، مع أن اليهود والنصارى أكثرهم يزيدهم القرآن طغيانًا وكفرًا؟
الجواب: قد يكون أكثرهم مقلدًا ولا يزداد طغيانًا وكفرًا لكنه مقلد مع العامة.
لو قال قائل: ذكرتم أن الإيمان يزداد بالقول والفعل فقد يذكر إنسان الله عز وجل ويذكر آخر الله عز وجل أقل من الأول، فيزاد إيمانًا، والآخر لا يزداد؟
الجواب: هذا سببه اليقين حيث إنه قد يكون بالنسبة لشخص أقل من الآخر، لكن اليقين نفسه يختلف، مثلًا الذكر، قد يذكر الله رجُلٌ ألف مرة، وآخر يذكر الله مائة مرة، فيكون الأول أكثر، لكن قد يقوم بقلب الثاني الذي لم يذكر الله من اليقين أكثر من الأول، فيكون كل واحد زاد من جهة.
الفائدة السادسة عشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حق، لقوله:{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فكان النبي عليه الصلاة والسلام منزل عليه، فكان رسول الله حقًّا.
الفائدة السابعة عشرة: أن المحبة ثابتة لله، وأن الله يحب وهي محبة حقيقية، أثبتها أهل السنة والجماعة على قاعدتهم المعروفة، وهي وجوب إجراء النصوص على ظاهرها في باب صفات الله وأن الله يُحِب، وهل هو يُحَب؟
الجواب: نعم، وقد صرح الله بذلك في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فالله تعالى يُحَب على ما له من صفات الكمال،
وعلى ما له من أفعال الإحسان والإنعام، ولهذا جاء في الأثر:"أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم"
(1)
، والإنسان لو أن أحدًا من الناس أحسن إليه لأحبه لإحسانه، فكيف بالخالق الذي أوجده وأمده وأعده فهو أولى أن يكون محبوبًا.
أما كونه يُحِب فنعم، جاء ذلك في القرآن الكريم وكذلك في السنة النبوية، ومحبة الله تارة تضاف للعمل وتارة للزمن وتارة للمكان وتارة للعامل، كل ذلك جاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"أحب البقاع إلى الله مساجدها"
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر"
(3)
يعني: عشر ذي الحجة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها"
(4)
، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] والآيات في هذا كثيرة متنوعة.
وهل محبة الله هي ثواب الله، أو إرادة ثوابه، أو هي صفة زائدة على ذلك؟
(1)
تقدم في (1/ 52).
(2)
هذا اللفظ رواه القضاعي في مسند الشهاب (2/ 253)(1301)، وهو عند مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد، حديث رقم (671) عن أبي هريرة، ولفظه:"أحب البلاد إلى الله مساجدها".
(3)
هذا اللفظ عند أبي داود، كتاب الصيام، باب في صوم العشر، حديث رقم (2438)، والترمذي، كتاب الصوم، باب العمل في أيام العشر، حديث رقم (757)، وأصل الحديث عند البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، حديث رقم (926) عن ابن عباس.
(4)
تقدم في (1/ 334).
الجواب: الثالث، خلافًا لمن فسر المحبة بالثواب، أو بإرادة الثواب ممن ينكرون قيام المحبة بالله عز وجل، ولا شك أن هؤلاء ضالون، حتى إذا قلنا: إنها الثواب، يلزم من الثواب؛ المحبة؛ لأن الله لا يثيب إلا من يحب، حتى لو فسرناها بإرادة الثواب يلزم منها المحبة أيضًا؛ لأن الله لا يريد أن يثيب أحدًا إلا حيث يحبه.
لو قال قائل: بعض المسلمين يلحدون في أسماء الله عز وجل مثل: الوهاب، فيسمون جماعة أو طائفة معينة وهابية، فيستهزئون بهذا الاسم وينقصون من قدره، فما تقولون في هذا؟
الجواب: لا، الوهابية نسبة إلى مذهب الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله، يظنون أن الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله ابتدع مذهبًا جديدًا وهو صحيح، هو مذهب جديد بالنسبة لهم ولشركهم، لكن بالنسبة لأهل السنة ليس مذهبًا مستقلًا، لكن هم لا يريدون تنقيص الله أبدًا، بل يريدون تنقيص المذهب، وهذا ليس بغريب، فالرسول عليه الصلاة والسلام وصفوه بأنه ساحر وكذاب ومجنون وشاعر، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52].
الفائدة الثامنة عشرة: تحريم الفساد في الأرض، لقوله:{لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وهكذا كل شيء نفى الله محبته؛ فإنه حرام، فالفساد في الأرض حرام، ولكن بماذا يكون الفساد في الأرض؟ هل هو بهدم البيوت وتخريب الأنهار وما أشبه ذلك؟
الجواب: لا، الفساد في الأرض هو المعاصي، ودليل
ذلك قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، لكن هل هدم البيوت بغير حق من المعاصي، فيكون من الفساد في الأرض من هذه الناحية، وعلى هذا فنقول: كل من عصى الله فقد أخذ معولًا يخرب به الأرض؟
الفائدة التاسعة عشرة: أن الشيء إذا ثبت لوصف، ثبت ضده لضد ذلك الوصف، فعلى هذا نقول: إذا كان الله لا يحب المفسدين فإنه يحب المصلحين، ولا شك أن الله يحب المصلحين، قال الله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقال الله تعالى في اليتامى: {قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] فالصلح خير يحبه الله عز وجل ويرغب فيه ويحث عباده عليه، الإصلاح كذلك خير، والإصلاح أنواع متعددة، والناس بالنسبة للأرض على ثلاثة أقسام: صالح، وصالح مصلح، وفاسد مفسد، وإن شئت زد رابعًا: فاسد غير مفسد حتى تتم الأقسام، لكن يلزم من الفاسد أن يكون مفسدًا، ولذلك نقتصر على ثلاثة أقسام، فنقول: الناس بالنسبة للأرض ثلاثة:
الأول: صالح: لكنه لا ينفع إلا نفسه، وهذا يكون في كثير من العباد، كثير من العباد صالح في نفسه لكن لا يحاول أن يصلح غيره، يرى المنكر أمام عينه لا ينهى عنه، يرى التفريط في المعروف أمام عينه لا يأمر به، وهكذا، هذا نقول: إنه صالح، وإن كان أيضًا صلاحه فيه نقص؛ لأن من تمام الصلاح أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
الثاني: صالح مصلح، هذا خير الأقسام، هو صالح في نفسه ومصلح لغيره، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ
لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 117] لم يقل صالحون، لا بد من أن يكون في الأرض مصلح.
والثالث: الفاسد المفسد في الأرض، حتى لو فرض أنه لم يدعو إلى فساده وإلى معصيته فإنه مفسد؛ لأنه سبب لفساد الأرض.
الفائدة العشرون والحادية والعشرون: أن القرآن نزل من عند الله، لقوله:{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وإذا ثبت هذا لزم عليه أمران عظيمان:
الأمر الأول: أن القرآن كلام الله؛ لأن القرآن ليس ذاتًا قائمة بنفسها، ولكنه وصف لا يقوم إلا بموصوف أو إلا بمتصف به، وعلى هذا فيفيد هذه الفائدة العظيمة: أن القرآن كلام الله، وهذا هو الذي أجمع عليه سلف الأمة والأئمة، وجرت فيه المحن على الإِمام أحمد رحمه الله وغيره من علماء السنة.
فإن من الناس من قال: القرآن ليس كلام الله بل مخلوق من جملة المخلوقات، ولا شك أن هذا القول يلزم منه بطلان الشريعة تمامًا؛ لأننا إذا قلنا: إنه ليس كلام الله؛ لزم أن يكون إذا كتب مجرد نقوش وزخرفة، خلقها الله عز وجل على هذا الوصف، ولذلك نقول: إنه يستلزم على القول بأن القرآن مخلوق؛ بطلان الشريعة تمامًا، بطلان الأمر والنهي؛ لأنه لا أمر ولا نهي، فقوله تعالى:{أَقِمِ} [لقمان: 17] شيئًا مخلوق على هذه الصفة فقط لا يدل على أمر، وقوله:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] كذلك، شيء مخلوق على هذه الحروف كما تنقش الباب مثلًا، إن سُمِعَ فهو مجرد، أصوات كما نسمع الآن أصوات الرعد وأصوات
الرياح في الأشجار وغير ذلك، فحينئذ لا أمر ولا نهي ولا خبر، وهذا واضح جدًّا، لكن من أعمى الله قلبه لا يعرف أن هذا لازم.
لو قال قائل: رجل قام يتكلم وكان موضوع كلمته القرآن، وفي أثناء حديثه كان يقول: الذي قال عنه ربه، يقصد القرآن، ما حكم هذا؟
الجواب: هذا غلط عظيم، يعني يتكلم عن القرآن فيقول: إن القرآن هو الذي قال عنه ربه، وهذا يوحي بمذهب الجهمية، وإن كان له وجه في اللغة العربية إذا علمنا أن المتكلم من أهل السنة الأقحاح؛ لأن الرب يأتي بمعنى الصاحب، كما قال تعالى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180] والعزة وصف لله عز وجل لكن بمعنى صاحب العز، على كل حال: هذا يجب تنزيه اللسان عنه، ويجب أن ينصح؛ لأن هذا يوهم العامة أن القرآن مخلوق.
الأمر الثاني: علو الله عز وجل؛ لأنه إذا كان القرآن كلام الله، وهو صفة من صفاته وهو نازل لزم أن يكون المتصف به عاليًا، وإلا فلا معنى للنزول، فيكون فيه دليل على إثبات علو الله عز وجل، والناس في هذه الصفة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قال: إن الله لا يجوز أن يوصف بالعلو ولا بالسفول، ولا يجوز أن نقول: إنه فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، وهذا تعطيل محض، ولو قيل لأحد: صف العدم، ما وصفه بأدق من هذا الوصف الذي وصفوا به الرب عز وجل.
القسم الثاني: قالوا: إن الله تعالى في كل مكان، ولا يجوز
أن نقول: إنه في العلو، وكيف نقول: إنه في العلو وهو يقول: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ويقول: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] وأشباه ذلك من آيات المعية، فلا يجوز أبدًا أن نقول: إن الله عالٍ بنفسه، بل العلو الذي أثبت لله علو المعنى، وأما المكان فهو في كل مكان، وهؤلاء حلولية الجهمية يقولون: إنه في كل مكان، والعجب أن هذا عليه كثير من الناس من غير السعوديين الذين نتصل بهم -في المسجد الحرام- ونسألهم. السعوديون لا يعرفون هذا القول، أكثر العامة لا يعرفون هذا القول، ويقولون: إن الذي يقرر علينا علماؤنا أن الله في كل مكان، ولا شك أن هذا قول إذا تأمله الإنسان وجده في غاية البطلان، لمخالفته للقرآن والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وهل يمكن أن يرضى أحد أن يجعل الخالق عز وجل في الحشوش والأماكن القذرة؟ لا يمكن، ولازم قولهم أن يكون كذلك في كل مكان.
أما القسم الثالث: الذي نسأل الله تعالى أن يميتنا عليه ويبعثنا عليه، فهو أن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، لكنه محيط بالخلق، فكأنه معهم في أمكنتهم، ولا مانع من أن نقول: هو فوق كل شيء وهو معنا ولكن ليس في مكاننا، ولهذا أمثلة ذكرها شيخ الإِسلام رحمه الله، مثالًا في الواسطية ومثالًا في الحموية، قال: إن العرب يقولون: ما زلنا نسير والنجم معنا، وقال في الواسطية: ما زلنا نسير والقمر معنا، وهذا أسلوب عربي واضح، وكل واحد يخاطب بهذا الخطاب أو يتكلم به؛ لا يمكن أن يعتقد أن القمر في الأرض، ولا أن النجم في الأرض، ولهذا يفرق
حتى في كلام الناس فيقال للرجل: زوجته معه، ويقال: متاعه معه، ويقال: دراهمه معه، ويقال: ساعته معه، وإذا كان هذا مخلوق من المخلوقات يحيط بنا وهو معنا وهو فوق؛ فما بالك بالخالق الذي حدَّث عنه النبي عليه الصلاة والسلام بأن "السموات السبع والأرضيين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة"
(1)
فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى، فعلى كل حال نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء حقًّا.
أما صفاته فما أحد من المسلمين فيما نعلم ينكر علو الصفات، كلهم يقولون: إنه كامل الصفات، لكن يبقى النظر، هل كلهم يثبتون كل ما ورد من الصفات؟
الجواب: لا، لكن من أثبت له صفة كمال فيقول: إنه عالم بهذه الصفة الكاملة.
لو قال قائل: المحرف في الصفات إذا نوقش يقول: إنما نؤول هذه الصفات حتى لا يتوهم الناس مشابهة الله لخلقه، وإن كنا لا نرى التأويل؟
الجواب: نقول لهؤلاء أولًا: اقرؤوا قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103 - 104].
وثانيًا: نقول: لستم أحرص على هداية الخلق من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولم يفعلوا هذا، ونقول:
(1)
رواه ابن حبان (2/ 76)(361)، والطبراني في الكبير (2/ 157)(1651)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 168) عن أبي ذر.
إذا أثبتم هذه فاقرؤوا قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ونضرب لهم الأمثال، ونقول: بالنسبة لليد الآن نشاهد مخلوقات لها أيدي متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، وكذا الوجه والعين، كل الصفات في المخلوق متفاوتة، أفلا يمكن إذا ظهر التفاوت بين المخلوقات أن يكون التفاوت بين المخلوق والخالق، من باب أولى وأشد.
لكن لو قال قائل: هل القول في القرب كالقول في المعية أنها صفة حقيقية تليق بجلاله وكماله؟ الجواب: القرب والمعية بمعنى واحد، لكن القرب اختلف العلماء علماء السلف رحمهم الله أو علماء الخلف هل ينقسم كالمعية إلى عامة وخاصة أم لا؟ والظاهر أنه لا ينقسم، وأن القرب يختص بالعابد والداعي فقط، كما قال الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] هذا بالنسبة للداعي، وبالنسبة للعابد، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد"
(1)
ولا يمكن أن نقول: إن الله قريب من الكافرين؛ لأن القرب شرف ورفعة، لكن نقول: إن الله مع الكافرين، كما قال تعالى:{وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، فالذي يظهر لي أن المعية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، والقرب خاص فقط ولا يكون عامًّا.
لو قال قائل: بعض العلماء يقسم علو الله عز وجل إلى: علو ذات وقدر وقهر، فعلو الصفات يدخل في أي الأقسام؟
(1)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث رقم (482) عن أبي هريرة.
الجواب: الصفات يدخل فيها القدر والقهر، إذا قلنا: علو ذات وعلو صفات، شمل القدر والقهر، لكن لو قيل: كيف يدخل القهر؟ القهر لأن الله قال في القرآن الكريم {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139].
الفائدة الثانية والعشرون: عناية الله عز وجل بالرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك بقوله:{مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147]، فإن هذه الربوبية خاصة تقتضي العناية التامة والأقوى والأشد، واعلم أن الربوبية نوعان: عامة وخاصة، اجتمعا في قوله تعالى عن السحرة:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 121 - 122] العامة: في قوله: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب رحمه الله: كل من سوى الله فهو عالم، وعلى هذا يكون قوله:{بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: برب الخلق كلهم، وقوله:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} هذه خاصة، كما أن العبودية كذلك: عامة وخاصة.
فالعبودية الكونية: عامة، ومنها قول الله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، كل من في السموات بالعبودية الكونية عبدٌ لله، هل يستطيع أحد أن يمنع المرض إذا قدره الله عليه؟ أبدًا، وهل يستطيع أحد أن يرد ملك الموت إذا جاء لقبض روحه؟ أبدًا، ولهذا تحدى الله هؤلاء، فقال لهم: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} [الواقعة: 83 - 87] لا يمكن، لو يجتمع الخلق كلهم أن يردوا هذه الروح التي بلغت الحلقوم ما استطاعوا، إذًا: فالكل عبد لله بهذا المعنى، أي: بالعبودية الكونية.
أما القسم الثاني: العبودية الخاصة، فهي العبودية الشرعية، التي منها قول الله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى آخره.
الفائدة الثالثة والعشرون: أن الله تعالى ألقى العداوة والبغضاء بين اليهود، لقوله:{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} وهذا كلام حق صدق ليس عندنا فيه شك، وما نحسبه نحن من اجتماعهم فعلى خلاف الواقع، ولهذا قال الله تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] لا تظن أنهم متفقون أبدًا ولذلك هم أحزاب شتى، وحتى داخل الحزب الواحد متفرقون؛ لأنهم لا يمكن أن يجتمعوا وقد ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء، لكن لاحظ أن العَدُوَّينِ إذا كان لهما عدو ثالث اجتمعا عليه لمقابلة العدو الثالث، فاجتماعهم الآن ليس لأنهم متحابون متآلفون، أبدًا ولا يمكن أن نصدق والله يقول:{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لكنهم اجتمعوا لهدف واحد ومصلحة واحدة ضد عدو واحد للجميع، وهذا الاجتماع لا شك أنه اجتماع ظاهري فقط مقصود لغيره وليس مقصودًا لذاته.
الفائدة الرابعة والعشرون: أن العداوة والبغضاء بين اليهود سوف تستمر، لكن إذا آمنوا تزول بلا شك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "كنتم أعداء فألفكم الله بي، ومتفرقين فجمعكم الله
بي"
(1)
، والأنصار كما هو معلوم بينهم عداوات وبغضاء في الجاهلية.
الفائدة الخامسة والعشرون: إثبات يوم القيامة وهو: اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، وسمي بذلك لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين.
الوجه الثاني: أنه يقام فيه العدل كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [يس: 54] وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].
الثالث: أنه يقام فيه الأشهاد، تستشهد الرسل ثم الأمم ثم الجلود والأعضاء، ويتبين الأمر وينكشف ويظهر ما في الصدور، فلذلك سمي يوم القيامة، هناك قيامة صغرى لكنها لا تراد في هذه الآية وهي موت الإنسان، فإن كل من مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انتهى من الدنيا ودخل في عالم الآخرة.
الفائدة السادسة والعشرون: البشرى التامة للمسلمين بأن اليهود لن تقوم لهم قائمة في الحروب؛ لأنهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ولم ينالوا بها مقصودهم، وإن كانوا قد ينالوا بعض الشيء، لكنهم لن ينالوا المقصود الذي يريدونه بإشعال نار الحرب.
الفائدة السابعة والعشرون: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل، لقوله:{أَطْفَأَهَا} ، وإطفاؤها يكون بعد
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، حديث رقم (4075) عن عبد الله بن زيد بن عاصم.
إيقادها وهذا فعل متجدد، وفيه رد وأضح على الذين منعوا قيام الأفعال الاختيارية بالله، وقالوا: إن الله لا يمكن أن يأتي ولا يستوي على العرش ولا يتكلم بإرادته ومشيئته، بل كلامه معنى قائم بنفسه لا يتعلق بإرادته، ولا يضحك ولا يفرح ولا يغضب إلى آخر ذلك، كل صفة تتجدد فهي عندهم لاغية منتفية عن الله، وحجتهم واهية جدًّا وداحضة عند الله، يقولون: إن الأفعال الاختيارية التي تتجدد لا تقوم إلا بحادث، بناءً على قَاعِدةٍ غير قائمة في الحقيقة، يقولون: الحادث لا يقوم إلا بحادث، من أين لهم هذا؟ الحادث يقوم بالحادث والقديم، حوادث أفعالنا نحن حادثة قائمة بحادث، لكن حوادث الباري جلَّ وعلا حادثة لكنها قائمة بأزلي ليس بحادث.
الفائدة الثامنة والعشرون: محبة اليهود للفساد في الأرض وسعيهم في ذلك سعيًا حثيثًا، لقوله:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} ومن شاهد الواقع الآن عرف أن الآية منطبقة تمامًا على يهود الوقت الحاضر، أنهم يسعون في الأرض فسادًا بكل ما يستطيعون، إن استطاعوا بأنفسهم أو بعبيدهم الذين هم عبيد لهم، ولهذا نقول: اليهود الآن: عابد ومعبود، اليهود حقيقةً هم عبيد ومُعبِّدون؛ لأنهم يُسَخِّرون الدول الكبرى أن تفعل ما فيه مصلحتهم، وهم أيضًا أذناب للدول الكبرى؛ لأن الدول الكبرى آمنة منهم وتريد أن تبقيهم في مكان ما من أجل أن يفسدوا في الأرض، فهم يسعون في الأرض فسادًا في كل وقت، نسأل الله تعالى أن يكبتهم وأن يخيبهم.
* * *
° قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} [المائدة: 65].
قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ} المراد بأهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، والكتاب المشار إليه التوراة والإنجيل، لقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 66].
وقوله: {آمَنُوا} بالقلوب، {وَاتَّقَوْا} بالأفعال، وهذا إذا جمع بين الإيمان والتقوى، فالإيمان بالقلب والتقوى بالجوارح، الإيمان سرٌّ والتقوى علانية، أما إذا أطلق أحدهما؛ فإنه يدخل فيه الآخر ضمنًا {آمَنُوا}: أي: بما يجب الإيمان به، ومنه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، معروف بأوصافه، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، هل أحد يجهل ابنه؟ لا، وعلقه بالأبناء؛ لأن تعلق الإنسان بالابن أقوى من تعلقه بالبنت؛ فتكون معرفته للابن أبلغ من معرفته للبنت؛ لأن الابن يسير معه في تجارته وفي حراسته وفي كل شيء، فهو يخبر ظاهره وباطنه، لكن البنت محلها البيت، ولا يخبرها تمامًا إلا أمها، فهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك لم يؤمنوا به، فيكون الإيمان عندهم منتفيًا لأنهم ما آمنوا، حتى لو قالوا: إنهم مؤمنون بموسى إن كانوا يهودًا أو بعيسى إن كانوا نصارى فهم كاذبون.
وأما التقوى فهي: اجتناب ما حرم الله والقيام بما أمر، وهذا في العلانية أي: الجوارح: يعني الأقوال والأفعال، والتقوى: هي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره.
قوله: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} هذا جواب "لو"، واعلم أن
"لو" تقع "اللام" في جوابها كثيرًا وقد تحذف، وقد اجتمع ذلك في آخر سورة الواقعة، فقال الله تعالى في الزرع:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] وقال في الماء: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] فأثبت اللام في الأول ولم يثبتها في الثاني، أما إذا كان جوابها "ما" النافية فإنها لا تقرن بها إلا نادرًا، وأما ما اشتهر عند الفقهاء وعند كثير من الناس، وهو قرن اللام بها فهذه لغة، لكنها قليلة، فالأفصح أن تقول: لولا كذا ما حصل كذا، ولكن لا بأس أن تقول: لما حصل كذا.
إذًا: الإثبات والنفي بـ "ما" متقابلان، الأفصح في الإثبات باللام، أو الأكثر -على الأصح- في الإثبات باللام، والأكثر في النفي بـ (ما) حذف اللام، ومنه قول الشاعر في إثبات اللام:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا
…
ولكن لا خيار مع الليالي
الشاهد قوله: لما افترقنا.
وقوله: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: خطيئاتهم، يعني: معاصيهم سواء كانت بترك واجب أو بفعل محرم؛ لأن الإيمان والتقوى يكفران السيئات.
قوله: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} هذا ثواب الآخرة، فانتفى عنهم ما يكرهون بتكفير السيئات، وحصل ما يحبون بإدخالهم جنات النعيم.
وقوله: {جَنَّاتِ} جمع جنة، وجمعت لأنها أنواع، وقد ذكر الله في سورة الرحمن أربعة أنواع، والجنة في الأصل: هي البستان الذي كثرت أشجاره حتى صارت تغطي أرضه؛ لأن الأصل في هذه المادة الجيم والنون، الأصل فيها: الاستتار
والخفاء، ومنه سمي الجن جنًّا، والبستان كثير الأشجار جنة قال الله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32] لكن لا ينبغي أن تقول مثل هذا القول عند العامة؛ لأنك لو قلت: إن الأصل في الجنة أنها البستان كثير الأشجار؛ لَقَلَّتْ عظمة الجنة في نفوسهم، ولكننا نفسر الجنة التي في القرآن بأنها الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ لأن هذا يُبْقي هيبتها في النفوس وقوة الرغبة فيها.
وقوله: {النَّعِيمِ} أي نعيم؟ أنعيم البدن، أم نعيم القلب، أم كلاهما؟ كلاهما لأن نعيم البدن ينعم الإنسان بكل أنواع النعيم، ونعيم القلب لا يمكن أن يلحقه هَم ولا غم ولا حزن بل هو دائمًا في أنس ولهذا قال الله تعالى:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11] النضرة في الوجه، كما قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [القيامة: 22] والسرور في القلب، فما بالك بنعيم يكون فيه النضرة التي تبهج الناظر في الوجه والسرور في القلب، الذي ليس فيه حزن ولا هم ولا غم، اللهم اجعلنا من هؤلاء الذين يدخلون جنات النعيم.
لو قال قائل: بعض الناس يعبرون عن بعض البلاد الجميلة بأنها جنة الله في الأرض، هل يصح مثل هذا التعبير؟
الجواب: يصح، لكن إذا كان يفهم من ذلك أنها قطعة من جنة الخلد فلا يجوز، وإلا فمن المعلوم كل الذي في الأرض فهو لله عز وجل، لكن على كل حال، عند العامة لا ينبغي أن نعبر بهذا؛ لأنه قد يفهم منه معنى غير صحيح.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: كمال عدل الله عز وجل وأن كل من آمن واتقى ولو بعد الكفر والعناد فإن الله تعالى يتوب عنه.
الفائدة الثانية: أن التائب من الذنب يثاب بثوابين: ثواب الدنيا وثواب الآخرة، ثواب الآخرة لقوله:{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وثواب الدنيا لقوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66].
الفائدة الثالثة: إثبات أفعال الله سبحانه وتعالى الاختيارية، لقوله:{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ؛ لأن هذا التكفير يكون بعد إيمانهم وتقواهم، فيكون فيه دليل على إثبات أفعال الله الاختيارية، وهذا هو الذي عليه السلف الصالح وأئمة أهل السنة، أن الله عز وجل يفعل ما يشاء في أي وقت، وعلى أي كيفية، وأما من قال: إن الأفعال الاختيارية لا يمكن أن تنسب إلى الله؛ لأنها حادثة، والحادث لا يقوم إلا بحادث، فقوله مردود: أولًا: أنه قياسٌ باطل لمصادمته النص، والثاني: أنه قياس غير صحيح، من قال: إنه يلزم من قيام الحوادث بصاحبها أن يكون حادثًا.
الفائدة الرابعة: أن الجزاء يكون بالنجاة من المرهوب وحصول المطلوب، يشير إلى الأول قوله:{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ، وإلى الثاني قوله:{وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فالأول به النجاة من المرهوب، والثاني في حصول المطلوب.
الفائدة الخامسة: أن الجنّات فيها النعيم المطلق الذي يشمل نعيم البدن ونعيم الروح، ويدل لذلك قوله تعالى:{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، قال العلماء: النضرة في الوجه والسرور في القلب.
* * *
° قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 66].
قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} هذا أمر فوق الإيمان والتقوى، وهو إقامة التوراة والإنجيل، وذلك بتصديق أخبارهما وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.
والتوراة: هي الكتاب المنزل على موسى، والإنجيل: الكتاب المنزل على عيسى، وقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} هذا يشمل الصنفين من أهل الكتاب يعني: اليهود والنصارى، كل منهما يجب عليه إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وهو القرآن الكريم.
وقوله: {أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} يدل على أن هؤلاء ملزمون بالإيمان بالقرآن وإقامته، ويدل على أن قوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} هو القرآن قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4].
وأما قول بعض العلماء: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} يشمل حتى الكتب السابقة، ففيه نظر؛ لأن الكتب السابقة نزلت على من قبلهم لكنهم مكلفون بالإيمان بها، ووجه الضعف في هذا القول أن الذي نعلم نحن الآن أنهم كلفوا بالتوراة والإنجيل هذا وجه، وجه آخر: أن هذه الآية على نسق قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4] وأيضًا لا يقال: الكتاب الذي أنزل على نوح نازل على اليهود
والنصارى، لكن يجب عليهم الإيمان به، كما أن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلينا، لكن يجب علينا الإيمان بهما.
قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} هذا جواب شرط: (لو)، وقد سبق البحث في أن لو الشرطية تختص الأفعال، وأن النحويين قدروا في مثل هذا فعلًا وهو: ولو ثبت أنهم أقاموا التوراة أو ولو حصل أنهم أقاموا التوراة.
وقوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} هذه تشمل عدة أشياء:
أولًا: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} وذلك بنزول الأمطار التي تكون سببًا للنبات الذي يأكلونه، والأمطار تنزل من السماء، {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني: نبات الأرض، فيكون الله تعالى ذكر سبب النبات، والنبات، وهذا كقوله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] هذا وجه ويدخل في الآية.
وقيل: المعنى: أكلوا من فوقهم من ثمار الأشجار؛ لأن الأشجار تكون عالية فيأكلون من ثمارها، {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} من الزروع ونحوها التي تكون في الأرض ليس لها ساق، فيكون الله تعالى بَيَّنَ أنهم سيبارك لهم في الأشجار والزروع.
وقيل: المعنى: لأكلوا من كل وجه، كما تقول: هذا الرجل في نعمة من هامه إلى إبهامه، والمراد أن النعمة تغمره.
وعلى كل حال فالآية تشمل هذا وهذا، كل هذه الأوجه يصح أن تفسر بها الآية، وقد سبق قاعدة في هذه المسألة مهمة، وهي: أن الآية إذا احتملت معنيين فأكثر على السواء ولا منافاة بينهما، فإنها تحمل عليهما جميعًا وهكذا الأحاديث أيضًا.
قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} قسمهم الله تعالى إلى قسمين، وأمة هنا بمعنى: طائفة، وأمة في اللغة العربية لها معان متعددة جاءت في القرآن، فتكون بمعنى طائفة كما في هذه الآية، وتكون بمعنى: الدين، مثل قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] وتكون بمعنى: الزمن كما في قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] وتكون بمعنى: الإِمام، كما في قوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ومن مجيئها بمعنى الدين قوله تعالى عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي: على ملة وهذا أوضح من تمثيلنا بقوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لأنه المعنى يحتمل أن الأمة الجماعة من الناس.
وعلى كل حال الأمة في القرآن جاءت على أربعة معاني: الأول: الطائفة، الثاني: الدين، الثالث: الزمن، الرابع: الإمامة.
قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ} أي: طائفة، {مُقْتَصِدَةٌ} أي: قائمة بالواجب لا تزيد ولا تنقص.
قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي: كثير منهم أمة سيئة غير مقتصدة، بل هي مُفرِّطة ومُفْرِطة، ولهذا وصف العمل المشار إليه بقوله:{سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} فقوله: {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} يُبَيِّن أن المعنى وكثير منهم غير مقتصد بل مسيءٌ في عمله فساء ما كانوا يعملون، وعليه فيكون قوله:{سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} ليس خبر "كثير"، بل خبرها محذوف، أي: كثير منهم سيء العمل لم يقتصد فساء ما يعملون.
بقي قسم ثالث خص الله به هذه الأمة وهو السابق
بالخيرات، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] يعني: هذه الأمة -جعلنا الله منهم- {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، فكأن بني إسرائيل، السابق بالخيرات منهم قليل بحيث لا يقام له وزن ولا يذكر في التقسيم، وإلا فلا شك أن فيهم سابقًا بالخيرات، منهم من أدرك الإِسلام فأسلم هذا سابق بالخيرات، لكن لما كان السابق بالخيرات قليلًا في بني إسرائيل لم نجد له ذكرًا؛ لأن الذكر إنما يكون لمن كان له شأن في التقسيم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن إقامة الشريعة في كل زمان، سبب لكل خير، لقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} إلى آخره.
الفائدة الثانية: أن من أقام الشريعة، جوزي بأمرين: جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة.
الفائدة الثالثة: أنه يجوز ترغيب النفوس البشرية في فعل الطاعات بما يذكر من ثواب الدنيا، ولينتبه لهذه النقطة، وعلى هذا فلو أن إنسانًا عمل عملًا صالحًا يريد أن ينال حسن الدنيا والآخرة، فإنه لا يلام؛ لأنه لو كان هناك لوم، ما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يحصل من ثواب الدنيا، يبقى ذكره شبيهًا باللفظ الذي ليس له معنى، وعلى العكس من هذا المحرمات، تجد أن الله تعالى جعل لها روادع تردع عنها، حتى لا يفعلها الإنسان، فتجد الرجل قد يترك الزنا مثلًا خوفًا من
العقوبة، ولولا هذا لما كان للعقوبة فائدة.
فعلى كل حال نقول: إن الإنسان إذا قام بقلبه إرادة الدنيا لكن لا على أنها هي الباعث للعمل فلا حرج عليه، والإنسان يقرأ الأوراد، ليتحصن بها من شرور الإنس والجن، تجد الذي يقرأ الورد، قد يغيب عن باله أنه يريد أن يتقرب إلى الله بالتلاوة، وإنما يريد التحصن؛ لأن النفوس البشرية ضعيفة تحتاج إلى أمر مادي يساعدها على فعل الخيرات، ويدل لهذا الأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المغازي يجعل سلب القتيل لمن قتله
(1)
، تشجيعًا له، فقول بعض الناس: إنه لا يجوز للإنسان أن يريد بعمل الآخرة شيئًا من الدنيا، هذا غير صحيح، بل قال الله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] يعني نعطيه في الدنيا والآخرة.
الفائدة الرابعة: أنه يجب على أهل الكتاب أن يقيموا القرآن، كما يجب أن يقيموا التوراة والإنجيل، لقوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} وهو كذلك، ولهذا نقول لأهل الكتاب الذين يَذَعون أنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر نقول: إنكم إن لم تؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما نفعكم ذلك الإيمان لأنكم لم تتموا إيمانكم.
الفائدة الخامسة: أن القرآن كلام الله لقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} وجه ذلك: أن القرآن صفة؛ لأنه كلام، والكلام لا بد له من متكلم، والصفة لا بد لها من موصوف، وإذا كان لا بد للقرآن من متكلم به، فالذي تكلم به هو الله عز وجل.
(1)
رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلًا فله سلبه
…
، حديث رقم (2973)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، حديث رقم (1751) عن أبي قتادة.
الفائدة السادسة: إثبات علو الله تعالى لقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} لأنه إذا كان القرآن صفة الله نازلة منه؛ لزم أن يكون الله تعالى عاليًا، وهذا والحمد لله عند من أنار الله بصيرته ولم تحتوشه الشياطين، وكان على الفطرة التي فطره الله عليها أمر لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه أمر فطري، وهو علو الله تعالى علو الذات، وكما تقدم كثيرًا أن المنكرين لعلو الذات انقسموا إلى قسمين:
قسم قال: إن الله تعالى في كل مكان في السماء والأرض، يعني هو نفسه ذاته في كل مكان.
وقسم آخر قال: لا يجوز أن يوصف بأنه فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، ولا منفصل عن العالم ولا متصل بالعالم، فالأولون غلوا في إثبات صفة من الصفات وهي المعية، والآخرون غلوا فيما يَدَّعُونَه تنزيهًا للرب عز وجل.
إذًا: نأخذ من هذا أنه يجب علينا أن نؤمن بعلو الله عز وجل.
الفائدة السابعة: إقامة الدليل على أهل الكتاب أنه يلزمهم أن يؤمنوا بالقرآن، لقوله:{مِنْ رَبِّهِمْ} فإن لازم كونه ربًا لهم، أن يقوموا بأمره ويلتزموا بحكمه؛ لأنه رب، والرب لا بد له من مربوب، وهو سبحانه وتعالى السيد والإنسان عبد، فلا بد أن يقوموا بمقتضى هذه الربوبية، فيؤمنوا بما أنزل الله تعالى على محمَّد صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الثامنة: أن نِعَمَ الله عز وجل التي في الأرض منها ما هو عال ومنها ما هو نازل، لقوله:{مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وهذا شيء مشاهد، بل منها ما هو ظاهر ومنها ما هو
خفي، فالمعادن التي في الأرض خفية، والأشياء الظاهرة التي في الأرض ظاهرة.
الفائدة التاسعة: انقسام أهل الكتاب إلى قسمين: قسم مقتصد قائم بالواجب تارك للمحرم ولكن ليس عندهم سبق إلى الخيرات، وقسم آخر: سيء مسيء في عمله، إما بترك الواجبات وإما بفعل المحرمات، لقوله:{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} .
الفائدة العاشرة: بيان منقبة عظيمة لهذه الأمة، وهي أن هذه الأمة قسمها الله إلى ثلاثة أقسام: منهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أما أهل الكتاب فلم يقسَّموا إلا إلى قسمين: المقتصد، ومسيء العمل.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67].
قوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} لينتبه طالب العلم للنداء والوصف الذي وجه إليه النداء، وتقدم كثيرًا أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به والعناية به.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} وصفه بالرسالة إشارة إلى أن هذا الوصف مقتضاه وإن لم يؤمر بالإبلاغ أن يكون مبلغًا؛ لأنه رسول، ويعني به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتكون "ألـ" للعهد الذهني، أما في قوله:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16]، فـ"ألـ" للعهد الذكري.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، {بَلِّغْ} أي: اجعله بالغًا، بمعنى: أن تؤديه إلى من أرسلت إليه، وهو صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس منذ بعث إلى يوم القيامة، وعلى هذا فيكون تبليغه إما مباشر، كالذين رأوه وسمعوا منه، وإما بواسطة من خَلَّفَهُ في أمته علمًا ودعوة، وهم العلماء، المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين.
قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ما: اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، أي: جميع ما أنزل إليك.
وقوله: {مِنْ رَبِّكَ} : إشارة إلى أن كونه مربوبًا لله عز وجل يستلزم أن يُبلِّغ، وأيضًا لأن ربوبية الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام ربوبية خاصة.
وقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الذي أُنْزل إليه القرآن كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتبليغ الرسول عليه الصلاة والسلام يشمل تبليغ اللفظ وتبليغ المعنى، ولذلك تجد بعض الآيات يفسرها النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مجملة أو غامضة، فهو يفسرها بقوله ويفسرها بفعله عليه الصلاة والسلام.
قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} في قوله تعالى: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قراءة أخرى {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهِ} بالجمع، أما على قراءة الإفراد فلا إشكال فيها، وأما على قراءة الجمع: فلماذا جمعت والرسالة واحدة؟ نقول: باعتبار الشرائع التي جاءت بها هذه الرسالة؛ لأنها جاءت بأعمال وأقوال واعتقادات، أعمال قلوب وأعمال جوارح، جاءت بفعل وبترك، فكل نوع يعتبر رسالة فصح الجمع.
قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} هذا كلام شديد، إن لم تفعل أي: تبلغ كل ما أنزل إليك، فما بلغت رسالته، حتى فيما بلغته مما كتمته فإنه لا يكون بلاغًا؛ لأن جحد بعض ما أنزل كجحد الكل، الإيمان لا يتبعض، لا يمكن أن تؤمن بشيء وتنكر شيئًا، ولهذا قال:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} أي: تبلغ كل ما أنزل فما بلغت رسالته، حتى فيما بلغت لم تبلغ، يعني: لا بد أن تبلغ جميع ما أنزل، ولهذا بلغ عليه الصلاة والسلام كل ما أنزل إليه حتى فيما كان عليه، حتى فيما كان فيه لوم عليه، عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى:{وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، هذه فيها لوم عظيم، هذه لو قيلت لواحد منا لطار من الغضب، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا بد أن يبلغ كل ما أنزل إليه، حتى فيما كان فيه لوم عليه، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:"ولو كان محمَّد صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا مما أنزل الله تعالى عليه، لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} "
(1)
.
وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: رسالة ربك، وأضاف الرسالة إليه سبحانه؛ لأنه المُرسل، وقد تضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقال: هذه رسالة محمَّد؛ لأَنه مبلغها، فتضاف إلى الله باعتباره المُرسِل، وإلى الرسول باعتباره المبلّغ.
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]، حديث رقم (177) عن عائشة.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} يعني: إن كنت قد تخفي شيئًا خوفًا من الناس فلا تخفِ، فإن الله يعصمك من الناس، أي: يمنعك من الناس أن يضروك بشيء، وهذا هو الذي حصل والحمد لله، وإلا فما أكثر الذين يريدون قتله عليه الصلاة والسلام، أول ما قدم المدينة كان يخاف، تقول عائشة رضي الله عنها: في ليلة من الليالي لم ينم الرسول عليه الصلاة والسلام، سهر وقال:"اللهم ابعث لنا عبدًا من عبادك يحرسني"
(1)
أو كلامًا نحو هذا، فما أن فرغ من دعائه إلا وسمع صوت السلاح، فقال: من هذا؟ قال: سعد بن مالك، يعني: سعد بن أبي وقاص، قال: ما الذي جاء بك؟ قال: خفت عليك يا رسول الله، فأتيت أحرسك، بعثه الله عز وجل فصار يحرسه.
وفي بعض الروايات لكن ليس في الصحيحين: أن حذيفة أيضًا جاء معه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت هذه الآية أمرهم أن يتفرقوا
(2)
؛ لأن الله التزم عز وجل بأن يعصمه من الناس، ومعلوم أن الله إذا التزم بمثل هذا، فإنه محروس أشد من حراسة بني آدم.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} يعني: أنه لن يسلط عليك لو سلط إلا كافر.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، حديث رقم (2729)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، حديث رقم (2410) عن عائشة، ولفظ مسلم:"ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة".
(2)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، حديث رقم (3046) عن عائشة.
وقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: لا يصلح شأنهم حتى يصلوا إلى ما يريدون، وعلى هذا فيكون قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: لا يدلهم إلى ما يريدون من قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن المعنى: لا يهديه هداية دين، ويكون قوله:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي: الذين قضى الله عليهم بالكفر والموت عليه، فتكون هذه الآية كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)} [يونس: 96 - 97].
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} .
الفائدة الثانية: المنقبة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان رسولًا لله عز وجل، الناس الآن فيما بينهم يكرم الرسول بإكرام مرسله، وإذا كان مرسله ذا شأن في المجتمع، كان كونه رسولًا له شرف له، إذًا فالرسول عليه الصلاة والسلام في نداء الله له بهذا الوصف منقبة عظيمة له وشرف عظيم، وإذا كان وصف العبودية شرفًا، فوصف الرسالة أشد؛ لأن الرسالة متضمنة للعبودية وزيادة.
الفائدة الثالثة: أنه يجب على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ كل ما أنزل إليه وقد حصل هذا، وشهدت له الأمة بذلك -ولله الحمد-، ففي أكبر مجتمع اجتمع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بأمته في يوم عرفة قال لهم:"ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، ثلاث مرات وهو يقول:"ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم،
فيشهد الله: "اللهم اشهد، اللهم اشهد"
(1)
، وشهادة صدر هذه الأمة ينسحب إلى بقية الأمة إلى يوم القيامة، فنحن نشهد بالله العظيم أنه بلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام وبلغ الرسالة كاملة.
الفائدة الرابعة: الرد على الرافضة الذين يقولون: إن ثلث القرآن لم يبلغ وأنه مكتوم، فنقول: كل القرآن مبلغ والحمد لله ولم يبقَ شيء، وقد ذكر ذلك المفسرون رحمهم الله وقالوا: هذا فيه رد على الرافضة؛ لأن الرافضة يعتقدون أن ما بين أيدينا من القرآن ليس هو القرآن، وأن محمدًا كتم بعضه والعياذ بالله أو من بعده كتموا أيضًا.
الفائدة الخامسة والسادسة: إثبات أن القرآن كلام الله لقوله: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وفيه أيضًا إثبات العلو وسبق قريبًا.
الفائدة السابعة: عناية الله بالرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: {مِنْ رَبِّكَ} .
الفائدة الثامنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه لو كتم شيئًا مما أنزل إليه لم يكن أدى حق الرسالة، لقوله:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
الفائدة التاسعة: وجوب إبلاغَ الشريعة على أهل العلم، وجه ذلك: أن العلماء ورثة الأنبياء، وإذا كانوا ورثة الأنبياء وجب عليهم أن يقوموا بحق الإرث، فيبلغوا ما علموا من
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، حديث رقم (1654)، ومسلم، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (1679) عن أبي بكرة.
شريعة الله وجوبًا، إما بالقول وإما بالفعل: إما بالكتابة وإما بالإشارة، بأي وسيلة يجب عليهم أن يبلغوا ما أنزل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن ثَمَّ يجب أن ينتبه طالب العلم لهذا: وهو أن السنن التي هي سنن تجب على طالب العلم؛ لأن هذا من إبلاغَ الرسالة، يعني: لو أن إنسانًا طالب علم معتبرًا عند الناس قام يصلي وترك رفع اليدين مثلًا عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول، أو ركع ركوعًا على غير وجه مشروع لعددته آثمًا؛ لأن هذا الفعل الذي أحل بالسنة فيه سيكون حجة للناس وسيقولون: لو كان هذا مشروعًا ما تركه فلان، كذلك الأفعال التي تكون مكروهة في حق غيره قد تكون في حقه محرمة.
كما أنه يجب أيضًا على طالب العلم أن يفعل ما يعتقد الناس أنه حرام، من أجل أن يعرفوا أنه ليس بحرام، يعني بعض الناس يقول: أي حركة في الصلاة تبطل الصلاة، فنقول: إذا وجد سبب الحركة، يعني: السبب الذي يبيحها فليفعله العالم حتى يبين للناس، لكن في هذه الحالة إذا خاف أن يُقتدى به، يبين بالقول أنه فعل ذلك لحاجة وأن الحركة في الصلاة إذا كانت لحاجة فلا بأس بها وما أشبه ذلك.
الفائدة العاشرة: شدة تأكيد الله عز وجل على إبلاغَ شريعته؛ لأن هذه الجملة: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} شديدة جدًّا مما يدل على أن الله عز وجل لا يرضى لعباده أن يتركوا شريعته غير مبلغة.
الفائدة الحادية عشرة: أن كتم شيء من الشريعة ككتم
جميعها، لقوله:{وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وهذا من فوائد القراءة الثانية {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتَهُ} ؛ لأنه قد يقول قائل: هو بلغ الرسالة فيما بلغ، فإذا قال:{فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} شمل الذي بلغ والذي لم يبلغ.
الفائدة الثانية عشرة: عناية الله تعالى بالرسول عليه الصلاة والسلام في عصمته من الناس لقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وهل هذه مطلقة أو مقيدة بما يحصل به البلاغ، يعني: يعصمك من الناس حتى تبلغ الرسالة؟ إن نظرنا إلى ظاهر الآية قلنا: إنها مطلقة، {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وإن نظرنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت إليه شاة مسمومة في غزوة خيبر
(1)
، وأكل منها وأثرت في لهواته، وكان أثرها مشاهدًا، وفي مرض موته أخبر أن أكلة خيبر ما زالت تعاوده وقال:"هذا أوان انقطاع الأبهر مني"
(2)
الأبهر: عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع هلك الإنسان، فهذا يدل على ما قيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات بسبب السم الذي حصل من هذه المرأة اليهودية، وقد قيل: إنها أسلمت، فإذا كان كذلك فيجب أن تقيد الآية، ويكون المعنى: يعصمك من الناس حتى تبلغ الرسالة، وفعلًا بلغ الرسالة وأنزل الله على رسوله نعيه في قوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1 - 3]، وحديث الشاة في البخاري ذكره تعليقًا
(1)
رواه البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (5441) عن أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، حديث رقم (4165) عن عائشة.
جازمًا به، والحديث المعلق عند البخاري يكون صحيحًا عنده ليس عند كل أحد، وقد ذكره معلقًا بصيغة الجزم.
الفائدة الثالثة عشرة: الإشارة إلى أن القلوب بيد الله عز وجل وأن أفعال الخلق متابعة لإرادة الله لقوله: {يَعْصِمُكَ} لأن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس تنقسم إلى قسمين:
إما عدم الإرادة: بأن يصرف الله القلوب عن قتله.
وإما بالعجز: بأن يحاول الفاعل ولكن يعجز، وهذا حصل كما في قصة بني النضير لما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام يستعين بهم كادوا له، قالوا: اجلس حتى نأتي لك، ثم انبعث واحد منهم بطبق الرحى، من أجل أن يلقيه على الرسول عليه الصلاة والسلام وهو جالس، فأخبره جبريل بهذا فقام ودخل المدينة، لكن هل هذا عصمة من الإرادة أو عدم القدرة؟ من عدم القدرة وإلا فقد أراد.
الفائدة الرابعة عشرة: أن الكافرين وإن كادوا لأولياء الله، فإن الله سبحانه وتعالى، لا يهديهم لقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} على تفسير أن المراد بالهداية دلالاتهم على تنفيذ ما يريدون، وقد قال الله تعالى:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 15 - 16] يعني: كيدًا أعظم من كيدهم، وقال:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
أما على الاحتمال الثاني: أنه لا يهديهم هداية شرع، فيكون فيه دليل على أن من قضى الله عليه بالكفر، فإنه لا يستطيع أحد أن يهديه؛ لأن الله لا يهدي القوم الكافرين.
الفائدة الخامسة عشرة: أن مَنْ عَلِمَ الله تعالى منه الكفر فإنه
لا يُهدى ولا يوفق، فتكون هذه الآية كقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68].
قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب هم: اليهود والنصارى، وهم يَدَّعون أنهم على حق وأنهم المقيمون لشرائع الله، ومع ذلك فبعضهم يقول لبعض: لستم على شيء، كما قال الله تعالى عنهم:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]، وكل منهم نفى أن يكون صاحبه على شيء إطلاقًا، أما الله سبحانه وتعالى فهو حَكَمٌ عدل، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:{لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: لستم على شيء من الدين، وإنما نفى أن يكونوا على شيء من الدين؛ لأن دينهم الذي هم عليه باطل حتى يقيموا التوراة والإنجيل، إذًا لستم على شيء من الدين؛ لأن دينهم الذي يَدَّعون أنه حق هو باطل، والباطل عدم وليس بشيء.
قوله: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} حتى: هنا غائية، يعني: إلى أن تقيموا التوراة والإنجيل، أي: تأتوا بها قائمة فاعلين أوامرها، تاركين نواهيها، مصدقين بأخبارها، هذا معنى إقامتها، فإقامتها: تكون بثلاثة أمور: الأول: فعل الأوامر، الثاني: ترك النواهي، الثالث: تصديق الأخبار.
قوله: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} التوراة: بإزاء اليهود، والإنجيل: بإزاء النصارى، ومعلوم أن اليهود لو أقاموا التوراة لآمنوا بعيسى، وأن اليهود والنصارى لو أقاموا التوراة والإنجيل، لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: وتقيموا ما أنزل إليكم من ربكم، والمراد به: القرآن؛ لأن التوراة والإنجيل مما أنزل، وإذا قلنا: إن المراد: بما أنزل إليكم من ربكم التوراة والإنجيل صار فيه شيء من التكرار، وإذا دار الأمر في الكلام بين التكرار وبين التأسيس، فالواجب حمله على التأسيس والمباينة فنقول:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني بذلك القرآن، ويؤيد ذلك من القرآن قوله تعالى:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4] وجعل هذه الجملة خاصة بالقرآن أبلغ في رفعة القرآن، حتى يكون القرآن موازيًا للكتابين جميعًا، ولا حاجة لأن نقول: ظاهرها العموم.
فإن قال قائل: القرآن نزل على أمة محمَّد؟ قلنا: نعم، القرآن نزل على أمة محمَّد وهم من أمة محمَّد، لكنهم من أمة الدعوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به، إلا كان من أصحاب النار"
(1)
قال: من هذه الأمة ويشير إلى أمته عليه الصلاة والسلام والمراد: أمة الدعوة.
(1)
تقدم في (1/ 163).
نقول: إذًا قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} المراد به القرآن، فإذا اعترض معترض بما ذكرنا، أجيب بما أجبنا به.
وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} في قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أنه يلزمهم أن يقيموه؛ لأنه نزل من عند الرب، والرب: هو الخالق المالك المدبر، فإذا كان الله هو ربكم لزمكم أن تقيموا ما أنزل إليكم منه؛ لأنه ربكم وسيدكم وإلهكم.
قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ} هل النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمره الله تعالى أن يقول قولًا، هل نقول: إنه قاله؟ نعم، نقول: إنه قاله لا شك؛ لأنه إن لم يقله لم يبلغ رسالة ربه.
إذًا: هو قال لهم ذلك، وأعلن لهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل والقرآن.
قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} انظر إلى الاحتراز {كَثِيرًا مِنْهُمْ} يعني: لا كلهم، بل بعضهم زاده القرآن إيمانًا، كما قال الله تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] لكنَ كثيرًا منهم يزداد طغيانًا وكفرًا والعياذ بالله.
وإعراب قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ} : (اللام) هنا واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير: والله ليزيدن، والنون للتوكيد، وعلى هذا تكون الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات وهي: القسم المقدر، واللام، والنون.
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ} (ما): هذه فاعل "يزيدن"، {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} وهو القرآن {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} لماذا يزيدهم طغيانًا وكفرًا؟ لأنهم كلما كذبوا بآية أو عصوا آية،
ازدادوا بذلك طغيانًا وكفرًا، وهذا نظير قوله تعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، فهم كلما نزلت آية ازدادوا طغيانًا وازدادوا كفرًا، نسأل الله العافية.
قوله: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحزن ويأسى إذا لم يقم الناس بأمر الله؛ لأنه رسول يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله، فهو يأسى حتى إن الله قال له:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} [الحجر: 97] وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3] يعني: مهلكًا نفسك ألا يكونوا مؤمنين، فلا تهتم، أدِّ ما عليك وبلغ الرسالة والباقي على الله {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26] أي: لا تحزن وتأسف على القوم الكافرين الذين ردوا رسالتك، وهذا لا شك أنه تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام في كونه يحزن إذا لم تُجَبْ رسالته صلى الله عليه وسلم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء، وعلى هذا فإذا زعموا أنهم مؤمنون قلنا لهم: كذبتم لستم على شيء، إلا إذا أقاموا التوراة والإنجيل.
الفائدة الثانية: أنه يجب على الإنسان أن يعلن براءته من هذا الشرك، ويبين أنهم ليسوا على شيء حتى نتبعهم لقوله:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} .
الفائدة الثالثة: إعطاء كل ذي حق حقه؛ لأنه خاطبهم بأهل الكتاب، مع أنهم حقيقةً ليسوا بأهل له، إذ إن أهل الكتاب هم الذين يقومون به، كما تقول: يا أهل القرآن، يعني: الذين يقومون به، فالوصف إذا أعطي صاحبه فهو عدل، كما أن فيه فائدة ثانية وهي: أنه لكونهم أهل كتاب، يلزمهم أن يقيموه.
الفائدة الرابعة: أنه لا تتم إقامة التوراة والإنجيل إلا بإقامة القرآن؛ لأن الله اشترط ثلاثة أشياء: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فمن ادعى أنه مقيم للتوراة وهو كافر بالإنجيل قلنا: هذا غير صحيح ودعواه باطلة، ومن ادعى أنه مؤمن بالإنجيل ولم يؤمن بالقرآن، قلنا: هذه دعوى باطلة.
الفائدة الخامسة: شرف القرآن لكونه نازلًا من عند الله.
الفائدة السادسة: أن القرآن كلام الله، وجه ذلك أن القرآن ليس عينًا قائمةً بنفسها حتى نقول: إنه مخلوق، بل هو وصف يقوم بالمتكلم به، وإذا كان وصفًا لزم أن يكون منزلًا غير مخلوق، أما قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، فهنا نقول: الأزواج مخلوقة؛ لأن الأزواج أعيانًا قائمة بنفسها، وكذلك قوله:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] أيضًا الحديد عينٌ قائمةٌ بنفسها لا يمكن أن تكون وصفًا لله، أما القرآن فهو كلام، والكلام لا بد أن يقوم بمتكلم فيكون منزلًا غير مخلوق، كما قال ذلك السلف رحمهم الله.
الفائدة السابعة: إثبات علو الله؛ لقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} والإنزال إنما يكون من أعلى.
الفائدة الثامنة: أنه يلزم من أقر بالربوبية أن يقر بالإلوهية
والشريعة لقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: من ربكم الذي لا تنكرون ربوبيته، وإذا كنتم لا تنكرون ربوبيته لزمكم أن تقوموا بأمره.
لو قال قائل: توحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله هو المالك والخالق والرازق، لماذا اقتصر على هذه الثلاثة فقط؟
الجواب: الرب معناه الخالق المالك المدبر ولا يوجد غير هذا.
الفائدة التاسعة: إضافة ربوبية الله للكافرين، لكن هذه الإضافة ليست إضافة تشريف ولكنها إضافة إقامة حجة، فأنت مثلًا إذا قلت: إن الله تعالى رب محمد عليه الصلاة والسلام هذه إضافة تشريف، لكن بالنسبة للكفار فالإضافة لبيان إقامة الحجة عليهم.
الفائدة العاشرة: أن كثيرًا من أهل الكتاب لا يزدادون بالقرآن إلا طغيانًا وكفرًا إما بالتكذيب وإما بالعصيان.
الفائدة الحادية عشرة: العدل في كلام الله وعدم المجازفة لقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} ولم يقل: كلهم؛ لأن الواقع أن بعضهم يزداد بالقرآن إيمانًا كما تقدم.
الفائدة الثانية عشرة: جواز توكيد الكلام بما يثبت صدقه وإن كان في الأصل صدقًا، لقوله:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ} مع إن خبر الله وإن لم يكن مؤكدًا فهو صدق بلا شك، لكن ما وجه تأكيده هنا؟ وجهه: أنه قد يستغرب أن يكون هذا القرآن الذي هو هدىً للناس لا يزيد هؤلاء إلا طغيانًا وكفرًا، فلما كان هذا محل استغراب، أكده الله عز وجل؛ لأن تأكيد الكلام إذا كان صادرًا من صادق لا بد أن يكون له سبب وإلا لكان التوكيد لغوًا.
الفائدة الثالثة عشرة: أن القرآن الكريم قد يزيد سامعه طغيانًا وكفرًا، وقد يزيده إيمانًا وذلًا، لقوله:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا} فإنه يفهم منه أن بعضهم لا يزيده طغيانًا وكفرًا، بل لا يزيده إلا إيمانًا وهذا كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
الفائدة الرابعة عشرة: أن الكفر يزيد وينقص، وجهه:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} وعليه فيكون هذا شاهدًا مؤيدًا لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كفر دون كفر؛ لأنه إذا كان يزيد وينقص، فلا بد أن يكون الأعلى فوق الأدنى، فيكون هناك كفر دون كفر.
هل يمكن أن نقول: وفيه دليل على أن الإيمان يزيد وينقص؟ نعم، ربما نقول هذا؛ لأن الكفر إذا كان يزيد وينقص فبإزائه الإيمان فلا بد أن يكون مثله يزيد وينقص، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص سواء بالأقوال أو بالأفعال أو باليقين.
ولينتبه لهذه الفائدة: الإيمان يزيد بالأقوال، فإن من ذَكَرَ الله ألف مرة ليس كمن ذكر الله مائة مرة، الأول أكثر وكذلك في الأفعال ليس من صلى مائة ركعة كمن صلى مائتي ركعة، الثاني أزيد، كذلك في اليقين: اليقين يختلف الناس فيه، الإنسان نفسه أحيانًا يكون في حالة صفاء وفي حالة فراغ، ويكون قلبه خاليًا من كل شيء سوى الله، فيجد لذة عظيمة في الإيمان وقوة عظيمة، حتى كأنه يشاهد الله عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الإحسان:"أن تعبد الله كأنك تراه"
(1)
، ويدل لهذا،
(1)
تقدم في (1/ 152).
أي: أن اليقين يزيد وينقص، أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] هذا وهو إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يقول: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وهذا شيء مشاهد، وليس الخبر كالمعاينة.
لو أخبرك إنسان من أوثق الناس عندك ومعه مثله أو أكثر، فإن يقينك بهذا الخبر ليس كيقينك به إذا شاهدته.
إذًا: الإيمان يزيد وينقص، وإذا كان يزيد وينقص فيجب علينا أن نلاحظ إيماننا هل زاد، هل نقص؟ فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.
الفائدة الخامسة عشرة: عناية الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {مِنْ رَبِّكَ} فإن هذه الربوبية للتشريف والتعظيم، وبيان أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يزيد فيما أنزل إليه ولا ينقص؛ لأنه نزل من ربه الذي اعتنى به أتم اعتناء.
الفائدة السادسة عشرة: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يأسى على القوم الكافرين، حتى إن الله تعالى بَيَّن له في آية أخرى، أن ما حصل منه واقع بمشيئة الله، من أجل أن يطمئن كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107] فإذا كان شركهم بمشيئة الله فإن الرسول لا شك أنَّه سوف يرضى، لكن لا يمنعه من الدعوة إلى الله، قال تعالى {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
فإن قال قائل: وهل هذا أيضًا يوجه إلى الداعي إلى الله بمعنى: أنه لو جاء أحد يشكو إليك يقول: أنا نصحت هؤلاء
القوم ولكنهم لم يأخذوا بنصيحتي، بل كابروا واستهزءوا وسخطوا، هل لك أن تقول: يا أخي لا تأسَ، ولا تحزن، ولا يضيق صدرك أو لا؟ نعم، تقول هذا حتى تفرج عنه وتفسح له، لئلا يقنط، فلذلك ينبغي للإنسان إذا جاءه أحد من دعاة الخير، أو من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يشكو إليه، أن يوسع له ويفسح له ويقول: لا تأسَ على هؤلاء، لكن بعض الناس إذا جاءه أحد يشكو يقول: والله الناس خراب من يستطيع يقدرهم إلا الله -نسأل الله العافية- سيحل بنا غضب ونقمة، ثم يدخل عليه حزنًا على حزن وهذا غلط؛ لأن الداعي إلى الله إذا قام بما يجب عليه، وما وراء ذلك فهو إلى الله عز وجل.
* * *
° قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة: 69].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: إيمانًا حقيقيًّا، وليس كما قال بعضهم: إيمان نفاق؛ لأنه لا يمكن أن يعبر عن المنافق بالمؤمن ما دام على نفاقه، فلينتبه لهذا، أما قبل أن ينافق فيمكن أن يكون قد آمن ثم كفر، كما قال عز وجل في المنافقين:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3] لكن يعبر عن المنافق حال نفاقه بالإسلام، لكن بالإيمان لا يمكن، ولهذا ضعف قول من قال: إن المراد بالذين آمنوا أي: آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، نقول: هذا لا يمكن أن يقع التعبير به في القرآن أبدًا، لكن الذي حملهم على هذا، أن الله عز وجل قال:{مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ} [البقرة: 126] فقالوا: كيف نقول: إن الذين آمنوا، من آمن منهم؟
نقول: هذا يكون تكرارًا، لكن يمكن أن نقول:"من آمن" اسم مشترك فيكون باعتبار الذين هادوا والصابئون والنصارى، أي: من دخل في الإيمان، وباعتبار الذين آمنوا، أي: من ثبت على إيمانه؛ لأن الإنسان قد يؤمن ثم يكفر -نسأل الله العافية- هذا وجه.
الوجه الثاني: أن نقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هذه (إنَّ) واسمها، أما خبرها: فمحذوف دل عليه ما بعده، والتقدير إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وعلى هذا التقدير يكون قوله:{وَالَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ فتكون الواو للاستئناف، أو معطوفة على محل إنَّ واسمها {وَالَّذِينَ} تكون مبتدأ.
قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} يعني: بذلك اليهود، ومعنى هادوا: رجعوا؛ لأنهم قالوا: إنا هدنا إليك، أي: رجعنا إليك وتبنا.
قوله: {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} الصابئون: أصل الصابئ هو الذي خالف دين آبائه وأجداده، يعني خرج عن دين قومه، فما المراد بهم هنا؟ قيل: إنهم فرقة من اليهود، وعلى هذا فيكون عطفها على {وَالَّذِينَ هَادُوا} من باب عطف الخاص على العام، وقيل: إنهم فرقة من النصارى، وعلى هذا فيكون عطف النصارى عليهم من باب عطف العام على الخاص.
وقيل: وهو الأظهر أنهم فرقة مستقلة؛ لأن الله ذكرها على وجه الاستقلال، فالصابئون على دين مخالف لدين اليهود ودين النصارى، ولعلهم أخذوا من هذا الدين ومن هذا الدين، وركَّبوا دينًا لهم.
وقوله: {وَالصَّابِئُونَ} الصابئون: معطوفة على {وَالَّذِينَ هَادُوا} ولا إشكال في إعرابها على الوجه الذي تقدم، وهو أن {وَالَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ، فتكون عطفت على مبتدأ فترفع، ويرجح هذا آخر الآية، لكن يرد علينا أنها ذكرت في آية أخرى بالصابئين، في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17].
فيقال: الفرق ظاهر لأن الآية الأخيرة ليس فيها ذكر الإيمان فيما بعد، وإنما فيها ذكر عموم الأجناس من كافر ومسلم، فتكون {وَالصَّابِئِينَ} معطوفة على {الَّذِينَ آمَنُوا} على: اسم {إنَّ} ، والخبر يأتي بعد:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} فهو يفصل بين المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين والمشركين، فلا تكون نظيرًا لهذه الآية، وإذا لم تكن نظيرًا لها، لم يكن إعرابها كإعرابها.
وقوله: {وَالنَّصَارَى} هم الذين ناصروا عيسى عليه الصلاة والسلام، قيل: إنما مأخوذة من النصرة، وقيل: إنها مأخوذة من الناصرة اسم بلدة، وفي كل منهما شيء من الإشكال؛ لأن النصارى لا تتطابق في الترتيب مع النصرة ولا مع الناصرة، لكنه لا شك أن المراد بهم بالاتفاق: هم الذين تبعوا عيسى عليه الصلاة والسلام.
قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إعراب {مَنْ آمَنَ} هل نقول: إنها شرطية، أو نقول: إنها اسم موصول؟ في ذلك قولان:
أحدهما: إنها شرطية، وعلى هذا فيكون جواب الشرط:{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ، وتكون الجملة الشرطية خبر للمبتدأ، ويجوز
أن تكون {مَنْ} اسمًا موصولًا فتكون بدلًا، أو عطف بيان لما سبقها، ويكون محلها في الإعراب محل ما سبق، وعلى هذا فيكون الخبر قوله:{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وربطت بالفاء؛ لأن الذين هادوا اسم موصول، وهو كاسم الشرط في العموم.
قوله: {مَنْ آمَنَ} ما محل {آمَنَ} من الإعراب؟ إن قلنا: "من" شرطية فمحلها الجزم على إنها فعل الشرط، وإذا قلنا: اسم موصول فلا محل لها من الإعراب؛ لأنها صلة الموصول.
لكن إذا قال قائل: أين العائد على التقديرين على أنها شرط أو اسم موصول؟
نقول: العائد محذوف وقد ذكر في آية أخرى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 62] فيكون المحذوف في هذه الآية قد دل على حذفه الآية الأخرى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} فلا بد من الإيمان بالله، والإيمان بالله يستلزم الإيمان بملائكته وكتيه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فالإيمان بالله متضمن لخمسة أركان من الإيمان، والحكمة من ذلك أن الأركان الأربعة أجملت تحت الإيمان بالله، وخُص الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه هو الذي يحمل الإنسان على العمل، إذا كان الإنسان في شك من اليوم الآخر والعياذ بالله، لن يعمل، ماذا يرجو وماذا يخاف؟ فلا يمكن الإيمان حقيقة إلا بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان به هو الذي يحمل على القيام بشريعة الله.
وقوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو يوم القيامة "وأل" فيه للعهد "والآخر" يعني: الذي لا يوم بعده؛ لأن نهاية مطاف الخلق هو اليوم الآخر إما إلى الجنة وإما إلى النار، جعلنا الله من أهل الجنة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فهو داخل في الإيمان باليوم الآخر: فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، وكذلك ما يكون بعد قيام الساعة من الحساب والميزان والكتب والصراط والحوض والشفاعة وغير ذلك.
لو سأل سائل: عبارة افعل الذي عليك والباقي على الله، هل تصح أو لا؟ فالجواب: نعم تصح، والباقي يعني ما وراء طاقتك على الله، يعني: ليس عليك، وهذا مثل قوله تعالى:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26] ومثل ما نقول: أعطِ فلانًا عشرة ريالات والباقي على فلان، فأيضًا أنت الآن الذي عليك هذا وقد بلغت، والباقي على الله لست مكلفًا به.
ولو سأل: هل صحيح قول من يقول: بأن أمة الإسلام لن يقوم لها قائمة حتى ينزل الله عز وجل عيسى عليه الصلاة والسلام ويبعث المهدي؟
فالجواب: والله لا أدري، والظاهر أنها لا تصح، أما في طائفة فقطعًا؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "لا تزال
طائفة من أمتي على الحق"
(1)
أما في الكل فلا أدري، ولكن قد يكون؛ لأن حقيقة الأمر إذا رأيت المسلمين اليوم، ولا أدري عن المستقبل وجدتهم أنهم في حال لا تستقيم على النصر متشتتون متفرقون، وبعضهم يحكم بغير ما أنزل الله، ويستهزئ ويسخر بالدين وأهل الدين، نسأل الله أن يعيد للمسلمين مجدهم.
قوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا} يعني: عمل عملًا صالحًا، والعمل الصالح: هو ما جمع شرطين: الإخلاص لله عز وجل، والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فقل: الإخلاص لله والمتابعة لشريعته، حتى يكون أعم، فيشمل الذين آمنوا بالرسل السابقين واتبعوا شرائعهم، فيقال: العمل الصالح ما جمع بين أمرين: الإخلاص لله والمتابعة للرسول الذي تكون شريعته قائمة.
فالعمل الصالح ضده العمل الفاسد، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(2)
، وهذا فقدت فيه المتابعة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركعه وشركه"
(3)
، وهذا فُقِدَ فيه الإخلاص.
واعلم أن الإخلاص لىيس بالأمر السهل، الإخلاص من أصعب ما يكون، حتى أن بعض السلف يقول: ما جاهدت نفسي
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال. . ."، حديث رقم (6881) عن المغيرة بن شعبة، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة. . ."، حديث رقم (1920) عن ثوبان.
(2)
تقدم في (1/ 110).
(3)
رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله. . .، حديث رقم (2985) عن أبي هريرة.
على شيء مجاهدتها على الإخلاص، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يشرك بالله وهو يعلم ويستغفره لما لا يعلم
(1)
، فالشرك أخفى من دبيب النمل على الصخرة السوداء
(2)
، لذلك يجب على الإنسان دائمًا أن يغسل قلبه من أدران الشرك، ويتفقده حتى لا يقع فيه وهو لا يعلم.
قوله: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أولًا: الإعراب: {لَا خَوْفٌ} بالرفع، مع أن "لا" في مقام النافية للجنس، والمعروف أن لا النافية الجنس تنصب الاسم وترفع الخبر كما قال ابن مالك رحمه الله:
عمل إن اجعل للا في نكره
…
مفردة جاءتك أو مكرره
فهنا نقول: لا، لم تنصب؛ لأنها كررت، وإذا كررت ألغيت، فيكون قوله:{لَا خَوْفٌ} : نافية، ولا نقول: للجنس، نقول: ليس عليهم خوف، أي: من المستقبل لأنهم آمنون ومطمئنون، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].
وقوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: على ما مضى؛ لأن ما مضى كله قد استوعبوه بطاعة الله، فلا يحزنون على ما مضى؛ لأنهم رضوا بعاقبته وثوابه ولا يخافون من المستقبل.
(1)
رواه البخاري في الأدب المفرد، كتاب الأذكار، باب فضل الدعاء، حديث رقم (716)، وأبو يعلى في مسنده (1/ 60)(58) عن أبي بكر الصديق.
(2)
رواه الحاكم في المستدرك (2/ 319) عن عائشة، وأبو يعلى في مسنده (1/ 162) 58، 61) عن أبي بكر الصديق، ولفظ الحاكم:"الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء".
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن من اليهود والنصارى والصابئين من هو مؤمن بالله واليوم الآخر، لقوله:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهو كذلك، فمثلًا اليهود الذين آمنوا بموسى حين كانت شريعته قائمة يدخلون في كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر، والنصارى الذين آمنوا بعيسى حين كانت الشريعة قائمة كذلك، والمؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم كذلك.
الفائدة الثانية: أن ثواب الله عز وجل لا ينبني على حسب ولا نسب، وإنما ينبني على الإيمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
الفائدة الثالثة: أنه ينبغي لنا عند التعبير أن نعبر عن اليهود باليهود وعن النصارى بالنصارى، لكن صار القسيسون من النصارى يلقبون أنفسهم بالمسيحيين، ليضفوا على ما هم عليه من الباطل ثوب الحق؛ لأنه إن انتسبوا إلى المسيح انتسبوا إلى دينه، ولكن المسيح بريء منهم؛ لأنهم لم يقبلوا بشارته ولم يصدقوا بها، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أخذ الله على النبيين الميثاق أنهم يؤمنون به وينصرونه، فوصفهم الحقيقي ولقبهم الحقيقي هو النصارى، وما زال أهل العلم الذين يكتبون في التاريخ من المسلمين وغير المسلمين ما زالوا يسمونهم بالنصارى، حتى عظمت دولة النصارى واستولت على كثير من البلاد الإسلامية وسمت نفسها بالمسيحية.
الفائدة الرابعة: إثبات اليوم الآخر، لقوله:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ويدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما يكون
بعد الموت، فسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه من أحوال اليوم الآخر، ونعيم القبر وعذابه كذلك، وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا كذلك
(1)
، فكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فإنه داخل في الإيمان باليوم الآخر.
الفائدة الخامسة: أن الإيمان وحده لا يكفي، لقوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} فلو أن الإنسان كان مقرًا بالله وباليوم الآخر وبالملائكة وبالكتاب والنبيين والقدر، ولكن ليس عنده عمل صالح، فإن عليه الخوف وله الحزن؛ لأن الله لم ينفِ الخوف والحزن إلا عمن آمن وعمل صالحًا.
فإن قال قائل: على هذا التقرير هل ترون أن ترك العمل الصالح، يكفر به الإنسان؟
الجواب: لا، لأن التكفير شيء، والخوف من الذنوب والحَزَن على ما فات شيء آخر، ولا نطلق الكفر إلا على من كفره الله ورسوله؛ لأن التكفير حكم شرعي يترتب عليه أمور عظيمة، والأحكام الشرعية لا تتلقى إلا من الشرع، فلا يجوز أن نصف أحدًا بأنه كافر دون أن يكون كافرًا بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، ولا أن نسلب عنه الكفر إذا كان الكتاب والسنة يقتضي
(1)
انظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، حديث رقم (6527)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2859) عن عائشة، ولفظ البخاري:"تحشرون حفاة عراة غرلًا". قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ ! فقال: "الأمر أشد من أن يهمهم ذاك".
كفره، ولكن يبقى النظر إذا جاء إطلاق الكفر في الكتاب والسنة فهل نحمله على الكفر الأكبر أو على الكفر الأصغر؟
الجواب: الواجب أن نحمله على الكفر الأصغر؛ لأن الأصل بقاء إسلام المسلم، فلا نخرجه من دائرة الإسلام إلا بيقين؛ لأن اليقين لا يرفع إلا بيقين، ولا يمكن أن يزال اليقين بالشك، فإذا جاء في القرآن والسنة إطلاق الكفر على عامل عمل كذا وكذا، وشككنا هل المراد الكفر المخرج من الملة أو الكفر الأصغر، فالواجب أن نحمله على الكفر الأصغر؛ لأن الأصل بقاء الإسلام حتى نتيقن أنه خرج من الإسلام، ولأن التعبير بالكفر في مواطن كثيرة يتيقن الإنسان أنه الكفر الأصغر بدلالة القرآن والسنة، مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"
(1)
.
إذا قال قائل: إذًا من قاتل المؤمنين فهو كافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قتاله كفر" نقول: هذا ليس بصحيح؛ لأن الله قال في كتابه العزيز: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، إلى قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، ولو كان المقاتل كافرًا كفرًا أكبر لم يكن أخًا لنا، وكذلك قال في القصاص فيمن قتل المؤمن:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أخيه أي: القاتل، مع أن قتل المسلم كفر.
فيقال: هذا يدل على أن إطلاق الكفر لا يقتضي الخروج من الإسلام، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهما كفر:
(1)
تقدم في (1/ 299).
النياحة والطعن في النسب"
(1)
، وأمثال هذا كثير، وعلى هذا فنقول: الكفر حكم شرعي لا يجوز إطلاقه إلا على من أطلقه الله ورسوله عليه.
ثم الكفر نوعان: أصغر وأكبر، فإذا علمنا أن هذا من الكفر الأكبر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، قلنا: هو كفر أكبر، وإذا لم نعرف وجب حمله على الكفر الأصغر؛ لأن الإسلام متيقن، والكفر مع الاحتمال ليس بمتيقن، ولأنه لا يمكن أن نستبيح دم امرئ مسلم إلا بنص صريح واضح.
فإذا قال قائل: إذا ثبت أن هذا كفر، فهل نحكم به على الشخص المعين أو لا؟
نقول: نعم، نحكم به على الشخص المعين، إذا تمت شروط التكفير فإننا نحكم عليه بأنه كافر بعينه، فلو رأينا رجلًا لا يصلي أبدًا قلنا: هذا كافر كفرًا مخرجًا عن الملة، للأدلة المعروفة التي لا تخفى على كثير من طلبة العلم.
لو قال قائل: الذين يقولون: إن تارك الصلاة ليس بكافر، يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"
(2)
وهذا كفر دون كفر، كيف نرد عليهم؟
(1)
تقدم في (1/ 435).
(2)
رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم (2621)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، حديث رقم (463)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، حديث رقم (1079)، وأحمد (5/ 346)(22987) عن بريدة.
الجواب: نرد عليهم بنفس الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بيننا وبينهم"، أي: فاصل، فإذا كان هذا بيننا وبينهم معناه فاصل بين الكفر والإيمان، وأيضًا حديث جابر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام:"بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"
(1)
فما دام الرسول قال: "من تركها فقد كفر" وأطلق كيف نقيدها؟ وإذا قيدناها بمن جحد الفريضة، قلنا: هذا غلط؛ لأن من جحد الفريضة يكفر ولو صلى، والحديث يقول:"فمن تركها" وإذا قال: المراد تركها مع الجحد؛ فنقول: هذا الرجل ألغى الوصف الذي اعتبره الشرع وأتى بوصف لم يعتبره الشرع؛ لأن الجحد يكفر به الإنسان بالإجماع، إلا حديث عهد بالإسلام لا يدري فهذا يُعَلَّم.
فإن قال قائل: وهل نكفره بعينه؟ قلنا: نعم، نكفره بعينه وندعوه إلى الصلاة، إن صلى ارتفع عنه الكفر والقتل، وإن لم يصلِ قتل كافرًا بعينه، وكذلك لو رأينا شخصًا يسجد للصنم، والسجود للأصنام كفر أكبر مخرج عن الملة، نحكم عليه بعينه، بأنه كافر ونستبيح دمه وماله، ولو سمعنا أحدًا يسب الله ورسوله، نحكم عليه بعينه أنه كافر، ونستتيبه على القول الراجح، وإذا تاب رفعنا عنه القتل ووصف الكفر وإلا قتلناه كافرًا وهلمَّ جرَّا.
الحاصل أن ظن بعض الناس أنه لا يُكَفَّر أحد بعينه إلا إذا جاء في القرآن والسنة أنه كافر بعينه، هذا غلط عظيم، ولو أخذنا بهذا القول ما بقي أحد كافر، نعم لا نحكم له بالنار إلا إذا عُيِّنَ في الكتاب والسنة، وهناك فرق بين الحكم بالكفر وبين الشهادة له
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، حديث رقم (82) عن جابر بن عبد الله.
بالنار، فإننا لو شهدنا بأنه كافر، لا نقول: إنه في النار بعينه، لكن نقول: هذا كافر، وكل كافر في النار، فصحيح كل كافر في النار، وأهل السنة والسلف أنكروا الشهادة لمعين بألقاب المدح والثناء ولم ينكروا التعميم، وقد خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنكم تقولون: فلان شهيد فلان شهيد، ولعله حمَّل بعيره يعني غلولًا، لا تقولوا: شهيد ولكن قولوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد
(1)
. فيجب أن نعلم الفرق بين الحكم بالكفر وبين الشهادة بالنار.
تقدم أنه يحكم بكفر المعين إذا تمت شروط التكفير، وشروط التكفير لا بد من معرفتها:
أولًا: أن يكون الإنسان قاصدًا لما قال أو فعل، فإن لم يكن قاصدًا فلا شيء عليه؛ لأنه مغلوب، وجميع الألفاظ التي يغلب عليها الإنسان، لا حكم لها لا في الكفر ولا في الطلاق، ولا في العتق، ولا في الوقف، ولا غير ذلك، فإنه لا حكم لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"
(2)
، وقال الله عز وجل:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، فلا بد من القصد، بناءً على ذلك: لو أكره الإنسان على الكفر، فإنه لا يكفر بنص القرآن قال تعالى:
(1)
رواه النسائي، كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة، حديث رقم (3349)، وأحمد (1/ 40) عن أبي العجفاء.
(2)
رواه أبو داود، كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الغلط، حديث رقم (2193)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، حديث رقم (2046)، وأحمد (6/ 276)(26403) عن عائشة.
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106]، ولو أن إنسانًا قال كلمة الكفر من شدة الغضب، فإنه لا يكفر لعدم القصد لأنه ما قصد أن يتكلم بهذا، لكن غُلِب عليه حتى تكلم فلا يكفر، وعكس الأول، لو أن الإنسان قال كلمة الكفر من شدة الفرح عكس الأول، فإنه لا يكفر؛ لأنه مغلوب ولم يقصد، والحديث في هذا صريح في "قصة الرجل الذي أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه حتى أيس منها، فنام تحت شجرة فإذا بالناقة قد حضرت فأخذ بزمامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"
(1)
، فليس عليه شيء، وكلامه هذا لا يترتب عليه شيء؛ لأنه عن غير قصد، لكن مع الفرح الشديد أخطأ.
ومن ذلك أيضًا الخطأ في التأويل، لو أن إنسانًا فعل ما يكفر تأويلًا، وظنًا منه أن هذا هو الحق، فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد الكفر، وإنما فعل هذا الشيء أو قال هذا الشيء بناءً على أنه حق وحلال، ولو علم أنه كفر لكان أشد الناس نفورًا منه، ويشهد لذلك "قصة الرجل الذي كان مسرفًا على نفسه، فأمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويلقوه في اليم وقال: والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين -فهذا إنما قال هذا الشيء خوفا من عقاب الله، وأَمَرَ بهذا الشيء خوفًا من عقاب الله
(1)
الحديث بتمامه عند مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، حديث رقم (2747)، وهو عند البخاري مختصرًا، كتاب الدعوات، باب التوبة، حديث رقم (5950) عن أنس بن مالك.
وظنًّا منه أنه لو بعثه الله لعذبه عذابًا شديدًا- فجمعه الله عز وجل وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال: يا رب فعلت هذا خوفًا منك، فغفر الله له"
(1)
اللهم لك الحمد: غفر الله له؛ لأنه إنما فعل هذا خوفًا من عقاب الله عز وجل، فظن أن هذا لا يضره.
ومنهم على بعض التفاسير فعل يونس عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وألا نضيق عليه أشد من الضيق الذي حصل له، والذي حصل له من الضيق أشد، ولكنه عليه الصلاة والسلام لا شك أنه ما قال هذا إلا عن تأويل، أو ما ظنه إلا عن تأويل، وهذه المسألة مهمة بنى عليها الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه: أن الخوارج ليسوا كفارًا؛ لأنهم استباحوا دماء المسلمين بتأويل، هم يرون أنهم يتقربون إلى الله بقتل المسلمين؛ لأنهم لا يرون أنهم على حق، أي: أن المسلمين ليسوا على حق، فهم متأولة، ومن العلماء من أطلق كفرهم بناءً على الأحاديث الواردة فيهم، والآخرون قالوا: هذا في الخوارج المعينين الذين خرجوا على علي بن أبي طالب، وليس كل خارج يكون كافرًا، فالمهم الآن اشتراطنا القصد وهذا أهم شيء.
الجاهل غير قاصد للمخالفة، ولينتبه طالب العلم لمسالة القصد فهي مهمة جدًّا جدًّا، فالجاهل الذي يسجد للصنم ظنًّا منه أنه ليس حرامًا؛ لأنه عاش في بلد الكفر وكان حديث الإسلام،
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] حديث رقم (7067)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله، حديث رقم (2756) عن أبي هريرة.
فظن أن هذا لا يضر، فهل نقول: إنه كافر؛ لأنه مشرك أو لا؟ لا نقول هذا، حتى نُعَلِّمُهُ أن هذا شرك، فإذا أصر على ذلك وقال: إنه وجد أباه على ذلك؛ صار كافرًا.
الزنا حرام بإجماع المسلمين، فلو أنكر أحد تحريمه لأنه لم يعرف الإسلام، لأنه أسلم حديثًا فإنه لا يكفر لأنه لا بد له من العلم، وهذا تدل عليه أحاديث كثيرة وآيات كثيرة، قال الله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص: 59]، ومن الظالم؟ الظالم: الذي يفعل المخالفة عن قصد وعلم، وأما من فعلها عن جهل أو خطأ في تأويل أو غيره فليس بظالم.
فلا بد من مراعاة هذه الأشياء لئلا تزل القدم، فتكفر من لم يكفره الله ورسوله، وإذا كفرت من لم يكفره الله ورسوله باء الكفر عليك -نسأل الله العافية- كما جاء في الحديث الصحيح:"أن من دعا رجلًا بالكفر، أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"
(1)
أي: رجع عليه.
عكس ذلك من لا يكفرون بترك الأعمال أبدًا، حتى ما جاء به الشرع لا يقرون به، فيقولون: إنه لا كفر إلا في الاعتقاد فقط، وأما الأعمال فليس فيها كفر، يزني، يسرق، يقتل، يترك الصلاة، يترك الزكاة، يترك الحج، ولا يكفر، وهذا خطأ، ودائمًا الحق
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، حديث رقم (61) عن أبي ذر.
يكون بين طرفي نقيض إما إفراط وإما تفريط، والواجب علينا أن نتعبد لله عز وجل بما نذكر من أحكامه وبما نفعل من شريعته، فلا نذكر من أحكامه ما لم يذكره، إذا كان الله يقول:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] فكيف بالذي يقول: هذا كفر وهذا إسلام، هذا أشد؛ لأن الكفر يترتب عليه أحكام عظيمة، يترتب عليه أن هذا الذي حكمنا بكفره دمه حلال، وماله حلال ولا تبقى معه زوجته، ولا يدفن مع المسلمين، وإذا كان إمامًا يجب الخروج عليه، وما أشبه ذلك من الأمور العظيمة، هذه ليست كلمة تقال، المسألة خطيرة جدًّا.
ثم بعد ذلك هؤلاء الذين يكفِّرون من لم يكفره الله ورسوله، هم يكفرون بقتالهم المسلمين، قتالهم المسلمين كفر كما جاء في الحديث الصحيح
(1)
، وإذا قلنا: إنه كفر أصغر كما تدل عليه آية الحجرات، قلنا: ولكنه يحتمل أن تنجر به المعاصي والكبائر، حتى يكفر كفرًا أكبر.
فالمهم أن في مثل هذه المسائل يجب علينا ألا نتقدم بين يدي الله ورسوله، وألا نكفر من لم يكفره الله ورسوله، وألا نحجم عن تكفير من كفره الله ورسوله، الحمد لله، الأمر إلى الله ليس لنا ولا لفلان ولا لفلان.
لو قال قائل: ذكرتم أن الشرط الأول أن يكون الإنسان قاصدًا لما قال أو فعل، هل هناك شروط غيرها كالعلم مثلًا؟
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، حديث رقم (5697)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، حديث رقم (64) عن ابن مسعود.
الجواب: العلم داخل في القصد، وحقيقة أن الشرط الوحيد الأكيد هو الذي ذكرت، وهو القصد وأما الجاهل، فقد قصد العمل لكن لم يقصد المخالفة، ولهذا كان القول الراجح في الحنث في الإيمان أنه إن حنث في يمينه جاهلًا أو ناسيًا فلا كفارة عليه، فلو قال: والله لألبسنَّ هذا الثوب، ثم وجد ثوبًا معلقًا فلبسه ولا يدري أنه الثوب الذي حلف عليه فليس عليه شيء، المهم قد تكون جميع الشروط التي تذكر تعود إلى هذا الشرط.
لكن قد يقول قائل: ما رأيكم في المستهزئ أيكفر أو لا؟
الجواب: يكفر بنص القرآن، فكيف يتفق هذا مع القول بأنه يشترط القصد؟ نقول: نعم؛ لأن المستهزيء قصد الفعل أو القول لكن لم يدرِ عما يترتب عليه، نظير ذلك الإنسان الذي جامع في نهار رمضان يدري أنه حرام لكن لا يدري ماذا يترتب عليه، نقول: يجب عليه الكفارة.
