المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سلسلة مؤلفات فضيلة الشيخ (1)   تفسير القرآن الكريم «سورة النساء»   تأليف فضيلة الشيخ العلامة - تفسير العثيمين: النساء - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

سلسلة مؤلفات فضيلة الشيخ (1)

تفسير القرآن الكريم

«سورة النساء»

تأليف

فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

[المجلد الثاني]

ص: -1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

* قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} [النساء: 80].

الآية فيها جملتان شرطيتان: الأولى قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} فـ "من" هنا شرطية، وفعل؟ الشرط قوله:{يُطِعِ} وفيه إشكالان:

الإشكال الأول: أين ذهبت عين الكلمة؟

والإشكال الثاني: كيف كُسرت مع أن "مَن" تجزم؟

والجواب عن الإشكال الأول: أن عين الكلمة حذفت؛ لأن لامها كانت مجزومة، وعينها ساكنة، وقد قال ابن مالك:

إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق

وإن يكن لينًا فحذفه استحق

فالياء ساكنة، والعين ساكنة، فيحذف حرف اللين وهو الياء.

وأما كسر العين وهي مجزومة فمن أجل التقاء الساكنين، وأمثلة هذه كثيرة، مثل قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1].

وجواب الشرط في قوله: {مَنْ يُطِعِ} قوله: {فَقَدْ أَطَاعَ} .

الجملة الثانية قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} فعل الشرط فيها قوله: {تَوَلَّى} وهو فعل ماض في محل جزم فعل

ص: 5

الشرط، والجواب جملة منفية؛ لأن {مَا} نافية و {أَرْسَلْنَاكَ} فعل ماضٍ.

أما وجه اقتران الجواب بالفاء في الجملتين فلأنه لا يصح أن يكون الجواب شرطًا، وإذا كان الجواب لا يصح أن يكون شرطًا وجب اقترانه بالفاء، كما قال ابن مالك في ألفيته:

واقرن بفا حتمًا جوابًا لو جُعل

شرطًا لإن أو غيرها لم ينجعل

وقد ذُكر ذلك في بيت من الشعر وهو:

اسمية طلبية وبجامدٍ

وبما وقد وبلن وبالتنفيس

يقول الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} "ال" في قوله: {الرَّسُولَ} للعهد الذهني، وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن نزل في عهد رسالته، ويصح أن نقول: إنه عام يشمل كل رسول، وعلى هذا فتكون "ال" للعموم وليست للعهد، لكن يُضعف هذا الإحتمال قوله:{وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ} ؛ لأن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمراد بالرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتكون "ال" للعهد الذهني.

وقوله: {فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} أي: أن طاعة الرسول طاعة لله عز وجل، فإذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر فأطعناه فنحن قد أطعنا الله.

وقوله: {وَمَنْ تَوَلَّى} يعني: لم يطع الرسول: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ؛ لأن عليك البلاع، وقد بلغت، وحفظ الناس وأعمالهم إلى الله عز وجل.

ص: 6

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الأصل فيما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أنه شرع؛ لعموم قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} .

وينبني على ذلك أننا لو شككنا فيما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام أو قاله هل هو شرع أو نسيان فنحمله على أنه شرع، ومن ذلك:"أنه قرأ سورة الزلزلة في صلاة الفجر في الركعتين"، قال الراوي:"فلا أدري أنسي أم كان على علم"

(1)

فنقول: إذا قلنا: إن الأصل أن ما فعله فهو شرع يكون هذا الإحتمال غير وارد، وإن ورد عقلًا فهو ضعيف شرعًا، ونقول: الأصل أن ما فعله فهو شرع وليس بنسيان.

2 -

الإحتجاج بالسنة، وأنها كالقرآن في وجوب العمل بها، ولكن نحتاج في السنة إلى إثبات نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما دام أنها لم تثبت فإنها ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

3 -

جواز نسخ القرآن بالسنة، وجواز تخصيص القرآن بالسنة، أما الثاني فمحل اتفاق، وهو: أن السنة تُخصص القرآن، وأما الأول فمختلف فيه، فقيل: إنها - أي: السنة - لا تنسخ القرآن من وجهين:

الوجه الأول: أن ثبوت القرآن قطعي؛ لأنه نقل بالتواتر اللفظي والمعنوي، والسنة ليست كذلك.

الوجه الثاني: أن القرآن كلام الله منقول إلينا بالتواتر اللفظي والمعنوي، أما السنة فإن الرواة قد يتصرفون فيها فينقلونها بالمعنى، وهذا كثير؛ لذلك قالوا: إن القرآن لا يُنسخ بالسنة.

(1)

رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الرجل يعيد سورة واحدة في الركعتين (816).

ص: 7

والصواب: أن القرآن ينسخ بالسنة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حتى الآن لم نجد مثالًا يسلم من المعارضة، لكن من حيث النظر نقول: إن نسخ القرآن بالسنة ثابت.

4 -

أن معصية الرسول معصية لله، تؤخذ بطريق المفهوم؛ لأنه إذا كانت طاعته طاعة لله فمعصيته معصية لله عز وجل.

5 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين:

أولًا: وصفه بالرسول.

وثانيًا: جعل طاعته كطاعة الله عز وجل.

وهنا مسألة: هل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد؟

الجواب: نعم. وسنته نوعان: اجتهادية، ووحي، فمن الوحي: حين سُئل عن الشهادة فقال: "إنها تكفر كل شيء"، ثم أتاه جبريل عليه السلام فقال:"إلا الدين"

(1)

، فإن قوله:"إلا الدين" هذا بالوحي، وأما ما يقوله عليه الصلاة والسلام دون أن ينسبه إلى الله فهو وحي باعتبار إقرار الله له، كما نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقر أحدًا على قول أو عمل صار هذا من سنته، وسنته: قول، وفعل، وإقرار.

6 -

تهديد من تولى وأعرض عن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} كأنه يقول: فنحن نحفظه، ونحفظ عليه أعماله، وما معه.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسأل عن إعراض أمته، وأن من

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، حديث رقم (1885) عن أبي قتادة.

ص: 8

أعرض من أمته فذنبه على نفسه، لقوله:{وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} .

8 -

إثبات العظمة لله عز وجل، وذلك حين جاء بضمير الجمع لقوله:{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، وقد ذكره بعض العلماء أن النصارى يستدلون بمثل هذه الضمائر على تعدد الألهة؛ لأنهم يقولون: هذه تفيد الجمع، فيقال: لا غرابة أن يستدل النصارى بهذا المتشابه على باطلهم؛ لأن النصارى في قلوبهم زيغ، وقد قال الله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، والجواب على هذا سهل: هو أن نقول: ما لكم تشبثتم بهذه الآية المتشابهة وتركتم الآيات المحكمة البينة الظاهرة التي تدل على أن الله إله واحد، كما في قوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].

* * *

* قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء: 81].

{يَقُولُونَ} هؤلاء من المنافقين، أو خليط من المنافقين والمؤمنين.

وقوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني: إذا أمرتهم قالوا: طاعة لا نخالفك، ولكنهم إذا خرجوا من عند الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا كما قال سبحانه:{بَيَّتَ طَائِفَةٌ} .

قوله: {فَإِذَا بَرَزُوا} البروز معناه: الظهور، يعني: إذا فارقوا المجلس، وظهر فراقهم إياه، وصاروا بدل من أن يكونوا في

ص: 9

الحجرة صاروا في السوق، والمقصود من هذا: بيان أنهم إذا فارقوا المكان مفارقة تامة.

وقوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} {بَيَّتَ} يعني: عمل ليلًا، وإنما كان عملهم ليلًا لأن الليل محل الخفاء ومحل السر، فتجدهم يظهرون عند النبي صلى الله عليه وسلم طاعة، لكن إذا ذهبوا إلى بيوتهم بيتوا غير الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي: وليس كلهم.

وقوله: {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} {غَيْرَ} هنا بمعنى المخالفة، فإذا قال: افعلوا كذا قالوا: طاعة، فإذا رجعوا إلى بيوتهم قالوا: لا طاعة، يعني: يبيتون المخالفة لما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام.

قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} الجملة هذه خبرية تفيد أمرين:

أولًا: تهديد هؤلاء الذين يبيتون غير ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أمرهم لا يخفى على الله، فقد يعاجلهم بالعقوبة، وقد يؤخرهم.

يقول جل وعلا: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: لا تهتم بهم، ولا تُشغل بالك بهم.

قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: لا تعتمد عليهم، واعتمد على الله، واعلم أنهم - وإن بيتوا ما يبيتون - لن يضروك، حتى إنهم بيتوا أن يبطشوا بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو أن يردوا دعوته بادعاءات باطلة، أو ما أشبه ذلك.

ص: 10

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل على الله قال العلماء: هو صدق الإعتماد على الله عز وجل، مع الثقة به، وفعل السبب الذي أمر به، فهو مكون من ثلاثة معانٍ:

الأول: صدق الإعتماد على الله.

الثاني: الثقة بالله عز وجل؛ لأن التوكل لا ينفع إذا لم يكن صاحبه واثقًا بوعد الله، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

الثالث: فعل الأسباب التي أمر بها، فمن لم يفعل الأسباب فهو ليس متكلًا، ولكنه متواكل، فلا بد من فعل الأسباب.

وقولنا: التي أُمر العبد بها: احترازًا من فعل الأسباب التي لا حقيقة ولا أصل لها، كما يفعله المشعوذون وأصحاب التمائم غير المباحة، وما أشبه ذلك.

وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} سبق إعراب مثل هذه الجملة عند قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] وقلنا: إن الباء حرف جر زائد، وأن لفظ الجلالة محله الرفع على أنه فاعل، و {وَكِيلًا} إما تمييز وإما حال.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان الله عز وجل للرسول عليه الصلاة والسلام أن من الناس من يؤمن ظاهرًا ويكفر باطنًا، لقوله:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} .

2 -

التحذير من النفاق، وأن الإنسان يجب أن يكون صريحًا بينًا لا يَظهر للناس بوجه وإذا اختفى عنهم أعطاهم وجهًا آخر؛ ولهذا لا أحسن من الشخص الصادق الذي لا يباري ولا

ص: 11

يماري، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وهذا هو الواجب على كل مسلم أن يكون ظاهره وباطنه سواء.

3 -

بطلان التَّقِيَة التي يتخذها الرافضة دينًا، وتؤخذ من تهديد الله عز وجل هؤلاء الذين يتظاهرون بالطاعة ويبيتون خلاف الطاعة، وذلك في قوله:{وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} .

4 -

إثبات الفعل لله عز وجل، لقوله:{يَكْتُبُ} لكن هل المراد بذلك أنه يكتبه هو بنفسه جل وعلا مباشرة، أو يأمر بكتابته؟ الجواب: الثاني هو المراد، لكن ما فُعل بأمر الآمر فهو منسوب إليه، وإلا فالذين يكتبون أعمال العباد هم الملائكة، لقول الله تبارك وتعالى:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الإنفطار: 9 - 11]، ويصح أن ينسب الفعل إلى الآمر به شرعًا وعرفًا، ولهذا يقال: بنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، ومعلوم أن عمرو بن العاص لم يباشرها بنفسه، ولكن أمر بها، ويقال: بنى الأمير قصره، وليس هو الذي أتى باللبن والطين، ولكنه أمر بذلك، ومن ذلك قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، وقوله:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} [النازعات: 27] فليس باشرها الله عز وجل بيده كما خلق آدم بيده، لكنه قال: كن فيكون، لقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: 11].

5 -

أن المنافقين يحرصون على أن يخفوا أعمالهم، ولهذا يوقعونها ليلًا، لقوله:{بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} .

6 -

أن قول النبي صلى الله عليه وسلم كقول الله في وجوب طاعته وترك ما

ص: 12

نهى عنه، ووجهه: أنه حذر هؤلاء الذين يبيتون غير ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

7 -

إثبات الأفعال الإختيارية التي تكون من فعل الله، لقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَكْتُبُ} .

فإن قال قائل: لقد فسرتم الكتابة هنا بكتابة الملائكة.

قلنا: ولكن كتابة الملائكة وقعت بأمره، والأمر من الصفات الإختيارية، وهذا هو الذي دلت عليه الآية الكريمة، وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن أفعال الله أفعال اختيارية، وذهب أهل التعطيل إلى أن الله تعالى ليس له أفعال اختيارية تقوم به، وأنه لا يمكن أن يتجدد له فعل؛ لأنهم يدعون أنه لا يقوم الحادث إلا بحادث، وهذا باطل، بل نقول لهم عكس ما أرادوا: إن من لا يفعل ناقص، ومن يفعل كامل. ولا شك أن من يفعل أكمل ممن لا يفعل، فالصفات الإختيارية - وهي الصفات الفعلية - لا شك أنها من كمال الله عز وجل، قال الله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107].

8 -

إثبات العلم لله لقوله: {يَكْتُبُ} ولا كتابة إلا بعد علم.

9 -

الإعراض عمن يئسنا من صلاحه، لقوله:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، ولكن هل هذا يعني إعراضًا مطلقًا بحيث إننا لا نعيد عليه الكرة مرة ثانية؟ الجواب: لا، إنما نعرض عنه ما دمنا قد أيسنا من صلاحه.

10 -

وجوب التوكل على الله، لقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يعني: اعتمد عليه في جلب المنافع، ودفع المضار، بمعنى: أنك

ص: 13

لا ترجو حصول المنافع إلا منه، ولا دفع المضار إلا منه سبحانه.

والتوكل على الله معناه: تفويض الأمر إليه، وصدق الإعتماد عليه، والثقة به سبحانه.

وهل يجوز أن يطلق هذا اللفظ على المخلوق كأن يقول قائل: توكلت على فلان في شراء سيارة لي؟

الجواب: يجوز، والفرق بين هذا وبين التوكل على الله، أن التوكل على الله تفويض مطلق يعتقد المتوكل فيه أنه مفتقر إلى الله عز وجل، أما هذا فهو تفويض مقيد، ثم إن الموكَّل أو المتوكِل يرى أن المتوكِّل عليه في رتبة أقل من رتبته، فهذا هو الفرق، لكن لو تحاشى الإنسان هذا القول: توكلت على فلان وأبدله بقوله: وكلت فلانًا لكان خيرًا.

11 -

كفاية الله سبحانه لمن توكل عليه، لقوله:{كَفَى} ، وهذا كقوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وذكر بعض المفسرين على قول الله تبارك وتعالى عن يوسف أنه قال للذي نجا منهما: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، أن الله تعالى، قدَّر أن ينسى هذا الرجل الموصى؛ لأن يوسف لما قال:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] صار في هذا نوع اعتماد على هذا السيد، هكذا زعم هذا القائل والله أعلم، وقد يقال: إن الله سبحانه قدَر أن يَنسى هذا الرجل من أجل ابتلاء يوسف حتى يتم له الصبر بأنواعه الثلاثة.

* * *

ص: 14

* قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82].

قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} .

أولًا: الإعراب:

قوله: {أَفَلَا} الهمزة هنا للإستفهام و"الفاء" عاطفة، وفي المعطوف عليه قولان: القول الأول: أن الهمزة داخلة على محذوف تقديره "أَغفلوا": {فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، أو أنه على ما سبق، وعلى هذا فيكون موضع الهمزة بعد الفاء؛ ولكن قدمت لأن لها الصدارة.

والأول أقرب، والثاني أيسر، الأول أقرب للقواعد أنه يكون هناك شيء مقدر معطوف عليه، والثاني أسهل وأيسر؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير، وربما في بعض الأحيان يصعب عليك جدًا أن تعين المحذوف.

وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} {لَوْ} شرطية، وفعل الشرط هو قوله:{كَانَ} وجواب الشرط قوله: {لَوَجَدُوا} .

واعلم أن "لو" إن كان جوابه مثبتًا فإنه يقترن باللام دائمًا أو غالبًا، كما في هذه الآية:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ، وكما في قوله تعالى:{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65]، وقد تحذف اللام؛ كقوله تعالى:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] لكنه قليل، أما إذا كان خبره منفيًا فإن الغالب حذف اللام، ووجهه: أن اللام تفيد التوكيد والنفي يضاد التوكيد، فتقول: لو جاء زيد ما جاء عمرو، ولا تقل: لما جاء

ص: 15

عمرو، لكن قد تقترن اللام أحيانًا مع وجود النفي بـ "ما" في قوله:

ولو نعطي الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

فقال: لو نعطي الخيار لما افترقنا، والأفصح: ما افترقنا.

يقول الله عز وجل موبخًا هؤلاء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} والهمزة هنا استفهام بمعنى التوبيخ.

وقوله: {يَتَدَبَّرُونَ} أي: يتأملون ويتفكرون، مأخوذ من كون الإنسان يأخذ الشيء إدبارًا وإقبالًا، يعني: يتدبر المعاني ويتفهمها، والقرآن على وزن فُعْلَان، قيل: إنه مصدر، وأنه مثل الشكران والغفران، وقيل: إنه بمعنى المفعول، وحتى ولو قلنا: إنه مصدر بناءً ف {هو بمعنى المفعول معنى؛ لأن القرآن بمعنى المقروء، والمقروء هل معناه المتلو أو المجموع؟ وهل هو من قرأ يقرأ، يعني: جمع يجمع، ومنه القرية لأنها تجمع الناس، أو من قرأ يقرأ بمعنى: تلى؟ الجواب: فيه لأهل اللغة قولان، والصحيح: أنه من هذا ومن هذا، فالقرآن متلو ومجموع حروفه بعضها إلى بعض.

والمراد بالقرآن: كلام الله عز وجل الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته، المعجز بأسلوبه ومعناه.

وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} {وَلَوْ كَانَ} اسم كان ضمير يعود على القرآن، يعني: لو كان القرآن من عند أحد غير الله.

قوله: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} أي: لوجدوا فيه تناقضًا، إما في المعنى وإما في الأسلوب أو غير ذلك، وأيضًا سيكون اختلافًا كثيرًا وليس اختلافًا قليلًا.

ص: 16

وإذا كان من عند الله فلن يجدوا فيه اختلافًا ولو قليلًا، لكن قوله:{اخْتِلَافًا كَثِيرًا} بيان لواقع ما كان من عند غير الله، وليس هذا قيدًا في أنه لو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافًا قليلًا، إذ أنه لا اختلاف في كتاب الله عز وجل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الحث على تدبر القرآن، وجه ذلك: توبيخ من لم يتدبر، وإذا كان من لا يتدبر القرآن يوبخ فمن يتدبره يُثنى عليه ويُمدح.

إذًا: ففيه الحث على تدبر القرآن.

2 -

الرد على من يقول: إن آيات الصفات مجهولة المعنى، وهم أهل التفويض الذين يقولون: فرضنا بالنسبة لآيات الصفات أن نتلوها فقط، وألا نتكلم في معناها؛ لأن معناها مجهول، فيقال لهم: القرآن عام يشمل آيات الصفات وغيرها، والله تعالى وبخ من لم يتدبره، ولازم هذا أن يكون للآيات معنى؛ لأن الحث على تدبر ما لا يمكن الوصول إلى معناه حث على متعذر أو متعسر، وعلى هذا فيكون هذا الحث من كلام اللغو، وينزه عنه كلام الله عز وجل.

فإن قال قائل: إذا قلتم: إن آيات الصفات غير مجهولة المعنى، وإنها معلومة، فهل يلزم من ثبوت المعنى مماثلة المخلوق؟

فالجواب: لا يلزم؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ففي الآية إثبات الصفات ونفي المثل، ولو كان لا يمكن إثبات الصفات إلا بإثبات المماثلة لكان في الآية تناقض ظاهر.

ص: 17

إذًا: آيات الصفات معلومة المعنى لكن بدون تمثيل.

فإن قال قائل: وهل يمكن إثبات معنًى بدون تمثيل؟

فالجواب: نعم، ولنضرب مثلًا بقوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] فأهل التفويض يقولون: لا نعلم ما المراد بقوله: {بَلْ يَدَاهُ} ، وأهل التأويل يقولون: معناها: النعمة والقدرة، وأهل السنة والجماعة يقولون: معناها: اليد الحقيقية التي نظير مسماها أجزاء وأبعاض لنا، فـ "اليد" جزء منا، لكنه لا يمكن إطلاق كلمة جزء على شيء من صفات الله؛ لأن الجزء لا يمكن انفصاله عن الكل، وبالنسبة ليد الله وقدم الله وعين الله لا يمكن فيها هذا المعنى.

إذًا: نقول لله يد حقيقة، فهو يطوي السماء بيمينه، كما قال تعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67].

ويمكن أن نتصور يدًا بدون مماثلة، وهذا أمر سهل، فنحن نشاهد الآن للجمل يدًا، ونشاهد للهرِّ يدًا، يعني: نشاهد مضمون هذا في الجملة ولا يلزم لإثبات اليد للجمل، أو للهر أن تكون اليدان متماثلتين، بل نحن نشاهد أنها مختلفة.

3 -

أن القرآن لا اختلاف فيه ولا تناقض، لقوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .

فإن قال قائل: إننا نجد في كتاب الله ما ظاهره التعارض، فكيف يتفق مع هذه الآية؟

فالجواب: نقول: ليس هناك تناقض، لكن أنت إذا ظننت التناقض ورأيت شيئًا في كتاب الله ظاهره التعارض فإما لقصور فهمك، يعني: أن فهمك رديء قاصر، أو لقصور علمك؛ لأن

ص: 18

هناك علمًا يبين الجمع بينهما، ولكنك لم يبلغك هذا العلم، وإما لسوء في قصدك؛ لأن الإنسان إذا كان قصده سيئًا فإنه لا يُوفق. ويكون قصده سيئًا إذا كان يريد أن يُظهر أن القرآن متعارض، ولا يريد أن يصل إلى نتيجة سليمة، وهي الجمع بين ما ظاهره الإختلاف.

ولهذا تجد المبتلى بهذا الشيء يشكل عليه آيات واضحة ليس فيها تعارض، لكن نظرًا لأنه يفتش لعله يجد شيئًا من الآيات يعارض بعضه بعضًا تجده - والعياذ بالله! - يشتبه عليه الآيات الواضحات، وممكن أن نزيد احتمالًا رابعًا وهو: التقصير في الطلب؛ لأن التقصير في الطلب نتيجته عدم العلم، وعلى هذا أسباب عدم فهم القرآن أربعة.

وهناك آيات متعارضة ظاهرًا لكنها لا تتعارض حقيقة، وهي آيات متعددة ذكرها كثير من العلماء وألفوا فيها، ومنهم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه "دفع إيهام الإضطراب عن آي الكتاب"، وهو كتاب متوسط لكنه مفيد.

4 -

ضعف الآدمي فيما يكتبه، وأنه عرضة للإختلاف والخطأ.

ومن ذلك ما يروى عن الأئمة رحمهم الله من أقوال متعددة في مسألة واحدة، ولكن ما يقع من الأئمة ليس عن قصد، ولكنه عن زيادة علم، والإنسان بشر يزداد كل يوم علمًا، فمثلًا الإِمام أحمد رحمه الله قد يروى عنه في المسألة الواحدة عدة روايات، ونحن نعلم أنه لم يتقصد رحمه الله ذلك، لكن علمه كان يأتي شيئًا فشيئًا، ولهذا تجد عنه في ثبوت الهلال في رمضان

ص: 19

عدة أقوال، حتى إنهم ذكروا في مذهبه سبعة أقوال، منها خمسة أقوال نص عليها رحمه الله.

5 -

إثبات أن القرآن كلام الله، يؤخذ من قوله:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} فإنه يدل على أن القرآن من عند الله عز وجل، فإذا كان من عند الله صار صفة من صفاته، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا؛ لأنه صفة، وصفة الموصوف لازمة له ليست بائنة منه، ثم لو قلنا: إنه مخلوق لبطل الأمر والنهي، ولبطلت الشريعة، ولو قال قائل كيف ذلك؟ فنقول: إذا قلت: إنه مخلوق فمعناه أن الله خلق "ص" - مثلًا - كما يخلق السماء، والسماء ليس فيها أمر أو نهي، وبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خلقها الله حروفًا على هذه الصورة لا تفيد شيئًا، ومثل قوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] إذا قلنا: إنها مخلوقة فمعناه: أنها حروف ليس فيها أمر ولا نهي، وأنها حروف خلقت على هذا الشكل فقط.

ولهذا كنا نتعجب حينما نسمع ابن القيم رحمه الله أو شيخه يقولان: إن القول بأن القرآن مخلوق يبطل الشريعة؛ لأنه يبطل الأمر والنهى! فنقول: كيف يتصور هذا؟ ! فتأملنا ووجدنا أن السبب هو أنه إذا كان مخلوقًا صار عبارة عن صورة كلام خالقها الله عز وجل، لا يتعلق بها أمر ولا نهي، كما لو صورت سيارة أو بناءً أو ما أشبه ذلك.

6 -

إثبات العندية لله؛ أي: أن الشيء يكون من عنده، وهو كذلك، لكن العندية قد تكون صفة، وقد تكون قربًا، فقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}

ص: 20

[الأعراف: 206] العندية هذه عندية قرب؛ لأنهم ملائكة بائنون عن الله عز وجل، وإذا قلت: القرآن من عند الله فإن هذه عندية صفة.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} [النساء: 83].

الإعراب:

هذه الآية فيها أدوات شرط متعددة: قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} وفعل الشرط قوله: {جَاءَهُمْ} والجواب قوله: {أَذَاعُوا بِهِ} وهذا الشرط لا يجزم.

وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فيها شرط وهو: {لَوْ} ، وفعل الشرط قوله:{رَدُّوهُ} وجوابه: قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .

وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} هذه أيضًا فيها شرط، لكنها ليست من النوع الأول، وتُسمى {لَوْلَا} حرف امتناع لوجود، وقد تقاسمت هذه الكلمات الثلاث "لو، ولما، ولولا" الوجود والعدم.

فـ "لو" حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جاء زيد لجاء عمرو، والمعنى لم يأتِ عمرو ولا زيد.

و"لما" حرف وجود لوجود، تقول لما جاء زيد جاء عمرو.

و"لولا" حرف امتناع لوجود؛ كقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ

ص: 21

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، إذًا: امتنع اتباع الشيطان لأجل وجود فضل الله عز وجل.

وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ} ذكرنا أن قوله: {لَاتَّبَعْتُمُ} جواب الشرط، فأين خبر المبتدأ {وَلَوْلَا} في قوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} والجواب: الخبر محذوف، والتقدير:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} موجود، كما يقول ابن مالك:

وبعد لولا غالبًا حذف الخبر

حتمٌ وفي نص يمين ذا استقر

وقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} {إِلَّا قَلِيلًا} هذا مستثنى يحتمل أنه من الإتباع أو من التابعين بلا شك، والمعنى لاتبعتم الشيطان في كل ما تفعلونه إلا قليلًا من أفعالكم، أو لاتبعتم الشيطان كلكم إلا قليلًا منكم.

وفي هذه الآية من البلاغة ما يسمى بالجناس، يعني: المجانسة، في قوله:"أمر" و "أمن"، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} ففيه جناس غير تام؛ لأن فيه اختلاف الحرف من راء إلى نون.

أما إذا قيل:

عباس عباس إذا احتدم الوغى

والفضل فضل، والربيع ربيع

فهذا جناس تام؛ لأن عباس علم وصفة، والفضل علم وصفة، والربيع علم على رجل اسمه الربيع وصفة أحد الفصول الأربعة.

قول الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} يعني: إذا جاء هؤلاء شيء مما يُخاف أو مما فيه الأمن.

ص: 22

قوله: {أَذَاعُوا بِهِ} يعني: نشروه على فهمهم الخاطئ، لا على الصواب؛ لأنهم ليس عندهم ذاك العمق في فهم كتاب الله عز وجل، وهذا نتيجة لقوله في الآية التي قبلها {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، فتجدهم يذيعون الأمر من الأمن أو الخوف، مع أن الأمن ليس فيه أمن، والخوف ليس فيه خوف، لكنهم فهموا ذلك فضلوا وأضلوا.

وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} "ال" في قوله: {الرَّسُولِ} فيه للعهد الذهني، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} ، أولو الأمر هنا يتعين أنهم العلماء؛ لأنهم هم أهل العلم الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، والذين شاركوه فيما شاركوه فيه في حال حياته.

وقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} {لَعَلِمَهُ} أي: علم الأمر على الوجه المراد من الأمن أو الخوف قوله: {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه، وأصل الإستنباط من نبط، يعني: استخراج الماء، وسمي استخراج الماء استنباطًا لأنه كان يستخرجه فيما سبق الأنباط الذين ليسوا من العرب، فكانوا هم الذين يحفرون عن الماء حتى يصلوا إلى غايته، ولكن المراد بالإستنباط في الألفاظ هو: استخرج المعاني؛ أي: لعلمه الذين يستخرجون المعاني التي تخفى على هؤلاء.

ثم قال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} صدق الله عز وجل؛ فلولا فضله أي: عطاؤه، ورحمته أي: إحسانه لضل جميع الخلق، والمراد بالرحمة هنا ليست صفة الله عز وجل، بل المراد ثمرات هذه الصفة، وهو إحسانه عز وجل إليهم.

ص: 23

وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} أي: ولكن الله عز وجل يتفضل عليكم ويرحمكم فيعصمكم من الشيطان.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} هو على ما سلف: يحتمل أن يكون المراد إلا قليلًا منكم، أو أن المراد من أعمالكم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الحرص على عدم إذاعة الشيء إلا بعد التيقن من معناه والمعرفة به، يؤخذ من قوله:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} وهذا إنكار عليهم، ثم أرشدهم إلى ما هو الأصوب.

2 -

ما جرت به العادة في أن الله عز وجل إذا نهى عن شيء بين وجهًا آخر غير منهي عنه، يؤخذ من قوله:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} ، وهذه الآية قاعدة جاءت في القرآن الكريم وجاءت في السنة النبوية، ففي القرآن الكريم في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] فجاء بكلمة مباحة بدلها.

وفي السنة لما جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، وسأل: من أين هذا؟ قال: كنا نأخذ الصالح من هذا بصاعين، والصاعين بثلاثة، فقال:"لا تفعل"، ثم أرشدهم، فقال:"بع الجمع بالدراهم ثم ابتغ بالدراهم جنيبًا"

(1)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2089)؛ ومسلم، كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلًا بمثل، حديث رقم (1593) عن أبي سعيد وأبي هريرة.

ص: 24

إذًا: لا ينبغي للإنسان المبين للناس أحكام شريعة الله أن ينهاهم عن شيء حتى يفتح لهم باب الحل.

مثلًا: إنسان يعامل معاملة ربوية فقلت له: هذا حرام لا يجوز، ومعاملته كلها على هذا المنوال؛ أي: أنها ربوية، ولم ينهه أحد قبلك، فإذا قلت: هذا حرام، وهذا ربا فلا بد أن تفتح له باب البيع الحلال؛ حتى يهون عليه ترك ما كان معتادًا له، وينتقل إلى الحلال بسهولة؛ لأن صرف الإنسان عما كان يعتاده صعب جدًا، وهكذا ينبغي لطالب العلم إذا ذكر للناس شيئًا محرمًا أن يذكر لهم ما يستغنون به عن هذا المحرم من الشيء الحلال.

والخلاف سنة الله في خلقه، وقد ورد حديث ليس بصحيح:"اختلاف أمتي رحمة"

(1)

والمعنى أيضًا ليس بصحيح، بل الوفاق هو الرحمة، لقوله تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118، 119] ، ولو صح الحديث لكان معناه اختلاف أمتي رحمة بمعنى أن المختلفين فيما يسوغ فيه الخلاف لا يأثمون، لكن من العجيب أن العامة، إذا أرادوا شيئًا أتوا بنص ولو كان ضعيفًا، ثم فسروا النص بما يريدون، فيستفتيك عامي ويقول لك: هذا حلال أو حرام؟ فتقول: هذا حرام، فيذهب إلى

(1)

ذكره نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في رسالة الأشعرية بغير سند، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خرج به في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا، قال المناوي في الفيض (1/ 209): لم أقف له على سند صحيح، وقال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وقال الألباني: موضوع، انظر الجامع الصغير وزيادته (1/ 125).

ص: 25

عالم آخر ويقول هذا حلال، فيحتج ويقول: اختلاف أمتي رحمة، والله رحمنا بهذا الرجل الذي قال: هذا حلال.

قد يأتي إنسان يستفتي عالمًا ويقول: أنا أريد أن أتعجل في اليوم الثاني عشر، فهل يجوز أن أرمي قبل الزوال، وأنصرف؟ فيقول له: لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت هذا الرمي بما بعد الزوال، ولم يأذن للضعفاء أن يرموا قبل الزوال كما أذن لهم في الدفع من مزدلفة، فدل هذا على أنه لا رخصة. فيذهب إلى عالم آخر فيقول له: لا بأس، والناس الآن في حاجة إلى إنك توسع لهم، دعوه يرمي في الضحى ويمشي، فيرجع إلى الأول ويقول: الحمد لله اختلاف الأمة رحمة، دع فتواك عندك؛ فقد أفتاني فلان، فيقال: هذا غلط.

والحاصل أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإختلاف لا شك أنه شر من الوفاق، وأن الرحمة في الوفاق، ولكن لو صح الحديث لكان المعنى أن المختلفين مرحومون فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لأنهم مجتهدون، والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.

3 -

التحذير من التعجل في نشر الخبر، ووجهه: أن الله حكى ذلك ذامًا له.

4 -

الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته، وإلى العلماء في نشر الأخبار، وإذاعتها.

5 -

أن هذه الآية تنطبق تمامًا على ما نحن فيه الآن، حيث إن كثيرًا من الناس يعلنون الأخبار على عواهنها، ولا يبالون بما ترتب عليها من خير أو شر، ولا يزنون بين المصالح بعضها مع

ص: 26

بعض، ولا بين المفاسد بعضها مع بعض، ولا بين المصالح وبين المفاسد، وإنما يذيعون الشيء وينشرونه بدون تحقيق ولا تمحيص، وهذا من دأب المنافقين؛ لأن الله تعالى ذكرهم في هذا السياق، فقال:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81].

6 -

أن أولي الأمر حقيقة هم العلماء لقوله: {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} وهذا كالتفسير لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فإن أولي الأمر في هذه الآية تشمل العلماء والأمراء، ولكن العلماء في المقدمة؛ إذ أن الأمراء منفذون لما يقوله العلماء من شريعة الله، فالأصل هم العلماء، والأمراء يلزمهم أن ينفذوا ما قاله العلماء من شريعة الله، فهم في الحقيقة تابعون للعلماء، وليس العلماء تابعين لهم، اللهم إلا أن يقدر الله أمرًا تنعكس فيه الأحوال، ويكون العلماء وراء الأمراء فإن هذا انقلاب وعكس، إذ إن الواجب أن يكون الأمراء خلف العلماء؛ لأن العلماء عندهم من شريعة الله ما ليس عند الأمراء لا سيما في الأزمان المتأخرة، أما في عهد الخلفاء الراشدين فالخليفة هو أعلم الناس بشريعة الله.

7 -

التعمق في التثبت، ويؤخذ من قوله:{الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} ولم يقل: يعلمونه، وهنا إظهار في موضع الإضمار؛ لأن الأصل: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه، لكنه قال:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} ، فأظهر في موضع الإضمار لهذه الحكمة؛ أي: إن هؤلاء لهم نظر بعيد عميق كالذي يستنبط الماء، وهو مأخوذ من استخراج الماء؛ لأن الأنباط هم الذين

ص: 27

يتولون استنباط المياه حين كان عهد الأمة الإِسلامية الزاهر.

8 -

بيان فضل الله عز وجل علينا باتباع الشريعة، لقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} .

9 -

أنه ينبغي للإنسان أن يلجأ إلى الله عز وجل في ابتغاء الفضل لا إلى غيره، لقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ} .

10 -

أ {نه ليس أمامنا إلا سبيلان: سبيل السنة والرشاد، وسبيل الضلال، لقوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ، فإذًا: لا يوجد إلا الحق أو الضلال قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] ، وفي هذا رد على المعتزلة القائلين بالمنزلة بين منزلتين.

11 -

ذم من اتبع الشيطان، وأنه قد تخلى الله عنه فلم يؤته من فضله - الفضل الخاص - لقوله:{لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} .

فإن قال قائل: بأي وسيلة نعلم أن هذا طريق الشيطان أو طريق الرحمن؟

قلنا: الأمر واضح، والحق بيّن ظاهر أبلج، والباطل بيِّن لا يخفى على أحد، فما وافق شريعة الله فهو طريق الرحمن، وما خالف شريعة الله فإنه طريق الشيطان، هذا هو الميزان.

* * *

* قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)} [النساء: 84].

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} ، الفاء عاطفة، و"قاتل": فعل أمر، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يظهر أن يكون

ص: 28

الخطاب موجهًا لمن يتأتى خطابه، لقوله:{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} .

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : متعلق بـ {قَاتِلْ} .

قوله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} في هذه الآية إشكال من حيث الإعراب، وهو نصب {نَفْسَكَ} والقاعدة الرفع على أنها نائب فاعل، هذا ما يتبادر إلى ذهن بعض الناس، لكن الواقع أن الأمر ليس كذلك؛ لأن قوله:{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} نائب الفاعل مستتر، يعني: لا تكلف أنت أحدًا إلا نفسك، يعني: لا نكلف أحدًا من الناس، بل نكلفك نفسك، وعلى هذا فتكون نفس هنا في مقام المفعول الثاني لنكلف، والمفعول الأول هو نائب الفاعل المستتر.

قوله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: حثهم على القتال.

قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : "بأسهم" أي: شدتهم، و {عَسَى} إذا جاءت من الله عز وجل فليست للترجي؛ لأن الله تعالى لا يترجى، إذ إن الرجاء في مقابل الشيء الصعب، والله على كل شيء قدير، ولهذا قيل: عسى من الله في القرآن واجبة؛ أي: واقعة حتمًا، ولكن الله عز وجل يجعلها على هذه الصيغة حتى لا يأمن الإنسان مكر الله عز وجل.

ومعنى الآية: يقول الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام، قاتل في سبيل الله حتى وإن لم يقاتل معك أحد، لا تكلف إلا نفسك، أما وظيفتك مع المؤمنين فهي وظيفة التحريض، فحرضهم على القتال، لكنك غير مكلف بهم، لا تأثم إذا لم يقاتلوا. ثم إذا قاتلت وحرضت المؤمنين وقاتلوا فحينئذٍ يكون النصر، ويكف الله سبحانه بأس الذين كفروا.

ص: 29

إذًا: هذه الآية لها ارتباط بما سبق؛ لأن المقام كله مقام بيان المنافقين الذين هم أذل الناس وأخذلهم عند القتال.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

وجوب القتال في سبيل الله، لقوله:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والأصل في الأمر الوجوب، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل قتال المؤمنين للكافرين قتال للطلب أو قتال دفاع؟

والصواب: أنه قتال طلب، لكنه ليس لإكراه الناس على الإيمان؛ لأن الله تعالى قال:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، وهذا استفهام للإنكار، وكذلك يقول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، لكنه يقاتل قتال طلب؛ لأن تكون كلمة الله هي العليا، هذا هو المطلوب، وأن يكون الإِسلام هو الظاهر المهيمن، فمن أسلم فهو في الإِسلام وفي ظله، وهو في الطبقة العليا من طبقات بني آدم، ومن لم يسلم فهو في ظل الإِسلام أيضًا إذا بذل الجزية عن يد وهو صاغر.

2 -

وجوب الإخلاص، لقوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وما عدا سبيل الله، فيوصف بأنه في سبيل الطاغوت، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76].

وأسباب القتال الدافعة إليه كثيرة:

الأول: أن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا في سبيل الله.

الثاني: الحمية كأن يقاتل لقوميته، وهذا المقاتل حمية في سبيل الطاغوت، اللهم إلا أن يقول: إني أقاتل حمية لأن قومي

ص: 30

مسلمون، فأقاتل دفاعًا عن إسلامهم، فحينئذٍ يكون قاتل في سبيل الله.

الثالث: يقاتل شجاعة: فهذا أيضًا ليس في سبيل الله، بل في سبيل الطاغوت، ولكن كيف يقاتل شجاعة؟ ! الجواب: الإنسان الشجاع يحب أن يقاتل، ويجد ألذ شيء في حياته أن يكون مقاتلًا في صف القتال، فهو قرة عينه، فحينئذٍ يقاتل شجاعة، وهذا ليس في سبيل الله.

الرابع: يقاتل ليتخلص من الدنيا؛ لأنه أصابته ضائقة، فأراد أن يقاتل ليقتل حتى يستريح من الدنيا، وليس في سبيل الله، فهذا في سبيل الطاغوت، وربما يقال: إنه قاتل نفسه لو قتل؛ لأنه ما أراد أن تكون كلمة الله هي العليا، لكنه بدل أن ينتحر في نفسه فيأخذ السكين، ويطعن نفسه، ذهب يعرض رقبته لسيوف الأعداء، وهذا ليس في سبيل الله.

الخامس: يقاتل رياءً، ليقال: ما أشجع الرجل! وهذا ليس في سبيل الله، هذا في سبيل الطاغوت، والعياذ بالله، وربما يكون هذا أخطرهم؛ لأنه أظهر أنه يريد التعبد لله وهو عابد لهواه.

وعلى كل حال: أسباب القتال وبواعثه كثيرة، ولكن لا يكون في سبيل الله إلا إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

3 -

أنه لا يُكلف أحد هداية أحد، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أهدى الخلق وأعظمهم هداية، لا يمكن أن يُكلف هداية أحد، دليله:{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} ، وعليه فإذا دعوت إلى الله، أو أمرت بمعروف، أو نهيت عن منكر، ولم يستجب لك فلا حرج عليك؛ فإن الله قال لنبيه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا

ص: 31

مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]؛ أي: لا تهلك نفسك، ولا يكن في صدرك حرج ولا ضيق ما دمت قمت بالواجب، فإن أَزمَّة القلوب بيد الله عز وجل، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] ، وكثير من الناس عنده غيرة ومحبة للخير، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، فإذا لم يُجب ضاق صدره حتى اختلت عباداته في نفسه، وصار يهتم وينشغل بأحوال الناس عن أحوال نفسه، وهذا غلط، هذا كالنار تحرق نفسها وتضيء لغيرها، ومع ذلك قد يكون غيرها رطبًا لا يتأثر بها.

4 -

أنه يجب على الإنسان مراعاة نفسه، وقيادتها للحق؛ لأنه مكلف إياها، لقوله:{لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} أنت مكلف بنفسك، يجب أن تجرها إلى ما فيه الخير، وأن تنهاها عما فيه الشر، وقد قال الله عز جل:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].

5 -

أن من قام بالواجب في حق نفسه، فلا ينس إخوانه، لقوله:{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: حثهم على القتال في سبيل الله، فإن استجابوا فذلك المطلوب، وإن لم يستجيبوا فقد أبرأت ذمتك.

6 -

أن محل التحريض للقتال أي: قتال المشركين: هم المؤمنون؛ لأنه لم يقل: حرض الناس، بل قال:{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فالمؤمن هو الذي ينفع فيه التحريض على القتال في سبيل الله.

7 -

أنه مهما بذلنا من الجهد والجهاد والإعداد فإن الأمر

ص: 32

بيد الله، لقول الله تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: بعد اجتهادك وتحريضك المؤمنين على القتال واستعدادكم وإعدادكم، الأمر بيد الله.

8 -

الإستدلال لأهل السنة بأن أعمال العباد مخلوقة لله عز وجل، وتؤخذ من قوله:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فنسب ذلك إليه، مع أنه يأتي بفعل المؤمنين، لكن نسبه الله إليه، وأحيانًا يأتي بغير فعل المؤمنين، مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} [الأحزاب: 25].

ولنقف عند هذه النقطة لأهميتها: إذا قلنا: إن الله تعالى خالق أفعال العبد، فوجه ذلك أن نقول: أفعال العباد لا تقع إلا بأمرين هما:

الأول: الإرادة.

والثاني: القدرة.

والإرادة في القلب، والقدرة في الجوارح، والإرادة وصف للإنسان العامل، والقدرة كذلك وصف قائم بذات العامل، والخالق للذات هو الله بالإتفاق، وخالق الذات خالق لأوصافها، وبهذا نعرف: أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل؛ لأنها صادرة عن إرادة جازمة، وقدرة لا عجز فيها على هذا المقدور، وكلاهما وصفان في مخلوق، ووصف المخلوق يكون مخلوقًا.

ويبقى النظر: هل الإنسان مجبر أو مخير؟

نقول: هو مخير ليس مجبرًا، ولهذا إذا وقع الفعل عن إجبار لا يؤاخذ الإنسان به، حتى لو كان أكفر شيء، كما قال

ص: 33

تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].

إذًا: فالإنسان مخير لا شك، لكننا نعلم أنه لن يفعل فعلًا أو يترك شيئًا إلا بعد مشيئة الله، إلا أن مشيئة الله لا يمكن الإطلاع عليها إلا بعد وقوع المشاء؛ لأن مشيئة الله غيب لا ندري عنها حتى يقع الشيء، فإذا وقع الشيء علمنا أن الله شاءه، أما قبل ذلك فلا نعلم، فلا يكون في ملك الله عز وجل ما لا يشاؤه أبدًا، بل كل ما في الكون فهو في مشيئة الله عز وجل.

9 -

أن الكافرين لهم بأس وقوة، لكنهم تحت قوة الله، لقوله:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وأنت لا تنبهر بقوة الأعداء؛ فإنهم ليسوا عند قدرة الله شيئًا، ففرعون كان يفتخر بأن الأنهار تجري من تحته، فهلك بالماء الذي هو من الأنهار، وعاد افتخروا بقوتهم وقالوا:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فأهلكوا بالريح اللطيفة السهلة، والأحزاب أعجبتهم كثرتهم، وحاصروا المدينة فأجلاهم الله تعالى بالريح، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور"

(1)

، كذلك أيضًا الأمم الأخرى التي كانت قوية شديدة وأهلكها الله عز وجل، ولو شاء الله عز وجل لأنزل على مصانع القنابل الذرية صواعق، بل رب صاعقة واحدة تدمر كل ما صنعوا، لكن الله عز وجل له حكمة، قال الله تعالى:

(1)

رواه البخاري، كتاب الإستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت بالصبا"، حديث رقم (988)؛ ومسلم، كتاب صلاة الإستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، حديث رقم (900) عن ابن عباس.

ص: 34

{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] ثم سلى المؤمنين، فقال:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4 - 6]، اللهم اجعلنا منهم.

إذًا: الله عز وجل قادر على كف بأس الكافرين وإن قووا لكنه حكم عز وجل.

10 -

جواز استعمال اسم التفضيل في الصفات المشتركة بين الله وبين الخلق، تؤخذ من قوله:{أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} ، وهذا ليس الجواز الذي هو ضد المحرم، لكن الجواز الذي هو ضد المستحيل، فيكون هذا واجبًا.

وقد تعجب من بعض العلماء رحمهم الله أنهم يمتنعون من إطلاق اسم التفضيل، ويحولونه إلى اسم فاعل خوفًا من تنقص الله عز وجل، فيقولون:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} [الأنعام: 117]؛ أي: إن ربك هو عالم، سبحان الله! أنت أعلم بالله من نفسه؟ ! الله سبحانه يقول عن نفسه: أعلم، وأنت تقول: عالم، ثم إنك أيها المسكين! إذا قلت: الله عالم، جعلته مع الخلق مشاركًا على وجه السواء، لكن إذا قلت: أعلم، جعلته أعلم من الخلق، ولا يمكن أن يكونوا مثله، والإنسان إذا أراد الحق تبين له طريق الحق، والأمر واضح.

وعلى هذا فنقول: استعمال اسم التفضيل في الصفات المشتركة بين الله وبين الخلق هو الواجب، فللإنسان علم والله

ص: 35

أعلم، وللإنسان قدرة والله أقدر، له قوة والله أقوى، له سمع والله أسمع، له بصر والله أبصر .. وهلم جرا.

11 -

إثبات البأس والتنكيل لله عز وجل، وهذا أيضًا جاء في القرآن، كما في قوله تعالى:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]، ينكل الخلق: أي: يحذرهم من أن يقعوا فيما يكون سببًا لعقوبتهم.

* * *

* قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)} [النساء: 85].

{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} ، {مَنْ}: هذه شرطية، وفعل الشرط قوله:{يَشْفَعْ} ، ولا يجوز أن يقال: يشفعُ؛ لأن "مَنْ" الشرطية تجزم، وجواب الشرط قوله:{يَكُنْ} .

والشفاعة هي: جعل الوتر شِفعًا، يقال: شفع الشيء؛ أي: جعله شفعًا بعد أن كان وترًا، فإذا جعلت الثلاثة أربعة، فهذا شفع، والخمسة ستة فهذا شفع.

وفي الإصطلاح هي: التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، فشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضى بينهم من دفع المضرة، وفي أهل الجنة أن يدخلوها من جلب المنفعة.

وهنا يقول الله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} ، إما أن يكون المراد حسنة بالنسبة للمشفوع له، وإن لم تكن من الحسنات الشرعية، وإما أن تكون حسنة أي: من الحسنات الشرعية،

ص: 36

وكلاهما صحيح؛ أي: من يشفع شفاعة حسنة شرعًا، أو حسنة باعتبار المشفوع له، والآية تحتمل المعنيين، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا منافاة بينهما فالواجب حملها عليهما جميعًا، لما في كلام الله عز وجل من سعة المعنى، أما إذا كان أحدهما لا يتفق مع الآخر فالواجب طلب المرجح ليؤخذ به.

وقوله: {حَسَنَةً} ، الحسنة: ما يحسن فعله من قول أو فعل.

قوله: {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} : أي: حظ وجزء، مما شفع؛ لأنه أعان على الخير على أحد الإحتمالين السابقين، أو نصر أخاه على الإحتمال الثاني.

وقوله: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} يقال فيها كما قيل في الأولى: فمن يشفع شفاعة سيئة؛ أي: يشارك ذا سيئة في سيئته؛ أي: فيكون شفعًا له، أو المعنى: يشفع لأحد شفاعة سيئة، مثل أن يشفع له في الوصول إلى شيء محرم، فهذه شفاعة سيئة.

وقوله: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} الكفل: هو النصيب، وإذا كان هو النصيب فلماذا غاير الله سبحانه بين الحسنة وبين السيئة، فقال في الحسنة: نصيب، وقال: في السيئة: كفل.

الجواب: قيل: إن الكفل هو النصيب فيما يسوء، والنصيب: هو الحظ فيما ينفع، وقيل: إنما غاير بينهما من أجل اختلاف اللفظ؛ لأن اختلاف اللفظ من أساليب البلاغة، حيث لا يتكرر اللفظ مع اللفظ الآخر في مكان واحد.

فعلى المعنى الأول: يكون الخلاف بين النصيب والكفل خلافًا معنويًا، وعلى الثاني: يكون خلافًا لفظيًا، لكن المعنى

ص: 37

الأول يرد عليه أن الله سبحانه سمى الأجر والثواب كفلًا، في قوله تعالى:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، فيترجح القول الثاني: وهو أنه إنما غاير بينهما من أجل اختلاف اللفظ، حتى لا يرد لفظ واحد في سياق واحد بمعنى واحد.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} "كان" هذه ترد كثيرًا في القرآن العظيم، مثل:{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، وهي هنا لا يراد بها الزمان، وإنما الإتصاف بالمعنى؛ لأن الله لم يزل ولا يزال موصوفًا بالسمع والبصر، والمغفرة والرحمة .. وما أشبه ذلك.

وعلى هذا {كَانَ} هنا في هذا السياق وأمثاله مسلوبة الزمن؛ لأنه لو لم تكن مسلوبة الزمن لكانت دلالتها على أن الله متصف بهذه الصفات في زمن مضى وانقضى.

وقوله: {مُقِيتًا} ، معناها: إما مقتدرًا وإما حفيظًا، فقال بعضهم: المقيت يعني: الحفيظ، وقال بعضهم: معنى المقيت: المقتدر، وكلاهما صحيح، وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة العربية بالمعنيين ولا منافاة بينهما.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الحث على الشفاعة الحسنة، لقوله:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} .

2 -

الحث على التعاون على البر والتقوى؛ وذلك بإعطاء المتعاونين نصيبًا من الأجر على ما تعاونوا عليه.

3 -

التحذير من الشفاعة السيئة.

4 -

أن من شارك في عمل سيء كان له نصيب منه، وقد

ص: 38

قال الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].

5 -

بلاغة القرآن وفصاحته، على القول بأن الإختلاف بين النصيب والكفل لفظي.

6 -

أن الله سبحانه مقيت على كل شيء؛ أي: مقتدر عليه، ويلزم من هذا أن يحذر الإنسان من مخالفة الله؛ لأن الله تعالى حفيظ عليه ومقتدر عليه.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)} [النساء: 86].

الإعراب:

{إِذَا} شرطية لكنها غير جازمة، وفعل الشرط فيها قوله:{حُيِّيتُمْ} وجواب الشرط قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ} ، و"أَحْسَنَ" هنا نجد أنها دخل عليها حرف الجر، ولكنها لم تكسر؛ لأنها ممنوعة من الصرف، والمانع لها من الصرف: الوصفية، ووزن الفعل.

وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} ، هذه للتنويع، يعني: هذا أو هذا.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} ، وهذه واضحة لا إشكال فيها.

يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} التحية هي: البقاء، مأخوذة من الحياة، فمعنى حياه أي: دعا له بالحياة والبقاء، ولهذا نقول في قول المصلي: التحيات لله: أي: جميع ألفاظ العظمة والبقاء ثابتة لله.

ص: 39

وقوله: {بِتَحِيَّةٍ} نكرة في سياق الشرط يعم أي تحية، فكل ما يدل على أن هذا تحية فإنه داخل في الآية الكريمة.

وقوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} ؛ أي: ردوا هذه التحية بأحسن منها، في الكمية والوصفية.

وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} أي: حيوا بمثلها.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} ؛ أي: محاسبًا لكل أحد، كل شيء فالله حسيبه، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8] وقيل: معنى {حَسِيبًا} ؛ أي: كافيًا، لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، والمعنيان صحيحان.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

وجوب رد التحية، لقوله:{فَحَيُّوا} ، والأصل في الأمر الوجوب.

2 -

أن رد التحية يكون على وجهين، مجزئ وأفضل، فالمجزئ مأخوذ من قوله:{أَوْ رُدُّوهَا} ، والأكمل والأفضل من قوله:{بِأَحْسَنَ مِنْهَا} ، وقدم الأحسن على المثل لأنه أكمل وأفضل.

3 -

مراعاة الإِسلام للعدل، لقوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .

4 -

الآية عامة في كل من ألقى إلينا التحية أن نحييه بمثل ما حيانا أو أكمل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، صغيرًا أو كبيرًا؛ لأن الآية عامة، ولهذا قال:{حُيِّيتُمْ} بالبناء للمجهول ولم يقل حياكم المسلمون.

ص: 40

وبناءً على ذلك نقول: إذا سلم علينا أهل الكتاب فقالوا: السلام عليكم، بلفظ صريح، فنقول: وعليكم السلام، أما إذا قالوها بلفظ محتمل فإننا نقول: وعليكم، فقط.

5 -

أنه لا يجزئ الرد بغير السلام، فإذا قال المسلم: السلام عليك، فقلت: أهلًا وسهلًا، فلا يجزئ؛ لأن هذه التحية ليست مثلها ولا أحسن منها، إذ إن قول المسلم: السلام عليكم، دعاء لك بالسلامة من كل الآفات البدنية والمالية والقلبية وغيرها.

لكن أهلًا وسهلًا لا تفيد إلا مجرد الترحيب باللسان، فهي ليست مثلها وليست أحسن منها.

6 -

أنه يطلب من المُسَلم عليه أن يرد بأكمل إما بالكمية وإما بالكيفية، فإذا قال: السلام عليك فالأحسن: عليك السلام ورحمة الله، هذا بالكمية.

إما الكيفية: فإذا قال: السلام عليك، بصوت مرتفع مسموع يدل على التواضع فقلت: عليك السلام، بصوت مثله أو أبين فهذا رد صحيح بالكيفية، لكن لو قال: السلام عليك، بلفظ بين صريح رفيع ثم رددت عليه بأنفك بصوت ربما يُسمع وربما لا يُسمع، فأنت لم ترد ولم تقم بالواجب، بل أنت آثم؛ لأن الله أمر بردها أو بأحسن منها.

7 -

أنه لو حياك إنسان بقوله: أهلًا وسهلًا فقلت: أهلًا وسهلًا بك، فإن ذلك جائز، لكن يحسن ولا سيما لطلبة العلم أن يبينوا لهذا الرجل أن السلام المشروع هو: السلام عليك.

ثم إن للسلام آدابًا معروفة مطولة مبسوطة في كتب أهل العلم، ففي كتب الفقهاء ذكروا كثيرًا من آداب السلام في آخر

ص: 41

كتاب الجنائز، حين ذكروا السلام على المقابر تطرقوا إلى السلام على الأحياء، وفي كتب الآداب أيضًا شيء كثير من هذا.

8 -

أن الله عز وجل حسيب على كل شيء، يعني: أنه يحاسب كل من عمل عملًا بما يقتضيه عمله، وهذا على أحد القولين في حسيبًا، وعلى القول الثاني: أنه كافٍ من توكل عليه.

9 -

التحذير من عدم رد التحية بمثلها أو أحسن، يؤخذ من قوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} يعني: فاحذر أن تتعرض لمحاسبة الله عز وجل.

* * *

* قال الله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} [النساء: 87].

أولًا: الإعراب:

الإسم الكريم {اللَّهُ} مبتدأ، وجملة {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر المبتدأ، و {إِلَهَ} اسم لا، وخبرها محذوف تقديره "حق"، و {هُوَ} الواقع بعد {إِلَّا} بدل من الخبر المحذوف، وهذا أحسن ما قيل في إعرابها.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} اللام: واقعة في جواب قسم مقدر والتقدير: والله! {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ، وعليه فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم المقدر، واللام، ونون التوكيد.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} هذه: {لَا} النافية للجنس، واسمها قوله:{رَيْبَ} ، وخبرها قوله:{فِيهِ} .

وهل النفي هنا بمعنى الطلب؟ أي: لا ترتب فيه، أو هو

ص: 42

خبر على ظاهره؟ الجواب فيه قولان للعلماء، والصحيح: أنه خبر على ظاهره.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ} {مَنْ} مبتدأ، وقوله:{أَصْدَقُ} خبر، والإستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أصدق من الله حديثًا.

وقوله: {حَدِيثًا} تمييز؛ لأنها وقعت مبينة لاسم التفضيل، وكل ما وقع مبينًا لاسم التفضيل فهو تمييز؛ لأن التمييز يبين ما انبهم من الذوات.

يقول الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذا خبر من أصدق الأخبار، فإنه لا إله إلا الله، والإله بمعنى المألوه أي: المعبود حبًا وتعظيمًا.

وقال بعضهم: إن الإله من قُصِد بالعبادة، وليس المألوه حبًا وتعظيمًا، واستدلوا بحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، حين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، فأنكر عليهم صلى الله عليه وسلم بالآية

(1)

، فهم لم يحبوها وإنما أرادوا التبرك بها، فكيف نجيبهم؟

الجواب: نجيب عن هذا بأنهم قالوا: اجعل لنا ذات أنواط للتبرك بها، وهذا يتصل بتوحيد الربوبية، ثم إن قولنا: حبًا وتعظيمًا إنما هو للإله الحق، وقد يكون للباطل بما قام في قلب العابد من شبهة، فقد يحب الأصنام ويعظمها، ولهذا افتخر بها أبو سفيان في أُحد، وقال: أعل هبل، ولهذا كان يحلفون بها، وكل هذا يدل على تعظيمها، لكنها ليست أهلًا للتعظيم.

وقوله: {إِلَّا هُوَ} الضمير يعود على الله عز وجل، فلا

(1)

رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (2180).

ص: 43

معبود حقٌّ إلا الله، وكل ما عبد من دون الله فهو باطل، لقول الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} [الحج: 62].

وهذا المعبود من دون الله يُسمى إلهًا، ولكنها تسمية لفظية لا حقيقية، لقوله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً} [يوسف: 40] يعني: بدون مسميات {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]، ولقوله تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، ولقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء: 39] فكل معبود فهو إله، لكن منه ما هو بحق ومنه ما هو بباطل.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أقسم الله عز وجل وهو الصادق أنه سيجمعنا إلى يوم القيامة، يجمع الأولين والآخرين وكل ما فيه روح، قال الله تعالى:{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 4 - 5] فكل شيء يبعث يوم القيامة ويجمع، وإنما أكد الله ذلك لسببين:

السبب الأول: أن فيه من ينكر هذا الجمع، قال الله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7].

وإن قال قائل: هذا السبب لا ينفع فيمن ينكره؛ لأن الذي ينكر سينكر سواء أقسم له أم لم يقسم، فالمنكر لا يفيد فيه القسم.

قلنا: هذا إذا أكد له الكلام وأنكر بعد التأكيد صار إنكاره مكابرة، لقيام ما يدل على تأكد هذا الشيء، هذا أولًا.

ثانيًا: أنه جرت عادة العرب - والقرآن بلسان عربي - أنهم

ص: 44

يؤكدون الحكم فيما إذا كان المخاطب منكرًا، ويقولون: إنه يجب أن يكون الكلام مؤكدًا.

السبب الثاني للتأكيد: أن هذا من أهم الأمور، وكلما كان الشيء مهما كان توكيده أوكد، حتى لا يبقى في النفوس شك أو تردد، ولا شك أن من أهم الأمور بعد الإيمان بالله أن تؤمن باليوم الآخر؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لا يمكن أن يعمل، فإذا قال:{مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] فما الفائدة من العمل، فصار التوكيد هنا لسببين.

وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} يوم القيامة هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسمي يوم القيامة لأمور ثلاثة:

الأول: أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله، قال الله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6].

الثاني: أنه يقام فيه العدل، لقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].

الثالث: أنه يقوم فيه الأشهاد، لقوله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، ولهذا سمي هذا اليوم {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وله أسماء كثيرة في القرآن، يذكره الله تعالى بها حسب ما يقتضيه السياق.

وقوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} الريب هو الشك مع القلق، وهذه الجملة خبرية في ظاهرها، لكن اختلف المفسرون هل هي خبرية محضة أو هي خبرية طلبية أي: أنها خبر بمعنى النهي؟ الجواب في ذلك قولان، والراجح: أنها خبرية محضة؛ لأن الخبر

ص: 45

المحض يفيد استقرار الشيء وثبوته، سواء آمن به الإنسان أم لم يؤمن، وأنه شيء مستقر ليس فيه إشكال.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} يعني: لا أحد أصدق من الله، فالإستفهام هنا بمعنى النفي، والنكتة البلاغية في كون النفي يأتي بصيغة الإستفهام هو أنه إذا أتى بصيغة الإستفهام صار مشربًا معنى التحدي، يعني: كأن المتكلم يتحدى المخاطب، ويقول: بيِّن لي من أصدق من الله حديثًا! فهو متضمن للنفي بلا شك، ومتضمن للتحدي.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

انفراد الله تعالى بالألوهية، لقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، وأنكر انفراده بالألوهية كفار قريش، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5].

وأنكر توحيد الربوبية فرعون، لكن فرعون حينما أنكر لم ينكر حقيقة وإنما بلسانه، كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وقال له موسى:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] ولم ينكر عليه، ويقول: ما علمت.

وأما توحيد الأسماء والصفات فأنكره كثير، حتى من أهل الملة الذين ينتسبون للإسلام من أنكروا توحيد الأسماء والصفات، فمنهم من عطل، ومنهم من مثل، وكلاهما يعتبر منكرًا.

2 -

إثبات الجمع يوم القيامة لقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وهذا دل عليه آيات كثيرة، مثل قوله: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ

ص: 46

وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} [الواقعة: 49 - 50].

3 -

إثبات يوم القيامة، لقوله:{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، والإيمان به أحد أركان الإيمان الستة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل:"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"

(1)

، فاليوم الآخر هو يوم القيامة.

4 -

وجوب الإيمان باليوم الآخر على وجه لا شك معه، لقوله:{لَا رَيْبَ فِيهِ} ، فيجب علينا أن نؤمن بأن الله يجمعنا يوم القيامة إيمانًا لا شك معه، ولا تردد فيه.

5 -

إثبات الكلام لله عز وجل، يؤخذ من قوله:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ، نأخذ هنا من قوله:{أَصْدَقُ} ومن قوله: {حَدِيثًا} .

والصدق إنما يوصف به الكلام، والحديث هو الكلام، وعلى هذا فيكون إثبات كلام الله عز وجل من الكلمتين جميعًا.

والصدق هو مطابقة الخبر للواقع، ومطابقة الواقع للخبر فما دمنا قلنا: مطابقة فهي مفاعلة تكون من جانبين.

6 -

أن كلام الله تعالى وخبره صدق لا كذب فيه بوجه من الوجوه، لقوله:{وَمَنْ أَصْدَقُ} أي: من اسم التفضيل؛ لأن اسم التفضيل يجعل المفضل في قمة الوصف، وعلى هذا فليس في كلام الله سبحانه تعالى شيء من الكذب إطلاقًا.

7 -

وجوب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه وعن أمور الغيب كلها، لقوله:{وَمَنْ أَصْدَقُ} ، فإذا أخبر الله عن نفسه بشيء، أو عن الأمور الغائبة بشيء وجب علينا تصديقه.

(1)

تقدم (1/ 431).

ص: 47

8 -

وصف كلام الله تعالى بالحديث لقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} وهو كذلك، لكن هل الحديث بمعنى الخبر، أو يجوز أن يكون المراد به أنه حادث لتكلم الله به؟ الجواب: الثاني هو المراد، فكلام الله عز وجل باعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه تعالى لم يزل ولا يزال متكلمًا، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

فإن قال قائل: فهل عندكم دليل على أن كلام الله حادث، يعني: باعتبار آحاده؟

قلنا: هناك أدلة، وليس دليلًا واحدًا، استمع إلى قول الله تبارك تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، فإن "قد" للتحقيق و {سَمِعَ} فعل ماضٍ يقتضي أن يكون المسموع سابقًا للخبر عنه، وأن الخبر عنه لاحق، ومعلوم إن المرأة إنما شكت إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أمر حادث.

وقال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقال تعالى:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]، والآيات في هذا كثيرة.

فإن قيل: إذا قلت بأن كلام الله حادث لزم أن يكون الله تعالى حادثًا؛ لأن الحوادث لا تكون إلا من حادث! فالجواب: هذا غير صحيح، فلا يلزم من قيام الحوادث بالله عز وجل أن يكون هو حادثًا، أليس الله تعالى يقول:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، و {ثُمَّ} تفيد الترتيب.

إذًا: الإستواء فعل كان بعد خلق السماوات والأرض،

ص: 48

فقامت به الأفعال الإختيارية، ولا شك أن قيام الأفعال الإختيارية بالله عز وجل من كمال الله، فمن كماله أن يكون فاعلًا متى شاء فعل ومتى شاء لم يفعل، وأما من قال: إنه يلزم من قيام الحوادث به أن يكون حادثًا فهذه قضية غير مسلمة ولا صحيحة.

والمخلوق والحادث بينهما فرق عظيم، فالحادث قد يكون صفة وقد يكون مخلوقًا بائنًا، فكلام الله عز وجل ليس مخلوقًا بائنًا عن الله، لكنه يتكلم به، وكلامه به الآن ليس أزليًا، بل هو حادث.

* * *

* قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)} [النساء: 88].

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الخطاب في قوله: {فَمَا لَكُمْ} للصحابة رضي الله عنهم، و"ما" اسم استفهام مبتدأ، والمراد بالإستفهام هنا الإنكار عليهم وقوله:{لَكُمْ} جار ومجرور خبر المبتدأ، يعني: أي شيء لكم في المنافقين تختلفون فتكونون فئتين؟ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد رجوع من رجع من المنافقين من أُحد - وكان الذين رجعوا من الجيش في أُحد نحو الثلث كلهم منافقون - اختلف الصحابة فيما بعد، فقال بعضهم: نقتلهم لأنهم خانوا وتبينت ردتهم، وقال آخرون: لا نقتلهم لأنهم يتظاهرون بالإِسلام، فاختلفوا وتنازعوا وصار المسلمون فئتين، وعلى هذا فيكون قوله:{فِئَتَيْنِ} خبرًا لصار المحذوفة، والتقدير:"فما لكم في المنافقين صرتم فئتين" أو "كنتم فئتين" وكلاهما صحيح.

ص: 49

وقوله: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} الإركاس بمعنى: الرد والإرجاع، لكن على وجه مذموم.

وقوله: {بِمَا كَسَبُوا} الباء للسببية، و"ما" يجوز في إعرابها أن تكون مصدرية، ويكون التقدير أركسهم بكسبهم، ويجوز أن تكون موصولة ويكون التقدير بالذي كسبوه، فإذا كان الله أركسهم بما كسبوا فالصواب مع من قال: إنهم كافرون مرتدون. أما مسألة المقاتلة فسيأتي التفصيل فيها في الآيات.

قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} وهذا الإستفهام استفهام توبيخ، والإرادة هنا بمعنى المحبة، أو بمعنى المشيئة وكلاهما صحيح، يعني: أتشاءون أن تهدوا من أضل الله، أو أتحبون أن تهدوا من أضل الله؟

والجواب: ليس لكم ذلك؛ لأن من يرد الله أن يضله فإنه ليس له من الله ولي ولا نصير.

وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} الإسم الكريم {اللَّهُ} بالرفع على أنه فاعل، وعلى هذا فيكون "أضل" فيها ضمير محذوف، هو عائد الصلة، والتقدير:"من أضله الله".

قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} {مَنْ} هذه شرطية، والدليل على أنها شرطية أن الفعل بعدها وقع مجزومًا، ولكنه حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وقد قال ابن مالك في الكافية:

إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق

وإن يكن لينًا فحذفه استحق

يعني: إن كان حرف علة احذفه، وإذا كان ساكنًا اكسره.

وقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} هذه الجملة جواب الشرط،

ص: 50

واقترنت بالفاء؛ لأن الجواب لا يصح أن يكون فعلًا للشرط، ومتى امتنع أن يكون الجواب فعلًا للشرط وجب اقترانه بالفاء، وقد جُمعت المواضع التي يقترن الجواب فيها بالفاء في بيت:

اسمية طلبية وبجامد وبما

وقد وبلن وبالتنفيس

وقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} قد يقول قائل: كيف كانت بالإفراد، والخطاب الذي قبلها بالجمع في قوله:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} ؟

قلنا: كأن هذه الجملة - والله أعلم - انفصلت عما قبلها، وصار المراد بها المخاطب، يعني: فلن تجد أيها المخاطب! له سبيلًا، ومعنى:{سَبِيلًا} أي: طريقًا إلى الهداية.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الإنكار على المؤمنين في الإختلاف في المنافقين، لقوله:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} .

ويترتب على هذه الفائدة أن هذا يوحي بذم الإختلاف، وذم الإختلاف أمر ثابت؛ لأن هذه الأمة أوصيت بأن تقيم الدين ولا تتفرق فيه، والإختلاف تفرق، بل قد قال الله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105].

2 -

أن الإنسان يُركس ويُرد على الوجه المذموم بسبب عمله، ويؤخذ من قوله:{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} .

3 -

إثبات الأسباب، ويؤخذ من قوله:{بِمَا كَسَبُوا} لأن الباء السببية.

والناس في الأسباب طرفان ووسط: فمن الناس من أنكر

ص: 51

تأثير الأسباب إطلاقًا، وقال: لا أثر للسبب في المسبب، حتى كابروا المعقول والمحسوس، وقالوا: لو رميت الزجاجة بحجر فانكسرت فإن الحجر لم يكسرها ولكن انكسرت الزجاجة عنده لا به، قالوا: لأننا لو أثبتنا تأثير الأسباب لأثبتنا خالقًا مع الله، سبحان الله! وهذا القول إذا نسب للإسلام سوف يكون مثارًا للقدح في الإِسلام؛ لأن غير المسلمين يشاهدون أن الأسباب تؤثر.

الطرف الثاني: من يقول: إن الأسباب لها تأثير بمقتضى طبيعتها لا بأن الله سبحانه جعل فيها القوة المؤثرة، وهؤلاء قد ضلوا وأشركوا، وجعلوا مع الله شريكًا، وهؤلاء أيضًا على ضلال.

والقسم الثالث: الذين قالوا: إن للأسباب تأثيرًا بما أودع الله فيها من القوة الفاعلة، وليست هي التي تفعل، وهؤلاء هم أهل الحق وأهل الصواب، فالله تعالى هو الذي جعل الإحراق في النار فتحرق، وجعل الكسر في الحجر الذي يقع على الزجاج فينكسر.

والدليل على هذا: أن الله تعالى قال في نار إبراهيم: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، وطبيعة النار الحرارة والإحراق والإهلاك، لكن قال لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت بردًا وسلامًا عليه.

إذًا: الأسباب لا تؤثر بذاتها، ولكن بما أودع الله فيها من القوى الفاعلة.

4 -

أن الأعمال قد تكون سببًا لردة الإنسان بكثرة معاصيه،

ص: 52

فالسيئة تجذب السيئة، والصغائر بريد الكبائر، والكبائر بريد الكفر، وهذا واضح، يؤخذ هذا من قوله:{أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} ، فإذا رأيت من نفسك إركاسًا - والعياذ بالله - فانتشلها بالتوبة والإستغفار لله عز وجل، وسؤال الله الثبات، ولا تتهاون، ولا تقل: إن شاء الله سيقوى إيماني، بل من الآن، من حين أن تحس بالمرض فعليك بالدواء.

5 -

الرد على الجبرية، ويؤخذ من قوله:{بِمَا كَسَبُوا} ، فأثبت لهم كسبًا، والجبرية يقولون: إن الإنسان لا كسب له، وعمله مجبر عليه.

6 -

الرد على القدرية أيضًا، ويؤخذ من قوله:{وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} ، والقدرية يقولون: إن أفعال العباد لا علاقة لتقدير الله بها إطلاقًا، فصار في الآية رد على كلتا الطائفتين المنحرفتين المبتدعتين، وأهل السنة والجماعة يقولون: للإنسان فعل ينسب إليه حقيقة، والمقدر لهذا الفعل هو الله عز وجل، وهذا هو المطابق للمنقول والمعقول والمحسوس.

7 -

توبيخ أولئك المؤمنين الذين يريدون أن يهدوا من أضل الله، لقوله:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} .

فإن قال قائل: يشكل على هذا إشكالًا كبيرًا الدعوةُ إلى الله عز وجل، ومحاولة إصلاح الخلق، فإن الداعي يريد أن يهتدي المدعوون؟

فيقال: الجواب عن هذا: أن الله أنكر على هؤلاء الذين يشاهدون أن الله أضل هؤلاء بالنفاق - والعياذ بالله -! ويحاولون أن يحكموا بإسلامهم، ويقولون: إنهم مسلمون كما هي الفئة الثانية.

ص: 53

8 -

أن الهداية والإضلال بيد الله، ويتفرع على هذه الفائدة: أن لا تسأل الهداية من الضلال إلا من الله عز وجل، وأن تجعل سؤالك لبعض الناس كيف اهتدى تجعله سؤالًا عن السبب والطريق، وأما الذي بيده أزِمَّة الأمور فهو الله عز وجل، ولهذا قال الله لنبيه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

9 -

إن من قدَّر الله إضلاله فإنه لا يمكن لأحد أن يقوم بهدايته، لقوله:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} .

فإن قيل: هذا يقتضي أن يكون للعاصي حجة على معصيته، فيقول:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} .

فالجواب عن هذا: أن يقال: لا حجة في هذا للعاصي إطلاقًا، وذلك لأن الإنسان لا يعرف أن الله أضله إلا بعد أن يضل هو، وضلاله هو صادر عن إرادته؛ أي: إرادة الإنسان وقدرته، فهو الفاعل، وهو الذي أضل نفسه، لكن لا يعلم أن الله قدر عليه الضلال إلا بعد وقوعه، فكيف يحتج بحجة لا يعلم بها إلا بعد وقوعها؟ ! فهذا باطل.

10 -

بيان أن الأمور بيد الله سبحانه، لقوله:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} ، وإذا آمنت بذلك فلن تسأل الهداية إلا من الله عز وجل.

* * *

* قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء: 89].

ص: 54

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} {وَدُّوا} الفاعل هم المنافقون؛ لأن السياق فيهم.

وقوله: {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} {لَوْ} هنا مصدرية؛ أي: ودوا كفركم، فهي بمنزلة "أن" و"لو" تأتي لمعانٍ متعددة، تأتي مصدرية كما هنا، وتأتي للتمني، وتأتي شرطية، وتكون حرف امتناع لامتناع، وإذا أردت أن تعرف معاني الحروف فعليك بكتاب "المغني" لابن هشام رحمه الله، فإنه يأتي بالكلمة ويبين معانيها.

يقول عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} أي: ككفرهم، وعلى هذا فـ "ما" هنا مصدرية، ولا يصح أن تكون موصولة؛ لأن المراد ودوا لو تكفرون ككفرهم.

وكفر المنافقين كفر غريب، فهم كما قال الله عنهم:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] فهو كفر مستور، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، هم يودون أن كل الناس يفعلون هكذا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فيؤمنون ظاهرًا ويكفرون باطنًا؛ ولهذا قال الله عز وجل:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]؛ أي: أن قومهم كذبوهم في دعوى الإيمان بهم، فقالوا: إنهم مؤمنون وهم لم يؤمنوا، هذا معنى قوله:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} ، وفيها قراءة سبعية "وظنوا أنهم قد كُذِّبُوا" أي: أيقنوا أنهم مكذبون، {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} .

قوله: {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} هنا الفاء عاطفة، وليست جواب "لو"؛ لأن "لو" ليست شرطية، وقوله:{فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي:

ص: 55

فتكونون معهم سواءً لا فضل لكم عليهم، وهذا بمقتضى طبيعة الإنسان أنه يود إذا سلك منهجًا أن يسلكه الناس معه، فكل إنسان سواء صاحب الخير أو صاحب الشر يود إذا سلك منهجًا أن يسلكه الناس، وهؤلاء ودوا أن المؤمنين يكفرون كما كفروا {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} .

قال الله تعالى محذرًا عنهم وعن موالاتهم: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} أي: يوالونكم أو توالونهم، يعني: لا تتخذوا منهم أولياء؛ لأنهم أعداء، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وكذلك لا تتخذوا منهم أولياء توالونهم أنتم؛ لأن موالاة الكفار كفر.

وقوله: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {حَتَّى} هنا للغاية، يعني: استمروا في عداوتهم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

واعلم أن {حَتَّى} تكون غاية، وتكون علة، ففي قوله تعالى:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] يتعين أنها علة، وفي قوله:{لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] هذه غاية، والله أعلم.

وقوله: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: لا تتخذوا أولياء توالونهم أو يوالونكم، أما كونكم لا توالونهم فظاهر؛ لأنهم لم يتموا ما عليهم من المهاجرة، وأما كونكم لا تطمعون في أن يكون أولياء لكم؛ فلأن من كان على غير دينك لا يمكن أن يعينك أو أن ينصرك.

وقوله: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} اختلف في المراد

ص: 56

بالهجرة هنا: فقيل: المراد حتى يهاجروا من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام، فإن كانوا في بادية وجب عليهم أن يهاجروا إلى المدينة، وإن كانوا في مكة فكذلك، وقيل المراد بالهجرة: الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد؛ لأن من خرج في الجهاد فقد هاجر؛ أي: ترك بلده إلى ميدان المعركة.

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في الطريق الموصلة إليه وهي دينه.

واعلم أن الله سبحانه أضاف السبيل إليه في عدة آيات مثل هذه الآية وأشباهها كثير، ومثل قوله تعالى:{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]؛ أي: طريقك، وسمي سبيل الله؛ لأن الله تعالى هو الذي وضعه لعباده، وهو - أي: هذا السبيل - يوصل إلى الله، فالواضع له هو الله، وهو يوصل إلى الله عز وجل، وقد أضافه الله تعالى إلى المؤمنين في قوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وإضافته إلى المؤمنين باعتبار أنهم سالكوه، فصار إضافة السبيل إما إلى الله وإما إلى المؤمنين، فأما إضافتها إلى الله فلوجهين:

الأول: أن الله هو الذي وضعه لعباده حتى يسيروا عليه.

والثاني: أنه موصل إلى الله عز وجل.

وأما إضافته إلى المؤمنين فباعتبار أنهم سالكوه.

ومثل ذلك أيضًا يقال في الصراط، فإن الله أضافه إلى نفسه في قوله:{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 53]، وفي قوله:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153]، وأضافه أيضًا إلى الذين أنعم الله عليهم في قوله: {صِرَاطَ

ص: 57

الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، ويقال: في توجيهه ما قيل في توجيه السبيل.

وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: تولوا عن الهجرة في سبيل الله، {فَخُذُوهُمْ} يعني: إذا وجدتموهم فخذوهم أسرى، بدليل قوله:{وَاقْتُلُوهُمْ} فالأخذ أسر، والقتل إزهاق الروح، قوله {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} أي: في أي مكان وجدتموهم، سواء وجدتموهم في البر أو في بلادهم أو في غير ذلك، ما داموا لم يهاجروا في سبيل الله وتولوا عن سبيل الله.

وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} كررَّه مرة أخرى إما تمهيدًا لقوله: {وَلَا نَصِيرًا} وإما من باب التوكيد، وإما للأمرين جميعًا؛ لأن قوله:{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا} هو كقوله: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} ، لكن هنا زاد قال:{وَلَا نَصِيرًا} .

والفرق بين الولي والنصير: أن النصير هو من يدافع عنك ممن يعتدي عليك، فهو ينصرك، وأما الولي فهو الذي يتولاك بالعناية، وبتحصيل مطلوبك ودفع مرهوبك.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الكفار يودون بكل المحبة أن يكفر المؤمنون كما كفروا، لقوله:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} ، ويتفرع على هذه الفائدة أنهم إذا كان هذا ودهم فسوف يسعون إليه بكل وسيلة، سواء كانت الوسيلة في تدمير الإقتصاد، أو بالسلاح، أو بنشر الأخلاق الرذيلة السافلة؛ لأن الأخلاق الرذيلة السافلة إذا انتشرت في الأمة فعليها الوداع.

المهم أننا ما دمنا نعلم أنهم يودون أن نكفر كما كفروا

ص: 58

فلا بد أن يسعوا لذلك بكل طريقة، بالتهديد تارة، وبالترغيب تارة، وبتسهيل الباطل تارة، وكما نشاهد الآن أن دول الكفر تلعب لعبًا لا يستهان به بدول المسلمين.

2 -

أن بني آدم بطبيعتهم يتسلى بعضهم ببعض، ويقوى بعضهم ببعض، لقوله تعالى:{كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} ولا شك أنه إذا اشترك أحد معك فيما أصابك فإنه تشجيع لك، ولهذا قال الله تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39]، بينما في الدنيا إذا تشارك المجرمون في العذاب هان عليهم، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:

ولولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلي النفس عنه بالتأسي

فالحاصل أن الإشتراك في العقوبة يخففه، وهنا الإشتراك في الكفر يهون الكفر على أصحابه.

3 -

اعتزاز الكفار بمن يدخل في دينهم، لقوله:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} .

4 -

تحريم اتخاذ أولياء من الكفار حتى يهاجروا في سبيل الله، لقوله تعالى:{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

5 -

أن من لم يهاجر في سبيل الله فإن هذا دليل على عدم صدقه في إيمانه؛ لأنه متى صدق الإنسان في إيمانه فسوف يدع الغالي والرخيص من أجل الحفاظ على هذا الإيمان.

6 -

الإشارة إلى الإخلاص، وتؤخذ من قوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

ص: 59

7 -

أن من تولى عن الهجرة في سبيل الله فإنه ليس وليًا لنا، ويجب علينا مقاتلته، لقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ؛ وذلك لأنه لا إيمان ولا عهد لهم لكونهم تولوا عن دين الله ولم يهاجروا في سبيل الله.

8 -

تأكيد النهي عن اتخاذ الأولياء من الكفار؛ لقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .

فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الآية وبين محالفة النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة بعد صلح الحديبية؟

فالجواب: أن المراد باتخاذ الأولياء أن ينصرهم الإنسان ويناصرهم على من قاتلوه وحاربوه، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وأما مجرد أن يتخذ معهم حلفًا يتقوى بهم ويدفع بهم شرورًا كثيرة فهذا لا بأس به عند الحاجة إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك في صلح الحديبية.

* * *

* قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)} [النساء: 90].

{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} هذا استثناء من قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .

فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يعني: إلا قومًا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، واستجاروا بهم،

ص: 60

وعقدوا معهم الأحلاف، فهؤلاء ليس لهم حكم من سبقهم، ولهذا قال:{أَوْ جَاءُوكُمْ} إلى آخره.

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الميثاق هو: العهد المؤكد، مأخوذ من الوثاق الذي هو الرباط الذي يربط به الشيء.

وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ} هذه معطوفة على {يَصِلُونَ} ، يعني: أو الذين جاءوكم، يعني: لم يلتجئوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، ولكنهم جاءوا إليكم.

وقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} {حَصِرَتْ} بمعنى: ضاقت ولم تتسع للقتال، والجملة في قوله:{حَصِرَتْ} قيل: إنها في موضع نصب على الحال، على تقدير قد؛ أي: قد حصرت صدورهم {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} .

وقوله: {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} هؤلاء الآن جاءوا إلى المسلمين لئلا يقاتلوا المسلمين مع قومهم، ولكنهم لا يقاتلون قومهم مع المسلمين، ولهذا قال:{أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} يعني: مع قومهم: {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} يعني: معكم، فهؤلاء قوم مسالمون.

قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} يعني: هؤلاء الذين جاءوكم. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} {لَوْ} هذه شرطية، وفعل الشرط. قوله:{شَاءَ} وجوابه قوله: {لَسَلَّطَهُمْ} وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} هذه معطوفة على جواب "لو" بإعادة اللام الرابطة؛ ولهذا لو حذفت وقيل: لسلطهم عليكم فقاتلوكم لاستقام الكلام، إذًا: فهي اللام الأولى أعيدت للتأكيد.

وقوله: {لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي: لجعل لهم سلطانًا عليكم

ص: 61

بالمقاتلة، وهل شاء الله ذلك؟ الجواب: لا. لأنهم لم يقاتلوا المسلمين.

وقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} فسرها بقوله: {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} ؛ أي: اعتزلوكم فلم يكونوا معكم، ولم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم؛ أي: السلام.

وقوله: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} لأنهم قوم مسالمون لم يقاتلوكم، ولم يقاتلوا قومهم، فهؤلاء مسالمون.

وقوله: {فَمَا جَعَلَ} هذه جواب الشرط في قوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} ، ومعنى {سَبِيلًا} أي: طريقًا يبيح لكم قتالهم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

استثناء هؤلاء الصنف من الناس ممن أمرنا بقتالهم، وهم طائفتان: طائفة وصلوا إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق ودخلوا فيهم.

والطائفة الثانية: قدموا وجاءوا إلينا فلم يقاتلونا مع قومهم، ولم يقاتلوا قومهم معنا، فهم مسالمون.

2 -

تمام وفاء الإِسلام بالعهد، حيث حمى العهد لمن باشر عقد العهد معنا ومن لجأ إليه، ويؤخذ من قوله:{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية.

3 -

أن من سالمنا سالمناه؛ لقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} ، وفي الجهاد تكون الهدنة، وهل يصح أن تزيد على عشر سنوات؟ الصحيح: أنه تصح الهدنة المطلقة المبنية على ضعفنا، ولنا إذا قوينا أن ننبذ إليهم.

ص: 62

4 -

إثبات مشيئة الله سبحانه، لقوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} .

5 -

أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله، لقوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ} ، فيستفاد منها الرد على طائفة مبتدعة زائغة وهم: القدرية، الذين يقولون: إن فعل الإنسان مستقل به لا علاقة لله به، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} .

6 -

وفي قوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} الرد على الجبرية حيث نسب القتال إلى الإنسان، وهم لا ينسبون الفعل إلى الإنسان إلا على سبيل المجاز، فمثلًا: يقولون: الرجل إذا صلى إنما صلى على سبيل المجاز، وإلا في الحقيقة أنه أجبر على الصلاة.

7 -

أنه إذا اعتزلنا من بيننا وبينه عهد وأمان، ولم يقاتل، وألقى السلم وجب الكف عنه، لقوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} .

8 -

الحاصل بالمفهوم أنهم لو أخذوا منا الميثاق ولكنهم خانوا فقاتلونا فإن العهد ينتقض، ولا يكون بيننا وبينهم عهد، يؤخذ من مفهوم قوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} .

9 -

أن من ألقى السلاح وجب الكف عنه، لقوله:{فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} ، لكن إن خيف أن إلقاءه السلاح خيانة وخداع فإنه لا عبرة بإلقائه؛ لأن العدو قد يلقي السلاح غدرًا وخيانة، وقد ينهزم أيضًا أمام جيوشنا غدرًا وخيانة، فالواجب التنبه.

فإن قال قائل: كيف نقول فيما وقع من أسامة بن

ص: 63

زيد رضي الله عنه في قتله المشرك بعد أن قال: لا إله إلا الله، فأنبه النبي صلى الله عليه وسلم ووبخه، وقال:"أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله"

(1)

مع أن الذي يظهر أنه قالها تعوذًا من القتل؟

قلنا: لا بد من قرينة قوية تدل على أنه يخشى منه الغدر والخيانة، وأما مجرد الظن فلا يكفي؛ لأن الأصل العصمة بالعهد، فيبنى على هذا الأصل حتى يُوجد ما يعارضه.

10 -

أن الشرع منعًا ودفعًا وإذنًا كله لله عز وجل، لقوله:{فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} ، وهذا يدل على أن الأمر بيد الله، فهو الذي يحكم بما شاء من حل وحرمة وإيجاب وغير ذلك.

* * *

* قال الله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)} [النساء: 91].

{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} السين هنا للتنفيس، وأختها "سوف" للتسويف، والفرق بينهما: أن التسويف متأخر، والتنفيس حاضر، وكلتاهما تفيدان التقرير والثبوت والتحقيق، فمثلًا إذا قلت: أنت سوف تجد زيدًا، وأنت ستجد زيدًا فكلتاهما تفيد التوكيد والثبوت، ولكن سوف للتراخي والسين للقرب.

(1)

تقدم (1/ 149).

ص: 64

وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} هؤلاء قسم رابع {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} ، ولا يمكن هذا إلا بالنفاق، فإذا جاءوكم {قَالُوا آمَنَّا} فأمنوا {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] فنافقوا، فهم يريدون أن يكون مرضين لهؤلاء وهؤلاء ولا يمكن هذا، لا يمكن أن ترضى أولياء الله وأعداءه في آن واحد؛ لأن أولياء الله وأعداء الله كلهم أعداء، ولا يمكن لعدو الله أن يوالي وليًا لله، أو بالعكس، فهؤلاء ليسوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ لأنهم ليسوا مع المسلمين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكفار ظاهرًا، لكن في الباطن هم معهم.

وقوله: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} يعني: أن مآلهم الفتنة - والعياذ بالله! - والضلال، والمراد بالفتنة هنا: الخروج من الإِسلام، وقوله:{أُرْكِسُوا فِيهَا} يعني: ازدادوا ركسًا وعمقًا فيها، وبعدًا عن الهدى، وهكذا كل إنسان يريد الفتنة فإنه يزداد شرًا وإيغالًا في الفتنة.

وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني: إن ظهرت عداوتهم لكم، ولم يعتزلوكم حتى يتبينوا ويظهروا {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} يعني: الإستسلام أو المسالمة، والظاهر أن المراد المعنيان.

وقوله: {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} عنكم بالإيذاء {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} خذوهم أسرًا، واقتلوهم إماتة {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: حيث وجدتموهم، كما قال تعالى:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة: 2] أي: إن يجدوكم.

وقوله: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} {وَأُولَئِكُمْ}

ص: 65

الإشارة هنا إشارة إلى بعيد مع قرب الذكر، لبعد منزلتهم وسفول منزلتهم؛ لأن القريب قد يشار إليه بإشارة البعيد إما لبعده نزولًا أو لبعده علوًا، حسب ما يقتضيه السياق.

وقوله: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي: حقًا بينًا وسلطة بقتالهم، وأخذهم حيث {لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} .

وهذه الآيات كلها في المنافقين وأشباه المنافقين؛ لأنها بُدئت بهم وانتهت بهم، فهي في المنافقين وأشباههم.

وخلاصتها بالمعنى الإجمالي: أن الناس أقسام: مسلمون، ومعاهدون، وذميون، ومنافقون، وكل قسم من هذه الأقسام له حكم يليق به.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

علم الله عز وجل بالغيب، لقوله:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} .

2 -

إثبات الإرادة للعبد، وتؤخذ من قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} .

3 -

أنه لا يمكن الجمع بين الولاية والعداوة، ولا يمكن أن يكون الإنسان وليًا لأولياء الله، ووليًا لأعداء الله، هذا شيء لا يمكن، لقوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} ، وهذا قاله في مقام الذم لا في مقام المدح.

فإن قال قائل: هل يمكن الجمع بين العداوة والولاية في شخص معين؟

فنقول: نعم يمكن، فإذا كان هذا الشخص يأتي بالإيمان

ص: 66

والتقوى من جانب، وعنده شيء من الكفر والفسوق من جانب آخر، صار وليًا من جانب وعدوًا من جانب آخر، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة في أن الإيمان والكفر قد يجتمعان، لكن ليس الإيمان المطلق ولا الكفر المطلق؛ لأن الإيمان المطلق والكفر المطلق لا يمكن أن يجتمعا، لكن مطلق الإيمان ومطلق الكفر يمكن أن يجتمعا.

4 -

التحذير من الوقوع في الفتن، وأن الإنسان كلما وقع في الفتنة أُركس فيها.

5 -

الرد على الجبرية، لقوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} .

6 -

أن هؤلاء القوم لما لم يكونوا صادقين في الإيمان كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، وهكذا كل إنسان ليس صادقًا في إيمانه، فإنه كلما رُدَّ إلى الفتنة ازداد شرًا وركسًا.

7 -

أنه يجوز أن يقاتل أمثال هؤلاء إذا لم يعتزلوا المسلمين أي: لم يكفوا عنهم ويلقوا إليهم السلم، يعني: السلام.

8 -

حسن بلاغة القرآن حيث قال هنا: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وهناك في الآية الأولى قال {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .

لأن اختلاف الألفاظ يؤدي إلى النشاط، واتفاقها يؤدي إلى الملل غالبًا.

9 -

أن الله سبحانه جعل للمؤمنين على هؤلاء سلطانًا مبينًا؛ أي: سلطة شرعية، وربما يكون أيضًا سلطة قدرية ظاهرة بينة.

* * *

ص: 67

* قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} [النساء: 92].

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} .

الإعراب: {مَا كَانَ} فعل ناقص منفي، وخبره قوله:{لِمُؤْمِنٍ} ، واسمه قوله:{أَنْ يَقْتُلَ} على أنه مؤول بالمصدر؛ أي: ما كان لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأً، وأما {إِلَّا} فهي أداة استثناء، وقوله:{خَطَأً} يحتمل أن تكون صفة لموصوف محذوف أي: إلا قتلًا خطأً، كقوله تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] أي: أن اعمل دروعًا سابغات، وحذف الموصوف مع بقاء الصفة كثير في اللغة العربية، وفي القرآن الكريم.

يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ، المؤمن هو: الذي استقر الإيمان في قلبه، والإيمان شرعًا أخص من الإيمان لغة؛ إذ إن الإيمان شرعًا هو الإقرار بالقلب المتضمن للقبول والإذعان؛ أي: قبول الخبر، وقبول الطلب، والإذعان بذلك الإنقياد، وعدم الإستكبار.

وقوله: {أَنْ يَقْتُلَ} القتل هو: إزهاق الروح بأي وسيلة كانت، سواء بالسيف، أو بالسهم، أو بالإحراق، أو بالإغراق أو بأي نوع من أنواع القتل.

ص: 68

وقوله: {إِلَّا خَطَأً} يعني: أنه لا يمكن أن يقتله خاطئًا، بل مُخطئًا، والفرق بين الخاطئ والمخطئ: أن الخاطئ هو: من ارتكب الخطأ عمدًا، والمخطئ: من ارتكبه بغير عمد وقصد.

ويكون الخطأ إما بالقصد وإما بالآلة، أما الخطأ بالقصد فمثل: أن يرمي صيدًا رمية قاتلة فيصيب إنسانًا لم يقصده، فهذا خطأ بالقصد، والخطأ بالآلة مثل: أن يضربه عمدًا بسوط لا يقتل مثله غالبًا، فهذا خطأ بالآلة؛ لأنه لم يظن أنها تقتله، ولهذا لم يكن قاصدًا لقتله، وإنما العصا يؤدب بها الإنسان عادة، ولكن قدر الله عز وجل أن تسري هذه الجناية حتى يموت المضروب.

ثم قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} "مَنْ" هذه شرطية، وفعل الشرط قوله:{قَتَلَ} وقوله: {فَتَحْرِيرُ} جواب الشرط، وقرن بالفاء لأنه جمله اسمية، وكلمة "تَحْرِير" مبتدأ، والخبر محذوفًا، والتقدير:"فعليه تحرير رقبة".

وتحرير الشيء هو تخليصه، والمراد بهذا التحرير: تخليص الرقبة من الرق خاصة، لا تخليصها من الهلاك، ولهذا لا يعتبر من أنقذ شخصًا محررًا له، بل من حرره من الرق وخلصه منه فهو المحرر.

والمراد بالرقبة هنا: النفس كاملة، لكن يعبر بالرقبة عنها لأن الجسد لا يمكن أن يقوم بدون رقبة، ولهذا إذا قطعت رقبته هلك.

وقوله تعالى: {مُؤْمِنَةٍ} المراد بالإيمان هنا ما يشمل الإِسلام، وليس المراد بالإيمان: الإيمان المطلق، بل المراد: مطلق الإيمان، ولهذا لو أعتق فاسقًا لأجزأه.

ص: 69

وقوله: {وَدِيَةٌ} معطوفة على "تحرير"، يعني: وعليه {دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولم يبين الله عز وجل من يسلمها، بل قال:{مُسَلَّمَةٌ} بالبناء للمفعول.

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} مستثنى من قوله: {وَدِيَةٌ} ، يعني: وعليه دية مسلمة إلى أهله {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي: يتصدقوا على من وجبت عليه الدية بإسقاطها، وبالعفو عنه تسقط، والمراد بالتصدق هنا: العفو والإسقاط؛ وليس المراد البذل، بل الإسقاط.

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أصلها إلا أن يتصدقوا، ولكن أدغمت التاء بالصاد فصارت {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} .

وقولهه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} {فَإِنْ كَانَ} الضمير يعود على المقتول، وهو اسم كان، وقوله:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في قوله: {كَانَ} يعني: والحال أنه مؤمن.

قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ؛ أي: فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، وعليه فيكون الخبر محذوفًا، والتقدير: فعليه.

وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ} {إِنْ كَانَ} الضمير يعود على المقتول وقوله: {مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: عهد، وسمى العهد ميثاقًا؛ لأنه بمنزلة الحبل يوثق به المأسور، إذ إن العهد رباط بين المتعاهدين؛ بحيث لا يجرؤ أحدهما على الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر.

وقوله: {مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} هؤلاء القوم كفار؛ لأن المؤمنين قد ذكروا في الأول.

ص: 70

وقوله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أي: فعليه - أي: على القاتل - دية مسلمة إلى أهله؛ أي: أهل المقتول.

والمراد بالأهل في الموضعين الورثة؛ لأن الورثة هم الذين يرثون ما خلفه الميت، والدية من مخلفات الميت.

وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: من لم يجد الرقبة، إما أن تكون الرقاب معدومة، وإما أن يكون ثمنها معدومًا، ولهذا جاءت الآية الكريمة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ولم يذكر المفعول ليكون ذلك أشمل وأعم؛ أي: فمن لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها قوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: فعليه صيام، وعلى هذا فيكون {فَصِيَامُ} مبتدأ، والخبر محذوف والتقدير: فعليه، وقوله:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} يعني: يتبع بعضهما بعضًا بحيث لا يفطر بينهما.

وقوله: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} هذه مصدر لفعل محذوف؛ أي: يتوب بذلك توبة إلى الله، والتوبة إلى الله هي: الرجوع إليه من معصيته إلى طاعته، وسيأتي أن لها شروطًا.

وقوله: {مِنَ اللَّهِ} أي: أن ما شرعه الله من هذه الأحكام هي توبة منه على عبده، وإلا لو شاء لشق علينا، ولكان الواجب بقتل الخطأ أكبر من ذلك.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} {كَانَ} فعل ماض ناسخ، ولفظ الجلالة اسمها، وقوله:{عَلِيمًا} خبرها، و {حَكِيمًا} خبر ثانٍ، ولا يصح أن يكون صفة؛ لأن الضمير لا يوصف ولا يوصف به، وعلى هذا فيتعين أن نعربها على أنها خبر ثانٍ.

ص: 71

والعلم: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، فإذا أدركت - مثلًا - أن هذه ورقة سمي هذا علمًا؛ لأنك أدركتها على ما هي عليه إدراكًا جازمًا، وإذا قلت: يترجح عندي أنها ورقة فهذا ليس بعلم؛ لأنه ليس جازمًا، وإذا قلت: لا أدري ما هي، فهذا أيضًا ليس بعلم؛ لأنك لم تدركها.

وأما قوله: {حَكِيمًا} فالحكيم: مأخوذ من الحكم والإحكام، فهو حكيم بمعنى: حاكم وبمعنى: محكِم، فالحاكم بين عباده والحاكم على عباده هو الله، وتأمل كيف قلنا: الحاكم على عباده وبين عباده! فالحاكم بين عباده يعني: فصل النزاع بينهما، والحاكم عليهم يعني: الذي له الحكم على العباد يحكم فيهم بما شاء، وهو أيضًا مشتق من الحكمة، والحكمة قال العلماء هي وضع الشيء في موضعه اللائق به، فيكون اسم الحكيم مشتملًا على حكم وإحكام، والحكم نوعان، والحكمة نوعان أيضًا، وإذا ضربت اثنين في اثنين صار الحاصل أربعة، كما سبق بيانه.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

امتناع قتل المؤمن للمؤمن عمدًا، ويؤخذ من قوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} ، وإذا جاءت "ما كان" أو "لم يكن" أو "لا ينبغي" أو "ما ينبغي" فإنها تفيد الإمتناع، ولكن هذا الإمتناع شرعي؛ لأنه قدرًا يمكن أن يقتله عمدًا لا خطأً، فإذًا: هو شرعًا لا يمكن، ولهذا يعتبر من قتل المؤمن خطأ يعتبر ناقص الإيمان جدًا، حتى إنه يصح أن ننفي عنه الإيمان، فنقول: هذا ليس بمؤمن؛ أي: ليس بمؤمن كامل

ص: 72

الإيمان؛ لأنه إذا كان الإنسان لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، فما بالك بمن يقتل؟ !

2 -

أن المؤمن قد يقتل غير المؤمن عمدًا، لقوله:{أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} ولكن هل هذا جائز؟

الجواب: فيه تفصيل: إن كان محاربًا فقتله جائز، ثم قد يجب أو لا يجب على حسب ما تقتضيه الحال، وإن كان معاهدًا أو مستأمنًا أو ذميًا فقتله حرام، ونقول: ما كان له أن يقتله.

3 -

حكمة الشرع حين فرق بين الخطأ والعمد؛ لأن الخطأ لا يقع عن قصد، والعمد يقع عن قصد، فالمخطئ أهل للمسامحة، والعامد ليس أهلًا لها، وهذا لا شك من الحكمة في الشرع، ولولا هذه الحكمة لاستوى العامد والمخطئ.

4 -

تقسيم القتل إلى خطأ وغير خطأ؛ لأن استثناءه في قوله: {إِلَّا خَطَأً} يدل على أن هناك عمدًا، وهو كذلك، وسيأتي ذكر العمد في الآية التي بعدها.

5 -

أن قتل الخطأ بنوعيه على حسب ما فسرنا من قبل يوجب شيئين:

الأول: العتق.

والثاني: الدية. ويؤخذ من قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .

ومن قتل غير مؤمن فقد ذكر الله ما يلزمه فيما بعد في نفس الآية.

6 -

فضيلة العتق وعلو منزلته؛ لأنه صار كفارة لهذا الذنب

ص: 73

وهو قتل المؤمن، وهذا يدل على فضيلته، وعلو مرتبته، وأنه هام، وهو كذلك.

7 -

نظر الشريعة إلى تحرير الرقاب من الرق، ويتفرع على هذه الفائدة الرد على من أنكر على المسلمين الإسترقاق، فيقال: إن الإسترقاق جاء نتيجة لأمر ضروري، ومع ذلك فإن هناك مشجعات كثيرة على التحرير.

8 -

اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في القتل، لقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وهل يلحق بذلك كل رقبة كانت كفارة لمعصية؟

الجواب: في هذا للعلماء قولان:

فمنهم من قال باشتراط الإيمان في كل رقبة أعتقت كفارة، ففي قوله تعالى في كفارة اليمين:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، والرقبة هنا مطلقة، فهل يشترط فيها الإيمان؟ يرى بعض أهل العلم أنه يشترط، ويرى آخرون أنه لا يشترط، وهذا مبني على تخصيص النص بنص آخر، وقد بينا أنه إذا اتفق السبب والحكم فإنه يخصص، وإن اختلف الحكم فإنه لا يخصص مع اتفاق السبب، وإن اتفق الحكم مع اختلاف السبب فأكثر العلماء على أنه يخصص، فالسبب في تحرير الرقبة هنا: هو القتل، وفي كفارة اليمين هو الحلف، فالسبب مختلف، لكن الحكم واحد وهو تحرير الرقبة، وأكثر العلماء على أنه يقيد المطلق بكفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل.

9 -

جواز إعتاق الذكر والأنثى في كفارة القتل، وتؤخذ من

ص: 74

الإطلاق في قوله: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يقل: ذكر ولا أنثى، فيكون مطلقًا.

10 -

أنه لو أعتق رقبة كافرة - مثل أن يعتق عبدًا لا يصلي - فإنه لا يجزئه في كفارة القتل.

11 -

تعظيم القتل؛ ولهذا أوجب الله فيه الكفارة، مع أن القاعدة الشرعية أن المخطئ لا كفارة عليه، وأنه مرفوع عنه القلم لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"

(1)

لكن تعظيمًا لشأن القتل صار الذي يصدر منه القتل ولو مخطئًا عليه الكفارة.

12 -

أن من أعتق رقبة غير مؤمنة فإنها لا تجزئه، وهل يشترط في هذه الرقبة السلامة من العيوب الجسدية كما اشترط السلامة من العيب الشرعي؟

الجواب: في هذا خلاف:

فيرى بعض العلماء أنه لا بد أن تكون الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل؛ لأن إعتاق من فيه عيوب ضارة بالعمل يؤدي إلى أن يكون عالة على المجتمع، فمثلًا: لو كان هذا الرجل قد قطعت يداه وهو عبد فعلى القول باشتراط السلامة لا

(1)

هذا الحديث جاء من رواية ابن عباس عند ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، حديث رقم (1/ 659)(2045)؛ والطبراني في الصغير (2/ 52)(765)؛ والدارقطني في سننه (4/ 170)(33)؛ وابن حبان (16/ 202)(7219)؛ والبيهقي في الكبرى (7/ 356)(14871).

وعن أبي ذر عند: ابن ماجه (1/ 659)(2043).

وعن ابن عمر عند: البيهقي في الكبرى (6/ 84)(11236).

وعن عقبة عند: البيهقي أيضًا (7/ 357)(14873).

ص: 75

يجزئ، وعلى القول بعدم الإشتراط يجزئ، وأكثر العلماء فيما أظن على أنه يشترط أن يكون سليمًا من العيوب الضارة بالعمل؛ لأن إعتاق مثل هذا العبد الذي فيه عيوب ضارة بالعمل يوجب أن يكون العبد عالة على الغير.

13 -

وجوب الدية في قتل الخطأ، لقوله:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .

14 -

أنه يجب على من وجبت عليه الدية أن يوصلها إلى أهل الميت، لقوله:{مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، فأهله هم الورثة، وهل تؤجل أو هي على الفور؟

في هذا خلاف بين العلماء:

فمنهم من قال: إنها لا تؤجل إلا إذا رأى الحاكم أن في تأجيلها مصلحة؛ لأن الأصل في وجوب الدين قضاؤه على الفور، فإذا رأى الحاكم التأجيل أجلها، وتؤجل ثلاث سنين.

وهل الدية واجبة على القاتل بالأصالة وعلى العاقلة بالتبعية أو هي واجبة على العاقلة أصلًا؟

الجواب: في هذا خلاف أيضًا:

فمن العلماء من يقول: إنها واجبة على القاتل بالأصالة، وعلى غيره بالتبعية؛ لأن القاتل هو المباشر للقتل، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وتحميل العاقلة إنما هو من أجل إعانته ومساعدته، فإذا قدرنا أن هذا الرجل الذي قتل خطأً عنده ملايين الدراهم والعاقلة أحوالهم ضعيفة، فإنه قد لا يكون من الحكمة أن نحمل العاقلة ونضيق عليها في معيشتها ثم ندع هذا القاتل الذي وقعت الجريمة منه مع غناه وكثرة ماله.

ص: 76

ومن العلماء من يقول: هي واجبة على العاقلة بالأصالة، وعلى هذا فلا يلزم القاتل شيء حتى وإن كان من أغنى الناس والعاقلة فقراء؛ لأنها واجبة على العاقلة.

والظاهر لي: أن نقول بالقول الوسط: إذا كان عند العاقلة قدرة ألزمناها، بمعنى: أن العاقلة إذا كانت ذات غنى واسع فإننا نلزمها، لما في ذلك من التعاون وإشعار القرابة بأن بعضهم لبعض ظهير، وأما إذا كانت العاقلة لا يستطيعون تحمل الدية إلا بكلفة ومشقة وفقد بعض الحوائج والقاتل غني فإننا نلزمه؛ لأنه هو الأصل.

ووجوب الدية على العاقلة، لا يعكر عليه قول الله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

لأن هذا من باب التعاون؛ لأن الخطأ يقع كثيرًا، فكان من رحمة الله عز وجل أن يحمل هؤلاء كما يحملون في النفقة.

فإن قال قائل: ما هي الدية؟

قلنا: قد بينتها السنة: بأنها مائة من الإبل للذكر الحر، وخمسون من الإبل للأنثى الحرة، وهذا هو القول الصحيح: أن الإبل هي الأصل في الدية، وأما البقر والغنم والذهب والفضة والحلل فإنها قيم، وإلا فالأصل هو الإبل.

15 -

يؤخذ من قوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، وهو مستثنى من قوله:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، أن العفو عن الدية من الصدقة، وذلك أن الصدقة إما إعطاء وإما إبراء، فالإعطاء ظاهر، والإبراء هو: أن يبرئ الإنسان شخصًا مدينًا من الدين ويسقطه عنه، لكن هذا لا يجزئ في الزكاة عن زكاة العين، يعني: لو كان على إنسان

ص: 77

زكاة، وكان له دين على فقير، فأبرأ الفقير من الدين واحتسبه من الزكاة فإن ذلك لا يجزئ؛ أي: لا يجزئ الدين عن زكاة العين.

16 -

جواز العفو عن الجاني، ولكن هذا مقيد بما إذا كان في العفو إصلاح، لقول الله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، فإن لم يكن فيه إصلاح فترك العفو أولى، بل قد يجب الأخذ بالحق وترك العفو؛ لأن الإصلاح أهم من المصلحة الخاصة، فالعفو عن الدية مصلحة خاصة، لكن الإصلاح مصلحة عامة، فإذا كان هذا الذي قتل خطأً رجلًا متهورًا لو عفونا عنه لذهب يقتل مرة أخرى، وثالثة ورابعة، فإن العفو عن هذا ليس من الإصلاح؛ وعليه فلا ينبغي العفو.

17 -

أن قتل المعاهد حرام، ووجه الدلالة: أن الله أوجب في قتل من بيننا وبينهم ميثاق الدية والكفارة.

18 -

أن دية الكافر المعاهد ليست كدية المسلم؛ لأنه قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ} وهذه نكرة، وإعادة الكلمة بلفظ النكرة تدل على أن الثاني غير الأول، كما في قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5 - 6]، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يغلب عسر يسرين"

(1)

، ولو كانت دية المعاهد كدية المؤمن لقال: فالدية مسلمة إلى أهله، فالدية، يعني: التي سبقت، ولكن هذه دية أخرى.

(1)

أخرجه الحاكم (2/ 528) عن الحسن البصري مرسلًا في قوله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مسرورًا فرحًا يضحك وهو يقول: "لن يغلب عسر يسرين"، وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 446)؛ وابن أبي شيبة (5/ 335)، (13/ 308)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 502 - 206)؛ والحاكم (2/ 301) موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 78

فإن قال قائل: فما هي إذًا؟

فالجواب نقول: اختلف فيها العلماء: منهم من قال: إن ديته ثلث دية المسلم، ومنهم من قال: أن ديته نصف دية المسلم، وهذا هو الصحيح، فمثلًا: إذا كانت دية المسلم مائة بعير فدية من بيننا وبينهم ميثاق من الكتابيين خمسون بعيرًا.

19 -

احترام الدين الإِسلامي للعهود والمواثيق، ولذلك لم يهدر حق المعاهد الذي بيننا وبينه ميثاق، بل أوجب الدية لأهله.

20 -

وجوب الكفارة في قتل من بيننا وبينهم ميثاق وإن كانوا غير مسلمين، لقول الله تبارك وتعالى:{فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .

21 -

وجوب إيصال الدية إلى مستحقيها، فلو قال هي عندي في البيت تعال وخذها فإنه لا يلزمه؛ ولأنه لا بد أن يسلمها من وجبت عليه إلى من هي له.

22 -

أن الدية في الخطأ لا تجب على القاتل؛ لأنه لم يقل يسلمها بل قال: {مُسَلَّمَةٌ} ، فعلى من تجب؟

الجواب: تجب على العاقلة، وهم ذكور العصبة الأغنياء، ويجتهد الإِمام والقاضي في تحميل كل منهم ما يناسب حاله، فالأقرب يحمل أكثر من الأبعد، والغني يحمل أكثر من المتوسط، والفقير ليس عليه شيء؛ لأنه فقير.

23 -

أن من لم يجد الرقبة أو ثمنها فعليه صيام شهرين متتابعين، لقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .

24 -

أن من لم يستطع الصيام فلا شيء عليه، لا عتق رقبة لأنه لا يجد، ولا صيام لأنه لا يستطيع، ولا إطعام لأنه لم يُذكر

ص: 79

في الآية؛ ولهذا لما أراد الله عز وجل أن يكون الإطعام بدلًا عن الصيام ذكره كما في آيات الظهار.

فإن قال قائل: أفلا يصح أن يقاس هذا على الظهار؟

قلنا: لا يصح؛ وذلك لاختلاف السبب، فإن سبب الكفارة في الظهار هو الظهار، وسبب الكفارة في القتل هو القتل، وبينهما فرق، فالظهار سماه الله تعالى منكرًا من القول وزورًا، والقتل الخطأ لم يصف الله تعالى فاعله بما يقتضي قبح فعله.

25 -

أن على القاتل خطأ مع الكفارة أن يتوب؛ لقول الله تعالى: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} ، وحينئذ يرد على ذلك إشكال، وهو: كيف تجب عليه التوبة والكفارة مع أن فعله خطأ؟ !

فنقول: لأن الخطأ قد يكون نتيجة للتساهل في عدم التحري، مثلًا: من قتل الخطأ أن يرمى صيدًا فيصيب آدميًا، فنقول: هذا الرجل لو أنه تأنى حتى تحقق الأمر لسلم من هذا الخطأ، فلذلك لما كانت النفوس عظيمة، والعدوان عليها عظيمًا، وكان الإنسان قد يقصر في بعض الأحيان أوجب الله الكفارة وأوجب التوبة.

فإن قال قائل: وهل تجب الكفارة في القتل العمد؟

قلنا: لا تجب في القتل العمد؛ لأن قتل العمد أعظم من أن يكفر بالعتق أو بالصيام، ومن قاسه على القتل الخطأ فقد أخطأ؛ وذلك للفرق بين الجناية وبين مقتضيات الجناية، فإن مقتضى العمد أن يقتل القاتل والخطأ لا يقتل، كذلك في العمد الدية في مال القاتل مغلظة، والخطأ على عاقلته ومخففة أيضًا، فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا مع اختلاف السبب والمقتضى.

ص: 80

فإن قال قائل: إذا عفا أهل الدية عنها فهل تسقط الكفارة؟

فالجواب: لا؛ لأن الكفارة حق لله، والدية حق للآدمي، وكذلك لو عجز الإنسان عن إعتاق الرقبة، وعجز عن صيام شهرين متتابعين.

فلا تسقط الدية، وذلك لأن الدية حق للآدمي فلا تسقط إذا سقط حق الله.

26 -

إثبات اسمين من أسماء الله: أحدهما: العليم، والثاني: الحكيم، والله تعالى يقرن بين العليم والحكيم في مواضع كثيرة؛ ليبين أن ما يحكم به سبحانه من الأحكام الشرعية والأحكام الكونية فإنه صادر عن علم وحكمة لا عن جهل وسفه، وأصل الخطأ في الحكم إما من الجهل، وإما من السفه، فإن كان عن غير علم فهو من الجهل، وإن كان عن غير حكمة فهو من السفه، ولهذا فالآيات التي تتضمن أحكامًا يختمها الله جل وعلا كثيرًا بهذين الإسمين.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].

هذه الآية من أعظم الآيات التي جاءت في الوعيد، قال الله فيها:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، المؤمن هنا: يراد به ما هو أعم من المؤمن؛ فالمؤمن يشمل ناقص الإيمان وكامل الإيمان.

وقوله: {مُتَعَمِّدًا} أي: متعمدًا للقتل قاصدًا له، ولا يكون

ص: 81

هذا إلا بتعمد الفعل بما يقتل غالبًا، يعني: أن يتعمد القتل بما يقتل به غالبًا؛ كالسيف، والرصاص، والحجر الكبير، والسم، والسحر، وما أشبه ذلك، وعلى هذا إذا لم يقصد الفعل فليس بعمد، وإذا قصده بما لا يقتل غالبًا فليس بعمد، لكن الأول يُسمى {خَطَأً} .

والثاني يسمى "شبه عمد"؛ لأنه تعمد الفعل لكن بآلة لا تقتل غالبًا، فسماه العلماء شبه عمد، وقد مر علينا أن الخطأ يكون في القصد، ويكون في الآلة.

وقوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هذه الجملة جواب الشرط في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ} ، وقوله:{جَزَاؤُهُ} أي: عقوبته التي سيجازى بها هي {جَهَنَّمُ} ، وهي اسم من أسماء النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمتها، أعاذنا الله وإياكم منها.

وقوله: {خَالِدًا فِيهَا} الخلود بمعنى: المكث، ولكن من نعمة الله أنه لم يصف ذلك بأنه أبدًا، بل قال:{خَالِدًا فِيهَا} .

قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} والغضب أبلغ من العقوبة؛ لأن الله إذا غضب فإنه لا يكلم من غضب عليه، ولا يرحمه كما يرحم غيره، وينتقم منه بما يقتضيه ذنبه؛ لقوله تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] أي: لما أغضبونا انتقمنا منهم.

وقوله: {وَلَعَنَهُ} أي: طرده وأبعده عن رحمته.

قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} أعده يعني: هيأه؛ أي: هيأ له العذاب العظيم.

ص: 82

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

في هذه الآية الكريمة دليل على أن قتل المؤمن عمدًا من كبائر الذنوب؛ لورود الوعيد عليه، وكل ذنب رُتب عليه الوعيد والعقوبة فهو من كبائر الذنوب.

ولكن من قتل مؤمنًا متعمدًا وتاب تاب الله عليه، وما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"إن قاتل المؤمن عمدًا لا توبة له"

(1)

، محمول على أن المراد لا توبة له باعتبار حق المقتول؛ ولأن القتل عمدًا يتعلق فيه ثلاثة حقوق: حق الله، وحق أولياء المقتول، وحق المقتول، أما حق الله فلا شك أنه يسقط بالتوبة بنص القرآن: قال الله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 70]، وأما حق أولياء المقتول فيسقط بتسليم القاتل نفسه لهم؛ لأن حقهم أن يقتلوه وقد سلم نفسه، وأما حق المقتول فالمقتول قد مات فبقي حقه؛ لأنه لا يُعلم سماحه، فيحمل ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما على هذا؛ أي: أنه لا توبة له باعتبار حق المقتول، على أن القول الصحيح أن له توبة حتى باعتبار حق المقتول؛ لأن الله تعالى يوفي عنه يوم القيامة، حيث تاب توبة نصوحًا.

2 -

أنه لا بد من القصد لقوله: {مُتَعَمِّدًا} ، ولكن هل يشترط في القصد أن يعلم أنه مؤمن، أو إذا تعمد أن يقتل هذا الرجل وإن كان يشك هل هو مؤمن أو معاهد فإنه عمد؟

(1)

رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (4764)؛ ورواه مسلم، كتاب التفسير (3023) عن سعيد بن جبير.

ص: 83

الجواب: هذه فيها خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: إنه إذا تعمد فعل ما لا يجوز وأصاب مؤمنًا فهو عمد، مثل أن يرمي معاهدًا - والمعاهد لا يجوز رميه - فيصيب مؤمنًا، بل قالوا: لو رمى بعيرًا يحرم عليه رميها ثم أصاب إنسانًا فإنه يعتبر عمدًا.

ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا تعمد قتل شخص فأصاب من كان مثله فهو عمد، يعني إذا أراد أن يقتل زيدًا فأصاب عمرًا فهذا عمد، لكن لو أراد أن يقتل بعيرًا فأصاب رجلًا فليس بعمد، وذلك لظهور الفرق بين الآدمي وبين البهيمة، ولا يمكن أن يقال: قصد قتل البهيمة كقصد قتل المؤمن.

فالصواب في هذه المسألة أن يقال: العمد يشمل ما إذا قصد هذا المؤمن بعينه، أو قصد من كان في وصفه من المؤمنين، فكله يعتبر عمدًا.

ولا يشترط العلم بالعقوبة لإقامة القصاص، وهذا عام في كل شيء، متى علم الإنسان أن هذا شيء محرم ترتب عليه أثره، ولهذا أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على الذي أتى أهله في رمضان الكفارة مع أنه لا يدري، بدليل أنه جاء يسأل: ما الذي عليه؟

(1)

.

3 -

أن من قتل مؤمنًا غير متعمد فلا عقوبة عليه؛ أي: لا يعاقب بهذه العقوبة؛ وذلك لأن القيد يعتبر شرطًا في ترتب ما يترتب عليه.

4 -

أن قاتل المؤمن عمدًا يخلد في النار، لقوله:{خَالِدًا فِيهَا} ، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في معنى الخلود: فمنهم من قال: إن الخلود هو المكث الطويل، ولا يشترط أن يكون

(1)

رواه البخاري، كتاب الصيام، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)؛ ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111).

ص: 84

دائمًا؛ ولهذا لم تقيد الآية بالأبدية، وعلى هذا القول لا يكون في الآية إشكال إطلاقًا، ومن العلماء من يقول: الخلود هو المكث الدائم، وعلى هذا القول يرد على هذه الآية إشكال، وهو: أن قاتل النفس عمدًا لا يخرج من الإيمان، لقول الله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، والمؤمن لا يخلد النار؟ ! وهذا إشكال كبير جرى بين أهل السنة وأهل البدعة، وفيه مناظرات كثيرة، وأشكلت كذلك على أهل السنة، حيث إن ظاهرها أن قاتل المؤمن عمدًا يخلد في النار فهو كافر، وهذا مذهب المعتزلة والخوارج، وأجابوا عنها بالآتي:

فقيل: إن الآية محمولة على من استحل ذلك؛ أي: من استحل قتل المؤمن عمدًا، لكن هذا القول ساقط؛ لأن من استحل قتل المؤمن عمدًا فهو كافر، سواء قتل أم لم يقتل، ولهذا لما ذُكر هذا القول للإمام أحمد رحمه الله تبسم، وقال:"إذا استحل قتله فهو كافر، سواء قتله أم لم يقتله"

(1)

.

وهذا التخريج يشبهه تخريج من خرج أحاديث كفر تارك الصلاة على أن المراد من استحل ذلك، فإنه يقال: من استحل ترك الصلاة فهو كافر، سواء ترك أم لم يترك، فحمل نصوص كفر تارك الصلاة على المستحل الذي لا يعتقد فرضيتها فيه تحريف للنص، من وجهين:

الوجه الأول: صرف اللفظ عن ظاهره.

والوجه الثاني: تحميل النص معنى لا يدل عليه.

فالجناية على النصوص في هذه المسألة من وجهين.

(1)

مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله (1/ 393).

ص: 85

وقال بعض العلماء: إن الآية على تقدير شيء محذوف، والتقدير: فهذا جزاؤه إن جازاه، وإن لم يجازه ففضل الله واسع، كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، ولكن هذا التخريج لا نخرج به من المأزق؛ لأن كلامنا على ما إذا جازاه، فهل يخلد أو لا؟ والله عز وجل ذكر في الآية أنه سيجازيه بهذا، فيكون هذا التخريج ضعيفًا.

الوجه الثالث: أن المراد بالخلود هنا المكث الطويل.

الوجه الرابع: أن هذا الوعيد مرتب على سبب، والسبب قد يوجد له مانع يمنع من نفوذه؛ لأن الأشياء لا تتم إلا بوجود أسبابها وانتفاء موانعها، فيقال: هذا جزاؤه، ولكن إذا دلت النصوص على أن هناك مانعًا يمنع من الخلود الدائم فنأخذ بهذا المعنى؛ كقول الله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11]، فلو كان أحد الأبوين كافرًا فإنه لا يستحق الميراث مع أن الآية ظاهرها العموم، فيقال: إن نصوص الشرع يُقيد بعضها ببعض، وهذا الوجه أسلمها على تقدير أن الخلود هو المكث الدائم، أما إذا قلنا: إن الخلود هو المكث الطويل فإنه لا يرد على الآية شيء مما ذكرنا.

الوجه الخامس: أن من قتل مؤمنًا عمدًا أو شك أن يمسخ، ويطبع على قلبه، ويموت على الكفر، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"

(1)

والمعنى: أن مآله والعياذ بالله أن يزول الإيمان منه بالكلية ثم يموت على الكفر.

5 -

إثبات الغضب لله عز وجل، والغضب صفة من

(1)

رواه البخاري، أول، كتاب الديات، حديث رقم (6469).

ص: 86

الصفات الفعلية التي تقع بمشيئة الله تعالى، وكل صفة مرتبة على سبب فهي من الصفات الفعلية؛ لأنها توجد بوجود ذلك السبب وتنتفي بانتفائه، ولكن هل الغضب على ظاهره؛ أي: أنه صفة في الغاضب يترتب عليها الإنتقام، أو إنه شيء بائن عن الغاضب والمراد به الإنتقام؟ نقول: أما السلف فيقولون: إن الغضب صفة في الغاضب يترتب عليها الإنتقام، وليست هي الإنتقام، ويدل لذلك: أن هذا هو ظاهر اللفظ، وأن الله تعالى قال:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، فلو قيل: إن الغضب هو الإنتقام لكان معنى الآية: فلما انتقمنا منهم انتقمنا منهم، وهذا معنى ينزه عنه كلام الله، والآية صريحة في أن الإنتقام كان سببه الغضب، والسبب غير المسبب.

إذًا فالغضب صفة قائمة بالله عز وجل، وليست هي الإنتقام، أما أهل التعطيل والتحريف فقالوا: إن الغضب هو الإنتقام، أو إرادة الإنتقام، ولكن أهل السنة قالوا: إننا نلزمكم بأن تقولوا بأن الغضب صفة قائمة بالله؛ لأنه لا ينتقم إلا ممن غضب عليه، فالإنتقام لازم من لوازم الغضب، وإرادة الإنتقام كذلك؛ لأن الله لم ينتقم منهم أو يرد الإنتقام منهم إلا لأنهم أغضبوه، وعليه فيتعين علينا أن نؤمن بأن الله تعالى يغضب.

فإن قال قائل: الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم يغلي منها دم القلب، وتنتفخ منها الأوداج، ويحمر الوجه، وينتفش الشعر، فهل تقولون بثبوت هذا لله؟

قلنا: لا، بل هذا غضب المخلوق، أما غضب الخالق فلا نعلم كيفيته، لكن نؤمن بأنه جل وعلا يغضب.

ص: 87

فإن قيل: الغضب صفة نقص، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها حين قال الرجل:"أوصني، قال: لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب"

(1)

؟

قلنا: هي صفة نقص بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فإنها صفة كمال؛ لأنها تدل على كمال السلطة وكمال القوة، ولهذا إذا أسأت إلى شخص أقوى منك غضب، وإن أسأت إلى شخص دونك حزن، فذاك يغضب؛ لأنه قادر على الإنتقام، والثاني يحزن؛ لأنه عاجز عن الإنتقام.

6 -

أن من قتل مؤمنًا متعمدًا فمن جزائه أن يلعن بأن يطرد من رحمة الله، لقوله:{وَلَعَنَهُ} ، ويتفرع على هذه الفائدة: هل يجوز أن نلعن القاتل بعينه، ونقول: أنت ملعون مغضوب عليك؟

الجواب: لا، لكن نقول: أنت قاتل للمؤمن عمدًا، والله يقول:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} إلى آخر الآية، فنفرق بين أن نحكم على هذا الرجل بأنه ملعون؛ لأنه يجوز أن يتوب فتزول اللعنة.

7 -

أن الله تعالى هيأ العذاب لمن يستحقه، لقوله:{وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} ، ويتفرع على هذه الفائدة: أن النار التي يعذب بها الكافرون موجودة الآن، كما قال تعالى:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف.

8 -

عظم عذاب النار، لقوله:{عَظِيمًا} ، والعظيم إذا

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، حديث رقم (5765) عن أبي هريرة.

ص: 88

استعظم الشيء صار بقدر عظمة هذا المستعظِم؛ أي: أنه شيء عظيم عظمًا كبيرًا.

9 -

إذا كان ورثة المؤمن المقتول كفارًا فإنه لا دية له؛ أولًا: لأنه لا يمكن أن يرثوه وهم كفار؛ لأنه لا يرث الكافر المسلم، وثانيًا: لأننا لو أعطيناهم لاستعانوا به علينا.

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} [النساء: 94].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الفائدة من تصدير الخطاب بالنداء هي: الدلالة على أهمية الشيء؛ ولهذا صدر بما يقتضي التنبه.

وكونه يوجه النداء إلى المؤمنين أولًا: للتنبيه على أن امتثال ما ذكر سواء كان أمرًا أو نهيًا من مقتضيات الإيمان، ولهذا خوطب به المؤمن.

ثانيًا: الدلالة على أن مخالفة هذا من نواقص الإيمان؛ أي: من منقصات الإيمان.

الثالث: الإغراء؛ لأنك إذا وصفت الإنسان وقلت: يا مؤمن! فإن هذا يحثه، ويجعله يقدم، كما لو قلت: يا أيها الرجل، فتحثه وكأنك تقول: مقتضى رجولتك كذا وكذا.

وقوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: إذا خرجتم

ص: 89

مجاهدين في سبيل الله؛ لأن الضرب يكون في الأرض وتختلف النيات فيه، كما قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] فهؤلاء هم التجار، وهؤلاء مجاهدون فقوله:{إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: خرجتم مجاهدين في سبيل الله.

وقوله: {فَتَبَيَّنُوا} هذه الآية نزلت في قوم خرجوا للجهاد فأصابوا قومًا قالوا: أسلمنا، لكنهم لم يقولوها بهذا اللفظ، بل قالوا: صبأنا، فظنوا أن معنى قولهم: صبأنا أي: بقينا صابئين؛ أي: غير مسلمين، فقاتلوهم، فقال الله عز وجل:{فَتَبَيَّنُوا} وفيه قراءة: "فتثبتوا" في الموضعين، يعني: تقرأ {فَتَبَيَّنُوا} أو تقرأ "فتثبتوا" وعلى هذا فليس فيها إلا قراءتان، بمعنى أنك إذا قرأت الأول {فَتَبَيَّنُوا} فاقرأ الثاني {فَتَبَيَّنُوا} ، وإذا قرأت الأول "فتثبتوا" فاقرأ الثاني "فتثبتوا"، ولا يجوز أن تخالف فتقرأ الأول {فَتَبَيَّنُوا} والثاني "فتثبتوا" أو بالعكس.

وقوله: {فَتَبَيَّنُوا} أي: اطلبوا بيان الأمر، والتبين نتيجة التثبت، ولهذا كانت القراءتان بمنزلة المعنيين اللذين يترتب أحدهما على الآخر، والذي يترتب على التثبت هو التبين؛ لأنه يجب أن يتثبت أولًا ليتبين له الأمر، فيكون في مجموع القراءتين فائدة عظيمة، أنك تتثبت وبالتثبت يتبين الأمر، فلا تستعجل.

وقد سبق ذم المستعجلين في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

فقوله: {فَتَبَيَّنُوا} أي: فتثبتوا، ولا تقدموا على فعل شيء

ص: 90

تندمون عليه، وما أكثر ما يندم الإنسان إذا أقدم على شيء قبل التبين، حتى في خاصة نفسه، فلو أنه أراد أن يفعل فعلًا ثم بمجرد ما طرأ على نفسه أو على قلبه فعل قبل أن يتروى في الأمر، وقبل أن ينظر النتائج فستجده يندم، فكيف إذا كان الفعل متعلقًا بغيره؟ يكون أشد. وكثيرًا ما يدخل الإنسان بيته فيجد الولد يصيح فيقول: ما لك يا بني؟ ! فيقول: ضربني أخي، ثم ينهال الأب ضربًا على الأخ الذي ادعى الصغير أنه ضربه، فإذا تبين الأمر فقد يكون الخطأ من الصغير، فنقول: تثبت، ولا تقدم حتى تتبين.

وسبب ذلك: أن الإنسان تأخذه الغيرة فيندفع، والغيرة إذا لم تكن مضبوطة بحد من الشرع وحد من العقل أصبحت غِيرة، والغِيرة هي: فساد الطعام في المعدة، حتى إذا تجشأ الإنسان ظهر لها رائحة كريهة، وكأنها اللحم المنتن، فالغيرة لا بد أن تكون مضبوطة بحد من الشرع والعقل، ولهذا قال:{فَتَبَيَّنُوا} .

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} {السَّلَامَ} ، فيها قراءتان:"السَلَم" و"السلام"، وقوله:{لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} أي: مد إليكم السلام، وأبلغه إياكم؛ لأنه مسلم، فالسلام هنا بمعنى الإسلام، لا تقولوا له:{لَسْتَ مُؤْمِنًا} بل خذوه بظاهر حاله؛ لأن هذا هو الواجب علينا أن نجري الأحكام في الدنيا على ظاهر الحال؛ لأننا لا نعلم ما في القلوب، وأما في الآخرة فالأحكام تجري على ما في القلوب، كما قال تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق: 9]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)}

ص: 91

[العاديات: 9 - 10]؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يعتني بعمل القلب أكثر مما يعتني بعمل الجوارح؛ لأن عمل الجوارح قد يدخلها الهوى، وقد يتصنع الإنسان بعمله للدنيا، ولكسب الناس، وللجاه، وللمال، ولغير هذا، لكن عمل القلب لا يمكن أن يتصنع فيه الإنسان؛ لأنه لا يقع إلا بإخلاص إذا كان صالحًا.

وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كأن الله عز وجل يشير إلى التوبيخ لهؤلاء القوم الذين تعجلوا؛ فإن منهم من يريد الغنيمة، ولذا قال:{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ؛ لأن كل ما في الدنيا فإنه عرض أي عارض يزول، كما هو الواقع، فالدنيا لا شك أنها عرض، وأنها تزول، وأن الإنسان يزول عنها، فأنت إما أن تفقد الدنيا، وإما أن تفقدك الدنيا، فكل إنسان إما أن يفتقر ويفقد ما عنده من الدنيا، وإما أن يموت فيفقده المال، ولهذا سمى الله سبحانه متاع الدنيا عرضًا؛ لأنه يزول، وأما الباقي فهو ثواب الآخرة، قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16 - 17].

وقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} سبحان الله! لما وبخهم على إرادة الغنيمة في هذه القصة التي وقعت وعدهم بأن هناك مغانم كثيرة، كما قال تعالى في سورة الفتح:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، فالله سبحانه عنده مغانم كثيرة، وما أكثر المغانم التي غنمها المسلمون في غزواتهم، غنموا أموالًا كثيرة حتى قيل: إنه كان يؤتى بالدنانير وتوضع في المسجد كأنها سفرة من طعام، أي ليست في الأكياس أو الجروب، بل توضع على الأرض كأنها سفرة من طعام، أو كأنها تل من رمل، وغنم

ص: 92

الناس غنائم عظيمة كثيرة في زمن الفتوحات الإسلامية.

قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي: كحال هؤلاء القوم كنتم من قبل؛ أي: كنتم أنتم كفارًا قبل أن تكونوا مؤمنين تجاهدون الكفار على أن تكون كلمة الله هي العليا، أو أن المعنى كنتم مستضعفين فلم تجهروا بإسلامكم فلما قويتم جهرتهم به.