لو قال قائل: نجد أناسًا يقولون: إن الكفر يكون بالأعمال، ويقولون: الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل إذا تقرر وصار عامًّا وليس في مسألة واحدة، إنما مقررًا ومشروعًا مستبدلًا به حكم الله عز وجل، فإنه كفر، ويجب علينا أن نكفر من أقر هذا الحكم حتى ولو كانت أكثر أحكامه بما أنزل الله عز وجل لكنه قرر عشرة بالمائة من أحكامه من غير ما أنزل الله وأقرها وناضل عنها فإنه يكفر، هل هذا صحيح أم ماذا؟
الجواب: ينظر هل هو عن قصد، هل هو عن تأويل، وهل هو أراد أن يستبدل شريعة الله بشريعة أخرى؟ الناس يختلفون؛
لأن الذي يحكم بغير ما أنزل الله قد يكون ظالمًا، يعني يريد أن يضر المحكوم عليه، لا يريد إلا هذا، هذه معصية من المعاصي كما لو أخذ ماله بدون حكم، أو يريد مصلحة لنفسه، هو لا يريد أن يأخذ من المحكوم عليه شيئًا لكن يريد مصلحة لنفسه، فيحكم بغير ما أنزل الله، هذا أيضًا لا يكفر بلا شك، هذا يكون فاسقًا، وتارة يحكم بغير ما أنزل الله غير راض بحكم الله، فهذا يكفر؛ لأنه أنكر الشريعة، وتارة يحكم بغير ما أنزل الله متأولًا، إما بنفسه وإما بما يزين له.
ولنضرب لهذا مثلًا: بعض العلماء من المسلمين يقولون: مسائل الحياة جعل الشرع مطلقة، ينظر الإنسان ما هو أصلح للناس ويفعله، ثم يستدلون بأشياء هي شبهات ليست بحجج، فيقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ووجدهم يلقحون النخيل، فقال لهم:"ما هذا؟ " كأنه يقول: اتركوه لا تلقحوه، فتركوه ففسد الثمر، فجاءوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا له: يا رسول الله، هذا الثمر فسد، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"
(1)
أخذ بعض الناس من قوله: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" أي: الذي يرونه من المصلحة يفعلونه، حتى الربا الذي يسمونه الربا الاستثماري يقولون: إنه جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم أعلم"، وما دام أن البنك مثلًا يعطي هذا الفقير أموالًا عظيمة ينشئ بها المصانع أو يحرث بها الأراضي، أو يتجر بها، فهو منتفع والفقير منتفع،
(1)
رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي، حديث رقم (2363) عن أنس.
هذه مصلحة للطرفين، وما دامت مصلحة للطرفين فإنه حلال، فيموهون بمثل هذا.
فإذا كان الحاكم جاهلًا بأحكام الشرعية، وجاءته بطانة تلبس عليه الأمور ربما أنه يميل إليها، فغلط عظيم إذا كفرناه كيف نحكم بكفره، ولم تتم الشروط، لا بد من الشروط، لكن يجب على أهل العلم أن يبينوا أن هذا حرام وأنه لا يجوز، وتقوم عليه الحجة.
° قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} [المائدة: 70].
قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات وهي: القسم المقدر، واللام، وقد، والضمير في قوله {أَخَذْنَا} يعود إلى الله عز وجل، وجاء بهذه الصيغة تعظيمًا لنفسه تبارك وتعالى؛ لأنه أعظم العظماء.
وقوله: {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الميثاق هو العهد الثقيل، كأنه وَثَقَ به المعاهد، وقد بَيَّنَ الله في هذه السورة ما هو العهد الذي أخذ عليهم، وما هو العهد الذي لهم عند الله، فقال الله تعالى:{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12] هذا العهد الذي أُخِذَ عليهم، خمس مواد في هذا الميثاق أخذها الله تعالى على بني إسرائيل، وجعل لهم عهدًا على الله في قوله {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [المائدة: 12].
قوله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} منهم من كان من أولي العزم كموسى وعيسى، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72] وقوله تعالى عن موسى: {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] وفي سورة الصف ذكر هذا وهذا، ومنهم من دون ذلك، أرسل الله إليهم الرسل.
وقد قال بعض العلماء: تحتمل الآية أن العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل؛ هو ما فطر الله الخلق عليه من توحيده تبارك وتعالى، فيكون في قوله:{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: بالتوحيد {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} بالرسالة، للجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالرسل.
وقوله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} لم يبين الله تبارك وتعالى عددهم؛ لأن المهم الجنس وليس العدد، فماذا كان موقفهم من الرسل؟
قال الله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)} كما: أداة شرط، وهي مع كونها شرطية تفيد التكرار، انظر إلى قوله تعالى:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] تفيد التكرار، والشرطية يعني أنهم لا يمشون إلا إذا أضاء لهم، وكل ما أضاء لهم مشوا فيه، وفي هذه الآية:{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا} بعض المفسرين زعم أن في الآية حذفًا، والتقدير: كما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم عصوا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، ولكني أرى أنه لا حاجة لهذا التقدير، وإذا لم يكن حاجة للتقدير فإن
تقديره يكون زيادة لا محل لها، بل نقول: كما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا من الرسل، وقتلوا فريقًا من الرسل.
وقوله: {جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى} أي: بم لا تريده وتميل إليهم، لم يستجيبوا، بل كان رد فعلهم إما القتل وإما التكذيب.
قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا} (فريقًا) هنا مفعول مقدم لكذبوا، وجملة كذبوا جواب الشرط أي: جواب "كما"، أي: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا، ولم يقل: كذبوه؛ لأن منهم من كُذِّب ونجا من القتل ومنهم من قُتل، ولن يقتل إلا بعد أن يُكذب.
قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} ولم يذكر الله تعالى فريقًا ثالثًا وذلك لقلته وهو الإيمان به، يعني: وفريقًا يؤمنون به ولكنه قليل، وكما سبق: إن القليل لا يعتبر ولهذا يهمل ذكره دائمًا.
وقوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا} التكذيب هو: رد خبر المخبر، فإذا قال لك فلان: قام زيد، فقلت: لم يقم؛ هذا تكذيب؛ لأنك رددت خبره.
وقوله: {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} القتل معروف، وأتى في القتل بكلمة يقتلون، إشارة إلى استمرار قتلهم للأنبياء؛ لأن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، والماضي يدل على الماضي والانتهاء، وربما يكون في هذا -والله أعلم- إشارة إلى أنهم لا يزالون يقتلون الأنبياء حتى آخرهم عليه الصلاة والسلام وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: تأكيد الكلام بالقسم وغيره من المؤكدات ولو كان المخبر به صادقًا، لقوله:{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، فأكد الله تعالى كلامه بالقسم واللام وقد.
فإن قال قائل: أليس الله تعالى أصدق القائلين بلا توكيد؟
الجواب: بلى، لكن القرآن الكريم نزل بلغة العرب، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ لأن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هو البلاغة، فإذا كان كذلك فالقرآن أبلغ الكلام، فإذا اقتضت الحال أن يؤكد الكلام أكد، وهنا الحال تقتضي التأكيد لتقوم الحجة على بني إسرائيل؛ لأن الله تعالى أخذ منهم الميثاق وانقسموا إلى فريقين.
الفائدة الثانية والثالثة: أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل ولم يقتصر على ذلك، إذا قلنا: إن المراد الميثاق الفطرة، بل أرسل إليهم رسلًا تأييدًا للفطرة.
ويتفرع على هذه الفائدة: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، وأنه لم يكلهم سبحانه وتعالى إلى ما علموه بفطرهم، بل أرسل إليهم الرسل لتؤكد ذلك.
الفائدة الرابعة: حكمة الله تعالى بإرسال الرسل أفرادًا وجماعات، لقوله:{وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} إسرائيل فيهم رسل متعددون، فمثلًا إبراهيم ولوط كانا في زمن واحد، ويوسف وأبوه في زمن واحد، ويعقوب وإسحاق في زمن واحد، لكن ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون هناك نبيان أو رسولان، لماذا؟ لأنه خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
الفائدة الخامسة: نقض بني إسرائيل للعهد، لقوله:{وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} ، وحينئذٍ لم يقوموا بالعهد.
الفائدة السادسة: التحذير مما فعلت بنو إسرائيل من تكذيب الرسل والعدوان عليهم؛ لأن الله لم يقص علينا قصص الأنبياء وقومهم؛ لنعلمها تاريخيًا فقط؛ بل لنعتبر بها، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
الفائدة السابعة: أن بني إسرائيل لا تؤمن إلا بما وافق هواها، لقوله:{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا} إلى آخره.
الفائدة الثامنة: أن المتكلمين الذين بنوا أصول عقيدتهم على العقل كالمعتزلة، والجهمية، والأشعرية، وأمثالهم فيهم شبه من اليهود، فإنهم إذا أتاهم النص بما لا يرون كذبوه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، أو حرفوه إن لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا؛ لأنهم يرون مرجع ما أخبر الله به عن نفسه العقل، فإذا جاء النص بما لا يهوون حسب عقولهم كذبوه وأنكروه، إن استطاعوا التكذيب ومن الذي ادعوا أنه كذب أخبار الآحاد الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
يقولون: أخبار الآحاد لا يمكن أن تثبت بها عقيدة؛ لأنها خبر واحد، والخبر الواحد يلحقه الظن، والظن لا يمكن أن تُبنى عليه عقيدة، وعلى هذا يُرد أكثر الأحاديث الواردة في الصحيحين؛ لأن أكثرها أخبار آحاد، ثم نقول لهم: هل تقبلون خبر الواحد في الأحكام كالأوامر والنواهي؟ سيقولون: نعم، نقول: قبولكم ذلك مع أن الخبر يدل على وجوب، أو تحريم، أو كراهة، أو استحباب، وهذا لا بد منه، بمعنى لا بد أن تصلي
وأنت تعتقد أنها فريضة واجبة وهذه عقيدة، لكن هذه عقيدة فيما فُرِض على الإنسان أو فيما طولب به الإنسان، وتلك عقيدة فيما أثبت الله لنفسه.
وعليه فنقول: حتى أخبار الأحكام تستلزم العقيدة، إذ إن كل حكم لا بد أن يُعْتَقد فيه الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو التحريم، المهم أن المتكلمين الذين ردوا ما لا تقتضيه عقولهم يُشْبِهُون بني إسرائيل الذين إذا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
الفائدة التاسعة: الحذر من هوى النفس، وأن هوى النفس قد يؤدي إلى الهلاك، وإلى فعل ما يقبح شرعًا وعقلًا.
الفائدة العاشرة: أن بني إسرائيل فريقًا منهم كذبوا الرسل، وفريقًا يقتلون الرسل، ولا يبالون بذلك؛ لقوله:{فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} .
* * *
° قال الله عز وجل: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} [المائدة: 71].
قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} حسبوا بمعنى ظنوا، (أن لا تكون فتنة) فيها قراءتان: ألا تكونُ بضم النون و {أَلَّا تَكُونَ} بفتح النون، فعلى قراءة الضم تكون "أن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، وجملة "تكون" في محل رفع خبرها، وعلى قراءة النصب تكون "أن" مصدرية و"لا" نافية، و"تكونَ" فعل مضارع منصوب بـ "أن" المصدرية، فهنا سلط العامل على ما بعده مع الفصل بـ "لا" النافية.
حينئذٍ يسوغ لنا أو ينبغي لنا أن نتكلم على "أن"، فـ "أن" إذا كان ما قبلها عِلْمًا فإنه يجب الرفع، كما في قوله تعالى:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]، وإذا كان ما قبلها يفيد الظن جاز الوجهان، وإذا كان ما قبلها ليسس علمًا ولا ظنًّا وجب النصب، فمثلًا تقول: يعجبني من الطالب ألا يجادل، كيف نقرأ حركة اللام؟ ألا يجادلَ فيتعين النصب، وإذا كان ظنًّا تقول: علمت ألا يكونُ كذا، وتكون "أن" المخففة من الثقيلة، فإذا كان ظنًّا جاز فيها الوجهان.
في الآية الكريمة: {وَحَسِبُوا} أي: ظنوا، ولذلك جاز الوجهان؛ النصب والرفع، {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، أي: حسبوا ألا يكون من جراء فعلهم هذا وهو التكذيب والقتل ألا تكون فتنة، أي: ألا يفتنوا بتسليط الأعداء عليهم، أو بعذاب يعاقبون به، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] فاستمروا في طغيانهم، {فَعَمُوا وَصَمُّوا} عموا عن الحق فلا يرونه، وصموا عنه فلا يسمعونه، {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بعد أن أراهم شيئًا من العذاب تاب الله عليهم، ثم رجعوا لكن لم يرجعوا كلهم، بل بعضهم انتفع بهذه الفتنة التي تاب الله عليهم بعدها، وبعضهم استمر، ولهذا قال:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} فصار بنو إسرائيل:
أولًا: عموا وصموا جميعًا، ثم تاب الله عليهم، ثم رجعوا لكن لم يرجعوا كلهم ولكن البعض، عموا وصموا كثير منهم، والذين لم يعموا ولم يصموا قليل.
قال بعض العلماء: أن هذا هو ما ذكره الله تعالى في سورة {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الإسراء: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} هذا بعد التوبة، {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء: 4 - 7]، لكن سياق الآية في الإسراء لا يناسب ما في هذه السورة، فالذي في هذه السورة أنهم قتلوا وكذبوا وظنوا أن لا يكون لذلك أثر، ولكن كان له أثر، ما هذا الأثر؟ لا ندري -الله أعلم- بعد هذا الأثر ما الذي حصل منهم؟ عموا وصموا كثير منهم في هذه الفتنة، يعني عموا عن الحق وصموا عنه، وليس المراد عميت أعينهم الباصرة وآذانهم السامعة، ثم تاب الله عليهم ووفقهم للهداية ثم عموا وصموا بعد ذلك كثير منهم، وليس بلازم أن نعرف ما أبهمه الله في القرآن، ما أبهمه الله في القرآن قد يكون فيه مصلحة، والمقصود معرفة القصة من حيث هي.
لو قال قائل: في قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} : ألا يكون المراد بهذا من جاء بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قام عليهم الحق لا سيما وقد قال: "ثم"؟
الجواب: ربما يكون هذا أو قبله أيضًا من بني إسرائيل الذين سلط عليهم العدو أو أصابته الجدوب والقحط وغير ذلك.
قوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} {كَثِيرٌ} قال بعض الناس: إنها فاعل عمي وصم، وأن الواو في عموا وصموا حرف دال على الجمع فقط، كالضمير في قولك: عليكم أو عليهم، فالواو في عموا وصموا حرف دال على الجمع، وهو خلاف المشهور من لغة العرب ويعبر عن هذه اللغة بـ "أكلوني البراغيث" وقيل: إن الواو في عموا وصموا فاعل، وأن "كثيرٌ" بدلٌ من الواو بدل بعض من كل، وهذا هو الأقرب، أن الله تعالى عمم أولًا ثم أبدل من هذا التعميم بأنهم كثير، وحينئذٍ نقول: القرآن الكريم لم يكن على لغة "أكلوني البراغيث" ولا يصح أن نقول بها في القرآن؛ لأن القرآن بلسان عربي مبين.
قوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصير هنا تشمل معنيين: المعنى الأول: البصير بالعين عز وجل، والثاني: البصير بالعلم، وقد اجتمع المعنيان في حق الله عز وجل.
وقوله: {بِمَا يَعْمَلُونَ} يشمل الفعل والقول، لكن كيف يكون القول عملًا؟ نقول: المراد عمل اللسان، لكن لا يكون القول فعلًا؛ لأن الفعل خاص بالجوارح، فالله سبحانه وتعالى {بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يراه ولا يخفى عليه، و {بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يعلمه؛ لأن المعمول قد يكون ذات جسد فيُرى، أو غير جسد فلا يُرى، وكلاهما يُعلم، فإذًا نقول: بصير يشمل معنيين: بصير بمعنى الرؤية، وبصير بمعنى العلم، والثاني أعم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن من غباوة بني إسرائيل أنهم يظنون ألا تقع فتنة مع كونهم يقتلون الرسل ويكذبون فريقًا منهم، وهذا يدل
على الغباوة، وعلى أن قلوبهم قد طبع عليها والعياذ بالله فلا تميز بين الأشياء.
لو قال قائل: كثيرًا من الصفات التي ذكرها الله عز وجل في بني إسرائيل موجودة في بني إسرائيل الذين يعاصروننا الآن من التعنت والعناد، فبني إسرائيل الآن فيهم خبث، لكنهم ليسوا بأغبياء، بل هم يسيطرون على العالم اقتصاديًا ومتقدمون في الصناعات؟
الجواب: هؤلاء اليهود أغبياء باعتبار فهم الحق، فهم ليسوا أغبياء بسبب الذكاء، واجعل على بالك دائمًا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المتكلمين، قال: إنهم أعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأتوا ذكاءً وما أتوا زكاء، واذكر قول الله تعالى عن الكفار مع أنهم أذكياء أنهم لا يعقلون، فهؤلاء في الواقع هم أغبياء باعتبار الشرع، فأدنى عامي من المسلمين يعرف أن قولهم: عيسى هو الله، جهالة عظيمة، ولهذا وصفوا بالضلال، فهم من أضل الناس دينًا وأسفههم عقولًا.
الفائدة الثانية: التحذير من الأمن من مكر الله، وأن ذلك من خُلق اليهود وذلك بأن يأمن الإنسان من مكر الله، ويظن أنه بمعصيته لا يعقبها عقاب، لقوله:{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} .
الفائدة الثالثة: أن الله تعالى قد يتوب على المرء بعد عماه وصممه، لقوله:{ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بعد أن ذكر أنهم عموا وصموا.
الفائدة الرابعة: رأفة الله تعالى بعباده وأنه يتوب على من تاب، وإن شئت فقل: يتوب على من شاء من عباده تفضلًا منه وكرمًا.
الفائدة الخامسة: أن الإنسان بعد التوبة ورفع الفتنة عنه قد لا يشكر هذه النعمة، ويعود إلى عماه وصممه لقوله:{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} وهذا يشبه قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} [الأنعام: 43].
الفائدة السادسة: الحذر من بطر النعمة بالعود إلى الفسوق والكفران؛ لأن الله هددهم بقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
الفائدة السابعة: بيان عموم علم الله عز وجل بكل عمل، فإن كلمة "ما" في قوله:{بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] موصولة تفيد العموم.
* * *
° قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} {لَقَدْ كَفَرَ} ، هذه مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، وقد.
وأكد الله تعالى ذلك جريًا على عادة اللسان العربي، في تأكيد ما يستحق التأكيد، وإلا فخبر الله عز وجل حق، ثم إن هذا أيضًا أي: قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ} ليس خبرًا مجردًا، بل هو خبر وحكم، وحتى إذا قلنا: إنه حكم عليهم بالكفر؛ فهو مؤكد، لئلا يعارض معارض فيقول: ليس هذا بكفر.
وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هؤلاء النصارى الذين لم يناصروا عيسى ولم يكونوا من حواريه، قالوا:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} -نسأل الله العافية- والشبهة التي أحدثها الشيطان لهم، أنه خُلق بلا أب، والعجب أنهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، ثم يقولون: إن عيسى ابن مريم ولد بغي، فيقذفون أمه من وجه، وينزهون أمه ويعلونها من وجه آخر حسب زعمهم.
وقوله: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} كلمة "هو" ضمير فصل، وضمير الفصل له ثلاثة فوائد: التأكيد، والحصر، والفصل بين الخبر والصفة، الفصل يعني التمييز بين كون ما بعده خبرًا أو صفة، ففي قوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، "هو" ضمير فصل يفيد أن هؤلاء أكدوا أن الله هو المسيح، ويفيد حصر الله عز وجل في المسيح وأنه لا يتعداه ويفيد أن قوله:{الْمَسِيحُ} خبر وليس بصفة.
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المسيح وصف لرجل من أولياء الله ورجل من أعداء الله، الرجل الذي من أولياء الله: عيسى ابن مريم، والرجل الذي من أعداء الله: الدجال، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم مسيحًا حيث أمر أن نستعيذ بالله من فتنة المسيح الدجال
(1)
.
وأما تكايس بعضهم، يعني: بطلب الكيس وقوله: إن
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، حديث رقم (1311)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستفاد منه في الصلاة، حديث رقم (588) عن أبي هريرة.
الدجال يسمى المسيخ بالخاء، فهذا باطل؛ لأن أعلم الناس به سماه المسيح، ولا مانع من أن يوصف هذا بالمسيح وهذا بالمسيح، لكن يختلف الممسوح، عيسى ابن مريم كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، والمسيح الدجال ممسوح العين أعور العين خبيث المنظر، ففرق بين هذا وهذا، وكلاهما مسيح مشتق من المسح.
وقوله: {مَرْيَمَ} هي ابنة عمران، ونسب عليه الصلاة والسلام إلى أمه لأنه ليس له أب، وإنما أمر الله جبريل أن ينفخ في فرج مريم، فنفخ فيها الروح، وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.
قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} في إعرابها وجهان:
الوجه الأول: أنها حال، وبناءً على هذا الوجه يتعين تقدير قد، ويكون معنى قوله:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقد قال المسيح: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني كذبهم.
والوجه الثاني: أن الواو للعطف، ويكون قوله:"قال" معطوف على كَفَرَ، فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ لأنها معطوفة على جملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات ويكون المعنى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ولقد قال المسيح ابن مريم يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم والتقدير الأول أبلغ؛ لأن المسيح الذي وصف بأنه الله، رد على هؤلاء الذي وصفوه بأنهم كفروا، وقد قال لهم وبَيَّنَ لهم أنه عليه الصلاة والسلام عبد، فقال:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
لو قال قائل: بعض المفسرين ذكر في تفسير قول الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] قال المراد بالفرج هنا: جيب الدرع، هل هذا التفسير صحيح؟
الجواب: المراد بالفرج في اللغة العربية الفرج المعروف، فلماذا نحرف، ولو قلنا بهذا التفسير لكان قوله تعالى:{أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} مشكل، يعني: ما أحصنت إلا جيب الدرع، لا الفرج الحقيقي، ولو قيل إن قوله تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] هو الذي قد يقال: لا يلزم منه أن جبريل عليه السلام فتح ثوبها ونفخ في الفرج نفسه، فقد ينفخ في الجيب ويصل إلى الفرج، لكن طريق الحمل هو الفرج لا شك ليس الجيب.
لو قال قائل: الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى المسيح الدجال يطوف بالبيت
(1)
، ماذا يقال في هذا الحديث، مع أن المسيح لا يدخل مكة؟
الجواب: لا أدري والله ما وجه هذا الحديث؛ لكن رؤيا الأنبياء وحي، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يره حقيقة؛ لأن الدجال بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: سيأتي فيما بعد، وهو ممنوع من دخول مكة، ولذلك احتج ابن صياد على أنه ليس هو المسيح الدجال بأنه في المدينة وذهب إلى مكة
(2)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب التعبير، باب رؤيا الليل، حديث رقم (6598)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، حديث رقم 1691) عن ابن عمر.
(2)
رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، حديث رقم (2927) عن أبي سعيد الخدري.
وقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} نداء إشارة إلى بلاهتهم وغفلتهم، وأنهم لا يخاطبون إلا بالنداء، ولا ينتبهون ويستيقظون إلا به.
وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} اعبدوا: فعل أمر من العبادة، والعبادة تطلق على شيئين: الأول: فعل العابد، والثاني: مفعول العابد، فعلى الأول، أي: فعل العابد نقول: هي التذلل لله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وعلى الثاني نقول: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فمثلًا: يصح أن نقول: إن فعل المصلي عبادة، ويصح أن نقول: إن الصلاة عبادة، وأصلها من قولهم: طريق معبد، أي: مذلل مسهل ميسر، فمثلًا الطريق المسفلت نسميه طريقًا معبدًا، والطريق الذي لم يسفلت ولم يوطأ ليس طريقًا معبدًا.
وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} بالنسبة لكنمة (الله) تقدم أن أصلها الإله، لكن حذفت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال، كما حذفت الهمزة في (الناس) وأصلها الأناس، وكما حذفت الهمزة في (شر) من أشر، وفي خير من أخير.
هنا الأليق أن نجعل العبادة بمعنى فعل العابد، أو بمعنى مفعوله؟ هي أقرب هنا لفعل العابد.
وقوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ذكر العبادة ثم ذكر الربوبية إشارة إلى أن الربوبية تستلزم الألوهية، أي: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، فمن أقر لله عز وجل بالربوبية لزمه أن يقر بالعبادة؛ لأن الرب يجب أن يكون معبودًا لأن له الأمر، وله الحكم، فإذا كان كذلك يجب أن يعبد كما شرع.
وقوله: {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} بدأ بنفسه ليعترف عليه الصلاة والسلام بأنه عبد مربوب، وليس ربًا كما يقولون.
والرب سبق كثيرًا أنه هو الخالق المالك المدبر الذي له السلطان.
قوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} هذا من باب التحذير، والجملة هنا استئنافية للتحذير.
قوله: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي: منعه منها؛ لأن التحريم بمعنى المنع، ومنه: مكة حرام، المدينة حرام، ومنه حريم البئر، أي: ما قرب منها المنع الناس من تملكه، فإذًا: حَرَّمَ بمعنى منع بأن يعبد غير الله.
وقوله: {حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} أي: دخولها، والجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه -جعلنا الله منهم- فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن أين يكون إذا حرم الله عليه الجنة؟ قال:{وَمَأْوَاهُ النَّارُ} أي: التي يأوي إليها كما يأوي الإنسان إلى منزله، والنار هي الدار التى أعدها الله لأعدائه، التي:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فقد جمعوا بين القوة والامتثال، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} لا يعجزون عنه، كل ما أمروا به فهم قادرون عليه، ثم مع ذلك ليسوا قادرين عليه على وجه الضعف، بل هم غلاظ شداد، أجارنا الله منها.
قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} هذا إذا كانت هذه
الجملة من قول عيسى، وإن كانت من قول الله فهي بيان استحقاقهم لدخول النار، وأنهم إنما استحقوا دخول النار لكونهم ظلمة لشركهم قال الله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] وقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
وقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} هنا هل يمكن أن نقول: إنه إظهار في موضع الإضمار، بمعنى أنه لو كان في غير القرآن لقيل: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما له من أنصار؟
يمكن أن يقال هذا، لكن أظهر في موضع الإضمار، من أجل أن ينسحب على هؤلاء وصف الظلم، أي: أنهم ظلمة، ومن أجل التعميم، يعني: أن النار ليست لهؤلاء فقط بل لكل ظالم.
وقوله: {مِنْ أَنْصَارٍ} أي: من مانعين العذاب عنهم؛ لأن الناصر هو الذي يمنع العدو عنك ويساعدك عليه.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: قوله: {لَقَدْ كَفَرَ} نص صريح في كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
الفائدة الثانية: توكيد الحكم بما يدفع الشك، لقوله:{لَقَدْ كَفَرَ} فإن الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، القسم واللام وقد.
الفائدة الثالثة: أن أحكام القرآن الكريم يؤتى بها غالبًا بحكم عام، بمعنى لو شاء الله تعالى لقال: لقد كفر النصارى، لكنه قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ} سواء كانوا من بني إسرائيل الذين هم النصارى أو من غيرهم.
الفائدة الرابعة: أنه لا كفر إلا بعد قيام الحجة بناءً على أن الواو في قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} حالية يعني أنهم كفروا وقد بُيِّن لهم الأمر.
الفائدة الخامسة: أن إقرار الإنسان على غيره غير مقبول؛ لأنهم ادعوا أن الله هو المسيح، وعيسى ابن مريم أنكر ذلك فقال:{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} فأنا لست إلهًا تعبدونني، بل أنا وأنتم على حد سواء كلنا مربوبون لله عز وجل.
الفائدة السادسة: المنقبة والشرف العظيم للرسل عليهم الصلاة والسلام، حيث أنكر عيسى أن يكون هو الله في هذه الجملة العظيمة:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وهذا مقام الرسل وأتباعهم الذين لا يريدون العلو في الأرض ولا الفساد، وانظر إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام حين قيل له: ما شاء الله وشئت، هل أقر هذا؟ لا، أنكره وقال:"أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده"
(1)
وهكذا أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يريدون من الناس أن ينزلوهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل، بل إن أتباع الرسل كما أنعم الله عليهم بالاتباع؛ ازدادوا تواضعًا للخلق وتواضعًا للحق.
الفائدة السابعة: وجوب العبادة بمعنى أن الرسل عليهم
(1)
رواه أحمد (1/ 214)(1839)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (988)، والبخاري في الأدب المفرد (783) عن ابن عباس.
الصلاة والسلام يأمرون بعبادة الله في كل ملة، لقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
الفائدة الثامنة: إقامة الحجة على أهل الشرك حيث أشركوا بالله مع أنه ربهم، وأن الأصنام ليس لها شأن في الربوبية إطلاقًا، فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر:{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21].
الفائدة التاسعة: الاستدلال الملزم للخصم، وأنه ينبغي للإنسان عند المجادلة أن يتبع أوضح الأدلة وأشدها إلزامًا للخصم، لقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} لم يقل: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلزامًا لهم بعبادته لأنهم مقرون بالربوبية، وهذا كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فقال: اعبدوا ربكم إلزامًا لهم بالعبادة لأن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي يحكم فيهم ويحكم بينهم.
الفائدة العاشرة: أنه لا حظ لعيسى في الألوهية والربوبية، لقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ} هذا في الألوهية، {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وهذا في الربوبية، فعيسى ابن مريم ليس له حق في الألوهية ولا في الربوبية، وغيره من الرسل وغيره من الناس كذلك، وبهذا نعرف ضلال أولئك القوم الذين يدّعون أن أولياءهم هم الذين يدبرون الكون، وهم الذين يصرفونه، وأنهم على ضلال مبين، نسأل الله العافية.
الفائدة الحادية عشرة: أن الشرك موجب للخلود في النار، لقوله:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
لو قال قائل: أهل العلم قسموا الشرك إلى أكبر وأصغر، ودلالة القرآن تدل على أن الشرك قسم واحد، فهل هذا المشرك شركًا أصغر يعذب في النار ثم يخرج، أم أنه يخلد فيها؟
الجواب: الشرك الأصغر لا يوجب الخلود في النار، لكن هل هو داخل تحت المشيئة؟ يعني إن شاء الله غفر له أي: لصاحبه أو لا؟ في هذا احتمالان، فقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] يحتمل أن المراد الشرك الأكبر والأصغر، وأن يكون الشرك الأصغر لا بد له من توبة، ويحتمل أن المراد {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] يعني الشرك الأكبر الذي قال فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .
الفائدة الثانية عشرة: أنه لا مأوى للخلق إلا أحد أمرين: إما الجنة، وإما النار، ليس هناك شيء وسط، كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال، وليس بعد الإيمان إلا الكفر قال تعالى:{فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وفي الجزاء قال تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] أي: ومنهم سعيد، لا يوجد ثالث.
فإن قال قائل: وماذا تقولون فيما جاء في القرآن الكريم في أصحاب الأعراف؟
الجواب: أصحاب الأعراف يحبسون في مكان مطل على أهل النار ومبصر لأهل الجنة، محبوسون على حسب ما تقتضيه حكمة الله، ومآلهم إلى الجنة، كما قال عز وجل:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] فصار هؤلاء، أعني أصحاب الأعراف
مآلهم إلى الجنة، فليس للخلق إلا داران فقط، النار أو الجنة، ولهذا قال السفاريني رحمه الله في عقيدته:
وكل إنسان وكل جِنة
…
في دار نار أو نعيم جنة
لو قال قائل: قلتم في أصحاب الأعراف أنهم من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيحبسون في مكان بين الجنة والنار، هل معنى ذلك: أن من زادت سيئاته واحدة، لا بد أن يدخل النار؟
الجواب: لا، الناس أقسام: من له سيئات بلا حسنات هذا إلى النار ولا إشكال فيه، ومن له سيئات زائدة عن الحسنات أي: له سيئات وحسنات وسيئات زائدة فهذا مستحق لدخول النار، مستحق ولا نجزم، وقد ينجو من النار بشفاعة؛ لأن من أصول أهل السنة والجماعة قسم: الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وقسم ثالث تساوت حسناتهم وسيئاتهم، هؤلاء هم أصحاب الأعراف، لا يدخلون النار ولا يدخلون الجنة، والقسم الرابع من ترجحت حسناته على سيئاته هذا لا يدخل النار ويكون من أهل الجنة، فهذه أربعة أقسام لا يخرج الناس عنها.
هل يمكن أن نقول: وقسم عنده حسنات بلا سيئات؟
يمكن أن نقول: رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبر الله أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
(1)
، وحينئذٍ يلاقي الله عز وجل يوم القيامة بحسنات ولا سيئات، فتكون الأقسام خمسة.
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، حديث رقم (4556) عن عائشة، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم (2819) عن المغيرة بن شعبة.
لو قال قائل: أصحاب الأعراف ينظرون إلى أهل الجنة وإلى أهل النار، وذكرنا أن مآلهم إلى الجنة، فهل نقول: هذا النظر إلى النار يعتبر نوعًا من العذاب؟
الجواب: نعم، ولهذا قال:{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف: 47] مما يدل على أنهم لا يريدون النظر إليهم، لكن تصرف الأبصار صرفًا قهريًا، وإذا صرفت {قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47].
الفائدة الثالثة عشرة: أن التحريم يكون قدريًّا، وجهه:{فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} يعني تحريمًا قدريًّا لا شرعيًّا؛ لأنه ليس باختيار الإنسان، وهل يرد التحريم على وجه التحريم الشرعي؟
الجواب: نعم، ومنه قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ومنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
الفائدة الرابعة عشرة: إثبات الجنة وإثبات النار، لقوله:{فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} .
الفائدة الخامسة عشرة: أن المثوى الأخير للخلق هو إما الجنة وإما النار، وأما القبور فليست المثوى الأخير، بل هي زيارة يمكث فيها الناس ما شاء الله حتى تقوم الساعة.
الفائدة السادسة عشرة: الإشارة إلى أن الشرك ظلم، لقوله:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وقد جاء ذلك صريحًا في القرآن الكريم فقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
الفائدة السابعة عشرة: أن الظالمين لا ناصر لهم لقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} و"من" هنا كما يعرفه أهل اللغة العربية: حرف جر زيد لإفادة العموم والتوكيد.
فإن قال قائل: كيف يستقيم هذا النفي المؤكد مع أن الكفار قد ينصرون، والمشركون قد ينصرون؟
الجواب: أن هذا نصر مؤقت ليبتلي الله به المؤمنين وليس نصرًا دائمًا، قال الله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51] وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وقال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] ولا يمكن أن يتناصر الكفار في دفع العذاب عنهم يوم القيامة، وحينئذٍ فلا إشكال؛ لأن النصر الذي يحصل لهم نصر مؤقت يريد الله به أن يمتحن المؤمنين.
* * *
° قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [المائدة: 73].
قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} هؤلاء طائفة أخرى من النصارى، النصارى الذين تتحدث عنهم الآية الأولى؛ ماذا قالوا؟ قالوا:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} يعني: أن المسيح ابن مريم والله رب العالمين واحد، وهؤلاء غيرهم قالوا:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} من هؤلاء الثلاثة؟ هؤلاء ذكرهم الله تعالى في هذه السورة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].
قوله: {إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: مع الله، فإذا كانا إلهين من دون الله والله صاروا ثلاثة، إذًا ثالث ثلاثة هو الله والمسيح
وأمه، هؤلاء هم الثلاثة، فسر ذلك القرآن، والقرآن يفسر بعضه بعضًا.
وأما ما قيل: إنه الابن والأب وروح القدس؛ ففيه نظر، يعني لا نفسره بالقرآن، وإن كان قد يكون منهم، أو من المتأخرين منهم من يقول: إن هؤلاء هم الثلاثة.
لكن غالبهم يقولون: إن الله عز وجل متعدد في الاسم فقط، ومتحد في الذات، يقولون: ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس، وأما في الأحكام فطوائف متعددة.
قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الوقف على قوله ثالث ثلاثة متعين؛ لأنه لو وصل لفهم المخاطب أن قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} من قول هؤلاء الكفار.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذه الآية بمعنى لا إله إلا الله، لكن تختلف عنها في الإعراب، نقول:"ما" نافية، و"من" حرف جر زائد، يعني: زائدًا إعرابًا مفيدًا معنى، "إله" مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، و"إلا" أداة حصر، و"إله" خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، و"واحد" صفة.
أبطل الله هذا القول، أي: قولهم: إن الله ثالث ثلاثة بقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} وهذا خبر من أصدق المخبرين، خبر مؤكد بحرف الجر الزائد وبالحصر، وطريق الحصر النفي والإثبات، وهذا الحصر مؤكد بـ "من" الزائدة، وكل الحروف الزائدة مؤكدة.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا يمكن أن يكون أكثر من إله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أليس الله قال هذا؟ وكذلك أيضًا قال تعالى في آية أخرى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} يعني: لو كان كذلك {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} وانفرد بمخلوقاته {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] يعني: إذا انفرد كل إله بما خلق، وكل إله يريد أن تكون الألوهية له؛ لا بد أن يقع بينهما قتال، وإذا وقع بينهما قتال علا بعضهم على بعض أحيانًا يعلو هذا، وأحيانًا يعلو هذا، ومن المعلوم أن العالي هو المستحق أن يكون إلهًا وحده، وأن المعلو عليه لا يستحق أن يكون إلهًا.
وانظر الآن، لو خرجنا في سفر وأمرنا زيدًا وعمرًا؛ كلاهما أمير ماذا يكون؟ فوضى واضطراب، فلا يمكن أبدًا أن تكون الآلهة متعددة، لو تجددت لفسدت الدنيا كلها، ولهذا قال:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أكد الوحدانية بقوله: واحد، وهو الله عز وجل.
قوله: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
إعراب: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا. . . لَيَمَسَّنَّ} "إن" شرطية لا إشكال فيها، مسلطة على فعل مضارع منفي، وقوله:{لَيَمَسَّنَّ} : إذا قلنا: إنه جواب شرط فهو مُشكل؛ لأن جواب الشرط لا يأتي بهذه الصيغة، لكنه جواب قسم مقدر مع لامه أيضًا، والتقدير: ولئن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم؛ لأن كلمة {لَيَمَسَّنَّ} لا تصح أن تكون جوابًا للشرط، لوجود اللام الموطئة للقسم، ووجود التوكيد في قوله:(يمسنَّ).
وقوله: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ} [المائدة: 72]، هل يتنافى مع قول الله عز وجل:{لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} ؟
الجواب: لا؛ لأن المعنى: ليمسن الذين استمروا على كفرهم منهم عذاب أليم، وأما من تاب فيتوب الله عليه.
قوله: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} من تعدد الآلهة، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة.
وقوله: {لَيَمَسَّنَّ} أي: ليصيبن، {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: الذي استمروا على الكفر، لأنهم كافرون.
وقوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} {عَذَابٌ} فاعل (يمس)، وأليم بمعنى مؤلم -أعني عذاب الكافرين- مؤلم نفسيًا وجسديًا، أما نفسيًا فإنهم يوبخون التوبيخ المهين، حتى إنه يقال للواحد منهم تهكمًا:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، وهذا لا شك أنه أعظم إهانة، يعذب ويصب من فوق رأسه الحميم، ثم يقال له: ذق إنك أنت العزيز الكريم، هذه إهانةٌ وعذاب عظيم، ويقول الله لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، هذا عذاب يقطع القلوب، أما العذاب الجسدي فلا تسأل، إذا استغاثوا واشتد طلبهم للماء، يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، قبل أن يقع في الأمعاء، فإذا وقع في الأمعاء، قطع أمعاءهم، -نسأل الله العافية- إذًا: فهو مؤلم، قال تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]؛ لأن الجلد إذا نضج لا يحس، لكنهم يبدلون جلودًا أخرى ليذوقوا العذاب {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، إذًا: فهو أليم ألم قلب وألم جسد.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن من قال بتعدد الآلهة فإنه كافر؛ لأنه مكذب للسمع والعقل والفطرة، مكذب للسمع: لأن الأدلة لا تحصى في إثبات توحد الله، ومكذب للعقل: لأنه لو تعددت الآلهة ما استقامت الدنيا قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقال تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، ولا يمكن أن تستقيم الحال مع تعدد المسؤولية.
الآن فكر بهذا في نفسك: لو كنتم في سفر، وكان المسؤول عن الجماعة متعددين، هل يستقيم الأمر؟ لا، إلى أين نذهب؟ إلى فلان أو فلان، ثم هل ستتحد كلمتهم؟
الجواب: لا، هذا دليل عقلي، {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] ولا بد، والآن الكون كله منسجم لا يتصادم ولا يتناقض، مما يدل على أن مدبره واحد سبحانه وتعالى، نقول هذا عن يقين، ليس لأننا عشنا في بلد التوحيد، لكن لأننا نتيقن أنه لا يمكن أن تتعدد الآلهة.
ومن قال بتعدد الآلهة مكذب للفطرة أيضًا؛ لأن كل إنسان مولود على الفطرة، كما قال الله عز وجل:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، فتعدد الآلهة باطل بالسمع والعقل والفطرة.
الفائدة الثانية: إثبات أنه لا إله إلا الله، لقوله:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62].
فإن قال قائل: أليست توجد آلهة سوى الله بتسمية الله لها، قال الله تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 39]، وآيات متعددة تدل على وجود آلهة، وكيف يستقيم هذا مع هذا الحصر العظيم {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ؟
فالجواب سهل جدًّا، نقول: كل هذه الآلهة باطلة لا تغني شيئًا، ولهذا نقول:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ} هو موصوف بصفة محذوفة، والتقدير: وما من إله حقٍ إلا الله، وحينئذٍ يزول الإشكال، ويدل على هذا قول الله تبارك وتعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62].
الفائدة الثالثة: فتح باب التوبة لكل من أساء وإن عظمت إساءته، لقوله:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} الآية، فالله تعالى حكى عنهم الكفر مع ذلك عرض عليهم أن ينتهوا عما يقولون.
الفائدة الرابعة: كرم الله عز وجل وجوده وإحسانه وأنه يعرض على أعدائه أن ينتهوا عما وصفوه به حتى لا يصيبهم العذاب الأليم.
الفائدة الخامسة: إثبات عدل الله عز وجل، وأنه لا يعذب إلا من استمر على كفره ومعصيته.
الفائدة السادسة: التحذير البليغ من الاستمرار على الكفر والشرك، وأن من استمر عليه، فله العذاب الأليم.
* * *
° قال الله عز وجل: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
قوله: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ، الاستفهام هنا ليس استفهام استخبار أو استعلام؛ لأن الله يعلم، لكن قيل: إنه للعرض، وقيل: إنه للتوبيخ، فمن العلماء من قال: إن الاستفهام للتوبيخ، أي: أن الله يوبخهم على عدم التوبة والاستغفار، ومنهم من قال: إن الله يعرض عليهم، فهو عرض كما تقول للشخص: ألا تزورنا، والأليق بكرم الله عز وجل وجوده أن تكون للعرض، أي: أن الله عرض عليهم التوبة، فحينئذٍ نقول: الاستفهام للعرض.
الإعراب: {أَفَلَا يَتُوبُونَ} معروف أن الهمزة لها الصدارة، وهنا جاءت الفاء العاطفة، فكيف يستقيم الكلام؟ إذا جاءت الفاء العاطفة، فهذا يعني أن الجملة التي بعدها معطوفة على ما قبلها، وهذا فيه إشكال؛ لأن الاستفهام له الصدارة، فاختلف النحويون في هذا، فمنهم من قال: إن همزة الاستفهام داخلة على جملة، والفاء عاطفة على تلك الجملة التي هي مدخول الهمزة، وحينئذٍ يكون الاستفهام له الصدارة.
لكن بماذا نقدر هذه الجملة؟ نقول: باعتبار السياق، انظر المناسب للسياق وقدره، وكل سياق له ما يناسبه، فمثلًا قوله:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} ، كيف نقدر الجملة؟ استكبروا أو أيستمرون أو أيطيعون فلا يتوبون إلى الله، هذا على القول بأنها للتوبيخ، لكن على القول: بأنها للعرض، يقدر فعل يدل على جود الله وكرمه، مثلًا: أَغَفَلُوا عن كرم الله وجوده فلا يتوبون، وقال بعض النحويين: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وأن الأصل أن الفاء مقدمة على الهمزة، والتقدير: فئلا يتوبون، وتكون الهمزة هنا في صدر جملتها المعطوفة على ما سبق، وهذا لا شك أنه أهون على الإنسان من جهة التقدير، لأنه قد يصعب على الإنسان
أن يقدر جملة مناسبة للسياق، فإذا قلنا: الهمزة للاستفهام ومحلها بعد الفاء، والفاء مزحلقة عن مكانها سهل الأمر.
قوله: {يَتُوبُونَ} أي: يرجعون؛ لأن تاب وثاب وأناب وما أشبهها، كلها معانيها متقاربة، فيتوبون إلى الله، أي: يرجعون إلى الله من معصيته إلى طاعته، من الشرك إلى التوحيد، من التعطيل إلى الإثبات، وهلمَّ جرَّا.
قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} : يسألونه المغفرة، فما هي المغفرة؟ أحسن ما قيل فيها: أنها ستر الذنب والتجاوز عنه؛ لأنها مشتقة من المغفر، وهو الذي يوضع على الرأس لاتقاء السهام عند القتال، والمغفر فيه ستر ووقاية، ولا ينبغي أن نقول: إن المغفرة ستر الذنب فقط، بل نقول: هي ستر مع عفو ووقاية من العذاب، ويؤيد هذا الاشتقاق أنه مشتق من المغفر، وربما يؤيده ما ثبت في الحديث الصحيح:"أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، فإذا أقر بها قال الله له: إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"
(1)
.
وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الجملة معطوفة على ما سبق، لكنها تفيد أنه عز وجل أهلٌ لأن يستغفر، وأنه إذا استغفر غفر؛ لأنه غفور رحيم، ودائمًا يقرن الله تعالى بين هذين الاسمين الكريمين؛ لأن الأول يزول به المرهوب وتغفر به الذنوب، وبالثاني يحصل المطلوب؛ لأن الرحمة جلب الخير والإحسان.
(1)
رواه البخاري، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] حديث رقم (2309)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، حديث رقم (2768) عن ابن عمر.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: الحث على التوبة إلى الله عز وجل وتوبيخ من لم يتب، والتوبة كما قلنا: هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، والمعصية لها أنواع، وذكر العلماء رحمهم الله أن التوبة لها شروط، وهي خمسة: الإخلاص، الندم، الإقلاع، العزم على ألا يعود، أن تكون في وقت تقبل فيه التوبة.
الشرط الأول: الإخلاص: بمعنى أن لا يكون الحامل للإنسان على التوبة، مراءات الناس، أو الحصول على شرف أو جاه أو ما أشبه ذلك، وإنما يحمله على التوبة مخافة الله عز وجل ورجاء ما عنده.
الشرط الثاني: الندم على ما فعل من المعصية، فإن قال قائل: الندم انفعال، والانفعال ليس فعلًا، فكيف يكون اختياريًّا بحيث نشترطه على التائب؟ نقول: المراد بالندم لازمه، بمعنى: أن لا يكون عنده فعل المعصية وعدمه سواء، بل تجده حزينًا يتمنى أن لا يفعل، وإلا لو قلت لك مثلًا: اندم، لا تستطيع أن تندم لأنه انفعال، لو قلت لك: افرح، لا تستطيع أن تفرح إلا بوجود سبب يقتضي ذلك، ولهذا اعترض بعض العلماء على هذا الشرط وقال: هذا شرط لا يمكن إدراكه؛ لأنه انفعال نفسي، كالغضب والفرح والحزن، فيقال: لا، بل هو ممكن، بمعنى أن يكون الإنسان يشعر بأنه لا يستوي عنده فعل المعصية وعدمها.
تنبيه:
التقصير إذا كان تقصيرًا في الواجب يجب أن يتوب منه، وإن كان تقصيرًا في غير الواجب فلا تجب التوبة؛ يعني: غير الواجب الإنسان في حل منه.
الشرط الثالث: الإقلاع عن المعصية: لأن من قال: إنه تائب وهو مصر على المعصية، فهو كالمستهزيء بالله عز وجل، كيف تقول: أتوب إليك يا رب وأنت تبارزه بالمعصية؟ هذا غير صحيح، لا بد أن يقلع، فإذا كانت المعصية بأخذ مال، غصبًا أو سرقة أو جحدًا فلا بد من إعادته إلى صاحبه، وإلا فهو كاذب في توبته، إذا كانت التوبة من الغيبة، فلا بد أن يقلع عنها وأن يبتعد عن المجالس المعمورة بها، وإلا فهو كاذب.
لو قدرنا أنه يلزم من إقلاعه أن يستعمل بعض ما كان عاصيًا به، قلنا: لا بأس، وضربوا له مثلًا: برجل قد غصب أرضًا ثم ندم وتاب، وهو الآن في وسطها ويريد أن يخرج الجرافات والحفارات وغيرها، فهو في هذه الحال في وسط الأرض لا بد أن يستعملها، لا بد أن تمشي عليها الحفارات والجرافات وغيرها، فهل نقول: إن عمله الآن معصية، أو لا؟
الجواب: لا، هذا ليس بمعصية، بل هذا طاعة؛ لأنه يستعمل هذا ليتخلص منه، ولذلك تجد الواحد منا يستنجي ويمس النجاسة بيده، ولا نقول: إنه آثم ولا نقول إنه فاعل مكروهًا، بل نقول: إنه مأجور ومثاب على ذلك، مع أنه يباشر النجاسة بيده، ليتخلص منها، كذلك لو أن إنسانًا تطيب في إحرامه، والطيب في الإحرام حرام، ثم تاب وندم، وأراد أن يزيله بغسله، فلا بد أن يمسه بيده، فمسه بيده الآن طاعة؛ لأنه للتخلص هذه المعصية.
لو قال قائل: هل يجوز فعل الوسائل المحرمة للوصول للمصلحة كمن أراد إرشاد رجل ولا يتم له ذلك إلا بالجلوس معه في مكان المعصية؟
الجواب: أن الوسائل المحرمة لا تكون سبيلًا للإرشاد أبدًا، فمثلًا: لو قلنا: إن هذا الرجل لا يمكن أن يهتدي، إلا إذا أتينا بالموسيقى نضربها له، فلا نضربها ومهما صغر هذا الذئب لا نفعله بل ندعوه إن اهتدى فلنفسه وإلا فعليها.
الشرط الرابع: العزم على أن لا يعود في المستقبل، والمراد بقولنا أن لا يعود في المستقبل، العزم على أن لا يعود، فإن عاد يومًا من الدهر لم تبطل توبته الأولى، ما دام حين التوبة كان عازمًا على أن لا يعود؛ لأن الإنسان بشر، قد تسول له نفسه بعد التوبة أن يعود إلى المعصية، فإذا عاد فإن توبته الأولى لا تبطل، لكنه يحتاج إلى توبة جديدة.
إذًا: العزم على أن لا يعود، ولا نقول: بشرط أن لا يعود، وأظن الفرق بينهما واضح.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، وذلك بأن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها؛ لأن الشمس لا بد أن ترجع من حيث غربت، فإذا رجعت من حيث غربت آمن الناس كلهم؛ لأنهم حينئذٍ يؤمنون بأن لها ربًا يدبرها؛ لأنها خرجت عن المعلوم، خرجت عن العادة، فيؤمن الناس، لكنه لا ينفعهم إيمانهم، إلا من آمن من قبل، ولهذا قال الله عز وجل:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
وكذلك التوبة لا تقبل إذا حضر الأجل، لقول الله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]، فإذا حضر الأجل وشاهد الإنسان الغيب، أي: ما
كان غائبًا، وما كان ينكره من قبل، إذا شاهده وآمن لا ينفع، لا تقبل التوبة.
فإن قال قائل: ألم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم التوبة على عمه في سياق الموت؟
قلنا: بلى، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض عليه ذلك وقال:"كلمة أحاج لك بها عند الله"
(1)
يعني: أنه لم يجزم بأنها تنفعه، بل قال: أحاج لك، والمحاجة قد تنفع وقد لا تنفع.
فإن قال قائل: النبي صلى الله عليه وسلم دخل على اليهودي وهو يحتضر ثم أسلم هذا اليهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي أنجاه الله بي من النار"
(2)
؟
الجواب: هذا الرجل لم يحضره الموت، لكنه مريض وقريب من الموت، ولذلك جعل ينظر إلى أبيه كأنه يستشيره.
فإن قال قائل: هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء:
فمنهم من قال: لا تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؛ لأن التوبة هي الرجوع إلى الله، وهذا رجع رجوعًا موزعًا فلا ينفعه.
(1)
رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قصة أبي طالب، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت
…
، حديث رقم (24) عن المسيب بن حزن.
(2)
رواه البخاري، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، حديث رقم (2309)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، حديث رقم (2768) عن ابن عمر.
ومنهم من فصل، فقال: إذا كانت التوبة من ذنب مصر على جنسه فإنها لا تقبل، كما لو تاب من النظر إلى النساء، ولكنه مُصر على غمز النساء، فهنا لا تقبل التوبة؛ لأنه مصر على جنس الذنب، فالجنس واحد وإن كانت الأفراد مختلفة، أو الأنواع مختلفة.
فمنهم من قال: تقبل التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لكنه لا يستحق أن يوصف بأنه تائب على الإطلاق، بل نقول: هو تائب من كذا، فيستحق توبة مقيدة، فلا يعطى الوصف المطلق، ولا يسلب مطلق الوصف، بل يقال: هو تائب من كذا، وهذا هو أعدل الأقوال؛ لأن هذا فيه العدل، إذ لا يمكن أن ننفي عنه التوبة مطلقًا ولا يمكن أن نثبتها مطلقًا، نقول: هذا تائب، لكنه لم ينجُ من العذاب؛ لأنه مصر على معصية أخرى فسيعاقب عليها.
الفائدة الثانية: عرض الله تبارك وتعالى على هؤلاء الكافرين أن يستغفروه أي: يطلبوا المغفرة، وطلب المغفرة له جهتان:
الجهة الأولى: أن يسأل الله المغفرة بالصيغة، أي: بصيغة المغفرة، فيقول: أستغفر الله، اللهم اغفر لي وما أشبه ذلك.
الجهة الثانية: أن يفعل ما يكون سببًا لمغفرة الذنوب، فمن فعل شيئًا هو سبب لمغفرة الذنوب فقد استغفر، مثال ذلك:"من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"
(1)
هذا الرجل لم يقل: اللهم اغفر لي خطاياي، ولكنه
(1)
رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، حديث رقم (6042)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، حديث رقم (2691) عن أبي هريرة.
فعل ما يكون سببًا للمغفرة، ومثاله أيضًا:"إذا توضأ الإنسان فأسبغ الوضوء ثم صلى فيهما ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه"
(1)
، وكذلك:"الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما"
(2)
، وأمثلة كثيرة.
* * *
° قال الله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة: 75].
قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} الإعراب: من المعروف بأن القرآن أنزل بلسان قريش؛ لأن لسان قريش أفصح لسان العرب، وأن "ما" عندهم تعمل عمل (ليس) كقوله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]، لكنها هنا لم تعمل لانتقاض النفي وإذا انتقض النفي أهملت، ولم تعمل عمل ليس، فإذا قلت: ما محمدٌ قائمًا، فهذا صحيح، ما محمدٌ إلا قائم: صحيح، ما محمدٌ إلا قائمًا: غلط؛ لأنه إذا انتقض النفي وجب إهمالها.
وقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} المسيح ابن مريم هو:
(1)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، حديث رقم (158)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، حديث رقم (226) عن عثمان بن عفان.
(2)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، حديث رقم (233) عن أبي هريرة.
ابن مريم بنت عمران، وسمي مسيحًا؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهةٍ إلا بريء بإذن الله، وأما المسيح الدجال فإنه يسمى مسيحًا؛ لأنه ممسوح العين أعور، وقيل: لأنه يمسح الأرض بالسير عليها؛ لأنه يسير فيها كالسحاب إذا استدبرته الريح.
وقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} يعني: وليس إلهًا كما زعم هؤلاء، بل هو رسول مرسل من قبل الله عز وجل.
قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: مضت من قبله الرسل فليس ببدع من البشر؛ لأن الرسل سبقوا فهو مثلهم.
قوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} يعني أمه من الصديقات، أي: الصادقة في القول والعقيدة، المصدقة لمن قامت الأدلة على صدقه؛ لأن الصديق هو الصادق المصدق، قال الله تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33]، هذا هو الصديق، فأمه رضي الله عنها صديقة، وهي من النساء الكمَّل التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع -وذكر منهن- مريم بنت عمران"
(1)
.
قوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} "كَانَا": الضمير يعود على المسيح وأمه، {يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} فهما محتاجان للغذاء، مفتقران إليه، فلا يصح أن يكونا إلهين؛ لأن الإله مستغنٍ عن غيره، كما قال الله تعالى في وصف نفسه:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
(1)
رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ
…
} [التحريم: 11]، حديث رقم (3230)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين، حديث رقم (2431) عن أبي موسى.
قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} انظر أيها المخاطب، وأول من يدخل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم، {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} يعني: انظر كيفيته، ولهذا نقول: إن "كيف" هنا مفعول انظر، وليست اسم استفهام، أي: انظر كيفية تبيين الآيات لهم.
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ} أي: نوضح، "لَهُمُ" أي: لبني إسرائيل الذين ادعوا أن عيسى وأمه إلهان.
وقوله: {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} أي: العلامات الواضحة الدالة على أنهما لا يصلحان أن يكونا إلهين؛ لأنهما كانا يأكلان الطعام؛ ولأن عيسى رسول قد خلت من قبله الرسل، فلا يصح أن يكون إله وهو مرسل من قِبَل الإله.
قوله: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} "أنى" بمعنى كيف، يعني: ثم انظر نظرة أخرى كيف يؤفكون، أي: يصرفون عن الحق مع وضوحه وجلائه، وكل هذا في تقرير التوحيد: توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وإبطال ما عليه هؤلاء النصارى.
عندنا الآن {أَنَّى} ، و {كَيْفَ} ، معناهما يختلف؛ لأن قوله:{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} نظر تعجب وإنكار، وأما قوله:{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} فهو تدبر وإقرار.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الإنسان ينسب إلى أمه إذا لم يكن له أب، لقوله:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فنسبه إلى أمه.
وهل إذا نسب إلى أمه -إذا لم يكن له أب- هل ترثه ميراث أب؟
الجواب: نعم على القول الراجح، ترثه ميراث أب، مثال ذلك: امرأة زنا بها رجل -والعياذ بالله- وولد الزنا لا يلحق الزاني، بل يكون له أم وليس له أب، إذا مات عنها، فهل ترثه ميراث أب؟ نقول: فيما لو مات هذا الولد عن أمه وعن أخيه، فإن الميراث يكون لأمه، أو ترثه ميراث أم، ويرثه عصبته ميراث عصبة؟ في هذا قولان للعلماء، والصحيح أنها ترثه ميراث أب، وعلى هذا ففي المثال الذي ذكرنا، يكون مال هذا الولد لأمه، وليس لإخوته من أمه، ولا لأعمامه من أمه؛ لأنه ليس له جهة عصبة إلا من جهة أمه، أما من جهة أبيه فليس له أب حتى يكون له عصبة من جهة الأب.
الفائدة الثانية: أن المسيح عيسى ابن مريم رسول من رسل الله عز وجل، لقوله:{إِلَّا رَسُولٌ} .
الفائدة الثالثة: أن الوصف الذي ينحصر فيه عيسى ابن مريم ولا وصف له سواه، هو أنه رسول، ولا يمكن أن يكون الرسول إلهًا؛ لأنه مستعبد من جهة مرسله، مكلف من جهة مرسله.
الفائدة الرابعة: أن الرسل يموتون، لقوله:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} ، وهو إشارة، إلى أن عيسى سيموت كما مات غيره.
الفائدة الخامسة: أن الرسول لا يصح أن يكون إلهًا، وجه ذلك: أن الإله لا يموت، والرسل يموتون.
الفائدة السادسة: الثناء على مريم عليها السلام، لقوله:{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ، فهي إذًا من الطبقة الثانية من طبقات البشر، والطبقات أربع: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
الفائدة السابعة: الرد الواضح على اليهود الذين ادعوا أن مريم بغي، قاتلهم الله؛ لأن البغية لا يمكن أن تكون صديقة، فإن البغاء من كبائر الذنوب.
الفائدة الثامنة: الاستدلال بحال من يتحدث عنه، على ما لا يمكن أن يتصف به مع وجود هذه الحال، وهو قوله:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} ، ففيه استدلال بحالهما على أنهما لا يصح أن يكونا إلهين.
الفائدة التاسعة: بيان أن الإله وهو الله عز وجل، لا يحتاج إلى الطعام، لقوله:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} .
الفائدة العاشرة: الاستدلال بالأوضح الأجلى دون الأخفى؛ لأن أكلهما للطعام أمر لا ينكر، لكن لو جيء بأدلة عقلية أخرى ربما يكون فيها جدل، لكن الاستدلال بالمحسوس أبلغ من الاستدلال بالمعقول؛ لأن المعقول يمكن فيه الجدل، لكن المحسوس لا يمكن فيه الجدل.
الفائدة الحادية عشرة: الحث على الاعتبار والنظر، لقوله:{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} ، والأمر بالنظر جاء في عدة مواضع من القرآن الكريم، وجاء بخصوص وعموم، فقوله تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، ، هذا عام، وهذه الآية وأمثالها خاص.
الفائدة الثانية عشرة: الرد على أهل التفويض في أسماء الله وصفاته؛ لأن أهل التفويض يقولون: إن كل النصوص القرآنية والنبوية في أسماء الله وصفاته مجهولة المعنى لا تعلم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الحديث وهو لا يعلم معناه، ولهذا سموا أهل التجهيل.
وإذا قرأت بعض كتب العلماء المعتبرين لدينا ولدى غيرنا، تجدهم يقولون في أهل التفويض، إنهم أهل السنة، فيقولون: أهل السنة قسمان: مفوضة، ومؤولة، فالمفوضة: هم الذين يقولون: نحن لا نعلم شيئًا من معاني آيات الصفات وأحاديثها، وهذا مذهب السلف عندهم، والمؤولة: هم الذين يحرفون نصوص الكتاب والسنة، ولكنهم أخطأوا خطأ عظيما من وجهين:
الوجه الأول: دعواهم أن أهل التأويل من أهل السنة، وكيف يكونون من أهل السنة وهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وكيف يكونون من أهل السنة وهم على النقيض من عقيدة أهل السنة، فلا ينبغي أبدًا أن نساويهم بأهل السنة اللهم إلا في مقابل الرافضة، في مقابل الرافضة نقول سنة وشيعة، الشيعة تؤمن بالرافضة، والسنة من يخالفهم في الاعتقاد، وإن تخالف فيما بينهم، فالصواب أن نقول: أهل السنة هم الذين تمسكوا بها واجتمعوا عليها، واتبعوا السلف فيها.
الوجه الثاني: قولهم: إن أهل السنة يفوضون، أو أن السلف يفوضون المعاني، هذا كذب واضح على السلف، السلف لا يفوضون المعاني، بل يقرونها ويقررونها، وإنما يفوضون الكيفية، لأن هذا هو العقل، لكن المعاني لا يفوضونها، بل يقولونها ويقررونها ويبينونها، وهذا شيء معلوم معروف عندهم، لو سألت أي واحد من السلف أو أي واحد من أتباع السلف، ما معنى قول الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، لقال معناه: علا، ولا تحتمل عنده أي معنى آخر، وهذا تفسير للمعنى، لكن لو سألته: كيف استوى؟ قال: الله أعلم لا أدري،
ومن المعلوم أن أهل التفويض كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: من شر أهل البدع والإلحاد؛ لأنه يلزم على كلامهم لوازم فاحشة جدًّا.
منها أن الرسل لا يعلمون معاني ما نزل إليهم.
ومنها: أن الرسل لا يعلمون معاني ما يقولون، ولا أحد لا يعلم معنى ما يقول إلا أن يكون مبرسمًا أو مجنونًا.
ومنها: أن هذا القول فتح بابًا لأهل الإلحاد؛ لأنك إذا قرأت قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]، إلى آخر السورة وقلت: والله لا أدري معاني هذه الأسماء ولا أعرف معانيها، جاءك أهل الإلحاد وقالوا: تنحَ عن المعترك، نحن الذين نعرف معانيها، ثم يؤولونها، بل ثم يحرفونها على ما يريدون، ولذلك هذا الذي ينسب إلى السلف فتح باب الإلحاد على مصراعيه، فمن ثَمَّ يكون لا فائدة من القرآن ولا من السنة؛ لأنها غير معلومة، ثم لا حول ولا قوة إلا بالله، جعلوها غير معلومة في زبدة الرسالة وخلاصتها وهي: معرفة الله بأسمائه وصفاته.
إذًا الخلاصة: أن مذهب أهل التفويض مذهب باطل، ومن نسبه إلى السلف فقد أخطأ، فالتفويض عند السلف وأتباعهم في الكيفية، وهذا هو العقل؛ لأننا نعلم معنى استواء الله على العرش لكن لا ندري على أي كيفية، نعلم معنى نزوله إلى السماء الدنيا لكن لا نعلم على أي كيفية، ولا يحل لنا أن نتصور كيفية معينة.
الفائدة الثالثة عشرة: أن ما بينه الله عز وجل في كتبه المنزلة على الرسل، كله آيات، يعني: دلالات وعلامات على الحق، سواء من القرآن أو التوراة أو الإنجيل.
الفائدة الرابعة عشرة: العجب من هؤلاء الذين بينت لهم الآيات ثم صرفوا عن الحق والعياذ بالله، ولهذا قال:{ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
الفائدة الخامسة عشرة: أن هؤلاء أفكوا عن الحق بعد أن تبين، بدليل كلمة "ثم"، فإنها تفيد المهلة، يعني: بعد أن تتبين لك الآيات، وتتبين لهم أيضًا يؤفكون عن الحق ويصرفون عنه.
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76].
قوله: {قُلْ} أي: يا محمد، أو قل أيها المخاطب الموحد، لكل من يعبد من دون الله أحدًا قل له:{أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} .
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من سواه.
قوله: {مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} يعني: لا يملك أن يدفع الضر عنكم ولا أن يجلب لكم النفع، وقيل المعنى: ما لا يملك لكم ضرًّا لو عصيتموه، ولا نفعًا لو أطعتموه، فعلى التفسير الأول يكون في الآية حذف، والتقدير: ما لا يملك لكم دفع الضر، والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين أن يكون في الكلام شيء محذوف، أو لا يكون، فالأصل عدم الحذف، وعلى هذا فيكون: ما لا يملك لكم ضرًّا، يعني لو عصيتموه وخالفتموه، ولا نفعًا: لو أطعتموه.
قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يعني: كيف تعبدون ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا، وتَدَعُون من هو السميع العليم،
وهو الله عز وجل، السميع لما تقولون، العليم بما تعملون من قول وفعل.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: الإنكار على عابدي الأوثان؛ لأن الاستفهام في قوله: {أَتَعْبُدُونَ} للإنكار.
الفائدة الثانية والثالثة: أن الأصنام لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، وهذا مسلم به، وينبني على هذه الفائدة: ضلال أولئك الذين يعبدون الأصنام؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)} [الأحقاف: 5] لا يسمعونهم {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف: 6]، فهم لا ينفعونهم في الدنيا ولا في الآخرة بل يعادونهم.
فإن قال قائل: إنه قد يدعو الإنسان الصنم في كشف الضر فيكشف الضر، أو في جلب نفح فيأتي النفع، والقرآن صريح بأن جميع الأصنام لا تنفع ولا تضر؟
الجواب: أن هذا من الابتلاء، وأنه يحصل عند دعائها لا بدعائها؛ لأننا نؤمن يقينًا بأنها لا يمكن أن تستجيب إلى يوم القيامة فلو دُعِيَتْ إلى يوم القيامة ما استجابت، لكن قد يفتن الله العباد بحصول الشيء عند الدعاء لا بالدعاء، يكون الله عز وجل قد قدر حصول هذا الشيء في هذا الوقت المعين، الذي كان فيه الدعاء، وليس بالدعاء، ونعلم بهذا يقينًا لأن الله يقول:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5].
وفي هذا الذي قررناه الحذر، أي: أن يحذر الإنسان من تسهيل أسباب المعصية له، فإن الإنسان قد يبتلى وتسهل له أسباب المعصية فيقع فيها إلا من شاء الله، ولهذا كان من تيسرت له أسباب المعصية ولكنه تركها لله، كان أعظم أجرًا ممن لم تتيسر له، انظر إلى الشاب الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، فهذا المدعو رجل دعته امرأة وهو شاب فيه الشهوة، ليس عندهما أحد، ولا يطلع عليهما أحد؛ لأنه لم يذكر مانعًا إلا أنه يخاف الله، وهذا يدل على أن جميع الأمور متيسرة، لكن لما ترك هذا لله، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعلنا من هؤلاء.
المهم: أنه لو لبَّس علينا أولئك القوم الذين يعبدون من دون الله، ويدعون من دون الله بحصول المقصود، الجواب: أن هذا لم يحصل بالدعاء قطعًا وإنما حصل عند الدعاء.
الفائدة الرابعة: أن الضرر والنفع من الله عز وجل؛ لأنه أعقب نفي الضر والنفع لهذه الأصنام بقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وهو كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:"واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"
(1)
.
(1)
رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (59)، حديث رقم (2516)، وأحمد (1/ 293)(2669) عن ابن عباس.
الفائدة الخامسة: إثبات هذين الاسمين الكريمين لله عز وجل وهما السميع والعليم.
لكن لو قال قائل: هل الله عز وجل سميع بسمع أو بغير سمع؟
الجواب: سميع بسمع، والدليل من هذا الاسم على أن له سمعًا أن أسماء الله عز وجل مشتقة من معانيها فالسميع يعني المسمع، والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: قسم بمعنى إدراك المسموع، وقسم بمعنى الاستجابة.
الأول ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يراد به التهديد، وقسم يراد به بيان الإحاطة، وقسم يراد به النصر والتأييد، هذا سمع إدراك المسموع.
أما الأول، فكقوله تبارك وتعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80]، هذا تهديد، وأما الثاني: الذي يراد به بيان إحاطة الله عز وجل بكل شيء، فمثل قول الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، إلى آخره.
وأما الذي يراد به النصر والتأييد، فمثل قول الله تعالى لموسى وأخيه هارون:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46].
وأما الذي بمعنى الإجابة أو الاستجابة فمثل قول المصلي: سمع الله لمن حمده، يعني استجاب، ولذلك عدي بـ "اللام" ولم يتعد بنفسه؛ لأن السمع الذي بمعنى الإدراك يتعدى بنفسه، تقول: سمعت صوته، وأما الذي بمعنى الإجابة فيتعدى باللام، تقول:
سمعت لفلان، أي: استجبت له، ومنه سمع الله لمن حمده كما تقدم، لكن قوله تعالى:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، من أيهما؟ منهما، فهو سميع الدعاء يسمع الصوت أي صوت الداعي، وهو أيضًا مجيب الدعاء، فيشمل الأمرين.
أما العليم: فما أعمه من اسم، فالعليم إن لم يكن أعم أسماء الله فهو من أعمها؛ لأن العلم يتعلق بالأمور الممكنة، وغير الممكنة، والواجبة، فعلم الله يتعلق بكل شيء، فالله عز وجل يعلم الشيء المستحيل، مثاله: قول الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، هذا شيء مستحيل، ومع ذلك عَلِمَ الله عز وجل نتيجته.
ويعلم سبحانه وتعالى الممكن، وهو ما يتعلق بأفعال العباد، فكل أفعال العباد من قسم الممكن، والله تعالى يعلمها قال تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187]، وقال:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235]، وقال أيضًا:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 51]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، كل علم يتعلق بالمخلوق فهو علم بالممكن؛ لأن المخلوق، من قسم الممكن، إذ لو كان مستحيلًا ما وجد، ولو كان واجبًا ما عدم.
ويعلم جلَّ وعلا ما يتعلق بالواجب، وهو علمه تبارك وتعالى عن نفسه، فعلمه عن نفسه علم بالواجب، ولهذا قال العلماء: إن العلم هو أعم صفات الله عز وجل، وهل يتعلق بمشيئته جلَّ وعلا، أو هو صفة لازمة؟
الجواب: هو صفة لازمة، ولهذا قال السفاريني رحمه الله:
والعلم والكلام قد تعلقا
…
بكل شيء يا خليلي مطلقا
هذا صحيح، فالكلام يتعلق حتى بالمستحيل، لكن العلم من جهة أنه صفة لازمة، أعم من الكلام.
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77].
قوله: {قُلْ} ، أي: قل يا محمد.
قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} أي: يا أصحاب الكتاب، والمراد بهم اليهود والنصارى، والكتاب المراد به التوراة والإنجيل، فالمراد الجنس، و"أل" هنا للعهد، أي: الكتاب المعهود الذي يعرفه المخاطب.
قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} {لَا تَغْلُوا} أي: لا تجاوزوا الحد، {فِي دِينِكُمْ} ، أي: في عبادتكم، فالغلو: مجاوزة الحد، وذلك حيث قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وتشدد اليهود في أشياء لم تكن مفروضة عليهم، وإن كان اليهود قد شدد عليهم، كما قال الله عز وجل:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)} [النساء: 160].
قوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غلوًا غير الحق، والوصف هنا ليس للقريب؛ لأن الغلو كله ليس بحق، لكنه بيان للواقع، ويسمي العلماء مثل هذا القيد الذي هو لبيان الواقع يسمونه صفة كاشفة.
قوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} الحق ما وافق الشرع، والباطل ما خالف الشرع.
قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} الأهواء جمع هوى، والمراد بالهوى هنا: ما خالف شريعة الله؛ لأن الأعمال إما هوىً وإما هدى، فما وافق الشرع فهو هدى، وما خالفه فهو هوى.
قوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يشير إلى علمائهم ورهبانهم الذين حرفوا دين الله، فضلوا وأضلوا، والله سبحانه وتعالى يقول: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا أهواء هؤلاء القوم الذي ضلوا وأضلوا.
قوله: {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} يعني: مع كونهم ضالين بأنفسهم، كانوا أئمة في الضلال فأضلوا كثيرًا من الناس، فصاروا والعياذ بالله ضالين بأنفسهم مضلين لغيرهم، عكس الصالحين المصلحين أو المهتدين الهادين.
قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} هذا عطف للتوضيح والإيضاح؛ لأنه قال: {ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} : عن ماذا؟ بينه بقوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} ، أي: عن مستقيم السبيل، والسواء يطلق على معانٍ كثيرة منها الاستقامة، المعنى: وضلوا عن السبيل المستقيم، فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا خاصًّا أن يقول هذا القول، وقد تقدم في غير موضع أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يبلغ القرآن كله، لكن أحيانًا يوجه إليه الخطاب بتبليغ شيء معين، للاعتناء به.
الفائدة الثانية: أن أهل الكتاب عندهم غلو، وهو واضح، فالنصارى يقولون: إن عيسى ابن الله، واليهود يقولون: إن عزيرًا ابن الله، وهم أيضًا يتبعون أحبارهم ورهبانهم ويتخذونهم أربابًا من دون الله.
الفائدة الثالثة: أنه إذا نهي أهل الكتاب عن الغلو، والغلو في ذاته مفسدة، فكذلك ينهى غيرهم، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين، وحذر من الغلو فيه نفسه، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام ينهى عن الغلو في الدين، فنهى الذين قالوا: إننا نصوم ولا نفطر، ونقوم ولا ننام، ولا نتزوج النساء، ولا نأكل اللحم
(1)
، وأخذ حصيات في حجة الوداع وجعل يقلبها في يده ويقول:"بأمثال هؤلاء فارموا، إياكم والغلو في الدين"
(2)
، وسمى الذين أرادوا المواصلة في الصوم، المتعمقين
(3)
، تحذيرًا لفعلهم، ودعا على المتنطعين في دينهم ثلاث مرات، فقال:"هلك المتنطعون"
(4)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063)، ورواه مسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1401) عن أنس بن مالك.
(2)
رواه ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، حديث رقم (3029)، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، حديث رقم (3057)، وأحمد (1/ 215)(1851)، وابن حبان (9/ 183)(3871) عن ابن عباس.
(3)
رواه البخاري، كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو وقوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]، حديث رقم (6814)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال، حديث رقم (1104) عن أنس بن مالك.
(4)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، حديث رقم (4776)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه
…
حديث رقم (1401) عن أنس بن مالك.
والغالب أن الغالي ينحرف -نسأل الله العافية- لأن الغلو خلاف الفطرة، فيكون غلوه ظاهريًّا فقط، ويكون قلبه خاليًا من حقيقة الإيمان، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخوارج يحقر الصحابي صلاته عند صلاتهم وقراءته عند قراءتهم
(1)
، ولكن إيمانهم لا يتجاوز حناجرهم والعياذ بالله، والغالب أن الغالي تجد قلبه يجول مع الناس وأفعال الناس وينتقدهم ويعترض عليهم، لكنه خال من معرفة الله حق المعرفة، ومن الرجوع إليه والإنابة إليه، فاحذر هذا، احذر هذا يا طالب العلم، كن مستقيمًا بين الغلو والتفريط.
الفائدة الرابعة: أن الغلو ليس بحق: لقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ.
الفائدة الخامسة: النهي عن اتباع أهواء الضالين، لقوله:{وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} .
الفائدة السادسة: أن الذي يحمل الإنسان على الضلال هو الهوى، وإلا لو كان الإنسان يقول بالعدل، ويحكم بالقسط، ما ضل عن الصراط المستقيم، لكن يغلبه هواه حتى يضل، ولهذا قال:{وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} ثم بَيَّنَ ضلالهم بأنه {عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
الفائدة السابعة: التحذير من الإمامة في الضلال، لقوله:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا} وماذا؟ {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
الفائدة الثامنة: الرد على الجبرية الذين قالوا: إن ضلال الإنسان لا ينسب إليه، وأنه مجبور عليه، ولا اختيار له فيه؛ لأن الآية صريحة بأنهم ضلوا وأضلوا.
(1)
تقدم في (1/ 437).
الفائدة التاسعة: إثبات الأسباب، لقوله:{وَأَضَلُّوا} ، فإن هذا إضلال ليس عن قوة وإجبار وإكراه لكنه عن سبب، يزينون به الباطل حتى يضلوا به غيرهم.
الفائدة العاشرة: أن هؤلاء المضلين الضالين جمعوا بين سوءين: الأول: ضلالهم لأنفسهم، والثاني: إضلال غيرهم، وهل يمكن أن يقتصر الإنسان على واحدة كضلال نفسه فقط؟ يمكن، يمكن أن يكون ضالًا ولا يدعو إلى الضلال، لكنه إذا كان إمامًا في قومه صار ضلاله دعوةً بالفعل؛ لأنه سوف يتأسى به ويقتدى به، وهل يمكن أن يكون مضلًا وهو غير ضال؟
الجواب: لا، لا يمكن؛ لأن إضلاله يعتبر ضلالًا، هو ربما يكون قائمًا بما أوجب الله عليه من أفعاله الخاصة، لكن إذا كان يضل فهذا ضلال.
إذًا: يمكن أن يكون الإنسان ضالًا غير مضل، ولا يمكن أن يكون مضلًا غير ضال؛ لأننا نقول: مجرد كونه يضل الناس هذا ضلال.
الفائدة الحادية عشرة: أن الدين الصحيح وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، لقوله:{عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي: عن قِيَمِ السبيل، وأصل السبيل العدل، الذي ليس فيه غلو ولا تفريط.
* * *
° قال الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78 - 79].
قوله: {لُعِنَ} : مبني للمجهول، أو إن شئت فقل: مبني لما لم يسمَّ فاعله، وهذا هو الأدق؛ لأنك إذا قلت: مبني للمجهول أشكل علينا قول الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فإن الفاعل هنا غير مذكور، لكنه معلوم.
إذًا: التعبير بقولنا: فعلٌ ماض مبني لما لم يسمَّ فاعله، أولى من مبني للمجهول، فمن الذي لعنهم. إذا كان هنا مبنيًّا لما لم يسمَّ فاعله، لعنهم الله، والملائكة، والناس أجمعين؛ لأن كل من لعنه الله، فإن أولياء الله يلعنونه، بل إن الناس حتى غير أولياء الله يلعنونه كما قال الله عز وجل في أهل النار:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38].
قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، والذين كفروا من بني إسرائيل: هم الذين لم يثبتوا على الدين الذي كلفوا به.
فمثلًا: بنو إسرائيل قبل بعثة عيسى دينهم هو دين موسى، فإذا خالفوه فقد كفروا، والنصارى بعد بعثة عيسى، وقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم دينهم النصرانية فمن خالفها فهو كافر.
قوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} لعنوا، يعني: أن داود عليه الصلاة والسلام وعيسى ابن مريم، دَعَوا عليهم باللعنة، فقالا: اللهم العنهم.
وقوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} داود: من أنبياء الله بلا شك، لكنه أعطي النبوة وشيئًا من الملك، ولكن الملك الأتم لابنه سليمان.
قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} المشار إليه اللعن، الذي دل عليه
الفعل لُعِن، وهنا عاد الضمير على ما اشتق منه الفعل، أي: ذلك اللعن بما عصوا.
والباء في قوله: {بِمَا عَصَوْا} للسببية، و (ما): مصدرية، أي: بعصيانهم، والمعصية خلاف الطاعة، والطاعة موافقة الآمر باجتناب ما نهى عنه، وفعل ما أمر به.
قوله: {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} معطوفة على عصوا، أي: على صلة الموصول، أي: بعصيانهم واعتدائهم، على الخالق عز وجل، فقالوا في حقه ما لا يليق به، واعتدوا أيضًا على المخلوق، فقتل بعضهم بعضًا.
وقوله: {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} لو قال قائل أليس الاعتداء من المعصية؟
الجواب: بلى هو من المعصية، لكن قد يخص بعض الأفراد بالذكر، لأهميته والعناية به، أو لكونه أشد وأقبح، ثم بين ذلك العدوان والمعصية، فقال:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} .
{لَا يَتَنَاهَوْنَ} أي: لا ينهى بعضهم بعضًا؛ لأن المفاعلة تدل على الاشتراك من الجانبين، والنهي هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، وعلى هذا فلو أمر العبد سيده بأمرٍ أو نهاه عن شيء لم يكن آمرًا ولا ناهيًا؟ لأنه طلب الكف على وجه الاستعلاء، اللهم إلا أن يَدَّعي العبد أنه أعلى من سيده فهذه دعوى، يعني: قد يتخيل أنه أعلى من سيده فيوجه إليه الأمر والنهي.
وقوله: {عَنْ مُنْكَرٍ} المنكر هو: ما أنكره الشرع، أي:
نهى عنه إما تحريمًا أو كراهة، من تفريط في واجب أو انتهاك لمحرم، لكن إذا كان كراهة فإنه لا يأثم من لم ينكره.
وهل المرجع فيه إلى العرف أو إلى الشرع؟ إلى الشرع؛ لأن الناس قد ينكرون ما ليس بمنكر، وقد يقرون ما هو منكر، فالمرجع إذًا إلى الشريعة، لا إلى عرف الناس، والمعروف ما أمر به الشرع إما إيجابًا أو استحبابًا، وإذا كان استحبابًا لا يأثم من لم ينكره.
وقوله: {عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} كيف يقول: {لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} ؟ لأن المفعول لا يتوجه إليه النهي، إذ إنه تم وفُعِل، لكن المراد بالآية {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ} أي: عن الاستمرار في منكر فعلوه؛ لأن المنكر الذي فُعل لا يمكن أن يَرد عليه النهي، إذا قام الإنسان هل أقول: لا تقم؟ لا، إن قلت: لا تقم، فالمعنى لا تستمر في القيام.
قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} "اللام" هنا موطئة للقسم، يعني: والله لبئس، وبئس فعل ماض لكنه إنشاء في الواقع، إذ إنه فعل يدل على إنشاء الذم، و"نِعْم" تدل على إنشاء المدح.
قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} "ما" فاعل وهي اسم موصول، "وكانوا" صلة الموصول، والعائد على الموصول محذوف، والتقدير: لبئس ما كانوا يفعلونه.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى: لعن الكافرين من بني إسرائيل، لقوله:{لُعِنَ} واللعن معروف، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل وعدم التوفيق.
الفائدة الثانية: أن من بني إسرائيل من هو كافر ومنهم من هو مؤمن، لقوله:{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} وهذا هو الواقع، فإن منهم مؤمنين كالحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام، وكالقوم الذين اختارهم موسى سبعين رجلًا وغير ذلك.
الفائدة الثالثة: أن الذي لَعن بني إسرائيل رسولان كريمان، لعنوا على لسانهما وهما داود وعيسى ابن مريم، داود من أنبياء بني إسرائيل، لكنه ليس من آخرهم، آخرهم عيسى ابن مريم، فيكون لعنتهم في أول الرسالات، وفي آخر الرسالات.
الفائدة الرابعة: إثبات الأسباب، لقوله:{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} ، فإن الباء للسببية، وسبق تقرير هذا وبيان اختلاف الناس في الأسباب، وبيَّنا الصحيح، وأن الأسباب نوعان: حسية، وشرعية.
الفائدة الخامسة: أن العدوان على الغير أشد من مجرد المعصية، مع أنه من المعاصي، لقوله:{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
الفائدة السادسة: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئًا، وأنه لا يعاقب أحدًا بعقوبة إلا بذنب، لقوله:{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
الفائدة السابعة: إحجام بني إسرائيل عن النهي عن المنكر، لقوله:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} .
الفائدة الثامنة: أن ترك التناهي عن المنكر سبب للعنة الله وطرده وإبعاده والعياذ بالله، واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى شروط:
الشرط الأول: العلم بأن هذا معروف يؤمر به، وهذا منكر
ينهى عنه، فلا يجوز الأمر بما لا يعلم أنه مأمور به، ولا النهي عما لا يعلم أنه منهي عنه، لما في ذلك من الافتراء على الله، وصد عباد الله عما أحل الله لهم أو منعهم عما أحل الله لهم.
الشرط الثاني: أن يعلم وقوع هذا المنكر من الشخص المعين؛ لأن الشيء قد يكون منكرًا عند شخص، وغير منكر عند آخر، فالمسافر يأكل سرًّا وجهرًا في نهار رمضان، والمقيم لا يأكل، فالأكل منكر في رمضان عند المقيم وغير منكر عند المسافر، فلا بد أن يعلم الآمر والناهي أن هذا الشخص بعينه وقع في المخالفة، ومع الاحتمال يجب الاستفصال، دليله: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا دخل المسجد وجلس، وهو يخطب الناس عليه الصلاة والسلام، فقال له:"أصليت؟ " قال: لا، قال:"قم فصلِّ ركعتين وتجوز فيهما"
(1)
، فلم ينهه عن المنكر الذي هو الجلوس قبل الصلاة حتى علم أنه لم يصلِّ، وعلى هذا لو قال قائل: هل يجب عليّ أن أنكر على شخص رأيته يمشي إلى جانب امرأة؟
الجواب: لا أنكر حتى أعلم أن المرأة أجنبية منه، وكيف الوصول إلى العلم؟ كل إنسان تريد أن تسأله ولو كان من أفسق عباد الله، سيقول: هذه أختي أو أمي أو زوجتي، لكن هناك قرائن تدل على أنه مرتكب محرمًا.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، حديث رقم (888)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، حديث رقم (875) عن جابر بن عبد الله.
وهل يجوز العمل بالقرائن؟
الجواب: نعم، والدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل بالقيافة
(1)
، وعندنا ثلاث قصص: قصة ليوسف عليه السلام، وقصة لسليمان عليه السلام، وقصة للنبي صلى الله عليه وسلم غير مسألة القيافة، أما قصة يوسف فدليلها قوله تعالى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 26 - 28] والقرينة هنا إذا كان قميصه قُد من دبر فهي الكاذبة؛ لأنها هي التي جذبته إليها، وإن كان قميصه قُد من قُبل فتكون صادقة؛ لأنها أرادت أن تدافع عن نفسها بدفعه فانشق قميصه.
القصة الثانية: قصة سليمان عليه السلام حيث إنه جاء إليه امرأتان تختصمان في طفل صغير، فدعا بالسكين ليشقه نصفين، فقالت الصغرى: هو لها يا نبي الله، ورضيت الكبرى، فقضى به للصغرى
(2)
، ووجه القرينة هنا أن الصغرى رحمته وقالت: لا تشقه، والكبرى أكل ولدها الذئب فقالت: اقضِ عليه لا يهم، وكان داود قد قضى به للكبرى.
والقصة الثالثة: قصة خيبر لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم مال حيي بن
(1)
رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب القائف، حديث رقم (6389)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، حديث رقم (1459) عن عائشة.