قوله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} المن هو: العطاء بلا ثمن؛ أي: أعطاكم الله سبحانه عطاءً بلا ثمن إلا الشكر، والشكر في الواقع ليس ثمنًا للنعمة؛ لأن الله تعالى لا ينتفع به، وإنما الذي ينتفع به هو العبد الشاكر. فإذًا: نعمة الله عليك بالتوفيق للشكر نعمة عليك، ولو شاء الله تعالى ما شكرت، وفي هذا يقول الشاعر:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام واتصل العمر

فإذا أعطاك الله خيرًا دينيًا أو دنيويًا ثم شكرته فتوفيقك للشكر نعمة تحتاج إلى شكر، فإذا شكرت فهذا التوفيق للشكر صار نعمة أخرى، وإذا شكرتها صار نعمة أخرى، إذًا: لا يمكن أن تبلغ شكر الله عز وجل، ولهذا كان من الأذكار الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:"لا أحصي ثناء عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك"

(1)

ومع ذلك يمن الله علينا بالإسلام، ونسلم، ويجازينا عليه، ثم يقول:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]

(1)

رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، حديث رقم (486) عن أبي هريرة.

ص: 93

فيا سبحان الله! أنت المحسن إلينا أولًا وآخرًا، وما عملنا بالنسبة لإحسانك؟ ! بل عملنا من إحسانك إلينا، ثم هو سبحانه يقول:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} ، ويقول:{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 22] سبحان الله! من الذي وفقنا لهذا السعي هو الله عز وجل، فيشكرنا على ذلك وهو الذي وفقنا لذلك.

والحقيقة أن الإنسان مملوء من نعم الله عز وجل، ولا يمكن أن يحصي نعمة الله عز وجل كما قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ولهذا قال:{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .

وقوله: {فَتَبَيَّنُوا} أعادها مرة أخرى للتوكيد؛ ولأهمية الأمر، والتوكيد للشيء يدل على أهميته، ولهذا قال:{فَتَبَيَّنُوا} .

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} إشارة إلى أنكم لو تعجلتم وزعمتم، أو أظهرتم للناس أنكم متريثون فإن الله لا يخفى عليه حالكم، فهو يعلم حالكم، و"الخبير": هو: العليم ببواطن الأمور.

والفرق بين الخبير والعليم:

أن الخبير يختص ببواطن الأمور، والعليم بظواهرها، ولكن العليم إذا ذكر وحده شمل العلم ببواطن الأمور وظواهرها، وإذا ذكر مع الخبير صار الخبير هو العليم ببواطن الأمور، والعليم هو العليم بظواهرها، مثل قوله تعالى:{قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} لماذا قدم

ص: 94

المعمول، هل المقصود إفادة الحصر كما هي القاعدة، أو المقصود شيء آخر، وما الذي يمنع الوجه الأول؟

والجواب: ليس المقصود الحصر، ويمنعه أن الله خبير بما يعملون وبغيره، بل المقصود تهديد هؤلاء، وكأنه قال - والله تعالى منزه عما أفرضه -: إن لم أعلم شيئًا فأنا عليم بما تعملون، فيكون فائدة ذلك ليس الحصر؛ لأن الله يعلم ما عمل هؤلاء وغيرهم، وإنما المقصود التهديد، يعني: لو فرض أني لا أعلم شيئًا فأنا عليم بما تعملون.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أهمية الحكم المذكور فيها، ووجهه: التصدير بالنداء.

2 -

أن امتثاله من مقتضيات الإيمان؛ لأنه صدر بتوجيه الخطاب للمؤمنين.

3 -

فضيلة المؤمنين؛ حيث يخاطبهم الله عز وجل بما شاء من أحكام، ولا شك أن مخاطبة الله للإنسان لشخصه أو لوصفه لا شك أنها شرف، والناس يتدافعون عند ملوك الدنيا، فإذا قال هذا الملك: كيف أصبحت يا فلان؟ ! فإنه يعده شرفًا، فإذا وجه الله الخطاب للمؤمنين كان ذلك شرفًا لهم.

4 -

وجوب التثبت في الأمور، حتى في الجهاد في سبيل الله فلا بد أن تتثبت، وجه ذلك قوله:{فَتَبَيَّنُوا} وهذا فعل أمر، والأصل في الأمر الوجوب لا سيما في مثل هذه الأمور الخطيرة.

5 -

أن الواجب علينا معاملة الخلق بالظاهر، لقوله:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ولم يقل: لست

ص: 95

مسلمًا؛ لأنه ألقى السلام واستسلم، لكن لا تقولوا: لست مؤمنًا، يعني: لم يدخل الإيمان في قلبك.

6 -

التحذير من هؤلاء الناس الذين يتهمون المسلمين بأن عملهم رياء، فبعض الناس - والعياذ بالله! - إذا كره شخصًا وأُثني عليه عنده بأنه يعمل العمل الصالح قال: هذا مرائي، فيكون بهذا القول وارثًا للمنافقين؛ لأن المنافقين هم {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79].

7 -

أنه لا يجوز لنا أن نتعدى الظاهر الذي يبدو من الإنسان، حتى وإن وجدت قرائن تدل على خلاف ظاهره، والدليل:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} .

وقد وقع مثال تطبيقي لهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أسامة بن زيد رضي الله عنه وعن أبيه - وهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك رجلًا من المشركين فعلاه بالسيف، فقال الرجل لما غشيه أسامة وأدركه: لا إله إلا الله، ولكن أسامة قتله؛ يظن أنه قالها خوفًا من القتل، ولم يقلها من قلبه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول:"أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" الله أكبر! جعل يكرر هذا حتى قال أسامة: "تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ"

(1)

يعني: تمنيت أن يكون هذا في حال كفري حتى أسلم فيغفر لي ما قد سلف؛ لأن من أسلم غفر الله له ما سلف في كفره مهما كان.

فأقول: إن هذا يدل على التحذير من الحكم على الناس

(1)

تقدم (1/ 149).

ص: 96

بما يخالف الظاهر، ونحن لا نكلف ما لا نطيق، ووالله! لو أن الله جعل حكمنا على الناس على حسب الباطن لهلكنا، فمن يحقق الباطن، لا يمكن أن يحققه أحد، فنحن ليس لنا إلا الظاهر.

8 -

علم الله سبحانه ببواطن الأمور، لقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، ويدل لذلك قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الباطن بأنه الذي ليس دونه شيء، فكل شيء بأمره، وكل شيء بعلمه، وكل شيء بسمعه، وكل شيء ببصره، فعلوه عز وجل فوق كل شيء، ولا يمنع من علمه بكل شيء.

9 -

تهديد الإنسان أن يعمل ما لا يرضي الله عز وجل، يعني: لا تظن أنك إذا عملت شيئًا فإنه يخفى على الله أبدًا، ومتى آمن الإنسان بهذا - ونسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين به - فإنه لن يقدم على شيء لا يرضاه الله؛ لأنه يعلم أن الله يعلم بهذا، حتى في قلبه يحفظ قلبه من الإنحراف والإنجراف إذا علم بأن الله تعالى خبير بما يعمل، لكن هذه المسائل تحتاج إلى فطنة، وأن الإنسان دائمًا يكون مراقبًا لله سبحانه، خائفًا منه، وكلما هم بشيء ذكر عظمة الله عز وجل وعلمه بما سيعمل حتى يمتنع، نسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذلك؛ لأننا في غفلة عن هذه الأمور، وقد يغلب الهوى على الهدى.

فقد تجد الإنسان إذا هوي شيئًا فعله، ولا يفكر أن لديه رقيبًا عتيدًا، ولا يفكر أن الله سبحانه في تلك الساعة يعلم ما يفعل؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يزني الزاني

ص: 97

حين يزني وهو مؤمن"

(1)

، أي: لو كان عنده إيمان ما زنى؛ لأنه يعلم أن الله يعلمه.

* * *

* قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95 - 96].

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} {لَّا} : هذه نافية، وقوله:{يَسْتَوِي} : فعل مضارع، وقوله:{الْقَاعِدُونَ} : فاعل، وقوله:{وَالْمُجَاهِدُونَ} : معطوف على قوله: {الْقَاعِدُونَ} ، وذلك أن من الناس من تمنى على الله الأماني، تمنى أن يكون مثل المجاهدين في سبيل الله وهو قاعد، وهذا لا يمكن، ولهذا نفى الله المساواة فقال:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: القاعدون عن الجهاد.

ثم قال: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وفي {غَيْرُ} قراءتان: الرفع على أنها صفة لـ {الْقَاعِدُونَ} ، والثاني: النصب على أنها مستثناة، وكلاهما قراءتان سبعيتان صحيحتان، فيجوز أن تقرأ:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} أو {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وهذا فيما بينك وبين نفسك، أو فيما بينك وبين الذين يفهمون، أما عند العامة فلا تذكر لهم

(1)

رواه البخاري، كتاب المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه، حديث رقم (2343)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية

، حديث رقم (57) عن أبي هريرة.

ص: 98

قراءتين؛ لأن في ذلك مفسدتين: خاصة وعامة، الخاصة أنهم يتهمونك بالخطأ، ويقولون: صلينا خلف إمام يلحن ويقول في قراءته: "لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُوْلي الضَّرَرِ" والذي في المصحف: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إذًا: هذا إمام لا يصلح؛ لأنه يلحن.

والمفسدة العامة: أن الناس إذا قيل لهم: إنه لم يلحن، ولكنه قرأ بقراءة ثانية، ربما تهبط عظمة القرآن في نفوسهم، ويقولون: كيف يختلف القرآن؟ سبحان الله! فلهذا لا ينبغي أن يقال لكل إنسان: إن في هذا قراءتين كما قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون" أي: بما يمكنهم معرفته من غير نفور "أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ "

(1)

، والجواب: لا، إذًا: حدث الناس بما تبلغه عقولهم، وبما يمكن أن يخدموه ويعرفوه، وليس معنى قوله:"حدثوا الناس بما يعرفون" أن تحدثوهم بما كانوا قد عرفوه؛ لأن هذا لا فائدة فيه؛ فالذي قد عرفوه لا حاجة للتحديث به، اللهم إلا على سبيل التذكير بعد الغفلة فهذا يمكن.

وقول الله عز وجل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الضرر الذي يسقط وجوب الجهاد بيَّنه الله تعالى في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، فهذه الأعذار الثلاثة هي التي تسقط وجوب الجهاد، وقال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} بشرط {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] فهؤلاء هم أهل العذر.

وقوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} المجاهد:

(1)

رواه البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم (127).

ص: 99

هو الذي بذل جهده؛ أي: طاقته في إدراك ما يريد، وقوله:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في شريعة الله، وهذا يشمل القصد والتحرك، فالقصد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"

(1)

، والتحرك: أن يكون الجهاد على وفق الشرع، بحيث نقوم به حينما يكون فرضًا أو سنة، ونحجم عنه حينما يكون ضرره أكثر من التحرك به.

مثلًا: لو أن الأمة الإسلامية عندها تأخر في السلاح وفي العَدَد والعُدد أيضًا، والأمم ضدها أقوى منها سلاحًا وأكثر عددًا، فليس من المستحسن أن نقاتل، ولهذا لم يوجب الله القتال على الأمة الإسلامية إلا حين كانت مستعدة وقادرة، وأمر بالإستعداد فقال:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

وأما قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249]، فإن هذه المسألة خاصة في بدر، ولهذا قال الله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] فأجاز للناس أن يفروا من عدوهم إذا كانوا أكثر من مثليهم.

إذًا قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يشمل معنيين:

المعنى الأول: القصد، بأن يكون قصد المجاهد إقامة شريعة الله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.

والمعنى الثاني: أن يكون على وفق الشريعة؛ لأن {فِي} للظرفية، والمظروف قوله:{سَبِيلِ اللَّهِ} فإذا قلت: الماء في

(1)

تقدم (1/ 526).

ص: 100

الكأس، فالظرف: الكأس، والمظروف: الماء، والجهاد في سبيل الله لا بد أن يكون في سبيل الله؛ أي: في شرعه الذي شرعه.

وقوله: {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} الباء هذه كقولك: قطعت بالسكين، وضربت بالعصا، فهي للتعدية، يعني: أنها لبيان الأداة التي حصل بها الجهاد، والجهاد يكون بالأموال، ويكون بالأنفس، وقدم الله الجهاد بالأموال لسببين:

السبب الأول: أنه أهون على الإنسان، فالمال أهون على الإنسان في الغالب.

والشيء الثاني: قد يكون نفعه أكثر؛ لأن الإنسان بنفسه يقاتل، ويقتل من شاء الله، لكن إذا كان ذا مال كثير وبذل أموالًا عظيمة فإنه يموَّن من المجاهدين عشرات أو مئات أو أكثر.

وقوله: {وَأَنْفُسِهِمْ} يعني: ذواتهم.

ثم بيَّن الله عز وجل وجه انتفاء الإستواء وقال: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ، وهذه الدرجة لم يبينها الله عز وجل، لكن قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] يستفاد منها أن هذه الدرجة درجة عظيمة كبيرة ليست هينة، وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله

(1)

.

وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} "كُلًّا" نصبت؛ لأنها مفعول مقدم، و {الْحُسْنَى} مفعول ثانٍ، ولا يكون هذا من باب الإشتغال؛ لأن العامل لم يشتغل بضمير المفعول.

(1)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله (2790) عن أبي هريرة.

ص: 101

وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} {الْحُسْنَى} هي: الجنة كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال:"الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله"

(1)

، فالحسنى إذًا: الجنة، وهي وصف لموصوف محذوف تقديره: وعد الله الموعدة الحسنى، وهي اسم تفضيل، يعني: لا غاية في الحسن فيما سواها، بل كل ما يوجد من الحسن فهو دونها؛ لأن الحسنى اسم تفضيل؛ أي: أعلى ما يكون الحسن.

وقوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} قال في الأول: {دَرَجَةً} وهنا قال: {أَجْرًا عَظِيمًا} ، فالأول في المنزلة، والثاني في حجم الأجر والثواب.

وقوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} الله أكبر! {دَرَجَاتٍ} هذه بدل، أو عطف بيان من قوله:{أجْرًا} .

وقوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} وقد أبهمت في الآية، لكن قال الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:"إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله"

(2)

.

وقوله: {وَمَغْفِرَةً} أي: مغفرة للذنوب.

وقوله: {وَرَحْمَةً} أي: تيسيرًا للمطلوب، وباجتماع المغفرة والرحمة يزول المرهوب ويحصل المطلوب، فيزول المرهوب بالمغفرة؛ لأن الذنب الذي حصل واستحق العقوبة عليه يغفر له، وبالرحمة يحصل المطلوب، والرحمة هي فوق المغفرة؛ ولهذا

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رواية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه (181).

(2)

تقدم ص 101.

ص: 102

تأتي المغفرة سابقة للرحمة في الغالب؛ لأنه كما يقال: التخلية قبل التحلية. والمغفرة تكررت في القرآن الكريم وفي غير القرآن أيضًا، وهي مشتقة من المِغفَر، وهو: الخوذة، وهي: عبارة عن شيء مثل الإناء من الحديد يلبس على الرأس حتى يُتقى بها السهام، ويتقى بها السيف. ومعنى مغفرة الذنوب: ستر الذنب، والتجاوز عنه؛ لأن هذا مقتضى الإشتقاق، فالذين يقولون: الغَفْر في اللغة: الستر، لم يحيطوا بالمعنى إلا إذا قالوا: الوقاية؛ لأنه ليس كل ساتر واقيًا.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

نفي التساوي بين الناس، والعجب أننا نسمع من يدندن كثيرًا فيقول: إن دين الإسلام دين المساواة، وهذا غلط على دين الإسلام، فدين الإسلام ليس دين المساواة، ولكنه دين العدل، والعدل هو: إعطاء كل أحد ما يستحقه؛ ولذلك تجد أكثر ما في القرآن نفي المساواة، وليس إثباتها؛ كقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الرعد: 16]، وكقوله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] وهلم جرا.

فالقول بأن الإسلام دين المساواة في الحقيقة قد ينبني عليه مبدأ خطير، وهو:

أولًا: تسوية الذكور مع الإناث وأن تفضيل الذكور على الإناث يعتبر مخالفًا لدين الإسلام.

ثانيًا: الإشتراكية، بتسوية الناس في الرزق، بحيث نأخذ من مال الغني ونعطيه الفقير؛ لأن الدين دين المساواة، ولو قالوا:

ص: 103

الدين دين المواساة لكان صحيحًا؛ ولهذا تشرع التعازي في المصائب، وما أشبه ذلك.

2 -

حكمة الشريعة حيث لا تساوي بين المفترقين كما أنها لا تفرق بين المتساويين؛ فالشريعة الإسلامية من لدن حكيم خبير، فلا يمكن أن تجد فيها حكمين متناقضين، ولا يمكن أن تجد فيها شيئين متساويين ثم يختلفان في الحكم أبدًا، بل إذا تراءى لك أن هذين الشيئين متساويان وقد اختلفا في الحكم شرعًا فأعد النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين لك، فإن لم يتبين لك فاتهم فهمك، ولا تتهم الأحكام الشرعية.

3 -

أن من قعد عن الجهاد لضرر فإنه كالذي أتى بالجهاد، لقوله:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، ثم استثنى فقال:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ، فأولو الضرر مساوون للمجاهدين، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك:"إن في المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم"، قالوا: كيف يا رسول الله! وهم في المدينة؟ ! قال: "حبسهم العذر"

(1)

.

ويقاس على ذلك كل من تخلف عن عبادة لعذر، ولذلك جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"

(2)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، حديث رقم (4161)؛ عن أنس بن مالك، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر، حديث رقم (1911) عن جابر بن عبد الله.

(2)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، حديث رقم (2834) عن أبي موسى.

ص: 104

4 -

فضل الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، ووجهه: أنهم أعلى درجة من القاعدين الذين لا يجاهدون.

5 -

أن الجزاء من جنس العمل، لقوله:{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ، ويلزم من هذه الفائدة: أن تفاضل الجزاء يدل على تفاضل العاملين، ويمكن أن يستنبط منه فائدة ثانية وهي: الإستدلال به على ما ذهب إليه أهل السنة من أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما هو معروف.

6 -

حسن الإحتراس في كلام الله عز وجل، وجهه: أن الله لما ذكر فضل المجاهدين على القاعدين، فربما يتوهم الواهم نزول درجة القاعدين من المؤمنين، فأزال الله هذا الوهم بقوله:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، وهذه طريقة القرآن، وانظر إلى المثال الآخر المطابق لهذا، وهو قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وانظر إلى المثال الثالث:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] الشاهد في قوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ، فهذه ثلاثة أمثلة تفيد أنه من بلاغة الكلام الإحتراس بدفع ما يتوهم وقوعه.

7 -

البشارة لعامة المؤمنين من القاعدين والمجاهدين بالحسنى، لقوله:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ، فهل ينبني على هذه الفائدة أن نشهد لكل مؤمن أنه في الجنة؟ الجواب: أما على سبيل العموم فنعم، وأما على سبيل الخصوص فنتوقف على ما جاء به النص، فمثلًا: نحن نقول: الصحابة كلهم وعدهم الله الجنة: المجاهد، والقاعد، لكن الشخص بعينه لا يمكن أن نشهد له إلا إذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 105

وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: من أثنى عليه الناس خيرًا فإننا نشهد له بالجنة، واستدل لذلك بقول الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، واستدل بما ثبت في السنة حيث مرت جنازة فأثنى عليها الحاضرون خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت"، ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شرًا فقال:"وجبت"، فقالوا: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال: "أما الأول فأثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار"، ثم قال:"أنتم شهداء الله في الأرض"

(1)

.

فاستدل شيخ الإسلام رحمه الله بهذا على أنه تجوز الشهادة لمن اتفقت الأمة على الثناء عليه، وضرب لذلك أمثلة بالأئمة المشهورين المشهود لهم بالعدالة والإيمان والتقوى، مثل: الأئمة الأربعة: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، ومثل سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة رحمهم الله ممن اتفقت الأمة على الثناء عليهم.

8 -

أنه لا فضل أعظم من الجنة، وتؤخذ من قوله:{الْحُسْنَى} لأن الحسنى اسم تفضيل مؤنث أحسن.

9 -

الحث على الجهاد في سبيل الله، وجه الدلالة: تفضيل الله عز وجل للمجاهدين على القاعدين بالدرجات.

10 -

عظم منَّة الله سبحانه على العباد؛ حيث جعل إثابتهم

(1)

رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، حديث رقم (1301)؛ ومسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى، حديث رقم (949) عن أنس بن مالك.

ص: 106

على الأعمال مثل الأجرة التي استحقها الإنسان فرضًا على المستأجر، لقوله:{أَجْرًا عَظِيمًا} ، فسماه {أَجْرًا} ، كأجرة الأجير، مع أن الفضل لله تعالى أولًا وآخرًا، فهو الذي وفقك للعمل، وهو الذي منَّ عليك بالجزاء عليه، ويؤيد هذا المعنى قول الله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]، فكتب على نفسه الرحمة، وهو سبحانه يوجب على نفسه وعلى عباده ما شاء، ولا أحد يعترض عليه.

11 -

عظم درجات المجاهدين في سبيل الله، وجه ذلك قوله:{دَرَجَاتٍ مِنْهُ} فأضافها إلى نفسه، ومعلوم أن العطاء يعظم بعظم المعطي، فلو قلت - مثلًا -: فلان تصدق - وهو من أغنى الناس - لذهب بالك إلى أنه تصدق بشيء كثير، ولو قلت: فلان تصدق - وهو فقير - لم يذهب بالك إلا إلى أنه تصدق بشيء قليل، ولهذا قال:{دَرَجَاتٍ مِنْهُ} فإضافة الشيء إلى الله يدل على عظمته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي علَّمه أبا بكر رضي الله عنه يدعو به في صلاته:"فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني"

(1)

.

12 -

إثبات المغفرة لله، لقوله:{وَمَغْفِرَةٌ} ، وهل تثبت المغفرة لغير الله؟ الجواب: نعم، تثبت لغير الله، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)}

(1)

رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام، حديث رقم (799)؛ ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث رقم (2705) عن أبي بكر.

ص: 107

[التغابن: 14]، وقال تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43].

13 -

إثبات الرحمة لله، والرحمة التي أضافها الله إلى نفسه نوعان: منها صفة لله، ومنها مخلوق من مخلوقات الله، سماه الله تعالى "رحمة"، فمن الأول: قول الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58] فهذه صفة، ومن الثاني: قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] فالمراد بالرحمة هنا ما يكون أثرًا للمطر من النبات وغير النبات، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107]، فالمراد بالرحمة هي: الجنة، بدليل قوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود: 106] وهذه رحمة مخلوقة، ومنه قوله في الحديث القدسي للجنة:"أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"

(1)

فتبين بهذا أن الرحمة تنقسم إلى قسمين: مخلوقة، وصفة، فالمخلوقة من جملة المخلوقات، شيء بائن من الله عز وجل لا ينسب إليه إلا نسبة خلق وإيجاد، لكنه من آثار الرحمة التي هي الصفة، وأما الرحمة التي هي الصفة فهي صفة تابعة للذات؛ أي: لذات الله عز وجل.

14 -

إثبات هذين الإسمين لله وهما: الغفور، والرحيم، في قوله:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقد مر تفسيرهما.

* * *

(1)

رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، حديث رقم (4569)؛ ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، حديث رقم (2846) عن أبي هريرة.

ص: 108

* قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} [النساء: 97].

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} قوله: {إِنَّ الَّذِينَ} هذه {إنَّ} المؤكدة، وقوله:{الَّذِينَ} اسمها، وقوله:{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حال من الهاء في قوله: {تَوَفَّاهُمُ} ، وخبر {إنَّ} قوله:{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ، وما بين ذلك فهو اعتراض.

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} أي: تقبضهم، والمراد بذلك: قبض أرواحهم من أبدانهم.

وقوله: {الْمَلَائِكَةُ} الملائكة هم: عالم غيبي، محجوبون عن العباد، لهم أوصاف معلومة في الكتاب والسنة، فما علمنا فيها وجب علينا الإيمان به على ما علمنا، وما لم نعلم فيها فالواجب علينا السكوت، كما هو الشأن فيما وصف الله به نفسه.

قالوا: والملائكة: مأخوذة من الألوكة، وهي: الرسالة، لقوله تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] فإن الألوكة هي الرسالة، وبناءً على ذلك يكون فيها إعلال بالقلب؛ لأن ملائكة جمع ملأك، وأصله مألك، لكن فيها تقديم وتأخير إعلالًا صرفيًا حسب قواعد الصرف التي كتبها العلماء.

وقوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: حال كونهم ظالمي أنفسهم؛ لكونهم بقوا في أرض يجب عليهم الهجرة منها؛ لأن بقاءهم مع وجوب الهجرة معصية وظلم لأنفسهم.

قوله: {قَالوُا} أي: الملائكة.

قوله: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في أي مكان كنتم، وقيل: على أي

ص: 109

حال كنتم، فعلى المعنى الثاني تكون "في" بمعنى "على" كما هي في قوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 11] أي: على الأرض، ويكون المراد بقوله:{فِيمَ كُنْتُمْ} أي: على أي حال كنتم، بدليل قوله في الجواب:{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، أما على القول بأن المراد في قوله:{فِيمَ كُنْتُمْ} السؤال عن المكان والموضع، فيكون الجواب في قوله:{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} على تقدير شيء محذوف؛ أي: قالوا: بقينا في هذا؛ لأننا كنا مستضعفين في الأرض.

وعلى كل فالمعنيان يدوران على شيء واحد، وهو: أن هؤلاء بقوا في أرض تجب عليهم الهجرة منها، فتأتي الملائكة لقبض أرواحهم فيوبخون:{فِيمَ كُنْتُمْ} أي: لماذا كنتم في هذا المكان؟

وقوله: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} يعني: أننا نعامل معاملة الضعيف من قبل الكفار؛ أي: الذين استضعفوهم، ولكن هذا ليس بعذر، ولهذا تقول لهم الملائكة:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ؟ وهذا الإستفهام للتقرير والتوبيخ، يعني: أن أرض الله واسعة، فلماذا لا تهاجروا؟

وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا} الفاء هل هي عاطفة أو سببية؟

الجواب: إذا قلنا: سبقها الإستفهام في قوله: {أَلَمْ تَكُنْ} فهي سببية، لكن الإستفهام هو للتقرير والإثبات، وتقدير الكلام: قد كانت أرض الله واسعة، وعلى هذا التقدير تكون الفاء عاطفة والمعنى: ألم تكن أرض الله واسعة ألم تهاجروا فيها؟

ص: 110

وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} يعني: أن هناك أراضٍ غير الأرض التي أنتم مستضعفون فيها.

قوله: {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هاجر: مأخوذة من الهجر، وهو: الترك، والمهاجرة: ترك البلد الذي عاش فيه الإنسان إلى بلد آخر، حتى الذي يخرج من بلد كان مستوطنًا له ثم يستوطن بلدًا آخر يقال: إنه مهاجر؛ لأنه ترك بلده. والهجرة شرعًا هي: الإنتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وإذا جاء لفظ له معنى لغوي ومعنى شرعي في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيحمل على المعنى الشرعي؛ لأن حقيقة كل متكلم على حسب ما يقتضيه كلامه.

وقوله: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} الفاء عاطفة، أو واقعة في خبر المبتدأ في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ، وقوله:{مَأْوَاهُمْ} أي: مصيرهم، و {جَهَنَّمُ} اسم من أسماء النار، أعاذنا الله منها.

قوله: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أي: ساءت مرجعًا ومردًا، وهذا إنشاء ذم لها؛ لأن ساء مثل بئس، فهي جملة لإنشاء الذم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الملائكة تتوفى بني آدم، لقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ، وظاهر هذا اللفظ أنهم جمع، فيطابق قول الله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] أي: الملائكة؛ لأن الله تعالى قال: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وحينئذ يحصل التعارض في الظاهر بين هذه الآية وبين آيتين أخريين، هما قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}

ص: 111

[الزمر: 42] وبين قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].

والجواب عن هذا الظاهر أن يقال: نسب الله تعالى التوفي إليه لأنه بأمره، وما وقع بأمر الملك فإنه كفعله، حتى في عامة حديث الناس، ولهذا يقال: بنى عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط، وعمرو لم يبن، وإنما أمر.

وأما الجمع بين كونه ذكر في هذه الآية وأمثالها بصيغة الجمع، وفي آية السجدة بصورة الإفراد، فيقال: ملك الموت مفرد مضاف فيعم، ولا ينافي الجمع؛ لأن المفرد المضاف يعم فلا ينافي الجمع، وهذا وجه ضعيف، أو يقال: إن الملائكة تساعد ملك الموت، كما جاء في الحديث الصحيح: أنهم يأمرون الروح فتخرج من الجسد، حتى إذا لم يبق إلا قبضها تولى قبضها ملك الموت، فإضافة الوفاة أو التوفي إلى الملائكة بالجمع لأنهم أعوان لملك الموت، وإضافة التوفي إلى ملك الموت لأنه هو المباشر لقبض الروح.

وهنا يرد إشكال آخر ويقال: إننا نجد أنفسًا تقبض في المشرق وفي المغرب، وبينهما من المسافات ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فكيف يقال: إن ملك الموت واحد، وكيف يتصور أن واحدًا يقبض العديد من الناس في أماكن بعيدة متفرقة؟

فيقال: قد يكون المراد بملك الموت جنس الملك؛ أي: الملك الموكل بقبض الأرواح وإن كان أكثر من واحد، فيكون المراد به الجنس لا العين، وهذا وجه ضعيف، ويجاب بوجه آخر وهو: أن هذا من أمور الغيب، والواجب علينا في أمور الغيب أن

ص: 112

نصدق بها وإن لم تدركها عقولنا، وهذا أبلغ في التسليم لخبر الله عز وجل؛ حتى لا نتكلف في الجواب ونقول: إن ملك الموت يراد به الجنس؛ وهو أكثر من واحد، فنقول: إن الله عز وجل على كل شيء قدير، وملك الموت يقبض الأرواح وإن كانت متباعدة، وإن كانت في آن واحد، وعلينا أن نصدق ونسلم.

2 -

أن للملائكة أجسامًا تقبض الأرواح، وتخاطب وتتكلم، وكلامها مفهوم، خلافًا لمن يقول: إن الملائكة هي القوى الخيرة، وأن الشياطين هي القوى الشريرة، فإن هذا قول باطل يكذبه القرآن والسنة والإجماع، قال الله تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق.

فالصحيح الذي يجب علينا اعتقاده: أن الملائكة أجسام، وأنهم يقومون ويفعلون، ويصعدون وينزلون بأمر الله عز وجل.

3 -

أن العبرة في الأعمال بالخواتيم، لقوله:{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} يعني: أنهم في وقت الوفاة ظالمون لأنفسهم، فالعبرة بالخواتيم، ولهذا يجب على الإنسان أن يكون خائفًا من سوء الخاتمة، وأن يسأل الله سبحانه دائمًا حسن الخاتمة، وألا يموت إلا وهو مسلم.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع"

(1)

والمراد: ذراع بالنسبة

(1)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (3036)؛ ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن =

ص: 113

لقرب الأجل لا بالنسبة للعمل، لكن معناه: أنه يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى عليه إلا شيء يسير فيموت، وليس المراد حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع للوصول إليها بعمله؛ لأن الحديث هذا مقيد بالحديث الآخر:"ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"

(1)

.

وأيضًا لا يمكن أن الله سبحانه يخذل عبدًا قام بعبادته إلى أن يبقى عليه ذراع واحد ثم يخذله فيسيء خاتمته، فهذا ينافي كلام الله عز وجل ورحمته، فإذا قررنا هذا التقرير بأن المعنى يكون بينه وبينها ذراع بالمدة لا بالعمل تبين أن الأعمال بالخواتيم.

4 -

توبيخ أولئك القوم الذين يموتون وهم ظالمون لأنفسهم، توبخهم الملائكة:{قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} ، وقد سبق في التفسير معنى قوله:{فِيمَ كُنْتُمْ} .

5 -

وجوب الهجرة، وأن من لم يهاجر فإنه يموت وقد ظلم نفسه، ولكن وجوب الهجرة مشروط بشروط منها: أولًا: القدرة، لقوله في الآية الكريمة التي بعد هذه الآية:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [النساء: 98]؛ ولأن القاعدة العامة العظيمة العميقة فى الشريعة الإسلامية: أنه لا واجب مع العجز، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فيشترط لوجوب الهجرة القدرة.

= آمه

، حديث رقم (2643) عن ابن مسعود.

(1)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا يقول فلان شهيد، حديث رقم (2742)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار، حديث رقم (112) عن سهل بن سعد الساعدي.

ص: 114

ثانيًا: أن يكون الإنسان مغموصًا ومغمورًا بحيث لا يستطيع أن يؤدي شعائر دينه في بلاد الكفر، فإن كان يستطيع فإنه لا تجب عليه الهجرة، بل إذا كان يستطيع أن يدعو إلى دين الله ويجد قبولًا من الناس فربما نقول: إن بقاءه واجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ثالثًا: أن يجد مكانًا خيرًا من هذا المكان الذي هو فيه، فإن كانت الدنيا كلها متساوية في أنه لا يستطيع الإنسان إظهار دينه سواء في هذا البلد أو في هذا البلد فلا يجب؛ لأن الإيجاب هنا لغو لا فائدة منه، فكيف نقول: يجب أن تهاجر من هذا المكان إلى مكان آخر لا تستطيع فيه إظهار دينك؟ ! وما الفائدة إلا مجرد التعب والعناء والقلق واختلاف البلدان عليه، وما أشبه ذلك.

وهل الدعوة من شعائر الدين التي يهاجر الإنسان بسببها إن لم يتمكن منها؟

الدعوة محل نظر، فقد يقال: إن من أساسيات الدين الإسلامي الدعوة إلى الله عز وجل، فإذا عجز الإنسان عنها فهو آثم، وقد يقال: لا، بل الدعوة فرض كفاية، وأيضًا ليست متعلقة بشخص الإنسان، فهي عندي محل نظر. والله أعلم.

وإذا كان المسلم لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه في بلاده لكن يستطيع أن يقيمها في بلاد الكفر فهل يهاجر؟ نقول: الأولى ألا يهاجر؛ لأن هذه الحال ربما لا تدوم، فقد يغير الله الحال، وهي إن شاء الله ليست دائمة بإذن الله، وإذا هاجر أهل الخير عن البلد، ولم يبق إلا المستضعف صار الأمل ضعيفًا في إصلاح

ص: 115

البلاد، لكن إذا بقي هؤلاء الأخيار وعالجوا الأمور بحكمة، فالغالب أن الله يجعل لهم فرجًا، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين.

6 -

أن الظالم يحتج بأي حجة كانت، لقول هؤلاء:{كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} والواقع أنهم غير مستضعفين، لأن الملائكة قالت لهم:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ، لكن الإنسان إذا ابتلي حاول أن يدافع عن نفسه بأي حجة حتى وإن لم تكن صحيحة، وهذا نجده كثيرًا في مقام المناظرات بين العلماء في المسائل العقدية والعملية.

فتجد بعض العلماء - مثلًا - حين يجيب عما هو عليه من المذهب عقديًا كان أم عمليًا تجده يجيب بأجوبة باردة. فتستغرب وتقول: كيف يجيب هذا العالم النحرير بهذا الجواب غير المفيد؟ لكن مقام الضيق والضنك يحرج رأيه، فتجده يجيب بغير ما هو حق حتى في نفسه، ولو أنه رجع إلى نفسه لوجد أن إجابته غير صحيحة.

7 -

أن الشريعة إن منعت بابًا ضيقًا فتحت بابًا أوسع، وتؤخذ من قوله:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ، فالله تعالى لم يحجر عليهم الأرض، بل جعلها واسعة، وهذا كقوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5 - 6].

8 -

أن التخلف عن الهجرة الواجبة من كبائر الذنوب، لقوله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ووجه الدلالة: أنه ترتب عليها عقوبة خاصة.

ص: 116

9 -

قبح هذا المأوى الذي هو جهنم، لقول الله تبارك وتعالى:{وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فأثنى الله عليها بالذم؛ لأن ساء وحسن متضادان، فساء ذم، وحسن مدح.

10 -

يؤخذ من الآية أن النار مظلمة مجهمة، من قوله:{جَهَنَّمُ} ، ووجه الدلالة: أن جهنم من الجهمة وهي: الظلمة، وعلى هذا فتكون جهنم اسمًا عربيًا، وقيل: إن جهنم اسم فارسي، وأصله كهنام، لكن لما عُرِّب تحول إلى هذا.

11 -

يؤخذ من الآية أن الجهاد فرض كفاية؛ لأنهم لم يؤثموا، بل بُين لهم أنهم تأخروا عن القوم المجاهدين.

* * *

* قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 98 - 99].

{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} هذا مستثنى من قوله: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء: 97]، ويحتمل أن يكون استثناءً منقطعًا، وذلك أن المستضعفين لا يمكن أن يتوعدوا بجهنم، ومن المعلوم أن الفرق بين الإستثناء المتصل والمنقطع: أن الإستثناء المتصل يكون المستثنى فيه بعض أفراد المستثنى منه، وهنا لا يستقيم.

وكذلك لو قال قائل: إنها مستثناة من قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] قلنا: أيضًا لا يصح الإستثناء متصلًا؛ لأن

ص: 117

هؤلاء المستضعفين ليسوا ظالمي أنفسهم، ولهذا يترجح القول بأن الإستثناء هنا منقطع، والإستثناء المنقطع ليس المستثنى من جنس المستثنى منه، هذا من حيث المعنى.

ثانيًا: أداة الإستثناء فيه بمعنى أداة الإستدراك "لكن" فتكون "إلا" هنا بمعنى "لكن".

وفيه حكم ثالث: وهو أن المستثنى إذا كان منقطعًا وجب نصبه فيما إذا كان الكلام تامًا منفيًا، بينما إذا كان المستثنى متصلًا والكلام تامًا منفيًا فيجوز فيه الوجهان؛ أي: النصب على الإستثناء أو الإتباع على البدلية.

قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} يعني: الذين أصابهم الضعف، فالمستضعف بمعنى أصابه الضعف.

وقوله: {مِنَ الرِّجَالِ} {مِنَ} هذه بيانية، تبين المستضعفين؛ لأن "ال" في المستضعفين اسم موصول، والإسم الموصول من أقسام المبهم؛ كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6] فـ "من" هنا بيانية.

قوله: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} ، الولدان إما ذكور وإما إناث، والرجال: جمع رجل، والرجل إنما يكون إذا بلغ، والنساء كذلك جمع امرأة، والمرأة لا يطلق عليها امرأة إلا إذا بلغت.

إذًا: المستضعفون من الرجال إما لمرض، أو كبر، أو غير ذلك مما لا يتمكنون معه من الهجرة، وكذلك يقال في النساء، أما الولدان فالغالب عليهم الضعف مطلقًا؛ لأنهم كما قال عز وجل:{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} يعني: لا يستطيعون أن

ص: 118

يتحيلوا حتى يخرجوا، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} فيأتون الأمر على وجه صريح، فهم لا حيلة عندهم فيمكثون، ولا يستطيعون الخروج صراحة، فامتنع عليهم الخروج، والحيلة: فِعْلة من الحول، لكنها قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وإذا كانت من الحول فالحول من التحول؛ وكأن المحتال يتحول من حال إلى أخرى على وجه لا يشعر به الغير.

وقوله: {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي: طريقًا ينفذون إليه بأنفسهم فيهاجرون.

قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ} الفاء: حرف عطف، و"أولاء" اسم إشارة يعود على المستضعفين.

قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْا} جملة {عَسَى} وما بعدها في محل ظرف خبر قوله: {أُولَئِكَ} ، و {عَسَى} فعل للترجي، وقيل: إنها تأتي للتوقع، والفرق بين الترجي والتوقع: أن الترجي رجاء ما لم يوجد سبب وقوعه لكنه ممكن، والتوقع ما يوجد سبب وقوعه، فيتوقع أن يكون.

وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} هل هذا من الرجاء أو من التوقع؟ إذا نسبت {عَسَى} إلى الله فهي من التوقع، ولهذا قال بعض العلماء: إن {عَسَى} من الله واجبة، ولا يمكن أن تأتي للترجي؛ لأن الله تعالى لا يترجى شيئًا، بل هو قادر على كل شيء، والرجاء إنما يكون من شخص قد يتعسر عليه أن يفعل، أما الله عز وجل فلا، وعلى هذا فتكون للتوقع، يعني: هؤلاء يتوقع أن الله يعفو عنهم.

لكن قول بعض العلماء: {عَسَى} من الله واجبة إذا قلنا

ص: 119

بهذا فلماذا عبر بـ {عَسَى} التي لا تعطي الإنسان يقينًا بالوقوع؟

والجواب: نقول: لئلا يغتر الإنسان فيقول: أنا معفو عني، ثم لا يهتم، بل يقال: أنت يتوقع أن الله يغفر لك، ويتوقع أن تكون من المهتدين، في مثل قوله:{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقوله:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]، وأمثلة هذا كثيرة، حتى لا يغلب الطمع على الإنسان فيأمن من مكر الله.

وقوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} {يَعْفُوَ} : العفو هو: التجاوز عن الذنب، ولكنه لا يكون ممدوحًا إلا إذا كان مع القدرة، أما إذا كان بدون قدرة فهو مذموم؛ لأنه عجز وذل، ولهذا يقال دائمًا: فلان يعفو مع القدرة؛ لأن هذا هو محل العفو المحمود؛ كقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149] يعني: يعفو مع القدرة على المؤاخذة، فاعفوا أنتم عنهم حتى يعفو الله عنكم.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

عفو الله عز وجل عن هؤلاء الصنف من الناس في تركهم للهجرة.

2 -

أن الدين الإسلامي دين اليسر والسهولة، وأنه مع وجود المشقة ينتفي الحرج.

3 -

أن من الرجال البالغين من لا تجب عليهم الهجرة، وذلك لكونهم مستضعفين.

4 -

أن الواجب الوصول إلى القيام بالواجب بأي حيلة

ص: 120

تكون، لقوله:{لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ، وهل يستدل بهذا على جواز استعمال الحيل؟

الجواب: نقول: لا، بل الحيل فيها تفصيل:

ما كان تحيلًا على واجب فهو واجب، وما كان تحيلًا على محرم فهو محرم، وما كان تحيلًا على مباح فهو مباح، وهذا الأخير بشرط ألا يؤدي ذلك إلى اتهام المحتال، وعدم الثقة بقوله أو بفعله، والإحتيال على إظهار الحق بإيهام خلاف المقصود واجب، مثل صنيع سليمان عليه الصلاة والسلام في المرأتين المتنازعتين في طفل إحداهما، قالت الكبرى: هو لي، وقالت الصغرى: هو لي، فقال: ائتوا بالسكين لأشقه بينكما، فقالت الصغرى: هو لها يا نبي الله! وقالت الكبرى: شقه

(1)

، فهذه حيلة، لكن على إظهار الحق.

والحيلة على المحرم كأن يحتال على الربا بصورة عقد غير مقصود؛ كمسائل العينة مثلًا، فهذا حرام.

والحيلة على مباح أن يحتال على أخيه في معاملة مباحة ليتوصل إلى مقصوده بها، فهذه جائزة بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تهمة الإنسان وعدم الثقة بقوله أو فعله، هذا إذا قلنا: إن الحيلة هي التوصل إلى الشيء بما يخالف ظاهره، أما إذا قلنا: إن الحيلة المراد بها الحول، وأصله أنهم لا يستطيعون قوة على الهجرة، فإنه لا يكون فيها دلالة أصلًا على التحريم.

5 -

أنه تجب الهجرة على من يقدر عليها من أي سبيل،

(1)

رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب إذا ادعت المرأة ابنًا (6769)؛ ورواه مسلم، كتاب الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة.

ص: 121

سواء كان من السبيل السلطاني الأعظم الذي يمشي معه الناس، أو من السبل الأخرى، لقوله:{وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} وسبيلًا نكرة في سياق النفي فتعم.

6 -

أنه يرجى لهؤلاء أن يعفو الله عنهم، لقوله:{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فالرجاء هنا باعتبار ما يكون في قلب المخاطب، أما باعتباره منسوبًا إلى الله فقال بعض السلف:{عَسَى} من الله واجبة، يعني: أن الله وعدهم أن يعفو عنهم.

7 -

إثبات اسمين من أسماء الله هما: العفو، والغفور، فالعفو هو: المتجاوز عن السيئات، والغفور: هو الماحي لها، لكن إذا اجتمع العفو والغفور، صار المراد بالعفو ما يقابل ترك الواجب، والغفور ما يقابل فعل المحرم؛ أي: عفو عن التفريط في الواجب، غفور عن فعل المحرم.

8 -

إثبات الصفتين الدال عليهما قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} ، وذلك لأن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة، وليست كل صفة متضمنة لاسم، وبهذا عرفنا أن الصفات أوسع من الأسماء؛ لأن كل اسم لا بد أن يتضمن صفة، وليس كل صفة يشتق منها اسم، بل من الصفات ما ليس معنويًا أصلًا مثل الوجه، واليد، والعين، فهذه ليست معنوية، فهي صفات خبرية لولا إخبار الله بها ما اعتقدناها ولا علمنا بها.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100].

ص: 122

قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} .

الإعراب:

{وَمَنْ يُهَاجِرْ

يَجِدْ} هذه جملة شرطية، وفعل الشرط قوله:{يُهَاجِرْ} ، وجوابه قوله:"يجد"، وإذا كان فعل الشرط مضارعًا وجواب الشرط مضارعًا وجب جزمهما، أما إذا كان فعل الشرط ماضيًا وجوابه مضارعًا فإنه يجوز الرفع، قال ابن مالك:

وبعد ماضٍ رفعك الجزا حسن

ورفعه بعد مضارع وهم

فيجوز مثلًا من قام يفوز، أما: من يقم يفز فصحيح أيضًا، ومن يقوم يفوز ضعيف.

وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فعل الشرط قوله: {يَخْرُجْ} ، وجوابه قوله:{فَقَدْ وَقَعَ} ، واقترن بالفاء لأن الجواب سبق بـ "قد"، وإذا وقع جواب الشرط مقترنًا بقد وجب اقترانه بالفاء، وضابطه: أنه كما كان الجواب لا يصلح أن يلي أداة الشرط وجب اقترانه بالفاء.

قال ابن مالك:

واقرن بفا حتمًا جوابا لو جعل

شرطًا لأن أو غيرها لم ينجعل

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} لا تفيد الحدوث، والمقصود: تحقيق ثبوتها لله.

يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} سبق لنا معنى الهجرة، وأنها لغة: بمعنى الترك، وشرعًا: ترك البلاد التي لا يقيم الإنسان فيها دينه إلى بلاد أخرى

ص: 123

يقيم فيها دينه، وعبر عنها بعضهم بقوله: الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.

وقوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} {فِي} للظرفية، وسبيل الله تعالى طريقه، والهجرة في سبيل الله تتضمن شيئين: الإخلاص، والتزام الشريعة؛ لأن من نوى غير الله لم يكن في سبيل الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة وحمية وليرى مكانه، فقال:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"

(1)

.

والثانية: أن تكون ضمن الشريعة لا مخالفة للشريعة.

إذًا: في سبيل الله إخلاصًا واتباعًا.

قوله: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ} الأرض المراد بها هنا: الجنس، يعني: أرض الله عمومًا.

قوله: {مُرَاغَمًا} أي: مهاجرًا يرغم به أعداءه، وبناءً على هذا تكون مراغمًا صفة لموصوف محذوف؛ أي: مهاجرًا مراغمًا، يعني: يراغم بها أعداءه؛ لأن الإنسان إذا خرج من بلاد الكفر التي ضيق عليه فيها إلى بلاد أخرى فإنه يراغم الأعداء، والصحابة رضي الله عنهم لما هاجروا إلى الحبشة أرسلت قريش باسمها من يتكلم فيهم عند النجاشي؛ لأن هذا يراغمهم، ويعرفون أنهم إذا خرجوا ربما يكونون أمة، وهذا هو الذي وقع.

وكما في قصة أبي بصير رضي الله عنه حينما هاجر من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية؛ فإنه لحقه اثنان من المشركين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده، فلما وصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو

(1)

تقدم 1/ 526.

ص: 124

بصير عنده - قال: ارجع معهم، الشرط، فانطلق معهم راجعًا إلى مكة، وفي أثناء الطريق بعد أن أمنا منه قال لأحدهما وأخذ سيفه: هذا سيف ما شاء الله وأخذ يمدح السيف، فقال صاحب السيف: نعم، وكم ضربت به من هامة! فقال: أعطني أنظر إليه، فأعطاه إياه فسله فضرب هامته به، والصاحب الثاني هرب إلى المدينة، فلما وصل إلى المدينة وإذا أبو بصير رضي الله عنه في إثره، فقال أبو بصير رضي الله عنه: يا رسول الله! إن الله قد أوفى بعهدك أو بذمتك سلمتني لهم، لكني نجوت، فقال صلى الله عليه وسلم:"ويل أمه! مسعر حرب لو يجد من ينصره"

(1)

، وعرف أبو بصير أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيرده، فخرج من المدينة إلى الساحل، وبقي عند الساحل، وكلما أتت عير لقريش غار عليها، فسمع به أناس من أهل مكة من المستضعفين وغير المستضعفين فخرجوا إليه، فكوّنوا جماعة، فتعبت قريش من ذلك، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها ألغت هذا الشرط.

إذًا: صار في هجرة الإنسان من بلاد الشرك مراغمًا لأهل البلد، يعني: ترغم بها أنوفها، والرغام هو: التراب، ورغم الأنف بالتراب معناه غاية الذل.

وقوله: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا} قد تشير إلى تجمع القوم؛ لأنه كان المتبادر أن يقال: "مراغمًا عاصمًا" لكنه قال: {كَثِيرًا} ولعل ذلك - والله أعلم - إشارة إلى أنه سيجتمع إليه من يكثر بهم.

وقوله: {وَسَعَةً} أي: سعة في الرزق، وفي الدين، وفي

(1)

رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2581).

ص: 125

الصدر، وفي كل شيء، سعة في الرزق ولا يقول: إني غادرت بلدي فمن أين آكل وأشرب؟ وسعة في الدين؛ لأنه ليس له أحد يقوم ضده ويضيق عليه في دينه، وسعة في الصدر فتتسع بها صدورهم؛ لأنهم كانوا في بلاد الشرك مخنوقين ومضيقًا عليهم، والآن هم أحرار طلقاء.

وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ} يقال: إن رجلًا خرج من مكة مهاجرًا، وإنه مات في التنعيم أثناء سفره، فقيل: بطلت هجرته، فأنزل الله هذه الآية:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .

وقوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ} انظر إلى قوله: {مِنْ بَيْتِهِ} فالبيت يحوي الإنسان، والإنسان يألفه، وهو وطنه، فيخرج من هذا البيت الأليف الذي هو الوطن مهاجرًا إلى الله ورسوله، يترك مأواه ومثواه من أجل الهجرة إلى الله ورسوله، والهجرة إلى الله بالإخلاص، وإلى رسوله بالإتباع، فيريد أن يهاجر إلى الله عز وجل ليقيم شرعه، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليتبعه وينصره أيضًا.

وقوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} يعني: ثم يموت، وكلمة {يُدْرِكْهُ} قد تعطي أنه كالفار الذي يريد أن يصل إلى مهاجره، لكن الموت لحقه فأدركه.

وقوله: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} {وَقَعَ} : بمعنى: ثبت؛ أي: ثبت أجره على الله عز وجل، والأجر هو: الثواب، ولم يقل: وقع أجره على الله ورسوله، مع أن الهجرة كانت إلى الله ورسوله؛ لأن الهجرة إلى الرسول وسيلة، والغاية هي: الهجرة

ص: 126

إلى الله عز وجل، فلهذا كان الذي يثيب على الهجرة ليس الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو الله عز وجل.

وقوله: {عَلَى اللَّهِ} سبق لنا معناها وأن {اللهِ} : يقال: إن أصلها: الإله، كالناس أصلها: الأناس، وكقولهم: هذا خير من هذا؛ أي: هذا أخير من هذا، والعرب يحذفون الهمزة أحيانًا للتخفيف، والإله فعال بمعنى مفعول، والمألوه هو: الذي تألهه القلوب، وتحبه وتعظمه في نفس الوقت، فبالمحبة يكون فعل المأمور، وبالتعظيم يكون ترك المحظور خوفًا من هذا العظيم، هذه هي اللفظة العظيمة {اللهِ} .

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سبق الكلام على مثل هذه الجملة، وأنها تفيد ثبوت هذين الإسمين لله، وما تضمناه من الصفات، فالغفور: يتضمن المغفرة، والرحيم: يتضمن الرحمة، وبالجمع بينها يحصل المطلوب، والنجاة من المرهوب؛ لأن المغفرة للذنوب التي يتخلى عنها الإنسان هي بمغفرة الله، والرحمة للأعمال الصالحة التي توصل إلى رحمة الله عز وجل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، وتؤخذ من قوله:{يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} ، فقد خرج من الضيق فوجد السعة.

2 -

أن فضل الله عز وجل على عبده أكثر من عمل عبده له، وتؤخذ من قوله:{وَيَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} فله ثوابان: المراغم، والسعة.

3 -

أن من أُذل بطاعة الله صار العز له في النهاية، وتؤخذ

ص: 127

من قوله: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا} ، فهذا الذي أُذِل هو الآن يُذل أنوف الذين أذلوه بالأمس.

4 -

أن فيها شاهدًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا"

(1)

، وتؤخذ من قوله:{وَسَعَةً} والسعة تفريج بعد الضيق والكرب.

5 -

أن من سعى في الهجرة وأدركه الموت فإن أجره ثابت كامل، وتؤخذ من قوله:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، ويقاس على ذلك بقية الأعمال فمن خرج إلى المسجد يريد الصلاة فمات في أثناء الطريق يكتب له أجر الصلاة.

يقال: إن الثواب لا قياس فيه، لجواز أن يكون تخصيص هذا العمل بهذا الثواب لحكمة لا نعلمها، لكن قال بعض أهل العلم: إن لنا شاهدًا على العموم، وهو قصة الرجل الذي مات في أثناء الطريق، وهو رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، قتلهم عمدًا، ثم جاء إلى رجل عابد، - وكلمة "عابد" معناها: أن العبادة خُلُق له - فسأله، وقال له: هل لي من توبة وأنا قد قتلت تسعة وتسعين نفسًا عمدًا؟ فاستعظم العابد هذا؛ لأنه عابد يخشى الله ويخاف عقابه، وقال: ليس لك توبة، فقتله وأتم به المائة، فهذا العابد جاهل جهلًا مركبًا، ثم دُلَّ على عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس عمدًا، فهل له من توبة؟ قال العالم: ومن

(1)

هذه الرواية عند أحمد (1/ 307)؛ والطبراني في الكبير (11/ 123) عن ابن عباس.

ص: 128

يحول بينك وبين التوبة؟ - وسبحان الله! العلم كله خير - ولكن أنت في أرض ظالم أهلها، اذهب إلى القرية الفلانية ففيها الصالحون أو كلمة نحوها، فذهب الرجل تائبًا إلى الله، وفي أثناء الطريق أدركه الموت، فنزلت عليه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة العذاب تريد أن تقبض روحه باعتبار سوابقه، وملائكة الرحمة تريد أن تقبض روحه باعتبار مآله؛ لأن الرجل خرج تائبًا، فتنازعت الملائكة أيهم يقبض روحه؟ والله تعالى هو الذي أرسلهم عز وجل اعتبارًا بما يحصل، ثم بعث الله إليهم ملكًا وحكم بينهم، فقال: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فوجدوا أنه أقرب إلى الأرض الصالحة بشبر، وقيل: إنه لما حضره الموت من شدة شوقه صار يدفع بنفسه إلى الأرض الصالحة، فتقدم هذا التقدم، فتولت روحه ملائكة الرحمة

(1)

.

قالوا: فإذا كان هذا فيمن قبلنا فنحن أفضل الأمم، فإذا شرعنا في عمل صالح وأدركنا الموت فإنه يكتب لنا، وهذا ما نرجوه من الله عز وجل.

وبناءً على ذلك نقول: من شرع في طلب العلم يريد بذلك ما يريده المخلصون في طلب العلم من حفظ الشريعة، والدفاع عنها، ونفع الخلق، ثم أدركه الموت، فإنه يكتب له ما نوى؛ لكن بشرط أن يكون شروعه شروعًا حقيقيًا، يعني يكون عنده اجتهاد وحرص، لا أن يكون المراد بذلك أن يقطع الوقت، ويقول: أنا لا يوجد لي شغل، فبدل أن أذهب للأسواق أحضر حلقات العلم، فهذا ليس

(1)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3470)؛ ورواه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 129

طالب العلم، بل طالب العلم هو الذي يفرغ نفسه تمامًا لطلب العلم.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغفور، والرحيم، وما تضمناه من صفة.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101].

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الخطاب في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} للناس جميعًا، ويدخل فيه - بالأولى - المؤمنون؛ لأنهم هم الذين يخاطبون بالتكاليف الشرعية.

وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} الضرب في الأرض هو: السفر فيها، وسمي ضربًا لأن الإنسان لا يخلو من أن يكون معه راحلة تحتاج إلى الضرب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه"

(1)

، وحمله بعض العلماء على أنه كثير الأسفار.

وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} لم يقيده الله عز وجل بكون هذا الضرب مشروعًا أو مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا.

وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} الجناح يعني: الإثم.

وقوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} زعم بعضهم أن {مِنَ} هنا

(1)

رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، حديث رقم (1480).

ص: 130

زائدة، وأن المعنى: أن تقصروا الصلاة، وعُلل هذا القول: بأن صلاة السفر فرضت ركعتين، فلا يصح أن يقال: إنه قصر منها، بل يقال: إنها قصرت، ولكن هذا القول ضعيف، كما سنبين ذلك في الفوائد.

وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا شرط للحكم الثابت، بقوله:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} فالجملة إذًا شرطية، وجواب الشرط الصحيح أنه لا حاجة إليه؛ لأنه معلوم من السياق، وقال بعضهم: إنه محذوف دل عليه ما سبق.

وقوله: {أَنْ يَفْتِنَكُمُ} أي: أن يصدكم عن دينكم، وذلك بقتالهم إياكم، أو بأسباب أخرى يصدونكم بها عن الدين.

ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} الجملة هنا موقعها مما قبلها أنها تعليل للحكم وهو قصر الصلاة.

وقلنا: إن الضرب في الأرض هو السفر فيها، ووجه تسمية السفر ضربًا: أن المسافر يحمل العصا معه ليضرب راحلته، وقد جاء الضرب في الأرض في عدة آيات، منها قوله تعالى:{لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273]، ومنها قوله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، ففي هذه الآية يبين الله سبحانه انتفاء الجناح عن قصر الصلاة إذا كان الإنسان ضاربًا في الأرض خائفًا أن يفتنه الكفار، ويبين عز وجل أن الكافرين {كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} .

وقد سبق لنا الكلام في مثل هذا التعبير {كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} وأن "كَان" هنا يراد بها: إثبات الحكم لا حدوث الحكم؛

ص: 131

لأنه لو أريد بها الحدوث لكان هذا يقتضي أن عداوتهم كانت سابقة وليس الأمر هكذا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان تيسير الله عز وجل على العباد حين يوجد السبب الذي يقتضي ذلك، وذلك بقصر الصلاة في السفر، فإن هذا لا شك تيسير على العباد، وسهلت الصلاة بالسفر من وجه آخر، وهو: جواز الجمع بين الصلاتين المجموعتين، وسهلت من وجه ثالث وهو: جواز التيمم إذا عُدم الماء.

فإن قال قائل: هذا حتى في الحضر؟ قلنا: لكنه في السفر أيسر منه في الحضر؛ لأن الحضر يجب على الإنسان أن يبحث بحثًا دقيقًا، أما في السفر فلا يلزمه أن يحمل الماء معه إلا إذا كان ذلك يسيرًا جدًا، أما أن يتكلفه بنوع من الكلفة فلا يلزم.

2 -

أن القصر ليس بواجب، لقوله:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} هكذا استدل جمهور العلماء بهذه الآية على أن القصر ليس بواجب؛ لأن الله نفى الجناح في القصر، فدل ذلك على أنه ليس بواجب، لكن هذا الإستدلال فيه نظر، وجه النظر: أنه قد ينفى الجناح أو الحرج خوفًا من توهمه، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، فهنا نفى الجناح دفعًا لتوهم بعض الصحابة أن الطواف بهما محرم؛ لأنه كان فيهما صنمان.

وقال بعض أهل العلم - وهم الأكثر -: إن القصر ليس بواجب.

ص: 132

استدل القائلون بأن القصر واجب بحديث عائشة رضي الله عنها: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر"

(1)

، فقالوا: إن قولها: "أول ما فرضت ركعتين" مع قولها: "على الفريضة الأولى"

(2)

يدل على أنه لا تجوز الزيادة على الركعتين في السفر، كما أنه لا تجوز الزيادة على الأربع في الحضر.

واستدلوا لذلك أيضًا بحديث عمر رضي الله عنه: "صلاة السفر ركعتان"

(3)

، فجزم بأن صلاة السفر ركعتان، وكذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"صلاة السفر ركعتان، وصلاة الحضر أربع، وصلاة الخوف ركعة"

(4)

.

وأما الجمهور فأجابوا عن ذلك بأن معنى قول عائشة: "أقرت على الفريضة الأولى"

(5)

أنها لم تزد، فالمراد به نفي الزيادة لا تحريم الزيادة.

ويدل لهذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما كان عثمان يتم

(1)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، حديث رقم (343)؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (685) عن عائشة.

(2)

لفظ لمسلم (685).

(3)

رواه النسائي، كتاب الجمعة، باب عدد صلاة الجمعة، (3/ 111)(1420)؛ وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب تقصير الصلاة في السفر، حديث رقم (1063)؛ وأحمد (1/ 37).

(4)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (687) عن ابن عباس.

(5)

تقدم الحديث السابق.

ص: 133

في منى أنكروا عليه، ولكنهم تابعوه، ومتابعتهم إياه يدل على أن القصر ليس بواجب؛ إذ أنه لو كان واجبًا ما صح أن يتابعوه، كما أن الإمام لو صلى خمسًا فإنه لا يتابع ولو كان ساهيًا، فكذلك إذا صلى المسافر أربعًا فإننا نقول: لو كان الواجب هو الركعتين، فلا تتابعوه على ذلك.

وهذا دليل واضح جدًا على أن القصر ليس بواجب، وهو الأقرب عندي بعد أن كنت أرجح أن القصر واجب، لكن بعد التأمل رأيت أن قول الجمهور أقرب إلى الصواب، والله أعلم.

3 -

أن قصر الصلاة ثابت في كل ما يسمى ضربًا في الأرض، لقوله:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وهذا مطلق، لم يُقيد بيومين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، فدل ذلك على أن كل ما يسمى ضربًا في الأرض فإنه تقصر فيه الصلاة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال:"كل ما يسميه الناس سفرًا وضربًا في الأرض فإنه سفر، يثبت له أحكام السفر"، ودليله: الإطلاق، ودليل آخر أنه ثبت في صحيح مسلم أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين"

(1)

.

وقال الجمهور: بل السفر هنا مطلق، لكنه قيدته السنة، وهو: يومان قاصدان، وتقريبه بالفراسخ ستة عشر فرسخًا، يعني: أربعة برد، والبرد: جمع بريد، وسميت بذلك لأنها مسافات كان يقطعها رسل البريد، فقد كانوا فيما سبق يجعلون مراحل للبرد:

(1)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (691).

ص: 134

كل أربعة فراسخ بريد، والفرسخ: ثلاثة أميال، يعني: كل اثني عشر ميلًا يكون بريدًا، فكان يذهب الفارس من هذا المكان إلى المكان الآخر وإذا بفارس آخر ينتظره، فيسلمه ما معه من الرسائل، فينطلق إلى مثله، وإذا الفارس الثالث ينتظره، وهلم جرا حتى يصلوا إلى آخر مرحلة، فلا بد من أن تكون هذه المسافة، وما دونها وإن سمي سفرًا وإن حمل له المتاع وإن شدت له الرواحل فإنه لا يحصل فيه القصد. فيقال: أين الدليل على هذا؟

فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حددها، بل حديث أنس رضي الله عنه الذي ذكرناه آنفًا يدل على أنه يقصر في ثلاثة أميال أو فراسخ، وإذا قلنا بالأعلى، وهو الفراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، فأين هي من الستة عشر فرسخًا؟ فإذًا: يرجع في ذلك إلى العرف.

لكن إذا اختلف العرف فحينئذ يمكن أن نرجع إلى التحديد، ونقول بأنه يحدد بالفراسخ، ونقول ذلك عند الضرورة، أما إذا أمكن ضبط العرف فلا نعدل عنه.

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا التحديد بالفراسخ غير صحيح بحسب الواقع؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هناك أناس مساحون يقيسون الأرض حتى بالذراع، بل حتى بالشبر، بل حتى بالإصبع، بل حتى بحبة الشعير، بل حتى بشعرة؛ لأن الفقهاء الذين حددوا السفر حددوه إلى هذا الحد، فقالوا: الستة عشر فرسخًا هي كذا وكذا، وهذا كذا وكذا إلى أن وصلوا إلى التحديد بالشعرة.

وبناءً على ذلك: لو كان هناك أناس منعزلون وبينهم وبين

ص: 135

الآخرين شعرة، والأولون أقرب إلى البلد، لصار الأولون غير مسافرين، والذين بينهم وبينهم شعرة مسافرين، وهذا صعب أن يحقق الإنسان مثل هذا، ويجعله حدًا للناس.

فعلى كل حال: الذي نرى أن المرجع في هذا إلى العرف، وأن نطلق ما أطلقه الله، ومن المعلوم أن العرف يختلف، فلو أن قومًا خرجوا في رحلة فتغدوا في البر ثم رجعوا فإن هذا لا يُسمى سفرًا ولا ضربًا في الأرض، ولو خرجوا في هذه المسافة في رحلة لكنهم أقاموا يومين أو ثلاثة لعد ذلك سفرًا؛ لأن الناس يتأهبون له، وإن كان في العرف الآن لا يعدون النزهة سفرًا حتى لو بعدت، وحتى لو بقيت أيامًا، لكن هذا لا عبرة به، فكل ما يحمل له الزاد ويستعد له فإنه سفر.

فإن قال قائل: الآن توجد فنادق، وتوجد سيارات وطيارات، ولا يحتاج الإنسان أن يحمل متاعًا.

قلنا: هذا لا عبرة به، العبرة بنفس المسافة والطريق الذي إذا أراده الإنسان استعد له، أما كون المتاع والزاد تسهل بالأماكن فهذا لا يمنع أن يكون سفرًا.

4 -

أن الإنسان إذا أقام في سفره في مكان فإنه لا يلزمه الإتمام، بل يبقى قاصرًا؛ لأن الله قال:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} ولم يقل: ما لم تمكثوا أربعة أيام أو عشرة أيام أو ما أشبه ذلك.

وبناءً على هذا لو أن إنسانًا سافر إلى بلد غير بلده وأقام فيها شهرًا فهو مسافر؛ وذلك لأن النصوص جاءت مطلقة غير مقيدة، وجاءت نصوص أخرى إيجابية تدل على عدم التقييد، ومن ذلك:

ص: 136

أولًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عام الفتح في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، ولم يقل للناس: أتموا، وأقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، ولم يقل للناس: أتموا.

ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع وهي آخر سفرة سافرها في اليوم الرابع من ذي الحجة، ومكث يقصر الصلاة، ولم يقل للناس: من قدم قبل اليوم الرابع فليتم، أو من قدم قبل عشرة أيام فليتم أو ما أشبه ذلك، فعلم من هذا أنه لا حد للإقامة التي تمنع أو تقطع حكم السفر، وهذا القول هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ونصره بأدلة قوية ظاهرة، ذكر ذلك في أول باب "صلاة الجمعة" في "الفتاوى" وفي مواضع كثيرة من كلامه، ونصره نصرًا عزيزًا، وهو جدير بالنصر؛ لأن أي إنسان يقيد بأربعة أيام أو بخمسة أو بأكثر أو بأقل، يقال له: أين الدليل؟ ولو كان هذا القيد لازمًا لبينه الله تعالى في القرآن، أو لجاءت به السنة وبينته بيانًا واضحًا؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله، ومما يحتاج الناس إليه، فكيف يُترك عمل بلا بيان؟ !

ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة على نحو عشرين قولًا أو أكثر ذكرها النووي رحمه الله في "شرح المهذب"، فمنهم من قال: أربعة أيام صافية، يعني: لا يحسب منها يوم الدخول ويوم الخروج، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، ومنهم من قال: أربعة أيام بيوم الدخول والخروج، وهذا مذهب الحنابلة، ومنهم من قال: خمسة عشر يومًا، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من قال: تسعة عشر يومًا وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، وفي المسألة أيضًا آراء أخرى من أراد أن

ص: 137

يطلع عليها فليرجع إلى "شرح المهذب" فإنه قد بيّنها.