(2)
رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب إذا ادعت المرأة ابنًا، حديث رقم (6387)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين، حديث رقم (1720) عن أبي هريرة.
أخطب قالوا: إنه أفنته الحروب، قال:"المال كثير والعهد قريب"، ثم قال للزبير بن العوام رضي الله عنه:"مسه بعذاب"، أي: أمره أن يعذبه، فأقر
(1)
، فهذا من العمل بالقرائن وهو كثير في السنة، وكثير أيضًا في زمن التابعين من القضاة الأذكياء الذين يعملون بالقرائن، وفي كتاب الطرق الحكمية لابن القيم رحمه الله من هذا الباب شيء كثير.
لكن لو قال قائل: كيف نأمر وكيف ننهي، هل نأمر بشدة أو نأمر بسهولة؟
نقول: هذا يبنى على حال الشخص، فالمعاند ليس كالجاهل الأصلي، الجاهل الأصلي نعامله بلطف ولين وبالإقناع حتى يقبل الحكم، والمعاند أو المجاهر هذا له حكم آخر، ويدل لهذا وقائع وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:
منها: قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه بلطف وقال:"إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من القذر والأذى"
(2)
.
ومنها: قصة معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة مرتين، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن "هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"
(3)
.
(1)
تقدم في (1/ 26).
(2)
رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، حديث رقم (285) عن أنس بن مالك، وأصله عند البخاري حديث رقم (219).
(3)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، حديث رقم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.
ومنها: لما رأى في يد رجل خاتمًا من ذهب أخذه النبي صلى الله عليه وسلم ونزعه من يده ثم رمى به ولم يتكلم معه، ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: خذ خاتمك، قال: والله لا آخذ خاتمًا رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
؛ لأن هذا الرجل ليس له عذر، فلكل مقام مقال.
ومن الشروط أيضًا: أن لا يتحول المنكر إلى ما هو أنكر منه، فإن تحول إلى ما هو أنكر منه وجب الكف عن النهي؛ لأنك إذا نهيت وأنت تعلم أنه سيتحول إلى ما هو أَنْكَر، فمعنى ذلك أنك دَعَوْتَ إلى فعلٍ زائد عن المنكر الأول، والزائد عن المنكر الأول منكر، يؤخذ هذا من قول الله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فترك سب آلهة المشركين منكر؛ والواجب سب هذه الآلهة والتحذير منها والتنفير عنها، لكن إذا لزم منه ما هو أشد نُكْرًا وجب الكف، لقوله:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ} .
فلو رأينا شخصًا يشرب الدخان أمامنا، لكن نعلم أننا لو نهيناه عن شرب الدخان لذهب يسرق أموال الناس، ويؤذي الناس ويضايقهم، فهل ننكر عليه شرب الدخان أو لا؟ لا ننكر، وكذلك لو غلب على ظننا أننا لو نهيناه عن الدخان لذهب إلى رفقة يشربون الخمر، فإننا لا ننهاه دفعًا لأعلى المفسدتين بأدناهما.
هذه ثلاثة شروط، واختلف العلماء في الشرط الرابع: وهو
(1)
رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم خاتم الذهب على الرجال
…
، حديث رقم (2090) عن ابن عباس.
هل يلزم أن يكون الآمر فاعلًا لما يأمر به أو الناهي تاركًا لما ينهى عنه، والصواب: أن هذا ليس بشرط؛ لأننا لو قلنا لمن يفعل المنكر: لا تنهَ عنه، لزم من ذلك أن نأمره بمنكرين، ترك الإنكار وفعل المنكر الذي هو يمارس، فنحن نقول: مُر بالمعروف وانهَ عن المنكر، وإن كنت تفعل ما تنهى عنه، أو تترك ما تأمر به، وربما يكون أمره ونهيه سببًا لالتزامه واستقامته؛ حيث إنه يوبخ نفسه ويقول: سبحان الله! أنهى الناس عن المنكر وأفعله، فيستقيم، وأما قول الشاعر:
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله
…
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
فمراده أن تجمع بين الأمرين لا تنهَ وتأتي مثله، فالإنسان الذي يفعل المنكر ويرى المنكر، يجب عليه شيئان: الأول: ترك المنكر، والثاني: النهي عنه، فإذا تعذر الأمر الأول لا نقول: يتعذر الثاني، فالصواب: أنه يجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وإن كان لا يفعله، وأن ينهى عن المنكر وإن كان يفعله، لكن هذا سيكون يوم القيامة أشد عذابًا؛ لأن حاله كحال المستهزئ بالله عز وجل وأحكام الشريعة، كيف تأمر بشيء لا تفعله، كيف تنهى عن شيء وأنت تفعله، ما هذا إلا نوع من الاستهزاء والسخرية، ولذلك كان أشد عذابًا، حيث أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه -والأقتاب: هي الأمعاء- فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر، فيقول: بلى، ولكني آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم
عن المنكر وآتيه"
(1)
فيفضح هذه الفضيحة والعياذ بالله.
وليعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير تغيير المنكر، ولهذا جاءت النصوص مطلقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه يكون ممن له ولاية، وممن ليس له ولاية، وجاء التغيير مقيدًا بالاستطاعة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"
(2)
لأن التغيير لا بد أن يكون من ذي سلطة، كولي الأمر مثلًا ونوابه، وكذلك الرجل في أهله، يستطيع أن يغير المنكر بيده، لكن في الشارع عليه الأمر والنهي فقط، والإلزام بمأمور به أو التغيير لمنكر هذا ليس إليه، وذلك لما يحدث من الفوضى، فلا يفتح لكل أحد من الناس؛ لأنه لو فتح لكل أحد من الناس لكانت المسألة فوضى، ولكان كل إنسان يرى أن هذا منكر، ولو كان الفاعل لا يراه منكرًا، يقوم ويغير بيده، فالتغيير لمن له ولاية وسلطة، فالأمير في بلده له ولاية وسلطة، والإنسان في بيته كما تقدم له ولاية وسلطة.
لكن لو قال قائل: هل الدعوة إلى الله هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو شيء آخر؟
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، حديث رقم (3094)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله، حديث رقم (2989) عن أسامة بن زيد.
(2)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، حديث رقم (49) عن أبي سعيد الخدري.
الجواب: الدعوة واجبة بكل حال، سواء رأيت منكرًا أم لم تره، وسواء رأيته تفريطًا في واجب أم لم تر، ولهذا قال الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] بدأ بالدعوة إلى الخير ثم ثنى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصارت المراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى: الدعوة إلى الخير والبيان بالمعروف، وبيان المنكر.
المرتبة الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المرتبة الثالثة: التغيير بفعل المعروف وإزالة المنكر، وكثير من الناس لا يتفطن لهذا الفرق، ويظن أن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير سواء.
* * *
° قال الله عز وجل: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 80].
قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
{تَرَى} : يحتمل أن تكون رؤيا علمية، ويحتمل أن تكون رؤية بصرية؛ لأن تولي الكافرين يشاهد بالعين ويعلم بالقلب، ثم هل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن كان في زمنه أو لكل إنسان؟ الظاهر العموم، وهكذا ينبغي أن نسلك طريق العموم في جميع الخطابات القرآنية؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى قيام الساعة، إلا إذا منع منه مانع فيجب أن نقتصر على ما دل عليه.
وقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} أي: من هؤلاء الذين
لعنوا من بني إسرائيل {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: يتخذونهم أولياء، يوالونهم بالنصرة والمعونة والمساعدة، ومن هؤلاء اليهود حينما ساعدوا قريشًا عام غزوة الأحزاب
(1)
، فإنهم تولوا الذين كفروا وساعدوهم وعاونوهم، ومن هذا تولي اليهود للنصارى في وقتنا الحاضر، هذا إذا قلنا: إن "ترى" عامة؛ لأن النصارى من الذين كفروا، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 6]، وهذا بيان للذين كفروا.
وقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: إن المراد بالذين كفروا هم الذين كفروا بقلوبهم وآمنوا بألسنتهم وهم المنافقون؛ لأن المنافقين مع اليهود في المدينة على خط واحد يتولونهم ويساعدونهم ويمكرون بالنبي عليه الصلاة والسلام كما يمكر المنافقون، ولو قيل: إن الآية عامة، لكان أولى من باب استعمال الاسم المشترك في معنيين، أو بناءً على القاعدة التي تقررت: أنه إذا كانت الآية أو الحديث يدل على معنيين على السواء، ولا ينافي أحدهما الآخر، فالواجب حمله على المعنيين، توسيعًا للمعاني الشرعية، وتبرئة للذمة؛ لأننا لو اقتصرنا على أحد المعنيين والله ورسوله أراد المعنيين، لتعلق ذلك بذممنا.
وقوله: {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : هل المراد كفروا ظاهرًا وباطنًا، أو كفروا باطنًا وآمنوا ظاهرًا، أو الأمران؟ الأمران جميعًا.
قوله: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}
(1)
انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 171)، تاريخ الطبري (2/ 91).
يعني: لبئس الذي قدمت لهم أنفسهم {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، يعني: أن سخط الله عليهم بئس ما قدموه لأنفسهم، وإنما قدموا سخط الله لأنفسهم؛ لأنهم فعلوا ما يوجب سخطه، فكأنهم قدموا لأنفسهم سخط الله عليهم.
وقوله: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} السخط والغضب معناهما متقارب، وهما وصفان ثابتان لله عز وجل على وجه الحقيقة، وهما غير الانتقام، وغير إرادة الانتقام، بل هما شيء سابق لإرادة الانتقام، وسابق للانتقام، فالانتقام غير السخط، بل هو نتيجته، والدليل على ذلك:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] آسفونا يعني: أغضبونا، لكن بالنسبة لنا: السخط حال تعتري الإنسان عند وجود ما يثيره من قولٍ أو فعل، وتجد الإنسان ينفعل ويختل تفكيره حتى إنه يفعل ما لا تحمد عقباه، والسخط يكون فيه انتقام من الساخط، وقد يعفو الله عز وجل عن المسخوط عليه إذا اقتضت رحمته وحكمته ذلك.
قوله: {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} فيه نوع من التوكيد وذلك بوجود الضمير، وإلا لو قيل:"لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب خالدون"، لاستقام الكلام، لكن جاءت كلمة "هم" للتوكيد، والخالد: هو الماكث مكثًا طويلًا هذا في الأصل، وقد يراد به المكث الدائم حسب الأدلة والسياق.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن بني إسرائيل قد يتولون الكفار، ممن كُفْرُهُمْ صريح أو خفي، فهم يوالون الكفار والمنافقين -والعياذ بالله- على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضهم مع بعض قد لا يكون
بعضهم إلى الآخر حبيبًا ومستحقًّا للولاية، لكن لأنهم ضد ثالث.
الفائدة الثانية: التحذير من موالاة الكافرين، وموالاة الكافرين أنواع كثيرة، منها ما يصل إلى الكفر ومنها ما هو دون ذلك، فالتولي التام كفر، بمعنى أن يكون معهم على الخطأ والصواب وعلى المسلم وغير المسلم، وعلى دين الإسلام وغيره، هذا لا شك أنه كفر، والتولي في بعض الأمور كالمعاقدة معهم في أمور اقتصادية مثلًا أو تجارية أو عمل حرث أو زراعة هذا لا يؤدي إلى الكفر؛ لأنه قد يعامله وقلبه منكر له مبغض له، بخلاف الذي يقول: إنه معهم على الخطأ والصواب، فهذا لا شك أنه كما قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
لو قال قائل: هل هناك فرق بين الموالاة والتولي؟
الجواب: لا فرق بينهما، تولاه ووالاه لا فرق بينهما.
لو قال قائل: عمل المسلم مع الإذاعات التي تبث من الدول غير المسلمة حيث إنه ينقل أخبار المسلمين إليهم هل هي من الموالاة؟
الجواب: لا يجوز، والصحفي الذي ينقل أخبار المسلمين إلى الكفار هذا جاسوس، والصحيح أن الجاسوس ولو كان مسلمًا يجب أن يقتل، يعني لو تأكدنا أن هذا الرجل يجس بأخبارنا إلى أعدائنا، وجب أن نقتله لا شك في هذا، وحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إنما منع قتله أنه من أهل بدر، وهذا يدل على أن غير أهل بدر يقتلون، ولا شك أنه يقتل؛ لأن هذا من أعظم الفساد في الأرض هذا إذا كانت هذه الأخبار تضر
بالمسلمين وتنفع الكفار؛ لأنها قد تكون مجرد أخبار وحوادث فقط.
لو قال قائل: ما حكم مساعدة الكفار للقتال ضد المسلمين ليس حبًّا في دين الكفار، ولكن حسدًا وبغضًا على هؤلاء المسلمين؟
الجواب: هذا معناه أنه يريد أن يظهر الكفار على المسلمين، وهذا لا يجوز.
لكن لو قاتل مع الكفار عدوًا للمسلمين، أشد عداوة من الذين يقاتل معهم، يعني: هؤلاء القوم من الكفار أعداء للمسلمين لا شك، هناك عدو ثالث للجميع، وهو بالنسبة لعداوة المسلمين أشد خطرًا من الآخرين، فهل لنا أن نقاتل مع هؤلاء لأن هذا العدو أخطر علينا من الآخر الذي نقاتل معه، أو نقول: لا نقاتله وليتقاتل الطرفان وليغلب الأشد علينا من الآخر؟ الظاهر أننا نقاتل معهم بشرط أن لا نخشى من أن يتقوى الجانب الذي نقاتل معهم ثم ينقلبون علينا؛ لأن هذا وارد، ربما يفعلون هذا إذا قاتلنا معهم وقضوا على عدوهم بمساعدتنا أن ينقلبوا علينا، ويكون كما قال الشاعر:
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
…
...............................
الفائدة الثالثة: الرد على الجبرية، لقوله:{قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، وقوله أيضًا:{يَتَوَلَّوْنَ} .
الفائدة الرابعة: الاستدلال بالأمور الحسية، يعني: إقامة الدليل الحسي مما جاء في القرآن الكريم، لقوله:{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فإن هذا كما تقدم في التفسير يحتمل الرؤية العلمية والرؤية البصرية.
الفائدة الخامسة: إثبات سخط الله عز وجل، لقوله:{أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} ، ومذهب أهل السنة والجماعة المتلقى من طريق السلف الصالح الصحابة والتابعين، إثبات هذه الصفة لله عز وجل، وأنه يسخط ويغضب، ويحب ويكره، ويبغض ويمقت، إلى غير ذلك مما أثبته الله لنفسه، فمذهب السلف الصالح: أننا نثبت هذا لله حقيقة، ولكن في علمنا ويقيننا أن ذلك لا يماثل صفات المخلوقين؛ لأن الله يقول: ليس كمثله شيء ولو أننا حرفنا وقلنا: السخط هو الانتقام لافترينا على الله كذبًا؛ لأنه يقال لمن فعل ذلك: أين دليلك على أن الله أراد هذا؟ ونحن متعبدون بظاهر اللفظ، والقرآن عربي ونازل باللغة العربية، لو صرفناه عن ظاهره لكنا افترينا على الله كذبًا بغير حجة، وما موقف الإنسان من ربه يوم القيامة، إذا اعتقد هذا الاعتقاد - أعني: الاعتقاد، أن السخط: هو إرادة الانتقام أو الانتقام - فالصواب في هذا المتعين الواجب على المؤمن الذي يريد إنقاذ نفسه، أن يجري آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها.
فإذا قال قائل: إن ظاهرها التمثيل، قلنا: كذبت، لا يمكن يكون ظاهرها التمثيل؛ لأن التمثيل معنى باطل، ولا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله ورسوله شيئًا باطلًا بأي حال من الأحوال.
فإذا قال: هذا الظاهر، وأصر على ذلك، قلنا: أين الدليل لك على أن هذا هو الظاهر؟ إذا قال: إن العقل يمنع أن يقوم السخط بالله أو الغضب بالله أو الكراهة بالله، قلنا: عقل من؟ والعقل لا مجال له في الأمور الغيبية إطلاقًا، وإنما فَرْض العقل
في الأمور الغيبية هو التسليم والتصديق؛ لأننا أقل من أن ندرك ما أخفاه الله علينا، وإذا كان الله عز وجل ينكر على من يسألون عن الروح، ويقول:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، فما كان أعظم من الروح، فهو أولى بالخفاء علينا.
ولهذا ضرب شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة التدمرية، ضرب مثلًا بالروح قال: روح الإنسان مجهولة لا يعلم من أي عنصر هي، ولا يعلم كيفية الروح، إلا ما جاءت به الشريعة فقط، من أن الروح تقبض وتجعل في كفن عند الموت وتحنط، ويصعد بها إلى السماء، وتقبض، ما عدا ذلك ليس لنا فيه علم، فإذا كان هذا في شيء مخلوق، أي: أننا لا ندركه مع أنه شيء مخلوق فما بالك بالخالق، المخالف لجميع الأشياء، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
فالواجب على من نصح نفسه، أن يقول في كل ما أخبر الله به ورسوله عن نفسه أن يقول: سمعنا وصدقنا وآمنا، لكن على أساس أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهذا إجماع من السلف، فكون السلف يقرؤون الآيات ولا يفسرونها بخلاف ظاهرها، يدل على أنهم مجمعون على ما دل عليه ظاهرها، وهذا في الحقيقة طريق جيد لنقل الإجماع؛ لأنك لو أردت أن تطلب من كل إنسان أن يثبت لك قولًا واحدًا من أقوال السلف قد لا تستطيع، لكن نقول: كونهم يقرؤون القرآن والحديث ولم يرد عنهم تأويله يدل على أنهم أخذوه على ظاهره.
* * *
° قال الله عز وجل: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة: 81].
قوله: {وَلَوْ كَانُوا} الضمير يعود على اليهود الذين حدث الله عنهم أولًا.
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي: حق الإيمان، والإيمان مع الكفر بالرسل لا يسمى إيمانًا، حتى لو قال: أؤمن بالله وأن الله سبحانه وتعالى حي، عليم، قادر، مدبر للأشياء، فإن ذلك لا يعد إيمانًا مع الكفر.
قوله: {وَالنَّبِيِّ} "أل" هنا للعهد الذهني وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} أي: القرآن، والمُنْزِلُ له هو الله تبارك وتعالى.
قوله: {مَا اتَّخَذُوهُمْ} هذا جواب "لو"، يعني: ما اتخذوا الذين كفروا أولياء، ولم يقترن جواب لو بـ "اللام"؛ لأنه نفي، واللام للتوكيد والإثبات، ولا يتناسب هذا وهذا، ولذلك كان الأكثر في جواب لو الشرطية إذا كان مثبتًا أن يقترن باللام، وإذا كان منفيًا أن يتجرد من اللام، فإذا قلت: لو زرتني أكرمتك صح، ولو قلت: لو زرتني لأكرمتك صح، وأيهما الأكثر؟ الثاني، (لأكرمتك)، وقد اجتمع النوعان في سورة الواقعة، فقال الله تبارك وتعالى في الزرع:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65]، لجعلناه بإثبات اللام وقال في الماء:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] فحذف اللام، أما إذا كان جواب لو منفيًا بـ "ما" فإن الأكثر تجرده من اللام، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا
عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، ولم يقل: لما عبدناهم، ووجه ذلك: أنه لا يتناسب التوكيد باللام مع الاقتران بـ (ما)، لكن مع ذلك تأتي في اللغة العربية كما في قول الشاعر:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا
…
ولكن لا خيار مع الليالي
قال: لما افترقنا، المعنى لو كان الأمر بأيدينا لما افترقنا، ولكن تأبى الليالي إلا أن نفترق.
في هذه الآية قوله: {مَا اتَّخَذُوهُمْ} جَرْيٌ على الأكثر، (ما اتخذوهم) أي: ما صيروهم أولياء.
قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعة الله، والمراد بالفسق هنا الفسق الأكبر المخرج عن الملة.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن اتخاذ الكافرين أولياء منافٍ للإيمان بالله ورسوله وكتابه، لقوله:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} .
الفائدة الثانية: أن النبي يطلق على الرسول، وفي هذه السورة ذُكر الرسول والنبي وكلاهما للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67] وفي هذه الآية يقول: {وَالنَّبِيِّ} ، وفي القرآن الكريم أكثر ما ذكر الرسل بوصف النبوة، اقرأ إن شئت سورة مريم، واقرأ قول الله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].
الفائدة الثالثة: أن القرآن منزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لقوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} هذا الإنسان معتنى به أكمل عناية، لقول الله
تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)} [الشعراء: 192]، تأمل قوله:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} ليتبين لك عظمة هذا القرآن، وأن العالمين ملزمون بقبوله؛ لأنه نازل من ربهم، ثم تأمل قول الله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193]، الروح جبريل؛ لأنه موكل بالوحي الذي به حياة القلوب، فهو أمين مؤتمن، لا يمكن أن يزيد فيه ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر عليه الصلاة والسلام.
أين وعاء هذا المُنَزَّل {عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194]، والشيء إذا حل بالقلب لا بد أن يؤثر على البدن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
.
الفائدة الرابعة: ثبوت علو الله عز وجل، لقوله:{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} ، ومعلوم أن المنزل هو الله تبارك وتعالى، والتعبير بالإنزال يدل على علو المنزل، وهو كذلك، وعلو الله عز وجل ثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة والإجماع، ثبوتًا لا شك فيه، أما الكتاب فالآيات في ذلك كثيرة متنوعة الدلالة، وأما السنة فكذلك، اجتمع فيه -أي: في العلو- الدلالة القولية والفعلية والإقرارية، والدليل على الإقرارية أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية:"أين الله؟ " قالت: في السماء، فقال:"أعتقها فإنها مؤمنة"
(2)
.
(1)
تقدم في (1/ 143).
(2)
رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، حديث رقم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.
ودليل الفعلية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشهد الله على إقرار الأمة بأنه بلغ فيرفع إصبعه إلى السماء ويقول: "اللهم اشهد"
(1)
، أما القول: فلا يحصى.
وأما دلالة العقل على علو الله، فكل إنسان عاقل يعرف أن العلو صفة كمال، سواء أكان معنويًا أم حسيًا، والله تبارك وتعالى يقول:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، والعقل يدل على أنه يجب أن يكون للمعبود المثل الأعلى.
أما الفطرة فحدِّث ولا حرج، تجد النساء والأطفال الذين لم يدرسوا يشهدون بفطرهم أن الله تعالى فوق وأنه عالٍ، ولا يمكن أن يحيد عن هذه الفطرة إلا من أزاغ الله قلبه والعياذ بالله.
بقي الإجماع، إجماع المسلمين قبل أن يحدث هذا الخلاف، فإنه ما من أحد منهم قال: إن الله ليس في السماء أبدًا، لا تصريحًا ولا تلميحًا، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الآثار عن الصحابة، ليس فيها حرف واحد يدل على أن الله في كل مكان أبدًا، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.
والعجب أنه يوجد من المسلمين مَنْ يؤمن بأن الله في كل مكان -نسأل الله العافية- ولا أدري كيف يستسيغ الإنسان أن يقول: إن الله في كل مكان، وهو يعرف أنه سوف يدخل المرحاض وبيت الخلاء، فهل يمكن لإنسان عنده مسكة عقل أن يعتقد مثل هذا، لا والله، لكن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يهتدون، نسأل الله العافية.
(1)
تقدم في (1/ 467).
فالواجب على طلبة العلم نشر العقيدة الصحيحة حول هذا الموضوع المهم، أنا أخشى إن لاقى الإنسان ربه على هذه العقيدة أن لا يتولاه الله، ولا يكلمه الله؛ لأنها عقيدة من أبطل العقائد -والعياذ بالله- ومع ذلك فهي موجودة، كما أحسسنا بذلك في دروس الحرم، حتى إن الواحد من الناس لو قلت له: أين الله؟ قال بلا تردد: في كل مكان، وكأنه شيء ثابت عنده، ولهذا يجب على طلاب العلم أن يعتنوا بهذه المسألة.
نحن في بلادنا والحمد لله لا نعرف هذه العقيدة الباطلة، ولا يمكن أن يدور في فكر أي إنسان أن الله في كل مكان، لكن في بعض البلدان التي أشربت عقيدة الضلال -والعياذ بالله-، وصاروا يقرؤونها في الكتب ويتعلمونها صغارًا، ويشيخون عليها كبارًا هم الذين تأثروا بها، فعلينا أن نعتني بهذه المسألة وبغيرها من المسائل التي شاعت في العالم الإسلامي، وهي خلاف الصواب.
الفائدة الخامسة: ما أشرنا إليه أولًا: أن اتخاذ الكافرين أولياء ينافي الإيمان بالله، ورسوله، وكتابه، الدليل:{مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} .
الفائدة السادسة: الاستدلال بالمحسوس على المعقول، وإن شئت فقل: بالمشاهد على الخفي، وجه ذلك: أن الإيمان في القلب، ولا أحد يعلم عن الإيمان الذي في القلب، لكن الآثار تدل عليه، والأثر الذي دلنا على أنهم لم يؤمنوا هنا، هو تولي الكفار، واتخاذهم أولياء.
الفائدة السابعة: أن الفسق يطلق على الكفر، لقوله:{وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهو كذلك، ولذلك شاهد،
وقولي: وهو كذلك، لست أريد أن أقرر الآية؛ لأنها معروفة لكن لها شاهد، اقرأ سورة السجدة ماذا قال الله؟ قال الله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 20]، في مقابل الذين آمنوا، وإذا جاء الفسق في مقابل الإيمان، والوعيد في مقابل الوعد، فالمراد به الكفر.
الفائدة الثامنة: وجوب الاحتراز عند الكلام، بمعنى أن لا تعمم فتقول مثلًا: كل أهل هذه البلدة كلهم فسقة، كلهم فجار، كلهم كذا، لا تعمم؛ لأنك لا تدري، ولهذا اسمع إلى عالم الخفيات جلَّ وعلا يقول:{وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، فإياك والتعميم فتقع في الخطر أو في الكذب.
لو قال قائل: هل معرفة تفسير القرآن واجبة؟
الجواب: تفسير ما لا يقوم دين المرء إلا به فهو واجب، مثل قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] يجب أن نعرف ما معنى إقامة الصلاة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] كذلك، وما زاد على ذلك فهو فرض كفاية، وإن حصل أن الإنسان يتأمل القرآن كلما قرأه، ويحاول أن يعرف المعنى بنفسه، ثم يرجع بعد ذلك إلى أقوال المفسرين فهذا طيب، وبهذا يكون عنده ملكة في معرفة تفسير القرآن؛ لأن كون الإنسان يريد أن يفهم معنى آية فيذهب بلا تردد إلى كتب التفسير، لا ينتفع كثيرًا، يعني: كونه يقرأ أقوال المفسرين فقط قراءة عابرة هذا لا يستفيد الفائدة المطلوبة، بل يحاول أولًا أن يعرف المعنى أو يكون معنى في نفسه، ثم يعرض ما فهمه على كتب المفسرين، لئلا يضل؛ فإن طابق فهذا من نعمة الله، وإن خالف فليرجع عن تصوره أو عن
فهمه؛ لأنَّا وجدنا هذا أقوى في معرفة التفسير، وأمكن في قلب الإنسان، هذه قاعدة.
لكن لو قال قائل: ما الحد الأدنى من المعرفة التي تجعل الإنسان يحاول التفسير بنفسه؟
الجواب: أن يكون طالب علم، يفهم ويعرف، ولا نقول للعامي الذي لا يعرف إلا الدكان: تعال حاول أن تفسر القرآن.
لو قال قائل: هل يفسر طالب العلم معاني الكلمات أم ماذا؟ المراد أن يفسر المعنى الإجمالي، وما تدور حوله الآية وأما معاني الكلمات فليست بلازمة.
القاعدة الثانية: إلام نرجع في التفسير؟ أولًا: نرجع إلى كتاب الله يعني: أن نفسر القرآن بالقرآن؛ لأن المتكلم به سبحانه وتعالى أعلم بمعناه، فإذا جاء تفسير القرآن بالقرآن فلا تَعْدُوهُ، أي القرآن، وأحيانًا يفسر الله عز وجل المعنى بالأحكام التي تكون، وأحيانًا يفسره بالمعنى المطابق، فقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)} [الانفطار: 17 - 18]، لو أردنا أن نفسرها بالمعنى لقلنا: يوم الدين: اليوم الذي تجازى به النفوس بما كسبت؛ لأن الدين معناه الجزاء، لكن الله تعالى بَيَّنَ ما يكون في ذلك اليوم، فقال:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار: 19]، وقال تعالى:{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)} [القارعة: 9 - 10]، قال:{نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 11]، ففسر الهاوية بالنار الحامية.
فعلى كل حال: نرجع إلى تفسير القرآن بالقرآن، ووجه ذلك: أن الذي أنزله سبحانه وتعالى أعلم بمعناه.
ثانيًا: بعد ذلك نرجع إلى التفسير بالسنة، والتفسير بالسنة أنواع لا تحصى، تارة يكون بلفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، وتارة يكون بفعله، وأنواع كثيرة مثلًا:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، الحسنى هي: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله، هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
إذًا: ليس لنا أن نقول: هل هناك معنى آخر؟ لا نقول هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بذلك، وهو أعلم الناس بمعاني كلام ربه تبارك وتعالى، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، قال:"ألا إن القوة الرمي"
(2)
، يعني هو أعلى أنواع القوة وإلا فهناك قوة أخرى غير الرمي، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، الآن أشد ما يكون هو الرمي، ليس الرمي بالقوس وما أشبه ذلك، فالرمي يشمل كل رمي يحدث إلى يوم القيامة، الآن القنابل الهيدروجينية، والنووية، والأشياء هذه كلها داخلة في الرمي. إذًا: القوة فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بالرمي، فلا نتعداه، وقد يقال في هذه المسألة بالذات: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يفسرها بمثال، وأن القوة تكون بالرمي وتكون بالكر والفر والخداع وما أشبه ذلك، لكن يشكل على هذا الاحتمال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها على وجه الحصر، قال:"ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"
(3)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، حديث رقم (181) عن صهيب الرومي.
(2)
تقدم في (1/ 384).
(3)
تقدم في (1/ 384).
ثالثًا: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا السنة، رجعنا إلى تفسير الصحابة؛ لأننا نعلم أن أعلم الناس بكلام الله بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هم الصحابة؛ لأنه نزل في عصرهم، وبلغتهم، ومعلوم أن معاني الألفاظ تختلف باختلاف الأحوال، قد تخاطب بلفظ واحد أمة، وتخاطب أمة أخرى، ويكون المراد بالخطاب الأول غير المراد بالخطاب الثاني، ولا شك أن القرآن إذا كان نزل غضًا طريًا في عهدهم وعصرهم وأحوالهم، والملابسات التي توجب فهم النص على ما أراد الله، لا شك أن هذا يرجح أن يكون المرجع أقوال الصحابة.
لكن الصحابة قد يفسرون الشيء بالمثال، فإذا كان اللفظ يحتمل معنى غير ما قالوا، فليكن مفسرًا بالمعنى الذي قالوا، وبالمعنى الآخر، هاتان قاعدتان مهمتان.
قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، قوله:{لَتجَدَنَّ} هذه الجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاث:
القسم المقدر الذي دلت عليه اللام بقوله: {لَتَجِدَنَّ} ، ولهذا يسمي النحاة هذه اللام موطئة للقسم، ومؤكدة أيضًا باللام وبالنون، والخطاب فيها إما للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون الحديث عن اليهود والنصارى والمشركين في هذه الآية الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون الخطاب لكل من يتوجه إليه الخطاب، فتكون هذه الأوصاف عامة في هؤلاء إلى يوم القيامة، فالآية محتملة، ومع ذلك حتى لو قلنا بالعموم، فلا تعم كل يهودي بعينه أو نصراني بعينه أو كل مسلم بعينه، لكن هذا الحكم على سبيل العموم، والأحكام تأتي دائمًا على سبيل العموم كما تقول: الرجال خير من النساء، يعني هذا الجنس خيرٌ من هذا الجنس، ويوجد في النساء من هو خير من كثير من الرجال، ويوجد في الرجال من هو شر من كثير من النساء.
إذًا: الخطاب يحتمل أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيختص الحكم بهؤلاء الذين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتمل العموم ويكون المراد الجنس ليس كل فرد، فلا نقول كل يهودي أشد الناس عداوة للمؤمنين، ولا كل نصراني أقرب الناس مودة بل هذا باعتبار الجنس.
وقوله: {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} ، يحتمل في "أشد" أن تكون هي المفعول الأول، ويكون المراد الإخبار عن أشد الناس عداوة، ويحتمل أن تكون (أشد) مفعولًا ثانيًا، ويكون المراد الإخبار عن هاتين الطائفتين اليهود والنصارى، بأنهم أشد الناس عداوة.
فأيهما أعظم أن نجعل {أَشَدَّ} هي المفعول الأول،
و {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هي المفعول الثاني، أو العكس؟ الأول أشد، يعني لو سألت عن أشد الناس عداوة لوجدتهم اليهود والذين أشركوا، إذًا نقول:{أَشَدَّ} هي المفعول الأول، وهي في محل مبتدأ؛ لأن وجد تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فحينئذٍ يكون المعنى الإخبار عن أشد الناس عداوة، وإذا جعلنا أشد مفعولًا ثانيًا مقدمًا صار المعنى الإخبار عن اليهود والذين أشركوا أنهم أشد الناس عداوة، لكن المعنى الأول أشد وأعظم.
وقوله: {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} العداوة ضد الولاية، قال الله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} [فصلت: 34]، أي: صديق مخلص.
وقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعني: بذلك المؤمنين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا إذا جعلنا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن جعلناه للعموم فالمراد الذين آمنوا في كل وقت.
وقوله: {الْيَهُودَ} هم الذين يدَّعون أنهم أتباع موسى، ويقولون: نحن شعب الله المختار، ويحتقرون من سواهم من الشعوب، وقد عرفوا بالاستكبار والتعالي والتعجرف حتى على رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، سموا يهودًا قيل: إنه مأخوذ من قوله تعالى: {الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 41]، وقولهم:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، وقيل: إنه اسم لجدهم، وأن اسمه يهوذا، ومع التعريب صارت الذال دالًا، وأيًا كان فهم معروفون، هم طائفة من بني إسرائيل يدَّعون أنهم متبعون لموسى عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الذين أشركوا من العرب وغيرهم، فهذان الصنفان من بني آدم هم أشد الناس عداوة للمؤمنين، أما اليهود فوجه عداوتهم، أنهم حسدوا العرب؛ لكون الرسالة العامة الخالدة فيهم، وكان اليهود من قبل يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيبعث نبي ونتبعه وننتصر عليكم، ولما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم من العرب حسدوهم، وأنكروا ذلك، أما الذين أشركوا فهم المشركون، وصاروا أشد الناس عداوة؛ لأنهم ضد التوحيد، والمؤمنون موحدون، والمشرك يبغض الموحد، ويكرهه، ويراه أنه أشد الناس عداوة له.
قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} {لتجدن} : نقول فيها ما قلنا في الأولى، أي: نقول في إعراب "أقرب" ما قلنا في أشد، وهنا قال:{أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} ولم يقل: أشدهم مودة؛ يعني ليس عندهم مودة لكنهم قريبون، يعني أن الله عز وجل قال في اليهود أنهم:{أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} ، لكن هؤلاء قال هنا:{أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} ، ومعلومٌ أن القرب ليس هو الوصول، فهم ليس عندهم مودة للمؤمنين أعني: النصارى، لكنهم أقرب من غيرهم مودة، ولو كان عندهم مودة لقال: أشد الناس مودة أو ما أشبه ذلك.
وقوله: {مَوَدَّةً} المودة من الود وهو: خالص المحبة، ومن أسماء الله تعالى الودود، بمعنى الوَادّ وبمعنى المودود.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، النصارى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام قريبون من المؤمنين، ولذلك أسلم منهم خلق كثير، وممن أسلم ملك الحبشة رحمه الله، فإنه آمن
بالرسول عليه الصلاة والسلام وآوى المهاجرين من أصحابه إيواءً يشكر عليه، ونسأل الله أن يثيبه عليه أتم الثواب، فقد آمن حتى وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخ للصحابة، وأنه صالح حين توفي، قال:"إنه توفي اليوم لكم أخ صالح"
(1)
، فوصفه بالصلاح والأخوة رحمه الله، وكذلك أسلم من النصارى كثير؛ لأن النصارى أقرب عهدًا بالرسالة من اليهود، فإنه ليس بين نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} عبر القرآن بقوله: {نَصَارَى} وكثير من المسلمين اليوم يسمونهم مسيحيين، وقد حدثت هذه التسمية بعد الاستعمار، وإلا تجد كلام العلماء رحمهم الله، إلى أن بدأ الاستعمار وذل المسلمون أمام قوة الاستعمار، تجدهم لا يعبرون إلا بالنصارى، انظر كتب العلماء السابقين إلى أن استعمر الغرب الدول الإسلامية، فقالوا: المسيحيين، والكُتَّاب الذين عاشوا تحت وطأة الاستعمار تابعوهم؛ لأن الغالب كما قال ابن خلدون في مقدمته: الغالب أن الذليل يخضع للعزيز ويتابعه، وإلا فليسوا بمسحيين، وإذا نزل المسيح في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يقبل إلا الإسلام، حتى الجزية لا تقبل في ذلك الوقت
(2)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنازة، حديث رقم (1257) عن جابر بن عبد الله.
(2)
رواه البخاري، كتاب المظالم، باب كسر الصليب وقتل الخنزير، حديث رقم (2344)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (155) عن أبي هريرة.
وقوله: {النصارى} أي: الأنصار، هذا أحسن ما يقال في تفسيرها؛ لأنه يؤيده قوله في سورة الصف:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14].
ثم علل الله عز وجل ذلك بعلل، فقال:"ذَلِكَ" المشار إليه كون النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا، {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} هذه خمسة أسباب:
السبب الأول: "ذلك" أي: سبب كون هؤلاء أقرب مودة للذين آمنوا، بأن منهم قسيسين ورهبانا والقسيس هو العالم الكبير، والعالم عنده معرفة يعرف الحق ويعمل به، لا سيما أن التوراة والإنجيل فيهما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وصفًا مطابقًا تمامًا، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وقال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]. وقال تعالى أيضًا: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، كل هذه الصفات موجودة في التوراة والإنجيل، فهم عندهم علم أعني القسيسين.
وأيضًا سبب كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بأن منهم رهبانًا، والرهبان العباد؛ لأن النصارى فرضوا على أنفسهم
رهبانية لم تفرض عليهم، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] يعني ما فرضناها عليهم، لكن هم يبتغون رضوان الله، يريدون بذلك رضوان الله وهي غير مكتوبة عليهم.
نظيرهم عندنا في الملة الإسلامية الصوفية، عندهم رهبانية ابتدعوها ما فرضها الله عليهم، لكن هم يبتغون بذلك رضوان الله، ولو رجعوا إلى أنفسهم لعلموا أن رضوان الله إنما يكون في الاتباع لا في الابتداع.
السبب الثاني: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ليس عندهم استكبار، لكن المشركون عندهم استكبار، قال تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} [الفرقان: 41]، والهمزة هنا للاستفهام الاحتقاري، ويقولون:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، واللهِ هم يعلمون أن أعظم من في القريتين ومن في الأرض كلها هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، لكنَّه العناد والاستكبار، ولما جمعهم ودعاهم إلى الله، قال أبو لهب: تبًا لك ألهذا جمعتنا، أما اليهود فحدِّث ولا حرج في الاستكبار، حتى قالوا لنبيهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، قاعدون على الكراسي .. على الأرض .. على الفرش، وأنتم اذهبوا إلى القتال، أفبعد هذا الاستكبار شيء؟
الجواب: لا، فهم مستكبرون، وإذا كان هذا قولهم لنبيهم، فما بالك بنبي بعث من العرب.
السبب الثالث: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} نقل المؤرخون والمفسرون أيضًا أن الذين هاجروا إلى الحبشة، لما قرؤوا القرآن على النجاشي ومن حوله جعلوا يبكون، {تفيض أعينهم من الدمع} ، يعني: تمتلئ، من قولهم: فاض الإناء إذا امتلأ وخرج الماء من حافتيه، أعينهم قامت ترقرق بالدمع وتفيض مما عرفوا من الحق، وقالوا: هذا الذي نزل على عيسى، فعرفوا أن هذا هو الحق، كما قال ورقة بن نوفل للرسول عليه والصلاة والسلام حين أخبره بما نزل عليه من الحق، قال: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى
(1)
، فهم عرفوا الحق وبكوا.
السبب الرابع: أنه ليس عندهم استكبار، مسلمون للحق من حين أن عرفوه، والمراد هنا الجنس، يعني: عموم النصارى ليس فيهم استكبار، فالمشركون واليهود قد يكون عند بعضهم أعظم من استكبار اليهود والمشركين.
السبب الخامس: يقولون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، إقرار بالربوبية في قولهم:{رَبَّنَا} ، وبدين الله في قولهم:{آمَنَّا} ، {فَاكْتُبْنَا}: الفاء هذه للسببية، أي: فبسبب إقرارنا بالرب عز وجل وإيماننا به اكتبنا مع الشاهدين، والذي يسأل الله أن يكتبه مع الشاهدين، هل يمكن أن يستكبر عن دين الشاهدين؟ لا يمكن، هم يسألون هذا، الشاهدون من هم؟
قال العلماء: الشاهدون هم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمته، الحمد لله؛
(1)
رواه البخاري، كتاب التعبير، باب أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، حديث رقم (6581)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (160) عن عائشة.
لأن الله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] يعني: عدلًا خيارًا، فلا أحد من الأمم أعدل من هذه الأمة، اللهم اجعلنا منهم، قال تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، نحن نشهد على الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يشهد علينا أنه بلغنا وأننا أقررنا بتبليغه، إذًا قوله:{مَعَ الشَّاهِدِينَ} : يعني مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكانوا شهداء؛ لأنهم هم آخر الأمم، كل الأمم ماضية وسابقة يعرفونها، لكن هل الأمة الأولى تشهد على من بعدها؟
الجواب: لا، لا تشهد، ولذلك لو سئلنا: مَنْ الأمة الشاهدة؟ لقلنا: أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها آخر الأمم، تعرف ما جرى على الأمم وتشهد به.
قوله: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} ، هذا الحديث {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} يحتمل أنه حديث نفس، بمعنى أن الواحد منهم يقول: كيف لا أؤمن والحق واضح، ويحتمل أنه دفع للوم وُجِّهَ إليهم، يعني قيل لهم: لماذا تؤمنون بمحمد؟ فقالوا: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ، هل يمكن أن يكون لهذا وهذا؟ يمكن أن يكون بعضهم يصارع نفسه ونفسه تقول له وتحدثه: لماذا تؤمن، فيقول:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} عندما يفكرون يرون أنهم لا بد أن يؤمنوا لأن الحق واضح، ويحتمل أنهم إذا ألقى إليهم أحدٌ لومًا، وقال: كيف تؤمنون، يقولون:{وَمَا لَنَا} ، يعني أي شيء يصدنا، وأي شيء يمنعنا ألا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق، وهذا يدل على كمال عقلهم.
وقوله: {ونَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} ، سبحان الله تعبير المؤمن، بقوله:{وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} والحكمة من التعبير بقوله {نطمع} لأن الإنسان لا يجزم، قال الله عز وجل:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] بل الإنسان إذا جزم لنفسه بأنه من أهل الجنة فهذا غلط عظيم، لكن يرجو ويطمع؛ لأنه لو جزم بأنه من أهل الجنة لكان يلزم من هذا أنه زكَّى نفسه وشهد لها بالجنة، وهذا خطير جدًّا على الإنسان؛ لأن ذلك معناه أنه وثق بأن عمله مقبول وأنه ليس عنده خطأ يمنعه من دخول الجنة، والقوم الصالحون يشمل من كان صالحًا من هذه الأمة ومن كان صالحًا من غيرها، في الأول قالوا:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أي: من هذه الأمة سألوا الله أن يكتبهم الله مع الشاهدين، في الثاني طمعوا أن يدخلهم الله في القوم الصالحين، وهو الطمع بدخول الجنة؛ لأن الجنة دارٌ لهذه الأمة وللصالحين من غيرها، فلذلك قالوا:{وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} ، والفرق بين التعبيرين واضح.
لو قال قائل: قال الله تعالى حاكيًا عن هؤلاء النصارى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} فكيف نجمع بين هذا وبين كون القرآن معجز يعجز البشر أن يأتوا بمثله، وهؤلاء القوم قد تكلموا بهذا؟
الجواب: هم لم يقولوا بهذا اللفظ، فالقرآن يحكي أقوال الآخرين بالمعنى، ولذلك انظر إلى قول السحرة:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 121، 122]، وفي سورة طه:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]، والقول
واحد، لكن الله تعالى قدم ذكر هارون في سورة طه من أجل تناسب الآيات، فكل ما يحكيه الله عن السابقين فهو بالمعنى؛ لأننا نعلم أنهم ما تكلموا بالعربية، فلغتهم غير العربية، وترتيبهم ليس كترتيب القرآن فيما نعلم والله أعلم، وقد يقال: إن الله حكى قولهم، ولكنه صاغه عز وجل أو تحدث به على ما يريد.
وقوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أثابهم: بمعنى أعطاهم ثوابًا، والثواب مكافأة العامل على عمله، قال الله تعالى:{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 36].
وقوله: {بِمَا قَالُوا} أي: بسبب قولهم، وهو:{آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} إلى آخره، والباء في قوله:{بِمَا قَالُوا} للسببية، و {ما} يحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة، فإن جعلناها مصدرية صار التقدير أثابهم الله بقولهم، وإذا جعلناها اسمًا موصولًا صار التقدير أثابهم الله بالذي قالوا، وحينئذٍ لا بد من عائد يعود إلى الموصول وهو هنا محذوف، والتقدير: بما قالوه.
وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {جَنَّاتٍ} : جمع جنة، والله عز وجل يعبر عنها أحيانًا بالجنة مفردة وأحيانًا بجنات، فأما إذا عبر عنها بالجنة مفردة فالمراد بها الجنس، وإذا عبر عنها بالجمع فالمراد بها أنواعها، ومن المعلوم أن الله ذكر في سورة الرحمن أربعة أنواع: جنتان، وجنتان، وفي الحديث: "جننان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة
آنيتهما وما فيهما"
(1)
.
وقوله: {جَنَّاتٍ} إن أردنا أن نردها إلى المعنى اللغوي، قلنا: الجنات هي: البساتين الكثيرة الأشجار، وسميت بذلك؛ لأن أشجارها تجن أرضها أي: تسترها، لكثرتها وانتشارها، لكن هذا التفسير لو فسر للعامة لهبطت قيمة الجنة عندهم، وتصوروا أنها من جنس بساتين الدنيا، ولهذا نقول في تفسيرها: إنها الدار التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حتى يعرف الإنسان أن هذه الجنة ليس لها نظير.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: من تحت قصورها وأشجارها، وليس المراد من تحت أرضها؛ لأن من تحت أرضها لا يستفاد منه، لكن من تحت أشجارها وقصورها، و {الْأَنْهَارُ} جمع نهر، وهي أربعة ذكرت في سورة محمد، في قوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]، هذه الأنهار خلقها الله عز وجل في الجنة، وهي غير الأنهار التي خلقها في الأرض، فالماء في الأرض يخرج بحفر الآبار، أو بالأمطار والسيول، لكن في الجنة ليس هكذا، أنهار تجري بغير أخدود وبغير حَفْرِ سواقي، بل بقدرة الله عز وجل، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} ليس من بقر ولا من إبل، ولا من
(1)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة الرحمن، حديث رقم (4597)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، حديث رقم (180) عن عبد الله بن قيس.
غنم، بل هي أنهار خلقها الله عز وجل من هذا، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد: 15] ليس عصير عنب، ولا شعير، ولا غير ذلك، بل هو مخلوق هكذا، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ} [محمد: 15] هل هذا العسل من نحل؟ لا، عسل خلقه الله عز وجل وصار أنهارًا يجري في الجنة، هذه أربعة أنواع من الأنهار مما ذكره الله لنا.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} الخالد هو الباقي، والأصل في الخلود البقاء الدائم، وقد يؤكد أحيانًا بكلمة أبدًا، وقد لا يراد به الأبد الدائم بقرينة.
فالخلود إذًا؛ هو في الأصل البقاء الدائم، قد يؤكد بالأبدية، وقد لا يراد به الأبدية، فأما ما يؤكد بالأبدية فهو كثير في القرآن، في أهل الجنة وفي أهل النار، وأما ما لا يراد به التأبيد بدليل آخر، فمثل قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]، فقوله:{خَالِدًا} : ليس المراد به التأبيد؛ لأن قتل المؤمن عمدًا لا يخرج من الإيمان، اللهم إلا من استحله، فمن استحله فهو كافر باستحلاله لا بقتله؛ لأن من استحل قتل المؤمن فهو كافر، سواء قتل أم لم يقتل، المهم اجعل على بالك أن الخلود هو البقاء الدائم، قد يؤكد بالأبدية وقد لا يراد به الأبد لدليل كما تقدم.
وقوله: {وَذَلِكَ} المشار إليه ما أثابهم الله به من الجنات {جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ، أي: مكافأتهم على عملهم، والمحسن: يعم من أحسن في عبادة الله ومن أحسن إلى عباد الله، أما الإحسان في عبادة الله: فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "الاحسان: أن
تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(1)
، فجعل للإحسان مرتبتين:
الأولى: أن يعبد الله كأنه يراه، وهذه عبادة رغبة؛ لأن الشيء الذي تراه ترغب فيه وتطلبه، "فإن لم تكن تراه" يعني: إن لم تصل إلى هذه الحال، "فإنه يراك" أي: فاعبده خوفًا منه وهربًا من عقابه، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام للإنسان هاتين المرتبتين.
أما الإحسان إلى عباد الله: فهو بذل المعروف لهم بالمال والبدن والجاه وغير ذلك، فمن أعطاك درهمًا فهو محسن، ومن بَشَّ في وجهك وأدخل السرور عليك فهو محسن، ومن شفع لك في أمر فهو محسن، إذًا: الإحسان يكون في عبادة الله ويكون في معاملة عباد الله.
ولما ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء المحسنين قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} ، والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، إذا ذكر ثواب المحسنين ذكر ثواب المسيئين، وإذا ذكر ثواب المسيئين ذكر ثواب المحسنين، ليبقى الإنسان بين الرغبة والرهبة.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} كفروا بالأمر وكذبوا بالخبر، كفروا بالأمر فلم يقوموا بطاعة، ولم ينتهوا عن معصية، وكذبوا بالخبر فلم يصدقوا، فمن أنكر البعث فهو مكذب، لكنه كافر فهو مكذب وكافر، قال تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7]، ومن لم يصلِّ فهو كافر.
(1)
تقدم في (1/ 152).
فإذا قال قائل: هل نقول: إنه لا بد أن يجتمع الكفر والتكذيب؟
الجواب: لا، إذا وجد الكفر ثبت الجزاء، وإذا وجد التكذيب ثبت الجزاء.
ولذلك لو قال قائل: الصلوات الخمس غير مفروضة، ولا أصدق أنها مفروضة ولكني أصلي، لا تفوتني الصلاة أبدًا، ماذا نقول فيه؟ كافر؛ لأنه مكذب، فالجمع بينهما ليس بشرط، بل إذا وجد أحدهما ثبت الحكم.
وقوله: {بِآيَاتِنَا} يشمل الآيات الكونية والآيات الشرعية، فمن ادعى أن مع الله خالقًا فهو مكذب بالآيات الكونية، ومن أقر بالخالق لكن لم يقبل شريعته، فهو مكذب بالآيات الشرعية، وقد يوجد من يكذب بهما جميعًا، ومن كذب ببعض وصدق ببعض فهو كافر؛ لأن الله يقول:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151].
وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} اسم الإشارة هنا للبعد أم للقرب؟ للبعد لكن البعد قد يكون بعدًا سفولًا، وقد يكون بعدًا عُلُوًا، فإذا كان البعد مشارًا به إلى عالي المرتبة فهو بُعْدُ عُلُوٍ، مثل قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1 - 2]، فالقرآن بين أيدينا الآن ليس ببعيد، لكن لعلو مرتبته وشرفه أشار إليه بإشارة البعيد، وقال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33] ، فأشار إليهم إشارة البعد، لعلو منزلتهم، في هذه الآية:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أَيُّ: البعدين أراد؟ أراد السفل، أي: البعد سفولًا.
وقوله: {أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} اعلم أن الله إذا ذكر أصحاب
الجحيم أو أصحاب النار، فهؤلاء من الكفار الخُلص؛ لأن الصاحب هو الملازم، ولا أحد يلازم الجحيم يعني النار إلا إذا كان ممن لا يدخل الجنة.
من فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى: أن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والمشركون، والمراد الجنس، ونعني بذلك: أنه قد يوجد من اليهود من لا يكون أشد عداوة، وكذلك من المشركين، نجد مثلًا أبا طالب مشرك، ومع ذلك كان يود الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بالنسبة للجنس فإن المشركين واليهود هم أشد الناس عداوة.
الفائدة الثانية: أن عداوة هؤلاء ظاهرة لقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} ، لكن اعلم أن الظهور والبطون أمران نسبيان، بمعنى أن بعض الناس يظهر له ما يخفى على آخر، وبعض الناس يخفى عليه ما يظهر للآخر، لكن من سبر الأمور ونظر باعتبار تبين له ذلك، وقد يقول قائل مثلًا: لا نجد هذا، نقول: إذا لم تجده فهذا لبلادتك؛ أي: لأنك بليد، وليس عندك علم.
الفائدة الثالثة: أن غير المسلمين يختلفون في العداوة للمسلمين، لقوله:"أشد" وأشد اسم تفضيل، تدل على أن هؤلاء الأعداء يختلفون، وهو كذلك، هذا هو الواقع، لكن بماذا نعرف الأشد؟ نعرفه بالآثار، إذا تظاهروا علينا وتحالفوا ضدنا، وما أشبه ذلك عرفنا أنهم أعداء.
الفائدة الرابعة: أن أقرب الناس مودة للمؤمنين هم النصارى، وقد بَيَّنا في التفسير السبب في ذلك.
الفائدة الخامسة: أن كل حكم له سبب، وهذا مطرد، فكل حكم شرعي أو قدري فله سبب، لكن من الأسباب ما يعلم ومن الأسباب ما لا يعلم؛ لأن الله تعالى لم يطلعنا على كل شيء، لقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} إلى آخره.
الفائدة السادسة: حسن تعليم الله عز وجل في كتابه العزيز؛ لأنه إذا ذكر الحكم ذكر العلة أحيانًا، فهنا ذكر حكمًا قدريًّا، وهو قرب النصارى من مودة المسلمين، هذا حكم قدري وذكر له علة، وذكر الله سبحانه وتعالى أحكامًا شرعية كثيرة مقرونة بحكمه، مثل قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، أي: هذا المطعوم، وغلط من قال: إنه عائد على لحم الخنزير، لأننا إذا أعدنا آخر الكلام على أوله فأوله: إلا أن يكون ذلك المطعوم، ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير، فإنه أي: المطعوم رجس، وليس عائدًا على لحم الخنزير.
المهم أن من حسن تعليم الله عز وجل أنه إذا ذكر الحكم ذكر العلة سواء كان الحكم قدريًّا أو كان شرعيًّا، وكذلك في السنة أحيانًا تذكر العلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنادى إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (3962)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، حديث رقم (1940) عن أنس بن مالك.
الفائدة السابعة: أن قرب مودة النصارى للمؤمنين، له أسباب:
أولًا: أن منهم قسيسين ورهبانًا، فيستفاد من هذا: أن العلم نافع حتى لغير المسلمين، وكذلك العبادة ترقق القلب، أما الأول فيؤخذ من قوله:{بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} ، وأما الثماني فيؤخذ من قوله:{وَرُهْبَانًا} لأن الراهب إنما سلك هذا الطريق، يريد رضا الله، فليس مستكبرًا، ولكنه طالب لرضا الله، فهو إذا تبين له فإنه يكون من أقرب الناس إلى العمل به.
الفائدة الثامنة: أن بني آدم ينقسمون إلى علماء وعباد، لكن هل يمكن أن يكونوا علماء عبادًا؟ نعم وبكثرة، لكن من الناس من يغلب عليه العلم، ومن الناس من يغلب عليه العبادة، أعني الذين يتصفون العلم والعبادة، منهم من يغلب عليه جانب العلم، فتجده دائمًا في بحث وفي تحقيق وفي مراجعة، ومنهم من يغلب عليه العبادة، ولهذا تجد في تراجم العلماء رحمهم الله أنهم إذا ترجموا لبعض العلماء قال: وكان كثير العبادة، فأيهما أفضل في العَالِم، أن يكون كثير العبادة، أو كثير المراجعة؟ كثير المراجعة لا شك أفضل، لكن يجب على كثير المراجعة أن يراجع قلبه، إذا وجد منه قسوة فليشتغل بالعبادة قليلًا؛ لأنه أحيانًا مع كثرة المراجعة والمطالعة والمناقشة، يكون الإنسان كأنه بطل بين صفين، لا يلتفت مثلًا للصلاة والتهجد وما أشبه ذلك، إذا رأيت من نفسك أنها أبعد عن العبادة، فارددها حتى لا تغفل عن العبادة.
لو قال قائل: رجل يقوم آخر الليل لكنه يترك قيام الليل
لطلب العلم هل يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه"
(1)
؟
الجواب: العلم أفضل من التهجد، فقد ترك شيئًا مفضولًا لفاضل، لكن من الممكن أن يأتي بالأمرين جميعًا يعني: لا يجهد نفسه في أول الليل ولا يجهد نفسه في آخر الليل أيضًا، فيأتي من هذا بقليل ويأتي من هذا بقليل والأمر سهل، لو تقدم بنصف ساعة قبل الفجر تمكن أن يصلي ما شاء الله من الوتر.
لو قال قائل: ما هو الحد الأدنى الذي لا ينبغي لطالب العلم أن يقصر عنه في العبادة؟
الجواب: أقول: إن الحد الأدنى بالنسبة للصلاة، الصلوات الخمس برواتبها، والوتر، وما يوجد له أسباب، وكذلك بالنسبة لبذل المال الزكاة والصدقات، أما ما يقرؤوه من القرآن؟ قد أقول: على حسب نشاطه، لكن أخشى أن أقول هذا فيتهاون الإنسان؛ لأنه إذا قرأ على حسب نشاطه، سيقرأ في يوم مثلًا جزئين أو ثلاثة، ويومين لا يقرأ شيئًا، ويضيع عليه الوقت، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يكون له ورد معين يحرص عليه، وأظن أن جزئين في اليوم إن شاء الله فيهما بركة، إذا قرأ جزئين كل يوم يقرأ القرآن في الشهر مرتين هذه نعمة، وأما الصيام فهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه: ثلاثة أيام من كل شهر، لكن أحيانًا يكون
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، حديث رقم (1151)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوَّت به حقًّا، حديث رقم (1159) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
الإنسان يحب الصيام، ولذلك كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم
(1)
، لكن الشيء الذي ينبغي المواظبة عليه صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا يبالي أن يصومها من أول الشهر أو وسطه أو آخره
(2)
.
لو قال قائل: هل من المشروع أن يتفرغ الإنسان للعبادة وطلب العلم ويترك الوظيفة وليس له مال؟
الجواب: أما إذا كان له ما يقيته فالتفرغ لا شك أفضل، إلا إذا كانت الوظيفة تصلح بوجوده؛ لأن بعض الوظائف تحتاج إلى الشخص، مثل وظائف القضاء وكُتّاب العدل وأشياء كثيرة، فالإنسان ينظر للمصالح.
الفائدة التاسعة والعاشرة: أن من أسباب قبول الحق والمودة للمؤمنين التواضع، لقوله:{وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ، وأن الاستكبار سبب لرد الحق، وهو كذلك، فالتواضع سبب لقبول الحق؛ لأن الإنسان لا يرى نفسه أنه معصوم من الخطأ، فإذا بان له الحق اتبعه، ولهذا كان في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم أن
(1)
رواه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم شعبان، حديث رقم (1868)، ومسلم، كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان
…
، حديث رقم (1156) عن عائشة.
(2)
رواه مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر
…
، حديث رقم (1160) عن عائشة.
ترجع إلى الحق غدًا"
(1)
أو كلمة نحوها، بمعنى أنك تتبع الحق أينما كان، فتكون مطواعًا للحق، ذليلًا أمام الحق، وهل هذا الذل أمام الحق يوجب للإنسان أن يكون ذليلًا بين الناس؟
الجواب: ولا نقول: تواضع للعامي، يعني قدم له حذاءه وابسط له ظهرك يركب عليه، لا، لكن لاقيه بوجه طلق وسماحة، بعض الناس حتى من طلبة العلم تجده مع العامي يتكلم بأحد منخريه ليس بكل أنفه، فنقول: تواضع يا طالب العلم، الناس الآن يثنون على الذي يكون متواضعًا، نسمع أنهم يثنون على فلان وفلان لأنه متواضع، لكن ليس معنى ذلك أن تجعل نفسك ذليلًا أمامه، فالتواضع غير الذل، من تواضع لله رفعه الله، ومن تواضع للحق وفق للحق، وعلامة ذلك: أنك إذا بان لك الحق اتبعته فورًا بدون تردد وبدون جدال، إن ترددت أو جادلت فهو خطر عليك عظيم، قال الله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} لماذا؟ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، ولذلك إذا بان لك الحق لا تجادل، ولا تحاول أن نذهب يمينًا وشمالًا لتبرر رأيك، فإنك على خطر، وقال عز وجل:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5]، (مريج) يعني مختلط أي: يختلط عليهم الحق بالباطل، إذ كذبوا بالحق لما جاءهم.
فانتبه لهذه الفائدة وأنت طالب علم، وربما يخالفك من
(1)
رواه الدارقطني (4/ 206)، البيهقي في السنن الكبرى (10/ 119)(20159)، ولفظهما:(لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).
يخالفك من الناس بمقتضى الدليل ولكن تريد أن تفرض رأيك، هذا غلط كبير، اتبع الحق أينما كان، يتبعك الناس أينما كنت؛ لأن الناس يطلبون الحق، فإذا رأوا منك أنه متى بان لك الحق رجعت، رجعوا، إذًا: التواضع للحق هو في الحقيقة علو، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تواضع لله رفعه"
(1)
، وضد ذلك الاستكبار، الاستكبار والعياذ بالله يوجب أن لا يقبل الحق ولا يتبع.
الفائدة الحادية عشرة: فضيلة هؤلاء القوم الذين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع، ولا شك أن فيضها من الدمع دليل على الإيمان والتصديق والتأثر؛ لأن الإنسان كلما آمن فإنه يزداد خشوعًا، الآن إذا ذكرت آباءك وإخوانك وأصدقاءك الذين ذهبوا، وماتوا، ربما تبكي أكثر مما لو ذكرت شيئًا آخر يؤمن به؛ لأن هؤلاء أدركتهم إدراكًا حسيًّا، فالإيمان كلما قوي صار المؤمن كأنما يشاهد الشيء بعينه، فيزداد إيمانًا وخشوعًا وبكاءً.
الفائدة الثانية عشرة والثالثة عشرة: أن القرآن نزل من عند الله لقوله: {مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} ؛ لأن هذا مبني لما لم يسمَّ فاعله؛ لأن فاعله معلوم، وهو الله الذي أنزله، ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن كلام الله، وهو كذلك، تكلم به الله سبحانه وتعالى حقيقة، تكلم به على وجهٍ مسموع، سمعه جبريل، وهو أمين قوي، نزل به على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، فوعاه وعقله، حتى قال له ربه عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
(1)
رواه الطبراني في الأوسط (8/ 172)(8307)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 276)(8140) عن عمر بن الخطاب.
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 16، 17]، لا يتفرق أبدًا، هو مجموع لك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18]، أي: قرأه جبريل: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 18]، يعني التزامات عظيمة من الله عز وجل لهذا القرآن مما يدل على عناية الله به عز وجل، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة: 19] يبين للناس لفظًا ومعنى، ولهذا نقول: لا يمكن أن يوجد في كتاب الله شيء لا يعرف الناس معناه، إن خفي على بعض علمه آخرون.
لو قال قائل: الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله إنما هو عبارة عن كلام الله ما معنى قولهم هذا؟
الجواب: هم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى ولم يتكلم به، لكن خلق أصواتًا لتعبر عما في نفسه، فسمعها جبريل ونزل بها، وهذا قولٌ بلا علم، وحقيقةً أنك إذا تأملت كلامهم انتهيت إلى أن الله ليس بشيء، لا يتكلم، ولا يستوي على العرش، ولا ينزل ولا يأتي للفصل بين العباد، ولا يفرح، وليس له يد وليس له وجه وليس له عين، اللهم لك الحمد، نسأل الله لهم الهداية.
الفائدة الرابعة عشرة: التنويه بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله:"الرَّسُولِ"؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني، يعني كونه رسول معلوم مفهوم لا يخفى على أحد.
الفائدة الخامسة عشرة: إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله حقًّا، أرسله الله رحمة للعالمين، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
الفائدة السادسة عشرة: الثناء على من بكى لسماع القرآن، ولكن اعلم أن البكاء نوعان: بكاء متكلف ومصطنع فهذا لا يفيد،
والتباكي غير البكاء المصطنع، بعض الناس لا يبكي بل يجعل صوته كأنه يبكي، وليس التكحل بالعينين كالكحل، وبكاء آخر من لين القلب، هذا هو المفيد؛ لأنه صادر من القلب ومن الإيمان.
الفائدة السابعة عشرة: أن تأثر هؤلاء إنما كان بسبب معرفتهم الحق، ولهذا قال:{مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} : والإنسان كلما علم بالحق ازداد إيمانه به وازداد تأثره به.
الفائدة الثامنة عشرة: الثناء على هؤلاء الذين آمنوا بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنهم يعلنون الإيمان:{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} لا يخفون إيمانهم؛ لأنهم مؤمنون، والمؤمن حقًّا يعلن إيمانه، لا سيما إذا كانوا قسيسين ورهبانًا لأنهم قدوة للناس لقوله:{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} .
الفائدة التاسعة عشرة: اعتراف الأمم بأن هذه الأمة هي الشاهدة على الأمم، لقوله:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وهم أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
تقدم أن التفسير له أربعة مراتب: المرتبة الأولى: تفسير القرآن بالقرآن، والثانية: تفسير القرآن بالسنة، والثالثة: تفسير القرآن بأقوال السلف، والرابعة: التفسير بمقتضى اللغة العربية.
والآن نتكلم على النسخ، فلو قال قائل: هل يمكن أن يقع النسخ في القرآن أو لا؟
الصحيح أنه يمكن النسخ، لكن الآيات التي هي أصول الدين لا يمكن أن تنسخ، فالنسخ واقع، وهذا هو ما عليه جمهور الأمة، ولا يعنينا أن ينكر ذلك من ينكره، فاليهود مثلًا قالوا: لا
يمكن نسخ الشرائع؛ لأننا لو جوزنا النسخ لجوزنا البداء على الله، أي: أنه تبدو له المصلحة بعد أن كانت خفية عليه، فيحكم يشيء ثم بعد ذلك يعدل عنه؛ لأنه لم يدرِ عن عواقب ما حكم به أولًا، ومعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يصف ربه عز وجل بالجهل، ثم البداء، ولكن الله عز وجل رد عليهم فقال:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93]، فبيَّن أن نسخه واقع وهو كذلك.
ومن أجل إنكارهم النسخ أنكروا نبوة عيسى ونبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن شريعتهما نسخت شريعة التوراة، وهذا لا يجوز، فالمسلمون مجمعون على جواز النسخ، عقلًا ووقوعه شرعًا، إلا أن أبا مسلم الأصفهاني رحمه الله قال: لا نسخ في القرآن، وحمل النسخ الدي ثبت في القرآن حمله على التخصيص.
مثال ذلك: أوجب الله على المسلمين في الجهاد أن الواحد يصابر عشرة، ثم نسخ ذلك، وقال:{الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، وهذا واضح أنه نسخ، وكذلك في الحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"
(1)
، هذا أيضًا نسخ واضح، ثبت بنص القرآن ونص السنة، ادعى رحمه الله أن هذا تخصيص وليس بنسخ، ووجَّه قوله: بأن الحكم المنسوخ كان عامًّا في جميع الأزمان وفي جميع الأحوال، ثم نسخ فخرج بالنسخ الزمن الذي تبقى، وقال: هذا تخصيص.
(1)
رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه، حديث رقم (977) عن بريدة.
وبناءً على هذا التوجيه، يكون الخلاف بينه وبين جمهور الأمة خلافًا لفظيًّا لا فائدة منه، ما دمنا متفقين على أنه يمكن أن يكون هذا الحكم العام في كل زمن وفي كل مكان، وفي كل أمة وفي كل حال، يجوز أن يلغى في وقت من الأوقات، فهذا هو النسخ، سمه تخصيصًا أو سمه نسخًا.
ثم يقال له رحمه الله: ما الفائدة من أن نتحاشى كلمة نسخ، والله تعالى في القرآن يقول:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، نرجع إلى جواز النسخ عقلًا، أما وقوعه شرعًا فلا شك فيه، كيف يجوز عقلًا، ألا يجوز أن يرد ما أورده اليهود، بأن الله بدا له بعد أن كان خفيًّا عنه، أن الحكم المنسوخ ولا يستقيم؟
الجواب: لا، الأحكام تثبت بحسب أحوال الأمم، فقد يكون الوجوب مثلًا مصلحة للأمة في وقت غير مصلحة في وقت آخر، فأحكام الله تعالى يراد بها مصالح العباد وهي تختلف في كل زمان أو مكان أو حال، فلذلك كان مقتضى الحكمة نسخ الأحكام.
وقد يكون النسخ لابتلاء المكلف، يبتلي الله عز وجل المكلف هل يمتثل، أو لا يمتثل، ثم يأتي النسخ؛ لأن بعض الناس قد لا يقبل النسخ، كالذين ارتدوا حينما حولت القبلة؛ لأنهم قالوا: كيف أمس نتجه إلى بيت المقدس والآن نتجه إلى الكعبة، لا يمكن، ولهذا قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، ويكفي هذه الحكمة.
فإذا كان تغيير الحكم ونسخه له حِكم لم يلزم على الله البداء؛ لأنه سبحانه يشرع لعباده من الأحكام ما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، أرأيت لو كلفت ولدك بعمل، ثم رأيت هذا العمل شاقًّا عليه، فهل من المصلحة أن تبقيه في هذا العمل الشاق، أو تنقله إلى عمل آخر؟ تنقله إلى عمل آخر، هذا مقتضى العقل، فحينئذٍ يبطل ما ادعاه اليهود من أنه يلزم منه البداء على الله، أي: الظهور بعد الخفاء.
إذًا: فالنسخ جائز عقلًا وواقع شرعًا، ثم إن النسخ يكون على ثلاثة أقسام:
نسخ الحكم مع بقاء اللفظ، ونسخ اللفظ مع بقاء الحكم، ونسخهما جميعًا.
القسم الأول: نسخ الحكم مع بقاء اللفظ، وهذا كثير مثل قول الله تبارك وتعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149]، هذا نسخ للقبلة الأولى، فاللفظ باقٍ؛ لأن الله قال:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، ومثل قول الله تبارك وتعالى في الصوم:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} إلى قوله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]، ومثل قوله في الآية في مصابرة العدو، أن الله تعالى أوجب أن يصابر المسلمون عشرة أمثالهم، ثم نسخ الحكم مع بقاء اللفظ.
وهنا يرد سؤال: ما الفائدة من نسخ الحكم مع بقاء اللفظ، لماذا لم ينسخ اللفظ؛ لأن العمل باللفظ انتهى؟
فيقال: الفائدة بالنسبة للقرآن، أولًا: زيادة الأجر بالتلاوة، وثانيًا: تذكير العباد بنعمة الله عليهم، حيث نقلهم من الأشد إلى الأخف أو بالعكس، أو بالمماثل لكن المهم التذكير بالنعمة.
القسم الثاني: عكس هذا القسم وهو: نسخ اللفظ مع بقاء الحكم، مثاله آية الرجم، آية الرجم كانت قرآنًا يتلى، يقول عمر رضي الله عنه:"قرأناها ووعيناها ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"
(1)
، سبحان الله! عمر رضي الله عنه موفق للصواب وعنده فراسة عجيبة، هو نفسه رضي الله عنه قال:"أخاف إن طال بالناس زمان: أن يقولوا لا نجد الرجم في كتاب الله"
(2)
، وما توقعه رضي الله عنه حصل، وإلا فهو يعلن على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام، هل يمكن أن يعلن على منبر الرسول عليه الصلاة والسلام ويكون الأمر على خلاف ما قال ويسكت الصحابة؟ لا يمكن.
الحاصل أن هذه الآية كانت موجودة في القرآن، لكن لفظها غير موجود، فليس في القرآن أن الثيب يرجم إذا زنا، فاللفظ غير موجود، أعني لفظ المنسوخ، ولفظ الناسخ موجود في قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، والثيب جاء في السنة، فهنا لا يوجد آية الرجم في القرآن، لفظها غير موجود، فما هي الآية التي نسخت؟
ورد أن لفظها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة
(1)
رواه مسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنا (1691) عن عمر بن الخطاب.
(2)
رواه البخاري، كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا (6829) عن عمر.
نكالًا من الله والله عزيز حكيم"
(1)
، ولكن هذا لا يصح، هذا اللفظ لا يطابق الحكم؛ لأن الحكم منوط بالثيوبة، وليس منوطًا بالشيخوخة، وعمر رضي الله عنه يقول: وإن الرجم حق ثابت في كتاب الله على من زنا إذا أحصن، وكان الحبل أو الاعتراف
(2)
، فقال: إنه حق ثابت في القرآن على من زنا إذا أحصن، لم يقل: إذا شاخ، قال: إذا أحصن، بهذا يتبين أن لفظ الآية المنسوخة ليس كما روي، ولذلك لو زنا الشيخ وهو بكر لم يرجم، ولو زنا الشاب وهو ثيب يرجم، إذًا: الآية غير معروفة اللفظ، لكننا نعلم أنها لفظ دالٌّ على ما ذكره عمر رضي الله عنه.
فإن قال قائل: ما الحكمة من أنه ينسخ اللفظ ويبقى الحكم؟ لأننا ذكرنا أن بقاء اللفظ فيه فائدة وهي التلاوة، لكن هنا ما الفائدة؟ الفائدة والله أعلم ليتبين فضل هذه الأمة على من سبقها، فاليهود حاولوا إخفاء آية الرجم مع أنها موجودة في التوراة، لكنهم تركوا العمل بها، وسبب ترك العمل بها أنه كثر الزنا في أشرافهم، وشق عليهم أن يقتلوا أشرافهم، فأحدثوا حكمًا جائرًا ليس في شريعة الله، هذه الأمة ولله الحمد عملت بحكم لا يوجد نصه حيث عملت بالرجم مع أنه لا يوجد لفظه في
(1)
رواه النسائي في الكبرى، كتاب الرجم، باب نسخ الجلد عن الثيب، حديث رقم (7145) عن زيد بن ثابت، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب الرجم، حديث رقم (2553) عن عمر بن الخطاب، وأحمد (5/ 132)(21245) عن أبي بن كعب.
(2)
رواه البخاري، كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، حديث رقم (6442)، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنا، حديث رقم (1691) عن عمر بن الخطاب.
كتاب الله، فأظهرت الحكم مع خفاء الدليل، واليهود بالعكس، أبطلوا الحكم مع وجود الدليل، حتى إنهم لما جاءوا بالتوراة وضع الذي يقرأ يده على آية الرجم حتى لا تبين
(1)
، هذا ما تبين من الحكمة.
وقد يقال: إن هناك حكمة أخرى وهي بشاعة الجريمة؛ لأن زنا الثيب لا شك أنه بشع، وأقبح من زنا الشاب، ولذلك كانت عقوبته الرجم، بخلاف غير المحصن، هذا الأخير الإنسان يتردد في أن هذه هي الحكمة؛ لأنه سيقول: إن هذا هو مراد الله عز وجل، وهذا صعب؛ لأن الله عز وجل ذكر ما هو أبشع من هذا، وهو إتيان الذكر: اللواط صريحًا قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165، 166]، لكن المعنى الأول، أو الوجه الأول، وهو بيان فضل هذه الأمة على من سبقها واضح.
بقي القسم الثالث: وهو نسخ اللفظ والحكم، هذا له مثال، وهو حديث عائشة رضي الله عنها في الرضاع: كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات
(2)
، الآن لا تجد عشر رضعات، لا في القرآن ولا في الحكم، عشر رضعات العمل بها منسوخ إلى خمس، الخمس منسوخة لفظًا لا حكمًا، والعشر منسوخة لفظًا وحكمًا.
(1)
رواه البخاري، كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط (6819)، ومسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (1699) عن ابن عمر.
(2)
رواه مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، حديث رقم (1452) عن عائشة.
لو قال قائل: فيما يتعلق بالنسخ بعض العلماء يقول: إن اصطلاح المتقدمين من الصحابة وبعض التابعين للنسخ أوسع من اصطلاح المتأخرين؟
الجواب: صحيح، بعض السلف يطلق التخصيص على النسخ، مثل قوله تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، فأجاز بعض السلف أن يجمع الإنسان بين الأختين في ملك اليمين، يعني يطأهما، وقال: الآية عامة، لكن عبر بعض السلف فقال: هذه الآية نسختها آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، فقال: نسختها ويريد بذلك التخصيص، وله وجه؛ لأن التخصيص نسخ للعموم.
وأما قوله: {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فالظاهر والله أعلم إطلاق النص عليها من باب التخصيص أو التبيين أيضًا؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284]، هذا من الأمور العملية القلبية أما مجرد الفكر فقد تجاوز الله عنه.
لو قال قائل: ما المراد بنسخ القرآن بالسنة؟
الجواب: مثال ذلك: قول الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} أي: الفاحشة {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} [النساء: 16]، والحديث الذي صححه كثير من الأئمة:"من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"
(1)
، فهذا
(1)
رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب فيمن عمِل عمَل قول لوط، حديث رقم (4462)، والترمذي، كتاب الحدود، باب حد اللوطي، حديث رقم =
الحديث ينسخ الآية، هذا نسخ القرآن بالسنة، والمثال عزيز جدًّا قليلٍ جدًّا جدًّا، وكما أن السنة تخصص القرآن، فإن القرآن يخصص السنة، مثل اشتراط النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية أن من جاء من المشركين مسلمًا، فإنه يرد عليهم، وهذا عام للرجال والنساء، فقال الله عز وجل:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، وهذا من الأمور العزيزة النادرة أيضًا أن يكون القرآن يخصص عموم السنة.
الفائدة العشرون والحادية والعشرون: دفع اللوم عن الإنسان، يعني الإنسان ينبغي أن يدفع اللوم عن نفسه، ولا يُبْقِي عرضه لعباد الله يعملون ما يشاءون فيه، لقوله:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} ، ولهذا أصل من السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام يقلب إحدى زوجاته، وهي صفية رضي الله عنها، بعد أن بقيت عنده قام يقلبها، فمر به رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أهله خجلا وسارا بسرعة فقال لهما:"على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله سبحان الله! -يعني: لا يمكن أن يقع في قلوبنا شيء- فقال لهما: "إن الشيطان يجري من ابن آم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا -أو قال- شيئًا"
(1)
.
= (1456)، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من عمِل عمَل قوم لوط، حديث رقم (2561)، وأحمد (1/ 300)(2727) عن ابن عباس.
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، حديث رقم (1930)، ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، حديث رقم (2175) عن صفية بنت حيي.
وأيضًا على الوجه الثاني في قوله: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ} حمل النفس عند الوسواس على الإيمان والعمل الصالح، يعني إذا رأيت من نفسك فتورًا؛ فقوِّها، أي: قوِّ عزيمتك؛ لأنه تقدم أن في قوله: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ} ، احتمالين.
الفائدة الثانية والعشرون: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق بشهادة من سبق من الأمم، لقوله:{وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} ، وهل يعتد بشهادة الأمم السابقة؟
الجواب: نعم، لعتد، لقول الله تعالى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ} [يونس: 94].
الفائدة الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون: أن الإنسان لا ينبغي أن يعجب بعمله، فيشهد لنفسه أنه من أهل الجنة، لقولهم:{وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا} ، ولم يجزموا بذلك، ولهذا مهما عملت من عمل صالح مبني على الإيمان لا تزكِّ نفسك، لا تدري فلعل هناك سرًّا في القلب لا تشعر به -أعاذنا الله من النفاق-:"وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"
(1)
.
وأيضًا يمكن أن نأخذ من هذا أنه لا يشهد لأحد بالجنة لكونه مؤمنًا عاملًا صالحًا، ولهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، أن لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول: فلان شهيد، حديث رقم (2742)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، حديث رقم (112) عن سهل بن سعد الساعدي.
الفائدة الخامسة والعشرون: أنه ينبغي اختيار الرفيق الصالح لقوله: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} ، وهذا أمر دلت عليه السنة دلالة صريحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يبيعك أو يحذيك، أو تجد منه رائحة طيبة"
(1)
.
الفائدة السادسة والعشرون: بيان فضل الله عز وجل، حيث أثاب هؤلاء الذين مَنَّ عليهم بالإيمان بهذا الجزاء العظيم.
الفائدة السابعة والعشرون: إثبات الأسباب، لقوله:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} .
فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية الكريمة وأمثالها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يُدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"
(2)
، فنفى أن يدخل أحد الجنة بعمله، مع أن النصوص كثيرة في أن العمل يدخل به الإنسان الجنة؟
الجواب: أن يقال: (الباء) تكون للسببية أحيانًا، وتكون للعوض أحيانًا، فإذا قلت: بعت عليك هذا الثوب بدرهم، فالباء
(1)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقًّا فليطلبه في عفاف، حديث رقم (1995)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، حديث رقم (2628) عن أبي موسى.
(2)
رواه البخاري، كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت، حديث رقم (5349)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله تعالى، حديث رقم (2816) عن أبي هريرة.
للعوض، ولا يمكن أن تكون للسببية، وإذا قلت: أكرمتك بما أكرمتني، صارت للسببية، فالمنفي هو أن تكون الباء للعوض، فقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد الجنة بعمله"، يعني لا يمكن أن يكون العمل كالدرهم بالنسبة للثوب في البيع لا يمكن هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد أن يحاسبنا على أعمالنا، لكانت نعمة واحدة من نعمه تحيط بأعمالنا كلها، بل إن توفيقنا للعمل الصالح نعمة تحتاج إلى شكر.
فإذًا: لا يمكن أن يكون دخولنا الجنة -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- لا عوضًا عن العمل، لكن يكون سببًا، وبهذا الجمع يزول الإشكال، واعلم أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين نصوص الكتاب والسنة، فإما أن لا يكون تعارض، وإما أن يكون تعارض بحسب فهم المستدل، أما أن يوجد تعارض بين كلام الله بعضه ببعض أو بين كلام الله جلَّ وعلا وما صح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بين سنة الرسول بعضها مع بعض، فهذا مستحيل.
الفائدة الثامنة والعشرون: إثبات الجنة وأنها أنواع، لقوله:{جَنَّاتٍ} .
الفائدة التاسعة والعشرون: أن الجنة ذات أنهار، مطردة تحت هذه القصور والأشجار، ولا يمكن للإنسان أن يتصور ذلك المنظر العظيم البهيج السار أبدًا؛ لأن الجنة فوق ما ندرك، كما قال الله عز وجل:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، هذا في القرآن، وكما قال تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن
سمعت، ولا خطر على قلب بشر"
(1)
، وهذا في الحديث القدسي.
الفائدة الثلاثون: أن الأنهار في الجنة أنواع، للجمع في قوله:{الْأَنْهَارُ} ، وقد تقدم أنواعها.
الفائدة الحادية والثلاثون: أن نعيم الجنة دائم، لقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا} وقد قررنا أن الخلود هو: المكث الدائم، إلا بدليل.
الفائدة الثمانية والثلاثون: الحث على الإحسان، لقوله:{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ، الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله:"ولا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق"
(2)
.
الفائدة الثالثة والثلاثون: علو هذا الجزاء، لقوله:{وَذَلِكَ} حيث أشار إليه بإشارة البعيد.
الفائدة الرابعة والثلاثون: أن الكفر والتكذيب بآيات الله من أسباب دخول النار والخلود فيها، لقوله:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
الفائدة الخامسة والثلاثون: بيان أن هذا القرآن الكريم مثاني، تثنى فيه المعاني والأحوال حتى لا يمل القارئ وحتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء، قال الله عز وجل:{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23].
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم (3072)، ومسلم، أول كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2824) عن أبي هريرة.
(2)
رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، حديث رقم (2626) عن أبي ذر.
الفائدة السادسة والثلاثون: أنه ينبغي للإنسان الواعظ للناس أن لا تكون موعظته بالترغيب دائمًا أو بالترهيب دائمًا؛ لأنه إن أدام الترغيب أوقعهم في الأمن من مكر الله، وإن أدام الترهيب أوقعهم في القنوط من رحمة الله، فالواعظ في الحقيقة كالطبيب، إن أعطى جرعة زائدة هلك المريض، وإن نقص لم يبرأ المريض، لا بد أن الإنسان يراعي الأحوال، لا يقتصر على الترغيب دائمًا ولا على الترهيب دائمًا، وإذا قلنا بهذه القاعدة تَبَيَّنَ لنا أن من الناس من الأولى في حقه الترغيب، ومن الناس من الأولى في حقه الترهيب.
فإذا رأيت شخصًا مقبلًا على طاعة الله حريصًا عليها، فهنا نقول: الأولى الترغيب، حتى نحثه على الطاعة وتقدمها ونؤمله القبول، وإذا رأيت أحدًا بالعكس متهاونًا بالطاعة، مصرًا على المعصية، فهنا جانب الترهيب أولى ومع ذلك نأمره بالتوبة ونرغبه في قبولها.
الفائدة السابعة والثلاثون: إثبات هذا الاسم للنار وهو الجحيم، ولها أسماء متعددة، وأسماؤها تعتبر أوصافًا لها، فجهنم والنار والحريق، وما أشبه ذلك، هذه كلها أسماء تعتبر أوصافًا.
لو قال قائل: ما صحة قول من يقول: إن النار درجات لها أسماء؟
الجواب: إذا كان المراد أن نجعل هذه الأسماء بحسب الدركات، فهذا ليس بصحيح، الصحيح أنها أسماء لمسمى واحد، كما أن البيت اسم واحد وفيه سطح ومصباح وبدروم وغيرهم.
هناك تقسيم آخر للنسخ: النسخ تارة ينسخ إلى أثقل، وتارة ينسخ إلى أخف، وتارة ينسخ إلى مساوي، ثلاثة أقسام.
الأول: النسخ إلى أثقل، مثال ذلك: الصوم، أول ما فرض الصوم كان الناس مخيرين بين أن يصوم الإنسان أو يفدي، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:"أول ما نزل الصيام صام من شاء ومن شاء افتدى"
(1)
، ثم تعين الصوم، أيهما أثقل؟ تعيين الصوم؛ لأن المخير إن شاء هذا أو هذا، فإذا تعين الصوم صار أثقل.
الثاني: النسخ إلى أخف، مثاله آيتا المصابرة قال تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] إلى آخره، هذه نسخت إلى أخف، ومما نسخ إلى أخف الصلوات الخمس، نسخت من خمسين إلى خمس
(2)
.
الثالث: النسخ إلى مساوي بالنسبة لفعل المكلف لا فرق بين هذا وهذا، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة
(3)
،
(1)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، حديث رقم (4237)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان نسخ قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184]
…
حديث رقم (1145) عن سلمة بن الأكوع.
(2)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، حديث رقم (349)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات، حديث رقم (163) عن أبي ذر.
(3)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا
…
} [البقرة: 143]، حديث رقم (4488)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، حديث رقم (526) عن ابن عمر.
فهنا الفعل بالنسبة للمكلف واحد، فلا فرق أن يتجه الإنسان يمينًا أو شمالًا.
قد يقول قائل: ما الفائدة من ذلك؟ نقول: الفائدة: لا يمكن أن يكون هذا النسخ إلا لسبب، فمثلًا: أيما أشرف الكعبة أو بيت المقدس؟ لا شك أن الكعبة أفضل، لكن لو فرضنا أنه لا فرق بينهما إطلاقًا، فإن فائدته امتحان المكلف واختباره، هل هو تابع لشريعة الله أو هو تابع للهوى؟ فيقول: لماذا ينسخ الله هذا إلى هذا وهما سواء، أنا سأفعل ما شئت، ففائدة النسخ إلى المماثل: اختبار المكلف هل يكون منقادًا تمامًا لشريعة الله أو هو متبع لهواه، وأما الحكمة من نسخ الأشد إلى الأخف واضحة جدًّا وهي: التخفيف على الأمة.