5 -

أنه لا يجوز قصر الصلاة إلا عند الخوف، لقوله:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وهذا ظاهر الآية، لكن جاءت السنة تبين أن هذا ليس بشرط، يعني: أنه لا يشترط لجواز القصر الخوف، وذلك بما ثبت في "صحيح مسلم" أن رجلًا قال لعمر رضي الله عنه: إن الله يقول: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ونحن الآن آمنون، فقال عمر: لقد عجبت مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"

(1)

وهذه سنة قولية تدل على أن الخوف ليس بشرط.

وهناك سنة فعلية تدل على أن الخوف ليس بشرط، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجة الوداع وهو آمن ما يكون؛ إذ لا يوجد خوف إطلاقًا.

وقال بعض العلماء: إن الآية لا تدل على أن هذا القيد شرط؛ لأن هذا القيد جاء على الغالب، والناس حين نزول الآية كانت أسفارهم مخوفة، وما جاء بناءً على الغالب فإنه لا يكون قيدًا، وهذا معروف في أصول الفقه: أن القيد إذا كان بناءً على الغالب فإنه لا مفهوم له، واستدلوا بقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فإن الربيبة لا يشترط لتحريمها على زوج أمها أن تكون في حجره، لكن هذا بناءً على الغالب، وبقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى

(1)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (686).

ص: 138

الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، يعني: هذا هو الغالب، فقالوا: إن الآية خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها، وهؤلاء عكس الذين يقولون: إنه يشترط الخوف.

وقال بعض العلماء: إن هذا القيد قيد للقصر من صلاة السفر، والقصر من صلاة السفر أن يجعلها واحدة، وعلى هذا فيكون المراد بالخوف: أن تجعل الثنائية واحدة، واستدلوا لذلك بأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بأصحابه ركعتين، كل طائفة صلت ركعة واحدة فقط وانصرفوا

(1)

، وهذا أيضًا قول في هذه الآية.

فيكون المراد بقصر صلاة الخوف إلى ركعة لا إلى ركعتين.

وقال بعض أهل العلم - وهو قول رابع -: إن القصر قصران: قصر عدد، وقصر صفة، فقصر العدد لا يشترط فيه الخوف، وقصر الصفة يشترط فيه الخوف، وقصر الصفة في صلاة الخوف هو: أنه يفعل فيها أشياء لو فعلت في حال الأمن لأبطلت الصلاة، فخفف في هيئتها وكيفيتها، وهذا نوع من القصر، فهو قصر كيفية وليس قصر كمية، فهذه أقوال الناس التي تحضرني في هذه الآية، ولكن نقول:

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"

(2)

لم يبق شيء لأهل الكلام فنقول: إن الله تعالى شرط ذلك في أول الأمر، ثم سهل على عباده وتصدق عليهم،

(1)

رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب وقول الله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (942)؛ ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف (839).

(2)

تقدم ص 138.

ص: 139

ونفى ورفع هذا الشرط في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

6 -

أن الخوف له أثر في تغيير الأحكام، لقوله:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهذا أمر معلوم، حتى إن الله عز وجل قال:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 238 - 239] يعني: وأنت راجل تمشي أو راكب فلك أن تصلي ما دام الخوف محققًا.

بل حتى الوضوء أو الغسل من الجنابة إذا خاف الإنسان على نفسه يتيمم، فالخوف له تأثير في تغيير الأحكام الشرعية، حتى إن العلماء قالوا: لو صلى خلف جدار وعدوه يطلبه فإن قام رآه العدو وإن صلى قاعدًا لم يره فإنه يصلي قاعدًا.

7 -

حرص الكفار على فتن المؤمنين حتى في العبادات، لقوله:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

8 -

أن جميع الكفار أعداء لنا، لقوله:{إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} .

9 -

أن عداوة الكفار لنا بينة ظاهرة؛ لأن قوله: {مُبِينًا} هنا بمعنى: بين واضح.

فإن قال قائل: كيف كانت بينة وقد اغتر بهم بعض الناس، وظنوا أنهم أولياء وليسوا بأعداء؟

قلنا: إن الأعشى يعميه ضوء النهار، والأعمى لا يرى الشمس، فهؤلاء الذين يظنون أن الكفار ليسوا بأعداء لنا لا شك أنهم قد أعماهم الله عز وجل، إما لمصالح دنيوية أو لغير ذلك، وإلا فمن تأمل أحوال الكفار وجد أنهم أعداء لنا، وأنهم يغزوننا بالسلاح ويغزوننا في الحرب وفي السلم، فلا يظن أن غزو الكفار لنا بالحرب، بل بالحرب وبالسلم، فإنهم إذا سالمونا أوفدوا علينا

ص: 140

من أخلاقهم السافلة وعقائدهم المنحرفة ما يفسد المسلمين، ثم إنهم إذا سالمونا فإن منتوجاتهم وصنائعهم تُستهلك عندنا، ويتوفر لهم اقتصادنا، فهم يسلبوننا أموالنا، ويسلبوننا أخلاقنا، وربما يسلبون عقائدنا، ويوردون علينا أخلاقهم وأفكارهم، وبهذا نعرف أن الكافر عدو في الحرب وفي السلم؛ لأن الله تعالى لم يقيد ذلك في حال الحرب، {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} .

10 -

التحذير من الإغترار بما يبديه الكافر من الموالاة، وجهه: أن العالم بما في الصدور والعالم بكل حال سبحانه وتعالى أخبرنا بأن الكافرين كانوا لنا عدوًا مبينًا، ولا أحد أعلم من الله بعباد الله.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)} [النساء: 102].

بعد أن ذكر الله عز وجل أن الضارب في الأرض يقصر من الصلاة إن خاف أن يفتنه الذين كفروا، وبين أن الكفار أعداء لنا عداوة بينة ظاهرة، ذكر حكم الصلاة إذا تقابل الصفان؛ لأن الآية الأولى في الخوف إذا خيف، وأما الثانية فهي فيما إذا تقابل الصفان، فكيف تكون الصلاة حينئذٍ؟

ص: 141

قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في قوله:{فِيهِمْ} يعود على الصحابة.

قوله: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} يحتمل أن يكون المراد: الإقامة التي هي الإعلام بالقيام للصلاة، ويحتمل أن المراد بالإقامة: إقامة أركانها وواجباتها وشروطها وغير ذلك.

وعلى الثاني يكون معنى قوله: {فَأَقَمْتَ} أي: أردت أن تقيم لهم الصلاة.

قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الفاء هنا رابطة لجواب شرط غير جازم، وعلى هذا فلا يكون للجملة التي بعدها محل من الإعراب؛ لأن جواب الشرط الذي لا يجزم ليس له محل من الإعراب، واللام في قوله:{فَلْتَقُمْ} للأمر، وسكنت لوقوعها بعد الفاء، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الفاء أو الواو أو ثم، قال الله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، وفي هذه الآية:{فَلْتَقُمْ} وهو الحرف الثالث الذي إذا وقع قبل لام الأمر سكن لام الأمر، أما لام كي وهي التي للتعليل فإنها مكسورة ولو وقعت بعد هذه الحروف الثلاثة، مثل قوله تعالى:{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت: 66]، ففي قوله:"ليتمتعوا": لا بد من كسر اللام.

وقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} {مِنْ} لبيان الجنس، والطائفة هي الفرقة من الناس.

وقوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} نقول في قوله: {وَلْيَأْخُذُوا} مثلما قلنا في قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} .

ص: 142

والضمير في قوله: {وَلْيَأْخُذُوا} يعود على الذين قاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس على الطائفة الأخرى.

وقوله: {أَسْلِحَتَهُمْ} السلاح هو ما يقاتل به دفاعًا أو طلبًا، وينقسم إلى أقسام كثيرة: ثقيل، وخفيف ومتوسط، وسلاح يكون من بعيد، وسلاح يكون من قريب، والآية عامة، فيكون المراد: أسلحتهم التي يحتاجون إليها في الدفاع عن أنفسهم، والتي لا تشغلهم عن الصلاة.

وقوله: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} الفاعل يعود على الطائفة باعتبار المعنى؛ لأن الطائفة مفرد، لكن معناها الجمع، كما قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] ولم يقل: اقتتلتا؛ لأن الطائفة للجمع.

وقوله: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} {سَجَدُوا} أي: أتموا صلاتهم، وخص السجود لأنه أفضل أركان الصلاة، حيث إنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والمراد بذلك: إذا أتموا صلاتهم قوله: {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} أي: من وراء المصلين، وهنا قد يشكل قوله:{مِنْ وَرَائِكُمْ} مع أنه لم يبق بعد إتمام صلاتهم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن باعتبار ما يؤول إليه الأمر، فإن الطائفة الثانية سوف تأتي وتصلي.

وفي قوله: {مِنْ وَرَائِكُمْ} إشارة إلى أن العدو خلفهم وليس أمامهم.

وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ، قوله:{وَلْتَأْتِ} اللام نقول فيها ما قلنا فيما سبق، وقوله:

ص: 143

{وَلْتَأْتِ} الفعل مجزوم بحذف حرف العلة، وأصل تأت:"تأتي" بالياء، لكن دخل عليها الجازم فحذفت الياء.

وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} أي: ثانية قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وهنا قال: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} أما الأولى فلم يقل: فليصلوا معك، بل قال:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} فأضاف السجود إليهم وحدهم.

وقوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} حذرهم: الحذر معناه: التثبت في الأمر والإستعداد له.

وقوله: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} ، وَدَّ: بمعنى: أحب، لكنه قيل: إن الود هو: صافي المحبة، فـ {وَدَّ} أعلى من "أحب".

وقوله: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} {لَوْ} هذه مصدرية، بمعنى "أن" وليعلم أن {لَوْ} تأتي مصدرية كما هنا، والغالب أنها تأتي بعد {وَدَّ} و"أحب" وما أشبهها، وتأتي شرطية مثل أن تقول: لو جاء زيد لأكرمته، وجوابها إن كان منفيًا فإنه يكون بدون اللام، وإن كان مثبتًا فإنه يأتي باللام، لكنه قد تقترن به اللام قليلًا إذا كان منفيًا بـ "ما" وعليه قول الشاعر:

ولو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

وقوله: {تَغْفُلُونَ} أي: تتلهون بما أنتم فيه من الصلاة أو غيرها.

وقوله: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} أي: يميلون عليكم لقتالكم.

ص: 144

وقوله: {مَيْلَةً وَاحِدَةً} كقولنا: ضربة رجل واحد؛ أي: يميلون عليكم جميعًا ميلة واحدة تقضي عليكم.

وقوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} ، لا {جُنَاحَ} أي: لا إثم {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} أي: تأذٍ من المطر أن تضعوا الأسلحة، وجه ذلك: أن المطر سوف يبل الثياب ويبل السلاح، ويحصل بذلك ثقل على المقاتل، فإذا كان كذلك فلا حرج أن يضع السلاح، ولهذا قال:{أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} .

وقوله: {أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} أي: عاجزين عن حمل السلاح لمرض من جراح أو غير ذلك.

قوله: {أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} أي: ولا تحملوها.

وقوله: {أَنْ تَضَعُوا} هذه من الذي حذف فيها حرف الجر اطرادًا، كما قال ابن مالك:

وفي أنَّ وأنْ يطرد

مع أمن لبسٍ كعجبت أن يدوا

والتقدير: لا جناح عليكم في وضع أسلحتكم، وعلى هذا فتكون أن وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض.

وقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} يعني: إذا وضعتم الأسلحة لأذى من مطر أو مرض فلا تغفلوا عن الحذر، بل خذوا حذركم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} أي: هيأ.

قوله: {لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أي: عذابًا ذا هوان، وهذا العذاب في الدنيا وفي الآخرة جميعًا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

توجيه الخطاب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل

ص: 145

الخطاب يشمله والأمة أو يختص به؟ نقول: في هذا تفصيل: فتارة يختص به، وتارة يعمه والأمة بمقتضى اللفظ، وتارة يعمه والأمة بمقتضى القياس والأسوة، فمن الأمثلة التي تختص به قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 1 - 4] فالخطاب هنا للرسول عليه الصلاة والسلام ولا يشمل الأمة.

ومن الخطاب الذي يعمه والأمة بمقتضى اللفظ والسياق، قوله تبارك وتعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل: إذا طلقت، فصدر الخطاب بالتوجيه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم عمم فقال: إذا طلقتم، وهذا يعمه ويعم الأمة لمقتضى اللفظ.

وهناك خطاب خاص بالرسول لكنه حكمًا يعم الأمة، مثاله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] فهذا خطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم خاص لكنه يعمه والأمة.

وهل يعمه والأمة بمقتضى أنه خطاب للأمة، لكنه خص به رئيس الأمة؛ لأن العادة أن الخطابات توجه إلى الرؤساء، أو أنه له وللأمة بمعنى أن الأمة تتأسى به فيكون من باب القياس؟ الجواب - والله أعلم - الأول؛ لأنه خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو زعيم الأمة، والخطابات في التوجيهات توجه إلى الزعماء.

إذًا: قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} هذا لا شك أنه خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هل هو يختص به بمعنى أن صلاة الخوف لا تشرع على هذا الوجه إلا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مع الجيش؟

ص: 146

الجواب: قد قيل بذلك؛ أي: أن صلاة الخوف لا تشرع على هذا الوجه إلا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجيش، لكن هذا قول ضعيف.

فإذا قال قائل: كيف يكون ضعيفًا والخطاب موجه للرسول؟

قلنا: كما تقدم قريبًا إن العادة أن الخطاب موجه إلى زعيم الأمة، فإن كان الأمر هكذا وإلا فإنه بالقياس على حال الرسول عليه الصلاة والسلام.

2 -

أن الإمام مسئول عن صلاة المأموم، وتؤخذ من قوله:{فَأَقَمْتَ لَهُمُ} كأنه يقيمها لهم، وهذا يعني أنه يجب على الإمام أن يتبع السنة في صلاته، بينما لو كان يصلي وحده فله أن يخفف وله أن يثقل حسب ما يريد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"

(1)

.

3 -

وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، لقوله:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ؛ لأنها لو كانت فرض كفاية لاكتفي بالطائفة الأولى، فلما أمرت الطائفة الثانية بالصلاة جماعة دل هذا على أنها واجبة على الأعيان.

وهذه الصفة من الصفات التي خرجت عن المألوف في الصلاة من عدة أوجه:

منها: أن الركعة الثانية أطول من الأولى، والأصل أن

(1)

رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، حديث رقم (671)؛ ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، حديث رقم (467) عن أبي هريرة.

ص: 147

الأولى أطول من الثانية، ومنها: جواز انفراد المأمومين عن الإمام، ومنها أن يأتوا بما فاتهم قبل سلام الإمام.

4 -

عناية الله سبحانه بالمجاهدين حيث رحمهم ووزعهم إلى طائفتين، وإلا لكان المفروض أن يصلوا جميعًا، لكن من رحمته سبحانه أن شرع التوزيع.

5 -

عدم مشروعية تكرار الجماعة، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم جماعة واحدة، وإلا لكان يصلي بالأولى ركعتين وبالأخرى ركعتين، ولكن يقال: إن هذه الفائدة خرمت بما ثبتت به السنة من أوجه صلاة الخوف ففي بعض أوجهها: أنه يصلي بكل طائفة ركعتين جماعة مستقلة.

6 -

وجوب أخذ الأسلحة في هذه الصلاة، وهذا مأخوذ من قوله:{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} .

فإن قال قائل: لعل هذا الأمر للإباحة؛ لأنه لما كان من المتوهم أن المصلي لا يحمل شيئًا يشغله أمر بذلك، فكان هذا الأمر للإباحة، وإن شئت انتقلنا إلى أن يكون الأمر للإستحباب؛ لأن حمل ما يشغل مع أنه مكروه في غير صلاة الخوف يدل على أن حمله في صلاة الخوف مستحب.

قلنا: كلا الإحتمالين يبطلان بقوله في آخر الآية {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} فإن هذا يدل على وجوب حمل السلاح، وأنه لا يرخص في ترك حمله إلا لسبب مرض أو أذى، وهذا هو القول الراجح، أنه يجب حمل السلاح في صلاة الخوف.

7 -

الرخصة في حمل النجاسة في هذه الحالة، وهذا

ص: 148

يتوقف على القول بأن الدم نجس؛ لأن الغالب أن الأسلحة ولا سيما بعد القتال لا تخلو من دماء، ولهذا قال العلماء: يجوز في هذه الحال أن يحمل الإنسان سلاحًا نجسًا؛ لأن الحاجة داعية لذلك.

- يتفرع على هذا فائدة: أن من لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فإنه يصلي فيه ولا إعادة عليه؛ لأنه لو لم تجز الصلاة فيها لوجب وضعها، وهذا هو القول الراجح، خلافًا لمن قال: من لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فإنه يلزمه أن يصلي فيه ويعيد. وهذا قول ضعيف، والشريعة الإسلامية لا توجب العبادة على عباد الله مرتين.

8 -

أن السجود ركن من أركان الصلاة؛ لأنه عبر به عن إتمام الصلاة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يعبر عن الكل بالجزء إلا والجزء ركن فيه لا يمكن أن يصح بدونه.

9 -

فضيلة السجود، لقوله:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} حيث خصه من بين سائر الأركان، وإلا فإن قبله ركوعًا وقيامًا وبعده جلوس بين السجدتين.

10 -

أنه لا يجب التشهد ولا السلام، لقوله:{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} فيقال: وهذا ظاهر الآية، لكن الشريعة يكمل بعضها ببعض، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد"

(1)

فصرح عبد الله رضي الله عنه بأنه فريضة، والنصوص يكمل بعضها بعضًا، وعلى هذا فنقول: إن قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} أي: أتموا صلاتهم بالسجود.

(1)

رواه النسائي، كتاب صفة الصلاة، باب إيجاب التشهد، (3/ 40)(1277)؛ والدارقطني (1/ 350)؛ والبيهقي (2/ 378).

ص: 149

11 -

توجيه المصلين صلاة الخوف إلى أن يكونوا من وراء المصلين ليحموا ظهورهم، لقوله:{فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} .

فإن قال قائل: لماذا لا يكونون من أمامهم ووجوههم نحو العدو؟

قلنا: هذا غلط؛ لأنهم إذا كانوا أمام المصلين فإنهم يشوشون على المصلين، ولا سيما وأن وجوههم ستكون مواجهة لوجوه المصلين، وأيضًا فإن وجوه المصلين لا حاجة إلى أن يكون هؤلاء في جهتها؛ لأنهم يرونهم، لكن هم محتاجون إلى أن يكونوا من ورائهم حتى لا يبغتهم أحد حال السجود أو في حال القيام أيضًا.

12 -

أن ظاهرها أن الآخرين يصلون جماعة، يعني: الذين أرادوا أن يتموا الصلاة يصلون جماعة، لقوله:{فَإِذَا سَجَدُوا} ، يعني: إذا تخلفوا عن الإمام والإمام قد قام الآن إلى الثانية فإنهم يتمون جماعة. فيقال: نعم، هذا ظاهر الآية لكنه ليس صريحًا، ولهذا فإن الظاهر: أنهم يتمون فرادى، كل يتم لنفسه، ثم يذهبون جميعًا إلى الميدان.

13 -

أن المشروع للإمام في صلاة الخوف إطالة الركعة الثانية، يؤخذ من فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كانت الطائفة الأولى سوف تنهي صلاتها ثم تذهب، ثم تأتي الثانية ثم تدخل مع الإمام وينتظرها حتى تقرأ الفاتحة، فسيكون الوقوف طويلًا، وهو كذلك.

14 -

جواز انفراد الإنسان عن الإمام لعذر، وجهه: أن الطائفة الأولى انفردت وأتمت صلاتها، فإذا حصل للإنسان عذر

ص: 150

لا يستطيع معه إتمام صلاته، مثل أن يطرأ عليه حقن أو ما أشبه ذلك فله أن ينفرد ويكمل صلاته - إن كان يستفيد من هذا الإنفراد - بحيث لا تكون صلاته مع الإمام أفضل من صلاته إذا انفرد.

15 -

مشروعية صلاة الخوف على هذا الوجه.

16 -

جواز إقامة جماعتين في مكان واحد للحاجة، ومثال الحاجة: أن يكون المسجد ضيقًا كالمساجد التي تكون في السوق المزدحم بالباعة والمشترين، فلا يسعهم أن يصلوا ولا يتمكنون من المتابعة في السوق، فنقول: لا بأس أن تصلى جماعة أولى، ثم تأتي جماعة أخرى.

17 -

أن الإنسان يجب أن يكون حذرًا كل ما دعت الحاجة إلى الحذر، وجهه: أن الله قال في الطائفة الثانية: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} والطائفة الأولى لم يقل ذلك. والفرق بين هذا وهذا فرقان:

الفرق الأول: أن الطائفة الأولى تشاغلت بالصلاة في وقت لا يمكن أن يستعد العدو لمهاجمتهم.

والفرق الثاني: أن الطائفة الثانية دخلت في الصلاة في حالٍ عرف العدو أنهم مشتغلون في صلاتهم، فرأى الفرصة في الكر عليهم.

18 -

أن الطائفة الثانية أدركت جميع الصلاة، بخلاف الطائفة الأولى؛ لأنه الله قال:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وقال الله في الأولى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} . ويتفرع على هذه الفائدة عدل الشريعة الإسلامية، ووجهه: أن الطائفة الأولى لما أدركت فضل تكبيرة الإحرام مع الإمام عوضت الثانية بكونها

ص: 151

أدركت الصلاة مع الإمام، وهذا لا شك أنه من عدل الشريعة.

19 -

أن أعداء المسلمين يتربصون بهم الدوائر ويتحينون الفرص، وتؤخذ من قوله تعالى:{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} ، ويمكن أن يؤخذ من هذا أن أعداء الإسلام يستغفلون أهل العلم الذين يبينون للناس فضائل الإسلام وقبائح الكفر؛ لأنهم إذا كانوا يستغفلون هؤلاء في حال القتال فكذلك أيضًا في حال السلم يستغفلونهم من أجل ألا يردوا عليهم، ولا يبينوا معايبهم.

20 -

أن أعداء المسلمين يحبون الإجهاز على المسلمين بسرعة، وتؤخذ من قوله:{فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} فسياسة الكفار واحدة من أول الأمر إلى آخره، يريدون القضاء على المسلمين بسرعة، مرة واحدة؛ لأن التباطؤ يؤدي إلى فوات الفرصة عندهم، فيقولون: لا نفوت الفرصة.

21 -

ويؤخذ من الآية الكريمة أن الكفار يحرصون على عدم تسلح المسلمين، وهذا صحيح، فالكفار يودون أن نغفل عن أسلحتنا فكيف يعطوننا؟ ! وتدل على شدة حنق الكفار بالنسبة للإغارة علينا، فإن قوله:{مَيْلَةً وَاحِدَةً} تدل على الحنق وشدة الغيظ، وأنهم مقبلون بقوة.

21 -

نفي الإثم عمن وضع السلاح إذا حصل له أذًى بحمله، لقوله:{أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى} .

22 -

وجوب حمل الأسلحة، ووجهه قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا

ص: 152

أَسْلِحَتَكُمْ}، فنفى الجناح عند التأذي، فدل ذلك على أن حمله إن لم يكن تأذٍ واجب.

23 -

وجوب أخذ الحذر من الكفار، ويؤخذ من قوله:{خُذُوا حِذْرَكُمْ} ، ويشمل هذا أخذ الحذر من هؤلاء الكفار اليوم دخولًا في اللفظ.

24 -

تهديد الكفار بما أعد الله لهم.

* * *

* قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ} القضاء يراد به الإتمام في اللغة العربية؛ أي: فإذا أتممتم، وقد ورد القضاء بمعنى الإتمام في عدة مواضع من القرآن، مثل قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] أي: أتمهن، فالمعنى: إذا أتممتم الصلاة وأنهيتموها.

و"إذا" أداة شرط، وفعل الشرط قوله:{قَضَيْتُمُ} وجواب الشرط قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وقرن بالفاء لأنه طلب، والجملة الطلبية إذا وقعت جوابًا للشرط وجب اقترانها بالفاء.

قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} .

وقوله: {قِيَامًا} حال من الفاعل في قوله: {فَاذْكُرُوا} يعني: حال كونكم قيامًا.

وقوله: {قِيَامًا وَقُعُودًا} ، الواو هل هي بمعنى "أو" يعني بمعنى: قيامًا أو قعودًا، أو هي لمطلق الجمع؛ أي: اذكروا الله في حال قيامكم وفي حال قعودكم؟

ص: 153

الجواب: الثاني أحسن.

وقوله: {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} معطوفة على الحال {قِيَامًا} ، وعلى هذا فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال.

وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} يقال في جملة: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ما قيل في قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} .

وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} موضع الجملة مما قبلها أنها تعليل، وقوله:{كِتَابًا} خبر كان، وقوله:{مَوْقُوتًا} خبر ثانٍ، ولا يصح أن تكون صفة.

يقول عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} أي: فرغتم منها، و"أل" في قوله:{الصَّلَاةَ} للعهد وليست للجنس، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يشرع الذكر دبر كل صلاة، إنما يكون دبر الصلوات المكتوبة.

وعلى هذا فـ "أل" للعهد الذهني، وإن شئت فقل الذكري؛ لأن الله قال:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102].

وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا} أمر الله تعالى بذكره، وهذا أمر مجمل لم يبين كيف يذكر، ولا بماذا يذكر، ولكن السنة بينت ذلك فهو؛ كقوله:{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فلم يبين والسنة بينت ذلك.

وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} المراد: اذكروه باللسان وبالقلب، وهذا هو المطلوب، لكن من ذكر بلسانه حصل المقصود إلا أنه ناقص؛ لأن الذكر ذكر القلب، لقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28].

وقوله: {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} بيان للحال التي يذكر

ص: 154

الإنسان فيها ربه بعد الصلاة، وأنه على أي حال كان فليذكر الله.

وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} فعل من الطمأنينة، والطمأنينة هي: زوال القلق، والمراد بالطمأنينة هنا زوال الخوف والعدو.

وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: أدوها تامة كما تؤدونها قبل الخوف.

وقوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} يعني: أن من جملة إقامة الصلاة أن تؤدى في وقتها، بدليل الجملة التعليلية بعد ذلك، وهي قوله:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} .

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الأمر بذكر الله بعد انتهاء الصلاة، لقوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} .

فإن قال قائل: ما الجمع بين هذه الآية وبين آية الجمعة، حيث قال:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة: 10]؟

قلنا: الجواب: هو أن لكل مقام مقالًا، ففي سورة الجمعة منعهم الله من البيع بعد نداء الجمعة حتى يصلوا، فكأن الناس محبوسون عن البيع والشراء مدة الصلاة، فكان من أهم ما يكون عندهم أن يطلق حبسهم، ولهذا قال:{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، والأمر في قوله:{فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} ليس للوجوب ولا للإستحباب، ولكنه للإباحة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما هنا فليس هناك أمر بالحضور إلى الصلاة وترك البيع والشراء، فلهذا بدأ بالذكر.

ص: 155

2 -

أنه لا يشرع الدعاء بعد التسليم، ويؤخذ من قوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا} ولم يقل فادعوا الله.

فإن قال قائل: أليس من المشروع أن الإنسان إذا سلم استغفر ثلاثًا؟

قلنا: بلى لكن هذا الإستغفار استغفار لمحو ما عسى أن يكون في الصلاة من تفريط أو إخلال، فهو في الحقيقة تابع لها، ولهذا كان من الأفضل أن يبادر به الإنسان قبل الذكر حتى يزيل ما في الصلاة من إخلال وتقصير.

3 -

أن الذكر بعد الصلاة لا يشترط فيه أن يجلس الإنسان حتى ينهيه، بل له أن يذكر ولو كان قد انصرف، لقوله:{قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي: على أي حال.

4 -

أن الذكر لا ينقص إذا قعد الإنسان من قيام، أو قام من قعود أو اضطجع، وهذا هو الأصل أنه لا ينقص بكون الإنسان قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، اللهم إلا أن يترتب على ذلك أنه إذا كان قائمًا فهو أنشط له، لكن الغالب أن القاعد أخشع؛ لأن القائم لا يقوم ليقف، وإنما ليمشي.

5 -

أن الواجب إذا زال الخوف أن تعاد إقامة الصلاة على ما كانت عليه حين الأمن، لقوله:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} .

6 -

أن الصلاة فرض، لقوله:{كِتَابًا} لأن كتابًا بمعنى: فرضًا.

7 -

في قوله: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ظاهره أن غير المؤمنين لا تجب عليهم الصلاة، بمعنى أنهم لا يطالبون بها، بل

ص: 156

يقال: أسلموا ثم صلوا، ولهذا لو صلى إنسان وهو باقٍ على كفره لم تقبل منه.

فإن قال قائل: هل في هذه الآية دليل على من قال: إن الكفار لا يخاطبون بفروع الإسلام؟

نقول: نعم، استدلوا بها، لكن استدلالهم لا يتعين، لقوله تعالى في سورة المدثر:{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} يعني: أي شيء أدخلكم النار؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 40 - 43]، فدل هذا على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام وهذا هو الحق، لكنهم لا يلزمون بها على كفرهم بل يقال: أسلموا ثم صلوا.

8 -

أن الصلاة موقتة، لقوله:{مَوْقُوتًا} وهذا مما يوجب أن يجتمع الناس عليها؛ لأنها لو كانت غير موقتة لاختلف الناس، فهذا يصلي في الصباح، وهذا في الظهر، وهذا في العصر، ويصلون سبع عشرة ركعة في أي وقت شاءوا، لكن من أجل أن يكون الناس متحدين في وقت واحد حددت الأوقات، وهذه الآية مطلقة لم يبين فيها الوقت، لكن بينته السنة تفصيلًا، وبينه القرآن بنوع من الإجمال في موضع آخر مثل قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، فإن هذه الآية انتظمت أوقات الصلوات الخمس، {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} قال بعض النحويين: إن اللام في قوله: {لِدُلُوكِ} بمعنى: "من"، بدليل الغاية، فيكون معنى الآية: من دلوك الشمس إلى غسق الليل، ودلوك الشمس هو زوالها، وغسق الليل شدة ظلامه، وأشد ما يكون الليل ظلامًا في منتصف

ص: 157

الليل؛ لأن منتصف الليل أبعد ما تكون الشمس عن الأرض.

إذًا الآية الكريمة حددت الوقت من زوال الشمس إلى غسق الليل، لكن الله جعله وقتًا واحدًا؛ لأن هذه الأوقات الأربعة كلها متوالية، يدخل وقت العصر بخروج وقت الظهر، ووقت المغرب بخروج وقت العصر، ووقت العشاء بخروج وقت المغرب إلى منتصف الليل، ومن منتصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتًا، ولذلك لو أن المرأة طهرت بعد نصف الليل لم يلزمها صلاة العشاء، ولا صلاة المغرب من باب أولى.

لكن السنة فصلت أيضًا تفصيلًا زائدًا على هذا، فوقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال، والعصر إلى اصفرار الشمس، والضرورة إلى الغروب، والمغرب إلى مغيب الشفق الأحمر، والعشاء إلى نصف الليل، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

(1)

.

9 -

الإشارة إلى أن الوقت مقدم على جميع الشروط، وجهه: أن الله تعالى لما ذكر صلاة الخوف ثم صلاة الأمن بين أن هذا من أجل مراعاة الوقت، والأمر كذلك؛ أي: أن الوقت مقدم على جميع الشروط، ولهذا إذا لم تجد ماءً فتيمم، حتى تصلي في الوقت، وإذا لم تجد ماءً ولا ترابًا صل على حسب حالك، وإذا لم تجد ثوبًا تستر به العورة صل على حسب حالك، ولا تنتظر حتى تحصل على ثوب؛ لأن الوقت مقدم على كل شيء.

10 -

أن الإنسان لو قدم الصلاة كلها أو جزءًا منها ولو

(1)

رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس (612).

ص: 158

يسيرًا على الوقت فإنها لا تصح؛ ولهذا لو كبر تكبيرة الإحرام فقط لصلاة المغرب قبل مغيب الشمس بمقدار التكبيرة فإنها لا تصح، وإن أخر الصلاة عن وقتها فإن كان لعذر صحت، ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"

(1)

، وإن كان لغير عذر فقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فجمهورهم على أنه يلزمه أن يصلي، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يلزمه أن يصلي، بل ولا تصح الصلاة منه، وما ذهب إليه الشيخ هو الصواب، ولكننا نقول له: لا تصل لا تخفيفًا عليه، ولكن عقوبة له؛ لأنها غير مقبولة منه، إذ لو قبلت الصلاة بعد وقتها ممن أخرها عن وقتها عمدًا لم يكن للتهديد فائدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"

(2)

.

وعليه: فإذا جاءنا رجلان بعد طلوع الشمس؛ أحدهما ترك صلاة الفجر عمدًا، والثاني تركها نومًا لعدم من يوقظه، فيسألان: أنصلي صلاة الفجر بعد طلوع الشمس أو لا؟ فنقول: أما من غلبه النوم فيصلي، وأما الثاني فلا يصلي، فإن قيل: وكيف تسهلون على المتعمد وتؤاخذون النائم؟ ! فنقول: لم نتساهل معه، ولم

(1)

رواه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة، حديث رقم (572)؛ ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (334) من حديث أنس بن مالك.

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم (2550)؛ ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718) من حديث عائشة.

ص: 159

نيسر له، بل هذا عقوبة له أن الله لا يقبل منه ولو صلى ألف مرة؛ لأنه متعد لحدود الله.

* * *

* قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)} [النساء: 104].

قوله: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} لما ذكر تعالى صلاة الخوف وما يترتب عليها، ووجوب أخذ الحذر من أعدائنا، وأن أعداءنا عداوتهم بينة، وذكر ما يتعلق بذلك في قولهم:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103] قال: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} .

وقوله: {وَلَا تَهِنُوا} أي: لا تضعفوا، و"لا" ناهية، وحذفت النون من أجل النهي.

وقوله: {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي: في طلب القوم، والقوم هم أعداء المسلمين.

ثم بيّن سبحانه أنه لا وجه للوهن والضعف في ترك طلبهم فقال: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} ، يعني: هم يطلبونكم، ويريدون إيلامكم، وإذا تألمتم منهم فإنهم هم أيضًا يتألمون منكم كما تتألمون منهم، وهذا فيه التسلية للمجاهدين المقاتلين، ولكن الفرق بيننا وبينهم فرق كبير، أبعد مما بين السماء والأرض.

قوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} أنتم ترجون من الله النصر الذي وعدتم به إذا اتقيتم الله عز وجل، وترجون ثواب الآخرة، وهم لا يرجون ثواب الآخرة قطعًا، والنصر قد

ص: 160

يرجونه وقد لا يرجونه، وإذا رجوه فإنما يريدون الإنتصار عصبية لأوطانهم وقومهم، فصار الفرق عظيمًا بين هؤلاء وهؤلاء، ولهذا لما نادى أبو سفيان يوم أُحد فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. أجابه الصحابة، فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فإذا كنا نساويهم في ألم الجراح، وألم القتال، وألم فقد المال وغير ذلك، إذا كنا نساويهم في هذا فإننا نمتاز عنهم بأننا نرجو من الله ما لا يرجون، فكيف يكونون هم أقوياء في طلبنا ونحن ضعفاء، فهذا لا يليق.

وقوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} أي: تطمعون فيما عند الله من الثواب والنصر وهم لا يطمعون في ذلك؛ لأن قلوبهم خالية من الله عز وجل.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} مثل هذا يقع في القرآن كثيرًا، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]، {كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، فهو كان ولا يزال، ولهذا نقول: إن "كان" هنا مسلوبة الزمان، يعني: لا تدل على المضي، وإنما تدل على تحقق الأمر ووقوعه، لا على أنه كان فزال.

وقوله: {عَلِيمًا حَكِيمًا} لا يخفى علينا جميعًا أن علم الله سبحانه واسع، يشمل الماضي فلا ينسى، والمستقبل فلا يجهل، ويشمل الخفي والجلي، ويشمل ما في حقه وحق عباده، فهو يعلم سبحانه ماذا يجد علينا غدًا، وماذا سنعمل، ويعلم ما سيفعله سبحانه هو بنفسه غدًا وما لا يفعله، فعلم الله واسع، ثم إن علم الله متعلق بالواجب والجائز والمستحب، ولذلك تعتبر هذه

ص: 161

الصفة - أعني: صفة العلم - من أوسع الصفات؛ لأنها متعلقة بالواجب والجائز، والممكن والمستحيل.

أما تعلق العلم بالواجب: فكعلمه جل وعلا بذاته وأسمائه وصفاته.

وأما تعلقه بالممكن: فهو تعلقه بما يحدث في هذا الكون؛ لأن كل الكون من باب الجائز الممكن.

وأما تعلقه بالمستحيل: فمثل قوله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فهنا حكم جل وعلا أنه لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله لفسدتا، ووجود ذلك مستحيل، ومع هذا علم الله بنتائجه مع أنه مستحيل.

فالحاصل: أن علم الله عز وجل صفة من أوسع الصفات.

والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، ولا نحتاج أن نقول: مطابقًا؛ لأننا قلنا: إدراك الشيء على ما هو عليه، فيغني عن كلمة مطابقًا، هذا هو العلم، فعدم الإدراك بالكلية جهل، وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه جهل أيضًا، لكنه جهل مركب، وإدراك الشيء بلا جزم بل بظن أو شك أو وهم لا يكون علمًا، فما غلب على الظن فهو ظن، ومقابله الوهم، وما تردد الأمر فيه فهو شك.

وقوله: {حَكِيمًا} يصلح أن تكون صفة مشبهة من الحكمة، وأن تكون اسم فاعل حُول إلى فعيل من الحكم، فهي من باب المشترك، والقاعدة في التفسير: أنه متى احتمل اللفظ معنيين لا يتنافيان فإنه يحمل عليهما جميعًا، فعليه نقول: الحكيم من الحكمة ومن الحكم.

ص: 162

ثم نقول: حكم الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

حكم كوني: وهو ما قضاه كونًا.

وحكم شرعي: وهو ما قضاه شرعًا.

والحكمة تنقسم أيضًا إلى قسمين:

حكمة في كون الشيء على صورته التي خُلق عليها، أو على صورته التي شرع والحكمة الثانية: حكمة غائية، بمعنى: أن الغاية من هذا الشيء حكمة، وحينئذ تبلغ أربعًا: حكمة في الصورة والغاية في الحكم الشرعي، وحكمة في الصورة والغاية في الحكم الكوني، فالجميع أربعة.

مثلًا: في سورة الممتحنة ذكر الله سبحانه أحكامًا ثم قال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ، وهذا حكم شرعي، وفي سورة يوسف قال أحد إخوته:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} وهذا حكم كوني.

وأما مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50]، وقوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8] وما أشبه ذلك فالظاهر أنه شامل للحكم الكوني والشرعي.

أما الحكمة فإن الإنسان إذا تأمل المخلوقات بعناية وعقل وفهم تبين له أنه لا يوجد فيها شيء إلا لحكمة، حتى المصائب من الأمراض والهلاك والفتن كلها حكمة، لكن تحتاج إلى تدبر وتعمق ونظر، وليس نظرًا إلى الأمور على وجه سطحي، وتجد أن الله عز وجل قدر هذا الشيء لحكم عظيمة، ولا أدل على هذا من قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وقال الله تبارك وتعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ

ص: 163

وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، والأدلة على هذا كثيرة، مع أنها مصائب لكن لها حكم، وكم من إنسان نشاهده في وقتنا الحاضر تحصل عليه مصيبة إما في نفسه وإما في أهله، ويكون فاسقًا ثم يعود، وأنا أعرف بعض من كان فاسقًا ثم حصل حادث مات فيه أخوه أو أبوه فاهتدى، وأمثال هذا كثير.

وكذلك في الأمور الشرعية لا ترى شيئًا شرعه الشرع إيجادًا أو إعدامًا إلا والحكمة في ذلك، يقول بعض أهل العلم: إن الله لم يأمر بشيء فيقول العقل: ليته لم يأمر به، ولم ينه عن شيء فيقول العقل: ليته لم ينه عنه.

وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتابًا في عدة مجلدات سماه: "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"، صريح المعقول يعني: العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات، للنقل الصحيح: الكتاب وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأحاديث الضعيفة فقد يأتي فيها ما يخالف العقل، فإذًا: الحكمة في حكم الله الشرعي وفي حكم الله الكوني.

وكل منهما إما أن تكون حكمة في الصورة التي هو عليها، أو في الغاية التي من أجلها حكم الله بها.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

تشجيع المسلمين على جهاد الكفار، لقوله:{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} .

2 -

أنه ينبغي القوة والمتابعة في طلب الكفار، وألا يلحقنا الوهن، لقوله:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} ؛ أي: لا يلحقكم الوهن في طلبهم.

ص: 164

3 -

أن بني آدم في الأمور البشرية على حد سواء، فإذا كان الكافر يتألم فالمؤمن يتألم، حتى الأنبياء في الأمور البشرية كغيرهم من الناس، لكنهم يختلفون عنهم في الصفات المعنوية؛ كالصبر، والتحمل، والإقدام، والعزيمة وغير ذلك.

4 -

أنه ينبغي للإنسان إذا عمل العمل الصالح أن يكون راجيًا، لقوله:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} ويكون هذا الرجاء عند ابتغاء القوم وطلبهم، وهكذا ينبغي للإنسان إذا وفقه الله للعبادة أن يكون راجيًا؛ أي: راجيًا ثوابها؛ لأن من بشرى الإنسان أن يوفق للعبادة، فمن وفق للعبادة على ما يرضي الله فهي بشرى بالقبول، كما أن من وفق للدعاء فهو بشرى بالإجابة، قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ولهذا قال:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} وهذا ربما يكون الفيصل في مسألة تغليب الرجاء على الخوف، فإن السالكين اختلفوا هل الأفضل للسالك إلى الله عز وجل أن يقدم الرجاء أو أن يقدم الخوف أو أن يكونا سواءً؟

فمنهم من أطلق أن الأفضل أن يكونا سواءً كالإمام أحمد رحمه الله، كما جاء عنه أنه قال: الخوف والرجاء بمنزلة جناحي الطائر، إن انخفض أحدهما تعلَّى الآخر، فلا بد أن يكونا سواءً، وقال: ينبغي على العبد أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا فأيهما غلب هلك صاحبه.

ومن العلماء من قال: يقدم الرجاء، لقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرًا فله،

ص: 165

وإن ظن بي شرًا فله"

(1)

.

ومنهم من قال: يغلب جانب الخوف، حتى يكون مبتعدًا عن محارم الله؛ لأن الذي يحملك على ترك المحارم هو الخوف من عقوباتها وآثارها السيئة.

والذي يظهر لي أن يقال: إذا فعل الحسنة فالأولى أن يغلب جانب الرجاء، وإذا همَّ بالسيئة فالأولى أن يغلب جانب الخوف، وهذا أحسن ما يكون.

أما عند الموت فينبغي للإنسان أن يغلب جانب الرجاء؛ لأنه في هذه الحال يجب أن يكون عنده توبة ورجوع إلى الله عز وجل؛ لأنه أحوج ما يكون إلى التوبة في ذلك الوقت.

5 -

أن الكافرين لهم رجاء، ولكنه ليس كرجاء المؤمنين، ربما يؤخذ هذا من قوله:{مَا لَا يَرْجُونَ} ، والكافر قد يكون عنده توكل، ورجوع إلى الله، وافتقار إليه، ولا سيما إذا وقع في الشدة، قال الله عز وجل:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] فإذا لجأوا إلى الله وصدق لجوؤهم أنقذهم الله عز وجل.

وهنا أيضًا ربما يكون عندهم حال قتال المؤمنين رجاء،

(1)

هذا اللفظ عند أحمد (2/ 391)؛ وابن حبان (2/ 405)(639) عن أبي هريرة، وأصل الحديث عند البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، حديث رقم (6970)؛ ومسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله، حديث رقم (2675) عن أبي هريرة.

ص: 166

يرجون الله عز وجل أن يغلبوا المسلمين، لا سيما إذا كانوا يعتقدون أنهم على حق، فعندهم رجاء، وقد يقال: إن قوله: {مَا لَا يَرْجُونَ} ليس إثباتًا لأصل الرجاء مع الإختلاف في صفته، بل هو نفي للرجاء إطلاقًا، وهذا واقع في قوم ملحدين لا يؤمنون برب كالشيوعيين مثلًا، فإن هؤلاء لا يرجون الله إطلاقًا؛ لأنهم لا يعترفون به، فالآية صالحة لهذا ولهذا.

6 -

في الآية إشارة إلى أنه لا يشهد للشهيد بأنه في الجنة، وذلك في قوله تعالى:{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} ، والرجاء قد يتحقق وقد لا يتحقق، ولهذا نهي أن نقول عن شخص معين بأنه شهيد إلا من شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن شهد له الرسول بالشهادة شهدنا له، وكذلك من شهد له القرآن كما في غزوة أُحد حيث قال الله عز وجل:{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].

وفي حديث أُحد لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فارتجف بهم فقال:"اثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"

(1)

يعني: أن أصناف الخلق الأربعة وجد منهم على هذا الجبل ثلاثة: نبي وصديق وشهيد، وعلى هذا فنحن نشهد أن عمر رضي الله عنه شهيد، وأن عثمان رضي الله عنه شهيد، ونشهد أن ثابت بن قيس رضي الله عنه شهيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا،

(1)

رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا"، حديث رقم (3472) عن أنس بن مالك.

ص: 167

وتدخل الجنة"

(1)

، وذلك في قصته المعروفة لما نزل قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2] وكان هو رضي الله عنه جهوري الصوت، ولهذا كان خطيبًا وشاعرًا للرسول عليه الصلاة والسلام، فجمع بين الخطابة والشعر، فاختفى في بيته يبكي، إذ خاف أن يحبط الله عمله وهو لا يشعر رضي الله عنه، لكن من يخاف من العقاب أمنه الله منه، ففقده النبي عليه الصلاة والسلام فسأل عنه، فقيل له: إنه يلازم بيته، فأرسل إليه، فلما جاءه قال: إن الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2] وإني يا رسول الله! أخاف أن يحبط عملي وأنا لا أشعر، فقال له:"ألا ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة"

(2)

فعاش حميدًا، وقتل شهيدًا، ونشهد أنه سيدخل الجنة رضي الله عنه.

وجاء في قتله قصة غريبة، فلما قتل رضي الله عنه مر به أحد الجنود فأخذ درعه الذي كان عليه، وكان في طرف الجيش، فوضعه تحت برمة - وهي قدر من الفخار يكون كالحجر، فوضع الدرع تحتها - فرأى أحد أصحاب ثابت ثابتًا في المنام، وقال له:

(1)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ أبواب السير، باب فضائل أصحاب رسول الله، حديث رقم (3/ 445)(945)؛ وابن حبان (16/ 125)(7167)؛ والحاكم (3/ 260).

(2)

تقدم ص 167.

ص: 168

إن فلانًا أو رجلًا - نسيت هل هو عين الرجل أو أنه قال: رجلًا - مر بي وأخذ الدرع ووضعه تحت برمة في طرف الجيش، وعنده فرس يستن - والفرس إذا كان واقفًا على ثلاث قوائم يقال: إنه يستن -، وأخبر خالدًا بأني أوصي بكذا وكذا فليبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنهم.

فلما أصبح الرجل جاء إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وأخبره بالخبر، فذهبوا إلى الجهة التي أخبر بها وإذا بالدرع تحت البرمة، وعنده فرس يستن، فأخذه، وبلغت وصيته أبا بكر رضي الله عنه فأنفذها

(1)

.

قال العلماء: ولا يوجد أحد نفذت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس.

فالحاصل: أننا لا نشهد لأحد بالشهادة إلا إن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الحريق شهيد، وأن الغريق شهيد، وأن المطعون شهيد، وأن من مات بهدم شهيد

(2)

، فهل إذا مات أحد بهذه الأسباب نقول: هو شهيد بعينه؟

الجواب: لا، لكن نرجو أن يكون شهيدًا، وذلك لأن المظهر قد يكون على خلاف المخبر، لكن نقول: نرجو أن يكون من الشهداء، والحمد لله شهاداتنا لا يتوقف عليها كونه شهيدًا إن كان من الشهداء، وعدم شهادتنا لا يمنع أن يكون شهيدًا إن كان من الشهداء، لكن يكفينا أن نرجو أن يكون من الشهداء.

(1)

انظر: الإستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 61)؛ أسد الغابة (1/ 145).

(2)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، كتاب الشهادة سبع سوى القتل (2829)؛ ورواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان الشهداء (1914) عن أبي هريرة.

ص: 169

7 -

إثبات اسمين من أسماء الله هما: العليم، والحكيم، يؤخذ من قوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، وإثبات ما تضمناه من الصفة وهي: العلم من العليم، والحكمة من الحكيم، والحكم من الحكيم أيضًا؛ لأن الحكيم ذو الحكمة والحكم، فيكون فيها ثلاث صفات: العلم، والحكمة، والحكم.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} لا يدل على أنه كان فمضى؛ لأن {كَانَ} هنا مسلوبة الزمان، وإنما أتي بها لتحقيق هذين الإسمين وما تضمناه من صفة.

8 -

إثبات كمال الله عز وجل في حكمته تعالى، حيث قرن بين العلم والحكمة إشارة إلى أن حكمته صادرة عن علم، وليست عن صدفة؛ لأن الإنسان قد يفعل الفعل ويكون محكمًا متقنًا لكن على غير علم بل صدفة، كما يقال:"رب رمية من غير رامٍ" لكن حكمة الله عز وجل مقرونة بالعلم مبنية عليه.

9 -

أنه يجب علينا التفويض التام فيما لا نعلم حكمته من أحكام الله الكونية أو الشرعية، وجه ذلك: أنه عليم، فعنده من العلم ما يخفى علينا فيخفى به وجه الحكمة بالنسبة إلينا؛ لأن حكمة الله صادرة عن علم.

ولن نتكلم كلامًا واسعًا عن صفة العلم وصفة الحكمة؛ لأن هذا تكرر كثيرًا فيما تقدم.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].

قوله: {إِنَّا} الضمير يعود على الرب عز وجل، ولم يقل:"إني" تعظيمًا لشأنه جل وعلا، وتعظيمًا للمتحدث عنه وهو إنزال

ص: 170

الكتاب، فالتعظيم هنا لعظمة المنزِل ولعظمة المنزَل، وكذلك قوله:{أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} "نا" هنا للتعظيم.

وقوله: {إِلَيْكَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وللناس بواسطة، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]، فهو منزل إلى الرسول مباشرة، وإلينا بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقوله: {الْكِتَابَ} هو القرآن، وسمي بذلك لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ.

والثاني: أنه مكتوب بأيدي الملائكة البررة، كما قال تعالى:{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس: 12 - 16].

والوجه الثالث: أنه مكتوب بأيدي البشر، يكتبه الناس وقد سهل الله لهم ذلك، فهو يكتب من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا.

وأصل الكَتْب مأخوذ من الجمع، لاجتماع الكلمات والحروف، ومنه الكتيبة للطائفة المجتمعة في قتال الأعداء، وكتاب هنا بمعنى مكتوب، فهو فعال بمعنى مفعول.

{بِالْحَقِّ} الباء هنا إما أن تكون للمصاحبة، وإما أن تكون للتعدية، وكلاهما صحيح، فهو نازل بحق ليس مكذوبًا، بل نزل من عند الله حقًا، وهذا لإثبات نزوله من عند الله.

كذلك هو نازل بالحق؛ لأن كل ما نزل به القرآن فهو حق، إن كان خبرًا فهو صدق، وإن كان حكمًا فهو عدل، فالحق وصف للقرآن في حد ذاته، وأنه صدق ومن عند الله، وفيما جاء به فأخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل.

ص: 171

ثم مع ذلك من تدبر القرآن جاعلًا إياه دليلًا على الحق فإنه لا بد أن يهتدي للحق، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]، وتيسيره شامل لتيسير لفظه ومعناه، والعمل به، لكن يحتاج إلى تذكر.

إذًا: قوله: {بِالْحَقِّ} له معنيان، المعنى الأول: أن نزوله من عند الله حقًا، والمعنى الثاني: أن ما جاء به القرآن فهو حق.

قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وقوله: {لِتَحْكُمَ} يحكم بالقرآن، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بالقرآن، كما أننا نحن نستدل بالقرآن.

وقوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} المقصود تحكم بينهم في فصل الخصومات، وفي بيان أحكام أعمالهم، فيشمل هذا وهذا، فهو يحكم فيفصل بين الخصوم عليه الصلاة والسلام بما أراه الله، وكذلك يحكم بين الناس في أحكام أعمالهم، فيقول: هذا حق، وهذا باطل، وهذا واجب، وهذا محرم، وما أشبه ذلك.

وقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} متعلق بتحكم أي: تحكم بالذي أراك الله، وقوله:{أَرَاكَ اللَّهُ} الظاهر أنه من الرأي ومن الرؤية، فيشمل هذا وهذا، فيشمل ما استنبطه النبي عليه الصلاة والسلام من القرآن، وإن لم تكن دلالته صريحة باللفظ وهذا من الرأي، أو مما أراه الله بما يتبين له من ألفاظ القرآن، ويحتمل أن تكون الإراءة هنا بمعنى العلم؛ أي: بما أعلمك؛ فتشمل المعنيين.

وقوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} لما ذكر أن الله أنزل عليه الكتاب بالحق، نهاه أن يكون خصيمًا للخائنين؛ أي: لذوي

ص: 172

الخيانة، والخيانة هي: الغدر في موضع الأمانة، وهي صفة ذم بكل حال، بخلاف المكر والخديعة فإنها تكون أحيانًا مذمومة، وأحيانًا محمودة، فإذا كانت في موضع يحسن فيه المكر والخداع فهي محمودة، وإذا كانت بموضع لا يحسن فيه الخداع والمكر فهي مذمومة، أما الخيانة فلكونها غدرًا في موضع الإئتمان فهي مذمومة بكل حال.

ولذلك يوصف الله بالمكر والخداع ولا يوصف بالخيانة، كما في قول الله عز وجل:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله: {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] ولم يقل: فخانهم، وكان مقتضى المقابلة أن يقول: فخانهم، كما قال:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} لكن الخيانة لما كانت صفة ذم بكل حال صار الله تعالى منزهًا عنها.

وقوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي: مخاصمًا، وهل يكون عليهم خصيمًا؟ الجواب: نعم، يعني: ضدهم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان عظمة الرب، لقوله:{إِنَّا} ، وقوله:{أَنْزَلْنَا} .

فإن قيل: هل تعظيم المتكلم نفسه صفة مدح أو صفة ذم؟

نقول: أما بالنسبة لله عز وجل فهي صفة مدح بلا شك؛ لأنه جل وعلا هو المتكبر المتعال، المستحق للحمد والمدح، أما من الإنسان فهذا فيه تفصيل: فقد يكون من المستحسن أن تعبر عن نفسك بصيغة التعظيم إذا كان في ذلك إهانة للأعداء، وبيان لمنزلتك، فإن التعظيم في هذا المكان أمر ممدوح، قال النبي صلى الله عليه وسلم في مشية الخيلاء: "إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا

ص: 173

الموضع"

(1)

، ولما كانت رسل قريش تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية كان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقفًا على رأسه ومعه السيف، وهذا تعظيم ينهى عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر المصلين خلف من كان قاعدًا أن يصلوا قعودًا، لكن في هذا القيام لإغاظة الأعداء كان ممدوحًا.

كما أنه عليه الصلاة والسلام في تلك الحال كان إذا بصق البصاق يتلقاه الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم يمسحون به وجوههم وصدورهم، ولم يكونوا يفعلون هذا في كل حال، لكن إغاظة للكفار، وكانوا يقتتلون على وضوئه، وقد أثَّر هذا في رسول قريش لما رجع إلى قريش؛ فإنه قال: لقد دخلت على ملوك كسرى وقيصر والنجاشي فلم أر أحدًا يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدًا عليه الصلاة والسلام

(2)

، وأمثالها كثير.

المهم: أن من التواضع أن يذكر الإنسان نفسه بصيغة المفرد، لكن في مقام ينبغي فيه أن يكون معظمًا لنفسه، معتدًا بشخصه، فإنه ينبغي أن يذكر اللفظ الدال على التعظيم.

2 -

علو الله عز وجل لقوله: {أَنْزَلْنَا} ، والنزول لا يكون إلا من علو، والقرآن كلام الله، فإذا كان القرآن نازلًا لزم أن يكون المتكلم به عاليًا.

3 -

أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله:{أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} .

(1)

رواه الطبراني في الكبير (7/ 104)(6508)؛ والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 248) برقم (1083).

(2)

رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب (2734).

ص: 174

فإذا قال قائل: هذا الإستدلال ممنوع؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقال:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، وقال:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] وكل هذه مخلوقة فلا يلزم من إنزال الله شيئًا أن يكون غير مخلوق؟

فالجواب: أن يقال: هذه أعيان قائمة بنفسها منفصلة عن منزلها، أما القرآن فهو كلام والكلام ليس عينًا قائمة بنفسها، بل هو وصف للمتكلم؛ فإذا كان الله أنزله لزم أن يكون الله فوق، وبهذا بطلت شبهة الجهمية والمعتزلة الذين يقولون بخلق القرآن.

4 -

المنقبة العظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، لقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} .

5 -

جواز كتابة القرآن، وهذا أمر متفق عليه بين الأمة، بل قد تكون كتابته واجبة، ولكن على أي وجه يكتب؟ هل بالحروف اللاتينية أم بالحروف العربية أو بالخط الكوفي أو بالخط الفارسي أو بأي شيء؟

الجواب: أحسن ما يكتب فيه أن يكون على الحرف العثماني، هذا أحسن ما يكون، ولكن هل يجوز أن يكتب على غير هذا الوجه بالقواعد المعروفة عند الناس، مثل "الصلاة" نكتبها لام ألف وبعدها هاء، "الزكاة" كذلك، أو أنه لا بد نكتبها على الخط العثماني؟

للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

الأول: أنه يجب أن يكتب بالخط العثماني، وإن خالف القواعد المعروفة العرفية.

ص: 175

والثاني: يجب أن يكتب حسب القواعد العرفية حتى لا يخفى على العامة؛ لأن العامة لولا أنهم يتلقون الزكاة من أفواه العلماء من هذا اللفظ لنطقوا بها حسب الكتابة: الزكوات، فيجب أن يكتب بالخط العرفي حتى لا يشتبه على الناس.

والقول الثالث: التفصيل: فإذا كان المقصود التعليم فليكتب بالخط العرفي؛ لأنه أقرب للفهم، وإذا كان المقصود التلاوة ونحن نتكلم أو نكتب لقوم يعرفون القرآن تلاوة فيكون بالخط العثماني، ولم نر أحدًا جوَّز أن يكتب القرآن بشكل رسوم، أو سيارات، أو مثل إذا كتب:{وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] كتب بصورة طائر، {الْجِبَالَ} [الأنبياء: 79] يكتبها بصورة جبل، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1] يكتبها بصورة قلم، هذا ما رأينا أحدًا فعله، وهو إلى الإستهزاء بكتاب الله أقرب منه إلى التعظيم، والتعظيم له حدود فلا بد أن يكون بالحدود الشرعية.

أرأيت لو قال قائل: أنا أريد أن أقدس الكتاب العزيز وأحمله في جيبي حتى في موضع قضاء الحاجة؛ لأني أنا أحب القرآن فأجعله معي دائمًا، فهل يصح هذا أو لا يصح؟ الجواب: لا يصح؛ لأن التعظيم في حدود، فلا تكتب على جدرانك:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4]؛ لأنك لا تقدر أن تقرأه، وإذا رآها إنسان لا يقدر أن يقرأها؛ لأنها مرسومة على شكل قصر، وربما تكتب على شكل البيت الذي كتبت في مجلسه، فهذا لا يقره عاقل، لكن مع الأسف أن الناس الآن صاروا يتعبدون الله تعالى على غير بصيرة، ولا أظن - إن شاء الله -

ص: 176

أن الحامل لهم على هذا امتهان القرآن، ولكن الحامل لهم على هذا محبة القرآن - فيما نظن والعلم عند الله - ولكنهم أخطأوا الطريق، وكم من إنسان أراد خيرًا لكن أخطأ في المنهج والمسير الموصل إلى هذا الطريق.

6 -

وصف القرآن بما لا يدع مجالًا للشك أن التمسك به هو الخير للأمة، لقوله:{بِالْحَقِّ} ، فإذا أرادت الأمة العزة والتمكين والنصر فلتكن قائمة بالقرآن الكريم؛ لأن القرآن نزل بالحق.

7 -

إثبات العلل في أفعال الله الشرعية والكونية، وتؤخذ من قوله:{لِتَحْكُمَ} ؛ لأن اللام للتعليل، ولا شك أن تعليل أحكام الله عز وجل ثابت ثبوتًا قطعيًا لا إشكال فيه، والحكمة من تمام صفاته سبحانه.

وقد أنكر قوم أن يكون فعل الله تعالى أو حكمه بحكمة، وقالوا: إن أفعاله ليس لها حكمة؛ لأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، ولأنه يفعل لمجرد مشيئة، لكنهم أخطأوا باستدلالهم، وأخطأوا بحكمهم؛ لأننا لو رفعنا الحكمة عن أفعال الله وأحكامه لكانت أحكامه وأفعاله لعبًا ولهوًا ولغوًا، والله عز وجل يقول:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27]، ويقول عز وجل:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} [الدخان: 38 - 39]، ويقول جل وعلا:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115]، ويقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ

ص: 177

يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الأفعال بلا حكمة لعب ولهو وسدًى وعبث.

والغريب أن استدلالهم بالآية: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} دليل عليهم في الواقع؛ لأنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، فأفعاله كلها لا تحتاج إلى السؤال؛ لأن حكمتها واضحة، وقد تخفى علينا، ولكن هذا هو الأصل، أما نحن فنُسأل، وأما تعليلهم بأنه لو كانت أفعاله بحكمة لكانت أفعاله واجبة؛ لأن الحكيم يجب أن يتبع ما تقتضيه الحكمة، فنقول: وليكن هذا، لكن من الذي أوجب عليه هذه الأفعال؟ الجواب: هو الله الذي أوجب على نفسه، كما قال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} [الليل: 12] فالتزم الله بالهدى والبيان للناس، وأما الملك فقال:{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)} [الليل: 13].

8 -

تفويض الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بين الناس بما أراه الله، ويتفرع على هذه الفائدة أن له أن يجتهد، وهو كذلك، ثم إن لم يكن اجتهاده موافقًا للواقع فلا شيء عليه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقتطع له قطعة من النار"

(1)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، حديث رقم (6748)؛ ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم (1713) عن أم سلمة.

ص: 178

9 -

نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مخاصمًا للخائنين، لقوله:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} .

ويتفرع على ذلك: أنه لا يحسن للمحامين أن يتولوا مهنة المحاماة من أجل الإنتصار لمن وكلهم لا للحق، كما هو شأن الكثير اليوم، فأحدهم تجده يحامي عن الشخص في المخاصمات لا من أجل أن يصل إلى الحق، ولكن من أجل أن يغلب فيُعطى ما شُرط له.

10 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وهذا يعلم بسبب نزول الآية، وسبب نزول الآية أن رجلًا من الأنصار - قيل: إنه منافق، والله أعلم - سرق درعًا وأخفاه، ولما علم أن الناس علموا بذلك حمله ووضعه في بيت رجل آخر قيل: إنه يهودي، وقيل: غير يهودي، من أجل أن يتهم هذا الذي جُعل في بيته، ولما أحس قومه بأن الأمر بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن صاحبنا لم يسرق، وإنما السارق غيره، يريدون أن يبرئه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك حتى يبرأ؛ لأنهم قالوا له: إن لم تبرئه فإن الناس سوف يتكلمون فيه، لكن إذا جاءت براءته من عندك أسكتت الناس، فَهَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لثقته بأصحابه وعدم ثقته باليهود

(1)

، وهذا على قول أكثر المفسرين: أن الذي وضعت في بيته هذه السرقة كان يهوديًا، فأنزل الله عليه هذه الآيات ولهذا قال:{وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ، ومعنى {خَصِيمًا} أي: مخاصمًا لهم، وفعيل تأتي بمعنى مُفْعِل، مثل قول الشاعر:

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

فالسميع بمعنى: المسمع.

* * *

(1)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (21/ 10).

ص: 179

* قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)} [النساء: 106].

{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي: اطلب مغفرته، والمغفرة هي: ستر الذنب والتجاوز عنه، يعني: إسقاط العقوبة عنه.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} الجملة صلتها بما قبلها التعليل؛ أي: استغفر الله لأنه جل وعلا يغفر ويرحم كل من استغفره وطلب رحمته.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن همَّ النبي صلى الله عليه وسلم وميله إلى هؤلاء فيه شيء من التقصير، ولهذا قال الله له:{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} ، فيؤخذ منها أنه يجب على الحاكم أن يتأنى في حكمه، وألا يتعجل، بل يتريث لا سيما مع وجود قرائن.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقع منه الذنب، وهذا هو الحق، وأنه يمكن أن يقع منه الذنب إلا ذنبًا ينافي مقتضى الرسالة، مثل الخيانة، والكذب وما أشبه ذلك.

وقال بعض أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يذنب، وأن المراد بذنوبه: ذنوب أمته، أو أن المراد بذلك: تعليمه لتتعلم الأمة، ولكن هذا ليس بصحيح، أما الأول فإن الله تعالى قال:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] والقرآن منزه عن التكرار؛ لأننا لو قلنا: "استغفر لذنبك" أي: ذنوب أمتك لكان قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} تكرارًا لا فائدة منه.

وأما كونه نبيًا فلا يمكن أن يذنب، فنقول: إن الذنب إذا

ص: 180

تلته التوبة فقد يكون الإنسان بعدها خيرًا منه قبلها، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام كان من الأنبياء فأذنب فصارت منزلته وحاله بعد الذنب أكمل منها قبل الذنب؛ لأن الله تعالى قال:{فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121 - 122]، نعم النبي عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يُقر على ذنب، بخلاف غيره، بمعنى: أنه إذا أذنب فلا بد أن يستغفر بتنبيه الله له أو بتنبهه هو، أما غيره فليست له هذه الميزة، وهذا يظهر به الفرق بين الأنبياء وغيرهم.

3 -

إثبات هذين الإسمين من أسماء الله وهما: الغفور، والرحيم، فبالغفور زوال المكروه؛ أي: زوال آثام الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب؛ أي: أن الله ييسر للإنسان ما تكون به رحمة الله له.

4 -

استنبط بعض العلماء: أنه ينبغي لمن استفتي أن يقدم بين يدي فتواه الإستغفار؛ لأن الله قال: {لِتَحْكُمَ} [لنساء: 105] ثم قال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} ؛ ولأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين معرفة الصواب، كما قال تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 13 - 14]، فهم لم يقولوا: إن القرآن أساطير الأولين إلا لأنه حيل بينهم وبين معرفة حقيقته بسبب ذنوبهم، التي رانت على قلوبهم، وهذا القول وجيه، فعلى الإنسان إذا أراد أن يفتي أن يقدم بين يدي فتواه الإستغفار، لا سيما إذا التبست عليه المسألة، أو اشتبه عليه الحكم، فهو يدعو بذلك، وكذلك يدعو بقوله: "اللهم اهدني

ص: 181

لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"

(1)

.

* * *

* قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)} [النساء: 107].

{وَلَا تُجَادِلْ} "لا" ناهية، والمجادلة هي: مماراة الخصم من أجل الظهور عليه، سميت بذلك إما من الجدْل وهو فتل الحبل وإحكامه؛ لأن المجادل يحكم حجته، وإما من الجدالة وهي الأرض؛ وكأن المجادل يطرح خصمه على الأرض حتى لا يكون به حراك.

وعلى كل حال: فهي المماراة والمدافعة من أجل الظهور على الخصم.

والنهي عن المجادلة لا يستلزم وقوعها، فقد يُنهى الإنسان عن الشيء وإن لم يقع، لكنه قد يقع، فينهى عن شيء متوقع غير واقع، فلا يلزم من قوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلْ} أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جادلهم.

وقوله: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يطلبون لها الخيانة فيوقعونها فيها، وهم هؤلاء الذين قالوا: إن صاحبنا لم يسرق، وإن السارق هو اليهودي.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} وإذا كان الله

(1)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث رقم (770) عن عائشة.

ص: 182

تعالى لا يحب من كان خوانًا أثيمًا فإنه لا يجوز الجدال عنه؛ أي: عن هذا الخوان الأثيم؛ لأن المجادلة عنه مضادة لله عز وجل؛ لأنها تأييد له، مع أن الله لا يحبه.