وإذا نسخ من أخف إلى أشد ففيه فائدتان:
الفائدة الأولى: زيادة الأجر؛ لأن العمل إذا شق على المكلف لا بفعل نفسه واختياره، فله أجر، يزداد أجره، ولينتبه للقيد، إذا شق على المكلف لا بفعله واختياره فهو أفضل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:"أجركِ على قدر نصبك"
(1)
، يعني: على قدر المشقة، أما ما كان بفعل المكلف واختياره فهو إلى الإثم أقرب منه إلى الأجر.
مثال الأول: إنسان قام يتوضأ في البر وليس عنده إلا ماء بارد، وليس عنده ما يسخن به، فتوضأ بالماء البارد، توجد مشقة أو لا؟ توجد مشقة، آخر قام يتوضأ وعنده ماء ساخن وماء بارد،
(1)
رواه مسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران .. ، حديث رقم (1211) عن عائشة.
فتوضأ بالماء البارد، أيكون أفضل مما لو توضأ بالماء الساخن؟
الجواب: لا، بل هو إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة؛ لأن هذا باختياره.
إذًا النسخ من الأخف إلى الأشد فيه زيادة الأجر.
الفائدة الثانية: بيان حكمة التشريع، حيث يتبين للإنسان أن التشريع في هذه الشريعة الإسلامية يأتي بالتدريج الأسهل فالأسهل، حتى لا يصطدم الناس بالشريعة الكاملة، وانظر إلى تحريم الخمر، تحريم الخمر جاء على درجات:
درجة تعريض، درجة مؤقتة لوقت معين، درجة محرمة نهائيًّا، التعريض كما في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، فهنا لما قال:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} العاقل لا يفعل.
التحريم في وقت معين كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فهنا حرم شرب الخمر في وقت قريب من الصلاة؛ لأنه إذا شربها في وقت قريب من الصلاة لزم أن تأتي الصلاة وهو سكران.
التحريم النهائي: في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
إذًا: يتبين بذلك حكمة التشريع في الشريعة الإسلامية، هل هذه الحكمة باقية إلى الآن، بمعنى لو رأينا شخصًا يشرب الخمر، هل لنا أن نقول: اترك الخمر بالتدريج، أو نقول: اتركه
الآن؟ إذا أمكن الثاني لا بأس، لكن قد لا يمكن، فإذا قلنا له بالتدريج وكذلك شرب الدخان بالتدريج، فهذا لا بأس به إذا لم يمكن إلا ذلك؛ لأنه إذا تعذر الكمال أخذنا به شيئًا فشيئًا.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} [المائدة: 87، 88].
هذه ثلاث جمل بل أربع جمل، الأولى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وتصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته؛ لأن النداء يستلزم انتباه المخاطب، وإصدار الخطاب بوصف الإيمان يدل على أن ما سيذكر من خصال الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان، ثم إن فيه إغراء للامتثال؛ لأنك إذا وصفت شخصًا بوصف لتأمره أو تنهاه فهذا من باب الإغراء بهذا الوصف، ولذلك تقول لشخص: أنت رجل كيف تفعل كذا وكذا، فقولك: أنت رجل يعني مقتضى الرجولة أن لا تفعل، وتقول: يا فلان أنت كريم وهذا سائل، يعني: فأعطه.
الجملة الثانية: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} لا ناهية، {لَا تُحَرِّمُوا} أي: لا تجعلوه حرامًا، وتحريم ما أحل الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام، فلننظر أيها المراد: خبر، وإنشاء، وامتناع:
فالخبر: أن يقول: الضأن حرام، يخبر، هذا نقول له: إنك كاذب؛ لأن الضأن حلال، وهو قال: إنه حرام كاذبًا.
الإنشاء: أن يحرم ما أحل الله، كما فعل أهل الجاهلية في السائبة والوصيلة والحام قال تعالى:{مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]، هذا التحريم إنشاء، يعني أراد بأن يحكم بأن هذا الشيء حرام على جميع الناس، هذا هو الذي يراد بالآية الكريمة، وحقيقته الحكم بغير حكم الله عز وجل.
الامتناع: يعني أن يقصد الامتناع، لم يقصد أنه حرام، ولا قصد إنشاء الحكم عليه بالتحريم، ولا قصد الخبر، وإنما قصد الامتناع، فهذا حكمه حكم اليمين، لقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} [التحريم: 1].
إذا قال إنسان: هذه الخبزة عليَّ حرام، يريد الامتناع ما قصد أن حكمها حرام في شرع الله ولا يخبر أنها حرام، لكن أراد أن يمتنع، فهذا حكمه حكم اليمين، الدليل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2]، هذه ثلاثة أقسام في التحريم: إخبار، وإنشاء، وامتناع، أيها المراد؟ الإنشاء، ولهذا قال:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} لأنه طيب؛ ولأنه حلال، فكيف تحرمونه.
قوله: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي: تجاوزوا حدودكم؛ لأن الإنسان له حد، فكونه يحلل ويحرم هذا اعتداء، قال الله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} هذه الجملة الثالثة، أخبر الله عز وجل أنه لا يحب المعتدين، لا يحب المعتدين في حقه ولا في حق عباده؛ لأن الله عدل، أحكم الحاكمين، فلا يحب أن يعتدي أحد لا في حقه ولا في حق العباد.
قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَالًا طَيِّبًا} ، {كُلُوا}: فعل أمر، وهو في معناه مشترك بين الإباحة وبين الوجوب وبين الندب، فمن توقفت حياته على الأكل فأكله واجب، ومن احتاج ولكن لا ضرورة، فأكله مستحب، ومن كان لا يحتاج وليس بمضطر فالأمر للإباحة.
قوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي: مما أعطاكم، {حَلَالًا} أي: حال كونه حلالًا، أي: محللًا، فهو مصدر بمعنى اسم مفعول، {طَيِّبًا} أي: لا خبيثًا، وهل الوصف هنا وصف ملازم، وذلك لأن كل حلال طيب أو المعنى حلالًا طيبًا في كسبه، أي: أنه حلال في ذاته طيبٌ في كسبه؟ الثاني أولى؛ لأنه إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام مؤسسًا أو مؤكدًا فحمله على أن يكون مؤسسًا أولى، فنقول:{حَلَالًا} أحله الله، {طَيِّبًا} أي: من حيث الكسب.
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: الزموا تقوى الله عز وجل، {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} هذا من باب الحث على التقوى، يعني: ما دمتم مؤمنين بالله عز وجل فاتقوه، وقوله:{الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} جملة اسمية تدل على الثبوت، يعني أنه قد تقرر عندكم الإيمان بالله، فإذا كان كذلك فاتقوا الله.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى: النهي عن تحريم طيبات ما أحل الله، لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} ، وهذا التحريم، هل يعم الأقسام الثلاثة التي تقدمت؟ نعم يعمها، لكن بعضها أشد من بعض، فالتحريم الإنشائي أشدها؛ لأنه مشاركة لله في حكمه، والتحريم الخبري محرم؛ لأنه كذب، والتحريم الامتناعي أيضًا محرم؛ لأن الله عز وجل عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(1)
.
الفائدة الثانية: النهي عن العدوان -يعني: عن الاعتداء- في حق الله وفي حق العباد.
الفائدة الثالثة: الإشارة إلى أن تحريم ما أحل الله من باب العدوان؛ لأنه قال: {لَا تُحَرِّمُوا} ، {وَلَا تَعْتَدُوا} ، وهو إشارة إلى أن هذا من باب العدوان، وأيهما أشد أن يحرم الحلال أو أن يحلل الحرام؟ أن يحرم الحلال؛ لأن تحريم الحلال تضييق على عباد الله بدون علم، وتحليل الحرام إن قدر أنه حرام بناءً على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء الحل، إلا الشرائع فالأصل فيها الحظر.
الفائدة الرابعة: الإشارة إلى مِنَّة الله تبارك وتعالى على
(1)
رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف، حديث رقم (2533)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، حديث رقم (1646) عن ابن عمر.
عباده بما أحل لهم لقوله: {طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} ، ولو شاء الله عز وجل لحرم علينا طيبات أحلت لنا، كما حرم ذلك على بني إسرائيل حيث قال الله عز وجل:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، يعني: بسبب ظلمهم وعصيانهم حرم الله عليهم الطيبات، وتحريم الطيبات الشرعي بسبب الظلم مثله التحريم القدري بسبب الظلم، فإن الإنسان قد يحرم الطيبات تحريمًا قدريًّا لمعصيته، مثل: أن يكون رجلٌ إذا أكل اللحم، تأثر ومرض، هذا يجب عليه أن يجتنب أكل اللحم وهذا تحريم قدري؟
إنسان مثلًا: مريض بمرض السكر، إذا أكل الحلو ازداد عليه السكر وآلمه، فيجب عليه أن يجتنب السكر، هذا تحريم قدري، فلا تظن أن التحريم بسبب المعاصي هو التحريم الشرعي فقط، بل حتى القدري، ومن التحريم القدري أن يمنع الله نبات الأرض بسبب المعاصي كما قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
الفائدة الخامسة: إثبات المحبة لله عز وجل لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .
فإن قال قائل: هذا نفي وليس بإثبات؟
قلنا: نفيه محبة المعتدين يدل على ثبوت أصل المحبة، ولو كان لا يحب مطلقًا لم يكن لنفي محبته للمعتدين فائدة؛ لأنه أصلًا لا يحب، والذين قالوا: إن الله لا يحب لم ينكروا المحبة ولكن حرفوها، ففي الآية إذًا ردٌّ على منكري محبة الله عز وجل،
مثل الأشاعرة، الذين هم أقرب أهل التعطيل لأهل السنة ينكرون محبة الله، يقولون: إن الله لا يحب أحدًا، قلنا: لا يحب وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: حتى الرسول، قلنا أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله اتخذني خليلًا"
(1)
قالوا: نعم، لكن زاد ثوابه؛ لأن المحبة هي الثواب أو إرادة الثواب، ففسروها بالإرادة؛ لأنهم يثبتون الإرادة.
والحقيقة أننا نسأل الله لهم العفو وأن يهدي أحياءهم، أنهم حرموا لذة محبة الله عز وجل، الإنسان إذا شعر بأن الله يحبه يفرح ويزداد في محبة الطاعات وكراهة المعاصي، لأنه يعلم أن ربه عز وجل يحبه من فوق سبع سموات، وإذا كان المعنى يثيبه، فهو يثيب أي واحد من العباد ممن يستحق الثواب، فحرموا لذة محبة الله؛ لأنهم أنكروها.
إذًا: المهم أن في الآية إثبات المحبة، وإذا قال قائل: ما طريق إثباتها؟ قلنا: لأن نفيها عن المعتدين يدل على ثبوت أصلها، إذ لو لم يكن أصلها ثابتًا لم يكن فائدة من نفيها عن معتديها، وهذا نظير استدلال الشافعي رحمه الله على رؤية الله بنفي الرؤية عن الفجار، حيث قال الله عز وجل:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، قال: لو كانت الخلائق محجوبة عن الله كلها لم يكن في نفي وحجب الرؤية عن الفجار فائدة، فنفي الرؤية عن الفجار دليلٌ على إثباتها للأبرار.
(1)
رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، حديث رقم (532) عن جندب.
الفائدة السادسة: أمر الإنسان بالأكل مما رزق الله، ضده عدم الأكل، وعدم الأكل مما رزق الله ثلاثة أقسام:
الأول: أن يترك الأكل مع خوف الهلاك إذا لم يأكل، فهنا ترك الأكل حرام؛ لأنه يجب على الإنسان أن ينقذ نفسه، وبهذا نعرف سفه أولئك الذين يضربون عن الطعام نعرف سفههم في عقولهم وضلالهم في دينهم، بعضهم يضرب عن الطعام حتى يحمل إلى المستشفى كالميت، هذا حرام، لا شك في هذا.
الثاني: إذا كان ليس به ضرورة للأكل لكن يحتاج إلى الأكل لتقوية البدن فهنا الأكل مستحب؛ لأنه لو تركه لم يهلك، لكنه في حاجة نقول له: لا تمنع نفسك.
الثالث: أن يترك الأكل تنزهًا فهذا ينهى عنه، ويقال: كل مما أباح الله لك، وبعض الناس لا يأكل من طيب الطعام تزهدًا وورعًا، فماذا نقول عنه؟ نقول: هذا خطأ، أفضل الخلق محمدٌ عليه الصلاة والسلام، كان يختار الطيب من الطعام، أليس قد جاءوا له بالتمر الطيب بدل التمر الرديء؟ بلى، ومع ذلك ما نهاهم ولم يقل: لماذا تأتوني بالطيب؟ بل أرشدهم إلى أن يأتوا بالطيب، لكن بطريق مباح، فتنزه بعض الناس عن الطيبات تورعًا وتزهدًا نقول له: لا، أنت الآن مجانب للورع؛ لأن الورع اتباع الشرع، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، واتباع الشرع مما ينفع في الآخرة، فأنت الآن لا زاهدًا ولا ورعًا.
نعم لو فرض أن الإنسان بصفة خاصة يجد من نفسه أنه لو اختار الطيبات لحصل الأشر والبطر، فهنا قد نقول: اترك الطيبات؛ لئلا تصاب بالأشر والبطر، لكننا نعالجك قبل ذلك
بعلاج آخر، نقول: لا يجوز أن يحملك التمتع بنعم الله على الأشر والبطر، فإن عجزت وأبيت إلا أن يحملك، نقول: الآن اترك؛ وفي الحقيقة أن بعض الناس إذا لبس ثياب الزينة -العباءة الزينة وغطاء الرأس الزين- انتفخ وصار فيه علو واستكبار، هذا نقول له: اترك هذا، ونأمره أولًا أن لا يتكبر، لكن يقول: أنا أعجز، نقول: الحمد لله اترك هذا لمن لا يتكبر إذا لبسها، ولكن هذا علاج خاص كما أننا نعالج الإنسان الذي يتأثر بأكل الطيبات من جهة أخرى، فنقول: اتركها ودعها لمن لا يتأثر بها.
الفائدة السابعة: أنه يجب على الإنسان أن يكون مأكله طيبًا، لقوله تعالى:{حَلَالًا طَيِّبًا} ، فالكسب الحرام وإن كان في ذاته حلالًا، يعني مثلًا: كسب الدراهم الأصل في اكتسابها أنها حلال، فإذا كسبها بحرام قلنا: هذا حرام عليك، يحرم عليك أن تأكل منها؛ لأنها ليست طيبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تصدق بطيب، ولا يقبل الله إلا الطيب"
(1)
، فقوله:"بطيب" يعني: بطيب في كسبه وفي ذاته، فإن الله يقبل هذه الصدقة الطيبة.
لو قال قائل: إذا كان المال محرمًا لكسبه، فهل يحل لغير الكاسب إذا اكتسبه بطريق مباح؟
الجواب: نعم، وهذه القاعدة دل عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من طعام اليهود، وهم معروفون بأكل الربا والسحت ومعروفون
(1)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب، حديث رقم (1344)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم (1014) عن أبي هريرة.
بالرشوة- أكل منه؛ لأنه يأكل بطريق مباح إما بالإذن أي: أذن له في ذلك وإما أهدي إليه؛ إلا إذا علمت أن هذا المال هو عين مال رجل آخر كالسارق إذا سرق شاةً وذبحها لك ضيافة تعرف أنه سرقها، فهنا لا يجوز أن تأكلها؛ لأن هذا محرم لعينه، من حيث إن هذا الكاسب لم يملك هذه العين، فلا يجوز أن تأكلها، لكن لو دعاك إلى وليمة من عرف بأن ماله كله حرام؛ اكتسبه عن طريق الربا الصريح، أو عن طريق الربا الذي اتخذه بالحيلة، فهل لك أن تأكل منه؟ نعم، لي أن آكل منه، إلا إذا علمت أنني إذا امتنعت من إجابة دعوته وأكل طعامه صار ذلك سببًا لتوبته فحينئذٍ، نعم، لا يجوز أن أجيبه، ولا يجوز أن آكل من طعامه؛ لأنه إذا رأى الناس قد هجروه فلا يجيبون دعوته ولا يأكلون طعامه، لا شك أن هذا سيؤثر عليه إلا أن يكون قلبه ميتًا.
الفائدة الثامنة: أن الإيمان بالله عز وجل مستلزم لتقواه، لقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي: فلإيمانكم يلزمكم التقوى، فالإيمان الحقيقي مستلزم للتقوى، فمن قال: إنه مؤمن ولكن لم يتقِ الله، فهو إما فاقد للإيمان بالكلية، وإما ناقص الإيمان.
فإن قال قائل: إنه يفعل المعاصي، وإذا قيل له: يا فلان اتقِ الله لا تعصِ الله، قام يضرب على صدره، ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، ماذا نقول له؟ نقول: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك فيه وليس عندنا في هذا شك، ولكن لو اتقى ما هاهنا لاتقت اليد والرجل والعين واللسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،
وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
(1)
فلو كان فيما هاهنا تقوى لظهر ذلك على جوارحه.
* * *
قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ، لا يؤاخذكم: أي: لا يعاقبكم ولا يحاسبكم، {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} اللغو: ما لم يُقْصَدْ، بدليل قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، وقد تقدم أن من طرق التفسير أن تقابل الكلمة إذا كانت خفية بشيء واضح فيتبين معناها بما قوبل بها، وذكرنا على هذا مثلًا: وهو قوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]، فإن {ثُبَاتٍ} لا يفهم معناها بسرعة، لكن إذا قرنتها بالمقابل، وهو قوله:{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} تَبَيَّنَ أن معنى ثباتٍ أي: فرادى متفرقين.
و"اللغو" هو الذي لا يقصد، بأن يجري على اللسان بدون قصد، وهذا يقع كثيرًا، يقول لك صاحبك: أتريد أن نذهب إلى فلان؟ تقول: لا واللهِ، لا أريد الذهاب إليه، أو يقول: اذهب فسلم على فلان؟ تقول: لا واللهِ لا أريد، على سبيل اللغو لا
(1)
تقدم في (1/ 143).
القصد، فهذا على سبيل اللغو لا يترتب عليه حكم، ولأن هذا أيضًا من الأشياء التي قد يشق تجنبها.
لو قال قائل: هل يدخل في اللغو الحلف بغير الله؟
الجواب: الحلف بغير الله لا ينعقد أصلًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(1)
والحلف بغير الله ليس عليه أمر الله ورسوله.
وقوله: {فِي أَيْمَانِكُمْ} جمع يمين وهو الحلف.
وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ} أي: بالذي عقدتم، وفي هذه الكلمة ثلاثة قراءات:{عَقَّدْتُمُ} بتشديد القاف، وعاقدتم و {عَقَّدْتُمُ} ، بتخفيف القاف، والمعنى واحد، أي: بما نويتم عقده من الأيمان.
قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ} هل المراد فكفارته إذا حلفتم، أو إذا حلفتم وحنثتم؟ الثاني، يعني أن في الآية شيئًا محذوفًا التقدير: فكفارته إن حنثتم فيه، أي: التي تكفره ولا يقع فيه مؤاخذة، {إِطْعَامُ عَشَرَةِ} وأطلق الله الإطعام فيرجع في ذلك إلى العرف؛ لأن لدينا قاعدة وهي أن ما جاء مطلقًا في الكتاب والسنة فإنه يحمل على عرف الناس.
قوله: {عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} جمع مسكين: وهو الذي لا يجد كفايته، وسمي مسكينًا؛ لأن الفقر أسكنه؛ لأن العادة أن الغني يكون نشيطًا له شخصية، يقابل الناس ويتكلم معهم ويأخذ منهم ويرد، والغالب على الفقير العكس، فلذلك سمي الفقير مسكينًا.
(1)
تقدم في (1/ 110).
قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: لا من أجوده ولا من أردئه، بل من الوسط.
قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} معطوفة على إطعام، والكسوة ما يكسو به الإنسان بدنه، وتختلف الكسوة باختلاف الأزمان والبلدان والأحوال. ولذلك ترون في مواسم الحج والعمرة اختلافًا كبيرًا في كسوة الناس، فيرجع في هذا إلى العرف، ففي بلادنا الكسوة عبارة عن قميص وسروال وغترة وطاقية، هذه الكسوة، وإن نقص شيء من ذلك فالكسوة ناقصة.
وقوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} لم يقيد من أوسط ما تكسون، فيؤخذ بما يعد كسوة.
قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: عتقها، وسمي العتق تحريرًا؛ لأن الرقيق يتحرر به من ملك سيده الذي يفرض عليه أن يكون عبدًا مطيعًا.
وفي الآية الترقي من الأسهل إلى الأشد؛ لأنك لو نظرت لوجدت في الغالب أن الإطعام أسهل من الكسوة، وأن الكسوة أسهل من العتق.
لو قال قائل: الرقبة هنا مطلقة لأنه قال: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، فهل يصح إعتاق الكافر؟
الجواب: يرى بعض أهل العلم أنه يصح؛ لأننا نطلق ما أطلقه الله ونقيد ما قيده الله عز وجل، والرقبة وردت مطلقة هنا في كفارة اليمين، ووردت مطلقة في كفارة الظهار، ووردت مطلقة في كفارة الجماع في رمضان، ووردت مقيدة في كفارة القتل، فمن العلماء من قال: إنه يجب علينا أن نبقي النصوص كلها على
ما هي عليه، فيشترط الإيمان في كفارة القتل، ولا يشترط الإيمان في كفارة اليمين، وكفارة الظهار وكفارة الجماع.
ومنهم من قال: ما دام الحكم واحدًا، فإنه يجب أن يقيد المطلق بالقيد الذي قيد به المقيد، وإن اختلف السبب، واستدل هؤلاء بحديث معاوية بن الحكم أنه لما أراد أن يعتق جاريته التي لطمها، فدعا بها النبي صلى الله عليه وسلم وسألها:"أين الله؟ "قالت: في السماء، قال:"أعتقها فإنها مؤمنة"
(1)
فإنه يستفاد من هذا أنه لو لم تكن مؤمنة ما شرع العتق، وعللوا أيضًا بتعليل جيد، قالوا: إنه إذا عتق الكافر فإنه لا يؤمن أن يرجع إلى أصله وأهله، لأنه الآن قد تحرر، فيمكن أن يذهب إلى أهله ويزيد سوادهم في محاربة المسلمين، فالصواب: أنه لا بد من الإيمان.
قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: فمن لم يجد الإطعام أو الكسوة أو العتق، أو وجد لكن لم يجد من يطعمهم أو يكسوهم أو يعتقهم، بأن يكون المجتمع غنيًا كلهم أغنياء لا يجد فيهم فقيرًا ولم يوجد أرقاء يمكن إعتاقهم، فإنه يعدل إلى الرابع من أصناف الكفارة، وهو صيام ثلاثة أيام مطلقة لم يقيدها الله عز وجل بالتتابع، والصيام إذا أطلق فهو مطلق لا يشترط فيه التتابع، ودليل ذلك أن الله إذا أراد سبحانه وتعالى أن يكون الصوم متتابعًا قيده، كما في آية الظهار قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4]، وكما في آية القتل قال تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، وإذا أطلق فإنه لا يجب فيه التتابع، لكن قد ورد في قراءة عبد الله بن مسعود اشتراط
(1)
تقدم في (1/ 466).
التتابع، فقرأ رضي الله عنه:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وعلى هذا فتكون قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مقيدة لهذا الإطلاق.
قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} ذلك المشار إليه هذه الأربعة: وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام على حسب ما جاء في الآية من ترتيب وتخيير.
قوله: {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يعني: إذا حلفتم وحنثتم، أما إذا لم تحنثوا فإنه لا شيء عليكم، فإذا حلف الإنسان أن لا يفعل شيئًا ولم يفعل فلا شيء عليه، أو أن يفعل شيئًا ففعله فلا شيء عليه.
قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} احفظوا أيمانكم لها ثلاثة معان:
المعنى الأول: احفظوها من الحنث، أي: حافظوا على أن لا تحنثوا.
المعنى الثاني: أي: لا تكثروا الحلف، فلا تجعلوها رخيصة، كل شيء تحلفوا عليه، فلا تحلفوا على شيء إلا إذا دعت الحاجة أو الضرورة لذلك.
المعنى الثالث: احفظوها بأن لا تَدَعُوا الكفارة، وهذه المعاني الثلاثة صحيحة ولا يناقض بعضها بعضًا وتكون الآية شاملة لها.
قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} كذلك أي: مثل ذلك البيان، وعليه فتكون الكاف مفعولًا مطلقًا؛ لأنه أضيف إلى المصدر، أي: مثل ذلك البيان يبين الله لكم آياته، والمراد بالآيات هنا الآيات الشرعية؛ لأن السياق يدل عليه، ولا شك
أن الله بيّن لنا الآيات الشرعية والآيات الكونية، ففي مخلوقاته آيات عظيمة كما قال عز وجل:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21].
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} "لعل": للتعليل، أي: لأجل أن تشكروا الله عز وجل على بيان الآيات، والشكر هو القيام بطاعة المنعم، هذا أجمع ما قيل فيه، فيشمل القيام بطاعة المنعم فيما يقال. والقيام بطاعة المنعم فيما يُفْعَل، والقيام بطاعة المنعم فيما يعتقد، فيكون محل الشكر ثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح، وعلى هذا قول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
يقول الشاعر يخاطب من يخاطب: إن نعماءكم عليَّ ملكتم بها فؤادي ولساني، فصار يثني عليكم وكأنكم أسياده، وكذلك الجوارح أخدمكم بها، يعني: ملكتم قولي وقلبي وعملي، والمعنى واضح، ويؤيده قوله:"والضمير المحجبا" بالنصب.
الحاصل أن هذه أوسع آية فيما يتعلق بالأيمان، وإلا فقد جاء في البقرة مثل قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} [البقرة: 225]، لكن هذه الآية مفصلة.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: سعة حلم الله وعفوه، حيث نفى المؤاخذة عن اللغو في الأيمان، وذلك لكثرة تكرارها ومشقة التحرز منها، وهذا بناءً على أن المراد بها: الأيمان التي لا تقصد والتي تكون في عرض الحديث.
وقال بعض أهل العلم: من اللغو في الأيمان أن يحلف على شيءٍ ماضٍ يظنه واقعًا ولم يقع، مثل أن يقول: والله لقد قدم فلان من البلد أمس؛ بناءً على أنه رأى رجلًا يشبهه فظنه إياه، فأقسم أنه قدم ولم يقدم، لكن الصواب خلاف ذلك، وأن هذا ليس من اللغو؛ لأن هذا قصد العقد حلف وأقسم، ولو قيل له: لم يأتِ الرجل لقال: والله لقد جاء، والله لقد رأيته، لكن هذا مما لا حنث فيه؛ لأن الرجل حلف على ما في ظنه وهو واقع، يقول: لا زلت أظن هذا، فهو حلف على ما في ظنه، ولهذا التعليل لا يفرق على القول الصحيح بين الماضي والمستقبل، المستقبل مثل أن يقول: والله ليقدمن زيد غدًا بناءً على ما سمعه من الأخبار، أو ما سمعه من نطقه أنه سيقدم غدًا، فقال: والله ليقدمن زيدٌ غدًا، فمضى الغد ولم يقدم، فهذا لا حنث عليه، مع أنه عاقد حالف، لكن نقول: الرجل حلف على ما في ظنه وهو يقول: لا أزال أظن هذا حتى لو انتهى الغد ولم يأتِ فأنا على ظني، وكون الواقع يكون على خلاف ظني هذا ليس إليّ وليس من فعلي ولا من تصرفي، ولذلك لو قال: والله ليقدمن زيد غدًا بناءً على أنه سيلزمه بالقدوم ولم يقدم فإنه يحنث.
إذًا: القول الراجح أن اليمين التي يحلفها على ظنه ليست من لغو اليمين وإنما لغو اليمين ما لا يقصد.
الفائدة الثانية: أن العبرة بما في القلوب، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى"
(1)
، وينبني عليه مسائل كثيرة في الأيمان والطلاق والبيوع والأوقاف
(1)
تقدم في (1/ 117).
وغيرها، والدليل على أن العبرة بما في القلوب قوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، وفي سورة البقرة:{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
الفائدة الثالثة: أنه لا حنث في اليمين إلا إذا كانت منعقدة، قال العلماء: والمنعقدة هي التي يقصد عقدها على أمر مستقبل ممكن، فإذا لم يقصد العقد فهي لغو، وإذا عقدها على ماض فإنه لا يخلو من ثلاثة أقسام:
الأول: إما أن يعقدها على أمرٍ ماضٍ متيقن فهذا لا شيء عليه، لكنه لا ينبغي إلا عند الحاجة، مثل أن يقول: والله لقد نزل المطر أمس على بلدنا، وهو يعلم أنه نازل، هذا جائز، لكن الأولى أن لا يفعل إلا لحاجة.
الثاني: أن يقصد عقدها على ماضٍ يعلم أنه كاذب، فهذه حرام، مثل أن يقول: والله لقد صليت أمس في المسجد الحرام وهو لم يصلِّ، هذا لا شك أنه آثم؛ لأنه جمع بين إثمين، الإثم الأول: الكذب، والإثم الثاني: الاستهانة باليمين بالله عز وجل، واليمين كما نعلم جميعًا: تأكيد الشيء بذكر معظم، لكن هل هذا يمين غموس أو اليمين الغموس ما تتضمن أكل المال بالباطل، أو الاعتداء على الغير؟
الجواب: المذهب الأول، أن كل يمين كاذبة على ماض فهي يمين غموس، ولا شك أن اليمين على أمر ماض وهو يعلم أنه كاذب لا شك أنها محرمة وأشد مما لو أخبر بدون اليمين، لكن الذي يظهر أن اليمين الغموس: هي التي يحلف بها الإنسان فاجرًا ليقتطع بها مال امرئٍ مسلم، مثاله: أن يدعي على شخص
بأن في ذمته له ألف ريال ويقيم شاهد زور ويحلف، فهنا يحكم له بالألف، هذه اليمين نسميها يمينًا غموسًا؛ لأنه اقتطع بها مال امرئ مسلم، أو يجحد بها مال امرئٍ مسلم، مثل: أن يُدَّعى عليه بألف ريال ويقول: أبدًا ليس لك عندي شيء، ويحلف على هذا، فهذه يمين غموس، فالراجح: أن اليمين الغموس هي التي يقتطع بها مال امرئ مسلم.
القسم الثالث من الحلف على الماضي: أن يحلف على ماضٍ يظنه واقعًا وليس بواقع، فهذه يسميها فقهاؤنا رحمهم الله لغو اليمين، يعني: يجعلونها من لغو اليمين، والصحيح أنها ليست من لغو اليمين، وإنما هي من اليمين التى بر فيها؛ لأنه حلف على ظنه وهو لا يزال على ظنه، ولكن مع ذلك الأولى أن لا يحلف على شيء بناءً على الظن إلا إذا دعت الحاجة لذلك.
تقدم أن اليمين المنعقدة هي التي قصد عقدها على أمرٍ مستقبل ممكن، ضد الممكن المستحيل، المستحيل لا تنعقد عليه اليمين؛ لأنه بالنسبة لإيجاده، نقول: هذا غير ممكن؛ فيحنث في الحال وتلزمه الكفارة؛ لأنه لا يمكن أن يوجده، وإن كان على عدمه فليس فيه كفارة؛ لأن هذا هو الواقع، وقال بعض أهل العلم: إن الحلف على المستحيل لا كفارة فيه مطلقًا؛ لأن كونه يحلف على شيء يستحيل وجوده، هذا لغو فلا حنث فيه.
بقي علينا أشياء، هل يشترط أن يكون باختياره، أي: أنه يحلف مختارًا؟
الجواب: نعم، يشترط أن يكون حلفه اختيارًا، فان أكره على اليمين لم تنعقد اليمين.
ولكن هنا مسألة: لو أكره على اليمين فحلف قاصدًا اليمين؛ لأنه إذا أكره وحلف، إما أن يقصد باليمين دفع الإكراه أو يقصد اليمين لكنه مكره عليه، هاتان مسألتان: أحيانًا يحلف ليدفع الإكراه عن نفسه ويتخلص من عدوان المكره، وأحيانًا يحلف يقصد اليمين، لكن حمله عليها الإكراه؟
أما إذا قصد دفع الإكراه فلا شك أنه لا حنث عليه؛ لأنه لم يقصد اليمين أصلًا، بل قصد الخلاص من هذا الذي أكرهه، أما إذا حلف يقصد اليمين لكن ألجئ إليه، فهذا فيه خلاف، والصواب أنه كالأول لا سيما إذا وقع من شخص عامي؛ لأن العامي إذا أكره على الشيء فعله ولا يخطر بباله أنه لدفع الإكراه، أو لأنه أكره عليه، وهذه المسألة إن وقعت فإنما تقع لطالب علم يفهم، فالصواب: أن المكره لا تنعقد يمينه، سواء نوى بذلك رفع الإكراه، أو عَقْدَ اليمين للإكراه.
لو قال قائل: هل ينعقد اليمين إذا صدر اليمين عن غضب؟
الجواب: هذه المسألة لا بد أن نذكر فيها قاعدة، وهي أن كل قول يكون عن غضب لا يملك الإنسان فيه نفسه فلا عبرة به، فلو طلق في غضب شديد لم تطلق امرأته، ولو أقسم في غضب شديد لم ينعقد اليمين، ولو ظاهر من امرأته في غضب شديد لم يكن ظهارًا، فهذه قاعدة ثابتة.
هل يشترط أن يكون مكلفًا، أو لا يشترط؟
الصواب: أنه يشترط أن يكون مكلفًا؛ لأن غير المكلف لا يلزمه شيء، لا بأصل الشرع ولا بإلزام نفسه، ولهذا لا ينعقد النذر من غير مكلف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن
ثلاثة"
(1)
، فلو حلف من له عشر سنوات أن لا يشتري شيئًا معينًا فبلغ واشتراه، هل يحنث أو لا؟
الجواب: لا؛ لأن يمينه غير منعقدة.
ولو حلف وهو مكلف بالغ، ثم حنث وهو غير مكلف، هل يحنث أو لا؟ ليس عليه شيء، وهذا يتصور في عاقل جُنَّ.
إذًا: اليمين لا تنعقد من غير البالغ العاقل؛ لأنه غير مكلف، واليمين فيه نوع إلزام.
الفائدة الرابعة: ما أشرنا إليه أولًا وهو اعتبار النية والقصد، وهذا ينبني عليه مسائل من أهمها ما يقع كثيرًا؛ بأن يطلق الرجل زوجته بناءً على أنها تكلم الرجال بالهاتف، ثم يتبين أنها تكلم أقاربها ومحارمها، فهنا الطلاق لا يقع.
يحلف الرجل أن لا يقدم هذا البلد؛ لأنه يعتقد أن أميره ظالم، فيقول: ما لي وللأمير الظالم، ثم يتبين أن أميره ليس بظالم، فهل عليه شيء؟ لا؛ لأنه إنما حلف على نية أن هذا الوصف هو الذي يمنعه من دخول البلد، وقد قال الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} .
الفائدة الخامسة: أنه لا ينبغي الحنث إلا إذا كان خيرًا، لقوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ} والكفارة لا تكون إلا في مقابلة ذنب أو ما يشبهه، ولهذا قال في آخر الآية:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} .
(1)
رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا، حديث رقم (4403)، والترمذي في كتاب الحدود، باب فيمن لا يجب عليه الحد، حديث رقم (1423)، وأحمد (1/ 116)(940) عن علي بن أبي طالب.
الفائدة السادسة: أن كفارة اليمين على التخيير في أشياء ثلاثة: إطعام المساكين، وكسوتهم، وعتق الرقبة، هذا على التخيير، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وما اشتهر عند العوام من أن كفارة اليمين هي الصيام فخطأ، فينبغي لطلبة العلم أن يبينوا للناس أن الصيام لا يجوز لمن يقدر على واحدة من الثلاث التي قبلها.
الفائدة السابعة: أن الإطعام مطلق لا يشترط فيه التمليك؛ لأن الله تعالى لم يقل: فللمساكين، لو قال:"فللمساكين" لكان يشترط فيه التمليك، كما قال في الزكاة:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]، وذلك لأن الطعام ينتفع به مرة واحدة فلا يشترط فيه التمليك، أما الكسوة فيشترط فيها التمليك، وإلا لكان تعيره الثوب ثم تأخذه منه العصر.
لو قال قائل: ما ضابط ما يحصل به الإطعام؟
الجواب: يقول الله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ} فإذا كان إطعام عشرة، فما يحصل به الإطعام كافي، فلو غدَّى المساكين أو عَشَّاهم، أجزأه بلا شك؛ لأنه يصدق عليه صدقًا تامًّا أنه أطعمهم، وإطعامهم مطبوخًا أولى لموافقته ظاهر الآية، لكن الفقهاء يقولون: لا بأس أن يعطيه رزًا نيًا، لكن يحسن أن يكون معه شيء يؤدمه كاللحم، فإن أعطاهم شيئًا يطعمونه بأنفسهم، أي: يصنعونه بأنفسهم، فهل يجزئ أو لا؟ الظاهر الإجزاء؛ لأنه إذا أعطاهم مثلًا ما يكفيهم من حب ولحم وما أشبه ذلك مما يطعم فإنه يصدق عليه أنه أطعم عشرة مساكين.
الفائدة الثامنة: أنه لو أطعم من يأكل الطعام ولو كان صغيرًا كفى لقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ، فإن كان المسكين صغيرًا لا
يأكل الطعام فهل يجزئ أن يطعمه حليبًا؟ الجواب: لا؛ لأن هذا خلاف الظاهر اللفظي.
لو قال قائل: إذا كان عندنا تسعة فقراء وفيهم امرأة ترضع، فهل يكفي أن نطعمها مرتين؟ الجواب: لا، لا بد من إطعام عشرة مساكين يتغذون بالطعام لا باللبن.
واذا قال قائل: إذا لم أجد عشرة مساكين، يعني لم أجد في البلد إلا خمسة فهل أعدل إلى الصيام أو أكرر على الخمسة؟
فيه احتمال؛ لأن قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِد} يعود إلى ما سبق، والذي سبق إطعام عشرة مساكين، فقوله:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي؛ من لم يجد {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} ويحتمل أن يقال: ما دام وجد مساكين، فإنه يكرر عليهم الإطعام، فإذا وجد خمسة يكرر مرتين.
لو قال قائل: لو وجدنا فقيرًا وهو يعول عائلة من تسعة وهو العاشر، لكنهم ليسوا معه في البلد، فهل نعطيه الكفارة؟ الجواب: إذا علمنا أنه سيؤديها لهم فلا بأس، أما إذا لم نعلم فلا، لكن لو قيل: هو سيبيعها ويرسل إليهم ثمنها؟ قلنا: لا يجوز، لا بد من إطعام عشرة.
الفائدة التاسعة: أن لله تعالى الحكمة فيما يشرع لعباده؛ لأنك لو قارنت بين إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وعتق الرقبة، لوجدت الفرق كبيرًا، لكن لله الحكمة فيما يشرع، فلا يمكن أن يعترض معترض فيقول: لماذا لم يكونوا عشرين؛ لماذا لم يكونوا ثلاثة كالصيام مثلًا؟ نقول: هذا حكم الله عز وجل وهذا من الأمور التعبدية، يعني: تقدير من يعطون من الكفارات أمر تعبدي لا مدخل للعقل فيه كأعداد الصلوات.
الفائدة العاشرة والحادية عشرة: أن الواجب على الإنسان يكون الوسط، فالزكاة مثلًا على صاحب الغنم، الواجب الوسط، والزكاة في الثمار، الواجب الوسط، ويتفرع على هذه الفائدة العظيمة: عدالة الإسلام؛ لأن الوسط ليس فيه حيف لا على من يجب عليه ولا على من يجب له، وهذا لا شك أنه من العدالة.
فإن قال قائل: أرأيتم لو أطعمهم من أعلى ما يكون أيجوز أو لا؟ الجواب: يجوز لأن هذا أكمل.
الفائدة الثانية عشرة: وجوب الإنفاق على الأهل، لقوله:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} يعني: كأن هذا أمر مقرر أن الرجل يطعم أهله، وهذا لا شك فيه أنه يجب على الرجل أن ينفق على أهله، قال الله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
الفائدة الثالثة عشرة والرابعة عشرة: أن الكسوة مطلقة أيضًا كالإطعام، فما سمي كسوة حصل به الإجزاء، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأماكن والأمم.
لكن هل يمكن أن نقول: إن الآية أيضًا مناسبة بين الكسوتين الباطنة والظاهرة؛ لأن في الإطعام كسوة الباطن، وفي الكسوة كسوة الظاهر، يمكن أن نقول هذا؛ لأن الله تعالى قال لآدم عليه السلام:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118]، الجوع وخلو المعدة، عري الباطن والعري: عري الظاهر، {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 119]، الظمأ: حرارة الباطن، ولا تضحى حرارة الظاهر، وقد يتبادر إلى
الأذهان الضعيفة أن يكون المعنى: أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولا تعرى ولا تضحى، لأن العري يكشف البدن للشمس، والكسوة تستره، لكن البلاغة العظيمة فيما جاء في القرآن.
الفائدة الخامسة عشرة: أنه لا بد من إطعام هذا العدد وكسوتهم، أي: العشرة، فلو كرر الطعام على واحد عشرة أيام، لم يجزيء، لأن الله نص على العدد فيجب اتباع ما نص الله عليه، هذا وقد قال العلماء رحمهم الله: إنه قد يعين المدفوع إليه أو المعطى دون المدفوع كما في هذه الآية، المطعمون عشرة، والإطعام غير مقيد لا يقال: صاع ولا مد، هذا أولًا.
الثاني: قد يقيد المعطى، يعني: المدفوع، دون المدفوع إليه، كما في زكاة الفطر من رمضان، فإن المدفوع مقيد وهو صاع من طعام، والمدفوع إليه لم يقيد، ولهذا يجوز أن تعطي الصاع من الفطرة لعدة فقراء، ويجوز أن تعطي فطرًا لواحد.
الثالث: أن يقدر المعطى والمدفوع إليه، أي: المدفوع والمدفوع إليه كما في فدية الأذى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه:"تطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع"
(1)
فقيد المعطى يعني المدفوع والمدفوع إليه.
الفائدة السادسة عشرة: أن كفارة اليمين لا تعطى للمؤلفة قلوبهم، ولا تعطى للغارمين وإنما هي: إطعام المساكين، كما
(1)
رواه البخاري أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب الإطعام في الفدية نصف صاع، حديث رقم (1721)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه، حديث رقم (1201) عن كعب بن عجرة.
نقول ذلك أيضًا في زكاة الفطر فإنها لا تدفع إلا للفقراء فقط.
الفائدة السابعة عشرة: تمام عدل الله عز وجل في إيجاد الأوسط؛ لأنه لو أوجب الأكمل والأعلى لكان في هذا ضرر على الحالف، ولو أوجب الأدنى لكان فيه ضرر على المعطى أي: المدفوع إليه.
الفائدة الثامنة عشرة: أن الكسوة مطلقة لم تخصص بشيء معين ولا بعدد معين، يعني: لا يعطى ثوبين أو ثلاثة أو عشرة، فما يحصل به هذا المسمى وهو الكسوة يحصل به براءة الذمة.
الفائدة التاسعة عشرة: الإشارة إلى أن الحنث باليمين أمره عظيم، ولهذا لا يكفره إلا عتق الرقبة، التي يحصل بها عتق المعتق من النار، لكن الله تعالع لحلمه ورحمته خفف عن العباد، دليل ذلك قوله:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .
الفائدة العشرون: أن تقدير العبادات كمِّيةً ونوعًا وكيفيّةً موكول إلى الشرع، ولذلك لا يتقابل أو لا يتساوى إطعام عشرة مساكين مع صيام ثلاثة أيام، لو نظرنا إلى كفارة الظهار لكان الواجب صيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكينًا، فجاء إطعام كل فقير يقابل صيام يوم، لكن هنا يختلف الوضع، ولعل السبب والله أعلم أنه في كفارة الظهار الإطعام بدلٌ عن الصيام، فمن لم يستطع الصيام أطعم، وإذا كان بدلًا عن الصيام، فالحكم أن صوم كل يوم يطعم عنه مسكينًا كما في العاجز عن الصيام عجزًا لا يرجى زواله، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا، أما في كفارة اليمين وفدية الأذى فليس الأمر كذلك؛ لأن الأمر فيهما على التخيير، فكل من خصال الكفارة نوع مستقل بنفسه،
فالإطعام في كفارة الظهار بدل عن الصوم شهرين، والغالب أن تكون ستين يومًا، فكان بدلها إطعام ستين مسكينًا، كما نقول في رمضان: إذا عجز الإنسان عن الصيام عجزًا مستمرًا فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا؛ لأن الإطعام بدلٌ عن الصيام في كفارة اليمين، إطعام عشرة أو صيام ثلاثة أيام، لكن كل واحد مستقل بنفسه، فلما كان كل واحد مستقل بنفسه صار كل واحد مختص بوصف يناسبه حسب حكمة الله عز وجل.
ففدية الأذى إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام؛ لأن صيام ثلاثة أيام ليس بدلًا عن إطعام ستة مساكين، وإطعام ستة مساكين ليس بدلًا عن الصيام، إذ إن الإنسان مخير بين هذا وهذا، فكل واحد منهما مستقل بنفسه، يعني قسم مستقل بنفسه. هذا ما ظهر لنا والله أعلم بما شرع.
الفائدة الحادية والعشرون: دفع توهم العوام من أن كفارة اليمين صيام ثلاثة أيام؛ ولهذا تجد بعضهم يقول: أنا لن أصوم ثلاثة أيام، فيمنعه صيام ثلاثة الأيام من الحنث فيقال: الأصل أن الواجب إطعام عشرة مساكين.
لو قال قائل: هل يجوز أن نلزم الغني بصيام ثلاثة أيام لأنها أشق عليه من إطعام عشرة مساكين؟
الجواب: لا يجوز هذا، ولذلك غلط بعض العلماء الذين أوجبوا على أحد الملوك في كفارة الظهار أن يصوم شهرين متتابعين وقالوا: إن هذا أشق عليه من أن يعتق رقبة؛ لأنه سلطان وأمير يستطيع أن يعتق عشر رقاب، لكن صيام شهرين متتابعين أشق عليه، فيقال: هذا غلط؛ لأن هذا مخالف للنص،
والله سبحانه وتعالى يحب أن يعتق العبيد، فليتبع ما فرضه الله عز وجل.
الفائدة الثانية والعشرون: أن المشروع احترام اليمين وحفظها وهو كذلك، ولكن جاءت السنة بالتفصيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني والله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها، إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير"
(1)
.
وعلى هذا فنقول: الحنث في اليمين ينقسم إلى أقسام: تارة يجب الحنث، وتارة يحرم الحنث، وتارة يسن، وتارة يكره، فإذا حلف الإنسان على أن لا يصلي مع الجماعة، فالحنث واجب، يعني: يجب أن يصلي ويكفر، وإذا حلف شقي أن يشرب الخمر، فالحنث واجب ونقول: يجب عليك أن لا تشرب، وتكفر عن يمينك، لكن الفرق بينه وبين الأول، أن ذلك في ترك الواجب وهذا في فعل المحرم.
وإذا حلف أن لا يزور قريبه، وصلة الرحم واجبة، فما حكم الحنث؟ الحنث واجب، فيجب أن يزور قريبه وأن يكفر عن يمينه، وإذا حلف على فعل محرم فالحنث واجب، مثاله كما تقدم: حلف أن يشرب الخمر، نقول: الحنث واجب، يعني لا تشرب الخمر وكفر، وإن حلف أن لا يشرب الخمر، فالحنث حرام؛ لأنه لو شرب الخمر لكان فَعَلَ محرمًا، لو حلف شخص أن لا يأكل بصلًا فالحنث مكروه؛ لأن أكل البصل مكروه لمن
(1)
رواه البخاري أول كتاب الأيمان والنذور، حديث رقم (6249)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير، حديث رقم (1649) عن أبي موسى الأشعري.
أراد أن يصلي، وإذا حلف أن لا يصلي راتبة الفجر، فالحنث مستحب، نقول: صلِّ وكفر.
فالقاعدة إذًا: أنه يسن الحنث في اليمين إذا كان خيرًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجب الحنث وقد يحرم، والأصل أن الحنث جائز، ولكن عدم الحنث أولى لقوله:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} .
الفائدة الثالثة والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ لعباده من آياته كل ما يحتاجون إليه، لقوله:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} .
الفائدة الرابعة والعشرون: أنه يجب علينا شكر الله تعالى على بيان الآيات، لقوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
الفائدة الخامسة والعشرون: محبة الله تعالى للشكر حيث بَيَّنَ الآيات من أجل الشكر.
الفائدة السادسة والعشرون: أن العلم من نعم الله التي يجب علينا شكرها؛ لأن بيان الآيات به يعلم الإنسان آيات الله، فإذا كان الله يبينها لنشكره عليها دل ذلك على أن العلم بالشريعة وبآيات الله نعمة يجب على الإنسان أن يشكرها، لقول الله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
الفائدة السابعة والعشرون: تعليل أحكام الله عز وجل، وأنها مقرونة بالحكمة، لأن قوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} للتعليل، والتعليل يفيد الحكمة، فجميع أفعال الله وأحكام الله كلها لحكمة، لكن منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم.
* * *
هذه الآية جمعت بين خبر وطلب، الخبر قوله:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} والطلب قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} في هذه الآية يبدأ الله تعالى الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وقد تكرر مثل هذا الخطاب، وبَيَنَّا أنه إذا بدء الكلام بالخطاب فإن ذلك يدل على أهميته والعناية به.
ثم بدؤه بهذا الوصف: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على أن العمل به تصديقًا أو امتثالًا من مقتضيات الإيمان، كذلك أيضًا: يدل على أن مخالفته أو الشك فيه أو تكذيبه منافٍ للإيمان إما لأصله أو لكماله، وثالثًا: أن في هذا إغراءً للمخاطب، كأنه يقول: إن كنت مؤمنًا فاستمع وامتثل.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أطلق الله عز وجل الإيمان ولم يذكر ما يؤمَن به؛ لأن ذلك معلوم، وقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، أي: عن الإيمان، فقال:"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"
(1)
.
وقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} "إنما" أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، هذا هو الأصل، وقد يراد به تحقيق الحكم في المذكور، ولا يلزم أن ينفى عما سواه، كما سيتبين إن شاء الله في التفسير.
(1)
تقدم في (1/ 152).
وقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} الخمر قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: "إنه المسكر"
(1)
كل ما أسكر فهو خمر، ولا نقول: كل ما أذهب العقل فهو خمر، أو كل ما أذهب الإحساس فهو خمر، بل نقول: الخمر ما غطى العقل على وجه اللذة والطرب؛ لأن الذين يشربون الخمر يجدون راحة ونشوة وطربًا، فالخمر له أصل في المعاني الحسية، ومنه الخمار تغطي به المرأة رأسها.
وعلى هذا فالبنج ليس بخمر، وإن كان يفقد الإحساس لكنه لا يجد الإنسان فيه النشوة والطرب، ومع ذلك لا يستعمل البنج إلا للحاجة والضرورة.
وقوله: {وَالْمَيْسِرُ} الميسر هو أخذ المال على وجه المغالبة، ويسمى قمارًا، وسمي ميسرًا: لتيسر الحصول عليه، مثاله: المراهنة والقمار مثل أن يقول: سنعمل عملًا سويًا ونجعل العوض مثلًا: عشرة آلاف ريال. فمن غلب أخذ العشرة، ومن غُلب أُخذت منه العشرة، إذًا: المسألة الآن غرر وجهالة، فيسمى هذا ميسرًا لما فيه من المغامرة والغرر والمخاطرة، ولهذا قد يربحٍ الواحد في المجلس الواحد مئات الآلاف، وقد كان هذا معروفًا عند العرب، وكذلك في أول الإسلام، ولكنه والحمد لله حُرِّمَ.
وقوله: {وَالْأَنْصَابُ} الأنصاب: هي ما ينصب ليعبد من دون الله.
وقوله: {وَالْأَزْلَامُ} الأزلام: هي ما يستقسم به، أي: يطلب به الإنسان ما قسم له، وقد كانوا يستعملون هذا في الجاهلية
(1)
رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر .. ، حديث رقم (2003) عن ابن عمر.
فيضعون أقداحًا فيها: افعل ولا تفعل، والقدح الثالث ليس فيه شيء، ثم يخلطونها جميعًا ويقول القائل: خذ منها بدون أن تعلم، تجعل في كيس أو نحوه ثم يقال: أدخل يدك وأخرج قدحًا، إن خرج افعل فعل، وإن خرج لا تفعل لم يفعل، وإن خرج المهمل أعاد مرة أخرى، هذا العمل كان يستعملونه في الجاهلية، وهو مبني على أوهام لا حقيقة لها، ولذلك حرمه الله عز وجل.
وقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الرجس النجس، لكن يكون الرجس نجسًا حسيًّا ويكون معنويًّا، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، وقال:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وهنا الرجس معنوي، وقد يكون حسيًّا أي: نجس نجاسة حسية، كما في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. هذه الآية من أي الرجسين: الحسي أم المعنوي؟ الصواب: أنها من الرجس المعنوي؛ لأنه وصف بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فقوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} صفة لرجس وليست خبرًا ثانيًا؛ لأننا أذا جعلناها خبرًا ثانيًا، صار المعنى: أن هذه الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس وأنها من عمل الشيطان، وإذا جعلناها وصفًا لرجس صار المعنى أنه رجس عملي وليس رجسًا حسيًّا، وهذا هو الصواب.
وقوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} يعني أن هذا العمل من عمل الشيطان إضافة إلى الشيطان؛ لأنه أوحى به وأمر به الإنسان،
والشيطان قيل: إنه مشتق من شَطَنَ إذا بعُد، أي: لبعده عن رحمة الله عز وجل؛ لأن الله طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: إنه من شاط، أي: غضب، والغضب دائمًا يكون التصرف فيه أهوج، والأول أصح، والدليل على هذا أنه مصروف، ولو كان من شاط لكان فيه زيادة الألف والنون فيكون غير مصروف.
وقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} أي: ابتعدوا عنه، كونوا في جانب وهو في جانب.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "لعل": للتعليل، أي: لأجل أن تصلوا إلى الفلاح، والفلاح: هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، فهو يجمع أمرين: الفوز بالمطلوب، أي: حصول مطلوب الإنسان أي: ما يطلبه، والنجاة من المرهوب، وهو كثير في القرآن.
"إِنَّمَا" الجملة فيها حصر أداته "إنما" أي: ما يريد الشيطان إلا ذلك أن يوقع بينكم العداوة
…
إلى آخره.
وقوله: {يُرِيدُ} هنا بمعنى يحب، وإذا أحب سيفعل، {أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ} يعني: أيها المؤمنون.
قوله: {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} العداوة: ضد الولاية، والبغضاء ضد المحبة، ففي البغضاء تنفر القلوب، وفي العداوة تنفر الأبدان بعضها من بعض، فيريد أن تتشتت القلوب والأبدان، فلا يتولى أحد الآخر، وأيهما الناتج عن الثاني؟ العداوة ناتجة عن البغضاء؛ لأنهم يبغضون أولًا ثم يعادون ثانيًا.
وقوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} "في" هنا للسببية، وتأتي في للسببية في اللغة العربية في مواضع كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عذبت امرأةٌ في هرةٍ حبستها"
(1)
أي: دخلت النار بسبب الهرة، وليس المعنى أنها دخلت في جوف الهرة، بل المعنى أنها عذبت بسببها.
وقوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} وجه ذلك أنه يوقع العداوة والبغضاء، فصاحب الخمر والعياذ بالله إذا شرب صار كالمجنون، وربما يقتل أو يسرق أو يزني، وبذلك تحصل العداوة والبغضاء، وأما الميسر فوجه العداوة والبغضاء أن الميسر أَخْذُ المال فيه على وجه المغالبة، والمال محبوب إلى النفوس، فإذا أخذ هذا الإنسان منك مالًا كثيرًا، من أجل أنه غلبك في شيء لا يساوي ولا ربع المال الذي أخذه، فسوف يبقى في قلبك بغضاء وتنتج العداوة.
قوله: {يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} نعم يريد الشيطان أن يصدنا عن ذكر الله باللسان وعن ذكر الله بالجوارح وعن ذكر الله بالقلب، هذا ما يريده الشيطان منا، فتجد الإنسان إذا هم أن يقوم يصلي يثبطه الشيطان ويسول له، ويأتيه التثاؤب ثم يبقى، وإذا أراد أن يذكر الله أو يقرأ القرآن فكذلك، تجده نشيطًا في شيء من الأشياء، فإذا أمسك بالمصحف ليقرأ أتاه الكسل، فإذا عجز الشيطان أن يصده عن القول والفعل، أتاه من ناحية ثانية وهي
(1)
رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء، حديث رقم (2236)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، حديث رقم (2242) عن ابن عمر.
الصد بالقلب، أن يصد قلبه عن ذكر الله، وهذه هي الفاجعة العظيمة؛ لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله فإنه يضيع على الإنسان أمور دينه ودنياه، قال الله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، ولهذا يجب على الإنسان أن يلاحظ نفسه في هذه الناحية، هل قلبه يكون حاضرًا إذا جلس يقرأ القرآن، وهل إذا ذكر الله يكون قلبه حاضرًا، وهل إذا صلى يكون قلبه حاضرًا أم هو غافل؟ إذا كان غافل القلب عن ذكر الله باللسان والجوارح فقد فَقَدَ روح العبادة حقيقة.
ولذلك نجد الإنسان إذا غفل في صلاته خرج منها بقلب كما دخل فيها بقلب، يعني بنفس القلب، لا يزداد نورًا ولا إيمانًا ولا كراهة للفحشاء والمنكر، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلماذا لا يجد الإنسان إذا خرج من الصلاة كراهة للفحشاء والمنكر؛ لأنه إنما صلى صلاة جسد فقط لا صلاة قلب.
وهذه نقطة -نسأل الله أن يعيننا- عليها، أكثر الناس اليوم مبتلون بها ويسألون دائمًا كيف يتخلصون منها؟ لكن الخلاص منها سهل، وهو أن تحاول حضور القلب في الصلاة من أولها إلى آخرها، عوّد نفسك على هذا، أجبر نفسك على هذا، حتى تجد لذة العبادة.
قوله: {وَعَنِ الصَّلَاةِ} خص الصلاة بالذكر معيدًا حرف الجر إشارة إلى شرفها وعظمها، يعني أعاد حرف الجر ولم يقل: ويصدكم عن ذكر الله والصلاة بل قال: {وَعَنِ الصَّلَاةِ} إشارة إلى أهميتها، فالتنصيص عليها وهي من ذكر الله دليل على شرفها،
وإعادة العامل وهي معطوفة دليل آخر على شرفها وأنها جديرة بأن تكون قسمًا مستقلًا برأسها.
قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الاستفهام هنا بمعنى الإغراء لكن بأي شيء؟ بالانتهاء، فهو أبلغ من قوله: فانتهوا، يعني فهل بعد هذا البيان والإيضاح هل تنتهون؟
الجواب: نعم ننتهي، ولهذا قال عمر رضي الله عنه حين نزلت الآية: انتهينا، انتهينا
(1)
.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى: أهمية الحكم وهو اجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووجه ذلك: تصدير الآية بالنداء.
الفائدة الثانية: أن اجتناب هذه الأشياء الأربعة من مقتضيات الإيمان، وأن الوقوع فيها من نواقص الإيمان.
الفائدة الثالثة: تحريم الخمر من أي شيء كان، سواء من العنب أو من الرطب، أو من الشعير، أو من البر، أو من أي شيء، لعموم الآية، والقول بأنه لا يحرم إلا خمر العنب قول ضعيف؛ لأن الآية مطلقة بل هي عامة؛ إذ فيها "أل" الداخلة على المفرد، وقد بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أن الخمر كل مسكر
(2)
.
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، حديث رقم (3049)، والنسائي، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر قال الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، حديث رقم (5540)، وأحمد (1/ 53)(378) عن عمر.
(2)
رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (2003) عن ابن عمر.
الفائدة الرابعة: أن الخمر قليله وكثيره حرام للعموم، ولكن إذا كان الشراب لو أقللت منه لم يحصل الإسكار ولو أكثرت لحصل الإسكار، فهل يحرم؟
الجواب: نعم يحرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"
(1)
، ولأن تناول اليسير الذي لا يسكر ذريعة إلى تناول الكثير الذي يسكر، فإن الإنسان إذا ضرب هذا الشراب اللذيذ وهو لا يسكره فإن ذلك يتعدى إلى أن يزداد منه فيسكر.
وهل إذا كان هذا الشراب يَسْكرُ مَن شرِبَهُ ولا يسكر من أدمن عليه كما يوجد الآن في الذين يدمنون على الخمر -نسأل الله العافية- لا يسكرهم، فهل يحرم عليهم أو لا يحرم؟ يحرم؛ لأنه إذا كان اليسير الذي لا يسكر يحرم فهذا مثله وعدم الإسكار في هذا باعتبار الشخص المعين، لا باعتبار قوة هذا الشراب، فإن هذا الشراب فيه القوة المسكرة لا شك، فيكون حرامًا على من أسكره وعلى من لم يسكره.
الفائدة الخامسة: جواز النبيذ إذا لم يصل إلى حد الإسكار، والنبيذ: هو الماء ينبذ فيه العنب أو الرطب لمدة يوم أو يومين فيكتسب الماء طعم هذا الذي نبذ فيه دون أن يسكر، فهل هو حلال أو حرام؟
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر، حديث رقم (3681)، والترمذي، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، حديث رقم (1865)، وابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام، حديث رقم (3393)، وأحمد (3/ 343)(14744) عن جابر بن عبد الله.
الجواب: حلال؛ لأن المحرم الخمر، وهذا لا يسكر، لكن لو طالت مدته بأن زاد على ثلاثة أيام فما دام لم يسكر فإنه حلال. لكن ينبغي إذا أتى عليه ثلاثة أيام ولا سيما في أيام الحر والمناطق الحارة أن لا يشربه؛ لأن الإسكار فيه قد يكون خفيًّا، ولكن علامة المسكر أن الشراب يرتفع؛ ويكون فيه الزبد، والزبد يرفع من مستواه.
والخلاصة أن النبيذ حلال؛ لأنه لا يسكر، لكن إذا كان في زمن أو مكان يغلب على الظن أنه وصل إلى حد الإسكار فالورع اتقاؤه ويعطى الحيوان أو ما أشبه ذلك.
الفائدة السادسة: تحريم الميسر قليله وكثيره للعموم، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} حتى لو كانت المغالبة بقرش واحد، ولو يسيرًا؛ لأننا نقول: قليل الميسر الذي يجحف بمال الإنسان ولا يهتم به كقليل الخمر الذي إذا كان قليلًا لم يسكر وإذا كان كثيرًا أسكر، ولا شك أن المغالبة إذا كانت في شيء يسير تجر إلى المغالبة في شيء كثير، ويستثنى من ذلك ما مصلحته أعلى من مفسدته، وذلك في ثلاثة أشياء بَيَّنَها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر"
(1)
السَبَق بفتح الباء هو: العوض المأخوذ على السبق، والنصل: السهام، والخف: البعير، والحافر: الفرس،
(1)
رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق، حديث رقم (2574)، والترمذي، كتاب الجهاد، باب الرهان والسبق، حديث رقم (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب السبق، حديث رقم (3585)، وابن ماجه، كتاب الجهاد، باب السبق والرهان، حديث رقم (2878)، وأحمد (2/ 474)(10142) عن أبي هريرة.
قال أهل العلم: إنما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن بها يقوم الجهاد في سبيل الله الذي به إعلاء كلمة الله، وهذه مصلحة عظيمة، فالناس إذا علموا أنهم إذا تسابقوا في هذه الأشياء رُخص لهم في أخذ العوض عليها سوف يكثرون المسابقة، سَيُحَصِّلون عليها شيئًا.
فإن قال قائل: لو أن الناس عدلوا عن هذه الثلاث في الجهاد إلى وسائل أخرى فهل يبقى الحكم فيها أو ينتقل إلى الوسائل الأخرى؟
الجواب: تعارض هنا اللفظ والمعنى، فمن كان لفظيًّا قال: يبقى الحكم فيها وإن لم تستعمل في الحرب، ومن نظر إلى المعنى قال: إنها إذا كانت لا تستعمل في الحرب فلا فرق بينها وبين الأشياء الأخرى، وهذا هو الأقرب، إلا إن هذا يعكر عليه:
أولًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في آخر الزمان تبطل وسائل الحرب، ويعود الناس إلى السهام.
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: "أن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى بوم القيامة"
(1)
.
ثالثًا: أنه ربما تسقط منفعة هذه الأشياء في مكان دون مكان، ففي المغارات والجبال لا ينفع فيها إلا الخيل.
فعلى كل حال: نحن نريد أن نحرر المسألة من الناحية الفقهية، نقول: إذا ثبت الحكم لعلة فإنه يزول بزوالها، فإذا قدرنا
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، حديث رقم (2695)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، حديث رقم (1873) عن عروة بن الجعد البارقي.
أن الناس لا يستعملون هذه الأشياء الثلاثة في الحرب فقد انتفت العلة فينتفي الحكم وتكون المغالبة فيها كالمغالبة في غيرها، فهي إذا بطلت لا بد أن ينتقل الناس إلى شيء آخر فهل تجوز المسابقة بعوض في هذا الشيء الآخر الذي حل محل هذه المذكورات؟
الجواب: نعم لا شك في هذا، وعليه فالوسائل الحديثة في الحرب تجوز فيها المغالبة بالعوض؛ لأنها قائمة مقام هذه الأشياء الثلاثة، يشبه هذا من بعض الوجوه أن زكاة الفطر جاء فيها ذكر التمر بعد الشعير والزبيب والأقط، وقد أخبر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن هذا هو طعامهم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: كنا نخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، وكان طعامنا يومئذٍ التمر والشعير والزبيب والأقط
(1)
، لو أن الناس عدلوا عن الشعير وصاروا لا يقتاتونه، فهل يبطل الحكم فيه أو لا يبطل؟
نقول: من كان لفظيًّا قال: لا يبطل؛ لأنه نص عليه في الحديث، ومن كان معنويًّا قال: إنه يبطل، والصحيح أنه يبطل، وأنه إذا صار الشعير غير قوت فلا يجزئ في الفطرة؛ لأن السنة واضحة في هذا، واضحة في أنه لا بد أن يكون طعامًا، مثل قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين"
(2)
فلينتبه
(1)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل العيد، حديث رقم (1439) عن أبي سعيد الخدري.
(2)
رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر، حديث رقم (1609)، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر، حديث رقم (1827)، والحاكم (1/ 568)(1488)، والدارقطني (2/ 138)(1) عن ابن عباس.
لهذا، فالآن لدينا مثالان، الفطرة والمسابقة في الثلاثة.
أما المسابقة في العلم: فنحن نعلم أن الدين الإسلامي قام بالجهاد باللسان والسنان، فهل تجوز المغالبة في العلم الشرعي بعوض أو لا تجوز؟
المشهور من المذهب أنها لا تجوز، وقالوا: إن النبي- صلى الله عليه وسلم حصر "لا سبق إلا في"
(1)
وهذا حصر، والذين يذهبون إلى اعتبار المعاني، يقولون: تجوز المناضلة والمغالبة في العلوم الشرعية، واستدلوا بقصة أبي بكر رضي الله عنه مع قريش في قوله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]، والذي غلب الرومَ، الفرسُ، والفرس قوم مشركون، ويميل إلى جانبهم المشركون من قريش، والروم أهل كتاب، ويميل إليهم المؤمنون، ويفرحون بانتصارهم على الفرس مع أنهم كفار، لكنهم أقرب إلى المؤمنين من الفرس في ذلك الزمن، لقوة الفرس في ذلك الوقت، قال المشركون: لا يمكن أن يغلب الروم الفرس، وقال أبو بكر رضي الله عنه: بل يمكن، فأبو بكر يصدق بالقرآن وأخباره، وهم لا يصدقون، فضربوا أجلًا عشر سنين، إن غلبت الفرس في هذه العشر فالسبق على أبي بكر، وإن غلبت الروم فالسبق على قريش، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المغالبة؛ لأنها علم شرعي تصديق بالقرآن وعدم تصديق.
واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن المغالبة في العلم بالسبق جائزة، لكن لينتبه لنقطة في هذه المسألة: إذا
(1)
تقدم ص 335.
كانت المغالبة لقصد الوصول إلى الحكم الشرعي، أما إذا كانت المغالبة من أجل أن يكتسب مالًا من أخيه فلا تجوز؛ لأن هؤلاء لم يريدوا الدين إنما أرادوا المال وأرادوا الدنيا، بعض الناس استغل هذا القول على إطلاقه، وقال: ما دام المسألة مسألة علم نريد أن نتراهن، ولكن لا بد من التقييد: بأن يكون القصد بالمغالبة الوصول إلى الحق، لا الوصول إلى المال.
لو قال قائل: العلوم غير الشرعية، كعلم النحو مثلًا هل تجوز المغالبة فيه؟ الظاهر: لا؛ لأن النحو وإن قلنا إنه شرعي فإنما يكون شرعيًّا إذا كان المقصود به الوصول إلى معرفة الكتاب والسنة، ولهذا نقول: علوم العربية وسيلة ليست مقصودة لذاتها.
لو قال قائل: هل الفيزياء والكيمياء والجغرافيا والأشياء هذه، تجوز المغالبة فيها؟ لا تجوز المغالبة فيها.
الفائدة السابعة: تحريم الأصنام، لقوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ} وهل يعم هذا كل ما اتخذ صنمًا من أي مادةٍ كان؟
الجواب: نعم يعم؛ لأن الآية مطلقة، وقد أبدل الله تبارك وتعالى عبادة الأصنام بعبادة الرحمن؛ لأن الإنسان بطبيعته لا بد له من شيء يأوي إليه في طلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فأبدل الله تعالى التعلق بالأصنام بالتعلق بالله عز وجل.
الفائدة الثامنة: تحريم الاستقسام بالأزلام، وهو صريح، ومثل ذلك ما يسمونه بحظك ونصيبك، فهي إن لم تدخل في هذا تدخل في الميسر، فهي محرمة.
وهل مثل ذلك أن يستقسم بالنجوم، فيقال: مثلًا: هذا
الرجل ولد في سعد السعود فحياته سعيدة، وهذا ولد في نجم الدبران، فحياته تعيسة دبور، وما أشبه ذلك؟
الجواب: نعم يدخل في هذا، بل هو نوع من الشرك؛ لأن إثبات سبب لم يجعله الله سببًا شرعيًّا ولا قدريا من الشرك، وقد أبدل الله -والحمد لله- هذه الأزلام بصلاة الاستخارة، فإذا أشكل عليك أمر من الأمور تريد أن تفعله أَخَيْر هو لك أم شر؟ فعليك بالاستخارة: تصلي ركعتين من غير الفريضة ثم إذا سلمت، تدعو الله تعالى بالدعاء المعروف: "اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
…
إلى آخره"
(1)
.
لو قال قائل: ما حكم المراهنة من طرف واحد في أمور ليست شرعية، كأن يقول مثلًا: أراهنك إن جاء فلان الليلة لك مائة ريال؟
الجواب: هذه ليست مراهنة، هذه إما جُعْل أو تشجيع إذا كان فيها خير، مثل أن أقول: إن عرفت كذا فلك كذا وكذا، أو إن جاء فلان أعشيكم الليلة، وفي الحقيقة الناس ارتكبوا مثل هذا، وارتكبوا أيضًا شيئًا آخر وهو أنهم يتلاعبون بالمال؛ لأن الله منعم عليهم، لو تريد أن تنادي واحدًا اسمه محمد فتقول: يا عبد الله نسيانًا قالوا: عليك حق، ولو تعطيه الفنجان ليس ممتلئًا، قالوا: لماذا لم تملأه يا أخي عليك حق؟ هذا في الحقيقة عندي من باب الترف والميوعة، وأنه في الحقيقة تلاعب بالمال، ولهذا نستفتى في هذه المسألة ونقول: لا يلزمك أن تلتزم بما قال. قل: لن أعطيك، وأما التحريم فصعب.
(1)
رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، حديث رقم (6109) عن جابر بن عبد الله.
الفائدة التاسعة: التحذير البالغ من هذه الأعمال الأربعة، لقوله:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} فإن هذا يقتضي التنفير التام؛ بوصفها رجسًا ثم بوصف هذا الرجس من عمل الشيطان.
الفائدة العاشرة: وجوب اجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، لقوله:{فَاجْتَنِبُوهُ} .
الفائدة الحادية عشرة: أن اجتناب هذه الأشياء الأربعة سببٌ للفلاح، وكل إنسان منا يريد الفلاح؛ فليأتِ أسبابه، وجه ذلك قوله:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
الفائدة الثانية عشرة: إثبات تعليل الأحكام الشرعية، يعني: أن الأحكام الشرعية لها غايات حميدة وهي الحكمة لقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، ولقوله أيضًا:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} .
الفائدة الثالثة عشرة: أن طريقة القرآن الكريم في بيان العلل، تارة يتقدم بيان العلة وتارة يتأخر، يعني: إذا ذكر الله حكمًا وذكر له علة، فتارةً يذكر العلة قبلُ ثم يبني عليها الحكم، وتارة يذكر الحكم ثم يأتي بالعلة، حسب ما تقتضيه الحال وقرائن السياق، فهنا ذكر العلة قبل الحكم، ما هي العلة؟ العلة:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، هل قدم العلة أو الحكم؟ قدم العلة، فقال:{قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} ، وفائدة تقديم العلة: هو أن الحكم يأتي إلى النفس وقد اطمأنت إلى الحكم وترقبت إلى الحكم؛ لأن من المعلوم أن العاقل إذا ذكرت له العلة فسوف يعمل بمقتضى هذه العلة، فقوله تعالى:{قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} بمجرد ما يسمع الانسان {قُلْ هُوَ أَذًى}
سوف يأتي إليه الحكم {فَاعْتَزِلُوا} [البقرة: 222]، وهو قد ترقبه، فقوله:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} أيضًا مثله، فمن حين أن تأتي العلة رجس من عمل الشيطان، يكون الإنسان مترقبًا لحكم النهي، وتارة تكون العلة بعد الحكم، كما في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وذلك لأن الميتة والدم ولحم الخنزير تنفر منه الطباع، فقدم الحكم لأن النفوس السليمة تترقب هذا الحكم وربما تتجنبه بدون حكم شرعي، ثم تأتي العلة مطابقةً لما تقتضيه الفطرة.
الفائدة الرابعة عشرة: أن أعمال الشيطان التي يأمر بها رجس لقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، ثم هل نقول: إن في الآية دليلًا على نجاسة الخمر؛ لأن الرجس هو النجس كما في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ؟
الجواب: نعم بعض العلماء استدل بهذه الآية على نجاسة الخمر، ولكن عند التأمل في الآية الكريمة لا تجد دليلًا فيها على نجاسة الخمر من وجهين:
الوجه الأول: أنه قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ} رجس عملي، والرجس العملي هو الرجس المعنوي كما في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
الوجه الثاني: أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست رجسًا حسيًّا، والخبر عن هذه الأربعة واحد، (الخمر) مبتدأ وعطف عليه الثلاثة ثم جاء الخبر رجس، فأين الدليل على أن هذه الأشياء
الأربعة مختلفة في الحكم؟ فيقال: في الثلاثة رجسٌ عملي، ويقال في الأول: رجس حسي، أين الدليل؟ يحتاج إلى دليل.
فإن قال قائل: دلالة الاقتران ضعيفة ولا يعمل بها؟
الجواب: أن الأصل في الاقتران أن يكون الحكم واحدًا في الجميع إلا بدليل، مثال ذلك: قال أبو حنيفة: إن الخيل حرام، الخيل معروفة لقوله تعالى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، فقرنها بالبغال والحمير فتكون حرامًا، ولا شك أن الصواب معه؛ لأن الأصل في الاقتران التوافق في الحكم، لكن الخيل لها دليل يخرجها، وهو ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"نحرنا في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرسًا وكلناها"
(1)
، وهذا يخرج الخيل عن حكم البغال والحمير.
وأكل الخيل عند الناس الآن غير معروف، والعامة يقولون في الخيل: يحرم صدرها ويحل دبرها، يعني مستقبل جسم الفرس حرام؛ لأنه يلقى به العدو، وأما مؤخره فهو حلال؛ لأن المؤخر يكون عند الإدبار، فلنتركه يؤكل.
الحاصل أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تحدثت بهذا استدلالًا على حل الخيل، فلولا أن عندها علم بأن الخيل أكلت بعد خيبر وهو زمن تحريم الحُمُر ما ذكرته على وجه الاستدلال.
(1)
رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب النحر والذبح، حديث رقم (5191)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب في أكل لحوم الخيل، حديث رقم (1942) عن أسماء بنت أبي بكر.
وأيضًا في الآية الكريمة {الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} ليس عندنا دليل يخرج الخمر عن حكم ما قرن معها، وهو الميسر والأنصاب والأزلام، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على نجاسة الخمر نجاسة حسية.
فإن قال قائل: وهل في السنة ما يدل على ذلك؟
الجواب: لا، ليس في السنة ما يدل على هذا، وأما حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله إنا بأرض قومِ أهل كتاب أفناكل في آنيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها"
(1)
ما الجواب عن هذا الحديث؟
نقول: هذا الحديث استدل به من يرى نجاسة الخمر نجاسة حسية، ولكن لا دليل فيه في الواقع؛ لأن في هذا الحديث إنما نهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن الأكل فيها إلا بعد الغسل، وشرط آخر: أن لا نجد غيرها، مراده بلا شك في هذا الابتعاد عن مخالطتهم والأكل في أوأنيهم، بدليل أنه لو كانت العلة في النجاسة لكان غسلها يكفي في جواز الأكل فيها، يعني أنه لا يشترط أن لا نجد غيرها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد منا أن لا نختلط بأهل الكتاب وأن نبتعد عنهم وأن لا نستعير منهم؛ لئلا يمنوا علينا بذلك، هذا أولًا.
ثانيًا: أن نقول: ما هو وجه كون هذا دليلًا على نجاسة
(1)
رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس، حديث رقم (5161)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة، حديث رقم (1930) عن أبي ثعلبة الخشني.
الخمر؟ قالوا: لأن آنيتهم يكون فيها الخمر؛ لأنهم يستحلون الخمر، فنقول: ويكون فيها الخنزير؛ لأنهم يستحلون الخنزير، وما الذي أدرانا أن الرسول عليه الصلاة والسلام راعى الخمر دون الخنزير أو راعى الخنزير دون الخمر أو راعى الأمرين جميعًا؟ والذي يتبين لنا أن العلة في ذلك هي: أن لا نختلط بهم وأن لا نأكل في آنيتهم، إذًا: لا دليل في هذا الحديث.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلًّا؟ قال: "لا"
(1)
يعني إذا تخمر الشراب فهل يجوز أن نحبسه ليكون خلًّا أو أن نضيف إليه مادة تجعله خلًّا؟ قال: لا، قلنا: لا دليل على النجاسة، هذا دليل على أنه لا يجوز أن يبقي الخمر عنده بل يريقها، لئلا تدعوه نفسه إلى تناولها، وهو واضح، وليس فيه الإشارة إلى النجاسة بأي حال من الأحوال.
إذًا: من ادعى نجاسة الخمر نجاسة حسية فليأتِ بالدليل، وإلا فلا يمكن أن نلزم عباد الله بغسل الأواني من الخمر أو بغسل الثياب إذا أصابها أو بغسل الأبدان، ولا يمكن أيضًا أن نبطل صلاة عباد الله إذا كان في ثيابهم بقع من الخمر أو في أجسادهم إلا بدليل، فالمسألة ليست مسألة لفظية فقط: نجس أو غير نجس، المسألة يترتب عليها أشياء فلا بد أن يكون عندنا برهان من الله عز وجل، يمكننا أن نلزم عباد الله بشيء يقتضيه النص.
إذًا: نقول: الأصل عدم النجاسة، ومطلق التحريم لا
(1)
رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم تخليل الخمر، حديث رقم (1983) عن أنس بن مالك.
يقتضي النجاسة، بدليل: أن السم والمأكولات الضارة حرام وليست نجسة، هذا دليل مأخوذ من القاعدة المعروفة وهي: أن الأصل براءة الذمة، ثم نقول: لدينا دليل إيجابي غير الدليل الأصلي الذي هو النفي أو العدم، دليل إيجابي على أنها طاهرة -أي: الخمر- وأن نجاستها معنوية، الدليل: الصحابة رضي الله عنهم لما حرمت الخمر خرجوا بها إلى الأسواق وأراقوها، ولو كانت نجسة لم يريقوها في الأسواق؛ لأنه لا يجوز أن نريق في أسواق المسلمين شيئًا نجسًا كما لا يجوز البول والغائط.
أجاب القائلون بالنجاسة بناءً على أصلهم وإلا فالأصل عدم النجاسة، لكن قالوا: دِنان الخمر -يعني أواني الخمر- ليست بكثرة بحيث تسيل منها الطرقات، يعني: لم تبلغ كثرة تسيل منها الطرقات، فنقول: سبحان الله! هل هذه الأواني التي يستعملها الصحابة رضي الله عنهم قبل التحريم أهي أكثر أو نقطة من بول؟ هي أكثر لا شك، وهي أكثر من شيء صغير من العذرة، ونحن لا نقول: إن سكك المدينة صارت أنهارًا تجري منها الخمر، لا نقول بهذا، لو قالوا: ما الذي أدراكم أنهم أراقوها في الأسواق، لعلهم أراقوها في حافات السوق الذي ليس مُطَّرقًا للناس؟ فنقول: هذا خلاف الإطلاق، أراقوها في الأسواق، ولم يقل: أراقوها في جوانب الأسواق، وكون الشيء في الجانب شرط زائد على الإطلاق فيحتاج إلى ثبوت أنهم أراقوها في جوانب الأسواق، ثم هل نُقِلَ عن الصحابة أنهم لما أراقوها غسلوا الأواني؟ لم ينقل ذلك ولو كانت نجسة لغسلوا الأواني ونقلوا هذا للأمة.
دليل آخر: ما ثبت في صحيح مسلم: "أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر -الراوية قربة كبيرة- كان يدخرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم أنها حرمت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل علمت أن الله قد حرمها؟ " قال: لا، ومعلوم أن الإنسان لا يجوز أن يقبل هدية محرمة سواء كانت محرمة لعينها أو لكسبها إذا علم صاحبها الذي أخذت منه، فكلمه أحد الصحابة سرًّا وقال له: بعها، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "بم ساررته؟ " وإنما استفهم عن المسارة مع أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل رجلين يتساران: ماذا قلتما، لكن المقام يقتضي السؤال. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم سمع طرف الحديث، فقال: "بم ساررته؟ " فقال: أمرته ببيعها، فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"
(1)
أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ففتح الرجل فم الراوية وأراق الخمر بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها.
أرأيت لو كان الخمر نجسًا أيسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقول لهذا الرجل: اغسل الراوية؟ لا يسكت أبدًا؛ لأن هذا الرجل لا يدري أنها حرمت كيف يدري أنها نجسة؟
فإذًا: يتبين أن الخمر نجاستها نجاسة معنوية، وهذا وإن كان لم يقل به إلا قليل من الأمة فالجماعة مع الدليل، والجمهور على أنه نجس نجاسة حسية، ولكن الأدلة واضحة أن نجاسته نجاسة معنوية، ينبني على هذا، الأشياء التي فيها الكحول الآن السبيرتو وكذلك أيضًا ما يدهن به الجروح وما أشبه ذلك، هل
(1)
رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر، حديث رقم (1579) عن ابن عباس.
تكون نجسة أو طاهرة؟ طاهرة؛ لأنه إذا كان الأصل الذي هو الخمر طاهرًا على ما تبين لنا من القرآن والسنة فكذلك ما كان فيه شيءٌ منه من باب أولى أن يكون طاهرًا.
فإن قيل: فهل تبيحون أن يتطيب الإنسان بهذه الأطياب أو يتدهن بهذه الدهونات؟
نقول: أما عند الحاجة فنبيحها، ولا عندنا فيه والحمد لله إشكال. يعني مثل أن يحتاج الجرح إلى مسح بالسبيرتو أو غيره من أجل سهولة بطه بالإبرة، هذا لا شك أنه جائز؛ لأن الحكم المشتبه تبيحه الحاجة ولو كان أصله التحريم، فإن لم يكن محتاجًا وإنما يتطيب به، فهل هذا حرام أو لا؟ ننظر قوله تبارك وتعالى:{فَاجْتَنِبُوهُ} ، هل المراد اجتناب شربه المؤدي إلى المفسدة أو الاجتناب مطلقًا؟
نقول: إذا كان الله يقول {فَاجْتَنِبُوهُ} ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} إلى آخره، علمنا أن المراد بالأمر بالاجتناب هو اجتناب الشرب لا شك في هذا، أما اجتناب غير الشرب فهذا محل اشتباه، والورع أن لا يفعل الإنسان إلا لحاجة، أن لا يتدهن بهذه الأشياء إلا لحاجة كالتعقيم للجرح وما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: إذا كان في هذه الأطياب نسبة لكنها ضئيلة خمسة في المائة مثلًا، فهل يؤثر؟
الجواب: لا يؤئر إلا ما أثر في المخلوط معها، وأما إذا لم يؤثر فليس بحرام، بدليل: رجل عنده إناء من ماء سقطت فيه نجاسة لكن لم تغيره، ماذا يكون هذا الماء؟ يكون طهورًا؛ لأنه لم يؤثر، فعلى هذا نقول: إذا كانت النسبة ضئيلة حتى في هذه الأطياب فإنه لا شك في أنها مباحة؛ لأن النسبة الضئيلة لا تؤثر.
لو قال قائل: بعض الأشربة يكون فيها نسبة قليلة من الكحول فهل يجوز شربها؟
الجواب: إذا كان قليلًا فيجوز شربها، لكن أنصح السائل إذا شرب أن يقول: باسم الله، وإذا انتهى يقول: الحمد لله.
لو قال قائل: نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن التداوي بالخمر
(1)
ألا يكون تحريم استعمال الخمر في غير التداوي من باب أولى؟
الجواب: المراد التداوي بها شربًا، ولهذا قال العلماء رحمهم الله إنه لا يجوز التداوي بها ولا يجوز أن تشرب الخمر للعطش، وعللوا ذلك بأن الخمر إذا شربها الإنسان للعطش لا تزيده إلا عطشًا، ويرى بعض العلماء أنه يجوز للعطش، ولا يستلزم أنها لا تزيده عطشًا، لكن إذا غص في اللقمة وليس عنده إلا كأس خمر إما أنه يموت وينخنق، أو يشرب الكأس ليبتلع اللقمة، ماذا يصنع؟ يستعملها للضرورة؛ لأن الله قال سبحانه وتعالى في آية عامة:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، هذه أعم من قوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3].
الفائدة الخامسة عشرة: رحمة الله تبارك وتعالى بعباده الذين خلقهم لعبادته، حيث حذرهم من كل ما فيه ضرر، وبَيَّنَ لهم النتائج الطيبة، لقوله:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
(1)
رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، حديث رقم (1984) عن طارق بن سويد الحنفي.
الفائدة السادسة عشرة: إثبات الإرادة للشيطان، لقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} ولا شك أن له إرادة، أرأيتَ قول الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34]، وجادل ربه عن إرادة، إذًا: الشيطان له إرادة.
الفائدة السابعة عشرة: سوء إرادة الشيطان ببني آدم، وهو أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء التي توجب التفرق.
الفائدة الثامنة عشرة: أن تفرق الأمة من مرادات الشيطان؛ لأن العداوة والبغضاء تؤدي إلى التفرق بلا شك، فيكون كل ما يؤدي إلى الفرقة من مرادات الشيطان.
الفائدة التاسعة عشرة: القاعدة التي أشرنا إليها الآن: أن كل ما يؤدي إلى الفرقة فإنه من مرادات الشيطان، فيدخل في هذا آلاف المسائل، البيع على بيع المسلم يوجب البغضاء والفرقة، الاستئجار على استئجاره، الخطبة على خطبته، وما أشبه ذلك، فكل ما يؤدي إلى الفرقة فإنه من مراد الشيطان.
الفائدة العشرون: كراهة الله تبارك وتعالى للعداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ} إلى آخره، هذا تحذير ليس بعده تحذير: وهذا واضح؛ لأن الله تعالى أمر بالاجتماع ونهى عن التفرق، فقال جلَّ وعلا:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال جلَّ وعلا:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
والدليلان الأصليان، بل الأصلان الكتاب والسنة مملوآن بهذا أي: بطلب الاجتماع والنهي عن التفرق، فهل يدخل في ذلك طلبة العلم؟ نعم من باب أولى، لكن مع الأسف أن طلبة العلم إذا اختلفوا في أمر اجتهادي صار بعضهم لبعضٍ عدوًا إلا من شاء الله، وصار يتكلم في عرض أخيه بلا حق فيكون ظالمًا لنفسه أولًا وظالمًا لأخيه ثانيًا، وظالمًا لعباد الله الذين ينتفعون من أخيه؛ لأنه إذا سقطت هيبته وقيمته في أعينهم، لم ينتفعوا بعلمه، فيكون هذا ظالمًا لنفسه وظالمًا لأخيه وظالمًا لكل من ينتفع بعلم أخيه، ولذلك يجب التنبه لهذا، وأن تعتقد أن من خالفك في أمر اجتهادي فقد وافقك في الحقيقة؛ لأن كليكما يريد الحق، فهو يرى أن الحق في هذا، وأنت ترى الحق في خلافه، مَن مِنْكُما رسول للآخر يجب عليه اتباعه؟ لا أحد، إذًا: فهو محق في اتباع ما ظن أن الدليل يدل عليه، وأنت محق في اتباع ما ظننت أن الدليل يدل عليه، ولتكن القلوب نزيهة.
لو قال قائل: الإنسان قد يجد في قلبه شحناء أو حسد بالنسبة لأخيه فكيف يعالج هذا؟
الجواب: يعالج هذا أن يقول لنفسه: أنتِ تريدين الحق؟ والمسألة ليست نصًّا، المسألة اجتهاد، أما لو كانت نصًّا لا نقبل أن نعذره، لكن إذا كان اجتهادًا، فالاجتهاد كلنا على اجتهاد.
الفائدة الحادية والعشرون: إثبات الأسباب، وجه ذلك: أن الله تعالى أخبر أن الخمر والميسر سبب للعداوة والبغضاء،
وهذا لا شك فيه ولا أحد ينكره إلا السفيه، كلٌّ يعلم أن من غمس في البحر فإنه يغرق، وأن من ألقي في النار فإنه يحترق، لكن أنكر قوم الأسباب وغلا قوم في إثباتها، فأما الذين أنكروا الأسباب فزعموا أنهم بإنكارهم ينزهون الله تعالى عن الشريك فغلوا في التنزيه، وأما الذين أثبتوا الأسباب على أنها الفاعلة فهؤلاء أشركوا مع الله.
أما أهل الحق فقالوا: إن الأسباب لها تأثير ولكن الذي جعل لها تأثيرًا هو الله، فتأثير الأسباب ليس بنفسها، ولكن بما أودع الله تعالى فيها من القوى المؤثرة، ويدل لهذا: أنه توجد أسباب موجبة للشيء بإيجاب الله إياه ومع ذلك قد يرتفع هذا الإيجاب، من ذلك: النار محرقة، ولما ألقي فيها إبراهيم قال الله لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فكانت بردًا وسلامًا، فانتفى الإحراق وانتفت الحرارة، فصارت بردًا وسلامًا، لو كانت الأسباب مؤثرة بنفسها، لاحترق إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كذلك الرجل الذي يقطعه الدجال جزلتين ثم يقول له: قم فيقوم
(1)
، نحن نعلم أن الدجال لم يكن هو السبب في إحيائه بل ذلك إلى الله عز وجل، ولهذا إذا أراد قتله في الثالثة لم يستطع أن يقتله فلا يسلطه الله عليه بعد ذلك.
إذًا نقول: الأسباب لها تأثير ولكن لا بنفسها بل بما أودع الله تعالى فيها من القوى المؤثرة، والأدلة على هذا شرعًا وعقلًا وواقعًا لا تحصى.
(1)
رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، حديث رقم (2937) عن النواس بن سمعان.
الفائدة الثانية والعشرون: أن كل ما صد عن ذكر الله فهو من أوامر الشيطان، وذكر الله تبارك وتعالى يكون بالقلب واللسان والجوارح، فكل ما صدك عن ذكر الله من هذه الأشياء فهو من أوامر الشيطان وإراداته.
الفائدة الثالثة والعشرون: فضيلة الصلاة لتخصيصها بالذكر من بين ذكر الله عز وجل، وهذا يدل على شرفها وفضلها على غيرها، كما في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، الروح: هو جبريل وهو من الملائكة، لكن خصه الله تعالى بالذكر لشرفه.
الفائدة الرابعة والعشرون: الحذر من صد الشيطان إيانا عن الصلاة، إما أن نتلهى عنها بأموالنا أو بأولادنا أو بِلَغْوِنَا أو بجدنا، بأي شيء، وإما أن نفعلها بأجسامنا دون قلوبنا، فاحذر أن يصدك الشيطان عن الصلاة.
الفائدة الخامسة والعشرون: أنه كل ما وقع في قلبك من التثاقل عن الصلاة فاعلم أنه من الشيطان ومراد الشيطان.
الفائدة السادسة والعشرون: تأكيد النهي عن الخمر والميسر، لقوله:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وجه التاكيد: أنه أتى بصيغة الاستفهام، يعني: فهل بعد هذا البيان تنتهون أو تستمرون؟ ماذا كان جواب الصحابة؟ انتهينا انتهينا.
* * *
° قال الله عز وجل {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} [المائدة: 92].
قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أن الله تعالى لما أمر بالانتهاء واجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام أمر بطاعته عمومًا وحذر من مخالفته.
وقوله: {وَأَطِيعُوا} فعل أمر من الإطاعة وهي الانقياد، والمراد بالانقياد هنا: فعل الأوامر واجتناب النواهي، وعليه: فإذا قال الإنسان: ما المراد بطاعة الله؛ نقول: فعل أوامره واجتناب نواهيه.
وقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} الخطاب لا شك أنه لهذه الأمة، وعلى هذا فتكون "أل" في الرسول للعهد الذهني، يعني: أطيعوا الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله عز وجل.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن الله أرسله؟
نقول: الدليل على أن الله أرسله ما أيده به من المعجزات التي أعظمها القرآن الكريم، ثم ما يشاهد من الآيات الحسية التي لا يقدر بشر أن يأتي بها لا الرسول ولا غيره، آيات واضحة على رسالته، وهي أكثر من أن تحصر، ومن أراد المزيد من ذلك فعليه بمراجعة آخر كتاب الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد عقد فصلًا مفيدًا جدًّا في آيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد المزيد أيضًا: فعليه بما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية في آخر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر كثيرًا من الآيات في السماء وفي الأرض، في الإنسان وفي الحيوان، ولا حاجة إلى أن نذكر شيئًا كثيرًا منها ولكنها موجودة والحمد لله.
وينبغي لنا أن نحرص على معرفة هذه الآيات؛ لأن الإنسان بشر، والشيطان حريص، قد يهاجم القلب ويضعف الإيمان
بالرسول عليه الصلاة والسلام، لكن إذا راجع الآيات ازداد بذلك إيمانًا فعلينا بها.
قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} "احذروا": أي من معصية الله ورسوله، يعني: احذروا معصية الله ورسوله، ولم يأمرنا الله تعالى بشيء إلا لمصلحتنا ولم ينهنا عن شيء إلا لمضرتنا.
قوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم عن طاعة الله وعن طاعة رسول الله، فإنكم لن تضروا الله ولن تضروا رسول الله، أما كون الإنسان لا يضر الله بمعصيته فأمر ظاهر، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7]، وقال تعالى في الحديث القدسي:"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"
(1)
، كذلك المتولي لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى الأمانة، ولا يلام على معصية غيره كما قال الله تبارك وتعالى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)} [الذاريات: 54]، فهم لن يضروا الرسول صلى الله عليه وسلم بمعصية الله؛ لأنه بلغ وأدى الأمانة ونصح الأمة.
ولهذا قال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، اعلموا: أمر بالعلم، ومعلوم أننا يجب أن نعلم كل ما أخبر الله به عن نفسه وعن غيره؛ لكن هذا علمٌ خاص.
وإعراب: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :
أنما: (أنَّ) مكفوفة عن العمل، و"ما" كافة.
على رسولنا: على حرف جر، ورسول: اسم مجرور
(1)
تقدم ص 226.
بـ (على)، وعلامة جره الكسرة، وشبه الجملة متعلق بمحذوف خبر مقدم، وهو مضاف و"نا" مضاف إليه، (البلاع): مبتدأ مؤخر، و (المبين): صفة للبلاع، هل يمكن أن يكون هناك وجه آخر للإعراب ونقول: إن الذي على رسولنا البلاغ المبين؟
ننظر إلى الرسم، "أنَّ " مقرونة بـ"ما"، لو كانت موصولة لفصلت عن "أنَّ"؛ لأن "ما" الموصولة إذا كانت اسمًا لـ "أنَّ" أو و"إنَّ" فإنها تفصل عنها.
وهنا قد يقول قائل: لعل هذه القاعدة، وهي اتصال "ما" الموصولة بـ "إن" كانت قاعدة قديمة في خط المصحف، فنقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأن "ما" إذا اتصلت بـ"إن" أو "أن" فهي تكفها عن العمل وتجعل الجملة فيها حصر.
قوله: {أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يعني التبليغ، وأصل التبليغ: من بَلَغَ الشيء كذا، أي: وصل إليه، أي: عليه أن يوصل الوحي الذي أوحاه الله إليه إلى المُرْسَل إليه، هذه وظيفته ليس له أكثر من هذه الوظيفة.
قوله: {الْمُبِينُ} من "أبان" المتعدي، وليست من "أبان" اللازم، مثال "أبان" اللازم تقول:"أبان الصبح"، كما تقول:"بان الصبح"، أبان المتعدي، تتعدى للمفعول به، فهنا نقول المبين من أبان المتعدي، يعني: البلاع الذي أبان الحق وذلك لفصاحته عليه الصلاة والسلام، وحلاوة كلامه ووصوله إلى القلب حينما يصل إلى الأُذُن واقتناع النفس به فلهذه الأوصاف كان بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا بما يبلغه صلوات الله وسلامه عليه.
وتأتي "الْمُبِينُ" بمعنى البَيِّن، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ
بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]، فمبين يعني: بيّن.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: وجوب طاعة الله ورسوله، لقول الله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .
الفائدة الثانية: أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم مستقلة بمعنى: أنه إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، لا نقول: هل يوجد في القرآن هذا الأمر أو لا يوجد، بل طاعته مستقلة، وجه ذلك: أنه أعاد فقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، وإعادة الفعل تدل على أن طاعة الرسول مستقلة، بمعنى أننا لا نحتاج إلى شاهد من القرآن فيما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يمكن أن يكون أمر الله وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام متناقضين؟
الجواب: لا يقع التناقض؛ لأنه لو وقع لكانت طاعة الرسول معصية لله، وطاعة الله معصية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا تناقض؛ لأن التناقض يكون النقيض حكمه ضد حكم نقيضه، فلو قلنا: إنه يقع التناقض لزم من ذلك ما تقدم من أن طاعة الله تكون معصية للرسول، وطاعة الرسول تكون معصية لله.
الفائدة الثالثة: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .
الفائدة الرابعة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم يمتاز عن غيره بالرسالة، ولا يمتاز عن غيره بأنه رب يفعل ما يشاء بل هو نفسه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا لقوله:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .
الفائدة الخامسة: أن الرسالة من أفخر الأوصاف التي يتصف بها العبد لقوله: {الرَّسُولَ} ، ولا شك أن الرسول يفضل ويشرف بحسب منزلة مرسله، لو جاء رسول من عند رجل شريف عالي المنزلة، فهل يكون في نفوسنا كرسول جاء من عامة الناس؟ لا، أبدًا، بل يكون في نفوسنا لهذا الرسول بمقدار ما يستحقه من منزلة من أرسله، فعليه تكون الرسالة فخرًا لمن أرسل.
وهل مقام النبوة أفضل أو مقام الرسالة؟ مقام الرسالة، لأن الرسول نال مقام النبوة ومقام الرسالة، مقام النبوة بما أوحي إليه، ومقام الرسالة بما كلف بتبليغه فيكون أشرف، خلافًا لأهل الباطل الذين يقولون: أفضل بني آدم الولي ثم النبي ثم الرسول، معللين بأن الرسول خادم، والنبي من النَبْوة وهي العلو والارتفاع، والولي من الولاية وهي أخص، ويقول شاعرهم:
مقام النبوة في برزخٍ
…
فويق الرسول ودون الولي
قاتله الله، فويق الرسول، يعني: ما هناك فرق بَيِّن، بالنسبة للولي بعيد، دون الولي، ولقد ضل ضلالًا مبينًا؛ لأن النبي ولي وزيادة، والرسول ولي ونبيٌ ورسول، لكن الله يقول:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
الفائدة السادسة: التحذير من معصية الله ورسوله لقوله: {وَاحْذَرُوا} ، وكلمة "احذروا" التي حُذف مفعولها أشد وقعًا من "احذروا" إذا ذكر مفعولها، لأنه أبلغ في التخويف؛ لأن المتكلم مقتصر عليها دون متعلقاتها.
وقوله تعالى: "واحذروا" له ما يشبهه من القرآن، أي: ما يشبه هذا التحذير، وهو قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
الفائدة السابعة: أن الأصل في أوامر الله ورسوله الوجوب؛ لأن التحذير لا يكون إلا من شيء يأثم به الإنسان، فإن ما لا إثم فيه لا يكون الحذر منه، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل الأصول، أعني: أصول الفقه، فمنهم من يقول: الأصل في الأمر الوجوب، ومنهم من يقول: الأصل فيه الندب، ومنهم من يقول: أما في الآداب فهو للندب، وأما في العبادات التي هي حق الله فهي للوجوب، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه، لكن الشيء الذي يهمنا هو أن الإنسان إذا سمع أمر الله ورسوله، لا يتردد فيقول: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ هذه عبارة منتقدة، الأصل أن الأمر الموجه من خالقك أو رسوله الذي أرسله إليك أن يكون ملزمًا، هذا هو الأصل، وإلى هذه الساعة لم يُعهد من الصحابة أن رسول صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر قالوا: يا رسول الله هل هذا واجب علينا أم مستحب؟ أبدًا، وخير لنا أن نقتفي آثارهم، نعم لو أن الإنسان تورط في المخالفة؛ فإن السؤال عن الأمر هل هو للوجوب أو للاستحباب قد يكون وجيهًا؟ إذا كان واجبًا وجب عليه أن يحدث منه توبة ويتوب إلى الله من ذلك، وأما إذا لم يكن واجبًا فالأمر سهل، لكن الكلام على أول ما يرد عليك الأمر لا تتردد، افعل ما استطعت، أما إذا جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنك مخير فأنت مخير، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بريرة أن ترجع إلى زوجها مغيث، وكانت بريرة عتقت وزوجها رقيق، فلما عتقت ملكت نفسها، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختاري فإن
شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئت أن تفارقيه"
(1)
فاختارت مفارقته، فحزن مغيث عليها وجعل يبكي وراءها في أسواق المدينة، يريد أن ترجع إليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"ألا تعجبون من حب مغيث لبريرة وبغض بريرة لمغيث! "، ما جوابنا نحن؟ بلى: نعجب؛ لأن الغالب أن القلوب إذا تآلفت فهي تتآلف من الجانبين، "فقال النبي-صلي الله عليه وسلم-:"لو راجعته"، قالت:"يا رسول الله تأمرني"، ولم تقل إن كان أمرًا على سبيل الوجوب، "قال: إنما أنا شافع" قالت: "لا حاجة لي فيه"
(2)
، هكذا، فصرح النبي عليه الصلاة والسلام بأن الأمر ليس للوجوب بل للمشورة، ولما قال:"إن الله فرض عليكم الحج فحجوا"، قال الأقرع بن حابس: يا رسول الله، أفي كل عام؟ قال:"لا"
(3)
.
فالحاصل: أن نقول: الأصل في الأمر الوجوب وأن تفعل ما أمرت، ولا تسأل وتتردد؛ لأن المسألة خطيرة إذا ترددت، قال الله عز وجل:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110]، أعاذنا الله من ذلك، وقال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5] بعدها {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]، متقلب غير مستقر؛ لأنهم كذبوا
(1)
هذا اللفظ لأحمد (6/ 180)(25507) عن عائشة.
(2)
رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي-صلي الله عليه وسلم- على زوج بريرة، حديث رقم (4979) عن ابن عباس.
(3)
رواه مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337) عن أَبي هريرة، والتصريح باسم الأقرع عند النسائي (2620)، وأحمد (1/ 255)(2304) عن ابن عباس.
بالحق لما جاءهم، فاقبل يا أخي الحق ولا تتردد ولا تقل: واجب أو مستحب، لكن كما تقدم إذا تورطت في شيء فلا بأس.
الفائدة الثامنة والتاسعة: أن تولى الناس عما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم لا يضره، ولا يلام عليه، لقوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ لأنه إذا كان ليس عليه إلا البلاغ فإنه لن يضره توليهم ولا يلام عليه.
ويتفرع على ذلك: أن الداعية إلى الله في وقتنا وفيما قبله لا يضره ألا يقبل الناس منه؛ لأنه أدى الواجب وينبغي أن يُفَرِّح نفسه بانه أدى الواجب، وألا يحزن بعدم قبولهم دعوته؛ لأن الله تعالى قال للرسول صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، لكن ربما نقول: يحزن لعدم قبول الشريعة لا لعدم قبولهم منه، والفرق بين هذا وهذا واضح.
الفائدة العاشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يهدي أحدًا؛ لأنه بلغ البلاغ المبين ومع ذلك حصلت المخالفة والتولي.
الفائدة الحادية عشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، ففيه إبطال لقول أهل التفويض فيما يختص بأسماء الله وصفاته، الذين قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يبلغ البلاغ المبين، ولا يعرف ما قال، وإنما ألقى كلامًا للناس كأنه حروف هجائية أو ألغاز.
الفائدة الثانية عشرة: أن بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم بلاغ مبين لا عيَّ فيه ولا تعقيد ولا إشكال، بل هو بَيِّنٌ في نفسه مبين لغيره لقوله:{الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .
الفائدة الثالثة عشرة والرابعة عشرة: وجوب الرجوع إلى
قول النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وأنه عليه الصلاة والسلام قام بالواجب فعلينا نحن أن نقوم بالواجب، لكن هل يمكن أن نأخذ منه أن من لم تبلغه الرسالة فهو معذور؛ يمكن أن نأخذ منه أن من لم تبلغه الرسالة فإنه معذور، أو بلغته على وجه مشوش فإنه معذور، ولكن الثاني الذي بلغته على وجه مشوش يكون واجبًا عليه أن يطلب الوصف الصحيح لهذه الرسالة التي بلغته، وألا يسكت ويقول: الأمر ما بان لي ولا يلزمني، بل يجب أن يبحث، أما إذا كان الأمر لم يعلم به إطلاقًا فهذا لم تقم عليه الحجة فهو معذور، فلو رأينا رجلًا لم يسمع عن الشرع وعن الإسلام شيئًا، في الكهوف والجبال والأدغال يرعى الغنم ويحلب الإبل ولا يعلم شيئًا، فهل نقول: إن هذا معذور أو غير معذور؛ معذور، لا شك إنه معذور، ولكن إذا ذُكِر له أن هناك رسالة وجب عليه أن يبحث وحينئذٍ قد نقول: إن هذا الذي بلغه ترتفع به الحجة؛ لأن الواجب أن يسأل.
لو قال قائل: الآية الكريمة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} هل يمكن أن تتعارض طاعة الله ورسوله؟ لا يمكن، ولا يمكن أن تتعارض طاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع النصوص الواردة عنه، فإذا رأينا حديثًا يناقض ما في القرآن فإننا نحكم برده وإن لم نعرف سنده، بل ولو عرفنا سنده، فإننا نقول: هذا منكر، إذا خالف القرآن، فلا يمكن أن يكون الله يأمر بطاعته -وطاعته مقدمة على كل شيء- وبطاعة الرسول، ولو كان ذلك، أي: أننا نأخذ بما يتناقض من الكتاب والسنة لكان مستحيلًا.
من ذلك ما يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في لحوم البقر أنها داء،
وفي ألبانها دواء أو شفاء
(1)
، هذا بدعة، بدون أن ننظر إلى سنده نحكم بأنه باطل ولا يصح، لو كان لحومها داءً هل يمكن أن يُحلَّها الله لعباده؟ لا يمكن أبدًا؛ لأن الله تعالى لا يحل لعباده ما كان ضررًا عليهم حتى لو قال قائل: يمكن أن نحمل هذا الحديث على أكل لحم البقر بدون طبخ، هل يصح هذا؟ لا، لأن أكله بدون طبخ نادر، ولا يمكن أن يحمل الحديث على الشيء النادر، والشيء بالشيء يذكر، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه"
(2)
، بعض العلماء يقول: المراد: من مات وعليه صيام نذر صام عنه وليه، أما صيام الفرض كصيام رمضان والكفارة فلا يصام عن الميت، فيقال: سبحان الله! أنتم صححوا الحديث ثم نقحوا المراد، صيام النذر بالنسبة لصيام الفرض والكفارة كثير أو نادر؟ نادر، فكيف تحملون الحديث على شيء نادر وتتركون الشيء الكثير؛ ولهذا كان القول الراجح: أن من مات وعليه صيام سواء كان واجبًا بالنذر أو بأصل الشرع فإنه يصام عنه.
لو قال قائل: ذكرتم أن الإنسان إذا بلغه الدين على وجه مشوش فإننا لا نعذره بالجهل، مع أن هذا البلاع كالعدم؟
الجواب: نقول: قد لا نعذره لتركه الواجب وهو البحث.
لكن لو قال قائل: كيف يبحث وهو إنسان عامي أو عجوز في قرية نائية، أو ما أشبه ذلك والإعلام مغطي عليهم ولا يعرفون شيئًا؟
(1)
رواه الطبراني في الكبير (25/ 42)(79) عن مليكة بنت عمرو الزيدية.
(2)
تقدم في (1/ 389).
الجواب: سبحان الله، كل شيء محتمل إذا بلغه أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أتى لجميع الخلق وأن من خالفه هو في النار ومن وافقه هو في الجنة، يسمع هذا، لكن إذا أُخْبِرَ كذبًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بصادق وما أشبه ذلك، هذا قد يكون معذورًا خصوصًا إذا كان الذي أخبره ممن يعد من رؤسائهم في الدين، ولهذا لما أنكر عمر رضي الله عنه على الرجل الذي قرأ في سورة الفرقان خلاف ما كان يعرفه عمر أنكر آية من كتاب الله، ظانًّا أن الرجل أخطأ فيها، حتى ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا أنزل لقراءة الرجل وهكذا أنزل لقراءة عمر
(1)
.
والمسألة هذه الناس فيها طرفان ووسط: طرف يغلو في التكفير ويُقْدِم على التكفير ويقول: لا يعذر بالجهل في أصل الدين، وهذا غير صحيح، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44]، وقسمٌ آخر: لا يغلو في رفع التكفير حتى وإن كان الانسان في حال يحكم بكفره، والقول الوسط هو أن نقول: من لم تبلغه فهو معذور، ومن بلغته ولم يفهمها فهو معذور؛ لأن عدم الفهم كعدم العلم، لو أتى إليك إنسان أعجمي وقام يتكلم بأعجميته في شيء، هل تدري ما يقول؟ لا تدري ما يقول، هذا معذور، فالفهم شرط، يعني مجرد البلاغ لا يكفي، وأما قوله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فهل المعنى ومن وصل إليه وإن لم يفهمه، أو من بلغه فأدركه؟ الثاني هو المراد.
(1)
رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين، حديث رقم (6537) عن عمر بن الخطاب.
ما حكم الرافضة الذين يسبون أبا بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم؟
الجواب: لا شك أن الذي يسب أبا بكر وعمر وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ليس من الدين في شيء، ويجب بغض من يفعل ذلك، هذا ليس فيه إشكال، لكن نسأل الله لهم الهداية. وأن يكفينا شرهم.
* * *
° قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93].
قوله: {لَيْسَ} أداة نفي، وهي فعلٌ ماض جامد، والجامد عند النحويين: هو الذي لا يتصرف، والجمود: قد يكون جمودًا كليًّا وقد يكون جمودًا جزئيًّا، بحيث يمتنع التصريف فيه من وجه دون آخر، وهنا الجمود كلي لأن "ليس" لا يمكن أن تتغير.
قوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {آمَنُوا} بقلوبهم:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بأبدانهم، وهذا شاملٌ للدين كله؛ لأن الدين كله إيمان وعمل.
وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: عملوا الأعمال الصالحات، والأعمال الصالحات لا يمكن أن تكون بهذا الوصف إلا إذا كانت موافقة للشريعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"
(1)
يعني: فاسدًا.
(1)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، حديث رقم (2060)، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم (1504) عن عائشة.
فالأعمال الصالحة: ما وافقت الشريعة، ولا يمكن أن توافق الشريعة إلا إذا وافقت الشريعة في أمورٍ ستة: الأول: السبب، والثاني: الجنس، والثالث: القدر، والرابع: الكيفية، والخامس: الزمان، والسادس: المكان.
فلا يمكن أن تكون العبادة شرعية صالحة إلا إذا وافقت الشريعة في هذه الأمور الستة.
فإذا خالفت الشريعة في واحد من هذه الأشياء الستة فليست شرعية، ولا مقبولة، هذه شروط الموافقة للشريعة.
أولها: السبب: فلو أحدث الإنسان سببًا يتعبد لله تعالى بمقتضاه وليس شرعيًّا فعمله مردود، ونضرب لهذا مثلًا: لو أن الإنسان إذا تجشأ قال: الحمد لله، والجشاء معروف، هنا أحدث عبادة لله عز وجل وهي الحمد، لسبب وهو الجشاء، فهل جاء في الشريعة أن الجشاء سبب للحمد؟ لا، إذًا لا يقبل منه؛ لأنه تعبد لله بما لم يشرعه.
الثاني: الجنس: من المعلوم أن الأضاحي تكون من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، فلو ضحى الإنسان بفرس لم يقبل منه؛ لأنه مخالف للشريعة في الجنس، لو ضحى بنعامة؟ لم يقبل منه، لو ضحى بحمامة؟ لم يقبل منه؛ لأنه مخالف للشريعة في الجنس، وإن كان الشرع قد أوجب في الحمامة إذا قتلها المُحْرِمُ شاة، لكن لم يأتِ الشرع بأن يضحي الإنسان بحمامة، وبه نعرف خطأ من قالوا: إنه تجوز التضحية بالدجاج والديكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "في الرجل يغتسل في بيته ويخرج إلى
المسجد يوم الجمعة في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة"
(1)
، قالوا: هذا يدل على أن الدجاجة يصح التقرب بها.
وجوابنا على هذا: أن معناه تقرب إلى الله بالصدقة بها لا بذبحها، ولا شك أن الإنسان لو ذبح دجاجة وتصدق بها على الفقراء إنه يجزئه، إذًا لا بد من موافقة الشريعة في الجنس.
الثالث: القدر: لو تعبد الإنسان لله عز وجل بصلاة سادسة، جعلها عند ارتفاع الشمس قيد رمح وقال: إنه يتقرب إلى الله تعالى بهذه الصلاة لارتفاع الشمس قيد رمح، لا لأنها صلاة ضحى، فهذه عبادة لا تصح، يعني: أراد أن يجعلها صلاة سادسة مع الخمس فإنها لا تقبل، لأنه زاد صلاة لم ينزل الله بها من سلطان، ولو أنه صلى الظهر خمس ركعات لم تقبل لمخالفة الشريعة في القدر.
الرابع: الكيفية: لو تعبد لله تعالى بالوضوء، توضأ وضوءًا كاملًا مشتملًا على الأعضاء كلها، لكنه بدأ بالرجلين ثم الرأس ثم اليدين ثم الوجه، لم تقبل العبادة، لأنها مخالفة للشريعة في كيفيتها، وكذلك لو سجد قبل أن يركع لم تقبل الصلاة؛ لأنها مخالفة للشريعة في الكيفية.
الخامس: الزمان: لو أن الإنسان ضحى في عيد الفطر، وقال: عيد كعيد، فالقياس أن يضحي في عيد الفطر كما يضحي في عيد الأضحى، لم تقبل لمخالفة الشريعة في الوقت أو في الزمان.
(1)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، حديث رقم (841)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، حديث رقم (850) عن أبي هريرة.
السادس: المكان: لو أن الإنسان اعتكف في رمضان في بيته، أو امرأة في مصلاها الذي في البيت، لم يجزئ؛ لأنه مخالف للشرع في المكان.
بقي أن يقال: وهل يأثم الإنسان لو تعبد لله عز وجل بما يخالف الشريعة في واحد من هذه؟
الجواب: يأثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"
(1)
.
قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تقدم أن الصالحات وصفٌ لموصوف محذوف، التقدير الأعمال الصالحات.
قوله: {جُنَاحٌ} أي: إثم، وهذا هو المنفي، فليس على المؤمن الذي يعمل الصالحات جناح أي إثم.
قوله: {فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} ، {فِيمَا طَعِمُوا}: أعم من قولنا: فيما أكلوا، فيشمل الأكل والشرب؛ لأن الشرب يطعم ويذاق فهو طعام، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى على لسان طالوت:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [لبقرة: 249]، من لم يطعمه: يعني النهر، والنهر يؤكل أم يشرب؟ يشرب.
إذًا: قوله {فِيمَا طَعِمُوا} يعم كل ما له طعم في الفم من مأكول ومشروب، لكن بشروط، فليس عليهم جناح فيما طعموا بشروط:
(1)
رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607)، والترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676) عن العرباض بن سارية.
الشرط الأول: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} ، الثاني:{وَآمَنُوا} ، الثالث:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، الرابع:{ثُمَّ اتَّقَوْا} ، الخامس:{وَآمَنُوا} ، السادس:{اتَّقَوْا} ، السابع:{وَأَحْسَنُوا} ، هذه قيود سبعة وليست متكررة كل واحد له معنى، أو محمولة على معنى.
قوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} ، يعني: اتقوا ما حُرِّم عليهم من المأكول وليست التقوى العامة، بل إذا ما اتقوا ما حرم عليهم من المطعوم.
وقوله: {وَآمَنُوا} أي: آمنوا بالله؛ لأن الإيمان لا شك أنه أصل في قبول الأعمال.
وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هذا شرط: أي: عملوا الصالحات فيما يأكلون من المباحات فلم يستعينوا بها على محرم، فإن استعانوا بها على محرم وهي مباحة صارت حرامًا؛ لأن الله اشترط أن يعملوا بها الصالحات.
قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} كلمة "ثم" تدل على أن هذا نوع آخر غير الأول؛ لأن العطف ولا سيما بـ"ثم" الدالة على المهلة والترتيب يدل على أن الثاني غير الأول، فيكون معنى:{ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} أي: ثم استمروا على تقواهم ما حرم عليهم من هذا الطعام.
وقوله: "آمنوا" أي: استمروا على إيمانهم، والأمر بالإيمان يصح مرادًا به الثبوت عليه والاستمرار فيه كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136].
قوله: {وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} هذه التقوى العامة، أي:
اتقوا جميع المحرمات وأحسنوا بفعل جميع الطاعات، هذه الآية يمكن أن نحملها على حالين:
الحال الأولى: حال من يذهب إلى التقشف ويخشى من الترفه المباح، فيتجنب الفواكه واللحم الشهي والشيء اللذيذ تعبدًا لله، فتحمل على من تورعوا عما أحل الله لهم خوفًا من الإثم فيقال لهم: ليس عليكم جناح فيما طعمتم إذا تمت هذه الشروط.
ولها محمل آخر، فيمن توفوا قبل تحريم الخمر وأيضًا قبل أن يعلموا بتحريمها فهذا يشمل من ليس عليهم جناح، فهم قد شربوا الخمر وهي في النهاية حرام لكن حين شربهم إياها، حلال؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمها بتاتًا إلا بعد موتهم، وإن كانت قد نزلت الآيات تعرض بالتحريم وتقيد الحل، كما في قوله:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، وفي قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، وهؤلاء أشكل على الصحابة حالهم لما حرمت الخمر، أي: أشكل على الصحابة حال الذين توفوا من قبل فأنزل الله هذه الآية، أنه ليس عليهم جناح؛ لأنهم لم ينتهكوا ما حرم الله، بل هم مؤمنون متقون محسنون.
وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، "المحبة" لو أردنا أن نحدها لم نستطع، فالإنسان لا يستطيع أن يحد المحبة أبدًا، مع أنها بيننا وهي من حياتنا اليومية في داخل البيت وخارج البيت، ولا نستطيع أن نحدها؛ لأن تعريف المعروف يزيده جهالة أو يزيد به جهلًا، ولذلك لما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه روضة المحبين
تعريف المحبة، قال: هذه الأمور الطبيعية لا يمكن تعريفها، لا تستطيع أن تعرف المحبة ولا الكراهة ولا البغضاء ولا الخوف ولا الفرح؛ لأن هذه أمور كامنة في النفس، كل إنسان يعرفها، نعم عليها علامات لا شك، فلو قلت مثلًا: المحبة أن تميل للشيء الذي ينفعك أو تدفع به ضررًا، أو تقول المحبة: أن ترى الرجل قد استنار وجهه واستبشر فرحًا، إذًا: المحبة معلومة، وإن شئت قل: معروفة، وتعريف المعروف يزيده جهالة.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: نفي الجناح في المطعومات من مأكول ومشروب بهذه الشروط.
الفائدة الثانية: أن على الكفار جناح فيما طعموا، وجهه: لأنهم غير مؤمنين، فالكافر لو رفع لقمة إلى فمه، أو شرب كأسًا من ماء فإنه محاسب عليه وعليه الإثم فيه، ويؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وهل هي لغير المؤمنين في الحياة الدنيا؟ أما قدرًا فنعم، وأما شرعًا فلا، ولهذا قال بالنسبة للمؤمنين:{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ولغير المؤمنين غير خالصة.
الفائدة الثالثة: القيود الشديدة في نفي الإثم عمن أكل أو شرب في مأكوله ومشروبه، والتقوى ذكرت في الآية ثلاث مرات، والإيمان مرتين والإحسان مرة، قيود شديدة عظيمة فاحذر يا أخي المسلم أن يكون في مطعومك عليك إثم لأنك لم تتم هذه القيود، أسأل الله أن يعيننا عليها.
الفائدة الرابعة: أن من أكل حلالًا بكسب حرام فعليه الإثم؛ لأنه لم يتقِ الله في كسبه، ولا بد أن يتقي الله عز وجل، وهل يكون غير الكاسب كالكاسب في هذا الإثم؟ نقول: أما إذا كان الشيء المحرم معينًا فهذا يكون الآكل كالكاسب، مثل أن أعرف أن هذه الشاة التي ذبحها إكرامًا لي قد سرقها من فلان فهذه حرام عليَّ أن آكلها.
أما إذا كان الإنسان يتعامل بالربا ويكسب من الربا برضا صاحبه المرابي، فإنه لا بأس أن تأكل من ماله إلا إذا كان امتناعك منه يؤدي إلى توبته فهنا امتنع، أما إذا كان كله على حدٍ سواء فكل ولا حرج عليك، ويدل لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل من مال اليهود واشترى من مال اليهود مع أنهم معروفون بأكل السحت وأخذ الربا ولم يستفصل ولم يقل لأي واحد منهم: هل كسبت بالربا.
وبناءً على ذلك إذا مات ميت ونحن نعرف أنه يتعامل بالربا، ويتعامل بالمباح فهل يلزم الورثة أن يبحثوا كيف كسب ذلك؟ لا يلزمهم، الإثم على الكاسب، إلا إذا علمنا أن هذا هو عين مال الغير، فيجب علينا أن نرده إلى صاحبه، لأننا علمنا أنه ليس ملكه، فإن شككت هل هو ملكه وأخذه بطريق شرعي أو سرقه فما الأصل؟ الأصل أنه له، ولا يلزمنا أن نقول لكل من أهدى إلينا هدية: من أين أتيت بها أنت سارقها أو جاءتك بطريق مباح؟ لو كنا مكلفين بهذا لشق علينا مشقة شديدة، لكن الحمد لله أن الأمور بظاهرها، مثلما سأل قوم النبي صلى الله عليه وسلم عن أناس يأتونهم بلحم وهم حديثو عهد بالكفر أي: أسلموا قريبًا، ولا يدري
المهدى إليه اللحم أذكروا اسم الله عليها أم لا؟ فقال لهم: "سموا أنتم وكلوا"
(1)
لأن الأصل الحل حتى يتبين التحريم.
لو قال قائل: النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعام اليهود وقبل هداياهم؛ لأنهم يهود كفار، ليسوا على ملة صحيحة، أما المسلمين فعُلم من الكتاب والسنة تحريم ذلك عليهم؟
الجواب: هذا جواب غيرِ صحيح؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم يأكلون السحت ويأخذون الربا، ذمًّا لهم ولهذا قال:{وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [لنساء: 161] فهم منهيون عنه، لكن بعض الناس يريد أن يحرم مال من أكله مختلط بالحرام، ثم يدفع بهذا الدفاع الضعيف.
لو قال قائل: الذين يعملون في البلاد الأوروبية ويبيعون في محلاتهم الحلال ويبيعون المحرم كالخمر وغيره، فإذا دعي الإنسان عندهم، هل يأكل عندهم أم لا؟
الجواب: ليس عليه شيء إذا أكل المباح لكن كما تقدم، إذا كان في عدم إجابة الدعوة مصلحة فهنا لا تجب الدعوة.
الفائدة الخامسة: فضيلة الإيمان والتقوى وأنها سبب لطيب المطعم وحل المطعم.
الفائدة السادسة: فضيلة الإحسان إلى الخلق والإحسان في عبادة الخالق، فالإحسان إلى الخلق أن تبذل جاهك، تبذل مالك، تبذل خدمتك، تبذل منفعتك البدنية، والإحسان في عبادة الخالق فسره أعلم الناس بمعناه وهو النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(2)
.
(1)
تقدم في (1/ 74).
(2)
تقدم في (1/ 152).
الفائدة السابعة: إثبات أن الله يحب، لقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} والمحبة من الصفات الفعلية لأنها تتعلق بمشيئة الله، وكل صفة لها سبب فإنها من الصفات الفعلية؛ لأنها معلقة بهذا السبب، وهذه الصفة كسائر الصفات يجب على العبد أن يصدق ربه بها وأن يحمل كلام ربه على ظاهره وعلى ما تقتضيه اللغة العربية؛ لأن الله قال:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] يعني صيرناه باللغة العربية {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، لأجل أن نعقل هذا القرآن ونفهمه، وعليه فيجب أن نؤمن بأن الله يحب، ولو فسرناه بغير ظاهره لكنا معتدين على النص من وجهين: الوجه الأول: صرفه عن ظاهره، الوجه الثاني: إثبات معنىً على خلاف الظاهر، وهذه جناية على النصوص وتحريف للكلم عن مواضعه، ويوجد من هم مسلمون -لا شك في إسلامهم- يفسرون المحبة بأنها الثواب، أي: يثيب المحسنين، ونقول: عفا الله عمن مات ونسأل الهداية لمن بقي، هذا التفسير تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن الإثابة شيء والمحبة شيء آخر، وإن كانت المحبة يلزم منها الثواب، لكن لا يمكن أن نفسر شيئًا يلازمه إلا بدليل.
ثم أيما أبلغ في الحث على الإحسان، أن نقول: معنى الآية: والله يثيب المحسنين، أو أن نقول: والله يحب المحسنين؟
الثاني بلا شك، ولهذا لما قال الله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، ولم يقل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني تصدقوا في دعواكم، بل قال: يحببكم الله؛ لأن محبة الله هي المقصود -أسأل الله أن يجعلنا من أحبابه- فلذلك نقول أيضًا: في تفسيرها بالثواب نقص في دلالتها
ومضمونها؛ لأن النفس لا تتشجع، إذا كانت بمعنى الثواب، بل المحبة على ظاهرها ولا يجوز صرفها عن ظاهرها.
فهؤلاء القوم الذين صرفوا النصوص عن ظاهرها وصفهم شيخ الإسلام رحمه الله وصفًا دقيقًا، قال: إنهم أوتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا، فهم ليس عندهم علم من الكتاب والسنة، عندهم فهم، وأوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، فليس عندهم تقوى لله عز وجل وإلا لو اتقوا الله عز وجل لاحترموا نصوص الكتاب والسنة، أدنى ما نقول فيهم: إنهم جهلوا، قد لا يكون عدم التقوى عندهم عن عمد، لكن عن ظن أنهم على هدى ويحسبون أنهم على شيء وهم ضالون.
فإن قال قائل: فهل تطردون هذه القاعدة في كل النصوص؟
الجواب: نعم يجب علينا أن نطردها بجميع النصوص؛ لأن الصحابة أجمعوا على ذلك، ما منهم أحد يفسر القرآن بخلاف ظاهره أبدًا، فعلينا فيما يتعلق بصفات الله أن نؤمن بها، لكن على أساس مهم ذكره الله عز وجل في قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، كل شيءٍ أَثْبِتْهُ لله، فعلى هذه القاعدة وهي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وبهذا تستريح وتسلم من اعتراضات كثيرة، من ذلك أنه يكثر السؤال عن: هل نثبت لله الملل أم لا؛ احتجاجًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا"
(1)
؟
فيقال: ما الذي أجبرك أن تحك الشيء حتى يخرج العظم،
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه، حديث رقم (43)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، حديث رقم (782) عن عائشة.
ما الذي أجبرك على هذا، هل تثبت لله الملل أم لا تثبت؟ إن من هو خير منك ممن سبقك من هذه الأمة وخير هذه الأمة لم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك أبدًا، عرفوا المعنى وأبقوا اللفظ على ما هو عليه، ما الذي دعاك إلى هذا؟ هل الحديث صريح في أن الله يمل؟ ليس بصريح، سياقه:"اكلفوا من العمل ما تطيقون" يعني تحملوا منه ما تطيقون، "فإن الله لا يمل حتى تملوا"
(1)
، يعني ما يمل من ثوابكم حتى تملوا من العمل، هذا معناه، وهو واضح، فان كان يدل على ثبوت الملل لله فالملل كسائر الصفات ملل يليق بالله لا يماثل ملل المخلوقين، ملل المخلوق تعب وإعياء وضيق نفس لكن لا يثبت هذا لله عز وجل أبدًا، مثل الغضب، أثبت الله لنفسه غضبًا ولا إشكال، في القرآن في عدة مواضع وفي السنة كذلك.
لو قال قائل: الغضب: غليان دم القلب لطلب الانتقام، الغضب يحمل الغاضب على التصرف السيئ حتى إنه يكسر الأواني ويطلق النساء ويعتق العبيد ويوقف الأملاك ويمزق الأوراق، بعض الناس يصل به الحد إلى هذا.
لو قال قائل: هل غضب الله الذي نثبته حقًّا كغضب المخلوق؛
الجواب: أبدًا إن الله تعالى إذا غضب فإنه لن يفعل سبحانه وتعالى إلا لحكمة، وغضبه دليل على قوته عز وجل وقوة سلطانه؛ لأن الغضب لا يصدر إلا من قادر على الانتقام، والعاجز لا يمكن أن يغضب، لو تضرب صبيًّا يغضب عليك لأجل أن ينتقم منك ماذا يفعل؟ يبكي ويحزن ويروح لأمه ويقول:
(1)
تقدم الحديث السابق ص 375.
ضربني وفعل كذا وكذا، لكن ذو السلطان هو الذي يغضب وينتقم، فإغراق فرعون وقومه لا شك أنه غضب، وإنجاء موسى عليه السلام رضا.
فالغضب إذًا صفة حميدة، لكن بشرط أن لا تخرج الغاضب عن طوره، ولهذا نحن نقول: إن الله عز وجل يغضب، لكن ليس كغضب المخلوق الذي يخرج عن طوره حتى يتصرف تصرفًا لا يليق، وعلى هذا فقس، وأنت إذا أثبت لله ما أثبته لنفسه وتأدبت مع الله، بحيث لا تتجاوز ما ذكر الله عز وجل، وأثبت هذا على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فإنك ستسلم في عقيدتك وفكرك، وستسلم من التشويش الذي يلقيه الشيطان في قلبك، أما إذا كنت تتحرك في هذه النصوص يمينًا وشمالًا فأنت على شفا جرف هارٍ.
الفائدة الثامنة: الحث على الإحسان إلى الخلق وعلى الإحسان في عبادة الخالق؛ لأن الله حين يخبرنا أنه يحب المحسنين ماذا يريد منا؟ يريد منا أن نفعل لننال هذه المرتبة العظيمة وهي محبة الله، أسأل الله أن يجعلنا من أحبابه.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} [المائدة: 94].
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تقدم في مثل هذا التعبير أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك أي: فاستمع وانتبه، فإما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه.
قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إلى آخره، الجملة هنا خبرية، ومؤكدة بمؤكداتٍ ثلاث وهي:"اللام" و"نون التوكيد"، و"القسم المقدر"، لأن اللام موطئة للقسم.
ومعنى "يبلونكم": يختبرنكم، بماذا يكون الاختبار؟ قال:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .
وقوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْد} ، أي: الذي تصطادونه وهو محرم عليكم في حال الإحرام.
قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي: تصيدونه باليد وتصيدونه بالرماح، وهذا على اختلاف حال الصيد، فما كان زاحفًا كانوا ينالونه بأيديهم، وما كان طائرًا كانوا ينالونه برماحهم؛ لأن الطائر أعلى، والطيران أسرع من الزحف؛ لكن مع ذلك يكون الطير نازلًا وهادئًا في طيرانه؛ لأن الذي يمسكه في جو السماء هو الله عز وجل، وهو قادر على أن يهبطه إلى قرب الأرض وأن يجعل طيرانه هادئًا.
وقلنا: إن الابتلاء هو الاختبار، لكن لأي شيء؟ قال:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ، {لِيَعْلَمَ} اللام هنا للتعليل، ويعلم: أي: يدرك عز وجل من يخافه بالغيب، أي: من يخاف الله بالغيب وهذه الجملة لها معنيان:
المعنى الأول: أنه يخاف ربه مع غيبته تبارك وتعالى عنه إذ إنه لم يرَ ربه لكنه عرفه بآياته، فيخافه وهو عز وجل غائب عن نظره، كقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن لم تكن تراه فإنه يراك"
(1)
.
(1)
تقدم في (1/ 152).
والمعنى الثاني: {بِالْغَيْبِ} ، أي: حال غيابه عن الناس، مثل أن يكون في ليل أو في ظل شجرة أو من وراء أكمة أو في مجرى سيل أو نحو ذلك فقوله:{بِالْغَيْبِ} أي: بغيبه عن الناس؛ لأن من الناس من يُظهر مخافة الله ظاهرًا ولكنه باطنًا لا يخاف الله عز وجل، والذي يُمدح من يخاف الله بالغيب، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك: 12].
قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: فمن اعتدى على محارم الله عز وجل بعد أن بيّن الله له الحكم فله عذاب أليم، أي: عذاب مؤلم إما في الدنيا وإما في الآخرة.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: بيان امتحان الله تبارك وتعالى لعباده بتيسير أسباب المعصية لهم ليعلم من يخافه بالغيب ومن لا يخافه إلا في العلانية، وجهه من الآية ظاهر:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .
الفائدة الثانية: فضيلة الصحابة رضي الله عنهم، الذين هم مُقَدَّمُ هذه الأمة، وذلك بخوفهم من الله وعدم تحيلهم على محارم الله وعدم انتهاكهم لحرمات الله، فإن هذا الصيد الذي ابتلوا به، وقع ذلك فعلًا، لأن الله أخبر بأنه سيفعل وفعل عز وجل، لكن لم يذكر عن واحد منهم أنه أخذ صيدًا واحدًا، خافوا الله عز وجل وعظموا محارمه، وهذا فضل عظيم لهذه الأمة.
الفائدة الثالثة: أن هذه الأمة تفضل سائر الأمم وعلى رأسهم الأمة اليهودية، لأن الأمة اليهودية ابتلاهم الله تعالى بنحو
هذا، ولكنهم تحيلوا على محارم الله، ابتلاهم الله تعالى بالصيد البحري لا الصيد البري، فحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فاحتالوا على ذلك وجعلوا شباكًا في يوم الجمعة ثم يأخذون السمك أو الحيتان يوم الأحد، فابتلاهم الله عز وجل بكون الحيتان تأتي يوم السبت "شرّعًا" أي: على سطح الماء من كثرتها، فتحيلوا هذه الحيلة، فقال الله تعالى لهم:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، فكانوا قردة والعياذ بالله، كل أهل القرية أصبحوا يتعاوون كما تعاوى القردة؛ لأنهم تحيلوا على محارم الله بما ظاهره الإباحة، فقلبهم الله تعالى إلى حيوان أقرب ما يكون من الإنسان.
الفائدة الرابعة: أن يتنبه الإنسان لنفسه إذا يُسرت له أسباب المعصية وألا يتدرج به الشيطان؛ لأن الإنسان قد تيسر له أسباب المعصية ولا يدري عن نفسه ثم ينهمك حتى يقع في المحظور، فليحذر الإنسان من تسهيل أو من تيسير أسباب المعصية له أن يقع في المعصية، ولهذا كان الإنسان إذا ابتلي بتيسير المعصية له وتركها لله عوضه الله تعالى خيرًا منها، وانظر إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقد يسر الله له أسباب المعصية تيسيرًا لا نظير له فيما نعلم، كان مملوكًا لعزيز مصر وكان له امرأة يُرى أنها من أجمل النساء؛ لأنها امرأة العزيز، وأعجبها يوسف وأحبته حبًّا شديدًا حتى وصل حب هذا الرجل إلى شغاف القلب، يعني قعر القلب، وعجزت أن تصبر، في يوم من الأيام سولت لها نفسها أن تدعوه إلى فعل الفاحشة، فدعته وغلقت الأبواب، والأبواب جمع باب أقلها ثلاثة، في حجرة من وراء حجرة من وراء حجرة
والأبواب مغلقة، وليس عندها أحد فدعته لنفسها، وتوعدت أنه إن لم يفعل سجنته، وأهانته قالت:{لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] فدعا ربه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33]، ولا يُظَنُّ أنَّ الجمع في قوله:{يَدْعُونَنِي} يعني أن مع المرأة أحدًا، ولكن يريد الجنس؛ فإن هذه التي فتنته ربما يفتنه غيرها، فأراد أن يكون دعاؤه عامًا:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [يوسف: 34]، يوسف عليه الصلاة والسلام هُيئت له أسباب المعصية، بل أكثر من ذلك، هدد بأن يهان ويسجن إن لم يفعل ومع ذلك لجأ إلى الله عز وجل، وفي هذه الضرورة استجاب الله تعالى دعاءه.
وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله"
(1)
لم يذكر أي مانع سوى خوف الله عز وجل، وهل خوفه بالغيب أو بالشهادة؛ بالغيب؛ لأنه ليس عنده أحد، لو عنده أحد لقال: إني أخاف أن يشهد فلان أو فلانة، فالمهم انتبه لنفسك سواء في البيع أو في الشراء أو في أي شيء، انتبه لنفسك إذا يُسرت لك أسباب المعصية فاعلم أن ذلك امتحان من الله.
الفائدة الخامسة: أن الصيد في حال الإحرام محرم؛ لقوله: {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .
(1)
رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين، حديث رقم (1357)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم (1031).
الفائدة السادسة: أن من اعتدى بعد أن تبين له الحكم فله عذاب أليم، أي: مؤلم.
الفائدة السابعة: أن من كان جاهلًا فإنه لا إثم عليه إذا فعل المعصية، لقوله:{بَعْدَ ذَلِكَ} .
الفائدة الثامنة: إثبات علم الله تبارك وتعالى؛ لقوله: {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ، والله تبارك وتعالى علمه محيط بكل شيء.
فإن قال قائل: هذه الآية سياقها يدل على تجدد العلم لله عز وجل؛ لأنه قال: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ} ثم قال: {لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ، وهو جلَّ وعلا عالم بذلك قبل أن يخلق هذا وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا إشكال واقع يشكل على كثير من الناس فالله عز وجل يقول:{لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ، أليس الله قد علم؟
الجواب: بلى، قد علم. والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن علم الله بالشيء قبل وقوعه علم بأنه سيقع، وعلمه بعد وقوعه علم بأنه واقع، وفرق بين كون الشيء معلومًا قبل أن يقع ومعلومًا بعد أن يقع.
فإن قال قائل: هذا مُسَلَّمٌ في علم الإنسان، فإن الإنسان إذا علم بأن الشيء سيقع غدًا فهذا علم، لكن إذا وقع صار علمه الثاني أقوى من علمه الأول؛ لأن علمه الأول علم يقين، وعلمه الثاني عين يقين، ومعلومٌ أن الإنسان يتجدد علمه ويقوى علمه تارة ويضعف تارة لكن علم الله واحد؟
الجواب: نحن لا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إذا عَلِمَهُ واقعًا ازداد علمه بذلك؛ أبدًا، هو عالم به؛ لكن عالم به أنه وقع لا أنه سيقع؛ لأن العلم الأول لا يترتب عليه جزاء بالنسبة للعبد، والعلم الثاني: يترتب عليه جزاء.
أما الوجه الثاني فنقول: علمه السابق لما وقع علم بأنه سيقع، ولكنه لا يترتب على هذا العلم أي ثواب أو عقاب، لكن متى يترتب الثواب والعقاب؟
الجواب: إذا عمل العبد، فيكون علمه الثاني الذي بعد وقوع الشيء علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب، ويتعين الجواب بهذا؛ لئلا يظن الجاهل أن علم الله يتجدد، ونحن نعلم أن علم ربنا عز وجل لم يزل ولا يزال موجودًا.
الفائدة التاسعة: الثناء على من يخاف الله بالغيب، جعلنا الله منهم؛ لأن كثيرًا من الناس يخاف الله سبحانه وتعالى، فعنده خوف من الله؛ لكن يَقِلُّ خوفه إذا لم يكن حوله أحد، وإذا علم أن الناس يعلمون به ازداد خوفه يعني أصل الخوف عنده، لكن إذا كان عنده أحد، ازداد خوفه من فعل المعصية خوفًا من عقاب الله وخوفًا من ملامة الناس، وهذا وإن كان محمودًا لكنه ضعيف الخوف من الله، ويخشى عليه أن يداهن الناس ويراقبهم فيقع في الرياء، فعليك يا طالب العلم أن يكون خوفك لله واحدًا في السر وفي العلانية.
لو قال قائل: بعض الناس يكون مستقيمًا ثم يفتح الله عليه أو يبتليه بالغنى فيضعف إيمانه وتَقِلُّ عبادته وقد يقطع رحمه فما رأيكم في هذا؟
الجواب: صحيح ليس فيه شك، هذا واقع يعني إصابة الإنسان بذنبه وبإعراضه عن طاعة الله أشد من العقوبة؛ ولهذا قال الله عز وجل:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، فكون الإنسان مستقيمًا ثم يشعر بأن استقامته ضعفت، وصار يرتكب المعاصي هذه عقوبة، يقول بعض السلف: إن الإنسان ليحرم صلاة الليل بالذنب يصيبه، لكن أكثر الناس في غفلة عن هذا، يظنون أن المصائب التي على الذنوب هي المصائب الحسية وليس كذلك، مصيبة القلب أشد، نسأل الله السلامة.
* * *
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} يقال فيها: كما قلنا في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ} [المائدة: 94]، والمناسبة بين هذه الآية والتي قبلها ظاهرة، أنه عز وجل لما أخبر أنه سيختبرهم بهذا الصيد نهاهم أن يقتلوه، فقال جلَّ وعلا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، جملة {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في محل نصب على الحال، "والحرم" جمع حرام، والمراد به: الحرم في المكان والحرم في الحال، الحرم في المكان: بأن يكونوا في حرم مكة، والحرُم في الحال: بأن يكونوا محرمين
بحج أو عمرة، وعلى هذا لو أحرم الإنسان من ذي الحليفة فمن حين إحرامه من ذي الحليفة يدخل في الآية، ولو كان محلًا ووصل إلى مكة إلى حدود الحرم، فإذا دخل هذه الحدود فقد صار حرامًا أي: يدخل في الآية أيضًا.
قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} "لا" ناهية، وعلامة كونها ناهية حذف النون.
وقوله: {الصَّيْدَ} ، "أل" لبيان الحقيقة، فما هو الصيد المحرم؟
العلماء ولاسيما أهل الفقه رحمهم الله، بينوا ضابطًا لهذا، فقالوا: إنه الحيوان البري المأكول المتوحش طبعًا.
فقولنا: "الحيوان" هذا جنس، و"البري" ضده البحري، و"المأكول" ضده الحرام، و"المتوحش طبعًا" ضده المتأهل وهو الحيوان الإنسي، الذي يألف الناس في بيوتهم، هذا هو الصيد.
وعلى هذا: فحيوان البحر لا يدخل في النهي؛ لأنه ليس مرادًا بهذه الآية، وإن كان صيدًا لكنه بحري، وقد قال الله تبارك وتعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وهذه الآية صريحة فصَّل الله فيها وبيّن، فلو أن المحرم ذبح دجاجة فإنه ليس عليه إثم؛ لأن الدجاج من الإنسي ليس من المتوحش، ولو ذبح خروفًا فلا بأس، مع أنه بري مأكول، لكنه ليس متوحشًا، وإن كان بريًا ومأكولًا، فالعبرة بالطبع وبالأصل، ولا عبرة بالوصف الطارئ، فلو توحش إنسيٌ أو استأنس وحشي، فالعبرة بالأصل، ولهذا لو أن إنسانًا ربى أرنبًا فهل يجوز إذا أحرم أن يذبحها؟
الجواب: لا، مع أنه رباها لأن العبرة بأصلها فهي متوحشة في الأصل، والتأهل طارئ عليها، ولو أن الدجاجة فرت وتوحشت وصارت تطير مع الطيور، هل هي حلال للمحرم أم غير حلال؟ حلال للمحرم لأن الأصل أنها متأهلة والعبرة بالأصل.
لكن لو قال قائل: الحيوانات المتوحشة هل هي محدودة أم معدودة؟
الجواب: الذي ينبغي أن يقال: يرجع للعرف إذا لم يكن معينًا بالشرع، بأنه صيد، فالجاموس مثلًا أُخبرت بأنه في بعض البلاد مستأنس وفي بعضها متوحش يخرج الناس لاصطياده في البر.
قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} النهي في قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} لئلا يَجُرَّ طلب الصيد المحرم عن نسكه، فينشغل القلب؛ لأنه لا أشد من لهو الصيود، والإنسان المبتلى باللهو بالصيد لا يقر له قرار حتى يتابع الصيد، ولهذا نسمع عن أهل الصيد أن الواحد منهم يتعب بالخروج إلى البر لطلب الصيد، ويلحقه الظمأ والجوع والشوك وحرارة الأرض وبرودة الشتاء، ولكنه لا يبالي؛ لأن قلبه مشغول، وإذا كان الله تعالى قال {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]؛ لئلا ينشغل الحاج، فانشغاله بالصيود أشد لهوًا.
قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} الجملة شرطية، "مَنْ" اسم شرط، وأسماء الشرط تفيد العموم، يعني: أي إنسان قَتَلَهُ مِنْكُمْ أيها المؤمنون متعمدًا لقتله في حال إحرامه أو في حال كونه حرامًا، فعليه جزاء مثل ما قتل من
النعم، وعلى هذا فقوله:{فَجَزَاءٌ} مبتدأ، وخبره محذوف والتقدير:"فعليه جزاؤه" أي: عليه جزاءٌ يجزي به عما قتل، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
و{مِثْلُ} عطف بيان لقوله: {فَجَزَاءٌ} ، ولا يمكن أن نجعلها نعتًا؛ لأن (مثلُ) معرفة حيث أضيفت إلى اسم الموصول، و"جزاءٌ" نكرة، ولا تنعت النكرة بالمعرفة ولكن نجعلها عطف بيان، وعطف البيان قريب من الصفة، لكن لا يشترط فيه ما يشترط في النعت.
وقوله: {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يعني: يكون مماثلًا له، والمراد بالمماثلة هنا: المقاربة في الخلقة؛ لأن التماثل بين الصيد وبين النعم مستحيل، أعني التماثل من كل وجه؛ لكن المراد بذلك التقارب في الخلقة.
وقوله: {مِنَ النَّعَمِ} هي ثلاثة أشياء: الإبل والبقر والغنم وتسمى بهيمة الأنعام.
قوله: {يَحْكُمُ بِهِ} أي: بهذا الجزاء، أو بهذا المثل:{ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ذوا: مثنى وهي مضافة إلى عدل، أي: صاحبا عدل منكم، والعدالة: هي الاستقامة في الدين والمروءة، فمعنى {ذَوَا عَدْلٍ} أي: ذوا استقامة في الدين والمروءة.
أما في الدين: ففسرها الفقهاء رحمهم الله بأن يأتي بالفرائض، وأن لا يفعل كبيرة ولا يصر على صغيرة، هذه الاستقامة في الدين.
الاستقامة في المروءة: أن لا يفعل ما يشينه عند الناس وأن يفعل ما يجمله عندهم، يعني يفعل الجميل ويدع المشين، وهذا
الأخير يختلف باختلاف الأحوال والبلدان والأزمان، قد يكون فعل شيء في بلد لا يخرم المروءة، وقد يكون في بلد آخر يخرم المروءة، والعبرة بأعراف الناس المستقيمة لا عبرة للهمج الذين حق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم-صلى الله عليه وسلم:"إِن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إِذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"
(1)
، المراد: ذوو المروءة الحميدة.
قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} : الخطاب للمؤمنين، فلا بد أن يكون الحَكم من المؤمنين، ويحتمل أن يكون الخطاب للصحابة رضي الله عنهم، فيرجع في ذلك إلى حكمهم، وسيذكر هذا في الفوائد إن شاء الله.
قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} : "هديًا" حال يعني حال كون هذا الجزاء هديًا، {بَالِغَ الْكَعْبَةِ}: أي: واصلًا إلى الحرم، وليس المراد إلى جوف الكعبة بإجماع المسلمين.
قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} "أو" هنا للتخيير، وكلما جاءت "أَو" في كتاب الله فهي للتخيير، وإن شرط الترتيب فإن الله يبيّنه عز وجل.
وقوله: {طَعَامُ مَسَاكِينَ} بيان للكفارة أنها طعام مساكين، وفي قراءةٍ {كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} بالإضافة، والكفارة: مأخوذة من الكَفْر بمعنى الستر، وهي الفدية التي تستر الذنب حتى لا يكون له أثر على الإنسان، لا في قلبه ولا في وجهه ولا في قومه.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت، حديث رقم (5769) عن أبي مسعود.
وقوله: {مَسَاكِينَ} المساكين: جمع مِسكين والمراد به الفقير، ويقال: فقير والمراد به المسكين؛ وذلك أن الفقير والمسكين من الكلمات التي إذا اجتمعت تفارقت وإذا تفارقت اجتمعت، أي: أنه إذا ذكر أحدها شمل الآخر، وإن اجتمعا فسر كل واحد منها بمعنى، فمثلًا هنا المسكين هو الفقير، وفي قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] المساكين غير الفقراء.
وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} ولم يبيّن الله عز وجل أن الطعام مماثل للصيد؛ وذلك لتعذر المماثلة؛ لأن الطعام إما بر أو شعير أو تمر أو ما أشبه ذلك، فلا يمكن أن يماثل الحمامة أو النعامة أو الظبي أو ما أشبه ذلك، بخلاف ما إذا كان من النعم فإنه يمكن أن يماثله، ولم يبيّن الله عز وجل مقدار هذا الطعام وسيأتي إن شاء الله بيانه في الفوائد.
قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} عدل أي: معادل {ذَلِكَ} اسم إشارة، والإشارة تكون إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور الطعام، فيكون المعنى: أو عدل الطعام صيامًا.
قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} {لِيَذُوقَ} : "اللام" هنا للتعليل، و"يذوق" فعل مضارع فاعله مستتر جوازًا تقديره هو؛ لأنه يعود على "من" في قوله:{وَمَنْ قَتَلَهُ} و"من": اسم موصول لفظه مفرد، ومعناه صالحٌ للمفرد والجمع، ويبين ذلك الضمير الذي يرجع إليه.
وعليه فنقول: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} واحد أو جماعة؟ واحد.
وقوله: {لِيَذُوقَ} أي: القاتل {وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: عاقبة أمره الثقيلة؛ لأن الوبال أصله الشيء الثقيل، والمراد به هنا: العاقبة الثقيلة؛ لأن من المعلوم أن الإنسان إذا ألزم بهذا الجزاء وهو مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا، فإن ذلك يشق عليه حسب حاله.
وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: وبال شأنه وحاله.
وقوله: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ} -الحمد لله-، {عَفَا اللهُ} أي: تجاوز ومحاه، {عَمَّا سَلَفَ}: يعني من قتلكم الصيد؛ لأنه كان قبل التحريم، فلا يؤاخذ به العبد، وهذا نظير قول الله تبارك وتعالى فيمن ماتوا قبل تغيير القبلة وكانوا يصلون إلى بيت المقدس، فقال الله تعالى في حقهم:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
وقوله: {وَمَنْ عَادَ} أى: من عاد بعد أن تبيّن له الحكم.
قوله: {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} أي: فإن الله ينتقم منه، والانتقام الأخذ بالعقوبة، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي: ذو عزة، والعزة هي القهر والغلبة، والانتقام هو أخذ الجاني بما فعل، و"ذو" في قوله:{ذُو انْتِقَامٍ} خبر ثاني للفظ الجلالة، والخبر الأول {عَزِيزٌ} .
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: تحريم قتل الصيد حال الإحرام أو في الحرم؛ لقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} .
الفائدة الثانية: أن قتله منافٍ لكمال الإيمان، وجه ذلك: أن الله تعالى وجه الخطاب بهذا النهي إلى المؤمنين.
الفائدة الثالثة: أن امتثال ذلك، أي: اجتناب قتل الصيد، من مقتضيات الإيمان.
الفائدة الرابعة: أن تركه: أي: ترك قتل الصيد يزيد في الإيمان؛ لأنه إذا كان قتله يُنقّص الإيمان فترك قتله يزيد فيه، وهنا نقول: من ترك المعصية هل يثاب عليها ويزداد بها إيمانًا؟
الجواب: لا بد من تفصيله على النحو التالي:
الأول: أن يتركها لله عز وجل، بعد أن هَمَّ بها أو زُيّنت له بوساوس شياطين الإنس أو الجن، تركها لله فهذا يثاب عليها؛ لأنه تركها لله عز وجل، وإخلاصه لله بتركها طاعة يثاب عليها.
القسم الثاني: أن يتركها رغبة عنها، لا لله ولا لعجزه عنها، فهذا لا له ولا عليه، كإنسان هم بمعصية وتأهب لها ولكنه تركها تنازلًا، لماذا؟ قال: والله لقد ملَّت نفسي، لا أريد، فهذا لا له ولا عليه، لا له؛ لأنه لم يحدث إخلاصًا، ولا عليه؛ لأنه لم يفعلها.
الثالث: من أراد المعصية وسعى لها سعيها، لكنه عجز عنها فهذا يكتب له مثل وزر فاعلها، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه"
(1)
. هذه أقسام ترك المحرم.
(1)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، حديث رقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم (2888) عن أبي بكرة.
الفائدة الخامسة: أن ما صاده المحرم ميتة لا يحل أكله لا له ولا لغيره، سواء قتله بالسهم، أو أمسكه وذبحه فإنه ميتة، وجه الدلالة: أن الله عبر عن صيده بقتله، ومعلوم أن القتل ليس ذكاةً، فيدل هذا على أن ما قتله المحرم من الصيود فهو ميتة، هذا ما قتله المحرم، لكن ما صاده المحل فهل يحرم على المحرم؟
الجواب: الصحيح أن في هذا تفصيل وأنه إن صاده للمحرم فهو حرام على المحرم، وإن صاده لنفسه أو لغيره من غير المحرمين فهو حلال للمحرم، وعلى هذا تدل الأدلة، ففي حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان في غزوة الحديبية غير محرم، فرأى حمارًا وحشيًّا فطلب من أصحابه أن يناولوه الرمح فأبوا عليه، ثم صاد الحمار وجاء به إليهم فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم محرمون
(1)
؛ لكنه لم يصده لهم وإنما صاده لنفسه، ويهدي إلى من شاء، وهذا ظاهر أنه لم يرده لهم؛ لأنه لما طلب منهم الرمح أبوا عليه، ومقتضى الطبيعة أن مثل هذه القضية لا يمكن أن يريده لهم وهم الذين منعوا أن يساعدوه.
أما الثاني: وهو إذا صِيد الصيدُ للمحرم، فدليله حديث الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه نزل به النبي صلى الله عليه وسلم كل ضيفًا، وكان رجلًا راميًا وسباقًا، فأخذ الرمح وذهب يصيد، فجاء بحمار وحشي، فرده النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فلما رأى ما في وجهه قال له:"إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم"
(2)
يعني محرمين.
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
…
} [المائدة: 95]، حديث رقم (1725)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، حديث رقم (1196) عن أبي قتادة.
(2)
رواه البخاري أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب إذا أهدي للمحرم =
الأول: حديث أبي قتادة أحله النبي صلى الله عليه وسلم لهم، والثاني: امتنع منه؛ لأن الصعب إنما صاده لأجل النبي صلى الله عليه وسلم إكرامًا له؛ لأنه ضيفه، ويؤيد هذا التفصيل حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صيد البر حلالًا لكم -يعني المحرمين- ما لم تصيدوه أو يصد لكم"
(1)
.
لو قال قائل: ما صيد للمحرم حرامٌ عليه، لكن هل يحرم على غيره، من المحرمين أو المحلين؟
الجواب: لا؛ لأن الذي صاده حلال، وصيد الحلال حلال، فلو صاد الإنسان صيدًا ولنقل صاد غزالًا وهو محل يريد أن يهديها لآخر محرم، فهي حرام على المحرم، لكن يوجد أناس محرمون آخرون تحل لهم وتحل للمحلّين من باب أولى.
الفائدة السادسة: أن اصطياد المحرم يعني أن ما صاده المحرم فهو حرام لقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ} .
الفائدة السابعة: أن الجزاء إنما يلزم المتعمد، لقوله:{مُتَعَمِّدًا} ، فلو أخطأ بأن رمى شجرة وإذا فوقها صيد فأصابه، فوقع الصيد فليس عليه جزاء؛ لأنه ليس متعمدًا، وإذا لم يكن متعمدًا فإن مفهوم الآية الكريمة {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ}: فإنه لا جزاء عليه.
= حمارًا وحشيًّا حيا لم يقبل، حديث رقم (1729)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، حديث رقم (1193) عن الصعب بن جثامة.
(1)
رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب أكل الصيد للمحرم، حديث رقم (846)، وأحمد (6/ 362)(14937) عن جابر بن عبد الله.
لو قال قائل: لو كان ناسيًا أنه محرم أو ناسيًا أن قَتْلَ الصيد حرام فَقَتَلَ الصيد فهل عليه جزاء؟
الجواب: لا؛ ليس عليه جزاء؛ لأنه ناسي، وقد قيد الله ذلك بقوله:{مُتَعَمِّدًا} ، ويدل لهذا عمومات الأدلة الدالة على أن الجاهل والناسي ليس عليهما إثم ولا فدية ولا كفارة، كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقال الله: قد فعلت، وكما في قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5].
وهذه القاعدة أنه لا مؤاخذة مع الجهل والنسيان وكذلك الإكراه، قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية، ولا يجوز أن نخرج منها أي شيء إلا بدليل، وهذا الذي قررناه هو الصواب الذي تدل عليه الأدلة العامة والخاصة.
وقال بعض أهل العلم: إن المخطئ والناسي يرتفع عنه الإثم ولكن عليه الجزاء، وعللوا ذلك بتعليل عليل.
أولًا: لقضاء بعض الصحابة رضي الله عنهم في النعامة بدنة، وفي الحمامة شاة، وما أشبه ذلك، ولم يستفصلوا.
ثانيًا: أن ما سبيله الإتلاف يستوي فيه العلم والذكر وضدهما، بدليل: أن الإنسان لو أتلف مالًا لشخص يظنه مال نفسه، فهل عليه الضمان أو لا؟ عليه ضمانه لا شك، وكذلك لو أتلفه ناسيًا، فعليه ضمانه، لا إشكال في هذا، ولكن هذا التعليل عليل.
أما الأول: وهو قضاء بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولم
يستفصلوا، فالصحابة إنما بيّنوا الواجب، يعني الواجب في قتل الصيد بقطع النظر هل على هذا القاتل جزاء أم لا؟ لأن هذا يحتاج إلى تحرير وإلى سؤال مناقشة، هل هو عالم؟ ، أو جاهل؟ ، أو ذاكر؟ ، أو ناسي؟ وحينئذٍ لا دليل فيما أطلقه الصحابة، إنما يريدون بيان الواجب فقط.
وأما الثاني: وهو أن الإتلاف يستوي فيه العمد والسهو والجهل، فهذا حق لكنه في حق الآدمي الذي حقه مبنيٌ على المشاحة ولئلا يتلاعب الناس بالحقوق؛ لأننا لو قلنا: إن من أتلف مال شخصٍ جاهلًا ليس عليه ضمان لتلاعب الناس بعضهم ببعض، وصار هذا يتلف مال هذا ويحرق مال هذا، ويقول: أنا ما دريت وما علمت، ولحصل بسبب هذا ضرر عظيم، فصار تضمين من أتلف مال آدمي جاهلًا أو ناسيًا؛ لأن حق الآدمي مبني على المشاحة هذه واحدة؛ ولأننا لو لم نُضمِّنه لكان في ذلك فتح لأكل أموال الناس بالباطل، ونهب الناس بعضهم أموال بعض، أما حق الله عز وجل فهو مبني على المسامحة والمياسرة، والدين يسر، فافترقا.
إذًا: الصواب أن من قتل صيدًا جاهلًا أو ناسيًا أو مخطئًا فليس عليه جزاء، أما الصيد نفسه فهو ميتة لا يؤكل؛ لكن الكلام عن الجزاء.
الفائدة الثامنة: تعظيم الإحرام وتعظيم الحرم، أما تعظيم الإحرام: فإن منع المحرم من الصيد يعني احترام النسك وعدم اللهو وعدم الترف؛ لأنه لو أبيح للمحرم أن يصطاد لتلهى عن النسك، ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، كل هذا لأجل أن يتفرغ الإنسان قلبًا وقالبًا لما هو متلبس به من النسك.
وأما حرم مكة فظاهر أيضًا أن في الآية دليلًا على تعظيمه وحرمته؛ لأن الحرم آمن كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وقال عز وجل: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: 3]، هذا البلد آمِن فيه الآدميون والحيوان والأشجار؛ ولذلك يحرم صيده ويحرم قطع شجره إلا الميت ويحرم القتال فيه، كما قال عز وجل:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن عام فتح مكة أنه لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، وأجاب عليه الصلاة والسلام عن كونه استحلها بأنها إنما أحلت له ساعة من نهار
(1)
؛ لأن إحلالها يتضمن مصلحة كبرى أعظم من انتهاك حرمتها في تلك الساعة؛ ولأنه يؤدي إلى احترامها؛ لأن هناك فرقًا بين أن تكون بلاد كفر أو بلاد إسلام، ولا طريق لكونها بلاد إسلام في ذلك الوقت إلا بالقتال، فالقتال أحل للضرورة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"
(2)
،
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب لا ينفر صيد الحرم، حديث رقم (1736)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها، حديث رقم (1355) عن أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب لا يعضد شجر الحرم، حديث رقم (1735)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها، حديث رقم (1354) عن أبي شريح.
وقال: "إن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم"
(1)
، جواب سديد، ولله تبارك وتعالى أن يأذن لمن شاء من خلقه.
الفائدة التاسعة: أن الواجب في قتل الصيد يعني في جزائه، واحد من أمور ثلاثة: إما المثل وإما إطعام مساكين وإما صيام يعادل ذلك، على التخيير أو على الترتيب؟ على التخيير، وكلما وجدت "أو" في القرآن فهي على التخيير، كقوله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [لبقرة: 196]، وكقوله تعالى في كفارة اليمين:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
في هذه الآية جزاء مثل ما قتل أو {كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، فهو للتخيير.
فيخيّر الإنسان الذي قتل الصيد بين أن يهدي مثله إلى الحرم -وسيأتي كيف يعرف المثل- أو كفارة طعام مساكين، ولم يذكر الله تبارك وتعالى مقدار هذا الطعام، فهل نقول في قوله:{كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} : إن أقل الجمع ثلاثة، وأنه لو أطعم ثلاثة مساكين كفى، أو نقول: ما دامت المسألة معادلة فلا بد أن يكون هذا الإطعام معادلًا إما للصيد نفسه وإما لمثل الصيد؟
الاحتمال الأول: وهو أن يكون طعام ثلاثة مساكين، هذا غير صحيح.
بقي عندنا أن يعادل بالصيد أو بمثل الصيد، هذا اختلف فيه العلماء، فقيل: إنه يقوّم الصيد بما يساوي من طعام ثم يطعم هذا
(1)
تقدم وهو جزء من الحديث السابق.
الطعام للمساكين، وقيل: إنه يقوّم المثل ويشترى بقيمته طعامٌ يطعم المساكين، لكن أيهما أحظ للفقراء؟ يختلف، أحيانًا يقوّم المثل، فيكون المثل أغلى، وأحيانًا يكون الصيد أغلى، النعامة مثلًا كم تساوي؟ أحيانًا ترتفع قيمتها حتى تكون قيمتها أكثر من قيمة البدنة عشر مرات، وأحيانًا تكون رخيصة وقيمة البدنة أكثر منها.
فالعلماء رحمهم الله منهم من جنح إلى أن الذي يقوّم الصيد، ومنهم من قال: بل الذي يقوّم المثل، ولو ذهب ذاهب وقال: إنه يُنظر الأحظ للمساكين، فإن كان الأحظ تقويم المثل قوّمناه، وإن كان الأحظ تقويم الصيد قوَّمناه، لو ذهب ذاهب هذا المذهب لكان مذهبًا جيدًا، قياسًا على قيمة عروض التجارة في الزكاة تقوّم بالدراهم أو بالدنانير؟ إذا كانت تبلغ النصاب بالذهب ولا تبلغه بالفضة، أو بالعكس بماذا نقومها؟ بالأحظ للفقراء، إن كان الأحظ أن تقوّم بالدنانير قومناها بالدنانير، وإن كان الأحظ أن تقوّم بالدراهم قومناها بالدراهم.
فلو قيل في هذه المسألة: إنه ينظر إلى الأحظ للمساكين؛ لأن الطعام طعامهم، فما كان أحظ عمل به، لكان له وجه، ولكن هذا الوجه يقابله وجه آخر وهو أن الأصل براءة الذمة، فلا نكلف القاتل أكثر مما يجب عليه، وعلى هذا التقدير يُنظر للأقل، إن كان تقويم الصيد أقل أخذ به، وإن كان تقويم المثل أقل أخذ به، فالآية عندي محتملة، والإنسان نرجو إذا أخذ بهذا لا يأثم وبهذا لا يأثم.
تقدم في قواعد التفسير:
أولًا: من أين تأخذ التفسير.
ثانيًا: النسخ وقد تقدم.
ثالثًا: المكي والمدني.
المكي والمدني: نسبة إلى مكة وإلى المدينة، لكن قد يتبادر إلى الذهن أن المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة، ولكن المشهور عند أهل العلم أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وأن المدني ما نزل بعد الهجرة، حتى لو كان في مكة، هذا الذي عليه الجمهور، وهو أضبط من أن نقول: المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة؛ لأن هناك قسمًا ثالثًا وهو: أن بعض الآيات نزلت في السفر لا في مكة ولا في المدينة، وأيضًا: انضباط هذا صعب، أي: أن نقول هذه الآية نزلت في مكة، وهذه الآية نزلت في المدينة، ووجه صعوبته أنَّ ترتيب القرآن الكريم ليس على حسب النزول، وإذا لم يكن على حسب النزول صعب التمييز، فما ذهب إليه الجمهور هو الصواب، أن المكي ما نزل قبل الهجرة ولو نزل في المدينة أو في أي مكان.
وقولنا: "ولو نزل في أي مكان" هذا على فرض، وإلا من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذهب إلى المدينة إلا بعد الهجرة، وأن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة أو أي مكان.
ثانيًا: نرى بعض الأحيان أن بعض العلماء رحمهم الله يقول: هذه السورة مكية إلا آية كذا وكذا، هذه السورة مدنية إلا آية كذا وكذا، وهذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، أما مجرد أنه اشتهر فهذا لا يقبل، لأنه مرسل، إذ لا بد من سند من الراوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فلا يقبل.
فالأصل أن جميع آيات السور المكية مكية، وأن آيات السور المدنية مدنية، إلا أن يكون هناك دليل صريح فحينئذٍ نوافق عليه، ثم إن الغالب في الآيات المكية التحدث عن التوحيد وعن البعث؛ لأن المقام يقتضيه، فقد نزل بين قوم ينكرون التوحيد وينكرون البعث، ولهذا نجد في الآيات المكية أكثر ما يكون التحدث عن التوحيد، لكن في الآيات المدنية أكثر ما يكون في فروع الدين والمعاملات وما أشبه ذلك؛ لأن الناس قد ثبت ورسخ في قلوبهم التوحيد والإيمان بالبعث، وبقية شرائع الإسلام الأخرى، فنجد السور المدنية تتحدث عن هذا.
هناك أيضًا أمر آخر وهو: أننا نجد أن قصة موسى عليه الصلاة والسلام تكررت كثيرًا في القرآن أكثر من غيرها، على وجه الاختصار أحيانًا وعلى وجه البسط أحيانًا؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام عَلِمَ الله عز وجل أنه سوف يرتحل إلى المدينة، والمدينة فيها أُناس من اليهود، واليهود أهل كبر وغطرسة، فكان من الحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عن قصة موسى جملة وتفصيلًا بسطًا واختصارًا، حتى يكون على أهبة الاستعداد لما سيواجه من هؤلاء اليهود، وحتى يكون ما ذكر في القرآن الكريم مطابقًا تمامًا لما جاء في صحيح التوراة، فيشهد علماء بني إسرائيل على أن القرآن حق، كما قال عز وجل:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)} [الشعراء: 197].
أيضًا: جميع الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم كلهم من الجزيرة وما حولها؛ لأن هذا هو الذي يعرفه العرب ويتداولونه، أما ما في المناطق والقارات الأخرى فإنه لم يأتِ
عنهم ذكر على وجه التفصيل، لكننّا نعلم أن الله قد بعث إليهم رسولًا، كما قال عز وجل:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، لكن الله لم يقصهم علينا؛ لأنه قصّ علينا ما كان الناس يعرفونه ويتداولونه، حتى يميز الصحيح من غير الصحيح، وحتى تكون الأخبار المتداولة مؤيدة لما في القرآن، والقرآن مؤيد لها.
أيضًا: بالنسبة لما يهمنا من العلم بالمكي والمدني، هو أن نعرف أن البلاغة تقتضي مخاطبة الناس بما تقتضيه أحوالهم، ففي المكي نجد الآيات شديدة قوية؛ لأنها تصادم أناسًا أشداء أقوياء بلغاء فصحاء، ونجد الآيات المدنية في غالبها سهلة لينة؛ لأنها تخاطب أناسًا قد رسخ في قلوبهم الإيمان ولا يحتاجون إلى شدة، وهذا ظاهر، اقرأ سورة القمر تجد كيف كانت آياتها عظيمة تزلزل القلب في الواقع لمن تاملها جيدًا؛ لأنها تتحدث بين قوم عتاة مستكبرين، فكانت الآيات مناسبة تمامًا لمقتضى الحال، وهذا هو غاية البلاغة.
أما هل تنسخ الآيات المكية بالآيات المدنية؟ نعم قد تنسخ؛ وقد قررنا أن المدني ما نزل بعد الهجرة، إذا كان فيه حكم مخالف لما في الآيات المكية ولم يمكن الجمع، قلنا: إن السور المدنية ناسخة للسور المكية، والله أعلم.
لكن بماذا تكون المماثلة هل هي بالحجم أو بالشبه أو بماذا؟
المماثلة تكون بالشبه ولكن لا تلزم المطابقة، حتى إن العلماء قالوا رحمهم الله بل الصحابة رضي الله عنهم قالوا: إن الحمامة فيها شاة، لكن في أي شيء تشبه الحمامة الشاة وكيف
تكون مثلها الحمامة تطير والشاة لا تطير، الشاة تختلف عن الحمامة بأنها ذات أربع أرجل والحمامة ذات رجلين؟ وجه المماثلة بينهما أنها تشبه الحمامة في الشرب، أي: شرب الماء، فالحمامة تعُب الماء، والشاة تعُب الماء، يعني هي لا تشرب جرعة جرعة، الآن نجد الدجاجة مثلًا لا تعب الماء بل تشرب جرعة جرعة، فالمماثلة نجدها أحيانًا في شيء يسير.
فإن قال قائل: قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، هل هذا يختلف باختلاف الزمان؟ بمعنى أن نجعل في كل سنة حكامًا يحكمون بالمثل، أم ماذا؟
نقول: إن العلماء رحمهم الله قالوا: ما حكمت به الصحابة فإنه لا يغير؛ لأن الصحابة أقرب إلى فهم القرآن الكريم من غيرهم؛ ولأنهم يعيشون في الجزيرة ويعرفون المشابهة، فقولهم أحق بالاتباع من غيرهم، وعلى هذا فما قضت به الصحابة لا يغير، حتى لو جاء متحذلق وقال: هذا الجزاء ليس مثل الصيد فإننا لا نقبله مهما بلغ في الطب ومهما بلغ في الخبرة، وما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام من باب أولى، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل في الضبع شاة، وعليه فتكون الشاة مماثلةً للضبع، ويستدل بهذا الحديث على أن الضبع حلال وأنها من الصيد، وبهذا استدل الإمام أحمد رحمه الله على حل الضبع، وأما ما لم تحكم به الصحابة فهل يرد إلى أقرب شيء حكمت به الصحابة، ونقول مثلًا: إذا كان هذا الصيد الذي لم تحكم به الصحابة مماثلًا للصيد الذي حكمت به الصحابة أو مقاربًا له جعلنا فيه ما حكمت به الصحابة، أو نستأنف حكمًا جديدًا؟
الصواب الأول؛ لأن ما يشبه ما قضت به الصحابة يكون مقيسًا عليه، والقياس أولى من الحكم المتجدد؛ لأنه قد يتجدد حكم يخالف تمامًا ما قضت به الصحابة، أما ما لم يشبه ما قضت به الصحابة فإنه يرجع فيه إلى قوله:(شاهدين) أي: حَكَمين، {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، لكن ماذا يستلزم الحكم؟ يستلزم الخبرة، بأن يكون الحكمان ممن لهما خبرة بمعرفة الصيود وما يقاربها أو يشابهها من النعم هذا الأول.
والثاني: الأمانة، بأن يكون عندهما أمانة بحيث لا يحكمونها لشخص بهذا المثل ولشخص آخر بخلافه، لا بد أن يكونا أمناء خبراء؛ وذلك بناء على القاعدة المعروفة التي دل عليها قول الله تعالى:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، {الْقَوِيُّ}: يعني ذا الخبرة أو القوي على العمل، وقوة كل شيء بحسبه، وقال الجني لسليمان، أي: عفريت من الجن قال له: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} أي: بعرش ملكة سبأ {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]، فهذان الركنان في كل عمل: القوة والأمانة.
الفائدة العاشرة: أنه لا بد من العدالة في الحكمين؛ لقوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، والأمانة التي ذكرناها هي جزء من العدالة.
فإن قال قائل: وهل يصح أن يكون القاتل أحدهما، أي: أحد الحكمين، مثل أن يكون هذا القاتل عنده خبرة وعنده علم، وقال: أرى أن هذا الصيد مماثل لهذا النوع من النعم، فهل يقبل قوله مع واحد آخر؟
فيه خلاف، لكن لا بد من توبته، أما إذا لم يتب فمن المعلوم أنه ليس من ذوي العدالة فلا يقبل، ولكن إذا علمنا أن الرجل ندم وتأسف وتاب إلى الله وقال: أنا عندي معرفة، فمن العلماء من قال: يقبل قوله، ومنهم من قال: لا يقبل قوله؛ لأنه متهم، فهو في الحقيقة يحكم لنفسه فلا يقبل.
الفائدة الحادية عشرة: أن جزاء الصيد لا بد أن يصل إلى الحرم؛ لقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ، فلو قدر أن إنسانًا أحرم من ذي الحليفة وقتل صيدًا في بدر، فإنه يجب عليه أن يجزي هذا الصيد في مكة ولا بد، بخلاف غيره من المحظورات، فإن غيره من المحظورات غير جزاء الصيد يكون في المكان الذي حصل فيه فعل المحظور، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة أن يفدي عن حلق رأسه في مكانه ليس في مكة
(1)
، وعلى هذا فيقال: جميع محظورات الإحرام يجوز أن يفدي عنها في مكانه، إلا الصيد فإنه يجب أن يكون في مكة، ولو كان قتله خارج الحرم.
فإن قال قائل: وهل يجوز أن ننقل فدية غير جزاء الصيد إلى مكة؟
قال العلماء رحمهم الله: إنه يجوز أن ينقل إلى مكة؛ لأن هذه الفدية إنما وجبت لشيء يتعلق بالإحرام، ومنتهى الإحرام
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب قول الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]، حديث رقم (4245)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى
…
، حديث رقم (1201) عن كعب بن عجرة.