وقوله: {خَوَّانًا} هذه صيغة مبالغة، فيحتمل أن تكون على بابها وأن الله لا يحب كثير الخيانة، ويحتمل أن تكون للنسبة فلا يلزم منها الكثرة، ويكون المعنى: إن الله لا يحب من كان ذا خيانة، وفَعَّال تأتي للنسبة كقوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] أي: بذي ظلم، وليس المعنى: بكثير الظلم؛ لأن الظلم منتفٍ عن الله تعالى قليله وكثيره.

إذًا الراجح: أنها للنسبة؛ أي: لا يحب من كان ذا خيانة.

وقوله: {أَثِيمًا} أي: مكتسبًا للإثم، والخيانة والإثم تنطبق تمامًا على هؤلاء الذين خانوا هذا اليهودي، وأثموا بالسرقة، فهم جمعوا بين أمرين: بين الإثم بالسرقة، وبين الخيانة بإلصاق هذا العمل في غيره.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

النهي عن معاونة الآثم، وهذا مطابق لقوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وتؤخذ من قوله: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} .

2 -

أن اهتداء النبي صلوات الله وسلامه عليه هو بتوجيه الله تعالى وإرشاده، لقوله:{وَلَا تُجَادِلْ} ؛ فإن هذا توجيه من الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ألا يجادل عن هؤلاء.

3 -

أن الخائن لغيره خائن في الحقيقة لنفسه، حيث أوقعها

ص: 183

في المآثم والخيانة، فلا يظن الخائن الذي يكتسب بخيانته ما يكتسب أنه رابح، بل هو خائن لنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من غش فليس منا"

(1)

.

4 -

إثبات محبة الله؛ لأنه لما نفاها عن الخونة دل على ثبوتها للأمناء، وهذا كاستدلال الشافعي رحمه الله بقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] على ثبوت رؤية الله تعالى من المؤمنين، فقال: لما حجب هؤلاء في حال الغضب ثبتت الرؤية للآخرين في حال الرضا.

والمحبة عند أهل السنة والجماعة والسلف الصالح وأئمة الهدى هي ما نعرفه من أنفسنا، ولكن محبة الله ليست كمحبتنا نحن، بل هي محبة كسائر صفاته، جل وعلا، هو أعلم بكيفيتها، ولكن نعلم معنى المحبة، وإذا كانت المحبة بيننا تختلف باعتبار إضافتها وباعتبار قوتها وضعفها، فالإختلاف بين المخلوق والخالق من باب أولى، ولهذا محبتنا للأشياء تختلف حسب متعلق المحبة، فأنت تحب العسل لحلاوته، وتحب صديقك لقربه منك وصداقته، وتحب زوجتك لشيء آخر، وهلم جرا، وتختلف المحبة بحسب متعلقاتها، وتحب ولدك محبة أخرى من جنس آخر، وتحب ابنك الصغير ما دام أنه صغير، لكن إذا كبر تضعف المحبة الأولى، وتنتقل إلى محبة ثانية من نوع آخر، فالمحاب تختلف باختلاف متعلقها.

وإذا كان الله تعالى يحب حقيقةً فما هي المحبة؟

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا"، حديث رقم (101) عن أبي هريرة.

ص: 184

الجواب: المحبة هي: المحبة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه:"روضة المحبين" لا يمكن أن تحد المحبة بمعنى أظهر من لفظها، يعني: مهما قلت: إن ميل الإنسان مثلًا إلى ما يلائمه، فهذه ليست بمحبة، بل هذا أثرها ولازمها، ولذلك المعاني النفسية لا يمكن إطلاقًا أن تعرف بغير لفظها.

إذًا: محبة الله عز وجل ثابتة حقيقة، ولكنها لا تكيف ولا تمثل، لا تكيف لقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، ولا تمثل لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

ومن فسر المحبة بالثواب فهذا وقع في محرم؛ لأنه فسرها باللازم؛ لأن الإثابة فرع عن المحبة، فالصواب: أنها محبة حقيقية، لكنها تستلزم الثواب والرضا وما أشبه ذلك.

5 -

أن الخيانة من كبائر الذنوب، يؤخذ من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} ؛ لأنه إذا رتب على العمل عقوبة خاصة فهو من الكبائر، وهذا أحسن ما قيل في حد الكبيرة، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله، فكل شيء يرتب عليه عقوبة خاصة فهو من الكبائر، سواء كانت العقوبة لعنة، أو غضبًا أو نفي إيمان، أو تبرءًا منه، أو غير ذلك.

6 -

التحذير من الخيانة، لكون الله تعالى نفى محبته للخائن الأثيم، والترغيب في أداء الأمانة؛ لأنه إذا وقع الذم على وصف لزم أن يكون المدح في ضده.

* * *

ص: 185

* قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)} [النساء: 108].

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} أي: هؤلاء الذين سرقوا ولكنهم وضعوا السرقة في بيت آخر خوفًا من العار الذي يلحقهم بالسرقة، فهم يستخفون من الناس أن يوصفوا بالسراق، لكنهم لا يستخفون من الله، والله عز وجل أحق أن يُستخفى منه، وهو الأحق أن يُستحيا منه، وأن يخاف منه عز وجل، أما الناس فإنهم لا يضرونك ما دام الذي بينك وبين ربك سليمًا.

قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} قوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} الجملة هنا: حال، من الواو في {يَسْتَخْفُونَ} ، أو من لفظ الجلالة، وهو أقرب، يعني: ولا يستخفون من الله والحال أنه معهم.

وقوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} المعية يعني: المصاحبة، لكن معية كل شيء بحسبه، والأصل في معنى هذه الكلمة: هي المصاحبة، لكنها تختلف ويختلف مقتضاها بحسب ما تضاف إليه.

فيقال مثلًا: المرأة مع زوجها، ويقال: القائد مع جنده، ويقال: المتاع مع حامله، ويقال: القمر معنا، ويقال أشياء كثيرة تختلف فيها المعية من موضع إلى آخر، لكن يجمع هذه المعاني كلها مطلق المصاحبة، وتختلف مقتضياتها حسب ما تضاف إليه.

فالله تعالى مع هؤلاء الذين بيتوا ما لا يرضى من القول، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والمعيتان تختلفان بحسب مقتضاهما ولوازمهما، والله تعالى مع محمد عليه الصلاة والسلام

ص: 186

في الغار، ومع موسى وهارون في الرسالة، وتختلف هذه المعية عن معيته مع المؤمنين والمتقين، وما أشبه ذلك. فما الذي تستلزمه هذه المعية في هذه الآية؟

الجواب: تستلزم التهديد، بالإضافة إلى الإحاطة؛ لأن المعاني الخاصة تضاف إلى المعنى العام، وهو هنا الإحاطة التامة بالخلق.

ثم هذه المعية الصواب: أن المراد بها المعية الحقيقية، وأنه سبحانه معنا لكنه في السماء، ولا منافاة في ذلك لثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن الله تعالى جمع بين هذين المعنيين في آية واحدة فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] مع أنه ذكر أنه مستوٍ على العرش، ولا يمكن أن يجمع الله لنفسه بين وصفين متناقضين أبدًا.

الوجه الثاني: أنه لا منافاة بين العلو والمعية، فإن هذا ثابت للمخلوق، كما تقوله العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر من أصغر الأجرام السماوية، ومع ذلك هو مع المسافر وغير المسافر، وهو في السماء، فإذا كان اجتماع حقيقة المعية والعلو في حق المخلوق ممكنًا فاجتماعهما في حق الخالق من باب أولى.

الوجه الثالث: أنه لو فرض امتناع اجتماعهما في حق المخلوق فإنه لا يقتضي انتفاء اجتماعهما في حق الخالق؛ لأن الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فإذا كانت

ص: 187

السماوات السبع والأرضون السبع في يده جل وعلا كالخردلة في يد أحدنا فهل يمكن أن يقاس بالخلق؟ ! الجواب: لا يمكن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: هو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه.

إذًا: نحن نؤمن بأن الله تعالى معنا حقيقة، وهو في السماء، يعلم ما في قلوبنا، ويسمع ما نقول، ويرى ما نفعل، وله السلطة التامة علينا، وهذه كلها من مقتضيات المعية، وقد فسرها الكثير من السلف بهذه المقتضيات، فقالوا: هو معنا بعلمه، وهذا لا ينافي أن يكون المراد بالمعية الحقيقية؛ لأنهم فسروها أحيانًا باللازم، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مقدمة تفسيره؛ لأن التفاسير الواردة عن السلف قد تكون باللازم لا لانتفاء المعنى الحقيقي.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن هؤلاء بيتوا ما لا يرضى من القول، يعني: صاغوه واجتمعوا عليه ليلًا؛ لأن البيات لا يكون إلا بليل، ولهذا في بعض الروايات أنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل بعد أن طبخوا ما طبخوا من آرائهم، فيستفاد من ذلك شدة اختفاء هؤلاء، وأنهم لا يحبون أن يطلع أحد عليهم.

وهل يؤخذ منه أننا إذا أردنا أن نخفي شيئًا نصنعه في الليل؟

الجواب: نعم، ربما يؤخذ منه، ولهذا في المثل السائر:"أمر قضي بليل".

2 -

إثبات الرضا لله عز وجل لقوله: {مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}

ص: 188

ووجهه: أن نفي الرضا عن هؤلاء يدل على ثبوته لغيره؛ إذ لو كان منتفيًا عن الجميع ما حسن أن ينفى عن هؤلاء، والرضا الثابت لله هو رضا حقيقي وليس كناية عن إثابتهم، كما قاله أهل التحريف، بل هو رضا اتصف الله به حقيقة، لكنه ليس كرضا المخلوقين، بل هو رضا أعظم وأجل، ولا يمكن أن نحيط به، وقد أثبت الله لنفسه الرضا، يعني: ذكره لنفسه وأضافه إلى نفسه على وجه الإثبات.

مثل قوله سبحانه: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، والله تعالى يرضى من الأقوال والأفعال والأشخاص، يعني: أن متعلق رضاه يكون إما بالأعمال وإما بالأقوال وإما بالأشخاص، لكن رضاه عن الأشخاص إنما هو لأفعالهم وأقوالهم التي ترضي الله عز وجل.

3 -

إحاطة الله تعالى بكل شيء، لقوله:{وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} .

فإن قال قائل: قُدّم المتعلِق على متعلقة وهذا يفيد الإختصاص؟

فالجواب على ذلك: ما أشرنا إليه سابقًا، بأن تقديم ذلك لا يعني الإختصاص، لكنه يعني شدة الوعيد، وتعلق الحكم بهذا المقدم، يعني: كأن الله تعالى يقول: لو لم يكن عالمًا بشيء لكان عالمًا بعمله فالمقصود من ذلك: شدة الوعيد على هؤلاء، وأنه لا يمكن أن يخفى أمرهم عن الله عز وجل.

4 -

إثبات معية الله سبحانه، وتنقسم إلى أقسام:

معية يقصد بها بيان الإحاطة؛ أي: بيان إحاطة الله تعالى

ص: 189

بكل شيء، ومنه قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7].

وتارة يراد بها التهديد، كما في هذه الآية:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} .

وتارة يراد بها: النصر والتأييد، وهذه تكون معلقة بوصف ومعلقة بشخص، مثال المعلمة بالوصف قوله تبارك وتعالى:{وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} [الأنفال: 19]، وقوله:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128]، فهذه معية تقتضي النصر والتأييد، لكنها مقيدة بوصف.

ومعية تقتضي النصر والتأييد مقيدة بشخص، مثل قوله تعالى لموسى وهارون:{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فهذه معية تقتضي النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، لكنها مقيدة بشخص.

وهنا نسأل: هل المراد بالمعية حقيقتها أو لازمها؟

الجواب: نقول: المراد بها حقيقتها، ولكن السلف يفسرونها دائمًا باللازم، كما قالوا: إن المعية هي العلم، فهو معهم بعلمه، ولكن هذا تفسير لها ببعض مقتضياتها، فإن مقتضى المعية: العلم، والسمع، والبصر، والإحاطة، والسلطان، والقدرة، وغير ذلك، ولكنها معية حقيقية، وما فسره السلف بها فهو تفسير

ص: 190

باللازم، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله في مقدمة التفسير: إن السلف قد يفسرون الشيء بلازمه.

فإذا قلنا: إنها حقيقية فهل هذا يعني: أننا ذهبنا إلى ما ذهب إليه أهل الحلول الذين قالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا؟

الجواب: لا، بل نحن ننكر هذا غاية الإنكار، ونقول: إنه ضلال، بل إنه كفر، وإنما نقول: إنه معنا حقيقة وهو في السماء؛ لأن الأدلة السمعية والعقلية كلها تدل على أن الله في السماء، ولا ينافي ذلك أن يكون معنا، لوجوه ثلاثة مرت في التفسير:

أولًا: أن الله جمع بينهما في وصفه نفسه، ولا يجمع الله تعالى بين متناقضين.

ثانيًا: أن العلو والمعية ممكنان في حق المخلوق، كما يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم الفلاني معنا، بل أحيانًا يقولون: سرنا والجبل الفلاني معنا، ومع ذلك فالقمر في السماء والنجم في السماء، والجبل بعيد ثابت على الأرض، وما أشبه ذلك.

ثالثًا: لو فرض أن بين المعنى الحقيقي للمعية وبين العلو منافاة في حق المخلوقات فليس ذلك ثابتًا في حق الخالق؛ لأن الخالق ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: هو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه.

* * *

* قال الله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)} [النساء: 109].

ص: 191

{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} "ها" للتنبيه و {أَنْتُمْ} مبتدأ، و {هَؤُلَاءِ} إما منادى محذوف الأداة، والتقدير: يا هؤلاء، وعليه فيكون قوله:{جَادَلْتُمْ} هو خبر المبتدأ، وإما أن تكون {هَؤُلَاءِ} هي الخبر، وتكون الجملة {جَادَلْتُمْ} في محل نصب على الحال؛ أي: ها أنتم مجادلين عنهم في الحياة الدنيا.

والإشارة في قوله: {هَاأَنْتُمْ} إشارة إلى قوم الرجل الذي سرق درعًا واتهم به رجلًا من اليهود، كما ذكرناه في تفسير الآيات.

وقوله: {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} وهم قد جادلوا عن رجل واحد، لكن هذا الجدل عن الرجل الواحد هو حقيقةً جدال عن الجميع؛ لأن وصمة السرقة لرجل من القبيلة هي وصمة لجميع القبيلة، إذ يعيرون بذلك، فيقال: منكم السراق كفلان، ولهذا قال:{جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} والمجادلة إنما كانت عن شخص واحد.

قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قد يكون الجدل فيه الغلبة ولو بالباطل في الحياة الدنيا؛ لأنه قد يجادل الإنسان بالباطل ويأتي بكلام فصيح بَيِّن، يلبس به الحق بالباطل وينجح.

ولكن: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} و {فَمَنْ} هنا استفهام بمعنى: النفي؛ أي: لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة، والإستفهام إذا جاء في موضع النفي فإنه يكون أبلغ من النفي المجرد؛ وذلك لأنه يكون نفيًا مشربًا بالتحدي، كأن القائل يقول: إذا كان هذا الأمر ممكنًا فأتني به، فمجيء الإستفهام هنا في موضع النفي يكون أشد في النفي؛ لأنه مشرب معنى التحدي،

ص: 192

فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ والجواب: لا أحد، ولا يستطيع أحد أن يجادل عنهم؛ وذلك لأنه لو فرضنا أن أحدًا جادل لشهدت عليه جوارحه، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24].

وقوله: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} أي: ذا وكالة وولاية يدافع ويمنع وينصر، والجواب: لا أحد.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن المجادلة والمخاصمة في الباطل إن نفعت في الدنيا فلن تنفع في الآخرة، وتؤخذ من قوله تعالى:{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

2 -

أن الناس قد يتناصرون بالباطل؛ لأن هؤلاء القوم جادلوا بالباطل وهم يعلمون أن صاحبهم سرق، لقوله:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .

3 -

تحريم المحاماة إذا علم المحامي أن صاحبه مبطل، وجه ذلك: أن الله أنكر على هؤلاء أن يجادلوا عن صاحبهم، أما إذا كان المحامي يريد أن يدافع عن الحق بإثباته فهذا جائز، بل قد يكون واجبًا، كما لو وكلك شخص لا يعرف ولا يكاد يبين أن تدافع عنه، فهذا لا بأس به.

4 -

إثبات اليوم الآخر، وهو يوم القيامة، لقوله:{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

5 -

أن المجادلة يوم القيامة بالباطل لا تنفع وصاحبها مخصوم، ومن ثم يجب الحذر مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "أن الله تعالى قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل

ص: 193

أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"

(1)

، فإننا نعلم أن من كان الله خصمه فهو مخصوم بكل حال.

6 -

أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وأن من حاول أن يخفي عن الله شيئًا فإنه قد ظن بربه ظن السوء، ومع ذلك لن ينفعه هذا الظن، لقوله:{فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} .

* * *

* قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} أي: ما يسوء غيره، كما يدل على هذا أن الآيات كلها في سياق قصة معينة، فيكون المراد بالسوء ما يسوء الغير؛ كاتهام هؤلاء اليهودي في السرقة.

قوله: {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} يعني: بالمعاصي؛ لأن المعاصي ظلم للنفس، إذ أن النفس عندك أمانة يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، فإذا عصيت الله فقد ظلمتها، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

إذًا: هو يظلم نفسه بالمعاصي التي بينه وبين ربه، ويعمل سوءًا يسيء به إلى غيره.

(1)

رواه البخاري، كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًا، حديث رقم (2114) عن أبي هريرة.

ص: 194

قوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي: يطلب مغفرة الله عز وجل بحاله ومقاله، أما المقال فظاهر، كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله، وأما الحال: فبأن يكون آتيًا بشروط التوبة الخمسة، وهي:

الأول: الإخلاص، بأن لا يحمله على التوبة مراعاة أحد من الناس.

الثاني: أن يندم، ويقع في نفسه حسرة على فعل الذنب.

الثالث: أن يقلع عن الذنب.

الرابع: العزم على ألا يعود.

الخامس: أن يكون في وقت التوبة؛ أي: في الوقت الذي تقبل فيه التوبة.

والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، وليست الستر فقط؛ لأن الإشتقاق يدل على أنه لا بد من ستر ووقاية؛ إذ أنها مأخوذة من المِغْفَر، والمغفر: ما يغطى به الرأس من الفولاذ ونحوه لاتقاء السهام، فيحصل به ستر ووقاية.

وأقول: إنها مشتقة من المِغْفَر؛ لأن الأصل أن المعاني مأخوذة من الأشياء المحسوسة، فلهذا تجد علماء اللغة يعيدون المعاني إلى الأصول المحسوسة، فيقولون: مشتقة من كذا، وأصل ذلك ما قيل: إن الإنسان صار يتكلم تقليدًا لما يسمع حوله من صرير الرياح وحفيف الأشجار وما أشبه ذلك، هكذا قيل: مع ما علَّم الله عز وجل آدم من أسماء.

إذًا: المغفرة هي: ستر الذنب والتجاوز عنه.

ص: 195

وقوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.

وقوله: {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} {يَجِدِ} هذه جواب الشرط "من"، ولذلك صارت مجزومة، وحركت بالكسر لالتقاء الساكنين، والمعنى:{يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: أن الله يغفر له، والغفور هو: ذو المغفرة، كما قال تعالى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] والرحيم: هو ذو الرحمة كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، فأنت إذا استغفرت الله عز وجل، وتبت إليه على الوجه الذي يرضاه فستجد الله غفورًا رحيمًا.

والرحمة تطلق على الرحمة التي هي صفته، وعلى آثار الرحمة التي هي خلقه.

أما القسم الأول فهو الأصل، وهو أن الرحمة صفة من صفات الله عز وجل، وأما الثاني: فمنه قوله تعالى للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"

(1)

وليس المعنى الرحمة التي هي وصفه؛ لأن الجنة مخلوق بائن، ومن ذلك أيضًا على قول بعض أهل العلم في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28]{وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} يعني: النبات وما يحصل من الرزق بالماء النازل من السماء.

أما الرحمة التي هي وصفه فإنها تنقسم عند أهل العلم إلى قسمين: عامة، وخاصة، فالعامة هي التي تشمل كل مخلوق، والخاصة هي المختصة بالمؤمنين، وهي التي تتصل بها سعادة الدنيا والآخرة.

(1)

تقدم (1/ 181).

ص: 196

والرحمة العامة: الرحمة لعموم الخلق في الدنيا، ولهذا نجد أن الكفار لله تعالى عليهم رحمة، فرزقهم .. وأمدهم .. وأعطاهم عقولًا؛ أي: عقولًا يدركون بها لا عقول رشد وتصرف، وهذه رحمة عامة، وكل ما مر بك من ذكر اسم الرحيم فالمراد الرحمة العامة، ويدخل فيه الخاصة، أما إذا خصت فهي الخاصة؛ كقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] وهذه رحمة خاصة بالمؤمنين.

والعجب! أن الأشاعرة أنكروا وصف الله تعالى بالرحمة، وأثبتوا له الإرادة، وقالوا: لا يجوز أن نثبت لله رحمة؛ لأن الرحمة رقة ولين ولا تليق بالخالق، وهذا بناءً على أصلهم الفاسد، وهو أنهم يتلقون ما يعتقدون في ربهم من عقولهم الفاسدة أيضًا؛ لأن الدليل الصحيح لا يناقض العقل الصريح، فيقول أحدهم: لا تصف الله بالرحمة، فمعنى الرحيم عنده: المنعم، أو مريد الإنعام، المنعم لأن النعمة منفصلة بائنة مخلوقة، أو مريد الإنعام لأنهم يثبتون الإرادة.

وسبحان الله! انظر إلى العقل المتناقض، يقول: الإرادة دل عليها العقل بواسطة التخصيص، يعني: تخصيص بعض المخلوقات بشيء من الأشياء يدل على الإرادة، فكون الآدمي على هذا الوصف، والحصان على هذا الوصف، فما الذي جعل هذا على وصف وهذا على وصف؟ الجواب: إرادة الله عز وجل، فقالوا: إن تخصيص المخلوقات بما تختص به يدل على إرادة الله.

والإستدلال بهذا على الإرادة استدلال خفي لا يدركه إلا طلبة العلم، بعد أن يقرؤوا، ولا يثبتون الرحمة التي آثارها يعرفها

ص: 197

الخاص والعام، فالليل والنهار، والمطر والأشجار والأنهار والبحار كل واحد يعرف أن هذه من رحمة الله، ولذلك تجد العامي إذا أمطرت السماء يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا يشك في هذا، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن من أساء إلى غيره ثم استغفر الله غفر الله له، وحينئذ يشكل علينا أن العلماء قالوا: إن الدواوين ثلاثة: منها: ديوان الخلق، يعني: المعاملة مع الناس، فإن هذا لا يغفره الله عز وجل، ولكن ظاهر النصوص أنه إذا صحت التوبة غفره الله، والدليل على هذا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 70] مع أنه ذكر القتل، فإذا تاب الإنسان من القتل توبة تمت شروطها فإن الله يغفره. ومن شروط التوبة في القتل: أن يسلم نفسه لأولياء المقتول، فإذا سلم نفسه لأولياء المقتول فقتلوه أو عفوا عنه مع ندمه على ما فعل، واستغفاره لربه، فإن حق المقتول يتحمله الله عنه يوم القيامة؛ لأن إيفاء المقتول حقه في هذه الصورة متعذر، والقاتل الذي صحت توبته يقول في نفسه: لو أمكنني أن استحل الميت لفعلت، لكني أنا الآن لا أقدر على أكثر من أن أسلم نفسي لأولياء المقتول، فهذا يتحمله الله عنه.

ولو أن أحدًا سرق مالًا من شخص، فقد عَمِل سوءًا في

ص: 198

غيره وتاب من ذلك، فهل يتوب الله عليه؟ الجواب: نعم، إذا تمت شروط التوبة، ومن شروط التوبة أن يرد المال لصاحبه، فإذا رد المال لصاحبه فقد تاب، وعلى هذا فنقول: ظاهر الآية هنا وغيرها أيضًا من النصوص أنه متى صحت التوبة حتى في حقوق الآدمي التي لا يستطيع أن يتخلص منها فإن الله تعالى يقبل توبته.

2 -

أن الإنسان تصح توبته من الذنب ولو تكرر، ووجهه، العموم في قوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ} وهذا عام فيمن تكرر منه ذلك أو لم يتكرر، ويدل لهذا الحديث الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام:"أن رجلًا أذنب فاستغفر الله، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي - ثم عاد ثانية ثم ثالثة إلى أن قال الله له -: اعمل ما شئت فقد غفرت لك"

(1)

فهذا يدل على أن التوبة تثبت وتقع من الله عز وجل ولو تكرر الذنب، ولهذا قال العلماء: من شروط التوبة: أن يعزم على ألا يعود لا ألا يعود، فإذا عزم على ألا يعود فقد صحت توبته، وإذا عاد لم تبطل توبته الأولى، بل توبته الأولى صحيحة، وعليه أن يجدد توبة ثانية للذنب الثاني.

3 -

أن المعاصي ظلم للنفس؛ لقوله: {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} وهذا شيء ثابت مكرر في القرآن، قال الله تعالى:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، وقال:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]، إلى غير ذلك من النصوص

(1)

رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} ، حديث رقم (7068)؛ ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت، حديث رقم (2758) عن أبي هريرة.

ص: 199

الدالة على أن الإنسان هو الظالم لنفسه إذا عصى الله.

4 -

أن الإنسان قد يكون عدوًا لنفسه، كما أن أقرب الناس قد يكون عدوًا له، كما قال تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] فأنت احذر نفسك؛ فإنها عدوك.

5 -

أن الله تعالى يقبل من عبده الإستغفار إذا تمت شروطه؛ أي: بلسان حاله ومقاله، لقوله:{يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} فأنت استغفر واصدق في استغفارك ستجد الله عز وجل غفورًا رحيمًا.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا (111)} [النساء: 111].

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} هذه الجملة الشرطية فعل الشرط فيها: قوله: {يَكْسِبْ} ، وجواب الشرط فيها قوله:{فَإِنَّمَا} ، والسؤال هنا: لماذا اقترن الفاء بالجواب؟

والجواب: أن يقال: إن هذه تشبه الجملة الإسمية؛ لاقترانها بإنما، وأصل "إنما""إن" حرف توكيد زيد عليه ما الكافة فصارت إنما.

وقوله: {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يعني: لا على غيره.

ففي هذه الآية يخبر الله عز وجل أن من اكتسب إثمًا فإنه لا يضر إلا نفسه؛ لأنه يكسبه على نفسه، لا على غيره.

وقوله: {إِثْمًا} نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الآثام الكبائر والصغائر، وتعم الآثام المباشرة والآثام السببية؛ لأن

ص: 200

الإنسان قد يباشر الإثم بنفسه، وقد يكون دالًا عليه أو معينًا عليه، فيكون ذلك إثمًا.

وقوله: {وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} سبق أن مثل هذا التعبير لا يدل على الحدوث، ولا على أن الله كان عليمًا حكيمًا فيما سبق فقط، وإنما الفعل هنا مسلوب الزمان، والمقصود به: تحقيق تسميته سبحانه بهذين الإسمين واتصافه بما دلا عليه.

في الآية الكريمة: كرر الله عز وجل أن الإنسان إذا كسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه؛ لأن هذه الآيات كما ذكرنا فيما سبق أنها نزلت في قصة الرجل الذي سرق درعًا ثم رمى به يهوديًا، فأرادوا أن يتهموا هذا اليهودي، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتبين براءة اليهودي، فيقول الله عز وجل: إذا كسب الإنسان إثمًا فإنما يكسبه على نفسه.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الإنسان إذا كسب الإثم فإنما يكسبه على نفسه، ولا يحمله غيره، ويؤكد هذا قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

فإن قال قائل: أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سن في الاسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"

(1)

.

الجواب: بلى، ولكن يكون عليه وزر من عمل بها وهو لم

(1)

رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، حديث رقم (1017) عن جرير بن عبد الله.

ص: 201

يباشر العمل؛ لأنه هو الذي سن هذه البدعة السيئة، ولهذا ما قُتلت نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول منها كفل؛ لأنه أول من سن القتل، وعلى هذا فيقال: إن الذي سن البدعة واتبعه الناس عليها فإن سنه إياها من عمله.

2 -

أن الله تعالى لا يظلم أحدًا فيحمل غيره إثمه إلا بحق، وقد سبق أن من ظلم الناس فإن الناس يأخذون من حسناته حتى تفنى، ثم يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه ويطرح في النار، وهذا ليس تحميلًا للغير إثم غيره، ولكنه من باب المقاصة والمجازاة، فإذا لم يكن عند هذا حسنات يؤخذ منها بقدر مظلمة الآخرين، فإنه يؤخذ من سيئاتهم وتطرح عليه ويطرح في النار.

3 -

إثبات هذين الإسمين من أسماء الله: العليم، والحكيم؛ لقوله:{وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} .

4 -

إثبات ما تضمنه هذان الإسمان من صفات الله، فالعليم تضمن: العلم، والحكيم تضمن: الحكمة والحكم؛ لأنه مر أن الحكيم مشتق من الحكم والإحكام الذي هو الحكمة.

5 -

أن من علم الله وحكمته أن من كسب إثمًا فإنه يكسبه على نفسه، فإن ذلك من الحكمة البالغة.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112].

{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} الخطيئة والإثم من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، فالخطيئة والإثم والسوء وما أشبه ذلك معناها واحد إذا انفردت كل كلمة عن

ص: 202

الأخرى، أما إذا اقترنت إحداهما مع الأخرى فلا بد أن نحمل كل واحدة على معنى، لئلا يلزم التكرار بلا فائدة، والأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة، فما هي الخطيئة وما هو الإثم؟

قال بعض العلماء: الخطيئة: ما ارتكبه الإنسان عن غير قصد، والإثم ما ارتكبه عن قصد، وفي هذا نظر؛ وذلك لأن الخطيئة المرتكبة عن غير قصد قد رفع الله عنها الحرج والإثم، فلا تكون خطيئة، وأجيب عن ذلك: بأنه لا مانع أن يكسب خطيئة ويكون هناك مانع من العقوبة عليها، وإلا فالأصل أن من فعل الخطيئة عوقب عليها، لكن هناك مانع، وهو عفو الله عز وجل.

وقيل: الخطيئة: ما تعدى إلى الغير، والإثم ما كان خاصًا بالإنسان، وقيل بالعكس، وكل هذه أقوال قيلت دفعًا لوجود التكرار في الآية.

وقوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} الفعل لا يمكن أن يدخله الكسر، فلماذا كان هذا الفعل مكسورًا؟ الجواب: لأنه مجزوم بحذف حرف العلة وهو الياء.

وقوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} أي: بريئًا من هذا الإثم، وذلك كرمي هؤلاء الفئة لليهودي بأنه هو السارق.

وقوله: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} أي: كذبًا.

وقوله: {وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: عقوبة بينة، فكلمة "مبين" بمعنى بينًا؛ لأن المبين يأتي بمعنى البين ويأتي بمعنى المبيِّن للشيء؛ إذ إن "أبان" يستعمل لازمًا كما يستعمل أبان متعديًا، فتقول مثلًا: أبان لي الحجة وهذا متعدٍ، ويقال: أبان الفجر أي: ظهر، وهذا لازم وعليه فكلمة "مبين" بمعنى بين.

ص: 203

وقوله: {احْتَمَلَ بُهْتَانًا} لأنه كذب على الغير: {وَإِثْمًا مُبِينًا} لأنه جمع بين الخطيئة أو الإثم وبين رمي غيره بها، فجمع بين السيئتين، ولهذا كان إثمًا مبينًا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

تحريم رمي الغير بما يفعله الإنسان من خطيئة، ووجه ذلك: قوله: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ، فإن رمى الغير بخطيئة أو إثم لم تنسب إليه من قبل، فهل يكون داخلًا في ذلك، يعني: أن رجلًا اتهم شخصًا بعمل خطيئة أو إثم وقال: إنه عمل الخطيئة والإثم، فهل نقول: إنه احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا؟

الجواب: نعم، نقول ذلك، لكن الآية إنما خصت ذلك فيمن فعل الشيء ثم رمى غيره لأنها تحكي القضية الواقعة، وحكاية القضية الواقعة لا يكون لها مفهوم ما دام المعنى ثابتًا في هذا ونظيره، ولا شك أن من رمى غيره بفعل خطيئة وهو كاذب أنه متحمل للإثم والبهتان.

2 -

أن السيئات تتضاعف بتعدد أوصافها، لقوله:{بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ، وهذا هو الواقع وهو العدل، أرأيت من قذف قريبًا له ومن قذف أجنبيًا عنه، كلاهما قد قذف، لكن انضم إلى قذف القريب قطيعة الرحم، فتكون هذه السيئة متضاعفة فلا جرم أن يتضاعف إثمها؛ لأن الأحكام مرتبة على أوصافها.

وكذلك من تصدق على بعيد وتصدق على قريب، ففعله كله صدقة، لكن صدقته على البعيد صدقة فقط، وعلى القريب صدقة وصلة، فالأعمال السيئة تتضاعف بتضاعف الأوصاف، وكذلك الأعمال الصالحة تتضاعف بتضاعف الأوصاف.

ص: 204

3 -

التحذير من رمي الغير بالخطايا والآثام، لقوله:{فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .

* * *

* قال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113].

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} {لَوْلَا} شرطية، ويقال في إعرابها: حرف امتناع لوجود، والموجود هنا:{فَضْلُ اللَّهِ} ، والممتنع قوله:{لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ} ، وهناك "لو"، ويقال فيها: حرف امتناع لامتناع؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء: 64]، "فلو" هذه حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جاء زيد لأكرمته، ولهما بنت عم بعيدة وهي:"لما"، ويقال فيها: حرف وجود لوجود، مثل قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، فـ "لما" هذه حرف وجود لوجود، وجد الكفر لوجود المجيء، وتقول: لما جاء زيد جاء عمرو، وجد مجيء عمرو لوجود مجيء زيد، وعلى هذا فقد توزعت هذه الأحرف الثلاثة الوجود والعدم.

وهنا يقول الله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} والفضل هو: العطاء الزائد، والرحمة أعم؛ لأن الرحمة يكون فيها دفع المكروه وحصول المطلوب، والفضل حصول المطلوب.

وقوله: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ} هذا جواب {لَوْلَا} ، وهذه

ص: 205

الطائفة هي التي ادعت أن السارق هو اليهودي، واجتمعوا على ذلك حتى لبسوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهموا أن يضلوه.

وهنا إشكال: فإن ظاهر الآية الكريمة أنهم لم يهموا أن يضلوه، وإذا نظرنا إلى القصة وجدنا أنهم هموا، يعني: أنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأجمعهم، وأنكروا أن يكون صاحبهم هو السارق، ورموا اليهودي بالسرقة، فقد هموا وفعلوا؟

والجواب عن ذلك أن يقال: هموا همًا يحصل به إضلاله، ولكنهم لم يصلوا إلى مرادهم، فصح أن يكون قوله:{لَهَمَّتْ} جوابًا لقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} .

وقوله: {أَنْ يُضِلُّوكَ} {أن} هنا مصدرية، حذف منها حرف الجر، وتقديره:"بأن يضلوك" وحذف حرف الجر مع أَنْ وأَنَّ مطرد، وإذا حذف حرف الجر نصب المجرور، فهذه قاعدة مطردة في أَنَّ وأَنْ، كما قال ابن مالك:

وفي أَنَّ وأَنْ يطرد

مع أمن لبس كعجبت أن يدوا

أما مع غير أَنَّ وأَنْ فهو سماعي، سمع عن العرب ولا يقاس عليه، ومن ذلك قول الشاعر:

تمرون الديار ولم تعودوا

كلامكم إذًا عليّ حرام

الشاهد في قوله: الديار، والأصل أن يقول: تمرون بالديار ولم تعودوا، ولكن حذف الباء فنصب المجرور بنزع الخافض، لكنه غير مطرد إلا في أنْ وأنَّ.

وقوله: {أَنْ يُضِلُّوكَ} الإضلال معناه في الأصل: يقال: ضل الطريق بمعنى تاه، ولم يكن سيره على بينة، والمراد إضلال الرسول عليه الصلاة والسلام هنا الذي همَّ به هؤلاء، ولكن

ص: 206

فضل الله ورحمته تداركت النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحكم بأن السارق هو اليهودي.

وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74] يعني: لو ركنت إليهم ولو شيئًا قليلًا {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 75] وتأمل هذه الآية يتبين لك عظم مخالفة الشرع من أجل عباد الله.

فقوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام، لولا أن الله ثبته لركن إليهم شيئًا قليلًا، فما بالك بنا نحن؟ ! فالواجب على الإنسان أن يتنبه لمثل هذه الآية، وأن يسأل الله دائمًا الثبات على ألا تأخذه في الله لومة لائم، ولو فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات؛ لأن ذنب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كذنب غيره.

قوله سبحانه: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} يعني: أنهم بتحايلهم واتهامهم للغير وإرادتهم أن يضلوا الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يضل، بل هذا لا يحصل به إلا ضلال أنفسهم.

وقوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} {من} هذه زائدة زائدة، تكون زائدة إعرابًا زائدة معنى، زائدة الأولى هي من الفعل اللازم، والثانية من المتعدي؛ لأن معنى زائدة هي بنفسها، وزائدة معنًى؛ أي: زادت المعنى. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 17] تكون متعدية وتكون لازمة.

وعلى كل حال قوله: {مِنْ شَيْءٍ} {مِن} هذه زائدة إعرابًا

ص: 207

وزائدة للمعنى، والزيادة في الإعراب: هو أنه لو حذفت لاستقام الكلام، فلو كان في غير القرآن وقيل: وما يضرونك شيئًا لصح الكلام، وهي زائدة من حيث المعنى يعني: تزيد في المعنى؛ لأن الحروف الزائدة من أدوات التوكيد، فهي تؤكد المعنى، ولهذا نقول: إن قوله: {شيئًا} هنا نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فإذا دخلت عليها:{مِن} كانت نصًا في العموم؛ كـ "لا" النافية للجنس.

وقوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} يعني: لا يمكن أن يضروك بأي شيء من الأشياء؛ لأن الله سبحانه قد منَّ عليك بفضله ورحمته.

وقوله: {وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الكتاب هو القرآن، والحكمة في معناها وجهان:

الوجه الأول: أن المراد بذلك أسرار الشريعة؛ أي: أسرار أحكامها، فإن شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام كلها مشتملة على أسرار وحكم عظيمة.

والوجه الثاني: المراد بالحكمة: السنة، فالله أنزل عليك القرآن والسنة، والمعنيان لا يتنافيان في الواقع

(1)

، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الكتاب وأنزل عليه السنة، وكذلك الكتاب والسنة كلاهما مشتمل على أحكام وحكم بالغة، قد تنالها العقول وقد لا تنالها.

وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} علم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم، قال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ

(1)

ورجح الشيخ رحمه الله في الفوائد الوجه الأول. وأورد إشكالًا على الوجه الثاني ص 775، ولعله أراد عدم تنافي المعنيين عمومًا.

ص: 208

رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] ، وهذا لا ينقص النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، بل يزيده، وفيه دلالة على أنه رسول الله حقًا، فمن أين جاءه هذا العلم؟

الجواب: من الله عز وجل، ولهذا وصف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه أمِّي وصف ثناء لا وصف قدح؛ لأن كونه أميًا ثم يأتي بهذا الكتاب العظيم الذي أعجز البشر يدل على أنه رسول الله حقًا.

وقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} هذا توكيد لقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} وما ظنك بوصف الفضل بالعظم من العظيم الذي لا أعظم منه؟ ! يكون هذا العظم عظمًا بالغًا جدًا؛ لأن وصف العظيم للشيء بالعظيم يدل على عظمة كبيرة، ولهذا تجد الفقير مثلًا يستعظم أن يكون عنده ألف ريال، والغني يستصغرها ولا يراها شيئًا، فوصفه بالعظم وهو من عند الله الذي هو أعظم من كل شيء يدل على عظم الفضل الذي أوتيه الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

2 -

إثبات الرحمة الخاصة، فإن قوله:{وَرَحْمَتُهُ} رحمة خاصة لم تكن لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، والرحمة نوعان: عامة وخاصة، فالعامة هي التي تشمل جميع العباد لقوله:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، وأما الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين خاصة لقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

3 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم محتاج لفضل الله ورحمته، ولولا فضل الله

ص: 209

عليه ورحمته لحصل له ما يحصل لغيره، لقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} .

4 -

أن الإنسان إذا منع من الضلال بسبب أو بغير سبب فذلك من فضل الله عليه، ويتجلى ذلك أن الإنسان أحيانًا يرى رأيًا في مسألة من المسائل أنها حرام أو حلال ثم يقيض الله له من يناظره في هذه المسألة حتى يتبين له الحق ويأخذ به، فهذا من نعمة الله عليه، ومن فضل الله عليه، وأحيانًا ينقدح له الحق دون مناظرة إما بالتأمل والتدبر، وإما بأن ينظر إلى أشياء أخرى يقيسها عليها أو غير ذلك.

المهم: أن الإنسان متى تبين له الحق بأي سبب فإن ذلك من نعمة الله عليه، فليحمد الله على ذلك.

5 -

الحذر من أهل السوء، وألا يغتر الإنسان بظاهر الحال، لكن إذا لم يكن إلا ظاهر الحال فلا بد أن يحكم بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما أقضي بنحو ما أسمع"

(1)

ولكن عليه أن يحترس، فإن الإنسان قد يغر غيره بحاله، لقوله:{لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} .

6 -

أن من أراد إضلال الخلق فإنه لا يضر إلا نفسه، لقوله:{وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأنهم عموا في الواقع عن الحق، ودعوا الناس إلى الباطل، فاكتسبوا إثمًا إلى آثامهم فأضلوا أنفسهم بذلك.

7 -

عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من إضرار هؤلاء، لقوله:{وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} .

(1)

تقدم ص 178.

ص: 210

8 -

أن القرآن الكريم منزل من عند الله، لقوله:{وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} .

9 -

إثبات علو الله؛ لقوله: {أَنْزَلَ} ، والنزول يكون من أعلى. وعلو الله عز وجل نوعان: علو معنوي، وعلو ذاتي.

فأما العلو المعنوي: فهو كمال أوصافه عز وجل، وهذا لا ينكره أحد ممن ينتسب إلى الإسلام، فكل من ينتسب إلى الإسلام يقر بعلو الله عز وجل علوًا معنويًا.

والثاني: علو ذاتي، وهذا يثبته السلف وأئمة الأمة، وينكره الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فهم ينكرون العلو الذاتي، وانقسموا إلى قسمين:

قسم منهم يقول: إن الله معنا في كل مكان، فليس له مكان أعلى، فإن كنا في المسجد فهو معنا، وإن كنا في البيت فهو معنا، وإن كنا في السوق فهو معنا، في أي مكان فهو معنا، ومع فلان وفلان في أي مكان، ولا شك أن هذا ضلال مبين؛ فإن الرب عز وجل واحد، فكيف يكون ذاتيًا في كل مكان، فهذا يلزم منه إما التعدد وإما التجزؤ، ويلزم منه أيضًا أن يكون الله حالًا بالأمكنة، وهو أعظم من كل شيء؛ بل السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعًا قبضته سبحانه.

وأما الآخرون فقالوا: إن الله تعالى لا يوصف بأنه فوق العالم، ولا تحت العالم، ولا يمين العالم، ولا شمال العالم، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم، فأين هو؟ ! ! وهذا هو وصف العدم، ولهذا قال محمود بن سبكتكين رحمه الله لمحمد بن فورك لما وصف الله عز وجل بهذه الصفة، قال: فرِّق لنا بين

ص: 211

الرب الذي تعبده وبين العدم؟ أي: أن هذا هو العدم، ولو قيل للإنسان: صف العدم بأبلغ من هذا الوصف ما وجد إلى ذلك سبيلًا.

أما أهل الحق فقالوا: إن الله تعالى بذاته فوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون في كل مكان، ولا يمكن أن نصفه بالعدم كما وصفه هؤلاء.

10 -

أن القرآن كلام الله، وجهه: أن الله قال: {وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ومعلوم أن القرآن كلام، والكلام صفة المتكلم، فإذا كان الإنزال دالًا على علو المنزل كان ذلك دليلًا على أن القرآن كلام الله؛ لأن القرآن وصف لا يمكن أن يقوم بذاته، فلزم أن يكون كلام الله عز وجل.

فإن قال قائل: في هذا الإستدلال نظر؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، وقال:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، ولا شك أن هذه الأشياء الثلاثة ليست كلام الله، ففي هذا الإستدلال نظر؟

فالجواب على ذلك أن يقال: هذه الأشياء أعيان قائمة بنفسها فهي مخلوقة، وأما القرآن فهو صفة لا تقوم بنفسها؛ لأنه كلام، فلزم من ذلك أن يكون صفة لله وليس بمخلوق، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.

أما الأشاعرة فقالوا: هذا القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، وكلام الله غير مخلوق؛ لأنهم يرون أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وحقيقة قولهم: أنهم فسروا الكلام بالعلم وليس

ص: 212

بالكلام؛ لأن المعنى القائم بالنفس ليس كلامًا، بل إن الجهمية خير منهم في هذا الباب؛ لأن الجهمية يقولون: كلام الله مخلوق، وهو هذا الذي بين أيدينا، وهم يقولون: هذا الذي بين أيدينا مخلوق، وليس هو كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله! فصار الجهمية من هذا الوجه أحسن منهم.

11 -

فضيلة الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان محلًا لإنزال الكتاب عليهم، وقد قال الله تبارك وتعالى:{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

12 -

أن القرآن كتاب، فِعَال بمعنى مفعول، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا.

13 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي الحكمة، والحكمة قيل: إنها السنة؛ لأن السنة حكمة، ولكن هذا القول وإن كان ذهب إليه كثير من العلماء ففي النفس منه شيء؛ لأن الحكمة الكائنة في القرآن كالحكمة الكائنة في السنة أو أعظم، وحينئذ نقول: المراد بالحكمة هي: الأسرار التي اشتملت عليها شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به هذا القرآن، فيكون الله تعالى قد أنزل على رسوله أحكامًا وحكمًا، وهذا القول عندي هو الأرجح؛ لأن التعبير عن السنة بأنها منزلة من عند الله فيه شيء أيضًا؛ لأنه ليست السنة كلها وحيًا، بل منها ما هو وحي، ومنها ما هو إقرار من الله للرسول عليه الصلاة والسلام، وما أقر الله رسوله عليه فهو من عنده.

14 -

فضيلة العلم؛ لأن الله امتن به على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث

ص: 213

قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ، ولا شك أن العلم أشرف ما يلقاه الإنسان بعد الإسلام، فهو خير من المال، وخير من الأولاد، وخير من الأزواج، وخير من الدنيا كلها، وانظر إلى العلماء الذين نور علمهم بين أيدينا اليوم، وانظر إلى من في زمنهم من الملوك والسراة والوجهاء والأعيان وغير ذلك ذهب ذكرهم، لكن العلماء بقي ذكرهم، وصاروا يدرسون الناس وهم في قبورهم، وهذه فضيلة عظيمة للعلم، فما أُعطي الإنسان بعد الإسلام خيرًا من العلم.

والعجب! أن العلم كما قال القائل:

يزيد بكثرة الإنفاق منه

وينقص إن به كفًا شددتا

فكلما علّمت غيرك ازداد علمك، وكلما أمسكت العلم نقص علمك، والمال بالعكس، ولولا أن الله ينزل البركة فيمن تصدق حتى لا تنقصه الصدقة لانتهى المال عن قرب.

15 -

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم إلا من عند الله، ولا علم له بشيء إلا من عند الله، لقوله:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} .

فإن قال قائل: هذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جاهلًا من قبل، وهذا نقص فيه؟

فنقول: كلا، ليس نقصًا، بل هو كمال له؛ لأن إعطاءه الكمال بعد النقص من هذا الباب يعتبر كمالًا، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن ينزل عليه الكتاب لا شك أنه كان لا علم عنده، لقول الله تبارك وتعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، ولقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا

ص: 214

الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] أي: لولا أن الله منَّ عليك بالعلم، نسأل الله أن يمن علينا بالعلم النافع.

وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية لا تدل على أنه علَّمه كل شيء، بل علمه ما لم يكن يعلمه من قبل، فجائز أن يكون علّمه ألف مسألة أو مليون مسألة أو عشر مسائل؛ لأنه قال:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ، ولم يقل: علمك كل شيء، وبهذا نرد على أولئك الكاذبين الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، ونقول: كذبتم، ورب العرش! الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وإذا كان بعض أخص أصحابه لا يدري أين ذهبوا وهم في مكان واحد، فكيف تقولون: إنه يعلم الغيب؟ ! وإذا كان يدخل بيته ولا يدري ما في البيت، ويقول:"هل عندكم شيء؟ "

(1)

وإذا قالوا: ليس عندنا شيء، قال:"ألم أر البرمة على النار؟ ! "

(2)

، وهو لا يدري، فلعله ماء يفور، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب أبدًا، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} [الجن: 26 - 27]، وليس يعطيه علم كل شيء، حتى الساعة جاء جبريل عليه السلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من

(1)

رواه مسلم، كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، حديث رقم (1154) عن عائشة.

(2)

رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأدم، حديث رقم (5114)؛ ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم (1504) عن عائشة.

ص: 215

السائل"

(1)

فأشرف الرسل من الملائكة وأشرف الرسل من البشر كلاهما لا يعلم متى تقوم الساعة.

16 -

بيان فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعظمه؛ لقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .

وربما يتفرع من هذه الفائدة: أن أعظم فضل يتفضل الله به على العبد هو العلم، ولا شك في هذا، ثم هذه البشرى هي لأهل العلم؛ إذا علمهم الله تعالى من شريعته ما علمهم، فإنما هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم حيث علمهم من شريعته ما لم يكونوا يعلمون.

* * *

* قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114].

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ} الإعراب: {لَا خَيْرَ} : {لا} نافية للجنس، واسمها قوله:{خَيْرَ} مبني على الفتح في محل نصب، وقوله:{فِي كَثِيرٍ} هو خبرها، وقوله {إِلَّا مَنْ} هذه بدل.

قوله: {مِنْ نَجْوَاهُمْ} يحتمل أن تكون جمعًا؛ كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 7] فنجوى هنا بمعنى: متناجين؛ أي: ما يكون من متناجين ثلاثة إلا وهو رابعهم.

(1)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام، حديث رقم (50)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان

، حديث رقم (9) عن أبي هريرة.

ص: 216

ويحتمل أن تكون مصدرًا، وعلى هذا فيكون المعنى: لا خير في كثير من مناجاة من تناجوا، هذا من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى فهو واحد لا يختلف، والمعنى: أن كثيرًا مما يتناجى به هؤلاء لا خير فيه، والقليل فيه الخير.

قوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ} {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ} هل تحتاج إلى تقدير مضاف، فنقول: التقدير: إلا نجوى من، أو لا تحتاج؟

الجواب: نقول: هذا مبني على كلمة نجواهم، فإن قلنا: إنها مصدر احتاجت إلى التقدير، يعني: إلا نجوى من، وإن قلنا: نجوى بمعنى متناجين، فـ "من" هنا لا تحتاج إلى تقدير؛ لأن المعنى: لا خير في كثير من المتناجين إلا من أمر ففيهم الخير.

والنجوى سواء قلنا: إن المعنى: متناجين، أو إنها مصدر النجوى فهي: الكلام الذي يسره الإنسان إلى جليسه، وسيأتي إن شاء الله بيان حكمها.

وقوله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} يعني: إلا الذي أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فهذه ثلاثة أشياء.

وقوله: {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي: من قال لغيره: تصدق، وهذه الكلمة تصدق إن وقعت من أعلى فهي أمر، أو من مساوٍ فهي التماس ومشورة، وهو شامل لهذا وهذا؛ أي: سواء كان الآمر له الإمرة على من وجه إليه الخطاب، أو كان الآمر ليس له إمرة، لكنه قاله على سبيل النصيحة والمشورة.

وقوله: {بِصَدَقَةٍ} منكر، والتنكير يدل على الإطلاق، فيشمل القليلة والكثيرة.

وقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} المعروف ما ليس بمنكر، وهو أعم

ص: 217

من الصدقة؛ لأن الصدقة إحسان، والمعروف ما يتعارف الناس عليه وإن لم يكن صدقة، مثال الأمر بالمعروف: كأن يأمر بالتسامح، أو يأمر بالتواصل، أو يأمر بالإحسان، وهذا لا يكون داخلًا في الصدقة، إذا خصصنا الصدقة بأنها صدقة المال.

وقوله: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} الإصلاح هو إزالة الفساد بين الناس، مثل أن يكون بين اثنين عداوة، فيسعى شخص إلى إزالة هذه العداوة، فهذا هو الإصلاح، وهو من أفضل الأعمال المقربة إلى الله.

وقوله: {بَيْنَ النَّاسِ} يشمل المسلمين وغير المسلمين، فالإصلاح بين الناس خير سواء أصلحت بين المسلمين أو بين الكفار، أو بين المسلمين والكفار، وأخذنا العموم من قوله:{النَّاسِ} .

ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} المشار إليه ما سبق من الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح.

قوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ابتغاء: بمعنى طلب، مرضاة الله: أي: طلب أن يرضى الله عنه.

قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} الفاء هنا رابطة لجواب {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ} في قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} واقترن الجواب بالفاء؛ لأنه اقترن الجواب بسوف، يقول ابن مالك:

واقرن بفا حتمًا جوابًا لو جعل

شرطًا لإن أو غيرها لم ينجعل

يعني: ما لا يصح أن يلي "إن" وجب أن يقرن بالفاء، وهذا ضابط اقتران الفاء بجواب الشرط.

وما ذكر ابن مالك فيه فائدة، وهي: الإشارة إلى سبب

ص: 218

وجوب اقترانها بالفاء، وهو أنه لا يصح أن يكون فعلًا للشرط، فإذا لم يصح أن يكون فعلًا للشرط لم يصح أن يكون جوابًا، ولذلك وجب اقترانه بالفاء.

ومعنى البيت إجمالًا: أنه إذا لم يصح أن يكون الجواب فعلًا للشرط وجب اقترانه بالفاء، وهذا الحكم؛ لأن ما لا يصح أن يكون شرطًا لا يصح أن يكون جوابًا، فلهذا وجب أن يقترن بالفاء.

وقوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} في قوله: {نُؤْتِيهِ} قراءتان سبعيتان: {نُؤْتِيهِ} ، و"يؤتيه"، أما على قراءة "يؤتيه" فهي جارية على نسق الكلام؛ لأن الكلام كله في الغيب، وإذا قال:{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} فقد خرج عن نسق الكلام، ويسمى هذا التفاتًا، وكل التفاتٍ لابد له من فائدة على حسب السياق.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن كثيرًا من كلام الناس ليس فيه خير، فما هو الميزان لما فيه الخير وما لا خير فيه؟

الجواب: الميزان ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"

(1)

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"

(2)

، وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن قيل

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فلا يؤذ جاره، حديث رقم (5673)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير .. ، حديث رقم (48) عن أبي شريح العدوي.

(2)

رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب (11)، حديث رقم (2317)؛ وابن =

ص: 219

وقال وكثرة السؤال، فهذه ثلاثة أحاديث كلها تبين ما هو الخير في الكلام.

2 -

فضيلة الصدقة، وجه ذلك: أنه إذا كان الآمر بالصدقة في أمره خير؛ ففاعل الصدقة من باب أولى.

3 -

حث الإنسان على الأمر بالخير والإحسان، لقوله:{إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} .

4 -

فضيلة الأمر بالإصلاح بين الناس.

5 -

فضيلة الأمر بالمعروف؛ حيث قرنه الله تعالى بالأمر بالصدقة، لقوله:{إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} ، والمعروف هو: كل ما عرفه الشرع وأقره فهو معروف، وكل ما أنكره ونهى عنه فهو منكر.

6 -

بيان أن هذه الأمور الثلاثة فيها خير وإن فعلها الإنسان بغير قصد ابتغاء وجه الله، وجهه: أن الله تعالى لما نفى الخير في كثير من النجوى استثنى هذه الثلاثة، ثم قال:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .

7 -

وجوب العناية بالإخلاص؛ لأن هذه الثلاثة وإن كان فيها خير لأنها متعدية لكنه لا يحصل فيها الأجر العظيم.

8 -

أنه يصح إطلاق الفعل على القول، وتؤخذ من قوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} مع أن الذي حصل أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح، وهذا إذا قلنا: إنها عائدة على مفهوم الأمر، أما إذا

= ماجه، كتاب الفتن، باب كف الإنسان في الفتنة، حديث رقم (3976)؛ وابن حبان (1/ 466)(229)؛ والطبراني في "الأوسط"(1/ 115) عن أبي هريرة.

ص: 220

قلنا: إنها عائدة على الصدقة والمعروف والإصلاح فإن هذا فعل ولا إشكال فيه؛ لأن المشار إليه بذلك مختلف فيه كما ذكرناه سابقًا.

9 -

إثبات الرضا لله عز وجل، لقوله:{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، والرضا صفة فعلية؛ لأن كل صفة تتعلق بمشيئة الله إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها فهي صفة فعلية، هذا هو الضابط في ذلك، والرضا متعلق بالأشياء؛ لأن سببه الفعل الذي يرضى به الله، والفعل الذي يرضى به الله تابع لمشيئة الله؛ لأنه من فعل العبد وفعل العبد كائن بمشيئة الله.

إذًا: فالرضا من الصفات الفعلية، وليعلم أن الصفات الفعلية كلها باعتبار الجنس صفات ذاتية، لكن أنواعها وأفرادها هي التي تحدث وتتجدد، أما أصلها وهو الفعل فهو صفة ذاتية، والدليل: أن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالًا، لكن المتجدد هو أنواع الفعل أو آحاد الفعل، فمثلًا: الإستواء على العرش مما حدث نوعه؛ لأننا لا نعلم فعلًا هو الإستواء إلا ما كان خاصًا بالعرش، وما كان خاصًا بالعرش فإنه قطعًا حصل بعد خلق العرش.

والنزول إلى السماء الدنيا؛ هو حادث النوع، وحادث الآحاد أيضًا؛ لأن الله ينزل كل ليلة، والإستواء على العرش مطلق عام، ليس له حد بليلة ولا بيوم ولا بأسبوع ولا بشهر، لكن النزول متجدد؛ لأنه ينزل كل ليلة، فتبين أن صفات الأفعال أصلها ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فَعَّالًا.

وإذا قلت: ما الدليل على هذا؟

ص: 221

فنقول: لأن الفعل كمال، ولو قلنا: إنه يأتي أو يمر عليه زمن لم يكن فاعلًا لكان هذا نقصًا في الله عز وجل؛ لأننا إذا قلنا: أتى عليه زمن لم يكن فاعلًا فهذا لأنه غير قادر، فإن قلت: إنه غير قادر فهذا أمر مشكل، وإن قلت: إنه قادر، قلنا: هات الدليل على التحديد؛ لأن تحديد ما لم يقم عليه دليل يعتبر تحكمًا، فمن أي وقت صار الفعل ممكنًا في حقه؟ فلذلك نقول: إن صفات الأفعال أصلها ذاتي؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالًا، أما أنواعها وآحادها فهي فعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئته تبارك وتعالى.

وأما عند أهل التعطيل كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية وأشباههم فيقولون: إن الله ليس له رضًا، لكنهم لا ينكرونه إنكار جحود، بل إنكار تأويل؛ لأن نفي الإنكار تكذيب للقرآن، ومكذب القرآن كافر، أما إذا قالوا: نعم، لله رضًا، لكن المراد بالرضا كذا، فهذا يسمى إنكار تأويل، ولا يكفرون بذلك إلا إذا كانت عندهم بدع كبيرة تكفر، فهذا شيء آخر.

وبماذا يفسرون الرضا؟ يقولون: الرضا هو: الإثابة، فيقال: إن الإثابة ليست هي الرضا؛ لأن الإثابة فعل منفصل بائن عن الله عز وجل، فيثيب هؤلاء الذين يرضى عنهم بشيء منفصل بائن عن الله، بالجنة ونعيمها، وبالحياة الطيبة في الدنيا، وما أشبه هذا.

إذًا: تفسيره بالإثابة غلط، ونقول: إذا فسرتموه بالإثابة لزم من ذلك ثبوت الرضا، إذ لا يمكن أن يثيب إلا من رضي عنه، ولا يثيب من غضب عليه أبدًا، بل يثيب من رضي عنه، ولهذا

ص: 222

مهما فروا من إنكار الرضا فإنه سوف يكون لازمًا لهم، مع المعاناة والتحريف لا يمكن أن ينفلتوا منه إطلاقًا، ولهذا نجد أن أريح المذاهب وأسهلها هو مذهب أهل السنة والجماعة، مذهب السلف الذين يقولون: ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، وما نفاه عن نفسه نفيناه، فنقول: نحن نثبت الرضا لله عز وجل كما أثبته لنفسه، وننفي عنه المثل كما نفاه عن نفسه، فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وننفي التكييف أيضًا؛ لأنه لا علم لنا به، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فتجد مذهب السلف سهلًا ليس فيه قلق، وليس فيه تناقض، وإنما التناقض عند أهل التحريف من المعتزلة وغيرهم.

10 -

إثبات صفات الفعل في قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .

11 -

أنه لا ينبغي للإنسان أن يستعجل الثواب، إذ قد يؤخر الله الثواب لحكمة، وتؤخذ من قوله:{فَسَوْفَ} الدالة على التسويف، وهي تدل على التحقيق، لكن تدل على أن الشيء ليس منتظرًا قريبًا، بل ولو على المدى البعيد، ولهذا لا تستعجل ثواب الله، بل ولا تستعجل إجابة الله للدعاء، كما جاء في الحديث:"يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي"

(1)

وكذلك انتظار الثواب لا تستعجل به.

(1)

رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، حديث رقم (5981)؛ ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل

، حديث رقم (2735) عن أبي هريرة.

ص: 223

ثم إنه ينبغي للإنسان أيضًا - ونسأل الله أن يعيننا على ذلك - إذا عمل العمل الصالح أن لا يستعجل ثواب الدنيا، فيكون مريدًا في الدنيا، يعني: مثلًا: من آمن وعمل صالحًا فقد قال الله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] فلو عملت لأجل أن يحييك الله حياة طيبة فهذا لا شك أنه خير، لكن خيرًا من ذلك أن تنوي ثواب الآخرة، وسيأتيك ثواب الدنيا.

فإن أردت ثواب الدنيا والآخرة فلا بأس؛ لأن الله لم يذكر لنا ثواب الدنيا عبثًا، ولكن لتنشط الهمم وتنبعث النفوس، وإلا لكان كل ثواب ذكره الله في الدنيا يعتبر عبثًا ولغوًا، فلا حرج على الإنسان أن ينوي ثواب الدنيا والآخرة، لكن من ينوي ثواب الدنيا فقط فهذا لا شك أنه ناقص الإخلاص.

12 -

عظم ثواب من فعل ذلك ابتغاء وجه الله، لقوله:{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} ؛ لأن تعظيم الشيء من العظيم يدل على عظمته.

13 -

بيان فضل الله عز وجل على عباده، حيث سمى ثوابهم على العمل أجرًا، بمنزلة أجرة الأجير التي لا بد أن يُعطاها؛ لأنه هو مستحق لها، وهذا من نعمة الله أن يسمي الثواب الذي جعله على العمل أجرًا، بمنزلة أجرة الأجير اللازمة، مع أن الله هو الذي منَّ بالعمل، وهو الذي منَّ بالثواب، وبهذا يزول الإشكال في مثل قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245] فهذه الآية من المتشابه اتبعها من اتبعها من اليهود، وقالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] والدليل على أنه فقير أنه طلب القرض فقال: {مَنْ

ص: 224

ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فيقال: تبًا لكم! إن الله غني عن عباده، قبل أن يخلقهم وبعد أن يخلقهم، لكنه شبه العمل بالقرض من باب الإحسان، وبيان أنه عز وجل ملتزم بأن يثيب المطيع.

فإن قال قائل: تقديرك هذا يقتضي أن يكون الله قد وجب عليه شيء؟ والله تعالى لا يجب عليه شيء؟

فالجواب: نعم، لا يجب عليه شيء من قبل الناس، فالناس لا يوجبون على الله شيئًا، لكن هو سبحانه أوجب على نفسه، وإذا أوجب على نفسه فهو من كماله، كما قال الله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] فهو الذي كتب على نفسه أن يثيب المطيع، وأن من عمل سوءًا بجهالة ثم تاب تاب الله عليه، ولهذا لما قال القائل:

ما للعباد عليه حق واجب

كلا ولا عمل لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله وهو الكريم الواسع

قال ابن القيم مثل هذا القول إلا أنه قيده ووضحه فقال:

ما للعباد عليه حق واجب

هو أوجب الأجر العظيم الشأن

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله والفضل للمنان

فبين رحمه الله أنه لا واجب على الله للعباد إلا ما أوجبه

على نفسه، فإذا أوجب الله على نفسه شيئًا فهو من فضله عز وجل.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].

ص: 225

قوله: "مَن" هذه شرطية، وليست موصولة؛ لأن الفعل بعدها مجزوم، وفك الإدغام هنا جائز، ولو أدغم لقال فيه: ومن يشاقِّ الرسول.

وقوله: {الرَّسُولَ} "أل" هنا للعهد الذهني، والمراد به الرسول الذي أرسل إلى هذه الأمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ} متعلق بالمشاقة يعني: وجدت مشاقته {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي: تبين له الحق وظهر، والهدى: العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق، فالهدى هو: العلم، ودين الحق هو: العمل الصالح.

وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} معطوفة على قوله: {يُشَاقِقِ} ، يعني: يجمع بين الأمرين: مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين.

والمشاقة معناها: أن يكون في شق غير شق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي مأخوذة من الشق، وليس من المشقة.

وقوله: {غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يمكن أن نجعل {غَيْرَ} صفة لموصوف محذوف؛ أي: ويتبع سبيلًا غير سبيل المؤمنين، ويمكن أن نجعلها مفعولًا به بدون أن نقدر موصوف.

وسبيل المؤمنين: هي طريقهم، ومن المعلوم أن المؤمنين ليس لهم طريق إلى الله إلا بشرعه.

قوله: {نُوَلِّهِ} هذا جواب الشرط، وقوله:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} يعني: نتخلى عنه، ونجعل أمره إلى ما تولاه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر

ص: 226

إليه"

(1)

، ومعنى:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي: نتركه فلا نتولاه، ونقول: لك ما توليت، ومن تعلق شيئًا وكِّل إليه.

قوله: {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي: ندخله جهنم حتى يصلاها، وصليها؛ أي: احتراقه بها.

وقوله: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} الجملة جملة إنشائية للذم؛ أي: ما أسوأها مصيرًا، والمصير بمعنى: المرجع.

فهذه الآية فيها التحذير والوعيد على من شاق الرسول عليه الصلاة والسلام، واتبع غير سبيل المؤمنين، بأن الله تعالى يعاقبه على ذلك بعقوبتين:

العقوبة الأولى: أن الله يوليه ما تولى ويتخلى عنه.

والعقوبة الثانية: أن الله يصليه جهنم، وجهنم اسم من أسماء النار.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

تحريم مشاقة الرسول، وأنها من كبائر الذنوب، وجهه: أنه رتب عليها العقوبة، وهي: التخلي عنه، وصليه جهنم.

فإن قال قائل: هل هذا عام في كل مشاقة، أو هو مقيد بحسب ما تقتضيه النصوص؟

فالجواب: الثاني؛ لأن بعض أسباب المعاصي لا تخرج من الدين، ولا يترتب عليها هذا العقاب، لكن لو أن الإنسان أراد بمعصيته مخالفة الرسول صراحة وأظهر عدم رضاه بهذا الحكم فهذا يكفر، لا من أجل المعصية التي فعلها ولكن من أجل

(1)

تقدم (1/ 257) من حديث: "إنما الأعمال بالنيات .. ".

ص: 227

المشاقة والمخالفة، وعدم الإلتزام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

العذر بالجهل، لقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} ، فلو أنكر الإنسان شيئًا مما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وصار يحاج عليه، لكنه جاهل فإنه معذور؛ لأن الآية صريحة:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} .

3 -

أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو هدى ونور، ويتبين بأن يتأمل الإنسان ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من العبادات والأخلاق والمعاملات وغير هذا، فإذا تأمله بعلم وعدل - يعني: كان منصفًا - تبين له الحق وعرف أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق.