مكة، فيجوز أن يؤخر الفدية إلى الوصول إلى مكة، وليست كالزكاة تفرق في مكانها، ثم إن الغالب أن إيصاله إلى مكة أشق على الإنسان مما لو فداه في مكانه، وهذا صحيح، يعني معناه من وجبت عليه فدية محظور فله أن يفديها في مكانه، وله أن ينقلها إلى مكان آخر.
الفائدة الثانية عشرة: أن للإنسان أن يعدل عن جزاء الصيد من النعم إلى الكفارة بإطعام المساكين، لقوله:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} ، وهل له ذلك على التخيير أو على الترتيب؟ على التخيير؛ لأن "أو" كلما جاءت في القرآن في الأحكام الشرعية فهي للتخيير.
الفائدة الثالثة عشرة: أن الفداء كفارة للذنب وستر له في الدنيا وفي الآخرة، لقوله:{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} .
الفائدة الرابعة عشرة: أن هؤلاء المساكين لا يحصرون بعدد معين بل له أن يطعم ثلاثة أو عشرة أو عشرين أو ثلاثين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق "كفارة طعام مساكين" وأقلهم ثلاثة.
الفائدة الخامسة عشرة: أن للإنسان أن ينتقل في جزاء الصيد عن المثل وعن الإطعام إلى الصيام، لقوله:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ، ولكن كيف المعادلة؟
قيل: المعادلة أن يصوم عن كل نصف صاع يومًا، واستدل هؤلاء العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل نصف الصاع يعادل لما ذكر في فدية الأذى، قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه: صُم ثلاثة أيام، بدل إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
وقال بعض أهل العلم: بل يقدر الطعام ثم يوزع على كل مسكين مُد، لكن إذا كان الطعام كثيرًا لزم أن تكون أيام الصيام كثيرة، إذا قدرنا مثلًا أن الطعام قدر بخمسين صاعًا، وقلنا: المسكين يطعم بمُد، ستكون مائتي يوم، لكنَّ بعض أهل العلم قال: إنه لا يتجاوز بالصيام ستين يومًا؛ لأن أعلى ما ورد في الكفارة بالصيام شهران، وهي ستون يومًا، أما أن نلزمه بأن يصوم ستة أشهر أو ما أشبه ذلك فهذا يحتاج إلى دليل، فنقول: إننا نقدر الصيام ولكننا لا نتجاوز أكثر الكفارات وهي ستون يومًا، والمسألة لم تنضج عندي كثيرًا.
الفائدة السادسة عشرة: جواز التعزير بالمال؛ لأن هذا القاتل أُلزم بهذه الفدية ليذوق وبال أمره، فهو نوع من التعزير، وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، فمنهم من قال: إنه لا تعزير بالمال إلا ما جاءت به الشريعة فقط، ولا يتجاوز، فالغال من الغنيمة مثلًا يحرق رحله كله إلا السلاح، وكاتم الضالة تضاعف عليه العقوبة، فما ورد به النص أخذنا به، وما لم يرد به النص فإننا لا نعزر بالمال؛ لأن المال إذا عزرنا به فقد أخذنا أموال الناس بغير حق، وأموال الناس محترمة، ولكنَّ الصواب المقطوع به بلا شك، أنه يجوز التعزير بالمال.
فإننا نقول: ألستم تجيزون أن نعزر بالضرب؟
الجواب: بلى، وهل الضرب محرم أو غير محرم في الأصل؟ محرم، فليس التعزير بالمال أشد من التعزير بالضرب، قد تكون إهانة الإنسان بضربه أمام الناس أشد عليه من آلاف الريالات، فالصواب أنه يجوز التعزير بالمال ويجوز التعزير
بالضرب ويجوز بالحبس ويجوز بعزله عن وظيفته، ويجوز بتخجيله بين الناس؛ لأن المقصود هو تأديبه، لكن لا يجوز التعزير بقطع عضو من أعضائه، هذا حرام لا يجوز؛ لأن قطع العضو لا يستخلف وهو جناية على النفس واضحة.
الفائدة السابعة عشرة: سعة عفو الله عز وجل، لقوله:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} .
الفائدة الثامنة عشرة: أن من فعل محظورًا قبل العلم بالشرع فإنه لا إثم عليه ولا كفارة ولا جزاء، هل يمكن أن نأخذ هذه الفائدة من الآية أو لا يمكن؟ ننظر، قال تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} ، "ما سلف" فَعَلَهُ الصحابة قبل نزول حكمه، فهو أصلًا لم يحرم، وأما إذا كان الإنسان جاهلًا فقد فعلة بعد نزول حكمه ويكون هذا المانع من العلم خاصًّا به، فبينهما فرق، يعني: هناك فرق بين شخص فعل محظورًا لم يحرم، وشخص آخر فعل محظورًا قد حرم ولكنه جاهل، فالصورتان لا شك أنهما مفترقتان، لكن يقال: لماذا عفا الله عنه؟ للجهل لا شك؛ لأن الحكم لم ينزل.
فالصواب: أن جميع الشرائع لا تلزم مع الجهل، لكن ربما يكون الإنسان قد فرط وقصر في الطلب، بمعنى أنه قيل له: إن هذا واجب أو إن هذا حرام وقصر في طلب الحق، وصار كما يقول العوام الذين يستدلون بالقرآن إذا كان موافقًا لهواهم:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وهذا تنزيل للقرآن في غير محله، فالصحيح على كل حال أن الجاهل معذور لا يأثم، ولا تلزمه كفارة ولا غير ذلك.
فإن قال قائل: ينتقض هذا عليكم بقصة ذلك الرجل الذي جامع زوجته في رمضان
(1)
، وأتى يستفتي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدري ماذا عليه؟
الجواب: أن الرجل ليس جاهلًا، الرجل عالم بالحكم، لكنه جاهل بما يترتب على الحكم، والجهل بما يترتب على الحكم ليس بعذر؛ لأن الفاعل قد انتهك المحظور عن علم فليس له عذر، وعليه فيفرق بين الجهل بالحكم والجهل بما يترتب على الحكم.
ومثل ذلك لو أن رجلًا يعلم أن الزنا حرام فزنا وهو ثيب، فحده الرجم، فقال: أمسكوا، لو علم أن حده الرجم ما زنا، فنقول: لا نمسك؛ لأن الجهل بما يترتب ليس بعذر، أنت الآن فعلت الزنا معتقدًا أنه حرام وتعلم أنه حرام، فلا عذر لك.
ولهذا لو سألك سائل، قال: ما تقول فيمن زنا وهو جاهل أتقيم عليه الحد أم لا؟ إن قلت: لا، أخطأت، وإن قلت: نعم، أخطأت، فأقول: إن كان جاهلًا بالحكم فلا يقام عليه الحد، وإن كان جاهلًا بالعقوبة أقيم عليه الحد.
لو قال قائل: ذكرتم أن الجاهل يعذر ألا يشكل على هذا قصة أسامة رضي الله عنه لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، قتله إما جاهلًا وإما مجتهدًا ومخطأ، ومع ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، نرجو الجواب عن هذا؟
(1)
رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، حديث رقم (1834)، ومسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم
…
، حديث رقم (1111) عن أبي هريرة.
الجواب: أسامة رضي الله عنه متأول، وأما غضب النبي عليه الصلاة والسلام فلأن مسألة القتل مسألة خطيرة، أليس المخطئ عليه الكفارة؟
الجواب: بلى، فالقتل له شأن خاص، لكن لو قيل: هل غضب النبي صلى الله عليه وسلم تأديبًا أم تحذيرًا؟
الجواب: تحذيرًا، وإلا لقتله؛ لأنه قتل نفسًا معصومة، هذا الرجل لما قال: لا إله إلا الله، عصم دمه حتى يتبين خلاف ما قال، ولذلك الآن في حرب الأفغان مع الروس بعضهم إذا أدركه المقاتلون يقول: أشهد أن لا إله إلا الله.
الفائدة التاسعة عشرة: إثبات العفو لله عز وجل، ومن أسمائه تعالى العَفُو، وفي الدعاء المأثور الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين سألته: أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ - قال: قولي: "اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني"
(1)
تحب العفو منك لعبادك والعفو من عبادك لإخوانهم فاعفُ عني، فما هو العفو؟
العفو: هو عدم المؤاخذة على الذنب، والأكثر أن العفو في ترك الواجب والمغفرة في فعل المحرم.
الفائدة العشرون: تهديد من عاد إلى قتل الصيد بعد علمه، لقوله تعالى:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} .
(1)
رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب، حديث رقم (3513)، والنسائي في الكبرى، كتاب التعبير، باب العفو، حديث رقم (7712)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، حديث رقم (3850)، وأحمد (6/ 171)(25423)، والحاكم (1/ 712)(1942) عن عائشة.
الفائدة الحادية والعشرون: إثبات الاسم الكريم، (العزيز) لله عز وجل، والعزيز بمعنى: الغالب الذي لا يغلبه أحد، والعزيز بمعنى: الذي يمتنع عليه النقص بأي وجهٍ من الوجوه، والعزيز: هو ذو العزة التي تكسب من اتصف بها قدرةً وسلطانًا وغير ذلك.
الفائدة الثانية والعشرون: أن الله تعالى ذو انتقام من المجرمين، كما قال الله تعالى:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالانتقام مطلقًا ولا يسمى بالمنتقم؛ لأن الله تعالى قيد الانتقام بالمجرمين، فنقيد ما قيده الله عز وجل، وهنا كلمة {ذُو انْتِقَامٍ} لا تدل على أنه وصف مطلق لله بل {ذُو انْتِقَامٍ} أي: صاحب انتقام فقط، لكن ممن؟ من المجرمين.
* * *
° قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة: 96].
قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} لما بَيَّن الله عز وجل في الآيات الماضية حكم صيد البر للمحرم، ذكر حكم صيد البحر فقال:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} والمحل هو الله عز وجل؛ لأنه هو الذي بيده التحليل والتحريم والإيجاب، وقوله:{لَكُمْ} الخطاب للمقيمين في البلاد بدليل قوله: {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي: السائرين، أي: المسافرين يتزودونه في أمتعتهم.
وقوله: {صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} صيد بمعنى: مصيد وهو ما أخذ حيًّا، {وَطَعَامُهُ} ما يطعم بدون صيد، وهو ما يلفظه البحر من السمك والحوت، فيكون على هذا كل ما في البحر حلال كما سيأتي إن شاء الله في الفوائد.
وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} {مَتَاعًا} : مفعول من أجله، أي: من أجل أن تتمتعوا به، وقد بَيَّن الله تعالى في آيات أخرى أنه سخر البحر لنأكل منه لحمًا طريًّا، وكما هو مشاهد الآن أن لحم البحر من أطيب اللحوم.
قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} {وَحُرِّمَ} : المُحرِّم هو الله عز وجل.
وقوله: {صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} هل المراد بصيد البر مصيده، أي: ما صيد، أو المراد: أن تصيدوه؟ الثاني هو المراد؛ لأن المصيد فيه تفصيل على ما سبق، يعني حرم عليكم أن تصيدوا صيد البر، وهذا المعنى يحتاج إلى تقدير، والتقدير: صيدكم صيد البر؛ لأن البر لا يصاد، فلا بد من تقدير، أما إذا قلنا: إن الصيد بمعنى المصيد، فإنه لا حاجة إلى التقدير، ويكون المعنى صيد البر، يعني ما صيد فيه، وقد سبق أن الصيد المحرم: كل حيوان، بري، حلال، متوحش.
وقوله: {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي: حالة كونكم محرمين حتى تحلوا.
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} اتقوا الله: بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا أعم ما قيل في تفسير التقوى أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
قوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} {الَّذِي} : صفة للاسم الكريم الله، و {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}: صلة الموصول، وقدم الجار والمجرور على عامله لإفادة الحصر ولتناسب رؤوس الآيات، ففي ذلك فائدة معنوية وفائدة لفظية:
الفائدة المعنوية: الحصر، وهذه قاعدة معروفة عند البلاغيين والأصوليين أنه إذا قدم ما حقه التأخير فإنه يفيد الحصر.
والفائدة اللفظية: مناسبة رؤوس الآيات، ومعنى تحشرون: أي: تجمعون إليه وذلك يوم القيامة، فإن الناس يحشرون إلى الله تبارك وتعالى كما جاء ذلك في السنة مبينًا، وفي هذا تهديد يعني: أنه لا مفر لكم من الله عز وجل فاتقوه.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: حل صيد البحر للمحلين والمحرمين، لقوله:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} .
الفائدة الثانية: أنه لو وجد ماءٌ فيه سمك داخل حدود الحرم فإنه يكون حلالًا لعموم قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ثم قال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وهذا هو القول الراجح، وقال بعض أهل العلم: بل هو حرام وفيه الجزاء؛ لأنه في مكان آمن، وقال آخرون: هو حرام لكن لا جزاء فيه، ولكن ظاهر الآية الكريمة أنه حلال.
الفائدة الثالثة: أن جميع حيوان البحر حلال، يؤخذ من الإضافة في قوله:{صَيْدُ الْبَحْرِ} والإضافة تقتضي العموم، فيشمل كل ما في البحر من سمك وحيتان صغير وكبير مشابه
للإنسان، أو مشابه للذئاب، أو مشابه للخنزير، أو مشابه لأي شيء؛ لأنه عام {صَيْدُ الْبَحْرِ} .
الفائدة الرابعة: أن جميع ما في البحر مما يطعم من سمك وأشجار وغيرها حلال؛ لعموم قوله: {وَطَعَامُهُ} .
الفائدة الخامسة: بيان حِكمة الله عز وجل في حل صيد البحر دون صيد البر؛ لأن الأول تناوله سهل، ولا يلهو به الإنسان كما يلهو به في صيد البر، ثم هو صيد خفي في باطن المياه فلا يكون كالصيد الظاهر على سطح الأرض.
وقد تقدم أن الحكمة من تحريم صيد البر لئلا يتلهى الإنسان وينساب وراء الصيود، وأما البحر فلا يتأتى فيه ذلك، أولًا: لأن البحر لا يكاد أحد يُحْرِمُ منه إلا من مر به، وثانيًا: حتى لو فرضنا أن أحدًا من الناس أحرم من البر فيجوز أن يخوض البحر ويصيد، لكن هذا نادر، ولهذا لا حكم له.
وحدود الحرم ليس فيها بحر، لكن لو فرض وجود بحيرة اصطناعية فيها سمك فإنه يكون حلالًا؛ لأنه من صيد البحر.
فإذا قال قائل: ما ضابط البري والبحري؟
الجواب: يقول العلماء: إذا كان أكثر حياتها في البحر فهي بحرية ولو عاشت في البر، وبعضهم يقول: ما دامت عاشت في البر فإنها غير بحرية، إلا إذا كان عيشها في البر كحركة المذبوح، فكثير من الأسماك الكبار لا تموت فور خروجها من الماء، بل تبقى ساعات لكنها تكون مضطربة مغماة عليها وتموت بعد ذلك، أما إذا كانت تعيش في البر والبحر فالمعتبر الأكثر؛ لأن الوصف الغالب هو الذي يعتبر، وبعضهم يقول: تحرم تغليبًا لجانب الحظر، وأنا أرى الاحتياط أن يتركها، لكن لو فرض أنه وجد
ميتة من صيد البر أو ميتة مما يعيش في البر والبحر، فالتي تعيش في البر والبحر أولى.
الفائدة السادسة: الإشارة إلى جواز ادخار لحم البحر، لقوله:{وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني: السائرين في السفر، وهل مثل ذلك لحم صيد البر في غير الإحرام؟
الجواب: نعم، لكن يشترط في ذلك ألا يصل إلى حد الضرر، فإن وصل إلى حد الضرر بأن أنتن وقبحت رائحته، وخيف على الإنسان منه، صار إما مكروهًا وإما حرامًا، لقول الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
لكن لو قال قائل: هذه الآية والتي قبلها تدل على أن الشيء الذي يؤدي إلى الهلاك هو الحرام، وما دون القتل لا يدخل في الآية؟
الجواب: نقول: استدل عمرو بن العاص رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} على جواز التيمم لخوف البرد أو المرض، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك
(1)
.
الفائدة السابعة: تحريم صيد البر على المحرمين، لقوله:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وقد تقدم هل المراد مصيده أو صيده؟ فإن كان المراد صيده فالأمر ظاهر ولا إشكال فيه، أنه
(1)
رواه البخاري معلقًا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، حديث رقم (334)، وأحمد (4/ 203)(17845) عن عمرو بن العاص.
يحرم على المحرم أن يصيد صيد البر، لكن إذا قلنا: المراد المصيد، فهل نأخذ بعموم الآية، ونقول: إن المصيد من البر حرام على المحرم سواء صاده هو أو صيد لأجله أو صاده حلال لغيره؟ وقد تقدم الخلاف في هذا، وأن بعض العلماء يقول: إن المحرم لا يجوز أن يأكل من صيد البر سواء صيد له أو صيد لغيره أو صاده بنفسه، وتقدم فيما سبق أن القول الراجح من أقوال العلماء: أنه إن صاده المحرم فهو حرام، وإن صيد له فهو حرام، وإن صاده حلال لنفسه فهو حلال للمحرم، وهذا هو القول الراجح الذي تجتمع به الأدلة.
الفائدة الثامنة: أنه لا يحل صيد البر لمن حل التحلل الأول، وجه ذلك: أن من حل التحلل الأول لم يزل محرمًا، باقٍ عليه من محظورات الإحرام النساء، هذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقال: إنه لا يحل الصيد بعد التحلل الأول كما لا تحل النساء، ولكن قد دلت السنة على أنه إذا حلَّ التحلل الأول حل له كل شيء إلا النساء.
بقي أن يقال: الذي يحلل التحلل الأول سيكون في منى، ومنى من الحرم، فهل تجيزون للمحرم في هذا المكان أن يصيد؟
الجواب: لا، لا نبيح له ذلك؛ لأنه في الحرم وصيد الحرم حرام على المحل وعلى المحرم، لكن لو فرض أن هذا المحرم خرج إلى عرفة وعرفة من الحل، فهل يجوز أن يصيد أو لا؟ ينبني على الخلاف، من قال: إن الصيد لا يحل بالتحلل الأول قال: لا يحل أن يصيد، ومن قال: إنه يحل له كل شيء إلا النساء وهو القول الراجح قال: له أن يصيد.
الفائدة التاسعة: وجوب تقوى الله والحذر من مخالفته فيما فرضه من هذه الأحكام، لقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ} .
الفائدة العاشرة: التحذير من عقوبة اليوم الآخر، لقوله:{الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
الفائدة الحادية عشرة: إثبات اليوم الآخر الذي يكون به الحشر إلى الله عز وجل، لقوله:{الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
الفائدة الثانية عشرة: أن الحشر إلى الله لا إلى غيره فهو الذي يتولى عقاب عباده أو إثابتهم، وهو نظير قول الله تعالى:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
* * *
° قال الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97].
هذه أربعة أشياء جعلها الله تعالى قيامًا للناس:
الأول: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} ، هذا الجعل هل هو جعل شرعي، أو جعل كوني، أو هما جميعًا؟ الظاهر الثالث، أن الله جعل ذلك كونًا وشرعًا.
قوله: {الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} الكعبة في الأصل: هي البناء المربع، لكن قوله:{الْبَيْتَ الْحَرَامَ} خرج به كل مربع سوى الكعبة المشرفة، وعلى هذا لو أن إنسانًا بنى كعبة، يعني: بنى بناءً مربعًا وقال: هذه كعبة حجوا لها، قلنا: لا؛ لأن الكعبة التي جعل الله قيامًا هي البيت الحرام، وهي الخاصة، وعلى هذا فيكون قوله:{الْبَيْتَ الْحَرَامَ} وصفًا مخرجًا لغيره، وليس بيانًا أو بدلًا بل هو وصف مخرج لغيره من الكعبات.
وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي: ذا الحرمة، وحرمة مكة أمر معروف.
قوله: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} وفي قراءة: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} ، {قِيَامًا لِلنَّاسِ} أي: تقوم به مصالح دينهم ومصالح دنياهم، وهذا كقوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، أي: تقوم بها مصالح الدين والدنيا.
إذًا: الكعبة جعلها الله تعالى قيامًا للناس، تقوم بها مصالح دينهم ودنياهم، أما مصالح الدين فظاهرة، حج وعمرة بما فيهما من الأنساك، وأما مصالح الدنيا فقد قال الله تعالى مشيرًا إليها:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28]، ثم إن هذه الكعبة يجبى إليها ثمرات كل شيء رزقًا من عند الله عز وجل.
الثاني: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي: وجعل الشهر الحرام قيامًا للناس، وهل المراد به الجنس أو شهر واحد؟ المراد به: الجنس، فيشمل الأشهر الأربعة، وهي: ذو القَعْدَة، وذو الحِجة، والمُحرَّم، ورجب، وإنما جعل الله الأشهر الحرم قيامًا للناس؛ لأنهم يأمنون فيها، حيث إن القتال فيها محرم، حتى في الجاهلية لا يمكن أن يكون قتالٌ في هذه الأشهر الأربعة، أما الثلاثة الأولى؛ فلأنها أشهر الحج، يعني الأشهر التي يسافر الناس فيها إلى مكة ويرجعون منها، يسافرون في ذي القعدة، ويرجعون في المحرم، ومن المعلوم أن المحرم ليس من أشهر الحج لكن بدل عنه شوال، لكنه من حرمات الحج؛ لأن الناس يسافرون في شهر ذي القعدة للحج ويرجعون في شهر محرم، ولهذا كانوا في الجاهلية لا يمكن أن يعتدي أحد على أحد في هذه الأشهر أبدًا، حتى لو وجد قاتل أبيه لم يقتله.
"رجب": هذا أيضًا شهرٌ معظم في الجاهلية، كالأشهر الثلاثة، لا يمكن القتال فيه، فيأمن الناس في هذه الأشهر وتقوم مصالحهم، فيسافرون ويؤوبون إلى بلادهم لا أحد يتعرض لهم.
الثالث: "الهدي": جعله الله تعالى قيامًا للناس في دينهم ودنياهم، أما في دينهم فبالثواب الذي ينالونه من الله عز وجل، وأما في دنياهم فالبيع والشراء والأكل والانتفاع بالجلود وما أشبه ذلك، فالهدي إذًا قيام للناس.
الرابع: "القلائد" وفيها قولان:
القول الأول: أنهم كانوا في الجاهلية إذا حج الإنسان أو اعتمر صنع قلادة من لحاء الشجر من السمر أو غيره، قلادة يتقلد بها ليعلم أنه حاج فيحترم، عجائب! عادات غريبة، إذا حج أو اعتمر صنع قلادة يتقلدها إذا رآه أحد قال: هذا حاج أو معتمر.
القول الثاني: أن المراد بالقلائد ما يقلد الهدي؛ لأن الهدي يقلد في رقبته بما يشعر أنه هدي وهو آذان القِرب، والنعال، والخرقة البالية، تعلق في أعناق الهدي إشارة إلى أنه هدي فيحترم، حتى قال بعضهم: إن الرجل في الجاهلية يأكل العصب من الجوع، ولا يمكن أن يذبح أو ينحر هذا الهدي؛ لأن عليه علامة وهي: القلائد، والقلائد تكون في الغنم وتكون في الإبل وتكون في البقر، وتزيد الإبل بالإشعار، وهو شق سنامها حتى يسيل الدم، فيعرف الناس أن هذه من الهدي، هذه كلها جعلها الله عز وجل قيامًا للناس.
لكن لو قال قائل: هل تعليق هذه القلائد من دينهم، أم من دين سابق؟
الجواب: لا أعلم أنه من دين سابق، لكنه جارٍ بينهم ومعروف.
قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا} فلننظر إلى الإعراب: مفعول (جعل) الأول: (الكعبة)، والثاني:(قيامًا)، وقوله:{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} معطوف على الكعبة، وعلى هذا فيكون المفعول الثاني في المعطوفات مقدرًا، أي: والشهر الحرام قيامًا، والهدي قيامًا، والقلائد قيامًا للناس.
قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، {ذَلِكَ} المشار إليه الجعل، يعني جعلنا ذلك لا عن جهل بل هو عن علم، فقد جعل الله ذلك عن علم، لما في هذه الأربعة من المصالح فجعلها الله قيامًا للناس، وإنما ذكر الله عز وجل هذا من أجل أن يطمئن الناس أن الله جعلها قيامًا، وهذا الجعل صادر عن علم من الله عز وجل.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (ما) من صيغ العموم، فيشمل كل ما في السموات وما في الأرض، والسموات: جمع سماء وعددها سبعة؛ ثبت ذلك في القرآن والسنة، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} [المؤمنون: 86]، والسنة متواترة في هذا أو مشهورة في هذا.
وقوله: {الْأَرْضِ} جاءت بالإفراد لكن عددها سبعٌ، لقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ومن المعلوم أن المثلية لا يمكن أن تكون في الحجم والسعة وما أشبه ذلك، للفرق العظيم بين السماء والأرض، لكن المثلية في
العدد بدليل ما جاء في السنة: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين"
(1)
، إذًا: الأرض المراد بها الجنس فتشمل الأرضين السبع.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، يعني: ولتعلموا أيضًا {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فالله عز وجل لا يخفى عليه شيء، وعلم الله تبارك وتعالى من صفاته الذاتية، فهو عالم بما يكون إلى يوم القيامة، وإلى ما وراء يوم القيامة وهو لم يزل عليمًا بذلك من الأزل لا يطرأ على علمه نسيان، ولا يسبقه جهل سبحانه وتعالى.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى عظم هذه الكعبة المشرفة، حيث جعلها قيامًا للناس يقوم بها أمور دينهم ودنياهم.
الفائدة الثانية: أن لله سبحانه وتعالى أن يفضل ما شاء من خلقه، وهذا أمر معلوم وله أمثلة في القرآن والسنة، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وقال تعالى:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4] فلله تعالى أن يفضل ما شاء من خلقه.
الفائدة الثالثة: أن الكعبة حرام أي: محترمة معظمة، ولهذا كان ما حولها حرامًا لا يقتل صيده ولا يقطع شجره.
(1)
تقدم في (1/ 225).
الفائدة الرابعة: رحمة الله تبارك وتعالى بالخلق حيث يجعل لهم من مخلوقاته ما تقوم به من مصالح دينهم ودنياهم.
الفائدة الخامسة: تعظيم الأشهر الحرم وأنها قيامٌ للناس، وتعظيمها جاء في القرآن والسنة، قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وكذلك جاء في السنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مقررًا ذلك:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا"
(1)
.
لو قال قائل: هل ارتكاب المعاصي في الأشهر الحرم أعظم من ارتكابها في غير الأشهر الحرم؟
الجواب: هذا ينبني على قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] هل الضمير في قوله: {فِيهِنَّ} يعود على الأشهر الحرم، أو يعود إلى قوله تعالى:{اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} ؟ في هذا خلاف، لكن لا شك أن الذنوب في الأشهر الحرم أعظم؛ لأن الضمير سواء قلنا: عائد على الجميع أو عائد على الأشهر الحرم يدل على تأكيد النهي عن الظلم في هذه الأشهر الأربعة، وللعلماء قاعدة في هذه المسألة، يقولون: إن الحسنات والسيئات تضاعف في كل زمان ومكان فاضل.
فإن قال قائل: فهل يحرم فيها القتال؟
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب حجة الوداع، حديث رقم (4144) عن أبي بكرة، ومسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1218) عن جابر.
الجواب: العلماء اختلفوا في هذا، فمنهم من قال: إن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ، ومنهم من قال: إنه محكم، فالأول الذي عليه الجمهور: أنه منسوخ، لعموم الأدلة الدالة على قتال المشركين بدون تقييد، والثاني وهو الراجح: أن الأشهر الحرم القتال فيها ممنوع، وما جاء عامًا أو مطلقًا في النصوص الأخرى فهو كغيره من العمومات والمطلقات، يكون مقيدًا بما دل عليه الكتاب والسنة من تحريم القتال في الأشهر الحرم.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قاتل في الأشهر الحرم كغزوة حنين؟
فالجواب: بلى، لكن هذا كان امتدادًا لفتح مكة، وفتح مكة لم يكن في الأشهر الحرم بل كان في رمضان، وعلى هذا فنقول: إذا اعتدى الكفار علينا في الأشهر الحرم، فلنا أن نقاتل ولو في الأشهر الحرم؛ لأن قتالنا هذا دفاع، والإنسان يجب عليه أن يدافع عن نفسه في أي مكان وفي أي زمان، حتى في مكة، وهل القتال في مكة حرام أو غير حرام؟
فالجواب: حرام إلى يوم القيامة، لكن لو قاتلنا أهل مكة أو قاتلنا أحد من غير أهلها في مكة فإننا نقاتله، لقول الله تعالى:{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].
إذًا نقول: إذا ابتدأ العدو بقتالنا في الأشهر الحرم فلنا أن نقاتله، ثم هل هذا على سبيل الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة؟ ينظر فيه، لكن الكلام على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم باقٍ إلا إذا كان امتدادًا لغزو قبله أو ابتدؤونا هم أي: أعداؤنا بالقتال.
الفائدة السادسة: تعظيم الهدي والترغيب فيه لقوله: {وَالْهَدْيَ} يعني: أن الله جعله قيامًا للناس، ولكن هل الهدي مربوط بالنسك، أو يجوز أن يهدي الإنسان إلى البيت ولو لم يكن نسكًا؟
الجواب: الثاني، فيجوز للإنسان أن يبعث الهدي إلى مكة وإن كان في بلده كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل
(1)
.
فإن قال قائل: وهل الهدي يسن سوقه في العمرة كالحج؟
الجواب: نعم يسن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية فإنه ساق الهدي في عمرة
(2)
.
الفائدة السابعة: مشروعية القلائد، لقوله:{وَالْقَلَائِدَ} وجه ذلك: أن فيها إظهارًا لشعائر الله عز وجل؛ لأن كل من رأى هذه النَّعم المقلدة عرف أنها هديٌ فعظمها واحترمها.
الفائدة الثامنة والتاسعة: إثبات الحكمة في أحكام الله عز وجل، لقوله:{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا} ، والسلام هنا للتعليل، ومن أسماء الله تبارك وتعالى: الحكيم، الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويتفرع على هذه الفائدة العظيمة: أن نؤمن بأن كل ما شرعه الله أو فعله الله فهو لحكمة، وحينئذٍ لا يلزمنا أن نبحث عن الحكمة أو نتمحل حكمة بعيدة قد تكون غير مرادة لله عز وجل،
(1)
رواه البخاري، كتاب الحج، باب فتل القلائد للبدن والبقر، حديث رقم (1611)، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم
…
، حديث رقم (1321) عن عائشة.
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية
…
، حديث رقم (3926) عن مروان والمسور بن مخرمة.
إن تبينت لنا الحكمة بسهولة فلا شك أن هذا من نعمة الله ويزيد الإنسان طمأنينة، وإن لم تتبين فإننا نعلم أنها لحكمة، لكن عقولنا قاصرة عن إدراك حكمة الله عز وجل في كل ما شرع.
الفائدة العاشرة: الحث على معرفة صفات الله عز وجل، لقوله:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} فينبغي لك أن تبحث عن صفات الله تبارك وتعالى، سواء الصفات التي ليس لها أسماء، أو الصفات التي تتضمنها الأسماء، ابحث؛ لأنك كلما ازددت معرفة لأسماء الله وصفاته ازددت يقينًا.
الفائدة الحادية عشرة: التحذير من مخالفة الله عز وجل، وجهه إثبات العلم في قوله:{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ؛ لأن كل إنسان يهم بمعصية، سواء كانت ترك واجب أو فعل محرم إذا أيقن أن الله عالم به فإنه يخاف ويمسك.
الفائدة الثانية عشرة: بيان عموم علم الله سبحانه وتعالى لما في السموات والأرض، نأخذه من الاسم الموصول، في قوله:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ} .
الفائدة الثالثة عشرة: إثبات أن السموات ذات عدد، وهذا العدد بُيِّن في أدلة أخرى أنه سبع سموات.
الفائدة الرابعة عشرة: تكرار الثناء على الله عز وجل؛ لأن الله كرر عموم علمه بقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، ثم أكد العموم بما هو أعم بقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ؛ لأن هذا يعم ما في السموات وما في الأرض مما يكون بعد فناء السماء والأرض.
واعلم أن العلم أعني صفة العلم من أعم الصفات إن لم تكن أعم الصفات؛ لأن العلم يتعلق بالواجب والممكن
والمستحيل والسابق واللاحق، فهي أعم ما يكون من الصفات، أعني: العلم، فمن تعلقها بالمستحيل قول الله تبارك وتعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وهل يمكن أن يكون فيهما آلهة إلا الله؟ لا يمكن، ومع ذلك أخبرنا الله عز وجل بنتيجة هذا لو فرض، وأنهما أي: السموات والأرض تفسدا.
لكن لو قال قائل: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} هل المراد آلهة تدبر وتصرف شؤون الكون، أو المراد آلهة تعبد فقط؟
الجواب: المراد الأول، أو يقال: آلهة حق؛ لأن الآلهة التي تعبد من دون الله وإن سموها آلهة فهي كما قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]، فهي مجرد أسماء على غير مسمى.
ومن تعلقها أي: تعلق صفة العلم بالواجب، كل ما أخبر الله به عن نفسه من صفات الكمال، فهو علم بالواجب؛ لأنه يجب لله صفات الكمال، فإذا تحدث الله جلَّ وعلا عن كماله فهذا حديث عن علم بشيء واجب.
ومن تعلقها بالممكن، كل ما أخبر الله به عن مخلوقاته فهو من باب تعلق العلم بالممكن، فالله جلَّ وعلا يتحدث عن المخلوقات، قال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وما أشبه ذلك من الممكنات، وكذلك علمه بما يكون من عقوبات المذنبين وإثابة الطائعين هذا علم بالممكنات أيضًا، والجائز والممكن سواء، بعضهم يعبر بالجائز، وبعضهم يعبر بالممكن، ولا فرق.
* * *
° قال الله عز وجل: {عْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98].
لما ذكر الله عز وجل عموم علمه بعد هذه الأحكام العظيمة قال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، اعلموا: أي: علمًا يحصل به الامتثال، فيجب علينا أن نعلم؛ لأن الله أمرنا بذلك، {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: المؤاخذة بالذنب، وسميت المؤاخذة بالذنب عقابًا؛ لأنها تعقبه، و {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: قويه كمًّا وكيفًا، أو كيفًا فقط؟ نتأمل، كمًّا لا يمكن؛ لأن الله يقول:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، لكن كيفًا صحيح.
وقوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: قوي العقاب إذا عاقب المذنب.
قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني: واعلموا أيضًا أنه مع شدة عقابه غفور للذنوب، رحيم بعباده جلَّ وعلا، لا يكلفهم ما يشق عليهم، وإذا أخلُّوا به فهو يرحمهم عز وجل بالعفو، قارن بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)} [الحجر: 49]{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 50]، تجد بينهما فرق؛ لأن قوله في الآية:{نَبِّئْ} أمرٌ من الله إلى الرسول بأن ينبئ الخلق، وقدم الوصف بالمغفرة والرحمة على العذاب الأليم؛ لأن المقصود الإخبار عن صفة الله عز وجل، فقدم الجانب الذي فيه اللطف والإحسان، وهذه ذكرت عقيب أحكام عظيمة، قد يخل بها المرء فقدم فيها جانب التهديد.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: وجوب العلم عن يقين، لقوله:{اعْلَمُوا} .
الفائدة الثانية: أن الله تعالى شديد العقاب لمن خالف أمره سواء بفعل ما حرم أو بترك ما أوجب.
فإن قال قائل: ظاهر هذه الآية أن الله سيعاقب من خالف أمره؟
على كل حال الجواب: أنك إذا قرأت آخرها تبين لك أنه في مقابل ذلك هو غفور رحيم، ثم اقرنها بالآية الأخرى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
الفائدة الثالثة: إثبات العقاب وهو مؤاخذة المذنب بما يستحقه من العقوبة.
الفائدة الرابعة: إثبات هذين الاسمين الكريمين وهما: الغفور والرحيم، الغفور: أي: ذو المغفرة كما قال عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]، والرحيم يعني: ذا الرحمة كما قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133]، فنثبت هذين الاسمين لله عز وجل، ونثبت ما دل عليهما من الصفة، وهي المغفرة في غفور، والرحمة في رحيم، وهل نثبت الأثر؟ يعني الحكم المترتب على هذه الصفة؟
الجواب: نعم، يغفر لمن يشاء، ويرحم من يشاء.
لو قال قائل: ما الذي يترتب على هذين الاسمين والإيمان بهما؟
الجواب: يترتب على ذلك: أن يتعرض الإنسان لمغفرة الله عز وجل بفعل الأسباب التي توجبها، ويتعرض للرحمة
بفعل الأسباب التي يحصل بها الرحمة، عكس ما يظنه بعض العوام، فبعض العوام إذا نهيته عن معصية قال: الله غفور رحيم، فيظن أن هذا من باب تهوين المخالفة على العبد وليس كذلك، بل هذا حث للعبد أن يفعل ما به المغفرة والرحمة.
الفائدة الخامسة: الجمع بين أسماء الله تبارك وتعالى التي ينتج من الجمع بينها وصفٌ زائد على الوصف الذي تفيده بدون اجتماع، فمثلًا: إذا قلنا: إنه غفور رحيم، صار المعنى: أنه غفور للذنوب ورحيم لحصول المطلوب في الطاعات.
ولهذا كانت المعصية الواحدة بواحدة، والطاعات الواحدة بعشر إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
* * *
° قال الله عز وجل: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة: 99].
قوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ} "ما": نافية، و {عَلَى الرَّسُولِ}: خبر مقدم، و {الْبَلَاغُ}: مبتدأ مؤخر، وقوله:{مَا عَلَى الرَّسُولِ} "أل": هنا للعهد الذهني.
فمن المعهود ذهنًا بأنه الرسول بالنسبة لهذه الأمة محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام، و {الرَّسُولِ}: بمعنى المرسل.
قوله: {الْبَلَاغُ} أي: إلا تبيلغ ما أوحي إليه، وهذا الحصر إضافي، ومعنى إضافي أي: بالإضافة لما يجب لكم عليه، إذًا قوله:{الْبَلَاغُ} أي: بلاع الرسالة، وأما هداية الخلق فليست للرسول عليه الصلاة والسلام، عليه أن يبلغ، وإذا بلغ انتهت
وظيفته، ولهذا قال:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: ما تظهرون، {وَمَا تَكْتُمُونَ} أي: تخفون، المعنى أن أعمالكم ليست إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وليس مسؤولًا عنها، إنما الذي يحاسبكم عليها هو الله الذي يعلم ما تبدون وما تكتمون.
لو قال قائل: بعض العوام يقول: لو أن الله سخط على الكفار وأهل المعاصي ما أعطاهم الأموال والأولاد والصحة والعافية؟
الجواب: وبعض العوام بالعكس، أنا أسمع من العوام مثلًا، يقولون: عطاؤه ما يدل على رضاه، وهو كذلك، والله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182]، وهذا استدراج من الله تبارك وتعالى، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام:"أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب"
(1)
جعلنا الله منهم.
وفي الآخرة يقول الله عز وجل للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"
(2)
وهم ليسوا من أهلها، فلا رحمة حتى أن الله عز وجل يقول لهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] لكن
(1)
رواه أحمد (1/ 387)(3672)، والبزار (5/ 392) عن عبد الله بن مسعود.
(2)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، حديث رقم (4569)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم (2846) عن أبي هريرة.
تعذيبهم رحمة بالمؤمنين وذلك بأن يروا أعداءهم وهم يعذبون في النار.
قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} هذا الذي يتفرع عليه الحساب {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: ما تظهرونه من الأعمال القولية والفعلية، وهل علمها قبل أن تكون أو بعد أن كانت؟ علمها قبل أن تكون وبعد أن كانت، وقوله:{وَمَا تَكْتُمُونَ} أي: ما تخفون في نفوسكم، وتلك الأعمال القلبية، بل أشد من الأعمال القلبية ما يوسوس به القلب، كما قال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، وهذا يعني أن حسابهم على الله عز وجل لا على الرسول صلى الله عليه وسلم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: وجوب إبلاغَ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن "على" ظاهرة في الوجوب في قوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} .
لكن لو قال قائل: ألا يشكل على قولنا: وجوب البلاغ، أن بعض الأئمة يقول: لا أعطي علمي إلا لمن يستحق العلم ولا أبثه إلا في أهله؟
الجواب: إن صح هذا الخبر، فقصده الجلوس للناس لكي يعلمهم، يعني لا يجلس للناس إلا الذين هم يريدون العلم حقيقة، ويسعون لإدراكه.
الفائدة الثانية: أنه ليس على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر الناس على أن يهتدوا، ويؤيد هذا آيات كثيرة منها قوله تعالى:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
الفائدة الثالثة: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ} .
الفائدة الرابعة: تحذير المُبَلَّغِينَ من المخالفة، لقوله:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فإن إخباره بعلمه بعد أن قال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} فيه التهديد والوعيد على من خالف.
الفائدة الخامسة: سعة علم الله وعمومه، لقوله:{مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} وهذا عام للأمة كلها، و"ما": هنا كما هو معروف اسم موصول يشمل القليل والكثير.
الفائدة السادسة: أن أعمال العباد تنقسم إلى قسمين: قسم يبدو للناس وقسم لا يبدو، لقوله:{مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} .
فإن قال قائل: هل الأفضل للإنسان أن يبدي ما عمل أو أن يكتم ما عمل؟ قلنا: إن كل ذلك خير؛ لأن الله مدح الذين ينفقون أموالهم سرًّا وعلانية، ولكن أيهما أفضل؟ ينظر للمصالح، إن كانت المصلحة في الإعلان أعلن، وذلك كإنسان يقتدى به ويتأسى به فالأفضل أن يعلن حتى يتأسى الناس به، ويعرفوا أن هذا حق، ويكون بذلك إمامًا لمن اتبعه، وإذا كان الإخفاء خيرًا فالإخفاء أفضل كما لو تصدق إنسان على شخص متعفف لا يحب أن يطلع عليه، فهنا الأفضل الإسرار، وإن تساوى الأمران والغالب أنهما لا يتساويان من كل وجه، لكن على فرض أنهما تساويا من كل وجه فالإسرار أفضل؛ لأنه أدل على الإخلاص وأقرب إلى الإخلاص.
الفائدة السابعة: الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة، وهذا مأخوذ من قوله: {مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ} فالإنسان يريد أن يبدي ويريد أن يكتم، وهذا هو إثبات الإرادة للعبد.
والجبرية: قومٌ يقولون: إن الإنسان غير غير بل مجبر ويستدلون بآيات منها قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} [القصص: 68]، قالوا: إنه نفى أن يكون للعبد الخيرة، فشبهتهم قوية، ولكن لا شك أن هذه الشبهة باطلة؛ لأن المراد بقوله تعالى:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} يعني: في فعله عز وجل، مثلًا قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، يريدون أن يختاروا هم من يكون رسولًا، فقال الله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]، فيكون معنى قوله:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي: فيما يفعله الله، أما بالنسبة لأفعالهم فلهم الخيرة، والدليل على هذا آيات كثيرة، منها خصال الكفارة مثلًا في كفارة اليمين، ثلاثة منها على التخيير: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وغير ذلك من الأدلة.
الفائدة الثامنة: أن أهل العلم الذين هم ورثة الأنبياء إذا بَلَّغوا برئت ذمتهم، ولكن هل يجب عليهم التبليغ على كل حال أو إذا كانت هناك فائدة أو ماذا؟ نقول: الأصل أن التبليغ واجب بكل حال، هذا هو الأصل لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني" أمر "ولو آية"
(1)
لكن قد لا يجب التبليغ، ويجوز أن يكتم العلم إلى وقت ما إذا رأى في ذلك مصلحة، كما فعل معاذ بن
(1)
رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3274) عن عبد الله بن عمرو.
جبل رضي الله عنه حينما لم يبلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به"
(1)
لم يبلغها إلا عند موته تأثمًا، وإلا فالأصل وجوب الإبلاغ، أما إذا سئل الإنسان عن العلم، فهذا كان السائل مسترشدًا وجب أن يُبَلَّغ السائل، وأما إذا كان ممتحنًا فإن الإنسان بالخيار إن شاء بلغ وإن شاء منع؛ لأن هذا السائل غير مسترشد، لا يريد العلم، يريد أن يمتحن هذا المسؤول فهو بالخيار، وهل الأفضل أن يبلغ أو الأفضل ألا يبلغ؟ في هذا تفصيل: إن كان هذا السائل إذا تُرك صار في ذلك إذلال له وخزي فليتركه، وإن كان إذا ترك ازداد شره وطغى طغيانه فإنه يجب أن يبلَّغ ويبيَّن له ضلاله، فالمسألة يرجع فيها إلى المصالح، فإن قلت: ما هو ميزان المصالح؟ قلنا: كل إنسان مسؤول عن نفسه، وكل قضية لها حكم، ولهذا أحيانًا يمر في بعض الإجابات عن بعض الأدلة، يقال في بعضها إنها قضية عين، كل إنسان حسب ما يراه والله حسيبه.
* * *
° قال الله عز وجل: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة: 100].
قوله: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} قل يا محمد {لَا يَسْتَوِي} وتصدير الحكم بـ"قل" يدل على العناية به؛ وذلك لأن
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب اسم الفرس والحمار، حديث رقم (2701)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، حديث رقم (30) عن معاذ بن جبل.
النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا أن يقول جميع القرآن للناس ويبلغه، لكن إذا نص على شيءٍ معين، دل هذا على أخصيته، فهو كالتخصيص بعد التعميم، قل: أي: قل يا محمَّد لكل من يصح خطابه ويدرك خطابك، {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} ، صدق الله لا يستوي الخبيث والطيب من الأشخاص والأعمال والأعيان، لا يمكن أن يستوي هذا وهذا، هل تستوي الصلاة لله والسجود للصنم؟ لا تستوي، هذا من الأعمال.
من الأعيان: هل يستوي الشراب الطيب المستخلص من ثمرات طيبة، والخمر؟ لا يستوي.
بالنسبة للأشخاص: هل يستوي المؤمن الطيب والكافر الخبيث؟ لا، وهلمَّ جرَّا.
إذًا: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء من الأشخاص والأعيان والأقوال والأفعال، هل يستوي ذكر الله والغيبة؟ لا، إذًا: هذا عام.
قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} الخطاب هنا ليس للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأننا نعلم علم اليقين أن الرسول لا يعجبه كثرة الخبيث، لكن ولو أعجبك، أي: قل للإنسان: لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك أيها المخاطب.
وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} أي: أعجبك، أي: بَلَغَ منك موقع الإعجاب، وهذا إذا طبقته على بني آدم فأيهما أكثر: الخبيث أو الطيب؟
الخبيث من بني آدم أكثر ولو أعجبك، كذلك لو أعجبك كثرة الخبيث بقوته وإنتاجه لا يهمنك، كما في قوله تعالى:
{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] لا يهمنك فالخبيث باطل، والله عز وجل يقول:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] انظر كلمات قوية {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ} يعني نرمي بشدة {فَيَدْمَغُهُ} يصيب دماغه ولا يفلت ولا يبقى لحظة عين ولهذا قال: {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، والفاء للترتيب والتعقيب، وإذا فجائية تدل على مفاجأة الزهوق وأن الزهوق يكاد يكون قبل أن يدمغ، ولكن لا بد أن نلاحظ أن السيف بضاربه، يعني: لا بد أن يكون الحامل للحق قويًّا في ذات الله لا يهمه أحدًا في ذات الله، وحينئذٍ يندحر الباطل ويقوم الحق.
قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} الفاء للتفريع، أي: فبناءً على ذلك وعلى كثرة الخبيث، اتقوا الله لا يعجبنكم كثرة الخبيث، وبتقوى الله يحصل المطلوب ويزول المرهوب.
وقوله: {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} انظر النداء كيف يداخل القلب {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: يا أولي العقول، أي: يا أصحاب العقول، والمراد بالعقول ذوات الرشد وحسن التصرف وليس عقل الإدراك، قد يكون عند الكافر من عقل الإدراك أكثر مما عند المؤمن، لكن عقل الرشد منفي عن الكافر مطلقًا، ليس عنده عقل رشد؛ لأنه لو كان عنده عقل رشد لآمن ولم يكفر، إذًا يا أصحاب العقول، أي: العقول الراشدة التي تعرف ما ينفعها فتقوم به وما يضرها فتجتنبه.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: لتفلحوا، فـ"لعل" هنا للتعليل، والمعلل الاتقاء أي: تقوى الله، يعني: لأجل أن تفلحوا
إذا اتقيتم الله عز وجل "والفلاح" كلمة جامعة للفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، هذا الفلاح.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أنه لا يستوي الخبيث والطيب عند الله عز وجل ولا عند أصحاب العقول، وهذا في مراتبهم عند الله، وعند ذوي العقول، أما فيما يعملون من أمور الدنيا فإنه قد يكون الخبيث أكثر من الطيب عملًا، كما هو مشاهد الآن، فإن الدول الكافرة أقدم من الدول المسلمة فيما يتعلق بأمور الدنيا.
الفائدة الثانية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعتبر بالكثرة، وإنما يعتبر بالكيف لا بالكم، لقوله:{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
الفائدة الثالثة: أنه إذا اجتمع قوم للشورى ثم تنازعوا في شيء فإننا نعتبر من هو أقرب إلى الصواب، يعني: إذا كان الفرق يسيرًا نعتبر من هو أقرب للصواب، فإن تساووا فهنا نعتبر الأكثر؛ لأن المقصود هو الحق، فإذا علمنا أن هؤلاء القلة في جانبهم الحق من حيث العلم والثقة والأمانة والمعرفة فإنهم يقدمون على الأكثر، لكن إذا تساووا اعتبرنا الأكثر؛ لأنه لا طريق لنا إلى الترجيح إلا هذا.
الفائدة الرابعة: أن وصف الخبث والطيب يكون في الأعمال ويكون في الأعيان، فالمؤمن طيب في ذاته وعمله، والكافر خبيث نجس في ذاته وعمله، لكن نجاسته في ذاته ليست نجاسة حسية كنجاسة البغل والحمار، ولكنها نجاسة معنوية.
الفائدة الخامسة: أن الإنسان قد يعجب بما ليس محلًّا للإعجاب، لقوله:{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
الفائدة السادسة: وجوب تقوى الله عز وجل، وأن من تقوى الله ألا يعجب الإنسان بالخبيث ولو كثر؛ لأنه ذكر الأمر بالتقوى بعد قوله:{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} .
الفائدة السابعة: أن الذين يخاطبون بالتقوى وبمثل هذه الأحكام العظيمة هم أصحاب العقول، لقوله:{يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} ، والمراد بالعقول هنا: عقول الرشد لا عقول الإدراك.
الفائدة الثامنة: أن التقوى سبب للفلاح، لقوله:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وسبق معنى الفلاح.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101].
الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} سبق الكلام عليه مرارًا فلا حاجة لإعادته.
قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} {أَشْيَاءَ} هنا ممنوعة من الصرف، وعلل الصرفيون كونها ممنوعة من الصرف، أن الهمزة فيها للتأنيث وليست أصلية، لكن فيها إعلال بالتقديم والتأخير في حروفها، حيث قدمت الهمزة الوسطى إلى أولها فصارت أشياء، ولذلك لو أردت أن تزنها فوزنها فعلاء.
قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} يعني إن يبد لكم الجواب عنها فإنه يسؤكم، وهذا يشمل كل ما سكت الشرع عنه ثم صار في السؤال عنه سبب للمشقة على الناس واستيائهم مما حصل.
ومن ذلك ما كان من بعض المسلمين حيث إنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، الرجل منهم يسأل: من أبي، وأين أبي؟ وما أشبه ذلك، فإن هذا من الأمور التي يجب السكوت عنها، فلو أن رجلًا قال للرسول عليه الصلاة والسلام: من أبي؟ فقال: أبوك فلان غير أبيه؛ لكان في هذا فضيحة له ولأبيه ولأمه، فالسكوت عنه هو الأدب.
كذلك إذا قال: أين أبي؟ فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أبوك في النار، أساءه بلا شك، وكان ذلك أيضًا إساءة إلى الأب، كذلك في الأشياء الواجبة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب عليكم الحج" قال الأقرع بن حابس: أفي كل عام؟
(1)
هذا السؤال غير وجيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال: نعم لوجبت، ولشق ذلك على المسلمين أفرادًا وجماعات، أفرادًا؛ لأن الإنسان إذا فرض عليه أن يحج كل عام يشق عليه، جماعات؛ لو أن الأمة الإِسلامية قيل لها: من قدر منكم أن يحج فليحج كل عام، ما الأرض التي تسعهم؟ لا تسعهم الأرض، فلهذا كان السؤال في غير وجهه، فما أعظم الجرم ممن سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته، أو أُوجب أو لم يجب من أجل مسألته؟
وقوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} أي: يُظَهَرُ لكم جوابها تسؤكم.
قوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} يعني إن سألتم عنها في زمن الوحي الذي ينزل فيه القرآن تبد لكم، يبديها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي وجه السؤال إليه.
(1)
تقدم ص 360.
قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} يعني: عفا الله عما سكت عنه ولهذا جاء في الحديث: "وما سكت عنه فهو عفو"
(1)
.
قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} {غَفُورٌ} للذنوب {حَلِيمٌ} في العقوبة فلا يعاجل عباده بالعقوبة كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)} [فاطر: 45].
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن مما ينافي كمال الإيمان أن يسأل الإنسان عن شيء لم يكلف به، لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا} .
لكن لو قال قائل: هل كل ما ينافي الإيمان محرم؟ الجواب: يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله: كل شيء نُفِي الإيمان عن فاعله فهو من كبائر الذنوب.
وهل يشمل السؤال زمن الوحي وما بعده أو هذا خاص بزمن الوحي الذي يمكن أن يثبت به التحريم أو الإيجاب؟
الجواب: الثاني: في زمن الوحي، أما فيما بعد الوحي فلا بد أن يسأل الإنسان عن دينه، ولذلك نقول: إن ما يفعله بعض العوام إذا قيل له: هذا حرام، هذا واجب، اسأل العلماء،
(1)
رواه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء، حديث رقم (1726)، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن، حديث رقم (3367)، عن سلمان الفارسي، ولفظهم:(وما سكت عنه فهو مما عفا عنه).
قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هذا حرام؛ لوجهين:
الوجه الأول: أنه امتنع من السؤال مع وجود مقتضيه.
الوجه الثاني: أنه نزل الآية على غير تنزيلها أي على غير ما أراد الله.
لو قال قائل: ما حكم من يجعل قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} كالمَثَل، كمدرس يقول لطلابه مثلًا: عليكم في الاختبار كذا وكذا من المنهج فيقول الطلاب: وهل هذا معنا؟ فيقول لهم: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ؟
الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن السؤال الذي ورد لا يتناسب مع معنى الآية.
لو قال قائل: أحيانًا يطرأ على ذهن الإنسان أسئلة قد تكون غريبة أو تُرى أنها بدعية، هل إذا سكت عنها يكون مخالفًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الله تبارك وتعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]؟
الجواب: إذا كان مما يجب على الإنسان اعتقاده أو عمله لا بد أن يسأل ولو كانت غريبة، ولكن إذا كانت من التنطع والتكلف كالذي قال: كيف استوى على العرش مثلًا، هذا لا يصح.
الفائدة الثانية: أن الإنسان قد يسوؤه ما شرعه الله عز وجل من إيجاب أو تحريم، ولكن المؤمن وإن كره ذلك بطبيعته لا يكرهه من حيث كونه شرعًا لله عز وجل، ولهذا قال الله عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ما المكروه هل هو القتال أو فرضية القتال؟
القتال دون فرضيته، المؤمن يرضى بكل ما فرض الله وبكل ما أوجب الله وبكل ما حرم ومنع، لكن قد يكرهه من جهة مشقته وتعبه وما أشبه ذلك.
الفائدة الثالثة: أن أي سؤال يرد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يجاب عنه لقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} ، ولذلك نجد في القرآن الكريم أسئلة كثيرة موجهة للرسول عليه الصلاة والسلام فيجيب الله عنها كقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، وقوله:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] فلا بد أن يجاب لقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} .
لكن إذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحيانًا فلا يجيب؟ قلنا: بلى، لا يجيب؛ لأنه لم ينزل عليه فيه وحي، ولو نزل عليه فيه وحي لأجاب.
الفائدة الرابعة: أن ما سكت الله عنه فهو عفو، لقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} نضرب لهذا مثلًا: يسأل كثير من النساء عن حكم إزالة الشعور من الساقين أو الذراعين فهل هو حرام أم حلال؟
الجواب: لننظر، الشعور تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم نُهي عن إزالته وقسم أُمر بإزالته وقسم مسكوت عنه، مما أمر بإزالته ما جاء في الفطرة، ومما نهي عن إزالته اللحية، ومما سكت عنه بقية الشعور، فهل نقول: إنها مما سكت عنه فتكون حلالًا، أو نقول: الأصل في تغيير خلق الله أنه حرام فتكون حرامًا؟
الجواب: الأول: أنه مما سكت عنه، ولو شاء الله عز وجل لأنزل فيه قرآنًا أو لتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا: الحشرات وأشباهها تنقسم ثلاثة أقسام: قسم أمر بقتله، وقسم نهي عن قتله، وقسم مسكوت عنه، مما أمر بقتله: العقرب والحية والكلب العقور، ومما نهي عن قتله: النملة والنحلة والهدهد والورد.
ومما سكت عنه البقية، فهل نقول: إن البقية يجوز قتلها بدون إيذاء، أو نقول: لا، الأصل أنها حيوان خلقه الله عز وجل ليستدل به على قدرته وسعة علمه ورحمته، ولأنها تسبح بحمد الله، فلا تقتل إلا إذا كان فيها أذية؟
في هذا ثلاثة أقوال: قولان معلومان عندي إلى الآن لم أنسهما، والثالث: نسيته.
الأول: أنه يكره أن تقتل هذه الحشرات بدون أذية إذا لم يكن منها أذية، أما إذا كان منها أذية فتقتل.
أما القول الأول: فيكره أن يقتلها لأنها تسبح بحمد الله؛ ولأن فيها آية من آيات الله، وهي أن الإنسان كلما تأملها عرف بذلك سعة علم الله ورزقه ورحمته، فيكون فيها مصلحة للعباد فلا تقتل، ولكن على وجه الكراهة.
القول الثاني: أن ذلك مباح؛ لأنه مما سكت الله ورسوله عنه، وما سكت الله عنه فهو عفو.
والثالث: التحريم لكنني لم أجوده؛ لأنه إذا لم يكن منها أذية كان قتلها مجرد عبث وفيه أيضًا تعويد النفس على العدوان، هذا إذا لم تؤذِ، أما إذا آذت فلا شك في جواز قتلها، ولكن
الأفضل أن يدافعها بما هو أهون، فمثلًا: إذا دخلت الحية في جحرها وهي مما أمر بقتلها وصار قتلها إما بالماء يغرقها أو بالنار تحرقها أيهما أولى؟
الجواب: الأولى بالماء، هذه الحشرات أيضًا التي لم يؤمر ولم ينهَ عن قتلها نقول فيها إن كان فيها: نوع أذية فإن أمكن أن تطردها بدون أذية أي: حتى تسلم من الأذية بدون قتل فهو أولى، وإذا لم يكن إلا بالقتل فاقتلها ولا حرج عليك.
لو قال قائل: ما حكم الأجهزة الكهربائية التي تقتل الحشرات؟
الجواب: جائزة؛ لأنها لا تحرق، ثم هذا المؤذي إذا لم نتمكن منه إلا بالإحراق فلا بأس، كما أحرق النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير
(1)
مع أن النخل في الغالب يكون فيه أفراخ الطيور وغيرها.
ولو قال قائل: بعض الحشرات بطبيعتها مؤذية لكن إذا لم يبدُ منها أذية هل نقتلها أم ماذا؟
الجواب: تقتل لعموم الأمر بقتلها، وقد أخبرتُ أن من الهوام نوع سريع وطويل ويسمى عندنا "الداب" فهذا لا يحصل منه أذية وهذا مجرب، فهذا النوع لا يلدغ مباشرة، حتى إني رأيتها أنا بعيني تمشي على رِجْلِ امرأة قد مدت رجليها ولم تنلها بسوء، وأما الحية وهي كما وصفت لي قصيرة ومتينة وذنبها
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب حرق الدور والنخيل، حديث رقم (2858)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، حديث رقم (1746) عن ابن عمر.
قصير، فهذه لا تترك أحدًا، فهي مؤذية، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذو الطفقتين
(1)
، وأما العقرب فيا ويل من مسته، فالعقرب لا تعطي فرصة إطلاقًا، ولم نسمع بعقرب لا تلدغ، ولا ندري عن عقارب أفريقيا، لكن أخبرني بعض الطلاب أن العقارب هنا وهناك سواء، وذلك من أجل طبيعتها فهي تلدغ مباشرة ولا تعطي مهلةً.
لو قال قائل: هل من الأذية أن يبني العنكبوت بيتًا في الجدار أو المسجد؟
الجواب: هذا في الحقيقة يختلف، بعض العناكب تبني البيوت وتأتي بأشياء مؤذية للنظر وتعلقها، هذه مؤذية لا شك، كذلك أيضًا في المكتبة قد تعشش على الكتب هذه مؤذية أيضًا، لكن الغريب أن الناس يقولون: إن العنكبوت لا يجوز قتله مطلقًا ولو عشش على رأسك، لماذا؟ قالوا: لأنها عششت على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وهذا ليس بصحيح، تعشيش العنكبوت على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار غير صحيح أبدًا، ولم يمنع رؤية الكفار إلا حماية الله عز وجل، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه:"لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا"
(2)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب قول الله تعالى:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، حديث رقم (3123)، ومسلم، كتاب السلام، باب قتل الحيات وغيرها، حديث رقم (2233) عن ابن عمر ..
(2)
رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر
…
، حديث رقم (3453)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، حديث رقم (2381) عن أنس بن مالك.
وبعض العلماء أورد حديثًا لكنه ضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل العنكبوت، نقول: لا أمر ولا نهي، هي من الحشرات التي تركها أولى، لكن إذا حصل منها أذية ولو قليلة فلا بأس أن تقتل، كما لو بَنَتِ العنكبوت بيتًا في مكان يشوه المنظر، وربما تأتي ما شاء الله بأشياء؛ لأنها من الحشرات التي تدخر قوتها.
ومن فوائد العنكبوت أنه يقتل الذباب، فتجده يختبأ له ويمسكه بنفسه، حتى إذا قرب قفز عليه، سبحان الله العظيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى! وأما من يقول من الطلاب إن من فوائدها أنها تقتل النمل فإننا نقول له: عليك أن تثبت هذا؟ ائتنا بعنكبوت ونملة وننظر؟
الفائدة الخامسة: أن القرآن منزل من الله عز وجل لقوله: {يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} لم يذكر الفاعل لكنه حذف للعلم به؛ لأن المنزل للقرآن هو الله عز وجل.
الفائدة السادسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله لقوله: {تُبْدَ لَكُمْ} لأن المبدي للبشر مباشرة هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السابعة: البناء على الأصل في براءة الذمة، لقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} فالأصل عدم شغل الذمة بإيجاب أو تحريم.
الفائدة الثامنة: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل "الغفور والحليم" فهو غفور للذنوب، حليم عند العقوبة فلا يعاجل وقد قال ابن القيم رحمه الله:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده
…
بعقوبة ليتوب من عصيان
* * *
قال الله عز وجل: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} [المائدة: 102].
لما نهى الله عز وجل هذه الأمة أن يسألوا عن أشياء سكت الله عنها، وأنهم إذا سألوا عنها فلا بد أن تبين لهم حين نزول القرآن لئلا يبقى المسلمون في حيرة من دينهم، ولئلا يكون في الدين نقص، بَيَّنَ عز وجل أن مثل هذه المسائل قد سألها قوم من قبل هذه الأمة ولكن لم يقوموا بما أُوْجِبُوا به، وأَبْيَنُ مَثَلٍ لذلك: قصة البقرة حين قتل قتيل وشكوا فيمن قتله، فأمرهم نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أن يذبحوا بقرة، فظنوه يمزح معهم، {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] من الجاهلين يعني: من المعتدين، ليس من الجهل الذي هو ضد العلم، كما قال الله تبارك وتعالى في الإنسان:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يعني: ولن أعتدي فأَسْخَرَ بكم {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} [البقرة: 68] يعني: لا كبيرة في السن {وَلَا بِكْرٌ} ولا صغيرة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] هذا سؤال هل له داعي؟ ! لا، ليس له داعي، موسى عليه الصلاة والسلام قال: اذبحوا بقرة، يذبحون أي بقرة تكون ويحصل الامتثال؛ لأن البقرة معلومة الجنس، أما كونها معلومة اللون أو معلومة السنن أو معلومة الفعل فليس بلازم، انتقلوا إلى سؤال آخر {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] سبحان الله! هل طولبوا بلون معين؟ لا {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} ليس فيها سوى الأصفر {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}
[البقرة: 69] في حجمها ولحمها وسمنها وهيكلها، هل اقتصروا على هذا؟ لا، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] لكن هم بقر وهل يتشابه البقر بعد هذا الوصف الأول والثاني؟ لا يتشابه، ومع هذا قالوا:{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} فلم يجزموا بالهداية، ولا أظنهم والله أعلم ذكروا ذلك تبركًا {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71] أربعة أوصاف شُدِّد عليهم {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] الآن، وقبلُ ما جاء بالحق؟ {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] يعني ذبحوها بعد التي واللُّتَيَّا وما قاربوا أن يفعلوا، لكن رأوا أنهم لا بد أن يفعلوا، هذا من التعنت، يعني: لو أنهم ذبحوا بقرة من أول الأمر انتهى الموضوع ولم يكن إشكالًا، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن والسنة لمن تدبرها، أن الذين سألوا سؤال التعنت ابتلوا والعياذ بالله بالإباء والاستكبار.
* * *
° قال الله عز وجل: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} [المائدة: 102].
"أصبح" هنا مجردة عن الزمان فهي بمعنى صار كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] هل تصبح في الصباح أو في أي وقت من الزمن؟ في أي وقت، لكن مثل هذا يعبر به في اللغة العربية مجردًا عن إرادة الزمان الذي هو الإصباح، و (أصبح) بينها وبين كان نسب ما هو؟ أنها أختها أخت كان، يعني: أنها تعمل عمل
(كان)، والأخوة تصدق بأدنى سبب، فتكون "الواو" اسمها و {كَافِرِينَ} خبرها.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: ضرب الأمثال بالأمم السابقين حتى نقتنع بأنه لا ينبغي لنا أن نسأل لأن غيرنا سأل وكفر.
الفائدة الثانية: أن من قبلنا كانوا يسألون ولكن يهلكون بالسؤال، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عمن سبقنا ولفظ الحديث:"إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"
(1)
يسألون ثم يختلفون عليهم ولا يوافقونهم.
الفائدة الثالثة: أن الإنسان لا ينبغي أن يتعرض لما قد يكون محنة عليه، ولهذا جاء في الحديث النهي عن أن يتعرض الإنسان لشيء لا يستطيعه فإن هذا من البلاء والذل
(2)
، وربما يؤخذ من هذا منهاجًا حسنًا في كل شيء.
مثال ذلك: لو أن رجلًا ماله قليل وبنى له بيتًا وصار يمكن
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
، حديث رقم (6858)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه
…
، حديث رقم (1337) عن أبي هريرة.
(2)
رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب، حديث رقم (2254)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، حديث رقم (4016)، وأحمد (5/ 405)(23491) عن حذيفة، بلفظ:"لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه". قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيقه".
أن يستغني بفراش يجلس عليه وفراش ينام عليه ووسادة يتكئ عليها، لكنه أراد أن يفعل ما يفعله الأغنياء من أن يملأ البيت كله فراشًا وأن يأتي بفراش فخم، وما أشبه ذلك، نقول: لا تتعب نفسك فإن هذا من الإشقاق على النفس وأن يُلْحِقَ الإنسان دَيْن، في ذمته فيعجز، وفي الأمثال العامية:(مد رجلك على قدر لحافك)؛ لأنك لو مددتها مستطيلة واللحاف قصير، طلعت فأصابها البرد.
* * *
قوله: {مَا جَعَلَ} {مَا} نافية، والجعل هنا بمعنى الشرع، أي: ما شرع الله، واعلم أن {جَعَلَ} تأتي بمعنى خلق وبمعنى صير وبمعنى شرع.
القسم الأول: تأتي بمعنى خلق مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وجعل التي بمعنى خلق لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد.
القسم الثاني: وتأتي بمعنى صَيَّرَ، وهذه تتعدى إلى مفعولين، مثل قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} [النبأ: 10 - 11]، وقوله:{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] والأمثلة في هذا كثيرة، وبهذا نعرف ضلال الجهمية
الذين استدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف: 3] حيث قالوا إنَّ معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} أي: خلقناه، فيقال: هذا دليل على لُكْنَتِهِمْ وعدم معرفتهم باللغة العربية؛ لأن (جعل) إذا تعدت إلى مفعولين فإنها لا تكون بمعنى خلق أبدًا، بل تكون بمعنى صير.
القسم الثالث: تأتي بمعنى شرع كما في هذه الآية، هنا يتعين أن تكون بمعنى شرع، ولا يجوز أبدًا أن نجعلها بمعنى صير أو خلق؛ لأن الأمر واقع، فالبحيرة موجودة والسائبة والوصيلة والحام كذلك موجود، وعليه فنقول:{مَا جَعَلَ اللَّهُ} أي: ما شرع الله.
قوله: {مِنْ بَحِيرَةٍ} {مِنْ} هذه زائدة للتوكيد، أي: لتوكيد النفي، ولهذا نقول عند إعرابها:"من" حرف جر زائد زائد، كيف يحل هذا اللغز، هل زائد الثانية توكيد للأولى؟
الجواب: زائد في الإعراب يعني أنه لو حذف لاستقام الكلام، وزائد في المعنى؛ لأن كل شيء في القرآن لا يمكن أن يزاد بلا معنى إطلاقًا، إذ إن زيادة الكلمة أو الحرف بدون معنى لغو، والقرآن منزه عن هذا، إذًا: هي زائدة إعرابًا زائدة معنى، والذي زادته في هذا السياق توكيد النفي.
وقوله: {مِنْ بَحِيرَةٍ} البحيرة والسائبة والوصيلة والحام هذه أسماء لها اصطلاحات مختلفة عند العرب، خلاصتها: أنها إما أن تكون لآلهتهم وإما أن يحرموها أكلًا وركوبًا وانتفاعًا بلبنها وأصوافها وأوبارها، وهم على اختلاف بينهم متى تكون بحيرة
…
إلى آخره، لكن علامة البحيرة عندهم أن تشق أذنها
شقًّا واسعًا مأخوذة من البحر، والبحر واسع، لكن متى يشقونها؟ لهم اصطلاح في هذا، إذا ولدت كذا وإذا ولدت كذا، المهم أنها اصطلاحات مختلفة.
وقوله: {وَلَا سَائِبَةٍ} السائبة: هي التي تترك سائبة، أي: متروكة مسيبة، وهذه أيضًا متى تسيب؟ عندهم في ذلك اصطلاح يختلف، لكن النهاية أنها تسيب ويُحرِّمون ألبانها وركوبها والانتفاع بها.
وقوله: {وَلَا وَصِيلَةٍ} الوصيلة: هي التي تكون بكرًا، وأول ما تلد تلد أنثى، ثم توصلها بأنثى أخرى، يعني: البكر تلد بطنين على التوالي كلاهما أنثى، فيكون هذه وصلت أنثى بأنثى فتحرم أو تجعل للآلهة.
وقوله: {وَلَا حَامٍ} نحتاج إلى إعرابـ "حام" هل هي اسم منقوص أو حرف صحيح؟ الجواب: منقوص وأصلها حامي، إذًا هو اسم منقوص محذوف الياء، والحامي من الحماية، وهو الذي حمي ظهره فلا يركب، إذًا هو جمل؛ ويختلفون فيه متى يكون حاميًا؟ بعضهم قال: إذا أنجب عشرة أولاد، وبعضهم قال خلاف ذلك، المهم أن هذه أوصاف لأزواج من الأنعام؛ الإبل والبقر والغنم متى حصلت حرمت هذه البهيمة أو جعلت للأصنام.
قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوفة على {مَا جَعَلَ اللَّهُ} ، {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} حيث يقولون: إن هذه محرمة وهذه محللة افتراء على الله عز وجل.
قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} أكثر هؤلاء الكفار لا يعقلون؛ لأنهم همج رعاع تابعون لأكابرهم، فأكثرهم لا يعقلون، يعني: ليس لهم عقل يرشدهم، مع أن الله ذكر في أوصاف الكفار في
آيات أخرى أنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] وقال: {وَأَكْثَرُهُمْ} لأن هنا إمام ومقلد، والأئمة عندهم هم أئمة الكفر الذين يحللون ويحرمون بأهوائهم والعوام يتبعونهم ويقولون:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ولهذا قال: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} .
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: قيل لهؤلاء الأكثر، هؤلاء من؟
الجواب: هؤلاء العوام، لما ذكر العلماء في الآية الأولى ذكر العوام.
قوله: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي: إلى القرآن لنتحاكم إليه {وَإِلَى الرَّسُولِ} أيضًا ليكون التحاكم إليه، وهذا في حياته يؤتى إليه شخصيًا {قَالُوا} في جواب مَنْ يقول لهم: تعالوْا، {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} {حَسْبُنَا} أي: كافينا {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يعني: وليس لنا حاجة أن نأتي لنتحاكم إلى القرآن ولا إلى الرسول؛ لأن لدينا ما يكفينا وهو ما كان عليه آباؤهم، قال الله عز وجل:{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} يعني: أيقولون هذا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون، وهذا في غاية التوبيخ أن يتبعوا آباءهم، وآباؤهم ليسوا على علم.
{لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا} يعني شيئًا من شريعة الله، وإلا فهم يعلمون كيف يأكلون وكيف يشربون وكيف يذهبون ويجيئون، ولكن لا يعلمون شيئًا من شريعة الله، {وَلَا يَهْتَدُونَ} الطريق الذي يوصلهم إلى الله عز وجل، فنفى عنهم العلم والعمل، {لَا يَعْلَمُونَ} هذا نفي العلم {وَلَا يَهْتَدُونَ} نفي العمل.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى: إطلاق الجعل على التشريع، لقوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} .
الفائدة الثانية: بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريم هذه الأنعام الموصوفة بهذه الصفات: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
الفائدة الثالثة: الإنكار على الكفار حيث شرعوا هذه الشريعة وحرموا هذه الأشياء الأربعة.
الفائدة الرابعة: أن كل من أتى بشريعة ليست من عند الله فإنه يصدق أن نقول: إنه افترى على الله الكذب، لكن من اجتهد وبذل الوسع للوصول إلى الحق وحكم بغير الصواب فإنه لا يقال: إنه افترى على الله كذبًا، بل يقال: إنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد، وهذا والحمد لله من سعة رحمة الله عز وجل.
الفائدة الخامسة: خطر الإفتاء، وأن الإنسان قد يفتي بالشيء فيكون ممن افترى على الله كذبًا، وقد كان السلف رحمهم الله إذا استفتي أحدهم يقول: لا أفتي حتى أنظر الصراط بين يدي فهل أنجو منه أو لا أنجو؟ وكذلك الإجابة هل ينجو منها أو لا ينجو؟ ووالله إن هذا لدليل على تعظيم الله عز وجل وهيبته في القلب ألا يُقْدِمَ الإنسان حتى يعرف أنه سوف ينجو في العبور على الصراط، ولا شك أن الفتوى أمرها عظيم وخطرها عظيم، وما أشد زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب، نسأل الله العافية.
الفائدة السادسة: ذم أولئك الذين يقولون بلا علم وأنهم قد فقدوا عقولهم، لقوله:{وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} وصدق الله عز وجل؛ كل إنسان يقدم على الفتوى بالتحليل أو التحريم أو الإيجاب بدون علم فهو غير عاقل وإن ظن أنه صار إمامًا فإنه غير عاقل، وسيفضحه الله عز وجل إما في الدنيا وإما في الآخرة، يعني: قد يمهل الله له ويكون إمامًا في وقت ما لغفلة الناس وعدم العلماء، ولكن النتيجة سوف يكون مخذولًا والعياذ بالله؛ لأن كل من ابتغى الإمامة في غير دين الله فإنه مخذول.
الفائدة السابعة: أن التحري في الإفتاء من العقل، ولقد كان السلف الصالح يتدافعون الإفتاء ويؤجلون المستفتي، حتى إنهم ذكروا أن قومًا أتوا من خراسان من المشرق إلى المدينة يستفتون الإِمام مالكًا رحمه الله في مسألة فقال: أنظروني، وبقوا خمسة عشر يومًا ينتظرون الفتوى، وفي النهاية قال: ليس عندي علم، قالوا: سبحان الله! إمام دار الهجرة ليس عنده علم، ونحن قد أتينا من بلاد بعيدة وأقمنا في انتظار هذه الفتوى وتقول: ما عندي علم، قال: نعم، أقول: ما عندي علم، اذهبوا إلى قومكم قولوا: إن مالكًا يقول: ليس عندي علم. وهو إمام لكن الإنسان يعرف أنه سيقف بين يدي الله عز وجل، وسيسأله: لماذا حكمت في عبادي بما لم تعلم أنه حكمي أو يغلب على ظنك أنه حكمي، إذا كنت من أهل الاجتهاد.
فالمسألة خطيرة، نسأل الله أن ينجينا، الإنسان لولا أنه يقول: لعلي أكون إمامًا في الخير لقال: ليتني لم أرزق هذا العلم، ولكن نقول: نرجو من الله عز وجل التوفيق للصواب، وأن
نكون أئمة في دين الله وندخل في قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
الفائدة الثامنة: أن هؤلاء العوام يوجهون ويرشدون ويدعون إلى الكتاب والسنة، لقوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} وأبهم القائل إما لكثرة القائلين وإما لاختلاف مراتبهم؛ لأن كثرة القائلين توجب أن الإنسان ينصاع، والمرتبة العليا توجب أيضًا أن الإنسان ينصاع ويأتي.
الفائدة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة: إثبات أن الله تعالى أنزل الكتاب وهو القرآن، ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن كلام الله.
فإذا قال قائل: لا يلزم من كون الله أنزله أن يكون كلامًا؛ لأن الله يقوِل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ويقول: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22]، فهل تجعلون الحديد من صفات الله أو الماء النازل من السماء؟
الجواب: لا، لا نقول هذا، وقول من يقول: القرآن مخلوق كما خلق الحديد وكما خلق الماء النازل من السماء، تمويه من أهل الباطل؛ لأن أهل الباطل يتبعون المتشابه.
فنقول لهم: هل الكلام عين قائمة بنفسها، جسم أو غير جسم قائم بنفسه، أو لا بد لكل كلام من متكلم؟
الثاني لا شك؛ لأن الكلام وصف لا بد أن يكون من موصوف، إذًا: إذا أضاف الله إنزال القرآن إلى نفسه علمنا أنه كلامه؛ لأن القرآن كلام، فيكون في هذا دليل واضح على أن القرآن كلام الله.
وفي الآية أيضًا دليل على علو الله عز وجل لقوله: {إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} لأن النزول لا يكون إلا من أعلى، وعلو الله عز وجل أبين وأظهر من أن تقام عليه الأدلة، ولكن السلف وأهل السنة والجماعة اجتهدوا في تقرير الأدلة؛ لأن هناك من ينازع في علو الله عز وجل، وإذا وجد منازع فلا بد أن يكون له مقابل وإلا لضاعت الشريعة، يعني: أقول: العلو أَبْيَنُ من أن يحتاج إلى تكثير الأدلة، لكن لما كان في الأمة الإِسلامية التي تستقبل قبلتنا وتنحر نسيكتنا من ينكر العلو، صار لا بد أن نأتي بالأدلة من كل وجه، ومن أدلة العلو القرآن فهو مملوء بالأدلة على علو الله عز وجل العلو الذاتي، والسنة كذلك مملوءة وعلى جميع وجوهها: القول والفعل والإقرار، وإجماع الصحابة موجود، ما منهم أحد قال: إن الله ليس في السماء وهم يقرؤون القرآن ويسمعون السنة، ما أحد منهم قال: إن الله ليس في السماء، وعلى هذا فيكونون مجمعين على ما دل عليه الكتاب والسنة، وهذا الطريق به نعرف إجماع الصحابة أن القرآن يتلونه والسنة يسمعونها، ولم يرد عنهم ما يخالفها.
فإذًا: هم قائلون بها، فهذا طالبك إنسان بإجماع الصحابة على مثل هذه الأمور فقل: إنهم يقرؤون القرآن ويسمعون السنة، ويشاهدون الفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يرد عنهم ما يخالف ذلك، إذًا: هم مقرون بهذا لأنهم أهل اللسان وأعرف الناس بمعاني القرآن والسنة.
العقل أيضًا دليل على علو الله سبحانه وتعالى؛ لأن كل إنسان يعلم أن العلو صفة كمال وليس في هذا إشكال، وأن السفل صفة نقص، والرب عز وجل يجب له الكمال من كل وجه، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] صنم تعبده لا يسمع دعاءك ولا يبصر حالك ولا يغني عنك شيئًا.
الفطرة أيضًا هل تحتاج إلى دليل؟ لا تحتاج، كل إنسان يؤمن بالله عز وجل وأنه حي موجود فإنه لا يمكن أن يتصور إلا أنه في السماء، لو أتيت العجائز اللاتي لم يقرأن ما كُتب حول الموضوع وقلت لإحداهن: أين الله، ماذا تقول؟ هل تقول: في السماء أم تقول: اتركني أطالع وانظر؟ تقول: في السماء، حتى الجارية التي أعتقها معاوية بن الحكم رضي الله عنه لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم:"أين الله؟ " قالت: في السماء، فأي حكم يكون أثبت من حكم دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
الفائدة الثانية عشرة: وجوب الرجوع إلى ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن الله أنكر على هؤلاء الذين قالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .
الفائدة الثالثة عشرة: أن من تعصب لقول إِمام والتزمه وأصر عليه مع وجود الكتاب والسنة ففيه شبه من هؤلاء الكفار؛ لأنه إذا قيل له: تعال إلى ما أنزل الله والرسول قال: حسبي إمامي، فيكون فيه شبه من هؤلاء الكفار، وقد أنكر قوم التقليد إنكارًا عظيمًا، وقابلهم آخرون فأوجبوه وقالوا: إِن باب الاجتهاد قد سد منذ زمن سابق ولا مناص للأمة للإسلامية الآن من التقليد، فصاروا طرفي نقيض، قسم ينكره إنكارًا عظيمًا ويقول: التقليد شرك والتقليد دأب المشركين، ولا يمكن أبدًا إلا أن يعرف الإنسان الحق بنفسه.
وقسم آخر بالعكس قال: ما في كتاب المذهب هو الحق، ولو بان لك بالكتاب والسنة أنه غير صحيح فالزم المذهب ولا
تخرج عنه، وقد أدركنا هذا، أدركنا من يقول: المرجع الإقناع والمنتهى، وإياك أن تخرج عما فيهما، حتى وشوا ببعض الناس إلى السلطات حين ذكر ما هو الراجح من الأقوال، وقالوا: هذا خارج عن المذهب، وهذا لا شك أنه خطأ عظيم، ومن اعتقد أن أحدًا من الناس من العلماء وإن كبر بل من الصحابة يجب التزام قوله عزيمة ورخصة وتحليلًا وتحريمًا، فإنه ضال مبتدع يستتاب، فإن تاب وإلا أدبه الحاكم بما يرى أنه يردعه وأمثاله.
القسم الثالث: تَوَسَّطَ في التقليد والاجتهاد، قالوا: من أمكنه الاجتهاد ومعرفة الحق بنفسه لم يحل له أن يقلد، ومن لا، فله أن يقلد، واستدلوا بقول الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا للرجوع إلى قولهم وإلا لكان سؤالهم لغوًا لا فائدة منه، وبقول الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وبأن الله تعالى أباح التيمم عند عدم الماء، هذه ثلاثة أدلة، وبأن الله أباح الميتة عند الضرورة، إذا لم يجد الإنسان إلا ميتة فإما أن يأكلها فيبقى، أو لا يأكلها فيهلك، فيقال: يجب أن تأكلها وجوبًا فإن لم تفعل فأنت آثم، وما أحسن ما قال شيخ الإِسلام رحمه الله: اجعل التقليد كالميتة لا تحل إلا عند الضرورة.
الفائدة الرابعة عشرة: حسن الجدال في القرآن الكريم حيث أقام الحجة على هؤلاء الذين: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} بأن آباءهم {لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} فهم ضالون في علمهم وفي عملهم.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105].
الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تكرر كثيرًا وعرفنا ما يترتب على هذا الخطاب.
قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي ألزموا أنفسكم بالإصلاح ولهذا "على" تعتبر نائبة مناب اسم الفعل، أي: ألزموا أنفسكم بإصلاحها وطلب الهدى لها.
قوله: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} لأن النَّاس قد يقولون: إذا كان هناك فسقة أو كفار فإننا نخشى على أنفسنا من هذا، فَبَيَّنَ الله عز وجل أن ذلك لا يضرنا إذا أصلحنا أنفسنا، وهذا كما جاء في الحديث:"إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوىً متبعًا ودنيا مؤثرة وأعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام"
(1)
.
وقوله: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يعني إذا استقمتم على صراط الله، ومن الهداية أن يأمر الإنسان بالمعروف وينهى عن المنكر بقدر الاستطاعة، فليس في الآية ما يدل على إسقاط أو على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن من أعظم الهداية وأتم الهداية أن يأمر الإنسان بالمعروف وينهى عن المنكر.
(1)
رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم (4341)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، حديث رقم (3558)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، حديث رقم (4014) عن أبي ثعلبة الخشني.
قوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يعني إلى الله مرجعكم أيها المؤمنون وكذلك غير المؤمنين، فالمرجع إلى الله عز وجل، ويوم القيامة يفصل الله تعالى بين الخلائق.
قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ} أي: يخبركم.
قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ينبئكم بما كنتم تعملون؛ إنباء يترتب عليه الثواب أو العقاب.
فإن قال قائل: أليس قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ذات ليلة محمرًا وجهه يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، قال: فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وأشار بالسبابة والإبهام"، قالوا: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا أكثر الخبث"
(1)
؟
قلنا: هذا لا يعارض الآية؛ لأنه إذا هلك الصالحون بسبب الفتنة التي حصلت من هؤلاء فإن ذلك لا يضر؛ لأن الهلاك مصير كل حي، لكنه لا يتضرر في دينه، كما قال الله عز وجل:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وبهذا الوجه يتبين ألا معارضة بين هذه الآية وبين ما جاء في الحديث.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: فضيلة الإيمان وأن أهله أَهْلٌ لأن توجه إليهم الخطابات، لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
(1)
رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ويل للعرب من شر قد اقترب"، حديث رقم (6650)، ومسلم، كتاب الفتن أشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، حديث رقم (2880) عن زينب بنت جحش.
الفائدة الثانية: أن إصلاح النفس والعناية بها من مقتضيات الإيمان، فعليك نفسك، اعتنِ بها، وأصلحها ما استطعت.
الفائدة الثالثة: أن ضلال من يضل لا يترتب عليه ضرر المهتدي، يعني: الضرر المعين الشخصي، وأما الضرر العام وهي العقوبة العامة فهذه قد تكون وقد لا تكون أيضًا، أليس الله تعالى إذا أخذ الأمم السابقة ينجي النبي ومن معه؟ بلى، إذًا: ليس من الضروري أن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ المجرم بالعقوبة قد تشمل حتى المؤمن.
الفائدة الرابعة: انقسام الناس إلى ضال ومهتدٍ، لقوله:{لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والضلال له سبب، والهداية لها سبب؛ سبب الضلال الإعراض عن دين الله وعما جاءت به الرسل، لقول الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] ، ومن أسباب الهداية الإقبال على الله عز وجل وعلى ما جاءت به الرسل.
الفائدة الخامسة: أن المؤمنين إذا لم يهتدوا فقد يسلط عليهم أعداؤهم فيضرونهم؛ لأن الله اشترط لعدم الضرر الهداية، فإذا لم يهتدِ المؤمنون فيوشك أن الله تعالى يسلط عليهم الأعداء فيضرونهم في أموالهم أو أهليهم أو أوطانهم.
الفائدة السادسة: أن المرجع إلى الله عز وجل لا إلى غيره، وجه الدلالة من قولي:"لا إلى غيره" تقديم ما حقه التأخير؛ لأن قوله: {إِلَى اللَّهِ} خبر مقدم، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، فالمرجع إلى الله عز وجل، وهل المراد بالمرجع المرجع يوم القيامة أو المرجع حتى في الدنيا، فإننا عند النزاع نتحاكم إلى الله ورسوله؟
الجواب: المراد هذا وهذا، فالمرجع إلى الله عز وجل، لكن قوله:{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قد يقوي أن المراد به المرجع يوم القيامة.