4 -

أنه مع التردد لا تقوم الحجة، لقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} ، لكن على الإنسان أن يتبين ولا يقول: أنا ما اتضح لي الحق ولا أعرفه، يجب أن يبحث، وهذا يرد علينا، ففي بعض البلاد الإسلامية يكون فيها عوام مشركون شركًا صريحًا لا إشكال فيه، فيعبدون القبور، ويستغيثون بالأموات، وغير ذلك مما يأتونه من الشرك الأكبر، ويقال لهم: إن هذا شرك، لكن لا يبحثون، فهؤلاء لا يعذرون بجهلهم؛ لأنهم لم يطلبوا التبين، وهم مفرطون بلا شك.

5 -

الإحتجاج بالإجماع، لقوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فإنه يستدل بذلك على أن سبيل المؤمنين حق، وهو كذلك يعني: أن الأمة إذا أجمعت على شيء فإنه حق، ولا يمكن لهذه الأمة التي اختارها الله عز وجل، وجعلها شهيدة على الناس كما قال:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وهي تشهد

ص: 228

على أفعالهم وعلى أحكام أفعالهم، لا يمكن أن يقال: إن إجماعها ضلالة أبدًا، بل إجماعها على الشيء حق، ولكن الذي يبقى هو تحقيق الإجماع، فهذا هو المشكل؛ لأنك أحيانًا ترى من العلماء الأجلاء من ينقل الإجماع والخلاف قائم موجود، وبعض العلماء - عفا الله عنهم - لا يقول: لا أعلم مخالفًا، إذ لو قال كذا لكان معذورًا، لكنه يقول: بالإجماع، أو أجمعوا على كذا، بينما الخلاف موجود بكثرة.

ومن الغرائب: أنه نقل الإجماع على أن شهادة العبد مردودة، ونقل إجماع آخر على أن شهادة العبد مقبولة، وهذا لا يمكن، لكن السبب في ذلك عدم التحري والإطلاع على أقوال أهل العلم، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب الصواعق المرسلة طائفة كبيرة مما نقل فيه الإجماع، ونقله أئمة أجلاء وليس فيه إجماع.

ومن الأمثلة بالإضافة إلى مسألة شهادة العبد، نقل بعض العلماء الإجماع على أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يبين المرأة، وقال: هذا مجمع عليه، ومن قال: إنه لا يبينها فقد خرج عن الإجماع وخالف سبيل المؤمنين، هذا الإجماع لا يمكن أن يصح أبدًا، لا بعد عهد عمر ولا قبل عهد عمر رضي الله عنه، أما قبل عهد عمر رضي الله عنه فإنه لا يصح قطعًا، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان الطلاق الثلاث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر واحدة"

(1)

، يعني:

(1)

رواه مسلم، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، حديث رقم (1472) عن ابن عباس.

ص: 229

الرجل إذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فهي واحدة، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لركانة:"كيف طلقتها"؟ قال: طلقتها ثلاثًا، قال:"في مجلس واحد"، قال: نعم، قال:"فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت"

(1)

، وهذا واضح أنه كرر فقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، لكن سأله وقال:"في مجلس واحد" لأنه إذا كان في مجلسين فيحتمل أنه راجع فيما بين الطلقتين، وإذا راجع فيما بين الطلقتين صارت الثانية واقعة.

فعلى كل حال: أنا أريد أن أمثل أن بعض العلماء نقل الإجماع على أنها تبين بطلاق الثلاث، سواء كانت متفرقة أو مجموعة، ونحن نقول: هذا لا يصح؛ لأنه إذا كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة كيف يصح الإجماع؟ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإجماع على أنها لا تقع إلا واحدة، وهو إجماع قديم سابق، والذي قال ذلك: أسعد بالصواب ممن قال: إن الإجماع على أنها تبين بها المرأة ولا شك.

فالمهم أن هذه مسائل يحتاج الإنسان فيها إلى تحرير المسألة، والإطلاع الكامل، وقد عرف عن بعض العلماء التساهل في نقل الإجماع، وعذرهم في ذلك أنهم لم يطلعوا على مخالف فتساهلوا في الأمر.

ولا إجماع مع مخالفة الخمسة أو العشرة، بل ولا مع مخالفة الواحد والإثنين، إلا عند بعض العلماء، فابن جرير رحمه الله يرى أن خلاف الواحد والإثنين لا ينقض

(1)

هذا اللفظ لأحمد (1/ 265).

ص: 230

الإجماع، والصواب: أنه لا بد من إجماع كل المجتهدين، والعوام لا نعتبرهم، والمقلدون لا نعتبرهم؛ لأن العلماء أجمعوا على أن المقلد ليس من العلماء فلا يعتبر قوله؛ لأن المقلد نسخة من كتاب مؤلف في هذا المذهب، فالإجماع يكون من المجتهدين، وهنا في قوله:{الْمُؤْمِنِينَ} يشمل العامي والمقلد والعالم، فتخصيص {الْمُؤْمِنِينَ} بالمجتهدين لأن العامي تابع للعالم، إذ ليس له رأي في الواقع فلا يعد، ولذلك تجد العامي يتبع العالم الذي في بلده، حتى إنه قبل أن يوجد الإتصال التام بين الناس إذا قيل مثلًا: قال الشيخ في الرياض كذا وكذا، ثم قيل: وقال الشيخ في بلد آخر كذا وكذا، لا يعتبرون القول الثاني؛ لأن العامي مع شيخ بلده.

6 -

أن سبيل المؤمنين طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ} ، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} إذًا: سبيل المؤمنين هي عدم المشاقة وهو كذلك، وكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا كان أقوى اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كأنه يشاهد الرسول أمامه فيتبع أثره، وإذا اتبع الإنسان هذه الطريقة حصل له الراحة والطمأنينة وقوة الإيمان، كلما فعل شيئًا كأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه يرشده بقوله أو بفعله.

وهذه المسألة يجب علينا أن ننتبه لها؛ حتى لا تضيع علينا أعمالنا سدى؛ لأن أكثرنا عنده الإتباع المطلق - والحمد لله -، لكن الإتباع الخاص في كل فعل يفعله أو يقوله، فهذا يُفقد منا كثيرًا فلا بد من التنبه له.

7 -

عقوبة من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين بأنه

ص: 231

يولى ما تولى فيضيع، وهذا هو الواقع، ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، فالذنب سبب للذنب الآخر، وكلما أذنب الإنسان ذنبًا فليتهيأ لذنب آخر عقوبة له إلا أن يتوب.

8 -

إثبات النار والعذاب بها، لقوله:{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وهذه النار - أعاذنا الله منها - موجودة وهي مؤبدة. وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، ولم يعرف لأحد في ذلك خلاف إلا أقوال شاذة لا عبرة بها؛ لأن الله صرح بتأبيدها في آيات ثلاث في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64 - 65] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] أعاذنا الله وإياكم منها.

9 -

ثناء الله بالذم والقدح على النار، لقوله:{وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وصدق الله عز وجل فإن أسوأ مصير يصير إليه الإنسان أن يصير إلى النار.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116].

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} سبق الكلام على هذه الآية،

ص: 232

وكررها الله مرتين في هذه السورة، وكان بين الآيتين ذكر قتل النفس، وقد مر أن أهل العلم قالوا: إن قاتل النفس له توبة، واستدلوا لذلك بأن الله ذكر قتل النفس بين آيتين كلتاهما تدل على أن ما سوى الشرك فالله تعالى يغفره.

وسبق القول في معنى ما دون ذلك.

وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} وفي الآية الأولى: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].

فيؤخذ من مجموع الآيتين أن المشرك مفترٍ ضال، وهو كذلك؛ لأن دعواه أن لله شريكًا كذب وافتراء عظيم.

وكونه يبني على هذه الدعوى أن يشرك بالله يكون هذا ضلالًا، فمجرد قوله: إن الله له شريك، افتراء، ثم تطبيق ذلك في عمله يعتبر ضلالًا، فيؤخذ من الآيتين الكريمتين: أن المشرك مفتر ضال.

وقوله: {بَعِيدًا} لعظم إثمه وذنبه.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} [النساء: 117].

قوله سبحانه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)} .

{إِنْ} هنا بمعنى "ما"، وعلامة كون {إِنْ} بمعنى "ما" أن تأتي بعدها {إِلَّا} ففي قوله تعالى:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ} [المائدة: 110] المعنى: ما هذا، وفي قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] المعنى: ما هذا إلا ملك كريم، وفي قوله:

ص: 233

{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} [فاطر: 23] أي: ما أنت إلا نذير، فـ {إِنْ} تأتي بمعنى "ما" وعلامتها أن يأتي بعدها {إِلَّا} ، كما أن {إِنْ} لها معانٍ متعددة:

فتأتي نافية، وتأتي مخففة من الثقيلة مثبتة عكس النافية؛ لأن المخففة من الثقيلة تفيد التوكيد، إذ أنها هي "إنَّ" لكن خففت، فتكون للتوكيد عكس "إِنْ" فإنها للنفي، قال الشاعر:

ونحن أباةُ الضيم من آل مالكٍ

وإن مالك كانت كرام المعادن

أي: وإنَّ مالكًا كانت كرام المعادن، وقال تعالى:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164 {وَإِنْ كَانُوا} بمعنى: إنّ، واسمها، يقولون: إنه ضمير الشأن المحذوف، والتقدير: وإنه؛ أي: الشأن، أو وإنهم؛ أي: القوم، وبعضهم يقول: لا نقدر ضمير الشأن، بل نقدر ضميرًا مناسبًا للسياق، فإذا كانوا جماعة قلنا التقدير: إنهم ولا مانع.

على كل حال: هذه {إِنْ} مخففة من الثقيلة، وهي على العكس من {إِنْ} النافية؛ لأنها للإثبات، وتوكيد الإثبات بخلاف {إِنْ} النافية.

وتأتي {إِنْ} شرطية، وهذا كثير مثل:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].

وتأتي زائدة يعني: وجودها كالعدم كقول الشاعر:

بني غدانة ما إن أنتم ذهبٌ

ولا صريف ولكن أنتم الخزف

فالشاعر يهجو هؤلاء القوم، ويقول: لا أنتم ذهب ولا فضة، بل أنتم خزف، والناس معادن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الناس معادن"

(1)

، معدن طيب ومعدن رديء.

(1)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ =

ص: 234

على كل حال: هي في هذه الآية الكريمة في قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} نقول: {إِنْ} نافية؛ أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله - أي: سوى الله - إلا إناثًا، ومعنى قوله:{إِلَّا إِنَاثًا} قيل: إن أسماء هذه الأصنام أسماء إناث: اللات، والعزى، ومناة، فهذه كلها أسماء إناث، والمؤنث دون المذكر في قوته ومرتبته ومقامه، وفي كل شيء قال الله:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].

وقيل المعنى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} أي: إن يدعون إلا شيئًا مثل الإناث لا يدفع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره، وعلى هذا القول يدخل في ذلك الأصنام المذكرة مثل: هبل، فهبل مذكر، ومع ذلك يعبد من دون الله، وعلى هذا يكون هذا القول أولى بالصواب؛ لأنه أعم، ولأنه يدل على حقيقة هذه الأصنام وأنها لا تدفع عن نفسها شيئًا فكيف عن غيرها.

قوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أي: وما يدعون إلا شيطانًا مريدًا، والدعاء هنا بمعنى العبادة، يعني: وما يعبدون إلا الشيطان، والعبادة هنا بمعنى الطاعة؛ أي: يطيعون الشيطان، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60 - 61]، فالشيطان يأمرهم بالشرك فيشركون، فيكون شركهم بالشيطان شرك طاعة، وشركهم بالأصنام شرك عبادة، وقوم هذه حالهم لا خير فيهم، فهم لا يعبدون إلا ما لا ينفعهم، ولا يأتمرون إلا بأمر الشيطان.

= فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} (3383)؛ ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب خيار الناس (2526) عن أبي هريرة.

ص: 235

وقوله: {شَيْطَانًا مَرِيدًا} المَريد: هو البالغ في العدوان والعتو غايته، وهل الشياطين أقسام: منهم المريد ومنهم غير المريد، أم أنها صفة كاشفة؟

في هذا قولين، فيحتمل أنها صفة كاشفة، والمعنى أن كل شيطان فهو مريد، ويحتمل أنها صفة مقيدة، وأن الشياطين ينقسمون إلى مردة وغيرهم، ولهذا جاء في حديث تصفيد الشياطين في رمضان في بعض الألفاظ:"تصفد مردة الشياطين"

(1)

أي: الشياطين العتاة الأقوياء بعتوهم.

* * *

* قال الله تعالى: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)} [النساء: 118 - 119].

{لَعَنَهُ اللَّهُ} اللعن بمعنى: الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل، وهذا يتعين أن يكون خبرًا؛ لأنه من الله، والله يفعل ولا يدعو على أحد، فالله تعالى يخبر بأنه لعنه، وقد قال الله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 78]، وفي الآية الثانية:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 35]، فلعنة الله ولعنة اللاعنين على إبليس إلى يوم الدين.

قوله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} قوله: {وَقَالَ} الفاعل الشيطان، والواو للاستئناف، ولهذا يتعين

(1)

رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب فضل شهر الصوم، حديث رقم (682)؛ والنسائي، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (2106)؛ وأحمد (2/ 292) عن أبي هريرة.

ص: 236

الوقوف على قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ} ثم تستأنف، {وَقَالَ} أي: الشيطان.

وقوله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} مقول القول: هو جملة {لَأَتَّخِذَنَّ} ، وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، ونون التوكيد.

وقوله: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} المعنى: أتخذهم أولياء أتولاهم ويتولوني، والنصيب: الجزء من الشيء، وهذا النصيب أكبر بكثير من النصيب السابق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله يقول يوم القيامة:"يا آدم؛ فيقول: لبيك وسعديك! فيقول: أخرج من ذريتك بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون"

(1)

.

لكن يجب أن نعلم أن الشيطان لم يقل: لأتخذن من بني آدم، بل قال:{مِنْ عِبَادِكَ} و {عِبَادِكَ} أعم وأشمل من بني آدم، ولهذا قال:{نَصِيبًا مَفْرُوضًا} وهم الذين أغواهم من بني آدم.

فعليه نقول: هل المراد بالعباد هنا: بنو آدم؟ إن قيل: هم بنو آدم صار من باب العام الذي يراد به الخاص، وحينئذ يكون هذا النصيب المفروض أكثر بكثير من الذين سلموا من إغوائه، وإذا قلنا: المراد بالعباد ما يشمل كل الخلق، ومنهم الملائكة الذين قال الله تعالى عنهم:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، كذلك كل المخلوقات متذللة لله عز وجل تذللًا شرعيًا أو تذللا قدريًا.

(1)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء قصة يأجوج ومأجوج (3348)؛ ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب قوله يقول الله لآدم اخرج بعث النار من ذريتك (222) عن أبي سعيد.

ص: 237

وعلى هذا يكون النصيب المفروض بالنسبة للعباد على سبيل العموم قليلًا، لكنه بالنسبة لبني آدم كثير؛ لأن من الألف من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعين في النار وواحدًا في الجنة.

وقوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} الفرض بمعنى الحتم، يعني: محتمًا مقدرًا، وقد أعطاه الله عز وجل ذلك، ومكنه من إضلال بني آدم لحكمة أرادها سبحانه، ولكنه توعد من تابعه، وقال:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص: 85].

قوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} فهو يتخذهم أولياء يتولاهم ويتولونه، ويضلهم أيضًا عن صراط الله عز وجل، سواء في هذه الأمة أو في غيرها، والجملة هنا: مؤكدة بما أكدت به الجملة قبلها أي ثلاثة مؤكدات، وقوله:{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} أي: عن الصراط المستقيم.

قوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي: أَعِدُهُم بالأماني، وفعلًا وقع هذا لآدم، حيث قال له الشيطان:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 21] فنسي آدم عليه الصلاة والسلام أن الله نهاه وقال: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] لكن وعدهم بأماني وقال: {أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} يعني: على الشجرة التى إذا أكلتها تخلد، ويصير لك الملك الذي لا يبلى، فالشيطان يمني ابن آدم بعدة أماني:

منها: أنه يسهل عليه أمر المعصية، ويقول: هذه سهلة .. وهذه صغيرة تكفر بالصلوات .. وتكفر بالعمرة، وهكذا، وما علم المسكين الذي أضله الشيطان أن الصلوات والعمرة إلى العمرة وما أشبه ذلك مما يكفر به الذنوب لا بد أن تكون كاملة، ومن

ص: 238

يأتي بكمال الصلاة؟ أكثر الناس عسى أن تصل صلواتهم إلى حد الإجزاء.

وكذلك أيضًا يقول: هذه سهلة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

يُمَنيّه فيقول: أنت لو فرض أنك مت على المعصية فلك أولاد صالحون يدعون لك، وإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، وهلم جرا.

المهم أنه يوقع الأماني في نفوسهم بأشكال كثيرة.

قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} هل المعنى آمرنهم أمرًا صريحًا مواجهة أو أمر وحي من داخل النفس؟

الجواب: الثاني، وربما يتصور الشيطان بصورة إنسي فيأمره أمرًا صريحًا، لكن الأصل أنه أمر داخلي يأمره أن يفعل كذا وكذا، ولهذا قال:{فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} الفاء هذه للعطف، وهي معطوفة على آمر، وسيأتي إن شاء الله أنها تدل على تمام الإنقياد من هؤلاء.

وقوله: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} يبتكن: أي: يقطعون، وإعراب قوله:{فَلَيُبَتِّكُنَّ} الفاء: عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، واللام: موطئة للقسم، يعني: تمهد للقسم لأنه يقدر قبلها، ويبتك: فعل مضارع مرفوع، وعلامة الرفع النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والنون للتوكيد؛ ولم يبنَ الفعل مع أن النون للتوكيد؛ لأنه غير مباشر، والواو محذوفة لالتقاء الساكنين، وهي فاعل، وأصل الكلمة هذه:"فليبتكونن آذان الأنعام" فحذفت النون الأولى كراهة توالي الأمثال، ولم تحذف نون التوكيد لأنه أتي بها

ص: 239

لعلامة، ولو حذفت لفاتت هذه العلامة، ثم حذفت الواو؛ لأنه لما حذفت النون الأولى التقت النون الثانية وأولها ساكن، بالواو الساكنة، فالتقى ساكنان، وابن مالك رحمه الله يقول:

إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق

وإن يكن لينًا فحذفه استحق

وهنا الأول لين، يعني: أحد حروف العلة، فيحذف.

والمعنى: فليبتكن أي: فليقطعن آذان الأنعام، وليس مجرد التقطيع داخلًا في الآية، لكنهم يقطعون آذان الأنعام علامة على أنها محرمة؛ لأنهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله؛ فعندهم قواعد وضوابط معروفة، وقوانين وضعية وليست شرعية، ومنها أن الناقة إذا ولدت كذا وكذا بطنًا يجب أن تطلق، والعلامة قطع الأذن، وهذا هو المذكور في قوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] لكنها مفصلة لهذا التقطيع، وليسوا يقطعونها علامة ودليلًا على أنها ملك فلان كما لو قطعوها على أنها وسم، بل يقطعونها اعتقادًا باطلًا أنها أصبحت حرة، لا تركب، ولا يحمل عليها، ولا يشرب من لبنها، ولا غير ذلك.

وقوله: {الْأَنْعَامِ} جمع نعم، كأسباب جمع سبب، والنعم يطلق على ثلاثة أشياء: الإبل والبقر والغنم.

قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} هذا معطوف على قول الله: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} إلى قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ} يعني: أن الشيطان يأمر عباد الله عز وجل أن يغيروا خلق الله، فما المراد بخلق الله؟ هل المراد به الفطرة التي فطر الناس عليها، فيكون المعنى: أنهم يغيرون فطرة الخلق من

ص: 240

التوحيد إلى الشرك، ومن اليقين إلى الشك، كما قال الله تبارك وتعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، أو المراد بتغيير خلق الله الوشم والوشر والنمص وما أشبه ذلك؟

الجواب: فيه قولان للعلماء، والصواب أنه شامل، بناءً على قاعدة التفسير المشهورة، أنه متى ذكر في الآية قولان لا تضاد بينهما، والآية تحتملهما وجب حملها على المعنيين جميعًا، وعلى هذا فهو يأمرهم أن يغيروا خلق الله الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها، وخلق الله التغيير الحسي بالتفليج والوشم والوشر وغير ذلك؛ لأن هذا أعم.

وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} صدق الله {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ} أي: يجعله {وَلِيًّا} أي: متولي؛ أي: يتولى الشيطان {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} وتولي الشيطان يكون بطاعته، فمن أطاع الشيطان وعصى الرحمن {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} والخسران ضد الربح، بل إن الخاسر هو الذي لم يحصل ولا على رأس ماله، فهو لم يربح بل خسر.

وقوله: {مُبِينًا} مشتقة من أبان، فهي مشتقة من فعل رباعي، وأصلها مُبْين، لكن نقلت حركة الياء للساكن الصحيح قبلها، ونقل السكون الذي على ما قبلها إليها، فصارت {مُبِينًا} وهي من أبان، وأبان يصلح أن يكون لازمًا ويصلح أن يكون متعديًا، نقول: بان الفجر وأبان الفجر، فإذا جعلناها من اللازم {مُبِينًا} صارت بمعنى بيِّن واضح، وإذا جعلناها من المتعدي

ص: 241

أبان الشيء يعني: أظهره، صار المعنى أنه خسارة تظهر ذلك فيمن خسر وتتضح.

* * *

* قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} [النساء: 120].

{يَعِدُهُمُ} ضمير الفاعل يعود على الشيطان، والهاء ضمير المفعول به يعود على العباد الذين أضلهم الشيطان، يعدهم بماذا؟ يعدهم بأشياء يتمنونها ويرجونها فيتبعونه، فمثلًا يقول للإنسان: افعل هذه المعصية وتب إلى الله، افعل هذه المعصية وهي صغيرة، افعل هذه المعصية ولك كذا وكذا، كما قال لآدم:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].

قوله: {وَيُمَنِّيهِمْ} أي: يرجيهم ويفتح أمامهم الآمال الكاذبة.

قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} وهنا إظهار في موضع الإضمار، وكان مقتضى السياق أن يقول: وما يعدهم إلا غرورًا، لكنه أظهر في مقام الإضمار لإظهار عداوته، كما قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].

وقوله {إِلَّا غُرُورًا} يعني: إلا خداعًا وباطلًا.

من فوائد الآيات الكريمات:

1 -

بيان حقيقة الأصنام، وأنها من الجنس الضعيف، لقوله:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} ، وقد سبق لنا في التفسير هل المعنى أنهم يسمون الأصنام بأسماء الإناث، أو أن هذه الأصنام بضعفها مثل الإناث بالنسبة للذكور؟

ص: 242

2 -

أن عبادة الشيطان دعاء، لقوله:{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} .

3 -

أن الطاعة تسمى دعاء وعبادة، لقوله:{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} .

4 -

أن الشيطان يغوي بني آدم حتى يضلهم إلى هذا الحد، فيجعلهم عبادًا له، وقد سبق لنا الكلام عن كلمة مَرِيد هل هي صفة كاشفة أو صفة مقيدة؟ بمعنى هل الشياطين كلهم مردة، أو أنهم ينقسمون؟ وذكرنا في هذا قولين: يحتمل أنها صفة كاشفة، والمعنى: أن كل شيطان فهو مريد، ويحتمل أنها صفة مقيدة وأن الشياطين ينقسمون إلى مردة وغيرهم.

5 -

أن الله لعن الشيطان، لقوله:{لَعَنَهُ اللَّهُ} .

6 -

التحذير من الإنصياع لأوامر من لعنه الله؛ لأن هذه الجملة كالتعليل لذمهم حينما عبدوا الشيطان.

7 -

أن الشيطان أقسم بأن يتخذ من عباد الله نصيبًا مفروضًا، لقوله:{وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} .

8 -

إثبات القول للشيطان، وأنه يقول كما أنه يفعل أيضًا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأكل ويشرب بشماله، فهو يقول ويفعل ويُمَنِّي ويعد ويضر.

9 -

أن نصيب الشيطان من عباد الله مفروض؛ أي: مقدر لا بد أن يكون، وهذا كقوله تعالى في سورة هود:{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119].

10 -

أن الشيطان أقسم قسمًا مؤكدًا أن يضل هؤلاء النصيب الذين فرضوا له، وهذا القسم له مدلوله، فيتفرع عليه أنه

ص: 243

يجب علينا أن نحذر من وساوس الشيطان لأنها كلها ضلال، لقوله:{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} .

11 -

أن هذا الإضلال الذي يقع من الشيطان لبني آدم مصحوب بالأمنيات، بمعنى أنه يدخل عليهم الأماني وأنهم ينالون خيرًا، وأن المعاصي لا تضرهم، وأن التوبة قريبة وما أشبه ذلك.

12 -

الحذر ممن يضلك ويدخل عليك الأماني الكاذبة؛ لأن الضلال كله شر.

13 -

تحريم قطع آذان الأنعام إذا كانت على الوجه الذي يستعمله أهل الجاهلية، وقد سبق أن أهل الجاهلية يقطعون أذان الأنعام للإشارة إلى أنها محرمة مسيبة، فهل يقال بناءً على ذلك: أن الإنسان لو قطع آذان الأنعام لمصلحة دنيوية فهل يجوز أو لا؟

الجواب: أنه يجوز؛ لأن هذا ليس من أوامر الشيطان.

14 -

أن الشيطان يأمر بني آدم فيغيرون خلق الله، لقوله:{فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} ، وهل المراد تغييرهم خلق الله تعالى بالأنعام أو هو عام؟ الصواب: أنه عام، وقد مر علينا ذلك في التفسير، وأشرنا إلى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

15 -

أن الأصل في تغيير خلق الله المنع؛ لأنه من أوامر الشيطان، وقولنا: الأصل احترازًا من تغيير خلق الله الذي أمر الله به؛ كحلق العانة، والشارب، ونتف الإبط وما أشبه ذلك، فإن هذا من التغيير؛ ولكنه مأذون فيه، فلا يدخل في أوامر الشيطان، إذ أن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء.

وهل من تغيير خلق الله صبغ الشيب بالسواد؟

الجواب: نعم؛ لأن هذا الذي صبغه بالسواد أراد أن يعيد

ص: 244

نفسه شابًا، فيغير خلق الله من الشيخوخة إلى الشباب، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير الشيب بغير السواد

(1)

.

ويدخل في تغيير خلق الله الوشم والوشر والنمص، كل هذا داخل.

وهل يدخل في تغيير خلق الله حلق اللحية؟

الجواب: يحتمل أن يقال: إنه داخل، لا سيما إذا أصر الإنسان عليه وواظب عليه، ويحتمل أن يقال: إن هذا ليس تغييرًا لأن اللحية تنبت، وإذا كانت تنبت لم يغير الخلق، لكن غالب الذين ابتلوا بحلق اللحية يستمرون عليه، فيكون عملهم هنا محاولة لتغيير خلق الله عز وجل، وقد صرح بعض العلماء بأن حلق اللحية من تغيير خلق الله.

16 -

التحذير من اتخاذ الشيطان وليًا، لقوله:{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} .

فإن قال قائل: بماذا نعرف أن هذا الرجل موالٍ للشيطان أو لا؟

فالجواب: نقول: كل من عصى الله فإنه موالٍ للشيطان، لكن الولاية قد تكون عامة وقد تكون خاصة، فإذا أطاع الشيطان في الكفر والشرك كانت الولاية عامة، وإذا أطاعه في معصية من المعاصي كانت خاصة، وليعلم أنه يفوت من ولاية الإنسان لربه عز وجل إذا والى الشيطان بقدر ما والى به الشيطان.

17 -

بيان أن أكثر الخلق قد خسروا؛ لأن أكثر الخلق قد اتخذوا الشيطان وليًا من دون الله.

18 -

التأكيد على التحذير من الشيطان ووعده وأمانيه،

(1)

رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد (2102) عن جابر بن عبد الله.

ص: 245

فتكون الجملة الأخيرة: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} تأكيدًا لقوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} .

19 -

التحذير من غرور الشيطان، وإدخال الأماني والرجاء، لقوله:{وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} .

* * *

* قال الله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)} [النساء: 121].

{أُولَئِكَ} المشار إليه الذين أطاعوا الشيطان واتبعوه.

قوله: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: مرجعهم، وجهنم: اسم من أسماء النار، وسميت بذلك لأنها - والعياذ بالله - قعيرة وسوداء مظلمة، فهي كلها جهمة.

قوله: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي: لا يجدون عنها ملاذًا ومفرًا، بل هم خالدون فيها {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] كما في آيات أخرى.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن مرجع الطائعين للشيطان جهنم، وأنه لا يمكن أن يخرجوا منها، ويكون ذلك على من أطاعوه طاعة مطلقة، أما من أطاعوه في بعض المعاصي فإن مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يخلدون في النار، وإنما يعذبون بقدر أعمالهم ثم يخرجون من النار.

2 -

إثبات جهنم وهي النار، لقوله:{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} .

ص: 246

3 -

أن أهل جهنم لا يمكن أن ينجوا منها، والمراد بأهلها الكفار الذين خرجوا من الإسلام إلى الكفر.

* * *

* قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} [النساء: 122].

مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن القرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فإذا جاء الوعيد جاء الوعد، وإذا جاء ذكر النار جاء ذكر الجنة، وإذا جاء ذكر المؤمنين جاء ذكر الكافرين، وهلم جرا، وذلك من أجل أن لا يكون الإنسان خائفًا دائمًا فيستولي عليه اليأس، ولا راجيًا دائمًا فيستولي عليه الأمن من مكر الله، بل يكون بين هذا وهذا.

قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لا يكفي الإيمان، بل لا بد من إيمان وعمل، وقوله:{آمَنُوا} أي: آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أصول ذلك في حديث جبريل عليه السلام حيث قال:"أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره"

(1)

.

وأما قوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالمراد بالصالحات الأعمال. ولهذا قال النحويون: إن الصالحات صفة لموصوف محذوف، والتقدير: الأعمال الصالحات، وحذف الموصوف كثير

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان .. ، حديث رقم (8) عن عمر بن الخطاب.

ص: 247

في اللغة وفي القرآن أيضًا، كما في قوله تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11]؛ أي: دروعًا سابغات.

والأعمال الصالحات ما كان خالصًا صوابًا، فالخالص: هو الخالص لله الذي ليس فيه شرك لأحد، والصواب: هو الذي كان على شريعة الله، وبهذا ينتفي الإشراك وتنتفي البدعة، فالإشراك ينتفي بالإخلاص، والبدعة تنتفي بالمتابعة، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة إلا إذا وافقت الشرع في أمور ستة، وهي: السبب، والجنس، والقدر، والهيئة، والزمان، والمكان، إذا وافق العمل الشرع في هذه الأمور الستة تحققت فيه المتابعة، وإن اختل واحد منها فلا متابعة.

أولًا: السبب، فلو أن الإنسان تعبد لله تعالى عبادة مقرونة بسبب لم يجعله الله سببًا فلا متابعة، ومن ذلك ما يحدث في مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه والأذكار وغير ذلك، فهي حتى وإن كانت مباحة فإنها ليست موافقة للشرع؛ لأن مرور الوقت الذي ولد فيه ليس سببًا لإحداث هذه العبادة.

كذلك أيضًا يوجد بعض الناس إذا تجشأ قال: الحمد لله، وهذا لا يصح؛ لأن التجشأ ليس سببًا للحمد، وإلا لكان خروج الريح من الدبر سببًا للحمد، ولا قائل به حتى من العوام.

إذًا: نقول: هذا يعتبر غير متبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام.

وبعض الناس إذا أعطيته بخورًا، قال: اللهم صل على محمد، فجعل تبخره سببًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: هذا

ص: 248

ليس فيه اتباع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتطيب ولم ينقل عنه أنه كلما تطيب صلى على النبي.

ومن ذلك أيضًا: أن بعض الناس إذا تثاءب يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذا ليس له أصل، وليس من الشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دلنا على ما نفعله فإذا حصل التثاؤب، بأن يكظم الإنسان ما استطاع فإن لم يستطع فإنه يضع يده على فيه.

الثاني: أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها، فلو تعبد لله تعالى بشيء لم يتعبد الله عباده بجنسه فإنه لا يقبل، ولا يكون من الشرع، مثاله: أن يضحي بفرس، والفرس حلال، لكنه لو ضحى به لم تقبل أضحيته؛ لأنه مخالف للشرع في جنسه، إذ أن الأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام.

الثالث: أن تكون العبادة موافقة للشرع في قدرها، فلو أنه صلى خمسًا في رباعية، أو أربعًا في ثلاثية، أو ثلاثًا في ثنائية لم تصح عبادته؛ لأنه زاد على القدر المشروع، وكذلك لو توضأ أربع مرات فإن هذه الزيادة لا يؤجر عليها؛ لأنه زاد عن الأمر المشروع، وكذلك لو طاف ثمانية أشواط فالزائد ليس من الشرع فلا يثاب عليه.

الرابع: أن تكون العبادة موافقة للشرع في هيئتها، بأن تكون على الهيئة التي وردت، فلو أن الإنسان صلى فسجد قبل أن يركع، أو أتى بالركوع ولكن بعد السجود لم تقبل لمخالفتها الشرع في هيئتها، وكذلك لو توضأ منكسًا فبدأ بغسل الرجل ثم مسح الرأس، ثم غسل اليدين إلى المرفقين، ثم غسل الوجه، فإن هذا الوضوء لا يصح.

ص: 249

الخامس: أن تكون العبادة موافقة للشرع في الزمان، فلو أن الإنسان صلى قبل الوقت بدقيقة واحدة، فصلاته غير صحيحة؛ لأنها لم تكن في الوقت الذي عينه الشرع، ولو ضحى الإنسان - أي: ذبح أضحيته - في اليوم التاسع من ذي الحجة لم تقبل؛ لأنها في غير الزمن الذي عينه الشرع.

السادس: أن تكون العبادة موافقة للشرع في مكانها، فلو اعتكف في بيته بدلًا عن المسجد لم يقبل اعتكافه؛ لأنه على غير الوجه المشروع.

إذًا: العمل الصالح هو الذي توبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتحقق المتابعة حتى تكون العبادة على وجه الشرع في أمور ستة.

قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} هذه الجملة خبر لمبتدأ، وهو "الذين"، والسين فيها للتحقيق والتقريب، أما التحقيق فلا إشكال، وأما التقريب فإنه وإن كان بعيدًا فإنه لتحقق وقوعه يكون كالقريب؛ ولهذا قال الله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فعبر بالماضي عن المستقبل وذلك لتحقق وقوعه؛ لأنه قد يورد الإنسان عليه إيرادًا فيقول: إذا قلت: إن السين في {سَنُدْخِلُهُمْ} للتحقيق والتقريب فالإنسان ربما يبقى في الدنيا ثمانين سنة قبل أن يموت، فنقول: المحقق كالقريب، فالمستقبل لا شك أنه قريب مهما بعد، والماضي بعيد مهما قرب.

قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {جَنَّاتٍ} وأحيانًا يأتي التعبير "جنة" مفردًا، ولا منافاة، فهي جنة باعتبار الجنس، وجنات باعتبار الأنواع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جنتان من

ص: 250

ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما"

(1)

، فما هي الجنة؟ يقول بعض الناس: الجنة هي البستان الملتف الأشجار مع كثرتها، وإذا عرفناها بهذا التعريف ربما تقل من قيمتها أمام العامة، فنقول: الجنات هي الدار العظيمة التي أعدها الله تعالى للمتقين، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ليس المعنى: من تحت أرضها، بل من فوق الأرض، لكنها من تحت القصور والأشجار، والنهر المطرد من تحت الأشجار والقصور يكون له منظر جميل جذاب، جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه.

قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} هذا جزاء المتقين الذين قاموا بالإيمان والعمل الصالح.

ثم قال عز وجل: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} {وَعْدَ} مصدر، عاملها مضمون الجملة السابقة، فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ولهذا لا يصح أن يذكر معه العامل؛ أي: عامل المصدر؛ لأنه إذا ذكر معه عامل المصدر بقي التوكيد لهذا العامل لا للجملة، والمقصود هو تأكيد الجملة؛ أي: أن هذا الخبر من الله عز وجل وعد.

وقوله: {حَقًّا} قيل: إنه مصدر مؤكد لمصدر قبله؛ أي: حق؛ أي: أن هذا الوعد حق وقيل إنه: مصدر لفعل محذوف، والتقدير: أحق ذلك حقًا.

(1)

رواه البخاري، كتاب التفسير، باب سورة الرحمن، حديث رقم (4597)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، حديث رقم (180) عن عبد الله بن قيس.

ص: 251

والحق هو الشيء الثابت، وضده الباطل، وهو الزائل الضائع سدى، وأما الحق فهو ثابت وليس بضائع، بل هو مقصود بذاته، وله ثمراته العظيمة.

قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {مَنْ} : اسم استفهام، لكنه مشرب معنى النفي، فهو أبلغ من الإستفهام المجرد، وأبلغ من النفي المجرد، وقد ذكرنا فيما سبق أنه إذا أشرب الإستفهام معنى النفي فإنه يكون مشربًا معنى التحدي؛ أي: إن كنت تزعم أن أحدًا أصدق من الله قيلًا فأت به.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ} أصدق: اسم تفضيل مأخوذ من الصدق، والصدق هو: الإخبار بما يوافق الواقع، وضده الكذب، وهو: الإخبار بما يخالف الواقع.

وقوله: {قِيلًا} بمعنى: قولًا، وهو تمييز واقع بعد اسم التفضيل؛ كقوله تعالى:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

2 -

أن الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بد من عمل، وأن العمل وحده لا يكفي، بل لا بد من إيمان، فلا يستحق الجنة إلا من جمع بين الإيمان والعمل الصالح، وإذا ذكر ثواب الجنة مقيدًا أو معلقًا بالإيمان وحده، فالمراد بذلك الإيمان المتضمن للعمل الصالح.

3 -

أن العمل لا ينفع صاحبه إلا إذا كان صالحًا، والعمل الصالح هو: الخالص الصواب؛ أي: ما ابتغي به وجه الله، وكان على شريعة الله.

ص: 252

4 -

أن نشهد لكل مؤمن عمل الصالحات بأنه يدخل الجنة، لقوله تعالى:{سَنُدْخِلُهُمْ} ثم قال: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} وهذا على سبيل العموم، فإننا نشهد لكل مؤمن عامل للصالحات أنه سيدخل الجنة، لكن لا نطبق الشهادة هذه على جميع أفراد العموم، بمعنى: أن نخص واحدًا بعينه إلا من شهد الله له بذلك، أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة.

إذًا: الشهادة لمعين بالجنة لا تكون إلا لأحد ثلاثة:

الأول: من أخبر الله عنه بأنه من أهل الجنة.

والثاني: من أخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام.

والثالث: من أجمعت الأمة عليه؛ أي: على الثناء عليه وأنه من أهل الخير وأنه من أهل الحق.

فمن الأول: أبو بكر رضي الله عنه، فإن قول الله تبارك وتعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 14 - 21]، أكثر المفسرين يقولون: إن هذه نزلت في أبي بكر، وعلى هذا تكون الآية دالة على الإخبار أنه رضي الله عنه سيجنب النار، وإذا جنب النار فسيكون من أهل الجنة لأنه ليس هناك إلا داران.

وأما من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فكثير، فمثلًا: زوجات الرسول كلهن في الجنة؛ لأن زوجاته في الدنيا هن زوجاته في الآخرة، ومن ذلك العشرة المبشرون بالجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسعيد، وسعد بن أبي وقاص .. رضي الله عنهم،

ص: 253

ومنهم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومنهم بلال رضي الله عنه شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومنهم عكاشة بن محصن رضي الله عنه شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، والأمثلة على هذا كثيرة.

وأما ما أجمعت الأمة عليه فدليله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال: "وجبت"، ثم مرت به أخرى فأثنوا عليها شرًا فقال: "وجبت"، قالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ ! قال: "أما الأول فأثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه"

(1)

.

ولكن من كان ظاهره الإيمان والعمل الصالح نقول: إن من آمن وعمل صالحًا فهو من أهل الجنة، ولا نقول هذا بعينه؛ لأننا لا نعلم ماذا يختم له، نسأل الله أن يختم لنا بخير، فهذا الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، وكان بطلًا شجاعًا مقدامًا لا يدع للعدو شاذة ولا فاذة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو من أهل النار" فعظم ذلك على الصحابة وشق عليهم، لما يرونه من جهاده، فقال رجل من الصحابة: لألزمنه، يعني: ألازمه حتى أنظر ماذا تكون خاتمته، فلزمه، فأصاب هذا الرجل سهم من العدو فجزع جزعًا شديدًا، فسل سيفه ثم وضع ذبابته على صدره واتكأ عليه حتى خرج مع ظهره فمات والعياذ بالله، فجاء الرجل الذي لزمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أشهد أنك رسول الله، إن الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار، حصل عليه كيت وكيت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس،

(1)

تقدم ص 106.

ص: 254

وهو من أهل النار"

(1)

نعوذ بالله.

ولهذا لا يجوز أن نشهد لشخص بأنه في الجنة وإن كنا نرى أن عمله من عمل أهل الجنة.

5 -

أن الله يقول، والقول هو لفظ مسموع، فيكون الله سبحانه يقول قولًا حقيقيًا، وهو مسموع، وإلا لما كان قولًا؛ لأن القول الذي هو قول النفس لا بد أن يقيد كما في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].

وأما إذا أطلق فالمراد به القول المسموع، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أن الله تعالى يقول قولًا مسموعًا، وأنه بصوت وأنه بحرف، وهذا لا يتضمن أي نقص ولا مماثلة بل هو كمال، وهناك مذاهب ذكرها ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة بلغت ثمانية مذاهب، فلتراجع في موضعها في كلام الله عز وجل، والمشهور من هذه المذاهب: مذهب الأشاعرة بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأما ما يسمع فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه.

وقالت الجهمية: بل كلام الله مخلوق، وإضافته إلى الله تعالى من باب التشريف وليس من باب الوصف، فقالوا: إن كلام الله كغيره من المخلوقات، وكلاهما خالف السنة؟ والأشاعرة أبعد عن السنة من المعتزلة؛ لأن الجميع اتفقوا على أن ما يسمع فهو مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هو كلام الله، والأشاعرة قالوا: ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، وكلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وعلى كلامهم يكون الكلام بمعنى العلم تمامًا، وهذا كله باطل.

(1)

تقدم ص 114.

ص: 255

6 -

وصف كلام الله تعالى بالصدق، لقوله:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} وهل يمكن أن يوصف بالكذب؟ كلا والله، لا يمكن.

فإن قال قائل: أليس أهل البلاغة يقولون: إن الخبر هو ما احتمل الصدق والكذب؟

قلنا: بلى، لكنهم يقيدون ذلك فيقولون: ما احتمل الصدق والكذب لذاته؛ أي: بقطع النظر عن قائله، فإن من القول ما يقطع بكذبه، ومن القول ما يقطع بصدقه، ولا يحتمل هذا ولا هذا.

7 -

أنه يصح أن نضع اسم التفضيل بين صفات الله وصفات الخلق، فنقول: كلام الله أصدق الكلام، وعلم الله أوسع العلوم، والله تعالى أعلم من غيره، وقد ظن بعض الناس أنك إذا قرنت الوصف باسم التفضيل فإنك قد مثلت الله، حتى ذهبوا يفسرون قول الله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقوله تعالى:{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 55] يفسرونها بأنه عالم، فيقولون: أعلم أي: عالم، فسبحان الله! فروا من النقص، ولكنهم وقعوا في أنقص منه؛ لأن اسم التفضيل يدل على علو صفات الله وأنها أعلى الصفات، وليس فيها نقص بوجه من الوجوه، فهم يقولون: عالم، وإذا قلت: عالم لم يمنع المشاركة والمساواة، فإنك تقول: عمرو عالم، وزيد عالم، ومحمد عالم، وأبو بكر عالم، فيستوون، لكن يؤتى الإنسان من حيث أن عنده عقيدة فيحاول أن يصرف النصوص إليها فيقع في الزيغ، نسأل الله العافية.

ص: 256

إذًا: أعلم في أسماء الله وصفاته على بابها، حتى إن الله تعالى قال:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وكل يقول الجواب: الله خير، حتى المشركون مع أصنامهم يقولون: الله خير.

ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا عمران بن حصين: كم إلهًا تعبد، قال:"ستة، خمسة في الأرض وواحد في السماء"، قال: من تعد لرغبتك ورهبتك، قال:"الذي في السماء"

(1)

، فهم يقرون بأن الله تعالى فوق كل شيء، حتى المشركون يقرون بذلك.

* * *

* قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الخطاب في قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} لهذه الأمة، وقوله:{وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} يعني: بذلك اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: نحن أهل الكتاب، ونحن أسبق منكم، ونحن أولياء الله وأحباؤه، وما إلى ذلك، يريدون أن يفضلوا أنفسهم على هذه الأمة، وهذه الأمة تقول: إن رسولنا خاتم النبيين، وإن هذه الأمة فضلت على الناس، وتريد أن تكون أفضل من أهل الكتاب، ففصل الله بينهم، وحكم بينهم بحكم عدل، فقال: الأمر ليس بأمانيكم يا أيها المسلمون! ولا بأماني أهل الكتاب، وليس الأمر يعطى على

(1)

رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم (3483).

ص: 257

حسب أمنية الشخص؛ فإذا تمنى حصل له ما تمنى، كما قال الله تعالى:{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} [النجم: 24 - 25].

وقوله: {أَهْلِ} يعني: اليهود والنصارى، والكتاب: يراد به التوراة بالنسبة لليهود، والإنجيل بالنسبة للنصارى، ثم جاء الحكم فقال:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ، {مَنْ} هذه شرطية، وقوله:{يَعْمَلْ} فعل الشرط، وقوله:{يُجْزَ} جواب الشرط، وقوله:{بِهِ} أي: بسوئه، سواء منكم أي: هذه الأمة، أو من أهل الكتاب.

وإذا نظرنا في هذا الحكم وجدنا أنه ينطبق على أهل الكتاب أكثر مما ينطبق على هذه الأمة؛ لأن أهل الكتاب عملوا سوءًا وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيجزون به.

قوله: {وَلَا يَجِدْ لَهُ} معطوفة على جواب الشرط.

قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من سواه، قوله:{وَلِيًّا} يتولاه لتحصيل المصالح.

قوله: {وَلَا نَصِيرًا} يدافع عنه المساوئ والمفاسد.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن التمني لا يجدي شيئًا، لقوله:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} ، وهذا يشهد لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني"

(1)

.

(1)

رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (25)، حديث =

ص: 258

2 -

العدل بين المتخاصمين؛ حتى وإن كان أحدهما على حق والثاني على باطل، فالواجب العدل وأن يحكم لكل واحد ما يستحق، وجه ذلك: نفي كون الشيء بالأماني بالنسبة للمسلمين واليهود والنصارى، ثم إثبات أن من عمل سوءًا جوزي به، وهذا غاية العدل، ولهذا قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].

3 -

التهديد لمن عمل سوءًا، لقوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فإن عمله لن يضيع وسوف يجزى به، والآية مطلقة فهل يجزى في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما؟ الجواب نقول: أما إذا كانت العقوبة في الدنيا عقوبة شرعية فإنه لا يجمع عليه بين العقوبتين، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصاب حدًا فأقيم عليه في الدنيا كانت كفارة له

(1)

، وأما العقوبات غير الشرعية وهي العقوبات القدرية التي ينزلها الله بالمرء من مرض أو فقر أو غير ذلك، فهذه قد تكفر السيئات ولا يبقى عليه شيء في الآخرة، وقد لا تكفر السيئات جميعًا.

4 -

جواز إخلاف الوعيد؛ لأن من الوعيد قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ، ولكن الله تعالى قال في كتابه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وهذا يدل على أن من عمل سوءًا قد يغفر الله له ما عدا الشرك.

= رقم (2459)؛ وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والإستعداد، حديث رقم (4260)؛ وأحمد (4/ 124) عن شداد بن أوس.

(1)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (18)؛ ورواه مسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارة لأهلها (1709).

ص: 259

فإذا قال قائل: كيف نجيب عن هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وهي خبر؟

قلنا: هذه يراد بها التهديد، وهي من باب الوعيد، والعفو عن الوعيد من باب الكرم، وهو مدح وليس بذم، ولهذا امتدح الشاعر نفسه بقوله:

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

5 -

أن الإنسان لا يجازى بأكثر مما عمل من السوء، لقوله:{يُجْزَ بِهِ} ، والباء هنا للعوض، أو للبدل، بخلاف من عمل حسنًا فإنه يعطى أكثر، كما في آيات أخرى.

6 -

كمال قوة الله تعالى وسلطانه، لقوله:{وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ، ومثل هذه الآية قد تكررت في القرآن كثيرًا، مثل قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، ومثل قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} [الأحزاب: 65] وهذا كثير؛ لأن الله سبحانه كامل القوة، وكامل السلطان، فلا أحد يمنعه ولا أحد يدفعه.

7 -

أن المصائب في الدنيا كفارات؛ لأنها نوع من الجزاء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من غم ولا هم ولا حزن يصيب العبد إلا كفر به عنه حتى الشوكة إذا أصابته فإن الله يكفر بها عنه

(1)

.

* * *

(1)

رواه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض (5642)؛ ورواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2572).

ص: 260

* قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} [النساء: 124].

{وَمَنْ يَعْمَلْ} هذه شرطية، وفعل الشرط قوله {يَعْمَلْ} ، وجواب الشرط قوله:{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} ، وقرنت بالفاء لأنها جملة اسمية.

وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ} قلنا: هي شرطية، والشرط يفيد العموم، وأكد هذا العموم بقوله:{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} .

وقوله: {مِنَ الصَّالِحَاتِ} ادعى بعضهم أن "من" زائدة، وقال: إن التقدير: ومن يعمل الصالحات، وهذا قول ليس بصحيح؛ لأن من لا تزاد إلا في نفي أو شبهه، كما قال ابن مالك رحمه الله:

وزيد في نفي وشبهه فجر

نكرة كما لباغ من مفر

ووجودها هنا أكمل من عدمها؛ لأن "من" لبيان جنس العمل المبهم، في قوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ} فـ "من" هنا بيانية.

وقوله: {مِنَ الصَّالِحَاتِ} أي: من الأعمال الصالحات، وهذا الأسلوب كثير في القرآن، وهو أن يحذف الموصوف وتبقى الصفة، وعكسه قليل، يعني: حذف الصفة قليل، وحذف الموصوف كثير، وذلك لأن الصفة تدل على الموصوف ولا عكس.

وقوله: {مِنَ الصَّالِحَاتِ} أي: من الأعمال الصالحات، والصالحات ما جمع شرطين: الشرط الأول: الإخلاص، والثاني: المتابعة لشريعة الله، سواء كان لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كان

ص: 261

من هذه الأمة، أو لشريعة من شريعته باقية من الرسل السابقين.

قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} "من" هذه بيان لـ "من" في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} .

وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} وهذا من باب التفصيل بعد الإجمال، وإلا فمن المعلوم أن "من" للعموم الشامل للذكر والأنثى.

قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الجملة حالية، حال من فاعل يعمل، يعني: والحال أنه مؤمن، وهذا شرط لا بد منه، إذ أن العمل الصالح لا ينفع مع عدم الإيمان، وكلما ازداد الإنسان إيمانًا ازداد قوة في العمل الصالح.

قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وفي قراءة: "يُدْخُلُونَ"، فعلى القراءة التي في المصحف تكون الجنة مفعولًا به، وعلى القراءة الأخرى: يُدخلون الجنة، تكون مفعولًا ثانيًا ليدخلون، ونائب الفاعل في محل المفعول الأول.

وقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} هذا إظهار في موضع الإضمار، ولو قيل: فإنهم يدخلون الجنة لصح؛ لأن اسم الإشارة من باب الأسماء الظاهرة.

والنكتة في هذا الإظهار: بيان علو مرتبتهم، حيث أشار إليهم بإشارة البعيد {فَأُولَئِكَ} .

وقوله: {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه المتقين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أسأل الله أن يجعلنا من أهلها، آمين.

وقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} يعني معناه: أن كل إنسان يكون

ص: 262

في مكانه الذي يستحقه بدون نقص، والنقير هو: النقرة التي تكون في ظهر النواة، وفي النواة ثلاثة أشياء كلها مضرب للمثل في القلة: الفتيل، والنقير، والقطمير.

أما الفتيل فهو: الحبل الذي في مجرى النواة من جهة بطنها.

وأما النقير فهو: النقرة التي في ظهرها.

وأما القطمير فهو: الغشاء الذي يكون عليها.

وكلها يراد بها ضرب المثل، وإنما قال الله تعالى:{يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} لئلا يظن الظان أن الإنسان إذا كان في منزلة فربما ينزل من منزلته بسبب من الأسباب، وليس الأمر كذلك، ونضرب لهذا مثلًا: وهو أن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] والذرية هنا المراد بهم من يتبعون آباءهم وهم الصغار فهؤلاء يتبعون آباءهم، فإذا كانت منزلة الإبن أدنى مرتبة من منزلة الأب فإن الإبن يُرقى إلى منزلة الأب، ولا يُنزل الأب في مقابلة ترقية الإبن، يعني: لا يقال مثلًا إذا كانت المسافة عشرين درجة ينزل الأب عشر درجات ويصعد الإبن عشر درجات، بل يرفع الإبن عشرين درجة ويلتحق بالأب بدون نقص على الأب، فهذا والله أعلم هو الفائدة في قوله:{وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} .

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن القرآن الكريم كما وصفه الله عز وجل مثاني؛ أي: تثنى فيه الأمور، فإذا ذكر المؤمن ذكر الكافر، وإذا ذكر جزاء

ص: 263

الكافر ذكر جزاء المؤمن وهكذا، وتأمل هذا تجده أكثر ما يكون في القرآن، والحكمة من ذلك: أن يكون الإنسان سائرًا إلى الله بين الخوف والرجاء؛ لأنه إذا ذكر ما أعد الله للمتقين غلب رجاؤه، وإذا ذكر ما أعده الله للكافرين غلب خوفه، والأولى أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هل لا بد أن يكون خوف الإنسان ورجاؤه واحدًا في كل حال أو في بعض الأحوال؟ وهل هو في كل عمل أو هو في بعض الأعمال؟

فمن العلماء من يقول: إذا كان الإنسان مريضًا فالأولى أن يغلب جانب الرجاء، حتى يقدم على ربه وهو يحسن الظن به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه"

(1)

.

ومن العلماء من يقول: إذا هم بالسيئة فليغلب جانب الخوف حتى يرتدع، وإذا عمل العمل الصالح فليغلب جانب الرجاء أن الذي وفقه للعمل سوف يقبل منه.

وعلى كل حال: العلماء اختلفوا في هذا، فنقول: كل إنسان ونفسه، إذا رأيت من نفسك أنه غلب عليك الخوف حتى وصلت إلى اليأس من رحمة الله؛ سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا فحينئذ قوِّم نفسك وعدل نفسك، وإذا رأيت أنك تغلب جانب الرجاء فقوم نفسك أيضًا؛ لأن بعض العصاة إذا قلت له: اتق الله يا أخي! وارتدع عن المعصية، يقول لك: الله غفور رحيم، فيغلب جانب الرجاء، وهذا خطأ، ومن الناس من يكون

(1)

رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، حديث رقم (2877) عن جابر بن عبد الله.

ص: 264

بالعكس لو يفعل أدنى شيء من المعاصي أيس وقنط من رحمة الله، فغلب جانب الخوف.

2 -

أنه لا فرق بين الرجال والنساء فيما يستحقون من الجزاء، ووجه الدلالة: قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} ثم ذكر الجزاء فقال: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} ، لكن من حيث العمل فإن بينهما فرقًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"

(1)

، ثم فسر النقصان في دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، أما الجزاء على العمل فهما سواء.

3 -

أنه لا بد لقبول العمل أن يكون صالحًا، لقوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} ، فإن كان فيه شرك لم يقبل؛ لفوات الشرط وهو الإخلاص، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(2)

ومن عمل عملًا مبتدعًا بإخلاص تام لكن ليس على شريعة الرسول فإنه لا يقبل منه؛ لأنه على غير الإتباع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"

(3)

.

4 -

أنه لا بد أن يكون العمل الصالح مبنيًا على إيمان لا شك معه، لقوله:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وأما من عمل الصالحات ظاهرًا

(1)

تقدم (1/ 266).

(2)

رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، حديث رقم (2985) عن أبي هريرة.

(3)

تقدم (1/ 169).

ص: 265

لكن قلبه غير مؤمن - أعاذنا الله من ذلك - فإنه لن ينفعه العمل الصالح، كرجل مخلص يريد رضا الله عز وجل ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه متشكك مع إخلاصه فإنه لا يقبل منه.

ولكن هنا مسألة يجب التفطن لها، وهي أن القلب إذا كان خالصًا صريحًا فإن الشيطان يسلط عليه حتى يوقعه إما في شرك وإما في شك، وكلما كان الإنسان أصرح إيمانًا فإن الشيطان يزيد في ضربه بسهامه، وتشكيكاته، وغير ذلك، فلتكن على حذر، وأعرض عن هذا وانته عنه، واستعذ بالله منه فإنه لا يضرك.

ولهذا كثيرًا ما نسمع من يشتكي هذه الحال، فنقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"استعذ بالله ثم انته"

(1)

"استعذ بالله" هذا لجوء إلى الله فيما لا يمكن أن يخلصك من الشيطان إلا الله عز وجل، فاستعذ بالله، "وانته" هذا فيما يمكنك فعله، انته: بمعنى أعرض عن هذا ولا تفكر فيه، فلو كنت ذاهبًا لتصلي، وسألك سائل: لماذا تصلي؟ لقلت: إيمانًا بالله وابتغاءً لفضله وليس عندك في هذا شك، إذًا: ما يورده الشيطان على قلبك لا تلتفت إليه، وبكل سهولة يمكنك أن تتخلص من إيراداته، بيقينك بأنك ما جئت إلى المسجد ولا توضأت، وكذلك ما تركت الطعام والشراب والنكاح في صومك إلا وأنت مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن بثوابه، وخائف من عقابه، بمثل هذه الأمور يمكن أن يستعين الإنسان على طرد هذه الوساوس، وإلا فإن الإنسان إذا استرسل معها ربما تهلكه، لكن الحمد لله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطانا هذا الدواء الناجع، بأن أقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم أنتهي، وأنظر إلى

(1)

تقدم (1/ 475).

ص: 266

عملي الذي أنا فيه وأقبل عليه، إن كان عبادة فعبادة، وإن كان أمرًا دنيويًا فأمرًا دنيويًا، المهم أن أتغافل عن هذا الشيء وأن لا استرسل معه؛ لأن الإسترسال معه الهلكة؛ لأنه وسواس لا حقيقة له.

ومن ثم جاءت الآية: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فوطن نفسك على الإيمان، ولا يكن في قلبك شيء من الشك؛ لأن النفس بكل بساطة تقول: لماذا توضأت؟ لماذا صليت؟ لماذا صمت؟ لماذا أديت الصدقة؟ وما أشبه ذلك.

5 -

علو منزلة من اتصف بهذه الصفة وهو العمل الصالح مع الإيمان، ويؤخذ من قوله:{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} .

6 -

أنه يجوز لنا أن نشهد لكل من عمل صالحًا وهو مؤمن أنه في الجنة؛ لأن هذا خبر من الله، والله تعالى لا يخلف وعده.

فإن قال قائل: وهل نشهد لكل واحد بعينه؟

الجواب: لا؛ لأن هناك فرقًا بين العموم والخصوص، وبين الإطلاق والتقييد، فلا نشهد لأحد بعينه إلا من شهد له الله سبحانه أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فإننا نؤمن بهذا، فنقول: فلان في الجنة.

كذلك الكفر نفس الشيء، نقول: من ذبح لغير الله فهو كافر مشرك، لكن لا تشهد لكل إنسان ذبح لغير الله بأنه مشرك؛ لأنه قد يكون عن جهل، أو عن تأويل أو ما أشبه ذلك، ففرق بين التعيين والتعميم، وبين الإطلاق والتقييد، وهذه مسألة قل من يتفطن لها.

بل كثير من الناس من يأخذ العمومات ثم يطبقها على كل

ص: 267

فرد، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا الذي حكمنا بأنه مؤمن حسب الظاهر لنا، يمكن أن يكون من أهل النار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"

(1)

، وكذلك بالعكس، ربما يكون هذا الرجل يعمل ما يقتضي أن يكون كافرًا ولكنه لا يدري وهو ينتسب للإسلام ويقول: إنه مسلم يصلي ويزكي ويصوم ويحج، لكن عنده خصلة شرك لا يعلم عنها، فهذا لا نقول: إنه من أهل النار، بل نقول: من فعل هذا فهو من أهل النار، لكن هذا الرجل بعينه لا، لاحتمال وجود الجهل أو التأويل.

7 -

نفي الظلم لقوله: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} ، ومن الذي يمكن أن يظلم؟ الجواب: الله عز وجل يمكن أن يظلم قدرًا، لكن شرعًا وحكمة لا يمكن، فيكون قوله:{وَلَا يُظْلَمُونَ} الظلم منفي عن الله الذي بيده الجزاء، وهذا النفي هو نفي لشيء ممكن إذ لو كان لشيء مستحيل لم يكن كمالًا؛ لأن انتفاء المستحيل ليس للكمال فهو منتف، لكن هو شيء ممكن، إلا أنه لكمال عدل الله غير ممكن، وعلى هذا فهو ممكن قدرًا، ولو شاء الله لعذب من لا يستحق التعذيب، لكن حسب حكمة الله ورحمته يكون غير ممكن.

* * *

* قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].

(1)

تقدم ص 114.

ص: 268

"مَنْ" هنا اسم استفهام، والمراد به النفي، وقد قلنا عدة مرات: أن النفي إذا جاء بصيغة الإستفهام كان أبلغ مما لو أتى بصيغة النفي الصريح؛ وذلك لأنه إذا أتى بصيغة الإستفهام صار مشربًا معنى التحدي؛ أي: كأن المتكلم يقول: ائتني بأحسن من كذا .. ائتني بأظلم ممن افترى على الله كذبًا، وما أشبه ذلك.

قوله: {دِينًا} هنا منصوبة على التمييز؛ لأنها وقعت بعد اسم التفضيل.

وهي تمييز لكلمة {أَحْسَنُ} ؛ لأن أحسن مبهمة، لا ندري لأي شيء تضاف، فإذا جاءت بعدها كلمة منصوبة فهي مميزة ومبينة لها.

وقوله: {دِينًا} الدين هنا بمعنى العمل، وإنما قلنا ذلك لأن الدين يطلق بمعنى الجزاء، مثل قول الله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4]، وبمعنى: العمل كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6]، وكما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

إذًا: قوله: {دِينًا} أي: عملًا، فالعمل الذي يبتغي عامله مقابلًا يسمى دينًا.

قوله: {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} الإسلام بمعنى الإخلاص؛ أي: فوض أمره إلى الله عز وجل، وهذا يعني: الإخلاص في القصد.

قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جملة حالية من "مَنْ" في قوله: {مِمَّنْ أَسْلَمَ} ، والإحسان هنا: الموافقة للشريعة، فيكون في الآية دليل على شرطي العبادة، وهما الإخلاص والمتابعة، فالإخلاص

ص: 269

في قوله: {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ، والمتابعة في قوله:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} ؛ لأن إحسان العمل هو موافقته الشريعة.

قوله: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} هذه جملة معطوفة على ما سبق للتوكيد المعنوي؛ لأن ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي الإخلاص، والقيام بالشريعة، فتكون هذه الجملة كأنها مؤكدة لما سبق ومتضمنة له.

وقوله: {إِبْرَاهِيمَ} أبو الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده كانوا من ذريته، وفيها قراءتان إبراهيم، وإبراهام؛ أي: إبدال الياء ألفًا، وإذا أبدلت الياء ألفًا لزم فتح الهاء.

وقوله: {حَنِيفًا} يحتمل أن يكون حالًا من فاعل "اتبع"، وأن يكون حالًا من:{إِبْرَاهِيمَ} ، والثاني أرجح، لقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل: 123]، ومن المعلوم أنه إذا كان إبراهيم حنيفًا وأمرنا باتباع ملته، فإننا سوف نكون حنفاء.

قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} الواو هنا استئنافية وليست عاطفة، فكأنه عز وجل استأنف ليبين مرتبة إبراهيم الذي أمرنا باتباعه؛ لأن الله اتخذه خليلًا، والخليل هو ذو المحبة الخالصة، وسمي بذلك لأن المحبة شملت جميع جسده حتى تخللت عروقه، وفي ذلك يقول الشاعر:

قد تخللت مسلك الروح مني

وبذا سمي الخليل خليلًا

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الحث على الإخلاص، لقوله:{مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} .

ص: 270

2 -

الحث على المتابعة، لقوله:{وَهُوَ مُحْسِنٌ} .

3 -

أنه لا أحد أحسن دينًا ممن هذا وصفه، وعلى هذا فلو قال النصارى: إنهم أحسن دينًا من المسلمين فنقول: هذا كذب؛ لأنه فقد منهم الإخلاص والمتابعة جميعًا، فالنصارى معلوم أنهم يقولون بالتثليث، وهم أيضًا لم يتبعوا شريعة الله؛ حيث كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

4 -

فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث أمرنا باتباعه، وهذا يعني: أنه إمام، ولهذا يطلق عليه العلماء اسم أو لقب: إمام الحنفاء.

5 -

أن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وهذه منقبة عظيمة له، وهل اتخذ غيره؟

الجواب: نعم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"

(1)

.

6 -

الإشارة إلى أن الخلة أعلى رتبة من المحبة لاختصاص إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم بها، ولو كانت بمعنى المحبة؛ أو في مرتبتها لكانت ثابتة لجميع من يستحق المحبة، ومن المعلوم أنه لا يصح أن تقول: إن الله اتخذ المؤمنين أخلاء؛ لأن الخلة خاصة، ومن ثم نعلم خطأ من يقول: إبراهيم الخليل ومحمد الحبيب؛ لأن هذا تنقص للرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أنزل مرتبته من الخلة إلى المحبة التي يشترك فيها حتى المؤمن المتقي المقسط الصابر.

(1)

هذا اللفظ لمسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، حديث رقم (532) عن جندب.

ص: 271

7 -

إثبات أفعال الله عز وجل، لقوله:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، والإتخاذ حادث بعد وجود سببه، وهذا ما يعبر عنه أهل العلم بقيام الحوادث بالله عز وجل؛ أي: بأنه تبارك وتعالى يفعل ما يريد ومتى شاء، خلافًا لمن قالوا: إنه لا تقوم به الأفعال الإختيارية، وأنه لا يتجدد له فعل، لا كلام ولا خلق ولا غيره، ولا شك أن هذا قول باطل، ومضمونه نقص الله عز وجل، حيث لا يفعل ما يشاء متى شاء.

* * *

* قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)} [النساء: 126].

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} هذه الجملة خبرية مكونة من مبتدأ وخبر، قدم فيها الخبر لفائدة الحصر، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} لا يشركه أحد في ذلك قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، فلله ما في السماوات وما في الأرض.

وهنا قال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، ولم يقل: من في السماوات، قال بعضهم: تغليبًا لغير العقلاء؛ لأن "من" في اللغة العربية يؤتى بها للعقلاء؛ أي: لذوي العقول، و {وَمَا} لغير العقلاء، وغير العقلاء من المخلوقات أكثر من العقلاء، ويحتمل أنه أتى بـ {مَا} ليعم ذلك الأشخاص والأوصاف؛ لأن تعيين "من" للعقلاء و {مَا} لغير العقلاء إنما هو في الأعيان، لكن {مَا}

ص: 272

للأعيان والأوصاف، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] حيث قال: {مَا} ومعلوم أن النساء من ذوي العقول، لكن لما كانت المنكوحة لا تنكح لعينها، إنما تنكح لما قام بها من أوصاف، والأوصاف معانٍ وليست عقلًا، قال {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وهذا قول أرجح من القول الأول: أن {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} إنما أتت بـ {مَا} دون "من" ليعم الأشخاص والأوصاف.

وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، وفي بعض الآيات يقول الله:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} والظاهر والله أعلم أن هذا من باب تنوع السياق والأساليب؛ لأن المعنى لا يختلف، إذ أن المعطوف له حكم المعطوف عليه، فإذا قال:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو كما لو قال: "ما في السماوات وما في الأرض"، والتنوع في السياق جاء في القرآن كثيرًا، كما يظهر للإنسان عندما يتلو القصص التي وردت في القرآن لعدد من الرسل، يجد اختلاف التعبير كثيرًا.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} "كان" هنا منزوعة الدلالة على الزمان؛ لأنها لو بقيت دالة على الزمان لكانت إحاطة الله تعالى بكل شيء إحاطة سابقة ماضية، مع أنه لم يزل ولا يزال محيطًا بكل شيء، ولكنها تأتي هنا في مثل هذا السياق لبيان ثبوت الحكم، فيكون هذا كقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وليس المعنى أن الله تجدد له المغفرة والرحمة، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] وليس المعنى أن العلم والحكمة يتجددان له، بل هذا لتوكيد اتصافه بهذا الوصف.