الفائدة السابعة: الإيمان بالبعث، لقوله:{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} والإيمان بالبعث أحد أركان الإيمان الستة فمن أنكره أو شك فيه فهو كافر؛ لأنه يجب عليه أن يؤمن إيمانًا قاطعًا بأن الناس سيبعثون ويحاسبون.
الفائدة الثامنة: أن كل إنسان سيبعث صغيرًا كان أم كبيرًا، وذلك بتأكيد هذا في قوله:{جَمِيعًا} ولكن هل من سقط من بطن أمه قبل أن ينفخ فيه الروح يبعث يوم القيامة؟
الجواب: لا، لا يبعث؛ لأنه لم يكن إنسانًا، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر} [المؤمنون: 14] فَبَيَّنَ جلَّ وعلا أن الخلق بعد نفخ الروح غير الأول، وأن الأول عبارة عن قطعة لحم.
الفائدة التّاسعة: أن كل شيء قد أحصي على الإنسان، لقوله:{بِمَا كُنْتُمْ} "وما" هنا من صيغ العموم، فكل شيء فهو مكتوب، لكن هل يمحى بعد كتبه؟
الجواب: نعم، يمحى بعد كتبه، لكن القرار على ما في اللوح المحفوظ، أما الأعمال اليومية التي تتكرر فإنها قد تثبت وقد تمحى، لقول الله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبع الحسنة السيئة تمحها"
(1)
، وقوله تبارك وتعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
لكن ما استقر في اللوح المحفوظ فإنه لا تغيير فيه لأنه انتهى.
(1)
تقدم في (1/ 185).
الفائدة العاشرة: أن الإنسان لا يحاسب على حديث النفس لقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وحديث النفسى ليس عملًا؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"
(1)
ولكن إذا ركن الإنسان إلى حديث النفس واطمأن إليه واعتقده فحينئذٍ يكون قد عمل عملًا قلبيًّا لا جوارحيًّا.
الفائدة الحادية عشرة: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء لقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
* * *
(1)
رواه البخاري، كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه
…
، حديث رقم (2391)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب
…
، حديث رقم (127) عن أبي هريرة.
قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} هذه الآية لها قصة: سافر رجلان كافران مع رجل مسلم ثم حضرته الوفاة وليس معهم مسلم، فأشهدهما على وصيته، فهل تقبل شهادة هذين الرجلين أو لا تقبل؟
الجواب: الحكم يعرف من هذه الآية، والمسألة مسألة ضرورة؛ لأنه لا يوجد مسلم، فإذا لم يوجد مسلم اضطررنا إلى قبول شهادة الكافر، وللقصة سبب مذكور فلنفسر الآية ونقرأ السبب إن شاء الله.
قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يعني إذا مرضتم مرض الموت، وليس المراد حضور الأجل بالفعل؛ لأنه إذا حضر الأجل بالفعل فقد لا يعتبر قول الإنسان.
قوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} متعلق بالشهادة؛ لأن الشهادة مصدر تعمل عمل الفعل، فيصح أن يتعلق بها الظرف والجار والمجرور، يعني شهادتكم حين الوصية.
قوله: {اثْنَانِ} أي: صاحبا عدل {مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، والخطاب في قوله:{مِنْكُمْ} للمؤمنين عمومًا، وهذا لا إشكال فيه أن يُشْهِدَ الإنسان على وصيته اثنين ذوي عدل.
قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ذكر الله تعالى الصورة التي دعت الضرورة إلى إفمهاد من ليس بمسلم، وكلمة {مِنْ غَيْرِكُمْ} تشمل كل ملل الكفر وإن كانت القضية وردت في اثنين من أهل الكتاب، لكن العبرة بعموم اللفظ سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} "أو" هل هي للتخيير أو للتنويع؟
الثاني: للتنويع، يعني أو آخران من غيركم، إن لم يوجد ذوا عدل منكم.
قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: سافرتم، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهي كقوله:{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ، يعني أيقنتم أنكم ميتون لكون المرض مرضًا مخوفًا لا يرجى برؤه.
قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا} هذا كالتفصيل لقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} عند أداء الشهادة أي: {تَحْبِسُونَهُمَا} أي: الآخران من غيرنا، والمراد بالحبس: الإيقاف، توقفونهما {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} أي: من بعد صلاة العصر؛ لأن صلاة العصر: هي أفضل الصلوات، وهي الصلاة الوسطى، وآخر النهار أقرب في إجابة الدعاء من أول النهار، لا سيما إذا كان ذلك في يوم الجمعة، {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} أي: صلاة العصر.
فإذا قال قائل: لماذا جعلتم "أل": للعهد الذهني، ولم تجعلوها للجنس فتقولوا:{مِنْ بَعْدِ الصَّلَاة} أي: أيُّ صلاة؟ قلنا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام حبس الرجلين الشاهدين من بعد صلاة العصر، فتكون السنة هي التي عينت هذه الصلاة.
قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي: يحلفان به، {إِنِ ارْتَبْتُمْ} يعني شككتم في شهادتهما، {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أي: لا نشتري بهذا اليمين ثمنًا {وَلَوْ كَانَ} المشهود له {ذَا قُرْبَى} أي: صاحب قرابة.
وحاصل هذا القسم أنهما يقسمان: بأننا على حق وشهادتنا حق، ولا يمكن أن نشهد بباطل؛ لأجل شيءٍ من الدنيا، {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} معطوفة على قوله:{فَيُقْسِمَانِ} أي: ونحن لا
نكتم شهادة الله، أي: الشهادة التي حملنا الله إياها على ما حصلت به الوصية، {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} يعني: إن كتمنا شهادة الله لمن الآثمين، والجملة هنا مؤكدة بمؤكدين وهما: إن، والسلام، ومعنى {لَمِنَ الْآثِمِينَ}: أي: من الواقعين في الإثم، وإنما يقولان ذلك زيادة في التوكيد أنهما شهدا بحق. قوله:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} ، يعني: تبين أنهما {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} وذلك بشهادة الزور، أي: تبين أن شهادتهما زور وكذب، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني: في الشهادة ليردا شهادتهما، من أين هذان الآخران؟ يقول:{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} ؛ لأن الشهادة بالوصية تستلزم أن يؤخذ من نصيب الورثة لمن أُوْصِي له، فيكون ما شهد به الأولان مستحقًّا على هؤلاء الورثة، وقوله:{الْأَوْلَيَانِ} يعني: هما الأوليان، يعني أولى الناس بإرث هذا الذي شُهِدَ على وصيته، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي: الشاهدان اللذان هما من ورثة الموصي {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (اللام) في قوله: {لَشَهَادَتُنَا} واقعة في جواب القسم.
ما هي شهادتهما؟
شهادتهما: نفي هذه الوصية، وشهادة الأَوَّلَين إثبات الوصية، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} وإذا كانت أحق لزم أن تبطل شهادة الشاهدين الأولين، وهما كما قررنا أولًا ليسا مُسْلِمَين، بل هما من غيرالمسلمين، {وَمَا اعْتَدَيْنَا} يعني: ما اعتدينا في الاعتراض وإبطال الشهادة، {إِنَّا إِذً} يعني: إن اعتدينا، {لَمِنَ الظَّالِمِينَ}؛ لأن شهادتهما استلزمت شيئين:
الشيء الأول: القدح في شهادة الشاهدين الأولين.
الثاني: الظلم: ظلم المُوصى له، فلذلك قال:{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .
قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ، أي: ذلك المذكور أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني: على الوجه الصحيح، {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، يعني: أن الذين شهدوا أولًا، إذا علموا أنه لا بد أن يتعقبهم من الورثة من يتعقبهم فإنهم سوف يحرصون غاية الحرص أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أو إن لم يأتوا بالشهادة على وجهها {يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أيمان الورثة {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أيمان الشهداء، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} أمر الله تعالى بأن نتقيه بالتزام أحكامه، وأكد هذا بقوله:{وَاسْمَعُوا} : أي: اسمعوا ما أقول لكم وما آمركم به وهو تقوى الله عز وجل، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الخارجين عن طاعته، وهذا سيأتي إن شاء الله في الفوائد أنه وعيد شديد وأن الفاسق عرضة لئلا يهديه الله عز وجل، هذا معنى الآية الكريمة.
سبب الآيات:
ولننظر ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ولينتبه له؛ لأنه يعين على فهم الآية.
قال رحمه الله: "اشتملت هذه الآية الكريمة على حكمٍ عزيز، قيل: إنه منسوخ، رواه العوفي"
(1)
.
(1)
النص المنقول.
[قول ابن كثير رحمه الله: "عزيز" يعني: قليل الجنس].
ثم قال رحمه الله: "رواه العوفي عن ابن عباس، وقال حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم: إنها منسوخة، وقال آخرون وهم الأكثرون فيما قاله ابن جرير: بل هو محكم، ومن ادعى النسخ فعليه البيان".
[يعني: شهادة الكفار بل هي محكمة، أي: الآية، وهذا هو الصواب وقد تقدم أنه لا نسخ في سورة المائدة، بل كلها محكمة؛ لأنها آخر ما نزل، على أن بعض العلماء قال: إنها منسوخة ولكنه غير صحيح، وأي إنسان يدعي في أي نص من القرآن أو السنة أنه منسوخ فعليه الدليل].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ}، هذا هو الخبر لقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} فقيل: تقديره شهادة اثنين، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان، وقوله: {ذَوَا عَدْلٍ}، وصف الاثنين بأن يكونا عدلين".
[يعني الذين قالوا: لا بد من تقدير، قالوا: إنه لا يمكن أن تكون الجثة خبر للمعنى والشهادة معنى، واثنان شخصان فقالوا: إنها على تقدير مضاف شهادة اثنين أو أن يشهد اثنان، والصحيح أنه لا حاجة إلى هذا، وأنه إذا فُهم المعنى فهو المقصود، ولهذا يقولون: الليلة الهلال، فيخبرون بالظرف عن الجثة؛ لأن المعنى مفهوم ولا حاجة إلى أن نقدر الليلة طلوع الهلال، فالصواب أنه لا تقدير في الآية، وأن الآية معناها واضح].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: " {مِنْكُمْ} أي: من المسلمين، قاله الجمهور، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: من المسلمين، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن عَبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
وقال ابن جرير: وقال آخرون عني ذلك {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: من حي الموصي، وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما، وقوله:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ".
[لا شك أن القول الأول متعين؛ لأنه يخاطب المؤمنين يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يخاطب المؤمنيين، وليس يخاطب حي الذي وقعت فيهم القضية].
ثم قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : "قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال حدثنا سعيد بن عون، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: من غير المسلمين، يعني: أهل الكتاب، ثم قال: وروي عن عبيدة وشريح".
[قوله: يعني: "أهل الكتاب" فيه نظر، والصواب: أنه شامل لأهل الكتاب وغيرهم؛ لأن كل من ليس بمسلم فهو من غيرنا].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "وروي عن عَبِيدَة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة
ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك.
وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: "منكم" أي: المراد من قبيلة الموصي يكون المراد ها هنا، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير قبيلة الموصي، وقد روي عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: سافرتم، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين: أن يكون ذلك في سفر وأن يكون في وصية كما صرح بذلك شريح القاضي، قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية، ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شريح، فذكر مثله، وقد روي مثله عن الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله وهذه المسألة من أفراده وخالفه الثلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا".
[ولا يضر أن ينفرد الإِمام أحمد بالمسألة إذا كان معه دليل؛ لأن من معه الدليل فهو جماعة وإن كان واحدًا، وغالب ما انفرد به الإِمام أحمد رحمه الله بالتتبع هو الصواب، وليس كل ما انفرد به بل غالب ما انفرد به هو الصواب].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "وقال ابن جرير: حدثنا
عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهريّ قال: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين، وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإِسلام وذلك في أول الإِسلام والأرض حرب والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها، رواه ابن جرير، وفي هذا نظر والله أعلم.
وقال ابن جرير: اختلف في قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، هل المراد أن يوصي إليهما أو يشهدهما؟ على قولين: أحدهما: أن يوصي إليهما، كما قال محمَّد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، قال: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية، قال: هذا رجل سافر ومعه مال، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.
والقول الثاني: أنهما يكونان شاهدين، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان: الوصاية والشهادة كما في قصة تميم الداري وعدي بن بدَّاء كما سيأتي ذكرها آنفًا إن شاء الله وبالله التوفيق.
وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين، قال: لأنا لا نعلم حكمًا يُحَلَّفْ فيه الشاهد، وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أن هذا حكم خاصٌّ بشهادةٍ
خاصةٍ في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرائن الريبة، حُلِّفَ هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} قال العوفي عن ابن عباس: يعني: صلاة العصر، وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن سيرين، وقال الزهريّ: يعني صلاة المسلمين، وقال السدي عن ابن عباس: يعني صلاة أهل دينهما، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أي: فيحلفان بالله، {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي: إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما قد خانا أو غلَّا، فيحلفان حينئذٍ بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أي: بأيماننا، قاله مقاتل بن حيان".
[قوله: "بأيماننا" فيه نظر؛ لأنه قال: {لَا نَشْتَرِي بِهِ}، وهذا مفرد كيف يجمع، لكن إذا جعلناه عائدًا على اليمين، فالمعنى: لا نشتري به، أي: بالقسم الذي نقسم به، فهو عائد على القسم].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: " {ثَمَنًا} أي: لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي: ولو كان المشهود عليه قريبًا لنا لا نحابيه {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أضافها إلى الله تشريفًا لها وتعظيمًا لأمرها، وقرأ بعضهم: ولا نكتم شهادة آلله، مجرورًا على القسم، رواها ابن جرير عن عامر الشعبي، وحكي عن بعضهم أنه قرأ: ولا نكتم شهادةً الله، والقراءة الأولى هي المشهورة، {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} أي: إن
فعلنا شيئًا من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أي: فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلَّا شيئًا من المال الموصى به إليهما وظُهِرَ عليهما بذلك {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} وهذه قراءة الجمهور: "اسْتُحِقَ عليهم الأوليان"، وروي عن علي وأبي والحسن البصري أنهم قرؤوها:"استَحَقّ عليهم الأوليان"".
[{مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} هذه هي القراءة المشهورة، وفي قراءة {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} وفي قراءة {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمَّد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ}
(1)
ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس:"من الذين استحق عليهم الأوَّلين" وقرأ الحسن: "من الذين استحق عليهم الأولان" حكاه ابن جرير، فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي: متى تُحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة، وليكونا من أولى من يرث ذلك المال:
(1)
رواه الحاكم في المستدرك (2/ 259)(2932)، كتاب التفسير، باب قراءات النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يخرجاه وقد صح سنده.
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي: لَقُولُنَا: إنهما خانا، أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أي: فيما قلنا من الخيانة {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: إن كنا قد كذبنا عليهما، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما، والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوَثٌ في جانب القاتل، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، قال: حدثنا الحسين بن زياد، قال: حدثنا محمَّد بن سلمة عن محمَّد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان يعني أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قال: بَرِئَ الناس منها غيري وغير عدي بن بَدَّاء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإِسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بُديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به المَلِك وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما".
[يعني: هو أعظم التجارة التي معه، والجام: الإناء].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره، قال تميم: فلما
أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء
(1)
، وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير
(2)
كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمَّد بن سلمة عن محمَّد بن إسحاق به فذكره، وعنده: فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} إلى قوله:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء، ثم قال: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمَّد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمَّد بن سائب الكلبي، يُكنى أبا النضر وقد تركه أهل العلم بالحديث وهو صاحب التفسير، سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: محمَّد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر ثم قال: ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ.
وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من
(1)
رواه ابن أبي حاتم (6941).
(2)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، حديث رقم (3059) عن تميم الداري، وابن جرير في تفسيره (7/ 115).
غير هذا الوجه: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة عن محمَّد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: "خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا بالذهب].
[مخوصًا بالذهب يعني: مرصعًا عليه مثل الخوص من الذهب، يعني: مزركشًا وهو من فضة].
ثم قال ابن كثير رحمه الله: "فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدوا الجام بمكة فقيل: اشتريناه من تميمِ وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} وأن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} "
(1)
.
وكذا رواه أبو داود
(2)
عن الحسن بن علي عن يحيى بن آدم به، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وهو حديث ابن أبي زائدة، ومحمد بن أبي القاسم كوفي قيل: إنه صالح الحديث وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة، وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر، رواه ابن جرير، وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك، وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها، ومن
(1)
رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، حديث رقم (3060) عن ابن عباس.
(2)
رواه أبو داود، كتاب الأقضية، باب شهادة أهل الذمة وفي الوصية في السفر، حديث رقم (3606) عن ابن عباس.
الشواهد لصحة هذه القصة أيضًا، ما رواه أبو جعفر بن جرير
(1)
، قال: حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلًا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَا، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يُشْهِدُه على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب قال: فقدما الكوفة فأتيا الأشعري، يعني: أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما.
ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى بدقوقا
(2)
. وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن أبي موسى الأشعري، فقوله: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الظاهر والله أعلم أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان في سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرًا يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم.
وقال أسباط عن السدي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: هذا
(1)
رواه ابن جرير في التفسير (7/ 109 - 110).
(2)
رواه ابن جرير في التفسير (7/ 105).
في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه، قال: هذا في الحضر {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} في السفر {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخونوهما، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له: إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} قليلًا:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} إن صاحبهم لبهذا أوصى وإن هذه لتركته، فيقول لهما الإِمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك، فإن {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} رواه ابن جرير
(1)
.
وقال ابن جرير
(2)
: حدثنا الحسين قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا المغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه
(1)
رواه ابن جرير في التفسير (7/ 110 - 111).
(2)
رواه ابن جرير في التفسير (7/ 110).
الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا
…
} الآية، قالا: إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب، فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قُبِل قولهما، وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خُنَّا ولا غَيَّرنَا.
وقال علي بن أبي طلحة
(1)
، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة: بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلًا، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا: بالله إن شهادة الكافرين باطلة وإنَّا لم نَعْتدِ فذلك قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} يقول: إن اُطلع على أن الكافرين كذبا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} ، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله إن شهادة الكَافِرَيْنِ باطلة وإنا لم نَعْتَدِ فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء.
وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رواهما ابن جرير، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من الأئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم وهو مذهب الإِمام أحمد رحمه الله.
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أي: شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.
(1)
رواه ابن جرير في التفسير (7/ 113).
وقوله: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال:{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: في جميع أموركم، {وَاسْمَعُوا} أي: وأطيعوا، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يعني الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته"
(1)
اهـ.
أطال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية؛ لأن هذه الآية فيها إشكالات، لكنه وَجَّهَ حل جميع هذه الإشكالات، فيها إشكالات من جهة الإعراب ومن جهة السياق، ولكن الله عز وجل يتكلم بما شاء كيف شاء، حتى يعرف الناس أن هذا القرآن الكريم مناسب لمقتضى الحال، والقضية معتدة حكمًا وإعرابًا وغير ذلك، لكن الحمد لله بمثل هذا التفسير الذي تقدم يزول الإشكال.
خلاصة المعنى: أنه إذا سافر الإنسان وليس حوله مسلم، ليس حوله إلا كفار وأراد أن يوصي فليستشهد شاهدين اثنين على الوصية، فإذا وصلوا إلى البلاد الإِسلامية أدلوا بالشهادة وقبلت الشهادة بدون أي شيء، إلا إذا حصل ارتياب، فإذا حصل ارتياب حينئذٍ نستعمل القسم، نحبسهما من بعد الصلاة، والصواب أنه من بعد صلاة العصر وإن لم يعظموها لأنها عظيمة عند الله؛ ولأن العقوبة أسرع إلى من شهد كاذبًا، وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما في حديث أي موسى الأشعري رضي الله عنه
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 112 - 115).
عندما قال له: اجعلها بعد صلاتهما في دينهما، فهذا اختياره رضي الله عنه.
الحاصل: أننا نجعلهما يقسمان بالله أنهما صادقان وأنهما لم يشتريا بشهادتهما شيئًا من الدنيا، ويخوفان أن ترد أيمان بعد أيمانهم؛ لأن أولياء المقتول إذا أقسموا ردت شهادة الشاهدين، ومعلوم أنه إذا حكم برد شهادتهما صار ذلك عار عليهما وخزي، فربما إن لم يخافا من الله خافا من العار والخزي، ولهذا قال:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} ، هذا مجمل معنى الآية الكريمة، لكن فيها فوائد كثيرة نذكر منها ما نسأل الله أن ييسره ويوفقنا فيه إلى الصواب.
من فوائد الآيات الكريمة:
الفائدة الأولى: جواز شهادة الكافر للضرورة، ولكن هل تخصص الضرورة بهذه الصورة أم بكل ضرورة؟
أولًا: في أصل المسألة وهي شهادة الكافر فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن شهادة الكافر لا تقبل، وهذا مبني على أن هذا الحكم منسوخ، وهذا القول مردود بأن النسح يحتاج إلى دليل، وأن سورة المائدة قد قال كثير من العلماء: ليس فيها نسخ؛ لأنها من آخر ما نزل، فليطرح هذا، والعجب أن الذي قال بهذا القول أكثر العلماء.
وأن القول بشهادة الكافر هو قول الإِمام أحمد رحمه الله، وما أكثر ما ينفرد بالشيء فيكون قوله هو الصواب، كقوله في
مسألة كفر تارك الصلاة، انفرد بهذا القول لكنه حقيقة لم ينفرد؛ لأن معه الكتاب والسنة، والصحابة.
على القول بقبول شهادة الكافر، هل يختص هذا بهذه الصورة والواقعة، بمعنى أنه يشترط أن يكون الشاهدان كتابيين؛ لأن الشاهدين في هذه القصة كانا من النصارى، فهل يشترط أن يكونا كتابيين أو لا يُشترط؟
المشهور من المذهب أنه يشترط أن يكونا كتابيين، ولكن سيأتي أن ظاهر الآية يخالف ذلك وأن الآية عامة في كل كافر.
وهل يختص ذلك بالوصية أو في كل شيء؟
هذا أيضًا محل خلاف، وسبب القول باختصاصها بالوصية أن هذه خارجة عن قواعد الشهادة، والخارج عن القواعد قاعدته أن يقتصر فيه على ما خرج فقط، يعني: على ما ورد فقط، وسيأتي إن شاء الله أن القول الراجح أنه تجوز شهادة غير الكتابيين وأنها تجوز الشهادة في الوصية وغيرها وفي السفر وغيره، وهذا قد يقع أحيانًا، عندنا الآن كثير من المستشفيات القائمون على العلاج فيها نصارى، فإذا حضر الموت أحدًا من هؤلاء المرضى وأشهد من عنده من الأطباء فهذا حكمه كذلك.
الفائدة الثانية: أنه ينبغي الإشهاد على هذه الوصية، لقوله:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} وظاهر الآية الكريمة: أنه لا بد من رجلين، لقوله:{اثْنَانِ} واثنان عدد للمذكر، فهل هذه الآية على ظاهرها؟
الجواب أن يقال: هذا الآية تقيد بآية البقرة وهي قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]؛ لأن الأموال وما يقصد به الأموال إذا لم يقر المدعى عليه يكفي في إثباته واحد من أمور ثلاثة: شهادة رجلين، شهادة رجل وامرأتين، شهادة رجل ويمين المدعي، هذه بينات المال وما يتعلق به المال، وعلى هذا فيكون قوله تعالى:"اثنان" هذا مبني على الأكمل، يعني أن الأكمل في الإشهاد على الوصية أن يكون الشاهدان رجلين.
لكن لو قال قائل: هل يخص هذا الحكم بشهادتهما بما في الوصية أو هو عام يشمل حتى غير الوصية كما لو شهد على أن الميت أقر بدين في ذمته لفلان؟
الجواب: هو عام، والعموم يؤخذ من قوله تعالى:{فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يعني: وأشهدتم على هذا حين الموت، وهذا يشمل ما لو شهد بالوصية أو شهد بإقرار الميت بدين أو غير ذلك.
الفائدة الثالثة: جواز الوصية عند حضور الموت، لقوله:{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ} ، وهذا مقيد فيما إذا لم يتغير تمييز الموصي، فإن تغير تمييز الموصي فلا عبرة بقوله، يعني: لو اضطرب عند موته، وصار كلامه غير مرتب، فإنه لا عبرة بهذا الكلام، وهذا معروف من قواعد الشريعة.
الفائدة الرابعة: أنه يشترط في الإشهاد أن يكون الشاهدان ذوي عدل، لقوله:{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} وسبق تعريف العدالة، ولكن إذا لم يوجد عدل ووجد فاسق مأمون فهل يقوم مقام العدل؟ اختار بعض أهل العلم أنه يقوم مقام العدل، وأن اشتراط العدالة إنما هو عند التحمل، بمعنى أنك إذا أردت أن تشهد فلا تشهد
إلا عدلين، أما عند أداء الشهادة فالضرورات لها أحكام، فإذا لم نجد من يشهد إلا هذين الفاسقين، لكنهما في الأمانة موثوقان، فإننا نقبل شهادتهما، وهذا الأخير هو الصواب، أن العدالة شرط مع الإمكان، وأما إذا لم يمكن فإنه تقبل شهادة الفاسق بشرط، أن يكون ثقةً، وكم من إنسانٍ يكون فاسقًا في عبادته لكنه أمين في شهادته، ونعلم أننا لو اتبعنا اشتراط العدالة في أداء الشهادة معتبرين الشروط التي ذكرها الفقهاء في العدالة، أن كثيرًا من الحقوق سوف تضيع؛ لأن كثيرًا من الناس ليسوا على الاستقامة التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله.
الفائدة الخامسة: جواز شهادة الكافر إذا عُدِمَ المسلم، لقوله:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وهل يختص هذا بالكتابيين أم بكل كافر؟ ظاهر الآية بكل كافر، لقوله:{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} سواء كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو بوذيًّا أو شيوعيًّا أيًّا كان، لقوله:{مِنْ غَيْرِكُمْ} ، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال:
القول الأول: أن شهادة الكافر لا تقبل مطلقًا، وأجابوا عن هذه الآية بأنها منسوخة؛ لأن الله تعالى اشترط العدالة في الشهود، والكافر ليس بعدل.
والقول الثاني: أن شهادة الكافر جائزة بشرط أن يكون كتابيًّا وأن يكون عند الضرورة، فاشترط شرطين: الأول: الضرورة بأن لا يوجد مسلم، والثاني: أن يكون الشاهدان كتابيين، وهؤلاء احتجوا لاشتراط الضرورة بقوله تعالى:{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} إلى آخره، وقيدوا ذلك بالكِتَابِييِنْ؛ لأن القضية التي وردت فيها الآية كان الشاهدان من أهل الكتاب، وقالوا في
تقرير الاستدلال: إن عدم اشتراط الإِسلام في هذه الصورة خرج عن الأصل، وما خرج عن الأصل وجب اختصاصه بما ورد فيه فقط.
ولا شك أن الجواب على هؤلاء سهل، نقول: الآية الكريمة عامة والعبرة بعموم اللفظ، ولذلك إذا أراد الله تعالى تخصيص الحكم بأهل الكتاب قيده، كما في قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5]، وقال تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، فأما أن نقيد ما أطلقه الله فهذا ليس بصواب، وهذه قاعدة يجب على طالب العلم أن يسلكها، كل شيء ورد مطلقًا في القرآن والسنة فلا يجوز إضافة قيد إليه أبدًا؛ لأنه إذا فعل ضيق ما وسعه الله، واتخذ نفسه مشرعًا ومستدركًا على الحكم الشرعي، وهذا خطير، فالقاعدة إذًا: أن كل ما أطلقه الله ورسوله فالواجب إبقاؤه على الإطلاق، ولا يحل أن نضيف إليه قيدًا إلا بدليل، والدليل لا بد من اتباع، وحينئذٍ نقول: الصواب أنه يجوز أن يشهد اثنان عند الوصية عند عدم المسلم، سواء كانا كتابيين أو غير كتابيين.
الفائدة السادسة: علو مرتبة المسلم على الكافر، وهذا لا إشكال فيه، وجه ذلك: أن شهادة الكافر لا تقبل إلا إذا لم يوجد مسلم، وهذا يدل على أن المسلم أعلى مرتبة ومنزلة من غير المسلم.
فإن قال قائل: فهمنا أن شهادة الكافر فيما يتعلق بأمور المسلمين لا تجوز إلا عند الضرورة، فهل تقبلون شهادة الكافر، أي: شهادة الكفار بعضهم على بعض؟
الجواب: نعم، سواء كان للضرورة أو لغير ضرورة، شهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة، لكن بشرط أن يكون عدلًا في دينه كما اشترطنا في شهادة المسلم أن يكون عدلًا.
الفائدة السابعة: أن السفر يطلق عليه: الضرب في الأرض؛ لقوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} والقرآن الكريم تارة يذكر السفر بلفظه وتارة يذكر بدلًا عنه الضرب في الأرض، فقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] ، فهنا ذكر السفر، ولم يقل: أو ضربتم في الأرض، وقال تعالى في الصيام:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184].
الفائدة الثامنة: إطلاق الضرب في الأرض ولم يقيده بمسافة القصر أو أكثر أو أقل.
الفائدة التاسعة: أنه إذا أراد الشاهدان من غير المسلمين أداء الشهادة فإنهما يحبسان من بعد الصلاة، يعني يوقفان من بعد الصلاة وذلك لانتفاء التهمة؛ لأن الصلاة معظمة، والإنسان يخاف أن يشهد بباطل بعد هذه الصلاة التي ذكرها الله عز وجل، ولكن هل هذا مشروط بالارتياب في شهادتهما، أو نقول: إنهما يحبسان على كل حال ليظهر الفرق بين أداء الشهادة للمسلم وأداء الشهادة من غير المسلم؟ الآية فيها احتمال؛ لأن قوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} يحتمل أن يكون قوله: {ارْتَبْتُمْ} قيدًا في قوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} ويحتمل أن يكون قيدًا لقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} فعلى الاحتمال الأول يكون حبسهما واجبًا، وعلى الثاني: لا يكون حبسهما واجبًا إلا إذا ارتبنا منه.
الفائدة العاشرة: أنه لا يحلف بغير الله، لقوله:{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} فلو أقسم بغير الله حتى بمن يُعَظَّم عندهم كالمسيح مثلًا فإنها لا تقبل ولا يعتد بها.
الفائدة الحادية عشرة: أن إقسامهما لا يلزم إلا عند الارتياب في شهادتهما، لقوله:{إِنِ ارْتَبْتُمْ} .
فهل يؤخذ من هذا أن للقاضي أن يحلف الشاهدين عند الارتياب في شهادتهما؟ نقول: نعم له ذلك، لكن لو قيل: إن هذا إنما ورد في ارتيابنا من شهادة الكفار؟
فالجواب: الحكم يدور مع علته؛ لأننا لم نحلفهما بالله إلا عند إلارتياب لا لكونهما من الكفار، إذًا: للقاضي أن يُحلِّف الشهود إذا ارتاب في شهادتهما.
لو قال قائل: هل له -أي: للقاضي- أن يفرق الشهود أيضًا عند إلارتياب، بأن يخلو بكل واحد منهما ويسأله سؤالًا تفصيليًّا، حتى إذا اختلفا عرف أن شهادتهما غير صحيحة؟
الجواب: نعم له ذلك.
لو قال قائل: رجلان اشتركا في جريمة فهل يجوز للقاضي أن يفرق بينهما ويقول لأحدهما: إن صاحبك قد اعترف بهذه الجريمة، وهو لم يعترف؟
الجواب: لا يجوز لأن هذا كذب، وهل له أن يوري، فيظهر له خلاف ما يريد لاستظهار الحق؟
الجواب: نعم، ويدل لذلك قصة سليمان مع المرأتين اللتين خرجتا في حاجة لهما ثم أكل الذئب ولد إحداهما، فتخاصمتا إلى داود فقضى به للكبرى، ثم تخاصمتا إلى سليمان فدعا
بالسكين يريد أن يشق الولد نصفين، ويعطي الكبرى نصفه والصغرى نصفه، الكبرى وافقت على هذا؛ لأنها ليس في قلبها رحمة له، وولدها قد مات، قد أكله الذئب فليكن هذا تبعًا له، الصغرى قال: يا نبي الله هو لها، فلشفقتها ورحمتها تنازلت، عن دعواها، وليس معنى قولها:"هو لها" أنه عبد لها، لا، هو لها: يعني أنها قد تنازلت عن الدعوى، فقضى به سليمان عليه الصلاة والسلام للصغرى
(1)
.
المهم إذا ارتاب القاضي في شهادة الشهود فلا بأس أن يوري في الحكم من أجل استظهار الحق.
الفائدة الثانية عشرة: أن يكون صفة الإقسام على هذا: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ، فهل يكتفى بالمعنى أو لا بد من هذا اللفظ بعينه؟ الصواب أنه يكفى المعنى؟ لأن هذا اللفظ لا يتعبد به حتى نقول: لا يمكن أن يغير، بل عبر الله عز وجل عن المعنى بهذا اللفظ، إذًا: فالمرجع إلى المعنى.
الفائدة الثالثة عشرة: الإشارة إلى أن للقرابة تأثيرًا في الميل والعاطفة، لقولهما:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وهذا شيء فطري معروف، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
(1)
تقدم في (1/ 26).
الفائدة الرابعة عشرة: أن كتمان الشهادة إثم، لقوله:{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} وقد قرر الله تعالى هذا بقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ولا شك أن الشهادة إذا كتمها الإنسان لزم من ذلك إخفاء حق واجب لشخص، وإضافة باطل للشخص الآخر، فمثلًا إذا استشهده شخص بأن في ذمة فلان له كذا وكذا، فكتمه، ما الذي يحصل؟ إخفاء الحق وإضافة الباطل إلى من لم يشهد عليه.
الفائدة الخامسة عشرة: رد اليمين على المدعي لقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} الآية، لكن كيف تُرَدُّ اليمين على المدعي؟ نقول إذا ادعى زيد على عمرو مائة ريال، فطلبنا البينة من زيد فقال: لا بينة عندي، ولكن أطلب يمين المدعى عليه، فإذا حلف المدعى عليه انتهت الخصومة؛ وليس معنى ذلك أنه بريء، بمعنى لو أن المدعي فيما بعد علم ببينة له لم يعلمها من قبل فإنه على دعواه، لكن انتهت الخصومة، لو قال المدعي: إذا نكل عن اليمين أحكم عليه لأن الخصومة انتهت وأنه لا يطالبني بشيء، فرأى القاضي أن يرد اليمين على المدعي، فهنا لا بأس؛ لأنه قد يكون المنكر صادقًا ولكن يحتاج إلى زيادة إثبات فيردها عليه، وهذا القول هو الصحيح، أنه يجوز أن ترد اليمين على المدير كما في هذه الآية.
الفائدة السادسة عشرة: جواز تنقيب من عليه الحق عن القضية والتدقيق فيها حتى يعثر على الحق فيها، لقوله:{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} والعثار لا يكون إلا بعد التحري.
الفائدة السابعة عشرة: أن الشاهدين إذا غيرا في الشهادة بزيادة أو نقص أو تبديل فهما آثمان لقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} وذلك يكون الشهادة غير صحيحة؛ لأن هذا إثم.
الفائدة الثامنة عشرة: أنه يقام عند العثور على أن الشاهدين كاذبان اثنان ممن استحق عليهم، والقضية كما سبق كانت في وصية فيقوم اثنان ممن استحق عليهم، ويكون الاثنان هما الأوليان، يعني الأحقان بإرث الميت، والكلام في الآيتين عن الوصية.
الفائدة التاسعة عشرة: الإشارة إلى أن الإرث يكون للأولى فالأولى لقوله: {الْأَوْلَيَانِ} وقد جاء الحديث مقررًا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"
(1)
.
الفائدة العشرون: أن المدعى عليه لا يجزم ببطلان شهادة الشاهد التي تبين أن فيها شيئًا من الخلل، لقوله:{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} بهذا اللفظ ولم يقل: باطلة، لكنَّ قوله:{أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يستلزم أن تكون مردودة وأن القول قول المدعى عليه.
الفائدة الحادية والعشرون: أنه إذا احتيج في الشهادة أو في القسم إلى إثبات ونفي فلا بد من ذكر الإثبات والنفي، فقولهما -يعني الأوليين-:{لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} هذا إثبات، {وَمَا اعْتَدَيْنَا} هذا نفي، فإذا احتيج إلى ذلك فلا بد من ذكر النفي والإثبات حتى تكون الشهادة خالصة.
الفائدة الثانية والعشرون: أن رد الأوليين لشهادة الشاهدين أعظم اعتداء من تغيير الشهادة من الشاهدين، وجه ذلك أنه في
(1)
تقدم ص 13.
تغيير الشهادة من الشاهدين قال: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} ، وهنا قال:{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وسبق في التفسير بيان وجه الفرق بينهما.
الفائدة الثالثة والعشرون: أنه كلما كان الشيء أقرب إلى استنتاج الصواب والحق في الشهادة فهو أولى أن يتبع، لقوله:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} لأن الإنسان إذا فهم أن من وراءه أناسًا سيقومون برد شهادته والإقسام على بطلانها، فلا بد أن يتحرى الصدق فيما يشهد به.
الفائدة الرابعة والعشرون: وجوب تقوى الله والسمع والطاعة له، لقوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} ومعنى {وَاسْمَعُوا} هنا: استجيبوا كما سبق أيضًا في الشرح.
الفائدة الخامسة والعشرون: أن الله سبحانه أخبر بأنه لا يهدي القوم الفاسقين، أي: الخارجين عن طاعته، وخبر الله صدق، لكن يشكل على هذا أن الواقع أن الله قد يهدي الفاسقين وقد يهدي الكافرين، فكيف نجمع بين الواقع وهذا الخبر الصادق؟
الجمع أن نقول إن قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الذين كتب الله عليهم الفسق، وأما من كتب عليه أن يؤمن فيؤمن ولا بد، ولكن الفائدة من هذا أي من إطلاق قوله:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الإشارة إلى أن عدم هداية الله للقوم الفاسقين؛ لأنهم اختاروا الفسق، كما قال الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] ، نسأل الله الهداية وأن يعيذنا من أنفسنا والشيطان.
* * *
° قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة: 109].
قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} كلمة "يوم" ظرف، والظرف والجار والمجرور لا بد لهما من عامل، ويسمى هذا العامل متعلق، ولهذا قال ناظم القواعد:
لابد للجار من التعلقِ
…
بفعلٍ أو معناه نحو مُرتقي
فقوله: (أو معناه) يعني اسم الفاعل واسم المفعول وما أشبهه، وعلى هذا يكون "يومَ" منصوبًا وعامله محذوف؛ لأنه ليس بين أيدينا عامل يمكن أن نحيل العمل عليه فنقول: العامل محذوف، والتقدير:"اذكر يوم"، ويوم: هنا مضافة إلى جملة فعلية مضارعية فهي إذًا منصوبة، وليست مبنية؛ لأنها أضيفت إلى فعل معرب، وهي لا تبنى إلا إذا أضيفت إلى فعل مبني.
وقوله: {اللَّهُ} الاسم الكريم فاعل، وبعضهم يقول: لفظ الجلالة فاعل، وبعضهم يقول:"الله" فاعل، لكن الأولى أن يقال: الاسم الكريم أو لفظ الجلالة، حتى لا يقع الشيء على ذات الله عز وجل، بل على الاسم، و "الرسل" مفعول به.
قوله: {فَيَقُولُ} معطوف على {يَجْمَعُ} ولهذا جاءت مرفوعة.
قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} يحتمل أن تكون "ماذا" كلمة واحدة على أنها استفهام، ويحتمل أن تكون "ما" اسم استفهام، "وذا" بمعنى: الذي، كما قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:
ومثل "ما" ذا بعد ما استفهام
…
أو مَنْ إذا لم تلغَ في الكلام
فإذا قلنا: إن "ماذا" كلمة واحدة صارت "ماذا" اسم
استفهام، وإذا قلنا:"ما" اسم استفهام و "ذا" بمعنى: "الذي" صارت "ما": اسم استفهام مبتدأ و "ذا" اسم موصول خبر المبتدأ، و {أُجِبْتُمْ} مبني للمفعول، ويقال: مبني للمجهول، ويقال: مبني لما لم يسمَّ فاعله، والأخير هو الأولى؛ لأنه قد يبنى على هذه الصيغة وفاعله معروف، ولكنه لم يسمَّ، مثل قول الله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، لا يمكن أن تقول:(خُلق) فعل ماض مبني للمجهول؛ لأن الخالق معلوم، ولهذا عبر ابن مالك رحمه الله في الألفية بقوله: ما لم يسمَ فاعله، وهذا أحسن.
قوله: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} : هذا جواب قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} وقوله: {لَا عِلْمَ لَنَا} (لا) هذه نافية للجنس، وهي تعمل عمل "إن" لكن اسمها يكون مبنيًّا معها إذا كان مفردًا، والمفرد في باب لا النافية للجنس، ما ليس مضافًا ولا شبيهًا بالمضاف، وعلى هذا فيكون {عِلْمَ}: مبني على الفتح في محل نصب، و "لنا": جار ومجرور خبرها.
أما معنى الآية: فيقول الله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} يعني: اذكر هذا اليوم العظيم، يوم يجمع الله الرسل وذلك في يوم القيامة، يجمعهم على أي كيفية وفي أي وقت، هل هو في أول يوم القيامة أو في آخره، أم ماذا؟
يجب علينا في مثل هذه المسائل الغيبية أن نقف حيث وقف النص؛ لأنه ليس للعقل في هذا مدخل، لا ندري هل يكون أول ما يبعث الناس في أثناء اليوم أو في آخر اليوم، علينا أن نذكر هذا الجمع.
وقوله: {الرُّسُلَ} جمع رسول فيشمل الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأولهم نوح وآخرهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
قوله: {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} يعني: ماذا أجابكم الذين أرسلناكم إليهم؟ وهذا كقوله تعالى في المرسل إليهم: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65] ، وعلى هذا فيكون الله عز وجل يسأل الرسل، ويسأل المرسل إليهم، قال الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، سؤال الذين أرسل إليهم أن يقال لهم: ماذا أجبتم المرسلين؟ وسؤال المرسلين أن يقال: ماذا أُجبتم؟ وهل هذا السؤال للاستعلام؟
الجواب: لا؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هل هو للتوبيخ أي: توبيخ المرسل إليهم، كقوله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8 - 9]؟
الموؤودة ليس لها ذنب وتسأل بأي ذنب قتلت، توبيخًا لقاتليها، فيكون قوله:{مَاذَا أُجِبْتُمْ} المقصود به: توبيخ المرسل إليهم، وهذا لا شك أنه هو الصواب، أما الاستعلام فغير وارد، وقولهم:{لَا عِلْمَ لَنَا} لا شك أن الإنسان يشكل عليه هذا النفي، وهو نفي مطلق عام؛ لأنه بـ "لا" النافية للجنس، فكيف لا يكون عند المرسلين علم؟
الجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: إما أن يقال: لا علم لنا بما حدث بعدنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الواردين على الحوض حين يردون فيذادون
عنه، فيقول:"أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك"
(1)
فيكون معنى قوله: {لَا عِلْمَ لَنَا} ، أي: فيما حدث بعدنا، وهذا حق.
الوجه الثاني: {لَا عِلْمَ لَنَا} بما في بواطن الذين أجابوا؛ لأن من الذين أجابوا الرسل من كانوا منافقين لا تعلم الرسل ما في قلوبهم، وهذا أيضًا وجه قوي، فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون ما في قلوب الذين يظهرون اتباعهم، قال الله عز وجل:{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] ، والمعرفة في لحن القول مبنية على قرينة ليس على شيء محسوس مقطوع به.
والوجه الثالث: {لَا عِلْمَ لَنَا} إلا ما علمتنا وأنت تعلم ماذا أجبنا؛ لأنك علام الغيوب، وهذا وإن كان له وجه لكنه ليس بذاك القوي، فأحسن ما يقال: أنه لا علم لنا بما حدث بعدنا، أو لا علم لنا بما في بواطن الأمور.
هناك وجه رابع: أنهم قالوا: لا علم لنا تأدبًا مع الله عز وجل، كما يقول التلميذ لأستاذه: ليس عندي علم؛ تأدبًا معه، وإن كان عنده علم، وكأن ابن جرير رحمه الله يميل إلى هذا القول، أي: إلى أن المعنى: أنهم يقولون: لا علم لنا؛ تأدبًا مع الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون أن الله لم يسألهم استعلامًا؛ لأنه عالم.
(1)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة المائدة، حديث رقم (4349)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، حديث رقم (2860) عن ابن عباس.
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} جملة استئنافية تبين أنهم وَكلُوا العلم إلى عالمه عز وجل وهو الله تبارك وتعالى، والغيوب: جمع غيب، و "إنَّ": تنصب الاسم وترفع الخبر والكاف اسمها و "علَّام" خبرها وهو مضاف إلى الغيوب، "أنت" هنا، هل نقول: إنها توكيد للكاف في "إنك" أو نقول: هي ضمير فصل لا محل له من الإعراب، أو نقول: إنها مبتدأ وخبره علام؟ كل هذا محتمل، وأوجه الإعراب كثيرة، ولهذا يقولون: إن حجج النحويين كنافقاء اليرابيع، النافقاء: جُحر اليربوع، واليربوع ذكي يحفر له جحرًا في الأرض، ويمضي فيه ثم يحفر في آخره، إلى فوق، حتى إذا لم يبقَ إلا قشرة رقيقة تركها باقية فإذا سد عليه أحد الباب، وإذا النافقاء يسهل الخروج منها فيخرج من النافقاء، فيقولون: إن النحويين كما حجرتهم من جهة قلت: هذا لا يصح؛ أتوا بوجه آخر ولو كان الاحتمال بعيدًا، ولذلك لا يغلب النحوي القوي في النحو أبدًا لأنه يستطيع كما أتيت له بحجة، أتى لك بما يسوِّغ قوله.
فنقول: كلمة "أنت" إما تكون ضمير فصل أو توكيدًا للكاف أو مبتدأ، وخبره "علَّام" وعليه جملة المبتدأ والخبر تفيد الحصر؛ لأن الجملة إذا صار طرفاها معرفتين أفادت الحصر، لكن ضمير الفصل أقوى في الحصر.
وقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} هذه صيغة مبالغة بمعنى: أنه عز وجل ذو علم بالغ بالغيوب، والغيوب جمع غيب، وهو ما يختفي على الخلق فالله جلَّ وعلا علام الغيوب، {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} [النمل: 75] ، يعلم حتى ما لم يكن كيف يكون، كما يعلم الموجود الذي يكون غائبًا عن الخلق عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أنه يجب على الإنسان أن يتذكر هذا اليوم العظيم لينظر ماذا أجابت به الرسل، وهو يوم القيامة حين يجمع الرسل ويسألون.
الفائدة الثانية: تمام قدرة الله تبارك وتعالى وذلك بجمعه الرسل في ذلك الموقف العظيم، الذي يختلط فيه الآدميون والوحوش والسباع والإبل وغيرها، فيجمع الله سبحانه وتعالى الرسل بقدرته وإذنه.
الفائدة الثالثة: فضيلة الرسل عليهم الصلاة والسلام حيث إن الله سبحانه وتعالى يعتني بهم هذا الاعتناء حتى إنه يسألهم يوم القيامة في هذا المشهد العظيم: ماذا أجيبوا؟ تكريمًا لهم وإظهارًا لإبلاغهم الرسالة.
الفائدة الرابعة: إثبات القول لله عز وجل، وأن الله سبحانه وتعالى يقول. لقوله:"فيقول"، وإثبات القول لله قد امتلأ به القرآن وامتلأت به السنة، وصار إثبات القول لله من الأمور القطعية اليقينية.
الفائدة الخامسة: أنه يقول عز وجل بحرف وصوت، وجه الدلالة: أن مقول القول هو قوله: "ماذا أجبتم"؟ وهذه حروف، ووجه الدلالة على الصوت: أنه يخاطب الرسل، فلا بد أن يكون الخطاب مسموعًا لهم، وإلا لم يكن له فائدة، وهذا الذي قررناه في إثبات القول لله عز وجل، وأنه بحرف وصوت هو الذي أجمع عليه أهل السنة أئمتهم ومقلدوهم، ومن قال سوى ذلك فهو مبتدع ضال، من قال: إن الله لا يوصف بالقول وإن الذي يضاف إليه
من الأقوال عبارة عن أصوات مخلوقة، خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه، فهذا القول من أبطل الأقوال، وقد أبطله شيخ الإِسلام رحمه الله في رسالة تسمى التسعينية من تسعين وجهًا وهو جدير بالإبطال؛ لأنه متناقض وفاسد، والمشكل أن هذا عليه كثير من الناس اليوم؛ لأنه مذهب الأشعرية السائد بين كثير من الأمة الإِسلامية، مع أنه باطل ولا يمكن أن يصدقه من كان على الفطرة السليمة.
الفائدة السادسة: تأدب الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الله عز وجل، حيث قالوا:{لَا عِلْمَ لَنَا} هذا وجه.
الوجه الثاني: أنهم عرفوا قدر أنفسهم وأنهم لا يعلمون الغيب.
الوجه الثالث: أنهم علموا أن الأمم بعدهم لا يعلمون عنها شيئًا حسب الاحتمالات التي ذكرناها في وجه قوله: {لَا عِلْمَ لَنَا} .
الفائدة السابعة: إثبات علم الغيب لله عز وجل، لقول الرسل عليهم الصلاة والسلام وهذا القول إجماع منهم:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} يعني: لا غير، فمن ادعى علم الغيب فهو كافر؛ لأنه مكذب للقرآن الكريم، ولما أجمع عليه المسلمون، من قال: إنه سيحدث في يوم كذا، كذا وكذا فهو كاذب وهو كافر، والكهنة يخبرون عن الواقعات في المستقبل، لكنهم لهم أناس من الجن يستمعون الوحي ويسترقونه، ويلقونه إلى الكاهن، ويضيف الكاهن إليه كذبات كثيرة، ويصدُقُ في كلمة واحدة، وهذا لا
ينافي القول بأن الله تعالى علام الغيوب وحده؛ لأن الله قال في
هؤلاء الذين يسترقون السمع: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] ، فاستثنى الله عز وجل، فقال:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)} [الصافات: 10].
* * *
قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى} نقول في ذلك كما قلنا في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} أي: أن "إذ" مفعول لفعل محذوف تقديره "اذكر".
وقوله: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} هذا نداء وصف أو عطف بيان، "عيسى": منادى مبني على الضم؛ لأنه عَلَمٌ، وكل علم ينادى وهو غير مضاف فإنه يبنى على الضم في محل نصب، فتقول:"يا زيدُ" ولا تقول: "يا زيدًا"، وأما "ابن مريم" فهو وصف أو عطف بيان، ونصب؛ لأنه مضاف، و "مريم" اسم أمه، ونسب إليها؛ لأنه لا أب له، إذ إنه خلق من أم بلا أب.
قوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} هذا مقول القول، ثم فصل ذلك بقوله:{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ، "إذ" متعلقة بقوله:"نعمة"، و "نعمة" مفعول "اذكر"{أَيَّدْتُكَ} الفاعل مستتر
تقديره أنا، والفاعل إذا كان تقديره أنا أو نحن أو أنت، كان مستترًا وجوبًا، وإذا كان تقديره هو أو هي فهو مستتر جوازًا إلا في بعض المسائل مثل فعل التعجب فإن تقدير الفاعل فيه هو، ومع ذلك يكون مستترًا وجوبًا.
قوله: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} متعلق بـ "أيَّد".
قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} هذا بيان لـ "نعمة" فالجملة استئنافية، وقوله:{تُكَلِّمُ} الفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، و {النَّاسَ} مفعول به، {فِي الْمَهْدِ} أي: حال كونك في المهد، "وكهلًا" وحال كونك كهلًا.
قوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} يعني: واذكر نعمتي عليك أيضًا إذ علمتك الكتاب، فتكون الواو حرف عطف، و "إذ" معطوفة على "إذ" الأولى.
وقوله: {عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} "علَّم" ينصب مفعولين، المفعول الأول الكاف، والمفعول الثاني: الكتاب، والحكمة معطوف عليه، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} معطوفان، {وَإِذْ تَخْلُقُ} معطوفة على {إِذْ أَيَّدْتُكَ} ، فهو من نعمة الله عليه فهي أيضًا في محل نصب. {تَخْلُقُ}: أي أنت، {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الكاف: اسم بمعنى "مثل"، أي: مثل هيئة الطير، وهو مضاف إلى "هيئة" وإن كان حرفًا، و "هيئة" مضاف إلى الطير، و {بِإِذْنِي} متعلق بـ "تخلق"، {فَتَنْفُخُ} معطوفة على تخلق، {فِيهَا} أي: في هذه المخلوقة التي خلقتها، {طَيْرًا} خبر تكون، واسمها مستتر جوازًا، والتقدير "فتكون" هي، و {بِإِذْنِي}: متعلقة بتكون، {وَتُبْرِئُ} معطوفة على "تخلق"، يعني: "وإذ تبرئ الأكمه
والأبرص بإذني"، {وَتُبْرِئُ} فعل مضارع، وفاعله مستتر وجوبًا تقديره أنت، و {الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} مفعول به ومعطوف عليه، و "بإذني" متعلق بتبرئ، {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} نقول في إعرابها كما قلنا في إعراب "تبرئ الأكمه"، {وَإِذْ كَفَفْتُ} معطوفة على "إذ" الأولى "إذ أيدتك" يعني: واذكر نعمتي عليك إذ كففت بني إسرائيل عنك، و {بَنِي إِسْرَائِيلَ} مفعول كففت، و {عَنْكَ} متعلقة بكففت، {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} متعلقة بـ (كففت) أيضًا، و {بِالْبَيِّنَاتِ} صفة لموصوف محذوف، والتقدير: بالآيات البينات.
قوله: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أي: من بني إسرائيل.
قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} في محل نصب مقول القول، و "إن": نافية، و "هذا" مبتدأ، و "إلا": أداة حصر، و "سحر": خبر للمبتدأ، و "مبين": صفته.
يقول الله عز وجل مذكرًا عيسى عليه الصلاة والسلام بهذه النعم: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} وعيسى: هو ابن مريم وهو من بني إسرائيل، ومن ذرية إبراهيم، كما قال الله عز وجل:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام: 84، 85].
وقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} مفعول "قال" والمعنى: اذكر النعمة التي أنعمت بها عليك وعلى والدتك، أما نعمته عليه فذكرها، وَعَدَّ منها ما عَدَّ، وأما نعمته على الأم فإنه هيئ لها ويسر لها المكان الذي تضع فيه حملها، وجعل عندها رطبًا جنيًّا، ونهرًا على قولٍ في معنى:{سَرِيًّا} [مريم: 24] ومن نعمته أيضًا
على أمه: أنه أنطق عيسى في المهد ليبين براءة أمه مما اتهمها به اليهود الذين قالوا لها: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [مريم: 28]، يعني: وأنت كيف صرتِ على هذه الحال.
وقوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} أي: إذ قويتك، وروح القدس: هو جبريل عليه السلام، يؤيده في كل ما يحتاج فيه إلى تأييد.
قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} هذا من نعمة الله عليه، أنه كلم الناس وهو في المهد، أي: صغير يحمل باليد، والعادة أن هذا لا يتكلم، {وَكَهْلًا}: أي: كبيرًا، والكهل قيل: ما بين الثلاثين إلى الخمسين، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وإنما ذكر الله تكليمه في المهد، وتكليمه حين كان كهلًا ليبين أن كلامه حين كان في المهد، ككلامه حين كان كهلًا لا يختلف، والمعروف أن الصغير لا يتكلم وأنه لو تكلم لم يكن ككلام الكبير لا في الأداء ولا في الترتيب ولا في المعنى.
ولذلك لو قال قائل: ما الفائدة من قوله: {وَكَهْلًا} ؛ لأن كلام الإنسان في حال الكهولة أمر معلوم؟ قلنا: ليبين أن كلامه حين كان كهلًا ككلامه حين كان في المهد.
وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ} يعني: اذكر إذ علمتك الكتاب والحكمة، و {الْكِتَابَ} قيل إنه الكتابة وليس المراد الكتاب المنزل، بدليل قوله:{وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} فيكون الكتاب بمعنى: الكتابة، {وَالْحِكْمَةَ} هي العلم والفهم والعقل الراجح، حيث ينزل الأشياء في منازلها؛ لأنه أحد الرسل الكرام، فالحكمة إذًا: العلم والفهم والرشد، أي: تنزيل الأشياء في منازلها.
قوله: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} التوراة: هي الكتاب الذي
أنزله الله على موسى، والإنجيل: هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، وهو فرع عن التوراة؛ لأن الأصل هي التوراة، لكن الإنجيل جاء فيه بعض الأشياء التي لم تكن في التوراة، كما قال الله عز وجل:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].
قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} أي: تصنع من الطين شيئًا كهيئة الطير، {فَتَنْفُخُ فِيهَا} أي: فيما صنعت من هذه الهيئة، {فَتَكُونُ طَيْرًا} وفي قراءة:(طائرًا بإذني) يعني: يخلق شكل طائر، ولنقل: شكل حمامة، فينفخ فيها نفخة واحدة فتكون طيرًا، يعني: طيرًا حيًّا، والقراءة الثانية:"طائرًا"، أي: أنها تطير بالفعل، وهذا لا أحد يقدر عليه إلا الله عز وجل أو من أذن له بذلك.
قوله: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} تبرئ أي: تشفي، الأكمه: من مرضه، والأكمه: أحسن ما قيل فيه: أنه هو الذي ولد بلا بصر، إما لأن الأجفان لم تنفتح، وهذا وقع، يعني: وقع مولود في زماننا هذا أكمه، أجفانه منطبقة غير منفتحة، أو أن المراد الأعشى الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار أو بالعكس، ولكن المعنى الأول أبلغ في الآية، أن يكون خلق بلا بصر فيبرئه بإذن الله عز وجل، وأما الأبرص فمعروف، وسيأتي إن شاء الله في الفوائد أن الله أعطاه هذه المعجزات؛ لأن الطب في زمنه ترقى إلى مكان بعيد، فآتاه الله من الآيات ما يعجز عنه الأطباء.
وقوله: {بِإِذْنِي} كررها لبيان أن هذه الآية العظيمة لم تكن إلا بإذن الله، في الآية التي في آل عمران كرر الإذن مرتين، لكن
مَنْ الذي قال ذلك في الآية التي في آل عمران هل الله خاطب عيسى أو عيسى خاطب قومه؟ عيسى خاطب قومه فافترقا.
لو قال قائل: في سورة آل عمران كان المتبادر إلى الذهن أن عيسى عليه السلام عند مخاطبة قومه أن يكرر الإذن أكثر من هذه الآية لئلا يغلوا فيه؟
الجواب: في سورة آل عمران أضافها إلى الله عز وجل حتى يبين أن الإله حقًّا هو الله عز وجل، هذا هو المهم، أما في هذه الآية فلئلا يغتر أحد بكونه يحيي الموتى، فقال:{بِإِذْنِي} ، وسيأتي ذلك في الفوائد إن شاء الله تعالى، وأيضًا لأجل أن يعرف عيسى عليه السلام أنه إنما يتصرف بإذن الله عز وجل.
وقوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} أي: من قبورهم فيقف على القبر، ويقول: يا فلان اخرج، فيخرج بإذن الله عز وجل، وفي آية آل عمران يقول:{وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] ، فإذا جمعت هذه إلى تلك صار عيسى عليه السلام يحيي الميت قبل أن يدفن، ويحييه بعد أن يدفن.
وعن سؤال الطالب عن: الميت الذي يحييه عيسى عليه السلام هل يبقى ويعيش بعد إحيائه أم ماذا؟
فالجواب: أما أنا ما حضرت، لكن هل هذا جواب سليم أم غير سليم؟ سليم؛ لأن هذا السؤال في غير محله، والمقصود بيان أنه عليه الصلاة والسلام يحيي الموتى، أما كونه يبقى أو لا يبقى هذا البحث فيه غير سديد، والسؤال عنه غير جيد، وأنا دائمًا أقول: مسائل الغيب نقتصر فيها على ما ورد، والشأن كل الشأن أن يحيا بعد الموت لا أن يموت بعد الحياة.
النعمة الأخيرة، ذكرها في قوله:{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} {وَإِذْ كَفَفْتُ} أي: صددت، {عَنْكَ} لأنهم أرادوا قتله، وقصة الصلب مشهورة، فإنهم اجتمعوا على قتله ثم انتدب بعضهم لذلك فألقى الله الشبه على واحدٍ منهم ورفع عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي ألقي عليه الشبه يصيح: لست عيسى، ولكنهم كذبوه قالوا: أنت عيسى، فقتلوه وصلبوه، فادعى بنو إسرائيل أنهم قتلوا عيسى وصلبوه، ولكن الله كذبهم، فقال تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] ، بل هو حي باقٍ وسينزل في آخر الزمان
وقوله: {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} حين جئتهم بالبينات أرادوا قتلك، بعد أن ظهر الأمر وتبين وأتيت بآيات بينة، {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي: قالوا: إن عيسى سحرنا، كيف يبرئ الأكمه؟ كيف يخلق شيئًا من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طائرًا؟ ما هذا إلا سحر، وكذبوه، وهكذا المكذبون للرسل كلهم يقولون: إن الرسل سحرة؛ لأن الرسل تأتي بآيات لا يستطيعها البشر، فيموهون على الأعمى ويقولون: إنهم سحروه، قال الله تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52]، وهذه الآية عامة فكل الرسل قيل لهم هذا:{سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} .
وقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي: بَيِّنٌ واضح؛ لأن "أبان" تستعمل متعدية ولازمة فيقال: أبان الفجرُ، أي: طلع، ويقال: أبان الأمرَ، أي: وضحه، وهي على حسب السياق، فتارة تكون بمعنى: أبان، وتارة تكون بمعنى: بأن، وهنا مأخوذة من بأن، أي: هذا سحر بَيِّنٌ ظاهر.
لو قال قائل: لماذا الصليب مقدس عند النصارى؟
الجواب: يقولون: إن عيسى عليه الصلاة والسلام حسب زعمهم - أنه رضي بأن يفدي العالم بنفسه فرضي بالقتل والصلب، فمن أجل ذلك نعظمه، والحقيقة أنهم لو كانوا عقلاء لكانوا يكسرون الصليب؛ لأنه صلب عليه نبيهم على زعمهم، فكان يجب أن يكون أكره ما يكون إليهم النظر إلى الصليب، لكن كما هو معلوم النصارى ضالون ليس عندهم عقول.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: تذكير هذه الأمة بما جرى لأنبياء الأمم السابقة قبلها ومن أرسل إليهم؛ لأن قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ} متعلقة بمحذوف، والتقدير: واذكر إذ قال الله.
الفائدة الثانية والثالثة: إثبات أن الله يتكلم ويقول بحرف وصوت؛ لأن مقول القول هو: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إلى آخره، وهذه حروف، والقول لا يوجه إلا لمن يسمعه، ولو كان قول الله هو ما قام بنفسه، لم يصح أن يقول: إذ قال الله: يا عيسى، وفي هذا رد على الأشاعرة، الذين قالوا: إن قول الله وكلام الله هو المعنى القائم بالنفس، وليس هو المسموع، والمسموع أصوات يخلقها الله عز وجل تعبر عما في نفسه، وهذا القول باطل من أوجه كثيرة، كتب عليه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه الله خيرًا عن هذه الأمة - رسالة تسمى التسعينية، أبطل هذا القول من تسعين وجهًا وهو جدير بأن يبطل ويطرح؛ لأنه متناقض، والعجب أنهم هم والمعتزلة اتفقوا على أن ما في المصحف مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هو كلام الله، وهؤلاء
قالوا: هو عبارة عن كلام الله، فكان المعتزلة والجهمية من هذا الوجه أسعد منهم بالصواب مع أنهم كلهم خطأ؛ لأن هؤلاء يقولون - أعني الأشاعرة -: الذي في المصحف هذا ليس كلام الله، بل عبارة عن كلام الله وهو مخلوق، وأولئك يقولون: كلام الله مخلوق، ومن تدبر هذا القول وجده في غاية البطلان.
الفائدة الرابعة: بيان تذكير الله سبحانه وتعالى عباده بنعمه عليهم، وهذا جاء في القرآن في غير ما موضع، مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3] ، أحيانًا يكون عامًّا كهذه الآية، وأحيانًا يكون خاصًّا، مثل قوله:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ، وما أشبه ذلك، وإنما يُذكِّر الله العباد بالنعمة من أجل وجوب شكرها؛ لأن وجوب شكر المنعم ثابت سمعًا وعقلًا، أما السمع فمملوء به القرآن، كقوله تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152]، وقوله:{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172]، وأما عقلًا: فلأنه ليس من المروءة أن تقابل النعمة بالإساءة والكفر، فشكر المنعم إذًا واجبٌ سمعًا وعقلًا، وفائدة التذكير بالنعم هو القيام بالشكر.
الفائدة الخامسة: جواز نسبة الإنسان إلى أمه إذا لم يكن له أب، لقوله:{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ، وهل يمكن أن يكون للإنسان أم بلا أب؟
الجواب: نعم، وذلك فيما إذا نفى الزوج الولد عن نفسه فإنه ينتفي عنه بالشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله، وكذلك ولد الزنا: إذا لم يستلحقه الزاني فإنه له أم وليس له أب، فإن استلحقه الزاني فالمسألة فيها خلاف معروف، وجمهور العلماء
على أنه لا يلحقه، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"وللعاهر الحجر"
(1)
.
لكن لو قال قائل: إذا كانت نسبته إلى أمه توجب التساؤلات، وأن ينكسر قلبه، وأن يساء إلى أمه فهل يعدل عن هذا؟
الجواب: نعم يعدل عن هذا؛ لأن نسبته إلى أمه إذا لم يكن له أب على سبيل الإباحة والجواز، فإذا كان يستلزم ما يؤدي صاحبه فإنه يعدل إلى نسبته إلى آخر، لكن ننسبه إلى من؟ نقول: ننسبه إلى اسمٍ يصح لكل إنسان مثل: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الكريم، عبد اللطيف، وما أشبه ذلك، فعلى هذا نقول: الأصل فيمن ليس له أب أن ينسب إلى أمه، فإن خشي من ذلك مضرة أو إيذاء نسب إلى من يصح أن ينطبق على كل أحد.
الفائدة السادسة: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب عليهم الشكر كما يجب على من أرسل إليهم؛ لأن الله أمر عيسى أن يذكر نعمته عليه وعلى أمه، ونقول: نعم يجب وهم - أي: الأنبياء - أشد الناس قيامًا بشكر النعمة، فقد كان إمامهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل حتى تتورم قدماه وتتفطر، فيقال:"يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا"
(2)
.
(1)
تقدم في (1/ 460).
(2)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
…
} [الفتح: 2] ، حديث رقم (4556)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، حديث رقم (2820) عن عائشة.
الفائدة السابعة: أن نعمة الله على الوالدين نعمة على الولد، لقوله:{عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} ولا شك أنها نعمة على الولد كما هي نعمة على الوالد، وهل النعمة على الولد نعمة على الوالد من باب المساواة أو الأولى؟ من باب الأولى؛ لأن الولد بضعة من أبيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في فاطمة رضي الله عنها لا إنها بضعة مني، يريبني ما رابها"
(1)
فنعمة الله على الولد في الحقيقة نعمة من الله على الوالد.
الفائدة الثامنة: أن الله تعالى يؤيد البشر بالملائكة، لقوله تعالى:{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .
الفائدة التاسعة: هذه المزية لجبريل عليه السلام وأنه يؤيد الأنبياء والرسل.
الفائدة العاشرة: اللقب الفاضل لجبريل: روح القدس، فإن القدس بمعنى: الطهارة والنزاهة من كل عيب، فهو: أي: جبريل عليه السلام ذو مِرَّةٍ، أي: ذو هيئة حسنة، وهو قوي كما قال الله عز وجل:{ذِي قُوَّةٍ} [التكوير: 20]، وله مكانة عند الله عز وجل، كما قال الله تعالى:{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)} [التكوير: 20]، واليهود يبغضون جبريل، والمسلمون يحبون جبريل؛ لأن جبريل موكل بالوحي ينزل به وفيه حياة الأمة، وأولئك يكرهون جبريل يقولون: إنه ينزل بالعذاب، ولكنه ينزل بالعذاب على من يستحقه.
(1)
رواه البخاري، كتاب النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف، حديث رقم (4932)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة، حديث رقم (2449) عن المسور بن مخرمة.
الفائدة الحادية عشرة: هذه الآية العظيمة التي أعطاها الله تعالى عيسى وهي: أنه يكلم الناس في المهد وكهلًا على السواء، أي: أنه يتكلم بكلام رصين بليغ عجيب مع أنه في المهد، وعادة لا يتكلم الإنسان في المهد إنما ينبغ نبغًا لا يفهم، لكن هذا من آيات الله عز وجل، كما أن أصل عيسى من آيات الله، وسبق ما ذكره الله تعالى لنا من كلام عيسى في المهد، لما قال قوم مريم لها:{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، فأشارت إليه فقال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 30 - 33]، كلام عجيب بليغ، لكن الله على كل شيء قدير.
الفائدة الثانية عشرة: التنصيص على النعمة بالعلم والشرع والحكمة، وأنها أخص من مطلق النعمة؛ لأن مطلق النعمة سبق في قوله تعالى:{اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} لكن العلم خصه فقال: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ، وعلى هذا فيجب على طالب العلم أن يشكر الله تعالى على نعمته عليه، حيث خصه بالعلم الذي حَرَمَهُ كثيرًا من الناس، وإذا من الله عليه بالعبادة والدعوة إلى الله صار نعمة فوق نعمة، فكم من أناس ضلوا عن سواء السبيل، قال الله عز وجل:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، والإنسان إذا شعر بنعمة الله عليه بالعلم والعبادة والدعوة فإنه يزداد فرحًا وسرورًا ومثابرة وصبرًا على ما هو عليه من طلب العلم وازدياد العبادة وقوة الدعوة إلى الله عز وجل.
الفائدة الثالثة عشرة: التنصيص على الحكمة وهي معرفة أسرار الشريعة وغاياتها وثمراتها، فإن معرفة ذلك لا شك أنه يزيد الإيمان وأنه يزيد الإنسان بصيرة في شرائع الله، وأنها أي: الشرائع من لدن حكيم عليم، ولهذا نقول: إنه لا يمكن أن يوجد في صريح المعقول ما يخالف صحيح المنقول، هذه قاعدة خذها مضطردة، فإن وجدت ما ينافيه فاعلم أن الأمر لا يخلو من أحد أمرين ولا بد: إما أن عقلك ليس بصريح، يعني: فيه شبهات أوجبت إخفاء الحق عليك أو شهوات انطمس بها -نسأل الله العافية- وإما أن يكون النص غير صحيح، يكون حديثًا ضعيفًا أو مكذوبًا على النبي صلى الله عليه وسلم أو ما أشبه ذلك، أما أن يكون عقل صريح سالم من الشبهات والشهوات ونقل صحيح فلا يمكن أن يتناقضا أبدًا.
الفائدة الرابعة عشرة: أن التوراة والإنجيل كتابان من عند الله عز وجل، وسبق أن قلنا: إن عطفهما على الكتاب من باب عطف الخاص على العام، إذا لم نقل: إن المراد بالكتاب الكتابة.
الفائدة الخامسة عشرة: بيان قدرة الله تبارك تعالى على إحياء الموتى وعلى إدخال الروح في الجماد، لقوله:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر} .
الفائدة السادسة عشرة: إطلاق لفظ الخلق على ما صنعه المخلوق، فمثلًا: لو صنعت بابًا، تقول: خلقت بابًا، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقوله في الحديث الصحيح: "يقال للمصورين: أحيوا ما
خلقتم"
(1)
، فإن قال قائل: إذا أثْبَتَ صفة الخلق للمخلوق، فأي فرق بين خلق الخالق وخلق المخلوق؟
الجواب: الفرق عظيم جدًّا، خلق الخالق إيجاد من عدم على ما يريد الله عز وجل: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، خلق المخلوق: تحويل مخلوق الله إلى صفة أخرى، وإلا فالأصل من الله عز وجل، وهل يمكن لأحد أن يجعل من الحجر ذهبًا؟ لا يمكن، لكن يمكن أن يجعل من الذهب حليًا، وأن يجعل منه على شكل حيوان، كما جعلت بنو إسرائيل الحلي الذي أخذوه من آل فرعون عجلًا، فافترق الخلق المنسوب للخالق والخلق المنسوب للمخلوق، خلق المخلوق يعني: تحويل الشيء من شيء إلى آخر، ليس ذاته ولكن صفاته، وأما خلق الخالق: فهو إيجاد من عدم، وهذا لا يستطيع أحد أن يفعله.
الفائدة السابعة عشرة: أن الله عز وجل جعل لعيسى آيةً تعجز علماء الفن الذى اشتهر في حياته، فقد قيل: إن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام اشتهر في وقته الطب وترقى ترقيًا عظيمًا، فجاء عيسى بآيات لا يستطيع الأطباء أن يقوموا بها، كما أن السحر في عهد موسى كان منتشرًا فجاء موسى بآيات تبطل سحرهم، وكما أن البلاغة كانت منتشرة في العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء الله تعالى بكتاب أعجزهم.
(1)
رواه البخاري، كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة، حديث رقم (5607)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة، حديث رقم (2108) عن ابن عمر.
الفائدة الثامنة عشرة: أنه سبحانه وتعالى يختار من الآيات أشدها إعجازًا، فإنه لم يَمُنَّ على عيسى بأن يخلق أرنبًا أو قطًا أو ما أشبه ذلك بل طائرًا؛ لأن الطيران في الجو أبلغ من المشي على الأرض، فاختار الله له أن يخلق طائرًا، يعني: على صورة الطير.
الفائدة التاسعة عشرة: أن النفخ له تأثير في الأجساد إذا أراد الله عز وجل أن يؤثر؛ لأنه نَفَخَ في الطير الذي صنعه فصار طائرًا كما في القراءة الأخرى، لما نفخ فيه صار حيوانًا من الطيور ثم طار لتحقق أنه دخلته الروح، ومن ثَمَّ جاءت القراءة على المريض عن طريق النفث، والنفث كما نعلم جميعًا يتضمن نفخًا وريقًا، وهذا مؤثر بإذن الله عز وجل، ولهذا لو أن القارئ صار يقرأ ويأخذ بإصبعه من ريقه ويبل به مكان الألم أو يبل به المريض، فلا أظنه ينفع، لا بد من نفث مع ريق.
الفائدة العشرون: ما أعطاه الله تعالى عيسى من الآيات في إبراء الأكمه، وهو الذي خلق بلا عين ولا بصر، وهذا دليل على قدرة الله، والظاهر والله أعلم أنه يبرئه في الحال، ولا يحتاج إلى علاج وإلى انتظار، كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في عين أبي قتادة رضي الله عنه حين جرحت في أُحد وبرزت على خده -العين برزت على الخد- فأتي به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذ العين وردها في مكانها، وعادت كما كانت في الحال
(1)
،
(1)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 400)، والطبراني في الكبير (19/ 8)، والحاكم في المستدرك (3/ 334)، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 118) عن قتادة بن النعمان.
سبحان الله العظيم هذه قدرة لا يبلغها الأطباء، فالظاهر أن إبراءه الأكمه والأبرص، يكون في الحال، بدون معالجة وتردد.
الفائدة الحادية والعشرون والثانية والعشرون: هذه الآية العظيمة لعيسى أنه يخرج الموتى من القبور لقوله: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} وهذه لا يقدر عليها أحد، أما هل يبقى الميت إذا خرج أو لا يبقى هذا ليس لنا فيه كلام ولا ينبغي أن نتكلم فيه؛ لأن الآية حصلت بإخراجه من قبره، أما هل يبقى ويعيش مع الناس، أو يموت بعد أن خرج وبرز للناس ثم يدفن؟ فهذا ليس لنا في معرفته مصلحة، وليس لنا أن نسأل عنه؛ لأن الآية حاصلة بدونه.
ففي هذه الآية الجمل الأربع: الطير، إبراء الأكمه، وإبراء الأبرص، وإحياء الموتى، فيه دليل على أنه لا يمكن لأي بشر مهما أوتي أن يحصل له مراده إلا بإذن الله عز وجل؛ لأن كل جملة أو كل كلمة قيدها الله تعالى بإذنه؛ لئلا يدعي مدعٍ أن الخلق لهم استقلال في أفعالهم، فيكون لهذه الفائدة فرع وهو الرد على القدرية: والقدرية هم الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، ليس لله فيه إرادة، الإنسان يأكل ويشرب ويدخل ويخرج ويتحرك ويسكن بإرادة تامة ليس لله فيها تعلق، وهذا يعني: إثبات خالق مع الله عز وجل، أو إثبات موجد للحوادث مع الله عز وجل، ولهذا سميت القدرية مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يقولون: إن الحوادث الكونية لها خالقان: ظلمة ونور، وهؤلاء يقولون: الحوادث في الكون لها موجدان، كل واحد مستقل عن الآخر، أفعال العباد يستقل بها العباد حتى إن بعضهم يقول: إن الله لا يعلم من أفعال العباد إلا ما وقع، وأما ما لم يقع فلا يعلمه الله عز وجل، فوصفوا الله تبارك وتعالى بالجهل فيما هو في ملكه تبارك وتعالى.
الفائدة الثالثة والعشرون: إثبات إذن الله، وليعلم أن الإذن المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: إذن كوني قدري، وإذن شرعي تعبدي، مثال الإذن الكوني: هذه الآية: {تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} ، ومثال الإذن الشرعي: قول الله تبارك وتعالي: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، {مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} شرعًا أو قدرًا؟ قدرًا قد أذن فيه، فإنه مكن لهؤلاء من أن يشرعوا لأقوامهم ما لم يأذن به الله، ومكن الأقوام أن يتعبدوا بهذه الشريعة البدعية، لكن شرعًا لا، والفائدة من معرفة القسمين: أن نؤمن بأن ما أذن الله فيه قدرًا فلا بد من وقوعه، وما لم يأذن به فلا يمكن وقوعه، أما شرعًا: فما أذن الله فيه شرعًا فقد يقع وقد لا يقع، وما لم يأذن فيه فقد يقع وقد لا يقع، هذا هو الفرق.
لكن لو قال قائل: ما الفرق بين الإذن والإرادة؟
الجواب: الإرادة والإذن متقاربان، لكن الإذن أبلغ في التأثير، فمثلًا: أنا أريد منك أن تفعل، وأذنت أن تفعل، هذا أبلغ، لكن بالنسبة لصفات الله عز وجل متقاربة.
الفائدة الرابعة والعشرون: أن الله يدافع عن المؤمنين وأن كف الأذى عن الإنسان من نعمة الله عليه، ولهذا امتن الله به على المؤمنين فقال:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، نأخذ هذا من قوله:{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فكلما كان الإنسان أشد إيمانًا بالله عز وجل دفع الله عنه، وتسليط بعض الناس عليه بالإيذاء ما هو إلا كتسليط المرض على الرسل والأنبياء من باب رفعة الدرجات، وإلا فلا شك أن
هناك أئمة من هذه الأمة أوذوا أشد الإيذاء، بل الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤذون، كما قال الله عز وجل:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: 34]، لكن هذا من باب رفعة الدرجات.
الفائدة الخامسة والعشرون: تشجيع الداعي إلى الله عز وجل الذي يأتي بالآيات البينات فإنه عرضة للإيذاء لقوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ، فكل إنسان يدعو إلى الله ويأتي بالبراهين والأدلة، لا بد أن يسلط عليه من يسلط، ولكن الله تعالى بقوته وقدرته يصرف عنه.
الفائدة السادسة والعشرون: تمرد بني إسرائيل الذين كفروا حيث ادعوا أن هذا سحر بل حصروا {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يعني: ولا يمكن أن يكون حقًّا.
الفائدة السابعة والعشرون: أن السحر ما خفي سببه، فقالوا: كيف يكون عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله كيف يكون هذا؟ هذا سحر! لو أن أحدًا وقف على جثةٍ هامدة وقال: قومي فقامت ماذا يقول الناس؟ يقولون: هذا ساحر، كيف يقوم الميت؟ فهم لَبَّسوا والعياذ بالله على عباد الله وقالوا في آيات الأنبياء: إنها سحر مبين.
الفائدة الثامنة والعشرون: أن المؤمنين يتبين لهم الحق ويعلمون أنه حق؛ لأن مثل هذا القول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إنما يصدر من أهل كفر، أما المؤمن فيؤمن بالآيات ويرى أنها حق ويزيد إيمانه بها.
الفائدة التاسعة والعشرون: أن عيسى عليه الصلاة والسلام
كغيره من الرسل جاء بالآيات البينات، يعني: الواضحات التي لا تشكل على أحد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من نبي بعثه الله إلا أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، ولولا هذا لكان الناس معذورين، ألا يصدقوا، يعني: لولا الآيات مع الرسل عليهم الصلاة والسلام، لكان الناس لهم عذر ألا يصدقوا، وعليه فيكون قوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، يكون مقيدًا بأنهم أوتوا آياتٍ يؤمن على مثلها البشر، وآيات الأنبياء أنواع كثيرة يجمعها أنها معنوية وحسية، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فصلًا قيمًا جدًّا جدًّا في آخر كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ذكر فيه آيات النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: إن آياته نوعان: حسية ومعنوية، والحسية آفاقية وأرضية ووضح توضيحًا كاملًا، وأن من أعظم آياته بل أعظم آياته هذا القرآن، الذي كان آية في وقته وفيما بعده إلى يوم القيامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"وإنما الذي أوتيته وحيٌ أوحاه الله إلي -أو كلمة نحوها- فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"
(1)
لأن القرآن بقي، وآيات الأنبياء انتهت بحياتهم فقط، ما لبث أقوامهم أن حرفوا الكتب من بعدهم، أهل التوراة وأهل الإنجيل والكتب الأخرى.
* * *
(1)
رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي أول ما نزل، حديث رقم (4696)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، حديث رقم (152) عن أبي هريرة.
قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} (إذ): على حسب ما سبق مفعول لفعل محذوف، التقدير: اذكر إذ أوحيت.
وقوله: {أَنْ آمِنُوا بِي} أن: هنا تفسيرية؛ لأنها إذا وقعت بعد فعل تضمن معنى القول دون حروفه سميت تفسيرية، والوحي فعل متضمن لمعنى القول دون حروفه، ومن ذلك قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنون: 27]، فـ (أن) هنا يعربها أهل النحو على أنها تفسيرية.
وقوله: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} أعاد حرف الجر في قوله: {وَبِرَسُولِي} وهو معطوف على قوله: {بِي} لأنه إذا عطف على ضمير متصل فإنه يؤتى بحرف الجر الذي كان في المعطوف عليه، هذا هو الأشهر في اللغة العربية، وربما يخرج الكلام عن الأصل مثل قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]"والأرحامِ" بالكسر، على قراءة، والقراءة المشهورة:{وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] بالنصب، ومثل قوله تعالى:{وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، ولم يقل: وبالمسجد، وإلا فالأصل أنه إذا عطف على ضمير متصل فإنه يعاد حرف الجر.
قوله: {قَالُوا آمَنَّا} هذا جواب: {أَنْ آمِنُوا بِي} .
قوله: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} يجوز في مثل هذا، أي: في قوله: {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ، أن تضعف النون وألا تضعف، إن ضعفت فلا بد من الإتيان بالضمير: بأننا، وإن لم تضعف أدغمت النون بنون الضمير فصارت: بأنا مسلمون، وقد جاء ذلك في القرآن.
قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} هذه أيضًا جملة استئنافية وعامل "إذ" محذوف، والتقدير: اذكر إذ قال الحواريون، {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} عيسى: منادى وهو في مثل هذا يبنى على الضم في محل نصب ولكن جاءت "ابن" وهي صفة أو عطف بيان منصوبة، ولم تتبع موصوفها؛ لأنها مضافة، ولهذا تقول: يا زيدُ بنَ عبد الله، ولا تقل: يا زيدُ بنُ عبد الله؛ لأن هذا أعني المضاف لو سلط عليه العامل لنصبه، فإذا كان العامل لو سلط عليه مباشرة لنصبه، فكيف والعامل لم يسلط عليه إلا بواسطة المعطوف عليه عطف بيان أو بدل.
قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} فيها قراءتان: قراءة: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وقراءة: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} ، وكلاهما سبعية، أما:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} فهي فعل وفاعل، وأما "هل تستطيع رَبَّكَ" فهي فعل وفاعل مستتر متصل ومفعول به، الفاعل المستتر في قوله:{هَلْ يَسْتَطِيعُ} ، يعود على عيسى.
قوله: {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} جار ومجرور صفة لمائدة، وذلك؛ لأن الجار والمجرور والفعل إذا أتى بعد النكرة فهو صفة، وإن أتى بعد المعرفة فهو حال.
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه متعلقة بقوله: {اتَّقُوا
اللَّهَ}؛ لأن الإيمان يحمل على التقوى وهي شرط في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ} .
قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} (أوحيت) هنا، هل هو الوحي الشرعي أو الوحي الكوني الإلهامي؟ في هذا قولان للعلماء: فمنهم من قال: إنه الوحي الشرير، يعني: أوحيت إليهم بواسطة عيسى، وإلا من المعلوم أن الوحي الشرعي لا يكون إلا للأنبياء والرسل، لكن أوحيت إليهم شرعًا بواسطة نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام، أما إذا كان وحيًا كونيًّا: فالمراد به الإلهام، كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، أوحينا وحي إلهام أو وحي شرع؟ وحي إلهام، وكما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68]، هذا وحي إلهام، وهو وحي كوني؛ لأنه يتعلق بالخالق.
فإن قال قائل: ألا يمكن أن نحمل الآية على المعنيين جميعًا، فيكون الله تعالى أوحى إلى نبيهم عيسى أن يبلغهم ذلك وألهمهم قبوله؟
الجواب: بلى يمكن أن يحمل الوحي على المعنيين جميعًا.
وقوله: {الْحَوَارِيِّينَ} الحواريون: هم الخلص من الأصحاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لكل نبي حواري، وحواري الزبير بن العوام"
(1)
، وتأمل كيف كان هؤلاء هم الخلص من
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الطليعة، حديث رقم (2691)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل طلحة والزبير، حديث رقم (2415) في جابر بن عبد الله.
أصحابه، ماذا صنعوا بعد ذلك وهم الخلص؟ اقرن هؤلاء الخلص بالخلص من هذه الأمة تجد الفرق العظيم، كما لو قرنت الخلص من قوم موسى لوجدت الفرق العظيم بينهم وبين الخلص من هذه الأمة، مما يدلك على فضل هذه الأمة، التي اختارها الله تعالى لاتباع هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} أن آمنوا بي: الإيمان بالله عز وجل يتضمن الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته والإيمان بأسمائه وصفاته، يعني يتضمن أربعة أشياء، والمراد الانفراد بهذه الأشياء.
فالإيمان بوجوده رد على أولئك الشيوعيين الذين يقولون: ليس هناك رب، وإنما هي طبائع تتفاعل، وينتج بعضها بعضًا وإلا فلا رب -والعياذ بالله- لأنه قد ختم على قلوبهم نسأل الله العافية.
الإيمان بربوبيته: رد على من يقولون: إن الله سبحانه وتعالى له معين في الخلق أو له شريك، ولهذا نفى الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23].
الإيمان بألوهيته: المراد انفراده بالألوهية رد على الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر يعبدونه كما يعبدون الله كمشركي قريش.
الإيمان بأسمائه وصفاته: رد على طائفتين المعطلة والممثلة.
الطائفة الأولى: الممثلة: أشركوا بالله، فقالوا مثلًا: إن لله وجهًا كوجوهنا، وله يد كأيدينا، وله عين كأعيننا، وما أشبه ذلك، هؤلاء مشركون.
الطائفة الثانية: المعطلة الذين نفوا الوجه واليد والعين والقدم والنزول والاستواء وما أشبه ذلك، هؤلاء معطلون، لهم نصيب من قول فرعون:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وإن كانوا لا يعطلون الألوهية لكنهم يعطلون الأسماء والصفات، فمن آمن برب لا يوصف بسمع ولا بصر ولا حكمة ولا عزة ولا قوة ولا مجيء ولا استواء هل آمن برب حقيقة؟ لا.
قوله: {وَبِرَسُولِي} أي: عيسى عليه الصلاة والسلام، والإيمان برسول واحد يتضمن الأمر بالإيمان بجميع الرسل؛ لأن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل، ألم تقرأ قول الله عز وجل:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105]، وهل أحد أرسل قبل نوح؟
الجواب: لا، ويجب أن تكون لا قوية، لا يوجد رسول قبل نوح، ومع هذا قال:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} لأنه إذا كذب بواحد من الجنس فقد كذب بالجنس كله، إذا آمنوا بعيسى فقد آمنوا بجميع الرسل ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن عيسى بشربه.