ص: 273

وقوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا وغير ذلك من معاني ربوبيته عز وجل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

عموم ملك الله، ويؤخذ ذلك من {مَا} الموصولة في قوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأن جميع أسماء الموصول تفيد العموم.

2 -

اختصاص ملك ما في السماوات والأرض بالله عز وجل، ويؤخذ ذلك من تقديم الخبر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

3 -

أن السموات ذوات عدد، ويؤخذ ذلك من قوله:{السَّمَاوَاتِ} التي هي جمع، وهذا العدد بين في القرآن والسنة، قال الله تبارك وتعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} [المؤمنون: 86]، وقال:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} [النبأ: 12] وكذلك جاءت السنة بذلك، وأجمع الناس عليه.

4 -

أن الأرض واحدة، لقوله:{وَمَا فِي الْأَرْضِ} ولم يقل: وما في الأراضين، فتكون الأرض واحدة، وهذا ظاهر اللفظ، لكن هذا الظاهر قد بين في مواضع أن المراد بالإفراد هنا الجنس، لا الوحدة؛ أي: جنس الأرض، وجاءت السنة صريحة بأن الأراضين سبع، وجاء القرآن ظاهرًا بأن الأراضين سبع، ففي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه يوم القيامة من سبع أراضين"

(1)

وفي ظاهر القرآن قال الله: {اللَّهُ الَّذِي

(1)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، حديث =

ص: 274

خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فالمماثلة هنا يحتمل أن تكون في الصفة، ويحتمل أن تكون في العدد، والإحتمال الأول ممتنع لظهور الفرق بين السموات والأرض، فيبقى الإحتمال الثاني وهو المماثلة في العدد.

5 -

إحاطة الله تعالى بكل شيء، لقوله:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} ، ويترتب على هذه الفائدة فائدة مسلكية مهمة، وهي: أنك إذا علمت إحاطة الله بكل شيء خفت منه، وخشيته، وراقبته؛ لأنه مهما كنت في أي مكان فالله محيط بك، فإذا آمنت بهذا خفت رب العالمين المحيط بكل شيء.

وينبني على ذلك خوف الله في القلب؛ لأن الله يعلم حتى ما في قلبك ومحيط به عز وجل.

* * *

* قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)} [النساء: 127].

{وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي: يسألونك، والإفتاء هو: الإخبار عن حكم شرعي، وهو تبيين للحكم، وليس إلزامًا به، وبهذا يفرق بين القضاء وبين الإفتاء، فالقضاء تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به؛ لأن القاضي يقول للخصمين: الحق عليك يا فلان - وهذا تبيين

= رقم (3026)؛ ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، حديث رقم (1610) عن سعيد بن زيد.

ص: 275

الحق - فاقضه لخصمك، وهذا إلزام -، بينما المفتي لا يستطيع أن يلزم حتى لو أفتى، لكن هل يجب أن يلتزم بما يفتي به؟ فيه تفصيل.

قال العلماء رحمهم الله: إذا سأل المستفتي عالمًا مطمئنًا لقوله معتقدًا فيه الحق فإنه يلزمه العمل به، ولا يستفتي غيره؛ لأن الله قال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] والفائدة من سؤالهم الأخذ بما يقولون، وإلا لكان ذلك عبثًا.

فلو أنك استفتيت عالمًا في قرية، وليس في نظرك من هو أعلم منه، وفي نيتك أنك إذا وصلت إلى المدينة التي يكثر فيها العلماء سألت، ففي هذه الحالة أنت ملتزم بفتوى هذا العالم التزامًا مقيدًا أو مؤقتًا، فلك أن تسأل إذا وصلت إلى الموارد العذبة.

قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} المستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمفتي هو الله عز وجل؛ لأن ما يفتي به رسول الله هو ما يفتي به الله عز وجل.

قوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ولم يبين الله عز وجل الإستفتاء على أي شيء يقع، هل المراد بقوله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} في تزويجهن؟ ! أم في التزوج منهن؟ ! أم في تمكينهن من البيع والشراء؟ أم في أي شيء؟ لكن الآية نزلت بسبب معلوم، وهو أنه يكون عند الرجل امرأة يتيمة من عمه أو ما أشبه ذلك، فيظلمها ويحجزها لنفسه، أو يحجزها لابنه، أو ما أشبه ذلك، فأشكل هذا الأمر على الصحابة فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأفتاهم الله بقوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} .

ص: 276

قوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} يعني: يفتيكم فيهن القرآن؛ لأنه كلام الله عز وجل، والواو هنا عاطفة لكنها ليست عطف مغايرة؛ وذلك لأن الكتاب هو الطريق الذي نتوصل به إلى معرفة فتوى الله سبحانه، إذ أن الله ليس يتكلم ويفتي؛ ولكنه يتكلم بالقرآن فتكون به الفتوى، فالعطف هنا ليس مغايرة تامة؛ لأن ما في الكتاب هو الوثيقة التي تدلنا على فتوى الله عز وجل.

وقوله: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} ، معطوفة على الجملة الأولى، ولا يصح أن تكون معطوفة على لفظ الجلالة؛ لأن الجملة الأولى استكملت بقوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ، فيكون ما بعدها جملة معطوفة على جملة، والمراد بالكتاب هنا: القرآن و"أل" فيه للعهد الذهني.

قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: في اليتيمة عنده لا يعطيها ما كتب لها، فيأتي الخاطب الكفء الذي يجب أن يعطى ولكنه يمنع، فلا يؤتيهن ما كتب لهن، ويمنع ذلك محاباة لنفسه؛ لأنه يرغب أن ينكحها.

وهنا قال: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ} فأي الحرفين نقدر هنا: "في" أم "عن" بمعنى: ترغبون في نكاحهن أو عن نكاحهن؟ نقول: الآية محتملة وهذا من بلاغة القرآن وإيجازه؛ لأنه قد يكون راغبًا عنها فلا يريدها، لكنه لا يريد أن تكون لغيره، وقد يكون راغبًا فيها فلا يريد أن تكون لغيره، فتكون الآية شاملة للأمرين جميعًا.

قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} يعني: ويفتيكم الله، وما يتلى عليكم في الكتاب؛ في المستضعفين من الولدان، ما حالهم؟

ص: 277

وما شأنهم؟ وهل يأثمون بترك الهجرة مثلًا؟ وهل يجوز ظلمهم؟ فكل ما يتعلق بشأنهم أفتى الله به وبينه.

قوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} هذه الآية الظاهر أن التقدير فيها: وأوجب عليكم أن تقوموا لليتامى بالقسط، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه؛ أي: بلوغ الولد.

قوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} القسط: هو العدل، من أقسط يقسط إقساطًا، والإسم القسط، والمراد به العدل، وأما القسط فالمراد به الجور، ولهذا إذا كانت من الثلاثية فلها معنى، وإذا كانت من الرباعية فلها معنى آخر، فأقسط أي: عدل، وقسط: جار، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، وقال:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15].

فقوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل، والعدل يكون في كل شيء، حتى في مخالطتكم إياهم في الطعام؛ لأن الصحابة تورعوا عن مخالطة اليتامى في الطعام، فأباح الله لهم ذلك، فيكون هذا في كل شأن اليتامى.

قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} "ما" هنا شرطية، بدليل قرن جوابها بالفاء.

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} ، يشمل أي خير، سواء كان متعديًا أو لازمًا، وسواء كان خيرًا ماليًا، أو خيرًا علميًا، أو بدنيًا أو أي خير.

قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} هذه جملة الجواب، واقترنت بالفاء لأنها جملة اسمية، وكلما كان جواب الشرط جملة

ص: 278

اسمية وجب قرنه بالفاء، ولكنها قد تحذف أحيانًا، كما في قول الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها

..................

والأصل فالله يشكرها، فإن قال إنسان: إن الفاء سقطت هنا للضرورة، قلنا: لا ضرورة؛ لأن البيت لو قيل فيه: "من يفعل الحسنات فالله يشكرها" سكن التاء ولم يكن ضرورة.

وعلى كل حال: فقد تحذف الفاء في جواب الشرط، لكنها نادرة.

قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} عليمًا حين يفعل، وقبل أن يفعل وبعد؛ لأن علم الله سابق على المعلوم، بخلاف الخلق فإنه مقارن للمعلوم.

وقوله: {عَلِيمًا} إذا قلنا: إنه شامل العلم فما الجواب عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]؛ لأن {حَتَّى} هنا للتعليل، وقوله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} يعني: نختبرنكم لنعلم الصابرين؟ والجواب: أن علم الله قسمان: علم سابق للفعل، وعلم لاحق، فالمعنى: حتى نعلم علمًا يكون به الشيء ظاهرًا، فنعلمه بعد وقوعه، هذا وجه.

ووجه آخر: أن المراد به العلم الذي يترتب عليه الجزاء، ولهذا قال:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} والعلم الذي يترتب عليه الجزاء لا يكون إلا بعد الفعل، وهذا الوجه أوضَح وأرجح، ويفهمه كل إنسان، وملخص ذلك أن نقول: إن علم الله نوعان: علم بأن الشيء سيقع وهذا سابق، وعلم بأنه وقع وهذا الذي يترتب عليه الجزاء.

ص: 279

وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} لم يقل: فإن الله يجازيكم به، كما هو المتوقع! فيقال: إن ذكر العلم فيه فائدة: وهو أنه لا يضيع لكم أي خير كان؛ لأن علم الله محيط به، فيكون هذا المعلوم ثابتًا لكم، ومن المعلوم من آيات أخرى كثيرة أن الله تعالى يقول:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 - 8].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة الأحكام الشرعية، لقوله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ} ، ولكن يجب أن نعلم أن استفتاء الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم استفتاء متطلب للحكم ليقوم به، ويعمل به، ولهذا إذا علموا بالأحكام عملوا بها، بخلاف بعض الناس اليوم، حيث يستفتي لينظر ما عند العالم، ثم إن شاء أخذ به وإن شاء استفتى عالمًا آخر، وهذا الأخير يعتبر متلاعبًا بدين الله عز وجل؛ لأنك إذا استفتيت عالمًا فإنك قد جعلت ما يفتيك به هو الطريق إلى الله عز وجل، فإذا كنت إنما تسأله لترى إن وافقت فتواه هواك أخذت بها عندئذ وإلا طلبت غيره، فهذا هو الذي يتبع هواه، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من تتبع الرخص صار فاسقًا.

2 -

اعتناء الصحابة بشأن النساء، بل واعتناء الله عز وجل فوق ذلك بشأنهن، لقوله:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ، فالمستفتي الصحابة والمفتي هو الله عز وجل، والواسطة بين المستفتي والمفتي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا

ص: 280

يدل على عناية الشرع بالنساء، وبناءً على هذا نعلم أن كل ما شرعه الشرع من أحكام النساء فإنه في مصلحتهن، حتى وإن ظن السفهاء والأغبياء أنه هضم لحقهن وظلم فإنهم خاطئون.

3 -

الرجوع إلى ما في كتاب الله عز وجل، وأن ما في الكتاب من الفتوى صادر من عند الله، لقوله:{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وهو كذلك؛ لأن الكتاب منزل من الله عز وجل، هو الذي تكلم به وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يبلغه الناس، وهو نفسه تبارك وتعالى تكفل ببيانه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة: 18 - 19].

4 -

العناية بالنساء عمومًا، والعناية بيتامى النساء وهذا أخص؛ لأن يتيمة النساء اجتمع في حقها الضعف من حيث الجنس، فجنس النساء أضعف من الرجال، والضعف من حيث فقد العائل، وهو الأب، فلهذا أوصى الله بها بعناية.

5 -

جبروت أهل الجاهلية، حيث سلطوا جام ظلمهم على هؤلاء اليتامى من النساء، بحيث لا يؤتونهن ما كتب لهن، ويتحكمون فيهن وفي مصيرهن، لقوله:{اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} .

6 -

أن مهر المرأة مفروض لها، لقوله:{مَا كُتِبَ لَهُنَّ} وهذا كقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4]، وعلى هذا فصاحب المهر هو المرأة، وليس ولي المرأة، ولو كان أباها فالمهر إليها؛ تقديره عددًا، وتعيينه جنسًا، ولها أن تبرئ منه إذا كانت عاقلة رشيدة.

7 -

أنه يجوز للإنسان أن يتزوج موليته؛ لأن هؤلاء اليتامى

ص: 281

تحت ولاية هؤلاء الذين يرغبون أن ينكحوهن، وهو أحق الناس بتزويجها، فإذا أراد أن يتزوجها فلا نقول: إنه لا يجوز؛ لأنه ولي يعامل نفسه لنفسه كما لا يجوز للوكيل أن يشتري من مال موكله له، بل يجوز لولي اليتيمة إذا كانت تحل له أن يتزوجها، لكن عليه بتقوى الله فلا يظلمها ولا يهضمها، ولكن كيف يعقد النكاخ إذا كان هو الولي؟

الجواب: يأتي بشاهدين ويقول: أشهدكم أني زوجت نفسي ابنة عمي، بالولاية الشرعية، ولا يحتاج أن يقول: قبلت؛ لأن هذا إيجاب تضمن القبول، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام:"أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"

(1)

ولم يحتج إلى إيجاب ولا قبول؛ لأن المعنى مفهوم.

8 -

العناية بالمستضعفين من الولدان؛ لأن المستضعف من الولدان سواء كان لصغره، أو لمرضه أو لجنونه، أو لغير ذلك من الأسباب التي صار بها ضعيفًا، فالعناية به لا شك أنها دليل على رحمة الإنسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"

(2)

، وقال:"الراحمون يرحمهم الرحمن"

(3)

، ولهذا من أكبر أسباب حصول الرحمة في القلب

(1)

رواه البخاري، كتاب النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها، حديث رقم (4798)؛ ومسلم، كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها، حديث رقم (1365) عن أنس.

(2)

رواه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب رحمة المسلمين، حديث رقم (1924)؛ وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، حديث رقم (4941)؛ وأحمد (2/ 160) عن عبد الله بن عمرو.

(3)

هذه الجملة هي أول الحديث السابق.

ص: 282

هو: الإشفاق على الصغار، والضحك إليهم، وإدخال السرور عليهم، فإن الإنسان يجد في ذلك رقة ورحمة في قلبه، ولو بقي يدرس مجلدات لإيصال الرحمة إلى قلبه ما حصل له ذلك.

وتأمل معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للصغار، فمرة ركبه الحسن وهو ساجد يصلي بالناس، وتأخر في القيام من السجود، وأخبر الناس بعد سلامه أن ابنه ارتحله، وأنه أحب أن يقضي نهمته، وارتحله يعني: جعله راحلة؛ لأنه حين رآه ساجدًا ظنه يتهيأ له فركب عليه، فأقره النبي عليه الصلاة والسلام

(1)

، مع أنه لو جاء أحد أئمة الناس اليوم ابنه وركبه لما اكتفى بإنزاله، بل قد ينفضه عن ظهره نفضًا - نسأل الله العافية - وهذا غلط.

كذلك أمامة بنت زينت كانت تبكي، فخرج بها صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وجعل يحملها في الصلاة

(2)

.

ولما خرج الحسن والحسين وعليهما ثياب يعثران بها، نزل من المنبر وحملهما بين يديه

(3)

، والأمثلة على هذا كثيرة، كأن

(1)

رواه النسائي، كتاب التطبيق، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة (1141)؛ ورواه الإمام أحمد في المسند (15603).

(2)

رواه النسائي، كتاب المساجد، باب إدخال الصبيان المساجد (711)؛ ورواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة (918)؛ ورواه الإمام أحمد في مسنده (22013) عن أبي قتادة.

(3)

رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما (3774)؛ ورواه النسائي، كتاب الجمعة، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (1413)؛ ورواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (1109)؛ ورواه ابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال (3600).

ص: 283

يقول: "يا أبما عمير! ما فعل النغير"

(1)

، يمازحه ليدخل السرور عليه، ولو أننا سرنا على هذه الآداب لحصل في هذا خير كثير.

9 -

وجوب القيام لليتامى بالقسط، وهذا أمر عام، يجب على كل إنسان أن يقوم لله شهيدًا بالقسط، لكن اليتامى لهم أمر خاص للعدل بينهم؛ لأن اليتيم ليس له من يدافع عنه، وربما يأكله وليه من حيث لا يشعر، فلهذا أوصي بهم.

10 -

أن كل ما عملناه من خير قليلًا كان أو كثيرًا فإن الله يعلمه.

- ويترتب على هذه الفائدة: الحذر من الإخلال بالواجب؛ لأنه إذا كان يعلم الخير الذي نعمله فهو يعلم أيضًا ما لا نعمله من الخير.

11 -

الحث على الخير، لأنك إذا علمت أن الله يعلمه وأنه سيجازيك عليه، نشطت وقويت همتك لفعله.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [النساء: 128].

{وَإِنِ امْرَأَةٌ} كيف نعرب امرأة؟ الجواب: إما أن نقول: (امْرَأة) فاعل لفعل محذوف، تقديره:(وَإِنْ خَافَتِ امْرَأة) وهذا مذهب البصريين، ويقول الكوفيون:(امْرَأة) مبتدأ، وما بعدها خبر؛ لأنهم يجوزون دخول الشرط على الجملة الإسمية،

(1)

رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الإنبساط إلى الناس، حديث رقم (5778)؛ ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته .. ، حديث رقم (2150) عن أنس.

ص: 284

والثالث: أن (امْرَأة) فاعل مقدم وهذا أيضًا للكوفيين، وعلى هذا يقال:(امْرَأة) فاعل مقدم ولا مانع، وكما مر من قبل أقول: إنه إذا اختلف النحويون فإننا نتبع الأسهل من أقوالهم؛ لأن الله سبحانه تعالى يحب السهولة.

إذًا: (امْرَأة) إن شئنا قلنا: فاعل مقدم، وءان شئنا قلنا: مبتدأ، ولا مانع من أن تكون الجملة اسمية بعد أداة الشرط.

قوله: (امْرَأة) نكرة في سياق الشرط فتكون عامة، والمراد المرأة المتزوجة.

قوله: {خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} أي: من زوجها، كما قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم:{أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، إذًا: البعل الزوج.

قوله: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} نشوزًا يعني: ترفعًا عليها، أو إعراضًا عنها، والإعراض أشد؛ لأن النشوز قد يخاطبها ويتكلم معها لكن بكلام فيه استعلاء وترفع واحتقار، أما الإعراض: فهو معرض عنها؛ لا يكلمها، ولا يعاشرها المعاشرة بالمعروف.

ويمكن أن نقول: إن الإعراض عما يجب، والنشوز فيما يمتنع، يعني يعلو عليها فيعتدي عليها، أو يعرض عنها فلا يقوم بالواجب.

قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} ، {لَا جُنَاحَ}: أي: لا إثم، {عَلَيْهِمَا} أي: على المرأة وبعلها {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} "وفي قراءة أخرى: "أن يَصَّالحا" وأصل: يَصَّالحا: يتصالحا، فهما قراءتان سبعيتان" وإنما نفى الجناح دفعًا لتوهم المنع، فإن المرأة إذا سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة، فنفى الله الجناح في المصالحة من أجل أن يصطلحا على ما يشاءان، ولكن إذا لم يصطلحا بأنفسهما

ص: 285

وطلبا طرفًا ثالثًا فهل عليهما جناح؟ الجواب: لا، ليس عليهما جناح، وتأمل الفرق بين نشوز الزوج عن الزوجة ونشوز الزوجة عن الزوج، ليتبين لك الحكم إن شاء الله تعالى.

قوله: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} هذه جملة عامة في كل شيء، في حقوق الزوجة، وحقوق الرحم، وحقوق المصاهرة، وحقوق الجوار، وحقوق المعاملة، فالصلح خير في كل شيء، وهنا لم يقل: الصلح بينهما؛ لإفادة العموم، يعني: أن الصلح في كل شيء خير من عدمه، ومن المعلوم أن الصلح قد يتصور الإنسان أن فيه غضاضة عليه، فلهذا قال:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} يعني: أنه عند النزاع وطلب المصالحة تكون الأنفس شحيحة، كل نفس تريد أن يكون الصلح في جانبها وفي مصلحتها، وكأن الله يقول: دعوا هذا الشح الذي أحضرته الأنفس واطلبوا الخير في المصالحة.

ولهذا نجد أنه إذا تعقدت الأمور بين شخصين، وأردنا أن نصلح بينهما فإن كل واحد منهما يركب رأسه، ويأبى أن يتنازل إلا بعد جهد جهيد.

وفي قوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} الشح منصوبة، وما قبلها مرفوع لأن الأنفس نائب فاعل، والشح مفعول ثانٍ.

والسبب في قوله: "أحضرت" مع أنها أحضرها الله؛ لأن الله تعالى إذا أضاف إلى نفسه الشيء المذمومِ يأتي بصيغة اسم المفعول، وانظر إلى قول الجن:{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10]، قال:{أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} تأدبًا مع الله عز وجل، ومعلوم أنه شيء يريده الله عز وجل، وفي الرشد قال:{أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} فأضافوه إلى الله؛ لأنه خير، فلما كان الشح أمرًا مذمومًا فالأنفس نائب فاعل، قائم مقام المفعول الأول، والشح هو المفعول الثاني.

ص: 286

وقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} إن تحسنوا فيما بينكم بفعل المطلوب، وتتقوا بترك المحظور، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، وسيجازيكم على الإحسان وعلى ما اتقيتموه.

والإحسان والتقوى والبر وما أشبه ذلك إذا أفرد أحدهما عن الآخر شمل الآخر، وإن اقترنا فسر كل منهما بما يليق به.

فقوله هنا: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} الإحسان بفعل الأوامر، والتقوى بترك النواهي، أما إذا أفرد الإحسان فإنه يشمل فعل الأوامر وترك النواهي، وكذلك التقوى إذا أفردت فإنها تشمل هذا وهذا.

وهذا يوجد كثيرًا في القرآن الكريم، المسكين والفقير إذا أفرد أحدهما عن الآخر صار أحدهما شاملًا للآخر، وإن قرنا صار الفقير له معنى، والمسكين له معنى، فهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

فقوله: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} الإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله، يجمع الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

(1)

فهذا الإحسان.

أما في المعاملة: فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام في قوله: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه"

(2)

(1)

تقدم (1/ 431).

(2)

رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول =

ص: 287

والكلام على الجملة الأخيرة "وليأت إلى الناس مما يحب أن يؤتى إليه" فهذا هو الإحسان في معاملة الناس، أن تأتي للناس ما تحب أن يؤتى إليك، وبهذا يتحقق الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"

(1)

.

أما التقوى هنا فهي تقوى محارم الله؛ أي: تقوى المحرمات في حقوق الله وفي حقوق عباد الله، فتجتنب البغي والعدوان والكذب والشرك وغير ذلك، سواء كان في حقوق الله، أو في معاملة عباد الله.

قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} {بِمَا تَعْمَلُونَ} : اسم موصول وصلته، والإسم الموصول يفيد العموم، وعلى هذا فتكون خبرة الله تعالى بكل ما نعمل من ظاهر وباطن، وخير وشر، وصغير وكبير؛ لأن "ما" اسم موصول يفيد العموم.

وقوله: {خَبِيرًا} قال العلماء: إن الخبير أخص من العليم، إذ أن الخبير هو الخبير ببواطن الأمور، وإذا كان خبيرًا ببواطن الأمور كان عليمًا بظواهرها، والغرض من هذه الجملة - التي وقعت جوابًا للشرط - حث النفوس على الإحسان والتقوى؛ لأنك إذا علمت أن الله خبير بكل ما تعمل أوجب لك أن تخافه فتتقيه، وأوجب لك أن ترجوه فتحسن.

وفي قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} إشكال، متعلق بتقديم

= فالأول، حديث رقم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(1)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم (13)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، حديث رقم (45) عن أنس.

ص: 288

المعمول هنا، فإن العلماء يقولون: إن تقديم المعمول يفيد الحصر، وإذا قلنا به في هذه الآية أوجب إشكالًا وهو: أنه لا يكون خبيرًا إلا بما نعمل، وما سواه فليس خبيرًا به، وهذا مقتضى الحصر، فهل الغرض من التقديم هنا الحصر؟

الجواب: لا؛ لأننا نعلم أن الله عز وجل يعلم، وهو خبير بكل شيء، لكن الحكمة في ذلك: شدة التحذير من المخالفة، كأنه قال: لو لم يعلم شيئًا لكان عالمًا بما تعملون، وحينئذ يتأكد علمه جل وعلا بما نعمل، فيكون في ذلك شدة التحذير من المخالفة، وهذه هي فائدة تقديم قوله:{بِمَا تَعْمَلُونَ} في هذا الموضع.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

عناية الله عز وجل بما يكون بين الزوجين، وجهه: أن الله ذكر هنا نشوز الزوج، وفي أول السورة ذكر نشوز الزوجة، مما يدل على عناية الله تعالى بما يكون بين الزوجين؛ لأن الزوجين هما الرابطة التي تربط بين الأولاد، وتربط أيضًا بين الصهر وصهره، وهي أحد النوعين في الربط، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54].

2 -

أن من الأزواج من ينشز على الزوجة، ويترفع عليها، ويعرض عنها، ولا يجلس إليها، ولا يستأنس بها، لقوله:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} .

3 -

العمل بالقرائن، ويؤخذ من قوله:{خَافَتْ} ولم يقل: رأت نشوزًا بل خافت، ومن المعلوم أنها لم تخف من النشوز والإعراض إلا بوجود القرائن، والعمل بالقرائن ثابت بالقرآن

ص: 289

والسنة، فقد عمل شاهد يوسف بالقرينة، في قوله تعالى:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: 26 - 27]، وعمل سليمان عليه الصلاة والسلام في قضائه بين المرأتين بالقرينة، حين دعا بالسكين ليشق الولد نصفين، والأمثلة على هذا كثيرة.

4 -

أنه يجوز أن يصطلح الزوجان فيما بينهما على ما شاءا، لقوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} .

- ويتفرع على هذه الفائدة: اطمئنان الزوج فيما لو صالحها على إسقاط حقها أو بعضه، فاذا اصطلحا على أن تبقى عنده ويُسقط بعض الحق فلا حرج عليه، والآية هنا:{أَنْ يُصْلِحَا} .

5 -

أنه يجوز للزوجة عند المصالحة أن تسقط حقها من القسم، فإذا قال لها: إنه تزوج زوجة جديدة ورغب عن القديمة، وقال: إما أن تبقي عندي مع إسقاط حقك من القسم وإما الطلاق، فرضيت بذلك، فإنه يجوز؛ لأن الحق لها وهو غير مجبر على أن تبقى عنده، فيقول: إما أن تبقي عندي وترضي بإسقاط القسم، وإلا طلقتك، فلا مانع أن يقول هكذا، إن رضيت وقنعت فذلك المطلوب، وإن لم ترض طلقها ولا إثم عليه في هذا، ولا يقال: إنه أجبرها على التنازل عن حقها بتهديدها بالطلاق، ووجه عدم ورود ذلك: أن له أن يطلق بأي حال من الأحوال لو كرهها حتى بدون قصد الزواج من زوجة أخرى، فإذا كان كذلك فإنه لا إثم عليه.

6 -

أنهما لو تصالحا على إسقاط حقها بعوض، فلا يسقط

ص: 290

إلا بعوض، فلو قالت: لا أسقط حقي إلا أن تعطيني عن كل ليلة عشرة ريالات، فيكون عليه في كل شهر مائة وخمسون، إن كان له زوجة ثانية، وإذا تزوج بثالثة نقص سهمها وبالتالي حقها في العوض.

على كل حال: إذا وافقت على أن تسقط حقها من القسم بعوض فلا بأس.

وقول بعض العلماء: إنه لا يصح بعوض؛ لأن العوض لا بد أن يكون معوضه مالًا ليس بصحيح؛ لأن الله أطلق، حيث قال:{أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} وهذه فائدة التنكير في قوله: {صُلْحًا} ؛ لأن {صُلْحًا} يعني: أي: صلح كان، وهذا من بلاغة القرآن {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} يعني: أي: صلح كان، ولو قال:{أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} فقط، ربما يقال: إنه لا بد من قيود وشروط، لكن لما قال:{صُلْحًا} صار هذا عامًا، فأي شيء يتفقان عليه فلا بأس.

فلو رضيت واصطلحا على أن يقسم لها يومًا وللأخرى يومين صح هذا.

إذًا: لا تقييد في هذا، إلا في شيء واحد، وهو ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا"

(1)

فمثلًا: لو قال لها والعياذ بالله: اختاري إما أن أطأك بالدبر وإلا طلقتك؟ وقالت: لا مانع، فلا يجوز هذا الصلح؛ لأنه أحل حرامًا، فإذا كان يقتضي أن يحل

(1)

رواه الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما ذكر في الصلح بين الناس، حديث رقم (1352)؛ وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الصلح، حديث رقم (2353) عن عمرو بن عوف المزني.

ص: 291

حرامًا فإنه لا يجوز، ولو اصطلحا على أن يطلق زوجته الأخرى فلا يجوز؛ لأنه أحل حرامًا، ولأن فيه عدوانًا وظلمًا على الطرف الثالث.

إذًا: الصلح الذي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا جائز مطلقًا بلا تقييد.

7 -

هذه القاعدة العظيمة من الرب الذي هو على كل شيء قدير، وهي:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وقد يظن بعض الناس أنه إذا تنازل عن الحق أن في ذلك غضاضة وهضمًا لحقه، وأن العاقبة غير حميدة، لكن الله عز وجل الذي بيده ملكوت السماوات والأرض يقول:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وإن شئت مثالًا على ذلك: فتدبر صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، ظاهر الصلح أن فيه غضاضة عظيمة على المسلمين، ولكن الذي بيده ملكوت السماوات والأرض تحول هذا الصلح بإذنه إلى خير للمسلمين، من الذي أسقط حق إرجاع المسلم إذا جاء إلى المسلمين من الكفار؟

الجواب: قريش كانت مستفيدة منه، وهي التي أسقطته، ومن الذي أسقط وضع الحرب بينهما عشر سنين؟ الجواب: قريش؛ لأنها نقضت العهد بمعاونتها لحلفائها على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت يا أخي! لا تنظر إلى الأمور في حاضرها، بل صدق بوعد الله والعاقبة لك.

وهل نقول هنا: الصلح خير فيما بين الزوجين، أو نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟

نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذًا: الصلح في جميع الأحوال خير؛ لأنه يحصل فيه سماحة النفس

ص: 292

والمودة، ولو أدى النزاع إلى التحاكم صار في النفوس بعض الشيء، إذ أن المحكوم عليه سوف يكون في قلبه شيء على خصمه، وربما على القاضي أيضًا، وربما على الشهود، فتنتشر العداوة، فإذا وقع الصلح انقاد الجميع عن سماحة نفس واطمئنان.

8 -

الإشارة إلى أن الصلح ثقيل على النفوس، لكن المؤمن يهون عليه الثقل إذا كان يؤمن بأن الصلح خير، ويؤخذ من قوله:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} فالإنسان بطبيعته لن يتنازل عما يريد، ولن يتغاضى عن حقه، لكن في المصالحة التي هي خير لا بد من ثمن يبذل وهو الضغط على النفس التي أحضرت الشح؛ حتى توافق على الصلح.

9 -

الحث على الإحسان والتقوى، لقول الله تعالى:{وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .

10 -

عموم علم الله في كل شيء حتى بما نعمل، وعلم الله بما نعمل علم سابق على عملنا ولا شك؛ لأن الله سبحانه قال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].

فإن قال قائل: أليس الله يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142] قلنا: بلى قال الله هذا، والذي قال هذا هو الذي قال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70]، إذًا: كيف نجمع؟

ص: 293

الجواب: نقول: الطريقة السليمة هنا أن تؤمن بهذا وهذا، ولا تحاول إثبات أن هناك تعارضًا، فتقول: نحن نؤمن بأن الله سبحانه يعلم ما نعمل من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، بل من قبل ذلك أيضًا، لكن الكتابة كانت قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وتؤمن بأن الله تعالى يبتلينا ويختبرنا ليعلم، لكن قد لا تطمئن النفس إلى الإستسلام المجرد، فنقول: علم الله سبحانه الذي يكون بعد عملنا وبعد اختبارنا علم يترتب عليه الثواب أو العقاب؛ لأنه لا يمكن أن يثاب العبد أو يعاقب إلا إذا امتحن، أما علمه السابق فهو سبحانه عالم بأنه سيمتحننا، وأننا سنعمل أو نترك، لكن إذا وقع الإبتلاء والإمتحان ثم خالف الإنسان أو وافق فهذا هو العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، يعني: يترتب عليه الجزاء، فهذا هو العلم الذي قيد بالإبتلاء والإختبار.

وفرق بعض العلماء بفرق آخر فقال: علم الله سبحانه بما لم نعمل علم بأنه سيكون، وعلمه بما عملناه علم بأنه كان، فتعلق العلم الأول بما يكون علم بشيء لم يقع، وتعلق العلم بما كان علم بأنه قد وقع، وهذا لا بأس به، ولكن العمدة الأول.

11 -

أن التهديد يكون باللفظ ويكون بالمعنى، فلو قال: إن فعلتم كذا فعليكم كذا، فهذا تهديد باللفظ، أما ما يتعلق بالمعنى فهو أن الله تعالى لما ذكر عموم خبرته بما يعمل، فيعني هذا: أن لا نخالف حذرًا من أن يعلم منا ما لا يرضيه، كما أن الأحكام الشرعية تستفاد بالأمر والنهي، والترغيب والترهيب، فإذا جاءت

ص: 294

الأحكام مقرونة بالترغيب، فهذا دليل على أنها مأمور بها، وإذا جاء الترهيب علمنا أنها منهي عنها.

ويذكر أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} والله غفور رحيم، فقال الأعرابي: ما هكذا الآية، اقرأ، فردها، وقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه} والله غفور رحيم، فقال: ما هكذا الآية، فقرأها الثالثة أو الرابعة: وقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38] قال: الآن أصبت؛ لأنه عز وجل عز وحكم فقطع، لعزته وقهره وغلبته وسلطانه عز، ولحكمته قطع، ولو غفر ورحم لما قطع، وهذا القول صحيح، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: لو تاب قاطع الطريق الذي أخذ أموال الناس وقتلهم قبل القدرة عليه سقط عنه الحد، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]، ولم يقل: فارفعوا عنهم العقوبة، لكن كونه يأمرنا أن نعلم بأن الله غفور رحيم يعني: أنه غفر لهؤلاء ورحمهم، فتسقط عنهم العقوبة، لكن هذا فيما يتعلق بحق الله، أما العقوبة الخاصة بحق الآدمي كالقصاص، ورد المال الذي أخذه فهذه باقية؛ لأنها حق آدمي.

أما قول الله تعالى عن عيسى أنه قال له: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]، ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن ما في الآية في الحقيقة ليس مغفرة محضة، فهما أمران: تعذيب ومغفرة، وكلاهما إذا

ص: 295

اجتمعا يقتضيان العزة والحكمة؛ لأنه من الحكمة أن يغفر الله تعالى لمن شاء، ومن العزة أن يعذب من شاء، فلما كانت الآية ليست في موضوع واحد ختمت بما يصلح لهذا وهذا.

* * *

* قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)} [النساء: 129].

يقول الله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} "لن" للنفي فهي نافية، وللنصب تنصب الفعل المضارع، وللإستقبال. يعني: تجعل الفعل المضارع لمحض الإستقبال، ويقابلها:"لم"، التي تجعل الفعل المضارع للمضي، فإذا قلت: لم يقم زيد فهذا فيما مضى، وتشترك مع لن في النفي، وتختلف معها في العمل، وفي نقل الفعل من الحاضر والمستقبل إلى الماضي.

وقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} أي: لن يكون في طاقتكم.

قوله: {أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أن تعدلوا هنا: فعل مضارع دخلت عليه أن المصدرية، ويؤول ما بعد أن بمصدر ليكون في هذه الآية مفعولًا لقوله:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} ؛ أي: لن تستطيعوا عدلًا بين النساء، ولو حرصتم، والعدل ضد الميل.

قوله: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ولما جاء قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} انتفى الإشكال الوارد في قوله تبارك وتعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فيفسر ما في الآية

ص: 296

الماضية على أن قوله: {أَلَّا تَعْدِلُوا} العدل الممكن؛ لأن العدل غير الممكن لا يمكن أن يكلف به الإنسان.

قوله: {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} لو هذه شرطية، وفعل الشرط قوله:{حَرَصْتُمْ} وجواب الشرط قيل: إنه محذوف يدل عليه ما قبله، والتقدير:"ولو حرصتم فلن تستطيعوا"، وقيل - وهو الصواب -: أن لو وإن وما شابهها من أدوات الشرط في مثل هذا السياق لا تحتاج إلى جواب، بل هي كالقيد لما سبق فقط، فلا تحتاج إلى جواب، وهذا القول هو الذي رجحه ابن القيم فيما أظن، وهو الصحيح، فإذا قلت: أكرم زيدًا إن أكرمك، فلا تقل: إنَّ جواب الشرط في أكرمك محذوف دل عليه ما قبله، بل قل: لا يحتاج إلى جواب، بل هذا قيد لما سبق فقط.

وقوله: {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي: بذلتم الجهد للعدل فلن تستطيعوا، ولكن {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} ولم يقل: فلا تميلوا الميل؛ أي: فلا تميلوا الميل كله، وأما بعض الميل فلا حرج؛ لأنه داخل في نفي الإستطاعة.

قوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} الضمير في "تذروها" يعود على التي مال عنها ولا شك؛ لأن التي مال إليها قد أقبل إليها وأكرمها، لكن التي مال عنها هي التي إذا أعرض عنها الإعراض الكلي صارت كالمعلقة بين السماء والأرض، وهذا إشارة إلى أنها لن تستقر، فإن المعلق بين السماء والأرض لا يستقر، لا هو في السماء فيستقر، ولا في الأرض فيستقر، وهذه التي ميل عنها كل الميل ستبقى معلقة، ليست أيمة ولا متزوجة، يعني: ليس هو الذي طلقها واستراحت ورزقها الله غيره، ولا هي بالمتزوجة التي

ص: 297

تسعد بالزواج كغيرها، وإنما شبهها الله بذلك تنفيرًا عن الميل الكلي الذي يجعل هذه المرأة كالمعلقة.

قوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} هنا قال: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} وفي الآية التي قبلها قال: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} ، والفرق أن هذا له زوجتان: إحداهما مال عنها كل الميل، والثانية: أقبل عليها، ومثل هذا سوف يحدث شقاقًا بين الزوجتين، فلهذا قال:{وَإِنْ تُصْلِحُو} إشارة إلى أنه ينبغي أنه إن حدث بين الزوجتين شقاق وغيرة فليصلح بينهما؛ لأن هذا أمر فطري.

ثم قال: {وَتَتَّقُوا} يعني: تتقوا في الإصلاح، بحيث لا تميلوا إلى واحدة دون الأخرى.

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}

{غَفُورًا} : لما حصل من الشقاق والميل وما أشبه ذلك.

{رَحِيمًا} أي: ذا رحمة واسعة.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الله سبحانه نفى الحرج عن الإنسان حتى في معاملة الغير، لقوله:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} ، وهذا خبر عن أمر فطري يستلزم رفع الجناح؛ لأن القاعدة الشرعية أن ما لا يستطاع لا يلزم به العبد.

2 -

علم الله سبحانه بأحوال العباد ونفسياتهم، لقوله:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} ، وهذا أمر معلوم بالضرورة أن الله سبحانه يعلم كل شيء، حتى ما يوسوس به الإنسان في نفسه.

3 -

أن الإنسان يجب عليه العدل فيما يستطيع؛ لأن الله

ص: 298

نفى الإستطاعة لرفع الحرج فيها، ومفهومه: أنه إذا استطاع الإنسان فإنه يجب أن يعدل، وقد سبق ما يعدل به بين النساء، وأنه يجب العدل بين النساء في كل شيء يقدر عليه، وأما المحبة وما ينشأ عنها فهذا صعب، فلا يكلفه الإنسان.

4 -

أن الإنسان لا ينبغي أن يكلف نفسه ما لا يستطيع ويشق عليه، لقوله:{وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فكأنه قال: لا تكلفوا أنفسكم بشيء لا تستطيعونه.

5 -

تحريم الميل كله بالنسبة للعدل بين الزوجات؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} .

6 -

أنه ينبغي للإنسان في خطابه أن يستعمل كل ما يكون فيه التنفير فيما ينفر منه، أو الترغيب فيما يرغب فيه؛ لأن هذا من أسلوب الحكمة، لقوله:{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} .

7 -

الإستعطاف في المقام الذي ينبغي فيه العطف؛ لأنه إذا تصور الإنسان أن هذه الزوجة التي مال عنها كالمعلقة بين السماء والأرض؛ فإن هذا يوجب العطف عليها، والرأفة بها ورحمتها.

8 -

أن إلصلح والتقوى سبب للمغفرة، لقوله تعالى:{وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ووجهه ظاهر؛ لأن الإصلاح خير، والحسنات يذهبن السيئات، ولأن الإصلاح خير والحسنات يجلبن الرحمة.

9 -

إثبات اسمين من أسماء الله عز وجل وهما: الغفور الرحيم، فبالمغفرة يزول المكروب، وبالرحمة يحصل المطلوب، ولهذا يقرن الله تعالى بين الغفور والرحيم في مواضع كثيرة؛ لأن بالمغفرة يزول المكروب، وبالرحمة يحصل المطلوب.

ص: 299

المغفرة: مغفرة الذنوب، وإزالة آثارها، والرحمة: حصول المطلوب والمحبوب، ولهذا سمى الله تعالى الجنة رحمة، فقال لها:"أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"

(1)

.

وهل المغفرة صفة حقيقة أو هي عبارة عن رفع المؤاخذة والعقوبة؟

الجواب: صفة حقيقة، تقتضي رفع المؤاخذة والعقوبة، وكذلك يقال في الرحمة.

وهي صفة حقيقة يتصف الله بها، وليست عبارة عن الإحسان والإنعام وجلب المصالح، وهذا ما عليه السلف الصالح وأئمة هذه الأمة من بعدهم.

وأما من قال: إن الله لا يوصف بالمغفرة ولا بالرحمة فقد ضل ضلالًا مبينًا، وحجته وهمية حقيقة وليست عقلية؛ لأنه يقول:"مغفرة" تقتضي فعلًا، والفعل من سمات المحدثين؛ لأنه بزعمه لا يقوم الحدث إلا بحادث، وبزعمه أن الرحمة لا تليق بالله؛ لأن فيها رقة وانفعالًا بالمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل.

ومعلوم أن هذا قياس في مقابلة النص، وأنه يشبه قياس إبليس حين خاطبه الله عز وجل وأمره بالسجود، فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. يعني: فأنا خير منه كيف أسجد له وهو دوني؟ ! فمن حكَّم العقل في مقابلة النص؛ فإنه يشبه إبليس تمامًا، وفعله من وحي إبليس.

ونحن نقول: الرحمة التي هي الرقة والإنفعال من الرفق

(1)

تقدم (1/ 181).

ص: 300

بالمرحوم إنما هي رحمة العبد، أما رحمة الله فإنها تابعة لذاته لا نستطيع أن نكيفها.

وأما قوله: إن العقل لا يدل عليها، فنقول: إن هذا خطأ، فالعقل يدل عليها: قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، فهذه النعم كلها من آثار الرحمة، ولولا رحمة الله ما أنعم على عباده بشيء، والعجيب: أنهم يستدلون على ثبوت الإرادة بأمر لا يفهمه بعض الطلبة فضلًا عن العامة، وينكرون إثبات الرحمة بالعقل مع أن العامة تفهم ذلك، ولو سألت أي عامي: المطر نزل وأروى الأرض وأنبت الأرض فعلام يدل، لقال: يدل على رحمة الله. لكنهم يقولون: إن تخصيص المخلوقات بما تختص به دليل على الإرادة. يعني: كون الإنسان إنسانًا، وكون البعير بعيرًا، والشمس شمسًا وما أشبه ذلك يدل على الإرادة، وإلا لما حصل تمييز بين الخلائق، ولولا الإرادة ما حصل تمييز بين الخلائق.

فنقول: هذه الدلالة نوافقكم عليها، لكنها دلالة خفية أخفى من دلالة النعم على الرحمة، لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)} [النساء: 130].

{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} : قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} الضمير يعود على الزوجين، على الزوج الذي خاف من زوجه نشوزًا أو إعراضًا، وعلى الزوجة التي تركها زوجها كالمعلقة.

ص: 301

ومن المعلوم أنه لن يعرض عنها ولم يجعلها كالمعلقة إلا لكراهته لها، وحينئذ يحصل التفرق.

وإذا تفرقا فإن الله سبحانه ييسر لكل واحد منهما ما يحصل به الغنى من سعة الله.

قوله: {يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} بماذا؟

قال بعضهم: يغني الزوج بزوجة صالحة يسعد بها، ويغني الزوجة بزوج صالح تسعد به، يعني: أن الزوج يجد امرأة، والزوجة تجد زوجًا.

وقال بعضهم: يغني الله كلًا من سعته سواء بإبدال الزوج الأول، أو بالسلوان والنسيان، وأن يكون الأمر كأن لم يكن، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن السلوان وعدم ذكر أحدهم الآخر ليس إغناءً، والإغناء: أن يوجد ما يستغني به الإنسان، وهذا لا يكون إلا بزوج للزوجة وزوجة للزوج، وهذا وعد من الله عز وجل، وعد من القادر الذي يقدر على أن يبعث للمرأة زوجًا تسعد به، أو للرجل زوجة يسعد بها، وهو وعد حق وصدق؛ لأن الواعد به هو الله الذي لا يخلف الميعاد، وهو على كل شيء قدير، لكن أحيانًا يتخلف هذا لشك الإنسان، وعدم ثقته وإيمانه، فيحصل هذا المانع ولا يتحقق الموعود.

قوله: {وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} واسعًا. أي: ذو سعة عظيمة في جميع الصفات:

واسع في علمه كما قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

واسع في قدرته كما قال: {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّه

ص: 302

قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 20] واسع في حكمته، ولهذا قرن الحكمة به، واسع في سمعه وبصره، وفي كل صفاته عز وجل، وواسع في إحاطته فهو محيط بكل شيء:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115].

المهم: أنه جل وعلا واسع بمعنى الكلمة على أوسع ما يكون.

وقوله: {حَكِيمًا} أي: ذو حكمة وحكم، فهو الذي له الحكم الكوني والشرعي، وهو الذي له الحكمة الصورية أو الغائية، فالحكم الله عز وجل {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وحكم الله عز وجل، كوني وشرعي، فما قضاه في خلقه فهو كوني، وما شرعه لخلقه فهو شرعي. إذًا: الضابط: الحكم الكوني ما قضاه الله في خلقه، والحكم الشرعي ما شرعه الله لخلقه عز وجل، كقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فهذا حكم شرعي، وقوله:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] حكم كوني.

أما المثال لنفس الحكم بهذا المادة فقول الله تبارك وتعالى في سورة الممتحنة: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [لممتحنة: 10] وهذا حكم شرعي، وقال:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة: 50] وهذا حكم شرعي، وقول أخي يوسف:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي} [يوسف: 80] فهذا كوني، وقوله:{أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} [التين: 8]، كوني شرعي.

أما الحكمة فقد تكون في صورته التي خلقه الله عليها، وقد

ص: 303

تكون الحكمة في الغاية منه، فقوله سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] هذه حكمة لبيان الغاية الحميدة في خلق الإنس والجن، وقوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4] هذه حكمة صورية وليس المراد أنه ليس لها معنى، وإنما "صورية" يعني: كونها على هذه الصورة المعينة، هذه من حكمة الله عز وجل.

فارتفاع الشمس والقمر بهذا المقدار، وتعاقب الليل والنهار على هذا الوجه كله من الحكمة الصورية. يعني: أن كونه على هذه الصورة هو الحكمة، ولو اختلف لفاتت الحكمة.

فعلى هذا نقول: الحكم هنا أربع: حكمة في الشرع، وحكمة في القدر، وحكمة في الصورة، وحكمة في الغاية.

إذا آمنت بهذا علمت أن الله عز وجل لا يمكن أن يحدث شيئًا - ولو أعظم الشر والضرر - إلا لحكمة، فهذه الحروب التي وقعت، والتي تقع الآن كلها لحكمة، وإذا آمنا بذلك صبرنا وانتظرنا الفرج، ويحصل الفرج بإذن الله، ولا نقول: لماذا قدرها الله؟ أو نتسخط أو نقول: ليس فيها حكمة. بل يجب أن نؤمن بأن ذلك لحكمة؛ لأنه قدر الله، وقدر الله لا شك أنه لحكمة.

كذلك في الشرع: إذا أمر الله بشيء أو نهانا عن شيء - حتى وإن كنا لا نعلم حكمته - يجب أن نعلم أن له حكمة؛ لأن هذا من مقتضى اسم الحكيم.

فقد خلق الله عز وجل الشياطين، وسلطها على من شاء من عباده، وخلق الله الشر، والأمراض، والفقر وغيره، ولها حكمة

ص: 304

ولا شك؛ لأننا نعلم أن الله لا يقدر شيئًا إلا لحكمة فنرضى ونسلم، والحقيقة أن عدم الرضا بالقدر يعني: الطعن في حكمة الله.

ففائدة علم الإنسان بحكمة الله أنه يرضى ويسلم، ويعلم أن ما شرعه الله فهو حق، وأن ما قدره فهو حق، وحينئذ يستسلم للقضاء والقدر تمام الإستسلام.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

الإشارة إلى التفريق بين الزوجين في حال عدم التوافق، ووجه ذلك: أن الله وعد على التفرق خيرًا، فقال:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} ، وهذا هو الحق، أننا إذا لم نجد سبيلًا إلى الإصلاح بين الزوجين والوئام بينهما فإن السبيل الوحيد هو التفريق؛ ليسعد كل منهما في حياته، ولنا دليل على هذا من السنة:

جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه من المبشرين بالجنة. يعني: مقامه رفيع - فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس لا أعتب عليه في خلق ولا دين - رجل مستقيم في خلقه مستقيم في دينه - ولكني أكره الكفر في الإسلام - والمراد بالكفر: كفر العشير. يعني: بأن لا تقوم بواجبه لكراهتها له، فهي تكرهه كرهًا عظيمًا - فقال لها:"أتردين عليه حديقته" فقد أمهرها حديقة - بستانًا لكن والله أعلم أن البساتين رخيصة في ذلك الوقت، وهذا حتى لا تحتج النساء علينا فتقول: البستان يساوي ملايين - قال: "أتردين عليه حديقته"، قالت: نعم يا رسول الله! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -

ص: 305

لثابت: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة، فقبلها وطلقها"

(1)

.

وقد ذهب إلى هذا بعض العلماء وقال: إنه إذا قالت المرأة: أنا لا أستطيع البقاء مع الزوج إطلاقًا وإن أبقيتموني معه أحرقت نفسي، قالوا: إن القاضي يُلزم الزوج بالطلاق إذا ردت عليه مهره، وهذا القول ليس ببعيد من الصواب، والله تعالى أشار في هذه الآية إلى أن التفرق أولى وأحسن؛ لأن الله وعد به خيرًا.

2 -

رحمة الله عز وجل بعباده، وأن المرأة والرجل إذا انكسرا بالفراق بينهما جبرهما الله عز وجل بالإغناء فيغني كلًا من سعته.

3 -

سد باب اليأس من رحمة الله، حيث قال:{مِنْ سَعَتِهِ} ولم يقل: يغني كلًا فقط. بل قال: {مِنْ سَعَتِهِ} إشارة إلى أن فضل الله واسع، وأن لا تيأس حتى لو استبعدت أن الله يبدلك بخير منها، أو أن الله يبدلها بخير من زوجها، فلا تستبعد؛ لأن الله سيغنيك من سعته.

4 -

أن الله تعالى واسع وحكيم، لقوله:{وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} وهذه من حكمته.

5 -

إن هذه السعة التي وعد الله تعالى بالإغناء منها مبنية على حكمة، وكأن هذا - والله أعلم - إشارة إلى أنه لو تخلف هذا الموعود، فإنه لن يتخلف إلا لحكمة، وأحيانًا يمنع الله سبحانه الإنسان ما يحب لمصلحة عظيمة، فأحيانًا يبتليه بما يملأ قلبه غمًا وهمًا دائمًا، لكن لحكمة عظيمة ..

(1)

رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب الخلع وكيفية الطلاق فيه، حديث رقم (4971) عن ابن عباس.

ص: 306

وهي أن هذا الذي يصيب الإنسان من هم وغم وفوات محبوب كله يكفر الله به عنه، ونحن نعلم أن الدنيا تمضي، وينسى الإنسان ما حصل له، لكن يجد أجره وثوابه عند الله عز وجل.

ولهذا لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الحمى تكفر الذنوب، فقال له أحد الصحابة: يا رسول الله! ولكن إذا ابتليت بحمى - يعني: لا تمنعني عن الصلاة مع الجماعة ولا فعل الخير .. فهل يكفر الله بها عني - قال: "نعم"

(1)

، فسأل الله عز وجل أن يبتليه بحمى لكنها لا تمنعه من صلاة ولا صيام ولا خير؛ لأجل أن تكفر عنه، ولكن هذا اجتهاد، والأولى أن تسأل الله العافية، فإن العافية أوسع من العقوبة بلا شك.

لكن على كل حال: إنه إذا تخلف الموعود فإننا نعلم أنه تخلف لحكمة عظيمة، قد يجد الإنسان ثمراتها في المستقبل، إما في الدنيا وإما في الآخرة.

6 -

إثبات الحكمة لله عز وجل، ويتفرع على هذا فائدة عظيمة مسلكية منهجية، وهي الرضا بقضاء الله وشرع الله، ترضى لأنك تعلم أن هذا عن حكمة، حتى وإن كان فيه فوات مالك أو ولدك، فاعلم أنه لحكمة، وأنت إذا آمنت بهذا فسوف تسهل عليك كل مصيبة، إذا علمت أن ما أصابك من الله، وأن الله ذو حكمة عظيمة فيما يقدر.

* * *

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 226) برقم (541)، وفي الأوسط (1/ 451) برقم (452)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 417)؛ رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه وهما مجهولان كما قال ابن معين، قلت: ذكرهما ابن حبان في الثقات. وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3444) حسن لغيره.

ص: 307

* قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)} [النساء: 131].

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذه تقدم لنا مرارًا أمثالها، وفيه أن تقديم الخبر:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} يفيد الحصر، وأنه خاص بالله عز وجل.

وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يشمل ما فيهما من الأعيان والمنافع وغير ذلك، فكله ملك لله، لا يشاركه فيه أحد، ولهذا لا يمكن لأحد أن يتصرف في شيء من السماوات والأرض إلا بإذن الله عز وجل، الإذن الكوني أو الإذن الشرعي.

قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} لمَّا ذكر ما يتعلق بالربوبية، وهو ملكه الواسع العام، ذكر ما يتعلق بالألوهية والعبادة، وهي: التقوى، فقال:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .

وقوله: {وَصَّيْنَا} الوصية: هي العهد بالشيء مع التأكيد، يعني: ليس مجرد أن أقول: يا فلان! افعل كذا وكذا، فليست هذه وصية، بل إذا قيل:"وصى" فمعناها: أنه عهد إليه بشيء مع التأكيد.

قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الذين أوتوا الكتاب من قبلنا: هم اليهود والنصارى، ولكن الصحيح أنها أعم، وأن كل من أنزل الله إليه كتابًا فقد وصَّاه بالتقوى.

ومن المعلوم أن كل رسول معه كتاب، كما قال تعالى:

ص: 308

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25].

إذًا: فـ {أُوتُوا الْكِتَابَ} هنا لا تختص باليهود والنصارى، بل كل من آتاه الله الكتاب، وصاهم الله تعالى بالتقوى.

قوله: {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} : {أَنِ} هنا يسميها النحويون تفسيرية، وعلامتها: أن تأتي بعدما تضمن معنى القول دون حروفه.

فإذا أتت {أَنِ} بعد فعل تضمن معنى القول دون حروفه فأعربها على أنها تفسيرية، وإن شئت فقل: ما حل محلها "أي" فهي تفسيرية.

وهنا قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أي: {اتَّقُوا اللَّهَ} فيكون قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ} كأنها تفسير لما أوصى به الله سبحانه من قبلنا وهذه الأمة.

وهنا لو قال قائل: قوله: {وَإِيَّاكُمْ} أليس من الممكن أن يقال: ولقد وصيناكم والذين أوتوا الكتاب من قبلكم حتى لا ينفصل الضمير؟ قلنا: بلى، لكن لما كان هؤلاء سابقين علينا كان مقتضى الترتيب الزمني أن يقدموا، كما أن من سبق غيره في المرتبة فإنه يقدم عليه ولو أمكن اتصال الضمير، مثل قوله تعالى:{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] وكان لقائل أن يقول: لماذا لم يكن الكلام: "يخرجونكم والرسول"، لأنه لا فصل مع إمكان الوصل، كما قال ابن مالك في الألفية:

وفي اختيارٍ لا يجيء المنفصل

إذا تأتى أن يجيء المتصل

فنقول: نعم هو في الإمكان أن يكون هذا، لكن يفوت

ص: 309

الغاية، فهنا:{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ليسوا أفضل منا، ولكنهم أسبق منا زمنًا، وفي قوله:{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} تقديم الرتبة، فذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لئلا يكون تابعًا لغيره، فيقال: يخرجونكم والرسول.

وقوله: {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} هذا ما أوصى به الله عز وجل الأولين والآخرين، وتقوى الله مرت علينا كثيرًا مرارًا وتكرارًا على أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

والتقوى: أحيانًا تضاف إلى الله كما هنا، وأحيانًا تضاف إلى المخلوقات مثل:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران: 131]، وأحيانًا تضاف إلى الزمن مثل:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، وليست التقوى المضافة إلى غير الله كالتقوى المضافة إلى الله؛ لأن التقوى المضافة إلى الله تقوى مع عبادة وتذلل لله عز وجل، أما اتقاء النار، واتقاء اليوم الذي يرجع فيه إلى الله فهذا مثل اتقائنا للسباع والذئاب وما أشبه ذلك! أي: أننا نخاف منها خوفًا طبيعيًا لا خوف عبادة ولا تقوى عبادة.

وفي الأثر: "اتق شر من أحسنت إليه"، وهذا ليس تقوى عبادة، فكل تقوى تضاف إلى غير الله فليست تقوى عبادة، والتقوى المضافة إلى الله تقوى عبادة، بمعنى أن الإنسان يتقي مخالفة الله عز وجل محبة له وتعظيمًا له.

قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعني: ولن تضروا الله.

فإذا كفر كل الخلق فإنهم لن يضروا الله عز وجل؛ لأنه غني

ص: 310

عنهم، وفي الحديث القدسي من حديث أبي ذر رضي الله عنه المشهور أن الله تعالى قال:"يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا"

(1)

، وأي شيء ينقص الله؟ ! الطاعة تنفع صاحبها، والسيئة تضر صاحبها، أما الرب عز وجل فإنه لا يتضرر بمعصية ولا تنفعه الطاعة، ولهذا قال:{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فهو غني عنهم أجمعين.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} مر علينا أيضًا مرارًا وتكرارًا أن "كان" في مثل هذا الترتيب تفيد الثبوت والإستمرار، واتصاف الموصوف فيها. يعني: اتصاف اسمها بالصفة المضافة إليه فكان الله غنيًا حميدًا ولم يزل غنيًا حميدًا.

والغني: هو من عنده غنًى يستغني به عن غيره، والحميد بمعنى: المحمود، فهو غني يحمد على غناه، وليس كل غني يحمد على غناه، فالغني البخيل كالفقير تمامًا، بل أردأ من الفقير؛ وأسوأ حالًا من الفقير؛ لأن الغني البخيل يذم، والفقير لا يذم، لكن الغني الحميد بمعنى: الذي ينفع غيره بغناه، وهذا هو المحمود، فالله سبحانه غني بذاته عن جميع مخلوقاته، ثم هو حميد بما يفعله بعباده من الخيرات والنعم ودفع النقم

وغير ذلك.

وقوله: "حميد": بمعنى حامد، وبمعنى محمود، فإن قال إنسان: أليس هذا من استعمال المشترك في معنيين؟ قلنا: وأي

(1)

رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2577) عن أبي ذر.

ص: 311

ضرر في استعمال المشترك بمعنيين إذا كان لا منافاة بينهما، فالمشترك معناه: اللفظ الصالح لمعنيين على وجه الحقيقة، مثل: كلمة "عين" تطلق على الذهب:

أندَّان أم عينان أم ينبري لنا

فتى مثل نصل السيف ميزت ضاربه

فالذهب يسمى عينًا، والماء الجاري يسمى عينًا حقيقة، والعين الباصرة تسمى عينًا حقيقة، فهنا: لو جاءت كلمة عين فهل يمكن أن تحملها على المعاني الثلاثة؟

الجواب: نقول: لا. إذا لم يمكن أن تجتمع، أما إذا أمكن فنحملها.

وهنا "الحميد" فعيل، وتأتي بمعنى "فاعل" وتأتي بمعنى "مفعول"، إذًا: هو حميد. أي: محمود، محمود على صفاته الكاملة .. ومحمود على إنعامه .. وعلى أفعاله الدائرة بين العدل والإحسان، وهو أيضًا حامد لمن يستحق الحمد من عباده، ولهذا يثني الله سبحانه على من يستحقون الثناء مثل الأنبياء والرسل والأصفياء

وما أشبه ذلك.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

عموم ملك الله سبحانه، لقوله:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

2 -

اختصاص الملك العام لله، سواء كان عامًا لشموله في الأعيان أو لشموله في الأفعال. "شموله في الأعيان" يعني: كل الموجودات ملك لله. و"شموله في الأفعال" أنه يفعل في هذه الموجودات ما يشاء.

ولا يثبت مثل هذا لأحد من المخلوقين، فلا يوجد أحد

ص: 312

عنده شمول في الموجودات، ولا في الأفعال والتصرفات؛ لأن ملكي أنا محصور لا تملكه أنت، وملكك أنت محصور لا أملكه أنا، ثم ملكي بما أملك ليس ملكًا لجميع التصرفات، أتصرف فيه كما أشاء، بل هو ملك محدود.

3 -

أهمية تقوى الله عز وجل؛ لأنه أوصى بها الأولين والآخرين، لقوله:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} .

والتقوى تكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

وأما قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وكل ما أمر الله به فهو بر، فالجواب: أن بعض الكلمات يكون لها معنًى إذا انفردت ومعنى إذا اقترنت بغيرها، فالتقوى إذا انفردت تشمل البر، والبر إذا انفرد يشمل التقوى، وإذا اجتمعا صار البر فعل الأوامر، والتقوى ترك النواهي.

4 -

أن مخالفة التقوى لا تضر الله شيئًا، لقوله:{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

5 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغني والحميد، فيستفاد منهما: إثبات صفتين من صفات الله وهما "الغنى والحمد"، ويستفاد من ضم أحدهما للأخرى فائدة الإنضمام؛ لأن الغنى وحده كمال، والحمد وحده كمال، واجتماعهما يتولد منه كمال أعلى.

* * *

* قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)} [النساء: 132].

ص: 313

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذا تكرار، لكنه تكرار مهم، ففي الأول بيان غناه عز وجل عن خلقه، {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} ، وفي الثاني: بيان مراقبته لخلقه، فالآية الأخيرة تتضمن التحذير من المخالفة، والأولى تتضمن الأمر بالموافقة.

قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} الوكيل هو المراقب المتصرف، ولهذا يكون وكيل الإنسان متصرفًا فيما وكل فيه مراقبًا له.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

في هذه الآية من عموم ملك الله ما في الأولى.

2 -

وفي هذه الآية كمال مراقبة الله عز وجل لعباده؛ لقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .

فإن قال قائل: الوكيل عادة أدنى رتبة من الموكل، فكيف نقول: إن الله وكيل؟

فالجواب: الوكيل الذي هو عادة أدنى مرتبة من الموكل هو الذي يتصرف للغير بأمر الغير، فوكيلك أدنى منك مرتبة؛ لأنه يتصرف لك بأمرك، فهو دونك، أما الوكيل الذي بمعنى المراقِب فإن مرتبته تكون أعلى؛ لأنه سبحانه يراقب جميع العباد، ويحصي عليهم أعمالهم.

3 -

في الآية أيضًا كمال مراقبة الله عز وجل، وأن فيها الكفاية عن كل مراقب.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133].

ص: 314

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} الجملة لا يخفى أنها جملة شرطية، وفعل الشرط وجوابه كلاهما فعل مضارع، ولهذا جاءا مجزومين، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} وقوله:{يُذْهِبْكُمْ} بمعنى: يعدمكم حتى لا تكونوا في الوجود.

وقوله: {أَيُّهَا النَّاسُ} هذا منادى، وصدر الله هذه الجملة بالنداء للتنبيه، و {النَّاسُ}: يشمل الكافر والمؤمن.

قوله: {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي: بآخرين يتقون الله عز وجل، ويقومون بأمره، وهذا كقوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وهذا تهديد من الله عز وجل أن يخالف أوامره أحد.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} ، أي: على إذهابكم والإتيان بآخرين قديرًا، والقدرة وصف يتمكن به القادر من الفعل بلا عجز، والقوة وصف يتمكن به من الفعل بلا ضعف، والدليل على أن القدرة ضدها العجز، والقوة ضدها الضعف، قول الله تبارك وتعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، ولم يقل: عليما قويًا؛ لأن الذي يقابل العجز هو القدرة.

وقوله: {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} حذف في قوله: {بِآخَرِينَ} الموصوف، والتقدير "بقوم"، وعليه قول مالك رحمه الله:

وما من المنعوت والنعت عقل

يجوز حذفه وفي النعت يقل

فالمنعوت يحذف كثيرًا كقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] ومثل هذه وغيرها.

ص: 315

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} ؛ أي: وعلى غيره أيضًا قدير، والتقديم هنا لا يدل على الحصر، ولكن تقديمه لتأكيد قدرته عليه، وهو محل الخصومة بين المنكرين والمثبتين للقدرة، فلذلك قدم المعمول للأهمية، ومر علينا قريبًا مثله.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات المشيئة لله، وتؤخذ من قوله:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} ، والمشيئة الثابتة لله ليست مشيئة مطلقة مجردة عن الحكمة بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، فكل شيء علّقه الله بالمشيئة فالمراد المشيئة التي تقتضيها الحكمة، بدليل: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 30]، فدل ذلك على أن مشيئة الله مقرونة بالعلم والحكمة.

2 -

بيان قدرة الله عز وجل، وأنه قادر على أن يذهب الناس جميعًا ويأتي بآخرين، ومعلوم أن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو الأب الثاني للبشرية؛ لأن الله تعالى أهلك قومه إلا من كانوا معه، وقد قال المؤرخون: إن الذين بقوا من البشرية كلهم أولاد لنوح، وأن أولاد نوح: سام وحام ويافث هؤلاء الثلاثة تفرع منهم بنو آدم بعد أن أغرق الله أهل الأرض.

فهنا أذهب الله أهل الأرض، وأتى بآخرين، وعمرت الأرض بساكنيها، إلى أن بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فكان خاتم الأنبياء.

3 -

إثبات قدرة الله عز وجل على كل شيء، فهو قادر عز وجل على إعدام الموجود؛ لأنه شيء، وعلى إيجاد معدوم؛ لأنه شيء، وكل شيء فالله قادر عليه.

ص: 316

وهو قادر على أن ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر، وقادر على أن يأتي للفصل بين العباد، وقادر على أن يتكلم، وكل شيء فالله قادر عليه.

قال بعض أهل العلم: ولكن القدرة تتعلق بالشيء الممكن، أما الشيء المستحيل فلا تتعلق به القدرة، وأشكل هذا على بعض الناس، وقال: إن الله على كل شيء قدير، وأجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله بأن المستحيل ليس بشيء؛ لأنه لن يوجد ولن يعدم، وليس بشيء حتى يقال: إنه خرج من عموم الآية، وإذا كان ليس بشيء فإنه لا يدخل في العموم حتى نقول: إن هذا خطأ، ولهذا قال السفاريني في عقيدته:

بقدرة تعلقت بممكن

كذا إرادة فع واستبن

(1)

وعلم الله يتعلق بالمستحيل بدليل قول الله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فمستحيل أن يكون فيهما آلهة إلا الله، ومع ذلك علم الله تعالى بنتيجته لو كان، وهذا شيء مستحيل.

فلو قال قائل: هل يقدر الله على أن يخلق مثل نفسه؟ قلنا: هذا مستحيل، مستحيل أن يخلق مثل نفسه؛ لأنه جل وعلا لا مثل له، كما أخبر عن نفسه، وإذا كان لا مثل له فإنه يستحيل أن يكون كذلك؛ لأن الله تعالى خبره صادق لا يخلف ولا يتغير.