قوله: {قَالُوا آمَنَّا} قالوا بالسنتهم، {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} قالوا لمن، لله أو لعيسى؟ إذا كان عيسى هو الذي أمرهم فسيكون قولهم:{وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} لعيسى فأقروا
واستشهدوا، وإذا أقر الإنسان واستشهد، صار استشهاده غيره مانعًا له من الإنكار فيما بعد؛ لأن الإنسان قد يقر بنفسه، لكن إذا لم يكن عنده من يشهد عليه ربما ينكر، لكن هم أقروا بالسنتهم واستشهدوا، استشهدوا عيسى إذا كان المراد بقوله:{قَالُوا} أي لعيسى، أما إذا كان المراد أنهم قالوا لله عز وجل، فإن المستشهد هنا هو الله تبارك وتعالى.
وقوله: {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لله عز وجل ولا انقياد إلا بإيمانٍ بأن الله تعالى آمرٌ وناهٍ، واعلم أن الإسلام إذا أطلق شمل الإيمان، والإيمان إذا أطلق شمل الإسلام، وإذا اجتمعا صار الإسلام علانية والإيمان سرًّا، يعني الاسلام الأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأفعال الجوارح، والإيمان: الأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وحبها ورجائها وغير ذلك.
قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} يعني: أذكر يا محمد إذ قال الحواريون المنتخبون من قوم عيسى: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} انظر إلى هذا الخطاب الجاف، لم يقولوا: يا رسول الله أو يا نبي الله، قالوا:{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .
{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} فيه إشكال عظيم على هذه القراءة؛ لأن شكهم في قدرة الله يستلزم الكفر، فلهذا أشكل على أهل العلم كيف يقولون هذا وهم الحواريون؟
فنقول في الجواب عن هذا من وجهين: الوجه الأول: إما أن تحمل الاستطاعة على الإرادة، وهذا سائغ في كلام العرب، تقول لصاحبك: يا فلان هل تستطيع أن تمشي معي لفلان
سأزوره، وأنت تعرف أنه يقدر، لكن المراد: هل تريد أن تمشي معي، فيكون قوله:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} أي: هل يريد وليس عندهم شك في كونه قادرًا عز وجل فتكون الاستطاعة بمعنى القدرة. الوجه الثاني: أن يكون عنده الإيمان بقدرة الله على كل شيء، لكن التفصيل قد يتردد الإنسان في حصوله ويحتاج إلى زيادة الطمأنينة، يعني هم يؤمنون بالقدرة العامة، لكن قد يحصل عند الإنسان شك في القدرة الخاصة، كحال الرجل الذي قال لأهله، وكان مسرفًا على نفسه:"إذا أنا متُ فأحرقوني ثم ذروني في اليم -يعني في البحر- فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين"
(1)
الرجل خائف من الله، وليس عنده شك بأنه قادر، لكن على سبيل العموم، أما على هذا الفعل بعينه، فإنه يقول: لعله إذا أحرق وذر في اليم لا يقدر النه عليه، وانظر إلى مريم، وانظر إلى زكريا، لما بشره الله تعالى بأنه سيهبه ولدًا ماذا قال؟ {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} [مريم: 8]، كيف يصير هذا؟ قال الله له:{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} [مريم: 9]، يعني انظر لأصلك:{خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} إذًا: فالله عز وجل قادر على أن يخلق ولدًا، ومع هذا طلب آية على تحقق ما بشر به.
هناك وجه ثالث يقول: {هَلْ يَسْتَطِيعُ} ليس من الاستطاعة التي هي ضد العجز، بل من الاستطاعة التي هي الإطاعة، يعني:
(1)
تقدم ص 177.
هل يطيعك ربك إذا سألته أن ينزل علينا مائدة أو لا يطيع؟ وهذا القول يرجع إلى المعنى الأول: وهو: الإرادة؛ لأن الإطاعة بمعنى الانقياد، فالمعنى: هل إذا سألت ربك يطيعك؟ فتكون الاستطاعة هنا ليست من باب الطوق والقدرة، لكن من باب الإطاعة وهي الانقياد إذا سألته.
قوله: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، اتقوا الله: يعني: امتنعوا عن هذا الطلب أو عن هذا السؤال الذي يتضمن الطلب، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني: مؤمنين بقدره راضين بقضائه، إن أغناكم أغناكم، وان أعدمكم أعدمكم؛ لأن المؤمن حقًّا والمتقي حقًّا يرضى بقضاء الله وقدره ولا يسأل أشياء تكون خارجة عن نطاق العادة، هذا على قراءة:{هَلْ يَسْتَطِيعُ} .
أما على قراءة: "هل تستطيع رَبَّكَ" فالمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ فتكون الاستطاعة هنا عائدة إلى عيسى عليه السلام، يعني: هل تستطيع أن تسأل الله، أو تستحيي فلا تسأل؟ وعلى هذه القراءة ليس هناك إشكال، -والحمد لله- وعلى القراءة الأولى تقدمت الوجوه التي يجاب بها عن الإشكال.
قوله: {أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} المائدة: تطلق أحيانًا على الطعام، والأصل أنها تطلق على الكرسي الذي يكون عليه الطعام، لكن قد تطلق على الطعام، وهنا المراد والله أعلم الأمران جميعًا، يعني: كرسي الطعام وهو الخمان أو الخوّان -أنا لا أضبط اللفظة- وعليه الطعام، {مِنَ السَّمَاءِ} أي: من فوق، {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، {قَالُوا نُرِيد} يعني: أخبروه
بالسبب أنهم سألوا هذا السؤال العجيب، {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} إذًا هم جياع، وهو يشبه من بعض الوجوه وإن كان أحسن منها، ما قاله قوم موسى له:{فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61]، لكن هؤلاء طلبوا شيئًا ينزل من السماء، قالوا:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} ثانيًا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} (تطمئن): تستقر ولا يكون فيها قلق ولا ريب، هذا الغرض الثاني، الثالث:{وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} كيف نعلم أن قد صدقتنا؟ نعم هو قال لهم: إنه رسول الله، فإن جاء بآية بينة فقد صدقهم وإن لم يأتِ فلم يصدقهم، لكن كيف يقولون: ونعلم أن قد صدقتنا وهم قد صدقوه؟ هذا إشكال لكن الجواب: إما أن المعنى: ونزداد علمًا أن قد صدقتنا، ولا شك أنه كلما وجدت الآيات الدالة على صدق القائل ازددت علمًا بصدق القائل، أو يكون بعضهم عنده تردد، والعلم ينفي الشك والتردد، ولكن أيما أولى الإحسان بهم ظنًّا ونقول: نعلم أي: نزداد علمًا، أو نقول: لعل بعضهم عنده تردد؛ الأول أحسن، {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: أخبرتنا بالصدق، يقال: صدق بمعنى: أخبره بالصدق، ويقال: صدق بمعنى: أتى بما وعده به، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152]، يعني: تقتلونهم، بمعنى أتى بما وعد به، ويقال: صدقه؛ إذا أخبره بالصدق وإن لم ياتِ بما أخبر به، كقوله صلى الله عليه وسلم في الشيطان:"صدقك وهو كذوب"
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلًا فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، حديث رقم (2187) عن أبي هريرة.
{وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} هذا أمر رابع، يعني: نشهده بأعيننا من غير أن نخبر عنه، وليس الخبر كالمعاينة.
من فوائد الآيات الكريمات:
الفائدة الأولى: إثبات وحي الله عز جل، لقوله:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ} ووحي الله ينقسم إلى قسمين: وحي شرع، ووحي إلهام، فالأول يتعلق بالشرع، والثاني يتعلق بالكون، وقد تقدمت الأمثلة في التفسير.
الفائدة الثانية: أن عيسى عليه السلام له حواريون، يعني: أصحابًا ذا صفاء في مودتهم، كما قال تعالى في آخر سورة الصف:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]، وكما تقدم في الحديث:"لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير بن العوام"
(1)
هذه منقبة لا شك للزبير، لكن أبو بكر رضي الله عنه قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا"
(2)
.
الفائدة الثالثة: أن الإيمان بالله لا يتم إلا بالإيمان برسوله، لقوله:{أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} ، وقد بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه الأركان لا بد منها في الإيمان، فمن نقص منها واحدًا لم يكن مؤمنًا.
(1)
تقدم ص 520.
(2)
تقدم ص 56.
الفائدة الرابعة: استجابة الحواريين لما أوحي إليهم به، حيث قالوا:{قَالُوا آمَنَّا} .
الفائدة الخامسة: جواز حذف المعلوم، حيث قالوا:{آمَنَّا} ولم يقولوا: بك وبرسولك؛ لأن هذا معلوم، فالمطلق يحمل على المقيد إذا كان معلومًا، فإذا عقد الإنسان عقدًا، وذكر عند الإيجاب شروطًا، فقال الآخر: قبلت البيع منك، مثال ذلك قال: بعتك هذا البيت على أن أسكن فيه سنة، فقال: قبلت البيع، هل يثبت الشرط؟ نعم يثبت؛ لأن قوله البيع يعني القبول بهذا الشرط وإن لم يذكر، لكنه معلوم من السياق.
الفائدة السادسة: جواز استثبات الشيء بالإشهاد عليه، لقوله:{وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وفي الدعاء المأثور: "اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وأنبياءك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك"
(1)
هذا من أذكار المساء والصباح على خلاف في ثبوت الحديث.
الفائدة السابعة: أن الإيمان هو الإسلام لقوله: {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ولم يقولوا: مؤمنون، قالوا: مسلمون، فدل هذا على أن الإيمان هو الإسلام، وقد ذهب إلى هذا جماعة من
(1)
رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، حديث رقم (5069)، والترمذي، كتاب الدعوات، باب، حديث رقم (3501)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي
…
، حديث رقم (9837) عن أنس بن مالك.
أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين الإسلام والإيمان، واستدلوا بمثل هذه الآية، واستدلوا أيضًا بقول الله تبارك وتعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]، ولكن هذا القول على إطلاقه فيه نظر، والصواب: أن الإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، وإذا ذُكر مع الإيمان صار له معنىً آخر، ويدل لهذا التفصيل قول الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، يعني: لم يدخل لكن قريبًا يدخل؛ لأن: "لما" تفيد النفي مع قرب المنفي، إذًا كيف نُخَرِّج هذه الآية؟ نخرجها: أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام، فيكون الإيمان في القلوب، والإسلام في الجوارح، يعني: أنهم آمنوا وانقادوا انقيادًا تامًّا لأوامر الله ورسوله.
الفائدة الثامنة: أن الحواريين مع كونهم خُلصًا عندهم شيء من الجفاء، لقولهم:{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .
فإن قال قائل: لعل شريعتهم تبيح لهم أن ينادوا نبيهم باسمه، بخلاف هذه الشريعة، فقد قال الله:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قلنا: وليكن ذلك، لكن هل من الأدب أن يخاطبوا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام باسمه مع أنهم يريدون أن يدعو الله لهم بحصول هذه المائدة، أو الأليق ما داموا يريدونه أن يسأل الله لهم أن ينادوه بوصف النبوة والرسالة؛ لأنه أنسب وأقرب إلى إجابة دعوتهم؛ الجواب الثاني لا شك، على كل حال هذا الخطاب لا شك أن فيه شيئًا من الجفاء.
الفائدة التاسعة: أن هؤلاء الحواريين يريدون من الآيات ما يملأ بطونهم، والدليل أنهم أول ما بدؤوا بالأكل قالوا:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} فيشبه قول اليهود لما قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58]، ماذا فعلوا؟ دخلوا على أستاههم أي: على أدبارهم، يقولون: حنطة، أمروا أن يقولوا: حطة، يعني: احطط عنا ذنوبنا، لكن قالوا: لا، نريد شيئًا ثانٍ، وهو ملئ البطن حنطة، هؤلاء قولهم يشبه هذا القول، والأصل واحد، فكلهم من بني إسرائيل، فلا عجب أن يكون سؤالهم متقاربًا والله أعلم.
الفائدة العاشرة: أن وقوع الشيء يعطي يقينًا أكثر من الخبر به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الخبر كالمعاينة"
(1)
ولهذا أمثلة منها: قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، نأخذ هذا من قولهم:{وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} .
الفائدة الحادية عشرة: أن آيات الأنبياء يزداد بها تصديقًا، لقوله:{وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: أخبرتنا بالصدق.
الفائدة الثانية عشرة: ثبوت الخبر بالتواتر وكثرة المخبرين، لقولهم:{وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، ويمكن أن يستدل بهذا أيضًا على أن الصحابة رضوان الله عنهم قولهم حق وحجة؛ لأفهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا آياته، وأيقنوا بها أكثر من غيرهم، وفهموها أكثر من غيرهم.
* * *
(1)
رواه أحمد (1/ 215)(1842)، وابن حبان (14/ 96)(6213)، والحاكم (2/ 351) عن ابن عباس.
* قال الله عز وجل: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)} [المائدة: 114].
قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} الإعراب في قوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} هو أن لفظ الجلالة "الله" منادى مبني على الضم في محل نصب، و"رب": بدل أو عطف بيان، وإن شئت فاجعله صفة، أي: نعتًا، وصار منصوبًا؛ لأنه مضاف.
قوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} الجملة صفة لمائدة، و"عيدًا": خبر تكون، واسمها مستتر.
وقوله: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من قوله: "لنا"، لكنه بإعادة حرف الجر، أي: بإعادة العامل؛ لأن قوله: "لنا" يشمل الأول والآخر، لكن أتى بالتفصيل في قوله:{لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} .
وقوله: {وَآيَةً مِنْكَ} معطوفة على "أعيدًا".
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} الجملة تدل على أن الله تبارك وتعالى موصوف بهذا الوصف.
وقوله: "ارزقنا": فعل أمر، لكن هل يقال في الأمر الموجه إلى الله أنه فعل أمر؟
الجواب: لا يقال تأدبًا مع الله، ولكن يقال: فعل طلب أو فعل سؤال أو ما أشبه ذلك.
قوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} يعني: قال عيسى ابن مريم مستجيبًا لطلب هؤلاء الحواريين، سائلًا الله عز وجل أن ينزل عليهم مائدة من السماء، والسماء: يحتمل أن تكون العلو أو تكون السماء هي السقف المحفوظ، كما سبق.
وقوله: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا} أي: نتذكرها كلما جاء وقتها؛ لأن العيد: اسم لما يعود ويتكرر، ومنه الأعياد الشرعية، وهي: عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع.
وقوله: {لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أولهم: الذين كانوا في عهد عيسى، وآخرهم: الذين كانوا من بعده.
وقوله: {وَآيَةً مِنْكَ} أي: علامة على قدرتك وعلى سمعك وعلمك، وآية على صدق عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأن هؤلاء طلبوا الآية ليعلموا أن عيسى قد صدقهم.
وقوله: {وَارْزُقْنَا} أي: أعطنا؛ لأن الرزق بمعنى العطاء، ومنه قوله تبارك وتعالى:{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]، أي: أعطوهم منه.
وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} يعني: أخيرهم من جهة الكم والكيف، فلا أحد أكرم من الله، ولا أحد أجود من الله عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستطيعون أن يأتوا بكل ما يطلب منهم، وأنهم كغيرهم مفتقرون إلى الله يسألونه ويلجئون إليه.
الفائدة الثانية: أنه ينبغي للإنسان في حال الدعاء أن يذكر هذين المعنيين الألوهية والربوبية، لقوله:{اللَّهُمَّ رَبَّنَا} لأن هذا نوع من التوسل؛ يتوسل الإنسان بإلوهية الله عز وجل وربوبيته.
الفائدة الثالثة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام أجاب الحواريين على وجه الأمانة التامة؛ لأنه قال: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} كما قالوا هم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112].
الفائدة الرابعة: أن هذه المائدة تكون عيدًا للنصارى كلما جاء زمنها فهو عيد لهم.
فإذا قال قائل: هل هذا يقتضي أن نقول: كلما مر وقت المناسبات فإننا نجعله عيدًا؟
الجواب: لا؛ لأن هذه الأشياء ليس فيها قياس وهي كانت عيدًا بطلب نبيهم عليه الصلاة والسلام.
لو قال قائل: أيصح أن يدعو الإنسان بدعاء سورة المائدة: "اللهم أنزل علينا مائدة من السماء"؟
الجواب: أقول للسائل: أعندك شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟
فإذا لم يكن عندك شك، فإذا جئت تدعو فقل: اللهم ارزقني مائدة وتكفيك مائدة الأرض.
لو قال قائل: لو أن داعية سأل الله مثل هذه الأشياء التي سألها عيسى عليه السلام وذلك لِيُري الناس صدق دعوته؟
الجواب: هذا لا ينبغي إلا في مقام التحدي، في مقام التحدي لا بأس، كما يذكر عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم، لكن بغير تحدي، لا، واصبر ولا تستعجل الآيات حتى تتم دعوتك، قد يكون الله عز وجل أخر عنك الآيات الدالة على صدقك وهي الكرامات؛ لأن الآيات للأولياء من الكرامات، قد يكون ذلك لرفعة درجاتك وصبرك، أما في مقام التحدي فنعم، وليعلم أن من الاعتداء في الدعاء أن يكون الشيء المسؤول مستحيلًا كونًا وشرعًا، مثال المستحيل كونًا: أن يسأل الله تعالى أن يجعله مغيرًا للخلق، فهذا مستحيل؛ لأنه لا يملك التغيير إلا الله عز وجل، وكذلك أن يدعو أن يمكنه الله من
نفخ الروح في الأشياء، هذا إذا نظرنا إلى قدرة الإنسان، أما إذا كان بيد الله، فالله على كل شيءٍ قدير، ومثال المستحيل شرعًا يقول: اللهم اجعلني نبيًّا.
الفائدة الخامسة: أن ما جاء على خلاف المعهود وكان خارقًا للعادة فهو آية، لقوله:{وَآيَةً مِنْكَ} وجه ذلك أنه لم يعهد أن المائدة تنزل من السماء عيانًا يشاهدها الناس، فيكون نزولها ولا سيما أنه بطلب بعد اقتراح، فيكون نزولها آية ودليلًا على صدق من تكلم بالرسالة.
الفائدة السادسة والسابعة: أن عيسى ابن مريم مفتقر إلى الله تعالى وإلى عطائه، وينبني على هذه الفائدة بطلان دعوى النصارى: أنه إلههم.
الفائدة الثامنة: أن الله تبارك وتعالى خير الرازقين، وهذا فرد من قاعدة عامة وهي قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 65]، فكل وصف كمال فلله منه الأعلى.
الفائدة التاسعة: إطلاق الرزق على غير الله عز وجل، بمعنى: أنه يصح أن نصف غير الله بأنه رازق؛ لأن الرزق بمعنى: العطاء، ولكن الرزق الأكمل والأوفى هو رزق الله تبارك وتعالى.
* * *
° قال الله عز وجل: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 115].
قوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} وفي قراءة: "مُنْزِلُهَا" هذا للحال أو للمستقبل، يعني: هل أن الله عز وجل وعد بإنزالها وأنزلها أو
هو وَعْدٌ لكن لم يتحقق؛ لأن الله تعالى اشترط شرطًا لم يلتزمه بنو إسرائيل؟
في ذلك قولان للعلماء: فمنهم من قال: إن الله أنزلها؛ لأن وعده حق وهو لا يخلف الميعاد، وقد قال الله تعالى:{إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} أو "مُنْزِلُهَا عَلَيْكُمْ" ثم توعد من كفر بعد إنزال هذه الآية، وإن كان هذا مما يرجح أنها نزلت، لكن كونها لم تذكر في كتب النصارى ولم يعرفوها، وعيسى سأل الله تعالى أن تكون عيدًا لأولهم وآخرهم يشكل على هذا، وإن كان ليس ذاك الإشكال البعيد؛ لأنه قد يقال: إن الله تعالى لم يجب عيسى في كل ما سأل.
وقال بعضهم: إنه لم ينزلها؛ لأن الله اشترط فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} ولما رأوا هذا الشرط الثقيل الذي يصعب أن يحقق عدلوا عن طلبهم فلم تنزل مائدة، وهؤلاء أيدوا رأيهم بأن النصارى لا يعرفون عن هذه المائدة شيئًا في كتبهم، وقالوا: إنها لو نزلت لكانت عيدًا لأولهم وآخرهم كما طلب عيسى عليه الصلاة والسلام، ولما لم يكن عندهم علم بهذه المائدة، علمنا أنهم لم يقبلوا الشرط الذي اشترطه الله، فلم ينزلها الله عز وجل، والآية في الحقيقة محتملة، يعني: لا يستطيع الإنسان يجزم بهذا ولا هذا.
فإن قال قائل: لماذا لا نجزم بأنها لم تنزل؛ لأنها لم توجد في كتبهم؟ فالجواب عن هذا سهل لعلها من جملة ما نسي وترك من دين النصارى فلم يكن عندهم علم منها، والله أعلم أنزلت أم لم تنزل، ومتى احتملت الآية معنيين على السواء ولا مرجح، فإن
كانا لا يتنافيان حملت عليهما جميعًا، وإن كانا يتنافيان فالتوقف، وهنا فيما أرى أن الآية محتملة هل نزلت أم لم تنزل، وأما ما ذكره ابن كثير رحمه الله من الإسرائيليات في تعيين هذه المائدة، لو أنه رحمه الله تركها لكان أحسن.
لكن لو قال قائل: أليس هذا التعيين يدل على أن كتبهم دلت على هذه المائدة؟
الجواب: لا أدري، لكن الأناجيل الموجودة بأيديهم ليس فيها ذكر المائدة، وإن كان أحبارهم قد حرفوا هذه الأناجيل، أنا ما قرأتها، لكن يذكرون أن فيها اختلافًا كثيرًا، كل يدير أن هذا الإنجيل الذي معه هو الذي نزل على عيسى.
قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْد} أي: بعد إنزالها، وبنيت "بعدُ" على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، و (قبل) و (بعد) إذا حذف المضاف إليه ونُوِيَ معناه بُنِيَا على الضم، وإذا حذف ونُوِيَ لفظه أعربا لكن بدون تنوين، وإذا حذف ولم ينوِ لفظه أعربا ولبهن بتنوين، فمثلًا إذا قلت:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، هنا حذف المضاف إليه ونوي معناه.
وفي قول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنتُ قبلًا
…
أكاد أغُصُ بالماءِ الفراتِ
لم ينوِ لا لفظه ولا معناه، وإذا قلت:"سأزورك من قبلِ ومن بعدِ مجيء فلان"، الأولى: حُذِفَ المضاف إليه ونوي لفظه، والثانية: وُجِدَ المضاف إليه، فصار إما أن يحذف المضاف إليه وإما أن يوجد في "قبل وبعد وأخواتهما"، إن وجد المضاف إليه فهما معربان بلا تنوين، وإن حذف ونوي لفظه فهما معربان بلا
تنوين أيضًا، وإن حذف ونوي معناه فهما مبنيان على الضم، وإن حذف ولم ينوِ لفظه ولا معناه فهما معربان منونان، فالأحوال إذًا أربعة، ففي قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ} ؟ حذف المضاف إليه ونوي المعنى.
قوله: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} الفاء: رابطة للجواب، أي: جواب الشرط في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ} ، وإنما ارتبطت بالفاء؛ لأن الجملة اسمية، وكلما وقعت جملة الشرط اسمية وجب قرنها بالفاء أو بـ (إذا) الفجائية.
قوله: {فَإِنِّي} فيها قراءتان: {فَإِنِّي} ، "فَإِنِّيَ"، فأما على قراءة السكون فالياء مبنية على السكون، وأما على الفتح فهي مبنية على الفتح؛ لأنها ضمير المتكلم.
قوله: {أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ} ، الضمير يعود في قوله:{لَا أُعَذِّبُهُ} أعني بذلك الهاء يعود إلى العذاب، يعني: لا أعذب أحدًا مثل هذا العذاب.
قوله: {أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} فأعذب: نصبت هنا مفعولين، ليس أصلهما المبتدأ والخبر لأنك لو حذفت العامل، وجعلت ضمير المفعول به في:{لَا أُعَذِّبُهُ} ضمير رفع لم يصح، لو قلت: هو أحد، ما صح؛ لأن الضمير يعود على العذاب.
لو قال قائل: قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} ألا يجوز أن يكون هذا خاص بعالمي زمانهم؟
الجواب: إذا دل دليل على هذا فلا بأس، مثل قوله تعالى:{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [البقرة: 47]، أما إذا لم يدل دليل فالأصل العموم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: إثبات الكلام لله عز وجل، لقوله:{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} .
الفائدة الثانية: أن كلامه تبارك وتعالى بحرف وصوت؛ لأنه تعالى قال قولًا وصل إليه، ولا يمكن أن يصل إليه إلا بصوت.
الفائدة الثالثة: أن كلام الله تبارك وتعالى بحرف بل بحروف متتابعة؛ لأن الله قال: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ} وهذه حروف متتابعة لا إشكال فيها.
الفائدة الرابعة: إثبات أفعال الله الاختيارية بمعنى: أنه عز وجل يفعل ما يشاء اختيارًا بلا مكره؛ لأن هذا الكلام المرتب بالحروف، أفعال أو غير أفعال؟ هو فعل وقول، فمن جهة إحداثه فعل، ومن جهة أنه كلام قول.
الفائدة الخامسة: خطر طلب الآيات من الأمم، وأنه إذا جاءت الآيات المطلوبة فقد عرضوا أنفسهم للهلاك، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أنه متى طلبت الأمة آية معينة وحصلت لهم؛ حق عليهم العذاب.
فإن قال قائل: هذه القاعدة تنتقض بما تواتر عن انشقاق القمر، وذلك أن قريشًا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر
(1)
؟
فالجواب عن هذا: أن قريشًا لم يطلبوا آية معينة، وإنما
(1)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية
…
، حديث رقم (3438)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب انشقاق القمر، حديث رقم (2802) عن أنس بن مالك.
طلبوا آية فقط، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عينها فأراهم انشقاق القمر.
الفائدة السادسة: إثبات أن العذاب له أعلى وله أدنى، لقوله:{فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} فهذا دليل على أن العذاب يتفاوت من شخص لآخر، وتفاوت العذاب أسبابه كثيرة، منها: قلَّة الداعي إلى الذنب فإن قلَّة الداعي إلى الذنب توجب شدة العقوبة عليه، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا يكنمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، وهم: أشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه"
(1)
.
الشاهد الأول: "أشيمط زانٍ": يعني: رجلًا شمطه الشيب، وهذا يدل على ضعف قوته في طلب النكاح، وصَغَّرَهُ بقوله: أشيمط تحقيرًا له، إذًا: زنا الشيخ أعظم عقوبة من زنا الشاب؛ لأن الداعي في الشيخ أقل.
الشاهد الثاني: "عائل مستكبر" عائل يعني: فقيرًا مستكبرًا، الفقير يجب أن يعرف نفسه وقدره، فكيف يستكبر؟ الاستكبار من الغني أهون بلا شك ومتوقع، كما قال الله عز وجل:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] أي: استغنى عن غيره، وهذا عائل فيستكبر فلذلك اشتدت عقوبته، فكلما قوي السبب في طلب المعصية صارت العقوبة عليها أهون، وكلما ضعف الطلب صارت العقوبة عليها أشد، هنا بيَّن الله عز وجل أنه: لا يعذب هذا العذاب أحدًا من العالمين.
(1)
هذا اللفظ للطبراني في الكبير (6/ 246) عن سلمان، ومعناه عند مسلم (107) عن أبي هريرة.
الفائدة السابعة: أن كفر من رأوا الآيات ليس ككفر من لم يروها، فالأول: أعظم أي: من رأى الآيات؛ لأن من رأى الآيات فقد رآها عين اليقين، ومن نقلت إليه فقد علمها علم اليقين أي: بواسطة.
* * *
قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} ، مقول القول هو قوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ} إذًا: فالجملة في محل نصب، واعلم أن مقول القول لا يكون إلا جملة إلا إذا أجري مجرى الظن فإنه قد يسلط على المفرد، وإلا فلا يكون إلا جملة، والجملة هنا {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
في "أأنت" قراءتان: "أأنت"، بمد الهمزة الثانية، وبالقصر "أأنت" قلت للناس، {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ} فيها قراءتان:"أميْ" بالسكون "وأميَ" بالفتح، و"اتخذ" تنصب مفعولين: الأول في هذه الآية هو "الياء"، في قوله:{اتَّخِذُونِي} ، والثاني قوله:{إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
قوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهًا لك، فهو منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل واجب الحذف، ولهذا لا تجد الفعل مع سبحان أبدًا، وإنما قلنا: إنه مفعول مطلق؛ لأن المصدر تسبيح، وكل لفظ يكون بمعنى المصدر، ولكنه لا يشتمل على حروفه، يسمى مفعولًا مطلقًا، ويسمى اسم مصدر.
قوله: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} {بِحَقٍّ} الباء: حرف جر زائد، ومعنى: زائد، أي: إعرابًا، إذ لا شيء في القرآن زائد معنى أبدًا، ولكنها زائدة إعرابًا، وأما معنىً فإن لها معنىً عظيمًا وهو التوكيد.
كيف نعرب "بحق"؟
خبر ليس منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، واسم ليس مستتر يعود على "ما".
قوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} هذه جملة شيطية، فعل الشرط:(كنت)، و (التاء): اسم كان، {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} جواب الشرط، واقترن بالفاء؛ لأن الجزاء صدر بـ "قد".
قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} الإعراب واضح.
قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} الجملة استئنافية تفيد عموم علم الله عز وجل.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} يعني: اذكر يا محمد لهؤلاء القوم هذا الذي صدر من عيسى عليه الصلاة والسلام بل من الله إلى عيسى، {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وهذا القول يكون يوم القيامة.
قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الاستفهام هنا لا شك أنه لا يراد به الاستعلام؛ لأن الله تعالى يعلم ولكن المراد به توبيخ من قالوا: إن عيسى وأمه إلهان، وهو نظير قول الله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} ماذا؟ {بِأَيِّ ذَنْبٍ
قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8، 9]، هي لم تفعل شيئًا، ولكنها تسأل توبيخًا لمن فعلوا، فهنا:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الاستفهام هنا للتوبيخ، توبيخ من جعلوا عيسى وأمه إلهين من دون الله.
وقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} يقول علماء البلاغة: هناك فرق بين أن تقول: {أَأَنْتَ قُلْتَ} وبين أن تقول: "أقلت"، قالوا: إنه إذا وقع المستفهم عنه بعد همزة الاستفهام مصدرًا باسم، فالمطلوب به تعيين الفاعل، وإذا جاء الفعل بعد الهمزة، فالمقصود به تعيين الفعل الحادث، إذا قلت: أقام زيد؟ تستفهم عن الفعل الحادث، يعني: هل قام أو قعد، وإذا قلت: أزيد القائم؟ المراد تعيين الفاعل، {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} ، تعيين الفاعل.
وقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي} أي: اجعلوني، {وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: معبودين، وقوله:{مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من سوى الله عز وجل، وقد تأتي "دون" بمعنى أقل، لكن هنا بمعنى سوى، أي: من سوى الله عز وجل، كان جواب عيسى عليه الصلاة والسلام:{سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهًا لك، أنزهك عما لا يليق بك، ولا يليق بالله أن يكون له شريك في العبادة، كما أنه ليس له شريكٌ في الملك، واعلم أن تنزيه الله عز وجل يكون عن شيئين: الأول: النقص، والثاني: المشابهة للمخلوقين، ومشابهة المخلوقين وإن كانت نقصًا لكن ينبغي أن ينص عليها بعينها، لئلا يظن ظان أن الكمال الذي للخالق يكون مثل الكمال الذي للمخلوق، والمخلوق مهما كان ناقصًا، فلا بد من تنزيه الله عن مماثلة المخلوق.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي} يعني: لا يمكن، فنفي الكون في مثل هذا، يعني أنه مستحيل، {أَنْ أَقُولَ} يعني: للناس، {مَا لَيْسَ
لِي بِحَقٍّ} لأنه ليس من حق عيسى أن يقول للناس: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} بل إن رسالته إنما كانت من أجل النهي عن الشرك، وإخلاص العبادة لله وحده.
وقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} هذه جملة تدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام يعلم أنه لو صدر منه ذلك لعلمه الله وهو حق، وسيأتي إن شاء الله في الفوائد أن هذا تنديد بالذين يعبدون عيسى؛ لأنه لو قال للناس:{اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لعلمه الله ولم يُمَكِّنه من هذه الدعوة.
وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} النفس هنا بمعنى: الذات، وكما في قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32] وأيضًا قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فالنفس بمعنى الذات، والمعنى: أن ما في نفسي تعلمه، وما في نفسك لا أعلمه، والفرق ظاهر؛ لأن الله هو الخالق، وعيسى مخلوق، والخالق يعلم مخلوقه، والمخلوق لا يعلم عن خالقه إلا ما أخبره به، وإلى هذا يشير قول الله تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} هذه الجملة استئنافية توكيد لمضمون ما سبق.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: إثبات القول لله لقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} وفي القرآن إثبات الكلام، وإثبات النداء، وإثبات المناجاة، وكل هذا يدل على أن الله يتكلم بكلام حقيقة بحرف وصوت وهذا مذهب
أهل السنة والجماعة وهو الذي نعتقده وندين الله به، وهو الواجب على كل مؤمن.
الفائدة الثانية: أن قول الله بحرف وصوت، أما كونه بحرف: فلأن الكلمات التي جاءت بعد القول حروف، وأما كونه بصوت فلأن الله تعالى يخاطب به عيسى، وعيسى يرد عليه.
الفائدة الثالثة: توبيخ الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين، لقوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} ؛ وسبق أن المراد من هذا الاستفهام هو توبيخ الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين.
الفائدة الرابعة: بُعْدُ الرسل عليهم الصلاة والسلام عن الشرك، لقوله:{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهذا أمر مُسلَّم؛ لأن أصل بعثة الرسل من أجل تحقيق التوحيد.
الفائدة الخامسة: تنزيه الله تبارك وتعالى أن يكون له شريك، لقوله:{سُبْحَانَكَ} وتقدم أن قوله: {سُبْحَانَكَ} بمعنى: تنزيهًا لك عن كل ما لا يليق بك، والمقام الآن في اتخاذ الشريك؛ فيكون معناه: تنزيه الله عن كل شريك.
الفائدة السادسة: اعتراف عيسى عليه الصلاة والسلام بما لا يستحق، لقوله:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهكذا إخوانه من الرسل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت؛ قال له: "أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله وحده"
(1)
فكل الرسل يعرفون قدر أنفسهم فلا يمكن أن يقروا ما لا يستحقونه.
الفائدة السابعة: أن الألوهية حق خاص لله، لقوله:{مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وإذا كان الرسل بل خلاصة الرسل ليس لهم حق
(1)
تقدم ص 199.
في الألوهية فمن دونهم من باب أولى، فلا أحد يستحق أن يكون إلهًا، ولا أحد يستحق أن نعبده من دون الله عز وجل.
الفائدة الثامنة: أن الله عنر وجل يعلم ما يصدر من الإنسان، لقوله:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} .
الفائدة التاسعة: تأدب الرسل عليهم الصلاة والسلام مع ربهم جلَّ وعلا لقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وإذا كنت علمته فإنه صادر عن علم من عندك يا رب وعن قضاء وقدر ولا يخفى عليك.
الفائدة العاشرة: إطلاق النفس على الذات، بل إن بعض العلماء يقول: إن إطلاق الذات على النفس غلط، وأن أصل "ذات " بمعنى: صاحبة فلا تقال إلا مضافة، كما قال الله عز وجل:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)} [البروج: 1]، أي: صاحبة البروج، وأن إطلاق الذات على النفس من الكلمات المحدثة، وقد صرح بهذا شيخ الإسلام رحمه الله، وقال: إنها ليست من كلام العرب العرباء، يعني: هذا تفسير لاحق، فلا يوجد لا في القرآن ولا في السنة إثبات الذات لله عز وجل، وأما قول خبيب رضي الله عنه:"وذلك في ذات الإله"، فالمعنى: في جنب الإله.
فشيخ الإسلام رحمه الله يقول: إطلاق الذات يراد به النفس، هذا دخيل على اللغة العربية؛ يعني تفسير ابن كثير مثلًا نسميه ذاتًا ونسميه نفسًا، لكن أيهما الفصحى؟ النفس، فشيخ الإسلام رحمه الله يقر به؛ لأن الناس مشوا عليه، فقالوا: الذات والصفات، فهو رحمه الله يعبر به، لكن يقول: ليس من كلام العرب العرباء، أي: إطلاق الذات على النفس، وإنما يعبر عن
الذات بالنفس، بمعنى: أن ذات الرجل هي نفسه، ولكن الاصطلاح شيء آخر، واللغة العربية الفصحى شيءٌ آخر.
فإذًا: معنى قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يعني: ولا أعلم ما في ذاتك، وليست النفس شيئًا زائدًا على الذات؛ يعني ليست كالعلم والقدرة والسمع والبصر وما أشبه ذلك، وقول بعض أهل العلم: أثبت الله لنفسه نفسًا فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} من باب التسامح والتجاوز، وإلا فإن نفس الله هي ذات الله عز وجل.
الفائدة الحادية عشرة والثانية عشرة: إثبات علم الله بما في نفس الإنسان، لقوله:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، فالله عز وجل يعلم ما في قلبك، فاحذر أن يكون في قلبك ما يخالف أمر الله عز وجل.
ومن هنا نأخذ فائدة ثانية: وهي وجوب الخشوع في الصلاة؛ لأنك إذا غفلت وفكرت في غير ما يتعلق بالصلاة فقد أعرضت عن الله عز وجل، هكذا قرره بعض أهل العلم، ولكن في مسألة وجوب الخشوع في الصلاة نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا أقيمت الصلاة ولى الشيطان وله ضراط، فاذا انتهت الإقامة جاء أي: المصلي، وجعل يحدثه حتى يقول: اذكر كذا في يوم كذا، فلا يدري كم صلى ثلاثًا أم أربعًا
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل التأذين، حديث رقم (583)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، حديث رقم (389) عن أبي هريرة.
وقد يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الواقع، ولا يلزم من الإخبار عن الواقع أن يكون الواقع جائزًا، كما أخبر أننا نركب سنن من كان قبلنا: اليهود والنصارى
(1)
، ومع ذلك لا يحل لنا هذا، وكما أخبر أن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا وحدها
(2)
، ومع ذلك لا يحل للظعينة أن تسافر يلا محرم، لكن الذي يظهر لي أن إيجاب الخشوع في الصلاة فيه مشقة، يعني: كون الإنسان لا تأتيه الهواجس ولا يوسوس في شيء فيه مشقة شديدة.
الفائدة الثالثة عشرة: أننا لا نعلم ما عند الله عز وجل، فلا نعلم ما في نفسه مما يقدره جلَّ وعلا ويريده، ولا نعلم عن إرادة الله إلا بوقوع المراد، يعني نحن لا نعلم أن الله أراد أن تمطر حتى ينزل المطر، ولا نعلم أن الله تعالى قضى بحروب تقع بين الناس إلا إذا وقعت هذه الحروب، فإذا وقعت علمنا أن الله أرادها، إذ لا يكون في ملكه ما لا يريد.
الفائدة الرابعة عشرة: إثبات علم الله تبارك وتعالى بالغيب، لقوله:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ومعنى علَّام الغيوب: أي: أنك موصوف بهذا، وليس المراد الكثرة، بل المراد المبالغة في هذا الوصف بقطع النظر عن أفراده؛ لأنها لا تحصر، وقد ذكر بعض العلماء أن كل ما جاء بصيغة المبالغة في حق الله فليس معناه الكثرة وإنما معناه الكمال، لكن من تأمل وجد أنه يأتي لهذا وهذا.
(1)
رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم"، حديث رقم (6889) عن أبي سعيد الخدري.
(2)
رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3400) عن عدي بن حاتم.
الفائدة الخامسة عشرة: أن من ادعى علم الغيب فقد ادعى أنه شريك لله، وجه الدلالة أنه أتى بضمير فصل:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وضمير الفصل يدل على الحصر، يعنى: أنت لا غيرك علام الغيوب.
وليعلم أن الغيب نوعان: غيب نسبي، وغيب مطلق، فما هو الغيب الذي اختص الله به؟ هو الغيب المطلق، وأما الغيب النسبي الذي يعلمه فلان دون فلان فهذا يشترك في علمه من قَدَّرَه وهو الله عز وجل، ومن وقع منه.
لو قال قائل: ما حكم الذين يَدَّعون الغيب ويجمعون الأموال على هذا، وهل إذا مات واحد منهم هل يصلى عليه، وما حكم من قال لشخص نعرفه: أنت من أهل النار؟
الجواب: لا يصلى عليه، كل من ادعى علم الغيب فإنه كافر؛ لأن الله تعالى قال:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وهذا نفي، يعني: حصرًا، لا أحد يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله عز وجل، لكن إن كان عندهم قرائن، فتكون دعواه خرصًا وتخمينًا، مثل أن يتوسم في شخص أنه مميكون ضالًا، هذا ربما يُعْرَفُ من ملامح وجهه، وقد وقع هذا من رجلٍ تلمح في شخص له مؤلفات مفيدة جدًّا في الدين الإسلامي، ولكنه قال: إن هذا الرجل سيرتد، وفعلًا ارتد، ومات على ردته وهذا كقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75]، أما مجرد علم الغيب، فهذا لا شك أنه كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن.
وأما من قال لشخص: أنت من أهل النار، فلا بد أنه استند أيضًا إلى قرائن، يعني: أنه يفعل أفعالًا توجب أن يكون من أهل
النار فلا يكون هذا من علم الغيب؛ لأنه لم يقل هذا مستندًا إلى شيء، فيقال: المحذور في هذا أنك شهدت له أنه من أهل النار بعينه، وهذا لا يجوز.
* * *
* قال الله عز وجل: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 117].
قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ} أي: للناس، {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} "أن" هذه تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد ما تضمن معنى القول دون حروفه، وهو:{أَمَرْتَنِي}
قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ربي: هذه بدل أو صفة من لفظ الجلالة.
قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إعرابها واضح لا إشكال فيه.
قوله: {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} "ما دام" تعمل عمل "كان" إذا سبقت بما المصدرية الظرفية، أما إذا سبقت بما النافية فليست من أخوات (كان)، فإذا قلت: ما دمت قائمًا، يعني: لم أقم قيامًا دائمًا، فهذه نافية، وإذا قلت: لا أجلس ما دمت قائمًا، فهذه مصدرية ظرفية، الجملة الأخيرة إثبات، والجملة الأولى نفي، لكن هنا هل هي مصدرية ظرفية؟ نعم، فعليه تكون التاء اسمها والجار والمجرور خبرها.
قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} لا إشكال فيها في الإعراب.
يقول عيسى عليه الصلاة والسلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني: إلا الذي أمرتني به، وما هو؟ {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وأتى بقوله:{إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} قبل أن يقول: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ليبين أنه عليه الصلاة والسلام رسول مبلغ، مأمور، فبدأ بما يدل على رسالته وأنه مأمور قبل أن يذكر ما أرسل به.
وقوله: {أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني: كلفتني بإبلاغه أمرًا منك، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، {أَنِ اعْبُدُوا} العبادة تطلق على معنيين: المعنى الأول: التعبد، والمعنى الثاني: المتعبد به، فإذا قلت: الصلاة عبادة، فالمراد بذلك المتعبد به، وإذا قلت: صلى هذا الرجل لعبادة الله عز وجل، فالمراد تعبده هو، وقال:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} من أجل أن يبرهن لهم أنه ليس برب.
وقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} يعني: كنت أشهد عليهم بما هم عليه من التوحيد والإخلاص {مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ، يعني: مدهّ دوامي فيهم، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي: قبضتني، يقال: توفى الرجل حقه، أي: قبضه، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: أنت المراقب الذي تحفظ أعمالهم وتشهدها وتعلمها، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} هذا التعميم بعد التخصيص، يعني: أنت على كل شيء شهيد من أفعالهم وغيرها.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام مكلفون بالرسالة أمرًا من الله، لقوله:{مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} وهذا له شواهد في القرآن كثيرة مثل قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
الفائدة الثانية: حسن أدب الرسل مع الله عز وجل، حيث قال:{إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} وجه ذلك أنه يشعر بأن عيسى رسول مأمور مكلف بالأمر.
الفائدة الثالثة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام أمر أن يبلغ الناس بأنه عبدٌ والله تعالى رب، لقوله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} والرب مقابله العبد.
الفائدة الرابعة: أنه لا حق لعيسى في الألوهية ولا الربوبية، ولذا تبرأ عيسى عليه السلام من ذلك وقال: إنه ليس بحق له، ونزه الله تعالى أن يكون له شريك، لقوله:"ربي"، ومن ليس له ربوبية ليس له ألوهية.
فإن قال قائل: أليس يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص؟ الجواب: بلى، ولكن بإذن الله.
الفائدة الخامسة: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام شهداء على أمتهم ما داموا فيهم، لقوله:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ومع ذلك هم شهداء على ما يرون أو يسمعون، وليسوا شهداء على غائب بعيد لا يرونه ولا يسمعونه؛ لأن الرسل لا يعلمون الغيب.
الفائدة السادسة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام قد توفاه الله لقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} وقد جاء في ذلك آيات، منها قوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، إلى آخره، فأثبت أنه متوفيه.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه الوفاة.
القول الأول: أنها بمعنى: القبض ولا يلزم منها نوم ولا موت، والاستيفاء بمعنى:"القبض"، أو التوفي بمعنى:"القبض" وارد في اللغة العربية، إذ يقال: توفى الرجل حقه أي: قبضه، وعلى هذا المعنى لا إشكال في الآية إطلاقًا.
القول الثاني: إنه موت حقيقي، وهؤلاء أنكروا نزول عيسى في آخر الزمان، وقالوا: إنه مات كما مات الأنبياء، وهذا قول باطل يبطله ظاهر القرآن وصريح السنة.
القول الثالث: أن المراد بالوفاة النوم، وهو أن الله تعالى ألقى عليه النوم ثم رفعه إلى السماء، وهذا القول له وجهة نظر، لكنه ليس ظاهرًا كثيرًا، فإن صح هذا التفسير دل ذلك على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أقوى جأشًا من عيسى عليه السلام؛ لأن محمدًا عُرِجَ به إلى السماء في حال اليقظة وشاهد من آيات الله ما شاهد، وعيسى ألقى الله عليه النوم ثم رفعه؛ لأنه سوف يشاهد مخلوقات عجيبة عظيمة، والمسافة بعيدة.
إذًا: عندنا ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه وفاة موت، وهذا ضعيف.
القول الثاني: أنه وفاة نوم وهذا له وجهة نظر.
القول الثالث: أنه بمعنى: القبض؛ لأن النوم أمر زائد على القبض، فيحتاج في ثبوته إلى دليل واضح أنه من القبض ولا إشكال فيه، وهذا القول لا إشكال فيه.
الفائدة السابعة: إحاطة علم الله تبارك تعالى ورقابته، لقوله:{كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} .
فإن قال قائل: إن الله قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18]، والمراد المَلَك، والإشكال أن الله جلَّ وعلا أضاف الرقابة إليه في سورة المائدة، وفي سورة "ق" أضافها إلى الملكين، فكيف نجمع بين الآيتين؟
الجواب: أن الله رقيب عليهم بملائكته، أي: أن رقابة الملكين بأمر الله عز وجل، فيكون هو الرقيب كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 18] ومن المعلوم أن الذي يقرأ على الرسول جبريل عليه السلام، فأضاف قراءة الرسول إليه لأنه بأمره، وأيضًا قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، فإن كثيرًا من العلماء يقول في قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي: بملائكتنا، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] وليس المراد قرب نفسه تبارك وتعالى، بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم"
(1)
وفَرَّق بين المعنيين بأن قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يعني إلى الإنسان عامة، ومعلوم أن قرب الله تعالى إلى العبد خاص بعابده أو داعيه، أي: بمن يعبده أو يدعوه، فالقرب ليس كالمعية ينقسم إلى قسمين بل القرب خاص بمن يعبده أو يدعوه، أما من يعبده فكقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أقرب مما يكون العبد من ربه وهو ساجد"
(2)
، وأما داعيه فهو كقول الرسول عليه الصلاة
(1)
هذا اللفظ لمسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث رقم (2704) عن أبي موسى.
(2)
رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث رقم (482) عن أبي هريرة.
والسلام: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"
(1)
.
الفائدة الثامنة والتاسعة: إثبات أن الله تعالى شهيد على كل شيء، لقوله:{وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وهذا يستلزم فائدة أخرى وهي: أنه يجب على العبد كمال مراقبة الله تبارك وتعالى، حيث لا يفقده عند أمره، ولا يجده عند نهيه؛ لأن الله رقيب عليك، فلا بد أن تتحاشى هذه الرقابة، وأن لا يفقدك الله تعالى حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك.
لو قال قائل: بعض العلماء فرقوا بين النبي والرسول بأن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، هل هذا صحيح؟
الجواب: نعم صحيح، هذا الذي عليه الجمهور وهو لا يسلم من النقض، شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن النبي كالعالم في هذه الأمة، يعني: يكمل شريعة من سبق، ولكن يرد عليه أن آدم نبي ولم يسبقه شريعة، على رأي الجمهور لا إشكال؛ لأن آدم تعبد لله عز وجل بما أوحاه الله إليه، وكانت ذريته إذ ذاك قليلة تتأسى به، فلما كثر الناس وانتشروا اختلفوا، فحينئذٍ دعت الضرورة إلى الرسل، وأما على رأي شيخ الإسلام لا أدري
(1)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، حديث رقم (2830)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث رقم (2704) عن أبي موسى.
لعله رحمه الله يرى أنه مستثنى وليس له وجه، وهذا رأي الجمهور وهو الصواب.
* * *
° قال الله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118].
قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} بمعنى: إن تقدر لهم ما يستحقون أن يعذبوا عليه فإنهم عبادك، وليس المراد أنه يعذبهم بدون جرم، فإنه سبحانه وتعالى منزهٌ عن ذلك غاية التنزيه، لقول الله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، ولقوله:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، لكن المعنى: إن تعذبهم بأن تُقَدِّرَ عليهم ذنبًا يكون سببًا للعذاب فإنهم عبادك، ومع هذا نقول: إن الله تعالى لن يقدر لهم ذنوبًا يستحقون عليها العذاب إلا إذا علم ما في قلوبهم من الإعراض وعدم قبول الحق، قال الله تبارك وتعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، فالذنوب سبب للإعراض والعياذ بالله، وقال الله عز وجل:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، إذًا: كلمة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} لا بد لها من مقدمات:
الأولى: فعل ما يستحقون عليه العذاب.
الثانية: أنه يقدر لهم ما يحصل به العذاب؛ لأنهم أهل لذلك، إذ إن الله تعالى وعد فقال:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 5 - 7]، لكن الذنب ذنب العبد، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} هذه المراد بها العبادة الكونية لا الشرعية؛ لأن العبد بالعبودية الشرعية لا يستحق أن يعذب، ولكن
المراد العبودية الكونية؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
وقوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الجملة لا يخفى أنها جواب الشرط واقترنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية، والجملة الاسمية إذا وقعت جوابًا للشرط، سواء كان جازمًا أم غير جازم فإنها تقرن بالفاء، وقد نظم بعضهم الجمل التي ترتبط بالفاء إذا وقعت جوابًا للشرط في قوله:
اسميةٌ طلبيةٌ وبجامدٍ
…
وبما وقد وبلن وبالتنفيس
سبعة مواضع، هنا من أي المواضع؟
الجواب: من الجملة الاسمية، لكنها جملة اسمية أكدت بـ "إن" فاقترنت بالفاء.
قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، يعني: إن قدرت لهم أسباب المغفرة فغفرت لهم.
لو قال قائل: قولكم في قوله تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} أي: قدرت لهم أسباب المغفرة، ألا يشكل عليه أن الله جلَّ وعلا قد يغفر الله لعباده بفضله ورحمته؟
الجواب: الله جلَّ وعلا يغفر ما دون الشرك بفضله ومَنِّهِ، لكن كونه لم يشرك من أسباب المغفرة التي تكون تحت مشيئة الله جلَّ وعلا.
وقوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (العزيز): الغالب، قالوا: العزة ثلاثة أنواع: عزة القهر والغلبة، وعزة الامتناع، وعزة الشرف التي يعبر عنها بحضهم بعزة القدر.
أما عزة الغلبة: فظاهرة، مثل قول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8]، ومثل قوله تعالى:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، واضح أن المراد بها الغلبة هنا.
أما عزة الامتناع: قالوا معناها: إن الله عز وجل أعظم من أن يناله ما يكون عيبًا أو نقصًا، يعني: يمتنع عليه النقص، رجعوا في ذلك إلى الاشتقاق، قالوا: لأنه يقال: أرضٌ عزازٌ، أي: صلبة لا تؤثر فيها المعاول لامتناعها وشدتها.
والثالث: عزة الشرف، يعني: أنه عز وجل ذو قدر عظيم وشرف عظيم، كما تقول لصديقك: أنت عزيز عليَّ، معناه أنت ذو قدر عظيم عندي.
قوله: {الْحَكِيمُ} الحكيم: مشتقة من حَكَمَ وأحْكَم، فإن كانت من حكم ففعيل بمعنى: فاعل، وإن كانت من أحكم، ففعيل بمعنى: مُحْكِمْ، وإتيان فعيل بمعنى فاعل كثير، كسميع بمعنى سامع، وبصير بمعنى باصر، وهكذا، لكن فعيل بمعنى مُفْعِل قليل في اللغة العربية، لكنه ثابت، ومنه قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعِ السميعُ
…
يؤرقني وأصحابي هجوعُ
فمعنى السميع: المسمع، إذًا: الحكيم: مأخوذة من الحُكْم والإحكام، فإذا كانت من الحكم فهي بمعنى: حاكم، أي: هو الحاكم في كل شيء، وإن كانت من الإحكام فهي بمعنى: محكم، والمحكم هو الذي منه الحكمة، فاحكم: أى: أتقن كل شيء، كما قال عز وجل:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وما زلنا في شرح هذه الكلمة العظيمة، أولًا: يجب أن نعلم أن هذا وصف الله عز وجل أن له الحكم فهو الحاكم قدرًا
وشرعًا، دنيا وأخرى، وأن نعلم أن له الحكمة في كل ما يفعله، وكل ما يحكم به من أمور كونية وأمور شرعية، وإذا علمنا هذا استسلمنا تمامًا للأحكام الشرعية والأحكام الكونية، فلا نقول مثلًا: إذا قدر الله تعالى وباءً أو قدر زلازل وما أشبه ذلك، لا نقول: هذا عبث، بل نقول: هذا لحكمة، فالحكمة تكون في ذات الشيء، وتكون في غايات الشيء، وتكون في الشرع، وتكون في القدر، فالأقسام إذًا أربعة:
الحكمة في ذات الشيء: بمعنى: أن يقدر هذا الشيء إن كان قدريًّا على وجهٍ مناسب تمامًا، انظر في المخلوقات تجد كونها على هذا الوجه الذي خلقت عليه موافقة تمامًا للحكمة، واسأل أهل التشريح للأجساد البشرية وغير البشرية، اسألهم: كيف ركب الله عز وجل هذه الأبدان على أباع ما يكون وأدق ما يكون، كم في الإنسان من معامل في جسمه؟ معامل عظيمة! انظر إلى الطعام يدخل متنوعًا ويخرج نوعًا واحدًا! انظر إلى الطعام يدخل على وجه الصعوبة أو الليونة ويخرج على مستوىً الواحد! كل هذا بسبب المعامل، ثم هذه المعامل -سبحان الله- تباشر العمل فلا تتأخر، فالمعدة من حين يصل إليها الطعام تبدأ تشتغل، والإفرازات عليها من المرارة أو غيرها شيء عجيب، كون الإنسان خلق على هذا الوجه، عَدَّله الله وجعله سويًّا ليس كالأنعام، مناسب تمامًا لما خلق له العبد من كونه مخلوقًا للطاعة والعبادة، حتى يتمكن من القيام والقعود والركوع والسجود وغير ذلك مما يكلفه الله به، وعلى هذا فقس.
كذلك أيضًا الحكمة في الأمور الشرعية، في ذات الأوامر
الشرعية حكمة عظيمة، فالصلاة صلة بين الإنسان وبين الله عز وجل، إنه يناجي ربه قائمًا في قراءته وإنه يبتهل إليه في سجوده، وإنه يخشع له بقلبه، فكونه على هذا الوجه هذه حكمة.
أما الغايات: فالغايات أيضًا حكمة، الغايات فيما يقدره الله تعالى قدرًا، غايات حميدة، انظر إلى قول الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] الغاية من هذا {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41]، والغاية من هذه العقوبة:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]، فهذه غاية بعد غاية، مع أن الإنسان لو تصور الأمر من أول وهلة لقال: الفساد فساد، كيفما يكون، فنقول: إن له غاية حميدة.
فالمصالح لها غايات حميدة أيضًا، فهي بنفسها حميدة ولها غايات حميدة أيضًا، ومنها الشكر على النعم، فإن الله تعالى يبتلي بالشر والخير، إذا صبر الإنسان على الشر فهي غاية حميدةٌ، وإذا شكر على الخير فهي غاية حميدة أيضًا.
أيضًا المخلوقات لها غاية: إذا رأيت الشمس تطلع كل يوم من مطلع غير المطلع الذي بالأمس، وبين مطلعها اليوم ومطلعها بالأمس مسافات عظيمة ما يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأن مع هذا البعد العظيم الذي نظنه مثل الشعرة تجد مساحته أعوامًا، ونحن نظن: أن المساحة يسيرة ما هي إلا كشعرة انحرفت الشمس عنها وهي ليست كذلك، بل مسافات عظيمة جدًّا، وهذا كل يوم، وترجع في نفس الخط، لأجل المصالح العظيمة.
الناس تختلف مصالحهم في الشتاء عنها في الصيف، وفي الخريف عنها في الربيع، مصالح عظيمة، الشمس أيضًا في نضج
الأشجار وتدفئة الجو لها - سبحان الله - شيء لا يتصور، انظر مثلًا إلى الجو والأفق تجده ونحن في شدة الصيف تجده باردًا جدًّا جدًّا؛ لأن أضواء الشمس ليس لها ما يعكسها، هي تنعكس على الأرض ثم تولد حرارة، لكن في الجو لا يوجد شيء يعكس، تخرقه خرقًا وتمضي إلى الأرض، فلكل مخلوق غاية ولكل مشروع غاية حميدة، فالحكمة إذًا تكون في المقدور، أي: في ذات المقدور كونه على هذا الوجه حكمة. ثانيًا: في الغاية منه. ثالثًا: في المشروع. رابعًا: في الغاية منه.
وتأمل الشرائع تجد أنها صلاحٌ للبدن وصلاح للقلب، صوم، صلاة، زكاة، حج، توحيد وإخلاص، مصلحة للبدن، وأَسَرُّ ما يكون الإنسان وأنشط ما يكون وأفرح ما يكون إذا اصطبغ قلبه بالإخلاص لله عز وجل، ولذلك يمر على الإنسان أحيانًا وهو في العبادة، يمر عليه حالٌ يقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم فهو كافٍ، وتأتي الغفلة تستولي كثيرًا، فربما يثقل عليه ما كان خفيفًا عليه بالأمس، والقلوب بيد الله عز وجل.
فالمهم أن الحكمة تكون على هذه الوجوه الأربعة: حكمة في المخلوق، حكمة في المشروع نفسه، حكمة في الغاية من المخلوق، حكمة في الغاية من المشروع، وهذا واضح.
والغريب أن هذه الحكمة العظيمة أنكرها الأشاعرة والجهمية وقالوا: إن الله لا يفعل لحكمة؛ لأن الحكمة غرض، والله منزهٌ عن الأغراض والأعراض والأبعاض، سجعٌ باطل.
منزه عن الأغراض يعني ليس له حكمة، لا يفعل لحكمة، هكذا مجرد مشيئة.
ومنزه عن الأعراض: يعني ليس له صفات، لا يضحك ولا يغضب.
ومنزه عن الأبعاض: يعني ليس له وجه ولا يد ولا عين وما أشبه ذلك.
لكن نقول: إن هذا باطل، فالله تعالى منزه عن النقص، أما الحكمة فليست غرضًا ينتفع بها الله عز وجل، إنما ينتفع بها الخلق لتظهر آثار رحمته وآثار حكمته في خلقه، حتى يعبدوه وإلا فالله غني عنا، لو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم أينقص الله شيئًا؟ لا ينقصه، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين كلهم، لا ينتفع بالطاعة، ولا تضره المعصية، لكن تظهر آثار رحمته وحكمته وسلطانه وقوته، جعل هذه الشرائع، فليست الحكمة غرضًا ينتفع به الحكيم بالنسبة لله عز وجل، أو يدفع به ضررًا عنه.
أما قولهم: منزه عن الأعراض، يعني: أنه لا ينزل ولا يستوي على السماء ولا يضحك ولا يفرح ولا يحب ولا يكره، فنقول: هذا يعني: إبطال ما وصف الله به نفسه، وهذا الإبطال هو بمنزلة الجحد؛ لأنهم يبطلون أشياء واضحة المعنى، فهي كما لو قال الذي اشترى فرسًا قال: اشتريت خبزًا هل يصدق بهذا؟ لا يصدق، هم تحريفاتهم للنصوص مثل تحريفات من قال: اشتريت خبزًا يريد اشتريت فرسًا، لكنهم لا يصرحون بالنفي يقولون: إن الله لا يغضب، لا، يقولون: يغضب لكن المراد بغضبه الانتقام أو إرادة الانتقام.
الثالث: الأبعاض، يقولون: لا يمكن أن يكون لله وجه ولا عين ولا يد ولا قدم ولا ساق، فنقول: سبحان الله أأنتم أعلم أم الله؟ فإذا قالوا: الله أعلم، نقول: هل يُحَدِّث الله تعالى بالكذب؟ إذا قالوا: لا، لا يمكن أن يَكْذِب هو أصدق القائلين، قلنا: إذًا كيف تقولون إنه ليس له يد حقيقية، وليس له وجهٌ حقيقي.
فالحاصل أننا نقول: إن نفي الحكمة يعني: أن أفعال الله تعالى كلها سفه؛ لأنه إذا انتفت الحكمة حل العبث ضدها لابد، إذ لا يعقل أن فاعلًا يفعل ما ليس له حكمة إلا وله ضدها، فالحمد لله الذي هدانا، نسأل الله أن يثبتنا، إذًا الآية هذه تفيد الحكمة على الوجوه الأربعة.
من فوائد الآية الكريمة:
نذكر ما يفتح الله علينا من فوائد هذه الآية:
الفائدة الأولى: أن عيسى عليه السلام وهو أحد أولو العزم من الرسل، يفوض الأمر إلى الله حيث قال:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} ، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، وهكذا يجب علينا نحن أن نفوض الأمر إلى الله عز وجل فيما يفعله ولا نعترض عليه، فالله يقول:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لكمال حكمته، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنهم عابدون لله عز وجل.
الفائدة الثانية: تسليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتفويض الأمر إلى الله عز وجل، لأن هذا من عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أحد الأنبياء أولي العزم.
الفائدة الثالثة: إطلاق العبودية على من استحق التعذيب، والعبودية نوعان: خاصة وعامة، والخاصة نوعان: أخص وأعم.
النوع الأول: العامة، هي عبودية القدر، يعني: عبودية التكوين هذه عامة لكل أحد، قال الله عز وجل:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، ولا يشذ عن هذه العبودية أحد، ولا يمكن أن يعارض هذه العبودية أحد، فلا يستطيع أكفر عباد الله أن يمنع قدر الله عز وجل فيه، وهذه عامة لكل الخلق للمسلم والكافر والبر والفاجر.
لو قال قائل: هل الحيوانات من عباد الله؟
الجواب: غير الآدميين والجن عباد لله تعالى بالشرع والقدر، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18].
النوع الثاني: خاصة وهي العبودية للشرع، أي: العبودية لشريعة الله: أن يتذلل الإنسان لشريعة الله عز وجل وهذه خاصة بمن أسلم وجهه لله، فيخرج منها الكافر فليس بعبد لله بهذا المعنى، هذه العبودية الخاصة تنقسم إلى أعم وأخص، أخص هذه العبودية الخاصة، عبودية الرسل عليهم الصلاة السلام، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وقوله:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10]، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، وقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] ، والأمثلة كثيرة، وقال في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا
شَكُورًا} [الإسراء: 3]، هذه أخص أنواع العبودية وهي عبودية الرسالة؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام مكلفون بأمرٍ زائد على ما كلف المرسل إليهم، في تبليغ الرسالة والصبر على إبلاغها والدعوة إلى الله وغير ذلك.
الفائدة الرابعة: أن لله تبارك وتعالى أن يعذب ويرحم، وإن شئت فقل: إنه يعذب ويغفر لتطابق الآية، ولكن هل هذا على ظاهره أو نقول: إنه يعذب من يستحق التعذيب؛ لأن الله تعالى لا يعذب أحدًا لا يستحق التعذيب، كما قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112].
الفائدة الخامسة: حكمة الله عز وجل في جعل الخلق ينقسمون إلى قسمين: معذب ومغفور له، كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، ولولا هذا الانقسام ما ظهر فضل الإيمان، ولا شرع الجهاد ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا أرسلت الرسل، لكن حكمة الله اقتضت أن يكون الناس قسمين.
الفائدة السادسة: إثبات المغفرة، أي: مغفرة الله عز وجل لمن شاء من عباده، لقوله:{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} وقد تقدم معنى المغفرة وهي: ستر الذنب والتجاوز عنه، نأخذ هذا من اشتقاق هذه الكلمة فإنها مشتقة من المِغْفر وهو الذي يتقى به السهام يجعل على الرأس، فهو ساتر وواقٍ.
الفائدة السابعة: إثبات هذين الاسمين الكريمين "العزيز" و"الحكيم"، وإثبات ما تضمناه من صفة وهي: العزة والحكم والحكمة، واعلم أن الأسماء الكريمة قد تستلزم معانٍ أخرى لا
يدل عليها اللفظ باشتقاقه، لكن تكون من اللوازم، مثلًا الخالق من أسماء الله، الخلاق من أسماء الله، يدل على صفة الخلق ويدل على صفات أخرى لازماتٍ لذلك وهي: العلم والقدرة، كما قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] وبهذا نعرف أن الصفات أكثر من الأسماء، وجه ذلك: أن كل اسم لا بد أن يتضمن صفة أو أكثر، وليس كل صفة يشتق منها اسمٌ، فلهذا نقول: صفات الله عز وجل التي بلغتنا أكثر من أسمائه.
فإن قال قائل: الإنسان إذا قرأ هذه الآية يتوقع أن يكون ختامها: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن قوله: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، جوابـ "إِن تَغْفِرْ لَهُمْ"، والمناسب أن يقول: إنك أنت الغفور الرحيم، فما الجواب؟
قيل: إن الجواب: أن الآية وإن كانت مركبة من شرطيتين فهما بمعنىً واحد، الآن الآية فيها شرطيتان:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} وجوابها، {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} جوابها:{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لكنها في الحقيقة كشرط واحد، فيكون تعذيب الظالمين بظلمهم والمغفرة للذين يستحقون المغفرة مبنيًّا على العزة التي بها يعذب الكافرين، وعلى الحكمة التي بها يغفر لمن يستحقون المغفرة هذا من وجه، ومن وجه آخر: تقسيم الناس إلى هذا اقتضته العزة والحكمة، فكان هذا هو المناسب، هذا أقرب ما يكون والله أعلم بمراده.
* * *
° قال الله عز وجل: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119].
قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} "هذا": المشار إليه يوم القيامة، و {يَوْمُ}: خبر المبتدأ، ولهذا جاء مرفوعًا، وليس ظرفًا، إذ لو كان ظرفًا لكان منصوبًا، لكن فيه قراءة سبعية بالنصب:"هذا يومَ ينفع"، وعلى هذه القراءة يكون هذا الواقع يقع.
وقوله: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الصدق: يكون بالقول وبالعمل، يعني: بالفعل والاعتقاد، أما الصدق بالقول: فهو مطابقة الخبر للواقع، وأما الصدق بالاعتقاد: فأن يكون اعتقاده مطابقًا لقوله، مثال ذلك: قول القائل: "لا إله إلا الله" هذا خبر، صدق أو كذب؟ صدق، لكن هل يصدقه القلب، بمعنى: هل القلب يؤمن بهذا: بأنه "لا إله إلا الله" أو لا؟ إن كان يؤمن بذلك اجتمع في حقه، صدق القول وصدق الاعتقاد.
وأما صدق الفعل بأن يكون الفعل متبعًا فيه الشريعة، ومطابقًا لما في القلب، وعلى هذا فالمبتدع ليس صادقًا، والمنافق ليس صادقًا؛ لأن فعله لا يطابق ما في قلبه، والمبتدع ليس بصادق؛ لأنه لو كان صادق الإيمان ما خرج عن شريعة الرحمن.
قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الصديقية مرتبة هي أعلى المراتب بعد النبوة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في الفوائد.
قوله: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ}، {لَهُمْ}: خبر مقدم وهذا يقتضي الاختصاص، أي: لهم دون غيرهم، {جَنَّاتٌ تَجْرِي} الجنات: جمع جنة، وهي الدار التي أعدها الله عز وجل للمتقين، "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"
(1)
، تأتي في القرآن مفردة ومجموعة ومثناة، أما الإفراد فباعتبار الجنس، فتشمل كل ما كان من الجنات، وأما الجمع فباعتبار الأنواع؛ لأنها درجات متعددة أعد الله للمجاهدين في سبيله مائة درجة، وأما التثنية فباعتبار الجنس، وهذا في قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، ثم قال:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} [الرحمن: 62].
قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الجريان معروف، و"الأنهار": جمع نَهَرْ: وهو الماء، هذا ما نعرفه في الدنيا، لكنه في الجنة أنهار أصنافها أربعة، ذكرها الله تعالى في سورة القتال فقال:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} ، هذا في الشراب، وفي المأكل قال تعالى:{وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، في عدم المسؤولية عما أكلوا أو تركوا، {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15].
وقوله: {مِنْ تَحْتِهَا} يعني: لا من فوقها، ولكن هل معناه من تحت السقف؟
الجواب: لا، من تحتها، أي: من تحت هذه الأشجار، والقصور والخيام، وجريان هذه الأنهار كما جاء في السنة: بدون أخدود وبدون حفر
(2)
، تجري على السطح لا تحتاج إلى أخدود
(1)
تقدم ص 294.
(2)
رواه أبو نعيم في الحلية (6/ 205) عن أنس.
يُقَوَّم ولا حفر تحفر، وإنما تجري حسب رغبة الساكنين، يصرفها الإنسان كما يشاء.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} الخلود: هو المكث الطويل، فإن أكد بالأبدية صار أبديًّا، وقيل: إن الخلود: هو المكث الدائم ما لم يقم دليلٌ على أنه مؤقت، وعلى كل حال فإن أكد بالأبدية انقطع القول بأنه خلودٌ طويل؛ لأنه أكد بالأبدية.
قوله: {رضي الله عنهم} بما قاموا به من طاعته، وتمام الرضا إذا دخلوا الجنة، فإن الله تعالى يسألهم ماذا يريدون؟ فيعدون عليه نعمه عليهم فيقول: إن لكم أن أحل عليكم رضواني فلا أغضب عليكم بعده أبدًا
(1)
، وهذا الرضوان الدائم الكامل.
قوله: {وَرَضُوا عَنْهُ} بما وفقهم له من الأعمال الصالحة في الدنيا، وبما أثابهم عليه في الآخرة، فإن المؤمن لا شك مسرورٌ بطاعة الله راضٍ بها، فرحٌ بها.
قوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "ذلك ": المشار إليه ما ذكره الله عز وجل من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والخلود فيها والرضا، وأشار إليه بإشارة البعد وذلك لعلو مرتبته وارتفاعها، وإلا فالذكر قريب، لكن أشار إليه لعلو مرتبته، فإنه فوز لا نظير له.
قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يقال: فاز الرجل إذا غلب غلبة
(1)
رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة، حديث رقم (7080)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة
…
، حديث رقم (2829) عن أبي سعيد الخدري.
مرضية ولا يكون هذا إلا بالنجاة من المرهوب وحصول المطلوب، و {الْعَظِيمُ} أي: ذو العظمة البالغة التي ليس لها نظير.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: إثبات القول لله عز وجل، لقوله:{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ} .
الفائدة الثانية: أن قول الله تعالى بحروف وليس المعنى القائم بنفسه؛ وجه ذلك؛ لأن مقول القول حروف، والله تعالى يخاطب من يخاطب به فيكون مسموعًا، فيكون في هذا رد على القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، كما هو مذهب الأشعري، وقصدي بالأشعري المنتسب إلى أبي الحسن لا نفس أبي الحسن.
الفائدة الثالثة: أن قول الله تعالى بصوت مسموع؛ لأن كل هذا في سياق المحاورة مع عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم اعلم أن القول عند الإطلاق لا يراد به إلا اللفظ المسموع، لا يمكن أن يراد بالقول عند الإطلاق المعنى القائم بالنفس أبدًا، بل إذا أريد به المعنى القائم بالنفس قيد كما في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} [المجادلة: 8].
الفائدة الرابعة: الفائدة العظيمة في الصدق؛ لأن الإنسان في يوم القيامة أحوج ما يكون إلى ما ينفعه، والصدق يوم القيامة ينفع.
الفائدة الخامسة: الحث على الصدق والترغيب فيه؛ لأن ذكر كونه نافعًا في ذلك الوقت الحَرِج يدل على الترغيب فيه
والحث عليه، وقد حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا"
(1)
والصديقية: أعلى مراتب البشر بعد النبوة، ويكفيك اقتناعًا بفائدته وثمرته ما حصل للثلاثة الذين خلفوا، أي خلف أمرهم ولم يقض فيه بشيء حتى جاء الوحي وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم منها، جاء المعذرون يعتذرون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الله عنهم قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96]، أما الثلاثة فصدقوا وأخبروه بالصدق، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم آيات تتلى في الصلاة وخارج الصلاة ويثاب على قراءتها، وحث على أن نكون مثلهم فقال له بعد ذكر الآيات:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].
لو قال قائل: أحيانًا إذا أراد الإنسان أن يصدق فإن الصدق
(1)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} ، حديث رقم (5743)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، حديث رقم (2607) عن عبد الله بن مسعود.
قد يدخله في إحراج، كأن يطلب منه رجل مالًا قرضًا فيقول له: ما عندي لأنه يخاف المماطلة؟
الجواب: هذه سهلة، يتأول، وفي التأويل مندوحة عن الكذب، يقول: ما عندي شيء أقرضك إياه، ينوي هذا، والنية تخصص العام، وليأخذ طالب العلم هذه الفائدة وينتفع بها، أن في التأويل لمندوحة عن الكذب.
الفائدة السادسة: إثبات الثواب بالجنة، لقوله:{لَهُمْ جَنَّاتٌ} ، وهذا أمر معتقد عند جميع الطوائف المسلمة.
الفائدة السابعة: أن هذا الثواب يختص به الصادقون، وجه ذلك تقديم الخبر على المبتدأ يدل على الحصر.
الفائدة الثامنة: وصف الجنات بأن الأنهار المضطردة تجري من تحت الأشجار والقصور، وما أجمله من منظر وما ألذه من مخبر، اللهم اجعلنا منهم.
الفائدة التاسعة: أن أهل الجنة مخلدون فيها أبدًا، لقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وهل هي موجودة الآن؟ نعم هي الآن موجودة في السموات، قال الله تعالى:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، والإعداد يكون مهيئًا لأهله، والنبي صلى الله عليه وسلم دخلها حين عُرِجَ به، ورأى فيها ما رأى، ومثلت له حين قام يصلي صلاة الكسوف، هي والنار
(1)
.
(1)
رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، حديث رقم (1004) عن ابن عباس، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، حديث رقم (904) عن جابر بن عبد الله.
الفائدة العاشرة: إثبات رضا الله عز وجل، لقوله:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وهل الرضا صفة فعلية أو ذاتية؟ فعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئته، وكل صفة تتعلق بالمشيئة فهي فعلية، وهل هي حقيقة أو هي كناية عن إرادة الثواب أو هي الثواب نفسه؟
الجواب: فيها قولان:
القول الأول: أنها حقيقة وهذا القول هو الذي يجب اتباعه؛ لأنه ظاهر الكتاب، والواجب إجراء الكتاب على ظاهره بدون تحريف.
فإن قال قائل: الرضا معنىً يقوم بالنفس، يقوى ويضعف ويزول ويبقى، قلنا: وما المانع أن نثبت هذا لله وقد أثبته لنفسه! لكن نعلم أن رضا الله ليس كرضا المخلوق الذي يزول بأدنى سبب أو يوجد بأدنى سبب بل له أسبابه المقتضيات له، وله ما يزيله على وجهٍ يختص بالله عز وجل؛ لأن لدينا قاعدة عامة، وهي قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
القول الثاني: قول أهل التحريف، قالوا: إن الله لا يمكن أن يرضى، الرضا صفة عارضة، والله عز وجل منزهٌ عن الصفات العارضة؛ لأن الصفات العارضة صفاتٌ حادثة، والحادث لا يقوم إلا بمحْدَث، وكل هذه التعليلات وهمية لا عقلية، وهي مردودة بدلالة الكتاب والسنة على ثبوت ذلك، ولهذا أي: لكونهم لا يعتقدون رضا حقيقي، قالوا: معنى الرضا: إرادة الثواب، ولم يقولوا: إنه الثواب بل قالوا: إرادة؛ لأنهم يثبتون الإرادة، ومن المعروف أن الأشعرية يثبتون سبع صفات: الحياة، والعلم،
والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، فقالوا: الرضا إرادة الثواب، ومنهم من يقول - وهم الذين لا يثبتون الإرادة - يقولون: إن الرضا هو: الثواب، والثواب كما نعلم شيء منفصل عن الله مخلوق، يكون بالكلمة: كلمة الله عز وجل، ولا شك أن هذا تحريف، وكما هو معلوم مما ذكرنا في الحديث أن الرضا الذي يعطيه الله أهل الجنة أعظم مُناهم وأكمل من كل ما يجدوه في الجنة من النعيم، فكيف نفسره بما هو أدنى ونقول: هو الثواب أو إرادة الثواب!
الفائدة الحادية عشرة: رضا أهل الصدق عن الله عز وجل، وهذا فيه شيء من الإشكال، لكن هل للإنسان أن يرضى عن الله أو لا يرضى، أو الواجب الرضا بقضاء الله مطلقًا؟ الثاني، الواجب رضا الإنسان عن ربه مطلقًا، لا بد أن يقول: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولًا.
فهل نقول: إن هذا من باب المشاكلة في اللفظ، لما قال عز وجل:{وَرَضُوا عَنْهُ} ، أو نقول: إن الرضا هنا ليس المراد به مقابل الغضب؛ لأنه إذا ثبت الرضا ثبت، وإذا لم يثبت فضده الكراهة والسخط والغضب، أو عدم الرضا بدون كراهة ولا سخط ولا غضب، فلا يلزم من هذا أن نقول: إن الإنسان له الخيار بين أن يرضى بقضاء الله وقدره وألا يرضى، بل نقول: إن الواجب أن يرضى الإنسان بقضاء الله وقدره؛ لأن هذا من تمام الرضا بالله ربًا، لكن رضاهم عنه، إما أنه من باب مقابلة اللفظ بمثله، وإلا فالمراد برضاهم أنهم فرحوا بذلك واستبشروا به ولم يبغوا عنه حولًا كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ
لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} [الكهف: 107 - 108].
الفائدة الثانية عشرة: أن الفوز حقيقة ليس بربح الدينار والدرهم والجاه والرئاسة، الربح العظيم أو الفوز العظيم هو فوز الإنسان بجنات النعيم -أسأل الله أن يجعلنا من الفائزين بها - ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
* * *
° قال الله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120].
لما ذكر الله عز وجل ما جرى بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام وأن عيسى تبرأ مما يدعي النصارى فيه، بَيَّنَ عز وجل أن لله ملك السموات والأرض، وأن عيسى لا يصلح أن يكون إلهًا لا هو ولا غيره؛ لأنهم لا يملكون شيئًا مما في السموات والأرض، قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {لِلَّهِ} وحده، واستفدنا أن ملك السموات والأرض لله وحده من تقديم الخبر، أي: لله وحده لا غير، يتصرف فيه كما يشاء ولا يشاركه أحدٌ في ملكة، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23].
وقوله: {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} جَمَعَ السموات، لأن عددها سبع، وأفرد الأرض باعتبار الجنس، وإلا فإن الأرضين سبع.
قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} ، (ما): هنا اسم موصول، وعبر بـ (ما)
التي يعبر بها عن غير العاقل، قالوا: لأن أكثر ما في السموات والأرض من غير العقلاء، فلهذا قال:{وَمَا فِيهِنَّ} ، وقيل: بل عبر بـ (ما)؛ لأنها تشمل الأعيان والأحوال فكأنه قال: وما فيهن من أعيان وأحوال، و (مَنْ): إنما يعبر بها في العاقل لتعيين الشخص نفسه، وهذه الفائدة لا تكاد تجدها عند كثير من النحويين، لكن ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد أشار إليها، أن (مَنْ) للعاقل إذا قصدت التعيين، يعني: عينه، أما إذا قصد عموم الأعيان والأحوال فإنه يؤتى بـ (ما)، وأبين مثال لذلك قول الله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، ولم يقل:"مَنْ".
لكن لو قال قائل لشخص: تزوج من شئت من بناتي فـ "من" هنا جاءت لأجل التعيين، وهذا معنًى لطيف.
وأما قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] هذا من باب التغليب لأجل العطف.
وقوله: {وَمَا فِيهِنَّ} من المخلوقات العظيمة، واسمع إلى قول النبي:"أطتِ السماء وحُقَّ لها أن تَئِطَّ"
(1)
"أطت" يعني: صار لها صوت، كصرير الرحل عند ثقل الحمل، البعير إذا حملت عليه فإن رَحْلَه يكون له صوت يسمى: أطيطًا.
(1)
رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا"، حديث رقم (2312)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، حديث رقم (4190)، وأحمد (5/ 173)(21555) عن أبي ذر.
وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: مع عموم ملكه قدرته أيضًا عامة على كل شيء، ما من موجودٍ إلا وهو قادر على إعدامه، وما من معدوم إلا وهو قادر على إيجاده تبارك وتعالى، ولا يستثنى من هذا شيء هو قادر على كل شيء، وأخطأ صاحب الجلالين في تفسيره حيث قال عند هذه الآية:"وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر" فإن هذا قول منكر، لكن هذا مقتضى مذهبه حيث ينفي أن تقوم الأفعال الاختيارية بالله، يعني: عنده أن الله لا ينزل ولا يستوي على العرش ولا يضحك ولا يفرح، ومن المعلوم أن الأفعال الاختيارية تكون بمشيئته فهو قادر على إيجادها وهو قادر على إعدامها، فالقول هذا منكر، مبني على عقيدة فاسدة، ونحن نقول: إن الله على كل شيء قدير ولا نستثني، يفعل ما يشاء عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: اختصاص ملك السموات والأرض وما فيهن بالله عز وجل، وجه الاختصاص: تقديم الخبر، والقاعدة: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، سواء كان هذا الذي حقه التأخير خبرًا أم مفعولًا أو غير ذلك مما حقه التأخير.
الفائدة الثانية: عموم ملك الله للسموات والأرض يؤخذ من الإضافة، في قوله:{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، والمفرد المضاف يفيد العموم، واقرأ قول الله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18]، فإن (نعمة) مفرد ولا يحتاج إلى عدد، لو أخذنا بظاهره لقلنا: النعمة واحدة، لكن لما كان المفرد المضاف يفيد العموم صح أن يقول:(لا تحصوها).
ولهذا لو قال الإنسان: عبدي حر، وعنده أعبد، يعتق الجميع إلا إذا كان له نية بعبد خاص، ولو قال: زوجتي طالق، وعنده أربع، تطلق الزوجات كلهن ما لم ينوِ واحدةً؛ لأن المفرد المضاف يكون للعموم.
الفائدة الثالثة: أن السموات جمع، أي: عدد، وقد بَيَّنَ الله في كتابه أنها سبع سموات، فقال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} [المؤمنون: 86]، إذًا: فالسموات سبع وهي طباق كما قال الله تعالى عن نوح: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)} [نوح: 15]، أي: متطابقة بعضها فوق بعض، وبينها مسافات كما دل على ذلك حديث المعراج، حيث كان جبريل عليه السلام يصعد بالنبي صلى الله عليه وسلم سماءً بعد سماء، كلما أتى سماءً استفتح واستفهم أهلها: من هذا، من معك، هل هو رسول؟ فعلينا أن نؤمن بهذا وأن ننكر قول أولئك الفلاسفة الذين يقولون: إنه ليس هناك شيء، ليس هناك سموات، وإنما هي مجرات ونجوم وما أشبه ذلك وفضاء لا نهاية له فإن هذا كذب؛ لأنه يخالف ما جاء في الكتاب والسنة، وليسوا أعلم بخلق الله من الله عز وجل.
الفائدة الرابعة: بيان الحكمة من إفراد الأرض وجمع السموات، فالأرض أفردها الله عز وجل في كل موضعٍ ذكرها، وإن كان في القرآن إشارة إلى أنها سبع كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ولعل من فائدة ذلك وحكمته أن الإنسان إذا ملك ظاهر الأرض ملك إلى تخومها، كل ما تحته من أراضين فهي ملكٌ له، ويشهد
لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أراضين"
(1)
؛ لأنه يملك القرار إلى آخر الأرض السابعة.
وقد أخذ العلماء من هذا: أنه كما يملك القرار يملك الهواء إلى السماء، فلو أراد أحدٌ أن يبني على ساحة بيته رفًا ويسمونه في غير هذه البلاد برندة أو بلكونة، فلو أراد أن يبني على فناء بيت جاره بلكونة، فإنه يمنعه حتى لو كانت عالية، ولو أن أشجاره امتدت أغصانها إلى هواء جاره، طالبه بقطعها أو ليها إذا أمكن، إذًا: الهواء إلى أين؟ إلى السماء، والقرار إلى الأرض السابعة؛ لأنها كلها أرض واحدة عبر الله عنها بالإفراد.
الفائدة الخامسة: أن السموات والأرض فيهنّ شيء، لقوله:{وَمَا فِيهِنَّ} وهذا أمر معلوم، السموات فيها الملائكة، والأرض فيها الإنس والجن والشياطين، كذلك أيضًا هناك الجمادات التي ليس فيها حياة كالجبال، والسحب، والنجوم، كلها ملكها ثابت لله عز وجل.
الفائدة السادسة: عموم قدرة الله عز وجل على كل شيء، لقوله تعالى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذه الصفة مطلقة، وهل هو قدير على ما لا يشاء؟ نعم قدير على ما لا يشاؤه فإذا شاءه وقع، وبهذا نعرف خطأ من يعبر من الناس، يقول: إنه على ما يشاء قدير، لا يجوز هذا؛ لأنك إذا قلت: إنه على ما يشاء، وقدمت أيضًا المعمول خصصت قدرته بما يشاء دون ما لا يشاء، وهذا غلط فهو قادر على ما يشاء وما لا يشاء، لكن ما شاء الله كان
(1)
تقدم في (1/ 225).
وما لم يشأ لم يكن، قال بعض المتأخرين: وإذا قلت: إنه على ما يشاء قدير، فقد وافقت القدرية؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يشاء أفعال العبد، وإذا كان لا يشاؤها لم يكن له قدرة عليها، فالجملة هذه أيضًا ترمي إلى قول مبتدع وهو قول القدرية، فإذا سمعت أحدًا يقول: إنه على ما يشاء قدير، قل له: وعلى ما لا يشاء قدير، وليس لك حق أن تقيد ما أطلقه الله عز وجل من الصفة، الله تعالى أطلقها فقال:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فلا تقيد.
فإذا قال قائل: إذا قررتم هذا فكيف تجيبون عن قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]، قلنا: المشيئة هنا عائدة إلى الجمع، يعني: أنه إذا شاء جمعهم، فهو قدير عليه لا يعجز عنه، خلافًا لمن يقول: إنه لا يقدر على جمعهم وأنكروا البعث، فيكون التقييد بالمشيئة هنا للجمع لا للقدرة.
فإن قال قائل: ما تقولون في آخر رجل يدخل الجنة، فإذا قال الله له: هذا لك قال الله تعالى: "إني على ما أشاء قادر"
(1)
؟ نقول: نعم هنا المشيئة قيدت بفعلٍ معين، يعني: كأن الله يقول له: إني شئته فأنا قادر عليه مثل قوله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} .
والمهم أنه ليس لنا أن نقيد ما أطلقه الله عز وجل، بل
(1)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، حديث رقم (187) عن ابن مسعود.
نقول: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12]. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *
وبذلك، وفي شهر ذي القعدة عام 1419 هـ، انتهت الدروس العلمية المسجلة في تفسير سورة المائدة والتي كان يعقدها فضيلة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين في جامعه بمدينة عنيزة.
رحم الله شيخنا رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته، ومَنَّ عليه بمغفرته ورضوانه وجزاه عما قدمه للإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.