ويعبر بعض الناس بقوله: "إن الله على ما يشاء قدير"، وهذا التعبير غير صحيح؛ لأنه يقيد القدرة بما شاءه الله، وما لم يشأه فهو قادر عليه، ومفهوم هذا الكلام أنه ليس بقادر، فعلى

(1)

البيت رقم 37 من منظومة العلّامة الشيخ محمد بن أحمد السفاريني المتوفى عام 1188 هـ رحمه الله تعالى.

ص: 317

هذا نقول: أولًا: هذه الكلمة لم ترد لا في القرآن ولا في السنة: "إن الله على ما يشاء قدير". وثانيًا: أنها توهم معنى فاسدًا.

ورتب بعض العلماء على هذا أمورًا فقال: إنها توهم مذهب المعتزلة الذين أنكروا تعلق مشيئة الله بفعل العبد، وقالوا: إن العبد يفعل الفعل باختياره، ولا تعلق لمشيئة الله به، فيكون عز وجل غير قادر على أفعال العباد بناءً على ذلك؛ لأنه لا يشاؤها.

وعلى كل حال: يجب التقيد بما جاء في القرآن والسنة، فنقول:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يدرك معنى مستحيلًا أو غير مستحيل فليقل:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ويسكت. ونحن نبين لطلبة العلم وسيفهمون، لكن العامي قد لا يفهم هذا الكلام. فلا نخاطبه به.

ويُذكر أن الشيطان - أبا الشياطين - الذي يجعل له كرسيًا على البحر، ويبث جنوده وسراياه في إضلال الخلق، قالت له ذريته: لمَ تفرح بموت العالم أكثر مما تفرح بموت العابد، قال: لأن العالم يرشد الناس ويهديهم، ويدلهم، ولا أتمكن من إضلاله، لكن العابد تنطلي عليه الأمور. قالوا: كيف ذلك؟ قال: أنا أختبرهم لكم، فأرسل من جنوده من يقول للعابد: هل يستطيع الله أن يجعل السموات والأرض في جوف بيضة، فالبيضة مفهومة، والسماوات والأرض كذلك، والعابد يعبد الله ليل نهار، ففكر وقال: لا يستطيع، فرجع المندوب وقال: إنه يقول: لا يستطيع، قال: انظروا، الآن كفر الرجل، وهو لا يدري، فأرسله إلى العالم وقال له: هل يستطيع الله عز وجل أن يجعل السماوات والأرض في بيضة؟ قال: نعم يستطيع، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا

ص: 318

أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، لو قال للسماوات: كوني في جوف البيضة كانت، إما أن تكبر البيضة أو تصغر السماوات والأرض، فرجع إلى شيطانه وأخبره بقول العالم. قال: انظر! هذا تخلص وذاك المسكين كفر، وهذه قصة مرت عليَّ في بعض الكتب قديمًا، لكني أقول: قل للعامي {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ولا تقل القدرة تعلقت بالممكن ولا بالمستحيل ولا بالواجب.

وأما قول الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشوري: 29] فالمشيئة هنا معلقة بالجمع. يعني: إذا شاء جمعهم فإنه لا يمتنع عليه، فالمشيئة هنا شرط في الجمع، وليست شرطًا في القدرة.

4 -

إثبات القدرة على كل شيء، بإذهاب الناس والإتيان بآخرين بعدهم.

* * *

* قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء: 134].

الإعراب:

قول الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} هذه جملة شرطية، فعل الشرط فيها "كان"، وجواب الشرط قوله:{فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، واقترن الجواب بالفاء؛ لأنه لا يصح أن يكون فعلًا للشرط، وكل جواب لا يصح أن يكون فعلًا للشرط فإنه يتعين أن يقترن بالفاء، كما قال ابن مالك رحمه الله:

ص: 319

واقرن بفا حتمًا جوابًا لو جعل

شرطًا لإن أو غيرها لم ينجعل

هذا هو الضابط، وقد حصر ما يشملها هذا الضابط بسبع جمل، مذكورة في قوله:

اسمية طلبية وبجامد

وبما وقد وبلن وبالتنفيس

وقوله: {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} جملة خبرية، قدم فيها الخبر لإفادة الحصر؛ لأن من قواعد البلاغة أن تقديم ما حقه التأخير يقتضي الحصر.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} الإعراب فيها واضح لا يحتاج إلى ذكر.

يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي: جزاءها ومتعها وزهرتها فقد فاته الخير الكثير؛ لأنه حرم ما عند الله من ثواب الدنيا والآخرة، ولهذا لم يقل: من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها، كما جاء ذلك في آية أخرى:{نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] بل جاء الجواب على خلاف ما يتوقع السامع، فكأنه لم ينل شيئًا.

وهذه الآية لها شواهد كثيرة: أن من أراد الدنيا فإن الدنيا والآخرة تفوته، ثم لا ينال ما أراد من الدنيا؛ كقول الله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء: 18 - 19].

ومن أراد الآخرة لا تفوته الدنيا، ولهذا قال الله عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20]،

ص: 320

فمن أراد الآخرة لم تفته الدنيا، ومن أراد الدنيا قد تفوته الدنيا والآخرة وإن أتته الدنيا فإنه لا يؤتى منها كل ما يريد، وهذا هو الحاصل في الإرادات، ومن أراد الدنيا والآخرة معًا فهل نقول: إنه بين درجتين، أو نقول: إنه ينال ثواب الدرجة الثانية وهي إرادة الآخرة؟

الجواب: نقول هنا: أيهما أغلب فيمن أراد الدنيا والآخرة، إذا كان الأغلب هو الآخرة فإنه ينال ثواب الدنيا والآخرة، وإذا كان الأغلب الدنيا فإنه ينقص من ثواب الآخرة بقدر ما نوى من الدنيا، فإذا كان نوى الآخرة كلها حصل له الثواب كله، أو بعضها يحصل له أقل.

وقد جاءت الأحاديث شاهدة بهذا، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"

(1)

، ولهذا نجد الكفار الذين يريدون الدنيا أحيانًا يوفقون في الدنيا، ويحصل لهم مرادهم أو بعضه، وأحيانًا لا يحصل لهم مرادهم، ويكونون أشد فقرًا من المسلمين.

وقوله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} . يعني: وقد فاته ما يريد؛ لأنه في الواقع قد يؤتى ما يريد أو بعضه، ثم لو أتي فإنه لن يدوم، بل سيموت أو يفقد ما أوتي.

(1)

تقدم (1/ 257).

ص: 321

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} يعني: أنه ثبت ثبوتًا أزليًا وأبديًا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

ترتيب الثواب والجزاء على النية، لقوله:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ} ، وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يصحح نيته تمامًا، وأن لا ينوي بعمل الآخرة إلا الآخرة، أما عمل الدنيا فهو للدنيا.

2 -

الرد على الجبرية، وذلك بإثبات الإرادة للعبد، والجبرية يقولون: إن العبد ليس له إرادة، وأنه مجبر على عمله ليس له إرادة، وهذه الآية وغيرها ترد عليهم.

3 -

بيان انحطاط رتبة الدنيا عند الله عز وجل، ولهذا قال:{فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال ابن القيم رحمه الله في النونية:

لو ساوت الدنيا جناح بعوضة

لم يسق منها الرب ذا الكفران

لكنها والله أحقر عنده

من ذا الجناح القاصر الطيران

يعني: لو أن الدنيا تساوي جناح بعوضة ما سقى الله أحدًا من الكفار، ولا أنعم عليهم بشيء؛ لكفرهم، لكن يتمتعون بها لأنها ليست عند الله بشيء، سواء تمتع بها أولياؤه أو أعداؤه، وهذا هو الواقع، فالدنيا إذا لم تكن وسيلة إلى الآخرة فلا خير فيها، حتى لو نعم فيها الإنسان فإن هذا النعيم جحيم، ولذلك تجد أشد الناس همًّا وأسىً وحزنًا وقلقًا هم أصحاب الدنيا، ولا يغرنك ما عندهم من اللباس والقصور، والنعيم والسيارات وغيرها، فقلوبهم والله أسوأ حالًا من أفقر المسلمين.

قال بعض السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة العيش لجالدونا عليه بالسيوف".

ص: 322

4 -

أن الذي يعطي الثواب هو الله عز وجل لا غيره، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، ويتفرع على هذه الفائدة: ألا نعتمد فيما نرجوه من ثواب الدنيا والآخرة إلا على ربنا عز وجل؛ لأنه هو الذي بيده الأمور سبحانه وتعالى، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس:"واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك"

(1)

.

5 -

إثبات الآخرة، ولم نقل: إثبات الدنيا؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، ولو قلنا: إثبات الدنيا لكان هذا من باب اللغو؛ كقول السماء فوقنا والأرض تحتنا.

وكأننا والماء من حولنا

قوم جلوس حولهم الماء

فهذه الآية تدل على ما ذكرنا من إثبات الآخرة، وأنها آتية لا بد منها، وأنها هي الغاية لكل حي، ولهذا يجب علينا أن نشعر بأننا نحن في هذه الدنيا مسافرون كالمسافر تمامًا، بل أعجل من المسافر؛ لأن المسافر يسير ويمكث، ينزل لينام، يستريح، ويريح الإبل، لكن الحي في الدنيا لا يستريح، بل هو سائر ليلًا ونهارًا، قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وسائر في كل حال، فعلينا أن نشعر أنفسنا بهذا لئلا نتخذها وطنًا.

ومن نعمة الله سبحانه على العباد جميعًا: أنه لم يجعل نعيم هذه الدنيا كاملًا، بل ينغص، لئلا يتخذ الإنسان الدنيا مقرًا ووطنًا، بل يعرف أنها ليست دار مقر، فصفوها كدر، وراحتها عناء، وبهذا يعلم: أن الآخرة هي الأهم.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله هما "السميع" و"البصير"،

(1)

تقدم (1/ 553).

ص: 323

وإثبات ما يترتب عليهما من وصف "السمع" و"البصر"، وإثبات ما يترتب عليهما من أثر وهو أنه "يسمع ويبصر"، يعني: ليس سميعًا بلا سمع أو بلا بصر، ولا ذا بصر بدون أن يبصر، أو ذا سمع بدون أن يسمع.

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لكل المؤمنين، ونحن - إن شاء الله تعالى - منهم، فالخطاب موجه إلينا، وإلى غيرنا من المؤمنين.

واعلم أن تصدير الله تعالى خطابه بالنداء يدل على أهميته؛ لأن النداء يلفت سمع السامع، ويتجه إلى المنادي ماذا تريد؟

ثم اعلم أن تخصيص النداء بالمؤمنين يفيد أنهم هم الأهل لتوجيه مثل هذا الخطاب إليهم؛ لأنهم مؤمنون ينفذون أمر الله إن كان أمرًا، ويتركون نهيه إن كان نهيًا، ويتأدبون بخلقه إن كان خلقًا، فكانوا أهلًا لأن يوجه الخطاب إليهم، وكفى شرفًا بالإيمان أن يوجه الله الخطاب إلى المتصفين به فقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} شرف عظيم أن يوجه رب العالمين إليك خطابًا.

ويدل أيضًا على تخصيص المؤمنين، وعلى أن ما ذكر من مقتضيات زيادة الإيمان، وأن مخالفته تنقص الإيمان.

قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، {قَوَّامِينَ} فعالين.

ص: 324

فهي صيغة مبالغة، ويحتمل أن تكون على سبيل النسبة. أي: من ذوي القوامة.

قوله: {بِالْقِسْطِ} القسط هو العدل، كما قال الله تعالى:{وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]، فالقسط هو العدل، والإقساط: هو الجور، و"أقسط" بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار، ولهذا جاء اسم الفاعل من الأولى منها على وزن مُفْعِل:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، وجاء اسم الفاعل من الثانية على وزن "فاعل":{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15].

قوله: {بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ} حال من فاعل قوامين، ويحتمل أن تكون خبرًا ثانيًا لقوله:{كُونُوا} لكن كونها حالًا أولى.

وقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي: تشهدون بالقسط لله عز وجل، لا يحملكم على هذا رياء، ولا سمعة، ولا دنيا ولا غير ذلك، شهداء لله فقط، كما في قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2].

قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الشهادة على النفس ممكنة، تشهد على نفسك قبل أن تشهد نفسك عليك، والشهادة على النفس هي الإقرار، بأن يقول: فعلت كذا وفعلت كذا.

قوله: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ} أي: الأم والأب، حتى على الأم والأب اشهد ولو غضبوا؛ لأن رضا الله مقدم على رضا الوالدين.

قوله: {وَالْأَقْرَبِينَ} مثل الإخوان، والأبناء، والأجداد، والأعمام، والأخوات والخالات، والقرابة الذين ليسوا بأقربين من باب أولى، لكن الله نص على ذلك؛ لأن النفس قد تميل إليهم، فلا تشهد بالعدل.

ص: 325

ثم أشار سبحانه إلى أمر مهم يحمل على الشهادة للمشهود له أو عليه، فقال:{إِنْ يَكُنْ} أي: المشهود عليه أو المشهود له: {غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ؛ لأن من الناس من يشهد للغني لغناه، أو للفقير لفقره، أو يشهد على الغني لغناه، أو على الفقير لسبب من الأسباب، فالله أمر بأن نشهد على هؤلاء ولو كان الإنسان غنيًا أو فقيرًا؛ لأن أمرهما إلى خالقهما عز وجل، ولهذا قال:{فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فلا تقل: أشهد للفقير؛ لأنه فقير محتاج وصاحب عائلة؛ لأن ولاية الله لهم خير من شهادتك.

ثم قال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} أي: هوى النفس، وهو: ميل الإنسان إلى ما يخالف الشرع، وهذا هو الهوى المذموم.

وقوله: {أَنْ تَعْدِلُوا} معناها لأجل أن تعدلوا، وليس هناك أحد يكره العدل، لكن لما أمر الله بالشهادة على النفس والوالدين والأقربين، وبيّن أنه تعالى هو الذي يتولى الجميع، ونهى عن اتباع الهوى، قال:{أَنْ تَعْدِلُوا} يعني: إن أردتم العدل فلا تتبعوا الهوى، وعلى هذا فيجوز أن نقول: التقدير: كراهة أن تعدلوا. يعني: أننا أمرناكم أو نهيناكم عن اتباع الهوى كراهة أن لا تعدلوا؛ أي: من أجل أن تعدلوا، والعدل هو الإستقامة، والمراد به في باب الأحكام: الحكم بما دل عليه الكتاب والسنة.

قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} "إن تلووا" أي: تنحرفوا في الشهادة، فتزيدوا فيها أو تنقصوا منها، أو تعرضوا عن الشهادة بحيث لا تؤدونها، فهذا وعيد.

قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وماذا يكون إذا كان الله بما نعمل خبيرًا؟

ص: 326

الجواب: الجزاء، وهذا من أشد ما يكون من الوعيد؛ لأن من علم أن الله تعالى خبير بعمله فلا يتجاسر أبدًا أن يخالف أمر الله عز وجل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

وجوب إقامة الشهادة، لقوله:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} .

2 -

وجوب العدل فيها، بحيث لا يزيد فيها ولا ينقص، ولا يأبى أن يؤديها عند الحاجة إليها؛ لأن هذا كله داخل في قوله:{قَوَّامِينَ} .

3 -

أنه يجب العدل في أداء الشهادة، ومنه ما ذكره في قوله:{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .

4 -

الإشارة إلى الإخلاص في أداء الشهادة، لقوله:{شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، فلا تظن أن الشهادة مجرد شهادة للغير أو على الغير، بل أداها قربة إلى الله عز وجل، مخلصًا بها لله بامتثال أمره بأدائها.

5 -

وجوب الإقرار على من عليه حق، لقوله:{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، فيجب على الإنسان أن يقر بالحق الذي عليه ولو كان مُرًا.

6 -

أن الإقرار شهادة، لقوله:{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وذلك أن الإنسان في الواقع إما أن يضيف الشيء إلى نفسه أو على نفسه، أو لغيره على غيره، فهذه ثلاثة أنواع:

الأول: دعوى، إذا أضاف الشيء إلى نفسه، وقال: هذا لي، أو أنا أطلبك مائة ريال، أو ما أشبه ذلك، فهذه دعوى تحتاج إلى بينة، وطريق حكم حسب ما تقتضيه الشريعة.

ص: 327

الثاني: إقرار، إذا أضاف الشيء على نفسه، وهذا إقرار، مثل أن يقول لفلان علي كذا.

الثالث: شهادة، إذا أضاف الشيء لغيره على غيره، وهذه شهادة، يشهد بالشيء لفلان على فلان، وكلها تعتبر شهادة.

7 -

وجوب الشهادة على الوالدين والأقربين بما يلزمهم، لقوله:{أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، وعلى هذا فتقبل شهادة الولد على والديه، وهل تقبل لهما؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا تقبل سدًا للباب ودفعًا للتهمة، ومنهم من فصل فقال: إذا عُلم أن الوالدين أهل تقى وصلاح، وأنهما لن يدعيا ما ليس لهما، وأن الولد أيضًا على جانب كبير من التقى والأمانة؛ فإن الشهادة للوالدين تقبل؛ لأن العلة وهي التهمة مفقودة في مثل هذه الصورة، ولكن أكثر العلماء كما أظن رد على قبول شهادة الإنسان لوالديه سدًا للباب، ولأن مقياس الأمانة أو عدم الأمانة أمر يصعب.

8 -

أن الله سبحانه نهى عن المحاباة للغنى أو للفقر، وتؤخذ من قوله:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} .

9 -

أن الله سبحانه هو الولي على كل أحد، فلا تحاب أحدًا لغناه ولا لفقره، فالله ولي الجميع.

ومن هنا نأخذ فقه ما يروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، حين قيل له: ألا توصي لأولادك، قال: لن أوصي لهم، إن كان أولادي صالحين فالله يتولى الصالحين، وولاية الله لهم خير من ولايتي، وإن لم يكونوا صالحين فلا أعينهم على فسقهم، وهذا من فقهه رحمه الله، خلافًا لما يفعله الناس الآن من محاباة

ص: 328

القريب والولد والوالد، ولو كانوا من أفسق عباد الله.

10 -

تحريم ما يسمى بالإشتراكية؛ لأن دعاة الإشتراكية - والحمد لله أنها خمدت نارهم - يقولون: إننا نريد أن نرحم الفقير، فنأخذ من مال الغني ونعطيه الفقير رحمة به، فيقال: إن الله أولى به منكم، والله عز وجل له الحكمة في جعل الناس بعضهم فقير وبعضهم غني، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] أي: يسخر بعضهم بعضًا؛ لأنه لو كان الناس على حد سواء ما استقامت الأمور، فمن يبني لك بيتك إذا كان الناس كلهم أغنياء؟ ! ومن يبني لك بيتك إذا كانوا كلهم فقراء؛ لأنك ليس عندك شيء تبني به، فالله عز وجل له الحكمة في اختلاف الطبقات، لكن مع ذلك لم يضيع حق الفقير، فأوجب الزكاة، وأوجب دفع الضرورة، وأوجب النفقة على الأقارب، وأوجب النفقة على الأزواج، وما أشبه ذلك، وهذا كله يسد حاجات كثير من الفقراء.

11 -

تحريم اتباع الهوى الذي يخالف العدل، {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} والهوى لا يذم مطلقًا ولا يحمد مطلقًا، فإذا كان الهوى تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محمود، وإذا كان مخالفًا له فهو مذموم، ولهذا قال:{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي: كراهة أن تعدلوا.

12 -

التحذير من الجور، لقوله:{أَنْ تَعْدِلُوا} وهذا يشمل كل موضع يتعين فيه العدل، فيكون - مثلًا - العدل بين الأولاد في العطية وغير العطية، حتى كان السلف يعدلون بين أولادهم في

ص: 329

القبل. يعني: إذا قبل صبيًا قبل الآخر، والعدل بين الزوجات أيضًا، والعدل بين الخصمين بين يدي القاضي

وما أشبه ذلك.

13 -

تحذير من أعرض عن إقامة الشهادة والعدل، أو لوى لقوله:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .

14 -

عموم علم الله وخبرته، لقوله:{بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} لأن "مَا" اسم موصول تشمل كل ما يعمله ابن آدم.

15 -

التحذير من مخالفة الله؛ لأن كل مؤمن يعلم أن الله خبير بعمله لا بد أن يتجنب ما يكون سببًا للعقاب، ويتعرض لما يكون سببًا للثواب.

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} كل ما رأيت الخطاب مصدرًا بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فانتبه له، كما يذكر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه.

وقد ذكرنا فوائد تصدير الخطاب بـ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فلا حاجة إلى تكراره؛ لأنه معلوم.

وقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} قد يقول القائل: كيف يقول:

ص: 330

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم يقول: {آمِنُوا} والأمر بالحاصل لغو، وخطابهم بالإيمان ثم أمرهم، فهذا أمر بشيء حاصل؟

فيقال: هذا الفهم خطأ، فالمراد بقوله:{آمِنُوا} أي: حققوا إيمانكم واثبتوا عليه، فيكون الأمر بالإيمان في قوله:{آمِنُوا} أمرًا بأمرين:

الأول: تحقيق الإيمان؛ أي: الحرص على تكميله، من كل وجه.

والثاني: الثبات عليه؛ لأنه كم من مؤمن يزل ويقصر.

وقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} المراد بالرسول هنا: محمد عليه الصلاة والسلام، بدليل ما يأتي بعده.

والإيمان بالله ذكرناه فيما سبق، ولا حرج أن نعيده، الإيمان بالله يتضمن أمورًا أربعة:

1 -

الإيمان بوجوده.

2 -

الإيمان بربوبيته.

3 -

الإيمان بألوهيته.

4 -

الإيمان بأسمائه وصفاته.

ومن أنكر واحدًا منها فإنه لم يؤمن بالله.

والإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، يتضمن الإيمان بأنه رسول الله حقًا وأنه جاء بالحق، فيصدقه فيما أخبر، ويمتثل أمره فيما أمر، وينزجر عما نهى وزجر.

قوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} المراد به هنا: القرآن: وعبر عنه بقوله: {نَزَّلَ} ؛ لأنه ينزل شيئًا فشيئًا، كما قال

ص: 331

تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106].

قوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ، "الْكِتَاب" هنا اسم جنس، فـ "أل" هنا للإستغراق؛ أي: وكل كتاب أنزَل من قبل، وعبر عن الكتب السابقة بـ {أَنْزَلَ} لأنها تنزل جملة واحدة.

والإيمان بكتاب الله: هو أن تؤمن بأنه من عند الله حقًا، وأن ما جاء فيه من أخبار فهي صدق، وما جاء به من أحكام فهي عدل، وأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها.

والإيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل: أن تؤمن بأن كل رسول قد أنزل الله عليه كتابًا، وتؤمن بما جاء من الكتب بالتعيين، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأن تؤمن بأنها من عند الله عز وجل، وأن تؤمن بكل ما صح فيها من خبر، وقيدنا بكل ما صح فيها من خبر؛ لأنه دخلها التحريف والتبديل والتغيير، وأما الأحكام فلست مأمورًا باتباعها إلا حيث أمرك شرعك.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله في شرع من قبلنا: هل هو شرع لنا أو ليس بشرع لنا؟

والتحقيق أنه شرع لنا، لقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإنه يكون منسوخًا، على أن العمل بالأحكام التي في الكتب الموجودة الآن بأيدي أهل الكتاب ليس مأمونًا؛ لأنهم حرفوا وبدلوا وغيروا.

ثم قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} هذه خمسة من أركان الإيمان

ص: 332

والباقي: الإيمان بالقدر، وهو مذكور في آية أخرى.

وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ} : فينكره أو ينكر ما ثبت له من حقوق، أو من أسماء وصفات.

قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ} كذلك من يكفر بالملائكة، والملائكة: هم عالم غيبي، خلقهم الله عز وجل ليقوموا بطاعته، ورتب لهم وظائف كل على حسب ما تقتضيه حكمته عز وجل، وهم أشرف من الجن وأقوى وأعظم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح قد سد الأفق، وهذا شيء عظيم، والعفريت من الجن قال لسليمان:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] والملك جاء به قبل أن يرتد إليه طرفه، وهذا أقوى وأعظم.

والملائكة منهم من نعلمهم بأعيانهم مثل جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، ورضوان -إن صح - خازن الجنة، ومنكر ونكير -إذا صح - وهما اللذان يسألان المرء بعد دفنه، أما عزرائيل فلم يصح، وهو مشهور عند العامة شهرة الشمس في رابعة النهار، وهذا الإسم عند العامة أشهر من اسم جبريل، لكنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه بهذا الإسم.

ونؤمن أيضًا بما علمنا من أعمالهم وأوصافهم، فنحن نعلم أن جبريل عليه السلام موكل بالوحي، وفيه حياة الأرواح والقلوب، وأن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وفيه الحياة الآخرة حين ينفخ في الصور، فتخرج الأرواح وتحل في أجسادها، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، وفيه حياة الأرض،

ص: 333

وهؤلاء الثلاثة كان النبي عليه الصلاة والسلام، يستفتح صلاة الليل بقوله:"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرفيل"

(1)

؛ لأن في هؤلاء الملائكة كل واحد له حياة معينة، واستقبال النهار بعد النوم يعتبر حياة جديدة كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60].

كذلك الإيمان بالكتب: سبق بيانه.

ونؤمن برسل الله عز وجل، على سبيل الإجمال، وعلى سبيل التعيين فيمن علمناه بعينه، وليس كل الرسل قد علمناهم، لقول الله تبارك وتعالى:{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]، وقوله:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، لكن نؤمن بهم على سبيل الإجمال، وأما المعين فنؤمن به على سبيل التعيين.

فنؤمن بأنهم رسل الله، وأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله عز وجل، وأنهم مبعوثون إلى أقوامهم، وأنهم أدوا الرسالة، ولهذا سنُستَشهد يوم القيامة لهم، وعلى أممهم، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].

قوله عز وجل: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهو يوم البعث، وسمي اليوم الآخر؛ لأنه المنتهى ليس بعده يوم، والدنيا ثلاثة مراحل: مرحلة الأجنة، ومرحلة الحياة، ومرحلة البرزخ، والرابع النهاية: مرحلة البعث، ولهذا يسمى: اليوم الآخر.

قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} هذا جواب الشرط، "من"؛

(1)

تقدم ص 182.

ص: 334

أي: صار في متاهات بعيدة؛ لأن هذه الأشياء أمرها ظاهر، فجحدها وإنكارها ضلال بعيد.

والضلال البعيد يعود على كل من كفر بالأربع أو بواحد منها؛ لأن الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض كالذي كفر بالكل، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

وجوب الثبات على الإيمان، لقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

2 -

وجوب تكميل الإيمان بناءً على قوله: {آمِنُوا} ؛ أي: اثبتوا وحققوا الإيمان بإكماله.

3 -

وجوب الإيمان بالله عز وجل ورسوله وكتابه، لقوله:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} .

4 -

أن القرآن منزل، لقوله:{وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} . وفيما يتعلق بالله عز وجل: فيه أن القرآن كلام الله؛ لأنه نزل من عنده، فيكون كلامه، وعلو الله عز وجل أيضًا لقوله:{نَزَّلَ} ، والتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، وكل هذا أمر معلوم في العقيدة.

5 -

أن القرآن منزل على محمَّد عليه الصلاة والسلام، لقوله:{عَلَى رَسُولِهِ} ، ومنتهى نزوله قلب النبي عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ}

ص: 335

[الشعراء: 193 - 194] فقد حل في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، ووعاه، وبينه، ولم يفته حرف واحد، كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة: 18 - 19].

6 -

أن القرآن الكريم نزل مفرقًا، لقوله:{نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} واستشهدنا بالآية الكريمة: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106].

7 -

وجوب الإيمان بالكتب السابقة، لقوله تعالى:{وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ، فلو أن أحدًا قال: أنا أؤمن بالقرآن، لكن التوراة والإنجيل لم تنزل على رسولنا فلن أؤمن بها، قلنا: إنك الآن كافر مرتد؛ لأنه لا بد أن تؤمن بالكتاب الذي أنزل من قبل كما أمرك الله.

8 -

أن هذا القرآن الكريم ختام الكتب، وتؤخذ من قوله:{الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ولم يقل ومن بعد، إشارة إلى أنه لا كتاب بعد القرآن الكريم.

- ويتفرع على هذه الفائدة أنه لا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو ثبت أن هناك رسولًا بعده للزم أن ينزل عليه كتاب.

9 -

التحذير من الكفر، لقوله:{فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} .

10 -

أنه لا يصح الإيمان المبعض. بمعنى: أن يؤمن ببعض ويكفر ببعض، لقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} .

11 -

وجوب الإيمان بما ذكر، وهي خمسة أركان من أركان الإيمان الستة.

12 -

وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله به أو أخبر به

ص: 336

رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون في اليوم الآخر؛ لأن الإيمان باليوم الآخر ليس أن تؤمن بأنه سيكون، بل أن تؤمن بكل ما يجري فيه مما جاء في الكتاب والسنة، بل قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله:

مما يدخل في الإيمان في اليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فجعل من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بعذاب القبر، وقوله حق؛ لأن من مات انتهى من الدنيا، ودخل في اليوم الآخر.

13 -

أن الضلال يتفاوت، بعضه أشد من بعض، لقوله:{فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} .

إذًا: هناك ضلال ليس ببعيد، وهو كذلك، فالضلال يتفاوت، والإيمان يتفاوت، والأعمال تتفاوت:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]، فمثلًا: جنس الواجب أفضل من جنس المستحب، ففريضة الصلاة أفضل من نافلتها، وقراءة الفاتحة أفضل من قراءة السورة التي بعدها؛ لأن قراءة الفاتحة ركن وما بعدها غير ركن، وصيام رمضان أفضل من تطوع بصوم في أي زمن، وهلم جرا.

وجنس الفريضة أفضل من جنس النافلة، ودليل هذا قوله تعالى في الحديث القدسي:"ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"

(1)

، ثم أجناس الأعمال تختلف، فبعضها من أركان الإِسلام، وبعضها ركن مؤكد، وبعضها دون ذلك، وبعضها ليس من أركان الإِسلام.

إذًا: أعمال أهل الخير وأعمال أهل الشر كلها تتفاوت.

(1)

تقدم (1/ 377).

ص: 337

وينبني على ذلك: تفاوت الإيمان وتفاوت الفسق، فيكون هذا أقوى إيمانًا وذاك أضعف، والفسق هذا أعظم فسقًا وهذا دون ذلك، ففاعل الكبيرة أعظم فسقًا من فاعل الصغيرة إذا فسق بفعلها، وهذا الأصل هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تتفاضل، وأن العاملين يتفاضلون، سواء السيئ أو الصالح.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء: 137].

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} : حصل منهم الإيمان مرتين، والكفر ثلاث مرات، وهؤلاء آمنوا ودخلوا في الإيمان، لكن الإيمان لم يستقر في قلوبهم فارتدوا والعياذ بالله.

وقوله: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ؛ لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم، ولو استقر الإيمان في قلوبهم ما كفروا، لكنه لم يستقر - والعياذ بالله - كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8].

قوله: {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ، انظر التذبذب، بعد أن كفروا أول مرة بعد الإيمان آمنوا، بعد أن كفروا أول مرة بعد الإيمان آمنوا، وبعد ذلك {كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} - نسأل الله العافية - بتلاعبهم بالدين، وصار الكفر الأخير أشد مما قبله؛ لأنهم متلاعبون متذبذبون، فهم لا يستقرون على قرار.

ص: 338

قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} هذا خبر {إِنَّ} ، وقوله:{لَمْ يَكُنِ} هنا فعل مضارع منفي، واللام في قوله:{لِيَغْفِرَ لَهُمْ} تسمى لام النفي أو لام الجحود، وهي زائدة على قول بعض النحويين، وغير زائدة على قول آخرين، فالذين قالوا: إنها زائدة قالوا: التقدير: "لم يكن الله يغفر لهم" والذين قالوا غير زائدة، قالوا: إن قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} على تقدير الإرادة. يعني: لم يرد لغفرانهم.

وأيًا كان ففي قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} تيئيس لهم من المغفرة - والعياذ بالله - وأنهم سيبقون على كفرهم إلى يوم يلقونه.

قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} : {سَبِيلًا} ، يعني: طريقًا إلى الخير، فلا يمكن أن يهديهم الله سبيلًا إلى الخير، وفي الآية التي في آخر السورة قال:{وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168، 169] قال: ذلك في الذين كفروا وظلموا.

فهؤلاء الذين حصل لهم ذلك قد سد الله عنهم باب المغفرة وباب الرحمة، باب المغفرة في قوله:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وباب الرحمة في قوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} .

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن المتذبذب بين الإيمان والردة يكون مآله أن يزداد كفرًا، لقوله:{ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} ، وذلك - والله أعلم - أن الإيمان لم يدخل قلبه.

2 -

من العلماء من استدل بهذه الآية على أن من تكررت

ص: 339

ردته لم تقبل توبته، قالوا: لأن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فهل هذا الإستدلال صحيح؟

الجواب: قد يقول قائل: إنه ليس بصحيح؛ لأن آخر أمر هؤلاء أن {ازْدَادُوا كُفْرًا} ولم يذكر الله توبتهم، فإذا قارنا هذا بقوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] قلنا: هذه الآية تقضي على ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قالوا: إن من تكررت ردته لا تقبل توبته؛ لأن الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} .

وإن قالوا: إننا لا نقول أنها لا تقبل توبته، وأنه لو تاب لم تقبل، لكننا نقول: إنه بعيد أن يتوب، ولهذا كان أمر هؤلاء أن يزداد الإنسان كفرًا.

وبناءً على هذا نقول: إذا ظهر من هذا الذي تكررت ردته، الإيمان الصحيح والإستقامة، وصلاح الحال فإننا نقبل منه:{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: 20] وهذا هو الأصح، أن من تكررت ردته يجب أن نتأنى في قبول توبته، حتى نعرف صدق توبته، وصلاحه واستقامته، وأنه تاب توبةً نصوحًا.

3 -

الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، وأن فعله لا ينسب إليه إلا مجازًا، فالرد عليهم من قوله:{آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} فأضاف الأفعال إليهم، ففيه رد على الجبرية؛ لأن الجبرية عندهم أن العبد ليس له فعل اختياري، بل هو مجبر على العمل؛ كتحرك السعفة في الرياح، فلما قيل لهم: كيف يكون ذلك والله تعالى يثيب

ص: 340

الطائع ويعاقب العاصي؟ ! أي حكمة في إثابة الطائع وعقوبة العاصي، والكل منهم يفعل بغير اختياره؟ !

قالوا: لا نتحاج على الله، والله يفعل ما يشاء، والظلم تصرف الفاعل في غير ملكه، والكل ملك لله، فإذا تصرف في ملكه بما شاء ولو بتعذيب المطيع وتنعيم العاصي فهو ملكه.

وبناءً على ذلك نفوا الحكمة في أفعال الله، وقالوا: ليس لله حكمة في أفعاله، فهو يفعل لمجرد المشيئة.

4 -

وفيها أيضًا: رد على القدرية، لقوله:{وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} ، فدل هذا على أن الهداية بيد الله وليس يستقل بها العبد، والقدرية يقولون: إن الإنسان مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا خلق، وغُلاتهم يقولون: ولا علم ولا كتاب، فغُلاتهم ينكرون جميع مراتب القدر: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، ومقتصدوهم ينكرون مرتبتين من مراتب القدر، وهما: المشيئة والخلق. ويقولون: الله يعلم وقد كتب ما يكون، لكنه لا يشاء، والإنسان مستقل بعمله، وكلا الطائفتين غاليتان مفرطتان، فالقدرية غلوا في إثبات فعل العبد، وتطرفوا في إثبات خلق الله ومشيئته، والجبرية بالعكس.

5 -

أنه يجب على الإنسان أن يحذر من التردد والتقلب، فإن الغالب أن من هذه حاله لا يبارك له في عمره، ولا في عمله، فكونه كل يوم له رأي، وكل يوم له عمل، هذا لا شك أنه يضيع عليه الوقت، ولا يستفيد من عمره شيئًا، ولهذا يذكر عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:"من بورك له في شيء فليلزمه"

(1)

(1)

انظر: الغماز على اللماز للسمهودي ص 256.

ص: 341

وهذا عام في كل شيء، في العمل، حتى في السيارة إذا بورك لك فيها فالزمها.

على كل حال: في هذا دليل على أن الإنسان لا ينبغي له أن يتقلب، وليثبت، ولكن ليس معنى قولنا هذا أنه يثبت على الباطل بعد أن يرى أنه باطل، بل الواجب إذا تبين له أنه باطل أن يأخذ بالحق، كما قال عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري، "لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس أن تقضي بالحق فيه اليوم، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل"

(1)

.

6 -

أن الله سبحانه إذا علم من حال العبد أنه لن يستقيم، فإنه لن يغفر له ولن يهديه؛ لأن هؤلاء:{آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} .

- ويترتب على هذه الفائدة التي دلت عليها هذه الآية، ودل عليها قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] أن الأعمال الصالحة تجلب الأعمال الصالحة، والأعمال السيئة تجلب الأعمال السيئة، فإذا منَّ الله عليك بعمل صالح فأبشر أنه سيمنُّ عليك بعمل آخر تتبعه إياه.

* * *

* قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} [النساء: 138].

{بَشِّرِ} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن نجعله عامًا لكل من يتوجه الخطاب إليه، سواء للرسول صلى الله عليه وسلم أم

(1)

رواه الدارقطني (4/ 206)؛ والبيهقي (10/ 119).

ص: 342

غيره، والبشارة في الأصل هي الإخبار بما يسر، قال الله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، فالتبشير: الإخبار بما يسر، فكيف قال:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} وهل العذاب الأليم يسر؟ أجاب بعض العلماء بأن هذا من باب التهكم بهم، وهذا يقع كثيرًا في كلام الناس، إذا رأى إنسانًا متمردًا قال: أبشر بالخيبة، أبشر بالعقوبة وما أشبه ذلك، ومنه: قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 48 - 49] فإن بعض العلماء قال: المراد بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} التهكم، وبعضهم قال:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} في الدنيا، وهذا جزاؤك في الآخرة.

أما الجواب الثاني: فقالوا: إن البشارة هي الإخبار بما يتغير به الوجه من خير أو شر، وسميت بذلك؛ لأن البشرة تتغير، لكن إذا أخبر الإنسان بما يسره استنار وجهه، وإذا أخبر بما يسوؤه أظلم وجهه واكفهر، وعلى هذا فلا يكون في الآية إشكال، هل قيل هذا على سبيل التهكم أو على سبيل الحقيقة، بل يكون قيل على سبيل الحقيقة.

وقوله: {الْمُنَافِقِينَ} يعني: الذين نافقوا، بإظهار الإِسلام وإبطان الكفر، وهو مأخوذ من "نافقاء اليربوع"؛ أي: جحره؛ لأن اليربوع له جحر له باب مفتوح، يحفر في الأرض خندقًا، ثم يجعل في آخر الجحر قشرة رقيقة، حتى إذا أتي من باب الجحر سهل عليه أن يرفع هذه القشرة الرقيقة برأسه ويخرج، فهذا أصل النفاق من "نافقاء اليربوع".

ص: 343

والنفاق لم يكن معروفًا قبل الإِسلام، ولا في أول الإِسلام؛ لأن أول الإِسلام ليس هناك قوة للمسلمين يخافها الناس، لكن لما صار للمسلمين شوكة، وقوي المسلمون وذلك بعد انتصارهم في غزوة بدر في السنة الثانية بدأ النفاق يظهر، وقال المنافقون: إن أمره قد اشتد وظهر، فلا بد أن نداهنه، ولا بد أن تظهر أننا معه حتى لا ينالنا بسوء، وحصل لهم ما أرادوا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينالهم بسوء، حتى أنه استؤذن في قتلهم فقال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"

(1)

لكن هذا لا ينفعهم.

إذًا: أول ما ظهر النفاق حين قوي المسلمون بعد غزوة بدر.

قوله: {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {بِأَنَّ} متعلق بقوله: {بَشِّرِ} وقوله: {عَذَابًا} اسم أن، و {لَهُمْ} خبرها مقدم، وقوله:{بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ؛ أي: مؤلمًا. والعذاب الأليم سيأتي في آخر الآيات، في قول الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أنه ينبغي لنا أن نصارح المنافقين بأن نبشرهم، سواءً بلفظ أبشروا، أو بلفظ "اعلموا"، {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} حتى يرتدعوا عن نفاقهم.

وهنا قاعدة ينبغي أن نفهمها: إذا وردت النصوص لفظية

(1)

تقدم (1/ 469).

ص: 344

فالأصل وقوعها عمليًا، أما إذا قلنا النصوص اللفظية لا يعمل بها إلا إذا علمنا أنه معمول بها فهذه قاعدة خطيرة وفاسدة، فبعض الناس يقول: النصوص اللفظية لا يعمل بها إلا إذا علمنا أن الصحابة عملوا بها، ونحن نقول: الأصل في النصوص اللفظية أنه معمول بها، وهنا لا نحتاج أن نقول: أثبتوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبشرهم، فالأصل أنه لما قيل له بَشِّر فبَشَّر.

2 -

أن المنافقين مستحقون للعذاب الأليم، لقوله:{بِأَنَّ لَهُمْ} واللام هنا للإستحقاق.

3 -

أن عذابهم مؤلم موجع.

* * *

* قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 139].

ثم بيَّن من صفاتهم ما ذكره بقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فهذه من علامات النفاق، وأن الإنسان يتولى الكفار دون المؤمنين؛ لأنه يجد المؤمنين ضعفاء ليس لهم شوكة، والكفار أقوياء لهم الشوكة والسلطة فيتخذهم أولياء، يواليهم ويناصرهم ويداهنهم ولو على حساب الدين، كما يوجد الآن من بعض الناس بالنسبة لموالاة الكفار من دون المؤمنين، بل تجده سيفًا مسلولًا على المسلمين، وتجده على الكفار ماءً باردًا، يواليهم ويناصرهم، وهذه من صفات المنافقين، قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

والتولي في جميع الأمور، أولياء في المحبة، أولياء في

ص: 345

النصرة والمساعدة ولو بالقول .. أولياء في تقوية اقتصادهم .. أولياء في مداهنتهم وعدم التعرض لهم وما هم عليه، المهم أن طرق الموالاة كثيرة.

وقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أتت {مِنْ} الدالة على بعد الصلة بينهم وبين المؤمنين؛ كقوله تعالى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فهو أبلغ من قوله:"وبيننا وبينك حجاب"؛ لأنه لو قال: بيننا وبينك حجاب لكان من المحتمل أن يكون ليس بينهما إلا الحجاب فقط، لكن لما قال:"من بيننا وبينك" فمعناها أن هناك مسافة قبل أن نصل إلى الحجاب بيننا وبين هؤلاء.

وهنا أيضًا قال: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} تدل على بعد الصلة بين المؤمنين والمنافقين.

قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي: أيطلبون عند الكافرين العزة. يعني: الغلبة، والقوة والقهر، وهذا هو الذي يحصل من بعض من يتولى الكفار، يطلبون منهم العزة أن يعتزوا بهم، فأبطل الله هذا الإبتغاء بقوله:{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} .

فليست العزة عند الكفار، وهذا كقوله تعالى عن المنافقين أنفسهم:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وهذا حق لكن من الأعز؟

قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وهنا لم يقل: "والله الأعز ورسوله والمؤمنون" لأنه لو قال: والله أعز لأثبت لهم عزة، ولكنه قال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} بصيغة تقتضي الحصر بتقديم الخبر، من أجل أن يتبين أن المنافقين لا عزة لهم، وكيف يكون لهم عزة وهم يتقون ويداهنون ويخادعون.

ص: 346

قوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} كلمة {جَمِيعًا} حال من العزة، وهي تدل على أن هناك أنواعًا من العزة، وهكذا يقول العلماء: إن العزة ثلاثة أنواع: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الإمتناع، فالله تعالى وحده هو القاهر لكل شيء، الغالب لكل شيء، والله وحده هو ذو القدر العظيم، الذي لا يماثله شيء، والله وحده هو الذي يمتنع عليه كل نقص وكل عيب، ولهذا قال:{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} .

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان صفةٍ قبيحة من صفات المنافقين، وهي: موالاة الكافرين من دون المؤمنين.

إذًا: فكل من والى الكافرين من دون المؤمنين ففيه نفاق، ويكفر من ناصرهم على المسلمين، أو أحب انتصارهم على المسلمين، أو انتصار الباطل على الحق، أما مجرد الولاية بالعهد، أو الولاية بالمعاملة فهذه لا تخرج من الإِسلام، وقد لا تكون مذمومة فضلًا عن كونها تخرج من الإِسلام.

والحزن لمصائبهم لا شك أنه ولاية، لكن مسألة الكفر صعبة، ولكن ربما يأسف الإنسان لمصائبهم؛ لأنه يرى أنها تضره، إذ قد يكون علاقة الناس بهذه الدولة أقوى من علاقتهم بالدولة الكبرى، والله عز وجل قال:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4 - 5] انتصار الروم على الفرس، وهناك فرق بين موالاتهم ومداهنتهم، فالموالاة: أن يناصرهم ويساعدهم ويتولاهم ويكون من أوليائهم، والمداهنة أن يسكت عن باطلهم ليسكتوا عنه لكن ليس بينه وبينهم صلة في الموالاة،

ص: 347

والمداهنة حرام، والموالاة أشد، لكن المداراة لا بأس بها إذا دعت الحاجة إليها.

2 -

أن من ابتغى العزة من دون الله فهو ذليل، لقوله:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} فإن هذا استفهام إنكاري.

3 -

أن العزة لله وحده، لقوله:{فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ، فهو العزيز الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.

4 -

أنه ينبغي للإنسان أن يقطع العلائق عن الخلائق، وأن يعلق قلبه بالله عز وجل، يبتغي منه العزة، والنصر ودفع البلاء ويبتغي منه تيسير الأمور

وهكذا.

* * *

* قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: 140].

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} الفاعل هو الله عز وجل، ونزَّل وأنزل معناهما واحد، وقيل: أنزل: فيما كانت جملة واحدة، ونزل فيما كان متفرقًا، ولكن آيات الكتاب العزيز تدل على أنه لا فرق، والذي يتدبر القرآن يدل على أنه لا فرق، فإن الله تعالى يعبر عن إنزال القرآن تارةً بالإنزال وتارةً بالتنزيل، وإذا فصل بهذا مثل قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، فعلى حسب ما فصل.

فقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ} أي: الله عز وجل.

قوله: {عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} ، أي: في القرآن، وإذا فسرنا

ص: 348

الكتاب بالقرآن فهذا تفسير بالمراد، وإذا فسرنا الكتاب بالمكتوب فهذا تفسير باللفظ، فالتفسير باللفظ هو الذي يفسر اللفظ بما يوافق اشتقاقه، والتفسير بالمراد هو الذي يفسر اللفظ فيه بما أريد به بقطع النظر عن الإشتقاق، فإذا قلت: الكتاب بمعنى المكتوب فهذا تفسير لفظي باللفظ، وإذا قلت المراد به: القرآن فهذا تفسير بالمراد، وهذا يقع كثيرًا في القرآن الكريم، فتارةً تفسر الكلمة بمرادها، وتارة تفسر بما يوافق اشتقاقها.

وعلى كلٍ فالكتاب هنا: فِعَال بمعنى مفعول؛ أي: مكتوب، وسمي مكتوبًا؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ولأنه مكتوب في المصاحف التي بين أيدينا، ولأنه مكتوب بأيدي السفرة الكرام البررة.

قوله: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} ، {أَنْ} هذه مصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية؛ لأن التنزيل يتضمن معنى القول دون حروفه، والتفسيرية هي التي تأتي مفسرة لما تضمن معنى القول دون حروفه.

والمنزل الآن قوله: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} ، والآية التي أشار الله عز وجل إليها هي قوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68] يعني: إذا رأيت أحدًا يخوض في آيات الله إما بكفر أو استهزاء أو غير ذلك فلا تقعد معه، لكن لو نسيت فلا حرج عليك، إلا إذا ذكرت، ولهذا قال:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

ص: 349

وقوله: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} المراد بالآيات هنا: الآيات الشرعية فيما يظهر، ولكن لا مانع أن نقول: هي أيضًا تشمل الآيات الكونية، أما الآيات الشرعية فهي ما جاءت به الرسل من الكتب المنزلة عليهم، وأما الآيات الكونية فهي المخلوقات، فإذا رأيت أحدًا يقرر أن تكون الطبيعة هي الخالقة المدبرة، فهذا كفر بآيات الله الكونية، أما الشرعية فيكون الكفر بها إما بالتكذيب أو بالعصيان والمخالفة، والعصيان والمخالفة إما أن يكون كفرًا أكبر أو يكون دون ذلك.

وقوله: {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} أي: تتخذ هزوًا وسخرية، سواء كان ذلك في ذاتها، أو فيما جاءت به من الأحكام، أو فيما أخبرت به من الحوادث، مثل أن يسخر بيوم القيامة، أو يسخر بآدم عليه السلام، أو يسخر بقصص الأنبياء السابقين، أو يسخر بالأحكام الشرعية، فكل هذا داخل في قوله:{وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} .

قوله: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} المراد بالقعود المكث، سواء كان ذلك قعودًا أم وقوفًا أم اضطجاعًا، وليس المراد بالقعود ما هو ضد القيام والإضطجاع.

قوله: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، {حَتَّى} تفيد الغاية؛ يعني: إلى أن يخوضوا في حديث غيره، وعبر بقوله:{يَخُوضُوا} لأن الذين كانوا يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها يبعد كون قولهم جدًا، بل هم دائمًا {فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور: 12]، لكن مع ذلك إذا كان هذا الخوضُ لا يخدش الدين فلا بأس أن نبقى معهم، و {حَتَّى} هنا قلت: إنها للغاية، وتأتي لغير الغاية كثيرًا، فتأتي للتعليل مثل قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ

ص: 350

رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] فهنا {حَتَّى} للتعليل، ولا تكون للغاية لأن المعنى يختلف ولو قال:"لا تنفقوا حتى ينفضوا" كانت دلالة الآية على: أنهم إذا انفضوا فأنفقوا عليهم؛ لأن حتى الغائية هي التي يحل محلها: إلى أن؛ أي: "لا تنفقوا على من عند رسول الله إلى أن ينفضوا فإذا انفضوا فأنفقوا" وهذا ليس المراد، بل المعنى:{لَا تُنْفِقُوا} لأجل أن ينفضوا، أما التي معنا وهي قوله:{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فهي للغاية.

وقوله: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: غير الحديث الذي يكفرون فيه بآيات الله ويستهزئون بها.

قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} جملة مؤكدة بـ "إن"، والمراد: إنكم إن قعدتم {إِذًا مِثْلُهُمْ} أي: مثل هؤلاء الخائضين.

ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} يوم القيامة، والمنافق سبق أنه: هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، والكافر هو المصرح بكفره.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات أن القرآن منزل من عند الله، لقوله:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} .

- ويتفرع على هذه الفائدة: أن القرآن كلام الله؛ لأنه إذا كان نازلًا من عنده لزم أن يكون كلامًا، إذ أن الكلام صفة، وليس عينًا قائمةً بنفسها، بل صفة من الصفات.

- ويتفرع على هذا أيضًا إثبات علو الله؛ لأنه إذا كان الكلام من عنده، وهو نازل، دل هذا على أن المتكلم به عالٍ.

2 -

أن الحكم معلق بالسمع، لقوله:{إِذَا سَمِعْتُمْ} ، كما

ص: 351

علق بالبصر والقلب .. قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].

3 -

ظاهر الآية - بقطع النظر عن آيات أخرى - أنه لا يجب الإنكار على الكافر بآيات الله المستهزئ بها؛ لأنه إنما نهى عن القعود معهم ولم يأمر بالإنكار عليهم، ولكن يقال: الجواب عن هذا: أن الله تعالى إنما أراد أن يبين حكم المشاركين، ونهيهم عن ذلك؛ أي: أن هذا المنكر يفهم من نهينا عن الجلوس معهم أن لا نقر المنكر، فالصواب: أن هذه الآية لا تدل على ارتفاع النهي عن هذا المنكر، سواءً دلت عليه أو سكتت عنه، فلدينا نصوص أخرى تدل على وجوب إنكار المنكر.

4 -

أن الأحكام تدور مع عللها، لقوله:{فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فلما كانوا يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها نهي عن القعود معهم، ثم أذن لنا بالقعود معهم إذا خاضوا في حديث غيره.

5 -

أن المشارك لفاعل المنكر كفاعل المنكر، لقوله:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} ، ونحن قلنا: المشارك، والآية لا تدل على المشارك، وإنما تدل على أن الجالس معهم له حكم الفاعل، فنقول: إذا كان الجالس يعني: القاعد معهم له حكم الفاعل فالمشارك من باب أولى.

6 -

وجوب مغادرة المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، ولا يجوز للإنسان أن يبقى ويقول: أنا منكر بقلبي، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكرًا فليغيره

ص: 352

بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"

(1)

وأنا الآن منكر بقلبي غاية الإنكار! !

فنقول: لو صدقت في ذلك لقمت؛ إذ أن الجوارح تبع للقلب، فلو كره القلب ذلك لكرهته الجوارح، وهذا لا يغنيك، ولا بد أن تفارق، وإلا كنت مثلهم.

فإن قال قائل: إذًا حرموا على الإنسان الجلوس مع حالق اللحية؛ لأن حلق اللحية حرام؟

فالجواب عن ذلك: أنه يجب علينا أن نغادر المكان حين نراه يحلقها بالفعل، أما وقد انتهى الفعل ولم يبق إلا أثره فلا يلزمنا أن نغادر المكان الذي هو فيه، ومثله لو قال قائل: إذا شممت رائحة الدخان في إنسان وجب عليك أن تفارقه؛ لأن أثر الدخان في فمه؟ فالجواب: لا يجب، نعم إذا رأيته يشرب الدخان حينئذ أنهاه، فإن نفع وإلا قمت، أما أثر المعصية فليس كفعل المعصية.

7 -

تحريم التعاون على الإثم والعدوان، وجهه: أنه إذا حرم القعود مع فاعل المنكر فالإعانة من باب أولى، مثل أن تهيئ له المكان، فترشه، وتطيبه، وتأتي بالأواني، وتصب له القهوة والشاي، فهذا حرام من باب أولى.

8 -

أن جليس الصالحين الذين يعملون الصالحات مثلهم ومنهم، بقياس العكس؛ لأنه إذا وزر بالجلوس مع العصاة أجر بالجلوس مع الطائعين، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القياس بنفسه

(1)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، حديث رقم (49) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 353

صلوات الله وسلامه عليه، لما قال:"وفي بضع أحدكم صدقة" - يعني الإنسان إذا أتى زوجته فله صدقة - قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر؟ ! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ " قالوا: نعم، قال:"كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"

(1)

فهذا قياس العكس، وهذه مثلها؛ لأن الله تعالى إذا أثم القاعدين مع فاعل المنكر فإن فضله أوسع وأعظم، فيثيب القاعدين مع الصالحين وأهل الطاعات.

9 -

الحذر من جلساء السوء، والترغيب في جلساء الصلاح، وهذا ما حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"مثل الجليس الصالح كحامل المسك"

(2)

المسك: نوع من الطيب يقال: إنه يخرج من دم غزال معين، وفي ذلك يقول المتنبي يمدح سيف الدولة:

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

فنحن نقول: إن الرسول قال: "مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يحذيك - يعني: يعطيك مجانًا - وإما أن يبيعك - يعطيك بعوض - وإما أن تجد معه رائحةً طيبة" فلن تفلس من الجليس الصالح، "ومثل الجليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه رائحةً كريهة"

(3)

والكير: عبارة عن جلد

(1)

رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم (1006).

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(3)

رواه البخاري، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع ومن طلب حقًا فليطلبه في عفاف، حديث رقم (1995)؛ ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء =

ص: 354

يربط بعضه ببعض، ويجعل له حلقوم يدخل على ماسورة تتصل بالجمر، وفي طرف هذا الجلد - وهو جلد لين - خشبتان تنفتحان وتنضمان، إذا فتحهما امتلأ الجلد هواءً ثم إذا ضمهما ودفعهما حينئذ يخرج هواء من الماسورة على الفحم فتشتعل النار، هذا هو الكير، وكانوا يستعملونه فيما سبق، وقد أدركناهم، وحال الكير إما أن يحرق ثيابك إذا طار الشرر على ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة.

فيؤخذ من الآية الكريمة معنى هذا الحديث، فاحذر جلساء السوء، وعليك بجلساء الصلاح، فإنك لن تعدم خيرًا من جلساء الصلاح، ولن تعدم شرًا من جلساء السوء.

10 -

أن النار لصنفين من العالَم، المنافقين، والكافرين، أما الصنف الثالث وهم المؤمنون فلهم الجنة، وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم المذكورون في أول سورة البقرة.

11 -

إثبات وجود النار، وأنها واسعة، ووجه ذلك قوله:{جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ} ووجه أنها واسعة: أن تسعمائة وتسعة وتسعين من بني آدم في النار، والجن قال تعالى فيهم:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، والظاهر أن الجن أكثر من بني آدم في النار دخولًا، ولهذا قدموا في الآية الكريمة.

12 -

أن فيها التفاتًا. فبعد أن قال: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} وعبر هنا بالضمير، ثم تلاه قوله:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} فعبر بالإسم الظاهر، والإظهار في موضع الإضمار له فوائد، منها:

= السوء، حديث رقم (2628) عن أبي موسى.

ص: 355

إرادة العموم كقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 98] ولم يقل: "عدو له" مع أن هذا مقتضى السياق، لكن ليبين أن من كان عدوًا {لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فهو كافر، ولينبه على سبب عداوة الله وهي الكفر، وليكون المعنى أشمل، يعني: فيكون الله عدوًا للكافرين الذين كفروا بالمعاداة والذين كفروا بغيرها أيضًا.

* * *

* قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141].

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فهم جَمَّاعون مَنَّاعون، كذابون خداعون، وانظر قوله:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} التربص: الإنتظار، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] أي: ينتظرن.

وقوله: {يَتَرَبَّصُونَ} أي: ينتظرون الدوائر، هل هي عليكم أو لكم؟

قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} قالوا: نريد من هذا الفتح، ونحن معكم، لا تحرمونا الغنيمة، قوله:{وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} ولم يقل فتحًا؛ لأن ما يعطاه الكفار ليس فتحًا، ولكنه محنة، {قَالُوا} أي: للكافرين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ

ص: 356

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فلولا نحن لأهلككم المؤمنون، لكن نحن منعناكم منهم، واستحوذنا عليهم، وصرنا درعًا لكم.

وقوله: {نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي: نسيطر ونكون درعًا لكم، وقوله:{وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: نحن الذين حميناكم من المؤمنين، ولولا نحن لقاتلكم المؤمنون، فهم يدعون أنهم مع المؤمنين ويطلبون منهم الغنيمة، ويدعون أنهم حماة الكفار من أجل أن يكونوا أولياء لهم.

قال تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فالفاء للتفريع، واسم الله الكريم مبتدأ، وقوله:{يَحْكُمُ} جملته خبر، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يعني: بين المؤمنين وبين هؤلاء المنافقين، والكفار أيضًا، وقوله:{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : متعلق بـ {يَحْكُمُ} ، والمراد بيوم القيامة هو يوم البعث، وسمي بذلك لأمور:

أنه يوم يقوم فيه الأشهاد، وأنه يوم يقام فيه العدل.

قوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} سبحان الله! الخصم يخبر بنتيجة الحكم قبل أن يحاكمه، فنحن الآن مخاصمون للكفار؛ لأن الله تعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} بعد أن قال: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فأي حكم أبلغ من هذا؟ ! أن يقال للخصم: حاكم وليس لخصمك عليك سبيل؛ لأن الأمر واضح منتهٍ.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان شدة عداوة المنافقين للمؤمنين، لقوله:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي: ينتظرون الساعة التي يكون فيها الضرر على

ص: 357

المؤمنين، لكن قال تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6].

2 -

أن المنافقين لهم حظ من الفيء، ويؤخذ من قوله:{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ، فدل هذا على أن المنافق يعامل بالظاهر، فيعطى ما يعطاه المسلم.

3 -

أن المنافقين عندهم منَّة، وفي أنوفهم أنفة، إن كان الفتح للمسلمين طالبوا بالغنيمة، وإن كانت الغلبة للكفار منَّوا عليهم {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: فأعطونا من النصيب.

4 -

الدعوى الكاذبة للمنافقين بأنهم هم الذين منعوا الكفار منهم، لكونهم كثروا سوادهم وساعدوهم في الباطن، وأثلجوا صدورهم بالنصر.

5 -

إثبات الجزاء والحكم بين الناس، لقوله:{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وهذا حكم لا حكم بعده.

6 -

إثبات أن الكافر ليس له سبيل على المؤمن مهما كان الأمر، أرأيتم لو أن المسلم أحرق نخيله وأمات مركوبه، فلا يأثم، ما دام أنهم كفار حربيون؛ لأن مالهم مباح، أما المعصوم وهو الذمي، والثاني المعاهد، والثالث المستأمن، فهؤلاء أموالهم محترمة.

7 -

أن الله سبحانه هو الحكم بين العباد، بدليل قوله:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} {فَاللَّهُ يَحْكُمُ} {وَلَنْ يَجْعَلَ} وعلى هذا فلا حكم يوم القيامة لأحد، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحق له أن يحكم، ولهذا عند الشفاعة لا يستطيع الرسول عليه

ص: 358

الصلاة والسلام أن يشفع بدون أن يستأذن من الله.

8 -

يمكن أن يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن المحاكمة بين الكفار والمؤمنين في الدنيا، قد يكون فيها الحق للكافر؟ ووجهه: أن الله نفى أن يكون لهم سبيل يوم القيامة، أما في غير يوم القيامة فالناس كلهم تحت العدالة.

9 -

أن المنافقين أشد من الكفار؛ لأن الله بدأ بهم {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ} وجميع الآيات التي فيها الجمع بين المنافقين والكفار يقدم الله فيها المنافقين، كقوله:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73]، إلا في آية واحدة، بسبب وهي قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] وذلك لأن جهاد الكفار يكون بالسلاح علنًا، وجهاد المنافقين يكون بالعلم والبيان وليس بالقتال.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)} [النساء: 142].

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} الجملة مؤكدة بـ {إِنَّ} ؛ لبيان حال هؤلاء المنافقين، ومعاملتهم مع الله عز وجل.

وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} يعني: والمؤمنين أيضًا، كما قال تعالى في سورة البقرة:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] وبماذا يخادعون؟ بإظهار الإِسلام، فإن من رآهم ورأى حضورهم الصلاة وصدقاتهم، قال: إنهم مؤمنون، فهم يخادعون الله في هذا.

ص: 359

قال تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يعني: أن الله يقابل خداعهم بخداع من عنده، ومخادعته إياهم أنه يملي لهم حتى يستمروا على هذا ويستمرئوه، فيبقون كفارًا مع شياطينهم، ومسلمين مع المؤمنين، ويعصمون بهذا النفاق دماءهم وأموالهم، وهذا هو خداع الله تعالى لهم، أنه يملي لهم ليستمروا في نفاقهم، ثم بالتالي يختم لهم بسوء الخاتمة.

قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، أي صلاة كانت يقومون إليها كسالى، والكسلان: هو الذي يكون عنده فتور، وعدم نشاط على فعل الفعل، فهم إذا قاموا إلى الصلاة:{قَامُوا كُسَالَى} تجدهم يتثاقلون الوضوء، ويتثاقلون الذهاب إلى المسجد، ويتثاقلون الصلاة نفسها، وذلك لعدم رغبتهم في الصلاة، ووجه هذا: أن من كان راغبًا في الشيء فلا بد أن يقوم إليه نشيطًا.

قوله: {يُرَاءُونَ النَّاسَ} يعني: مع كونهم يقومون كسالى لا يخلصون في قيامهم، وإنما {يُرَاءُونَ النَّاسَ} أي: يظهرون أنفسهم بهذا المظهر ليراهم الناس فيقولوا: إنهم مسلمون.

قوله: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ} أي: لا يذكرون الله في صلاتهم، فحتى ولو صلوا {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} والمراد:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ} لا يذكرونه بألسنتهم، وجوارحهم، وقلوبهم {إِلَّا قَلِيلًا} ، فلا يذكرون الله بألسنتهم لأنهم لا يأتون بالواجب من تكبير وتسبيح وتحيات وغيرها، وكذلك لا يذكرون الله بأفعالهم، فلا يطمئنون في الصلاة، وإنما ينقرونها كنقر الغراب لأنها ثقيلة عليهم، وهم لا يأتونها من رغبة.

ص: 360

ولا يذكرون الله بقلوبهم لأن قلوبهم ساهية غافله، يؤدون الصلاة كأداء الآلة، بدون أن يشعروا بأنهم يناجون الله عز وجل، إذًا:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ} في الصلاة {إِلَّا قَلِيلًا} يعني: بالقلب واللسان والجوارح.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات خداع المنافقين، وأنهم قوم أهل خداع ومكر، ولهذا كان من صفات المنافقين أنهم إذا عاهدوا غدروا، وإذا خاصموا فجروا، وإذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا؛ لأن كل هذا يتضمن الخداع.

2 -

إثبات الخداع لله عز وجل؛ أي: أنه جل وعلا يخدع من يخادعه، لقوله تعالى:{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .

وهل الخداع صفة ذم أو صفة مدح؟

في ذلك تفصيل: إن كان في مقابلة من يخادع فهو صفة مدح؛ لأنه يدل على قوة المخادع؛ لأنه أشد مكرًا من عدوه وأشد خداعًا، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] وقال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، أما إذا كان ليس له سبب، وكان خداعًا في موضع الإئتمان فإنه لا يسمى خداعًا، وإنما يسمى خيانةً، وهذا عيب بكل حال، ولهذا لا يوصف الله بالخائن إطلاقًا، حتى الذين يخونون الله لا يقابلهم الله بالخيانة، كما قال تعالى:{فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] فقال: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ولم يقل: فخانهم، ووجه ذلك: أن الخيانة خداع في موضع الإئتمان.

ص: 361

حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخن من خانك"

(1)

لأن هذا ذم، فلا يوصف الله به.

فإن قال قائل: هل يوصف الله بالخداع مطلقًا فيقال: إن الله مخادع؟

فالجواب: لا يوصف به إلا في مقابلة خداع أعدائه، وكذلك المكر، والكيد، والإستهزاء ونحوها من الصفات التي تكون مدحًا في حال دون حال، فإنه لا يجوز أن يوصف الله بها على سبيل الإطلاق.

وعلى هذا نقول: المعاني والأوصاف إما أن تكون كمالًا محضًا: فهذا يوصف الله به، وإما أن تكون ذمًا ونقصًا محضًا: فهذا لا يوصف الله به مطلقًا، وإما أن تكون مدحًا في حال وذمًا في حال: فهذا يوصف الله به حين يكون مدحًا، ولا يوصف به حين يكون ذمًا.

وعلى هذا: لو أن أحدًا وصف الله بالعجز لقلنا: إن هذا حرام بكل حال؛ لأن العجز صفة ذم، وكذلك لو وصفه بالخيانة قلنا: هذا حرام بكل حال؛ لأن الخيانة ذم بكل حال، والكلام كمال فيوصف الله بأنه متكلم، ومريد كذلك:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] لأن كل هذه صفات كمال.

3 -

أن المنافقين يصلون، لكن لا تقبل منهم صلاتهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ

(1)

رواه أبو داود، كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث رقم (3535)؛ والترمذي، كتاب البيوع، باب (38)، حديث رقم (1264)، الحاكم (2/ 53)، من حديث أبي هريرة.

ص: 362

كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] مع أن النفقة نفعها متعدٍ، ومع ذلك لا تقبل، فكيف بالعبادة التي نفعها غير متعد؟ فإنها من باب أولى أن لا تقبل، فصلاتهم لا تقبل، لكن هم يصلون مراءاة للناس.

4 -

أنهم إذا أدوا الصلاة مراءاة يؤدونها بكسل وبرود، وعدم نشاط.

5 -

أن من أدى الصلاة على وجه الكسل ففيه شبه بالمنافقين، فاحذر أن تكون مشابهًا للمنافقين، أد الصلاة بنشاط وفرح وسرور، ووالله إن المؤمن حقًا ليفرح إذا أقبلت الصلاة؛ لأنه سوف يقف بين يدي الله يناجيه، وإذا كان الواحد منا يفرح أنه سيلاقي صديقه أو خليله، ويعد لذلك العدة، فما بالك بملاقاة الله عز وجل ومناجاته، ولهذا إذا رأيت في نفسك كسلًا في الصلاة فاتهم نفسك، فأنت بلا شك مشابه للمنافقين في هذه الخصلة، لكن اتهم نفسك، وعدل مسيرتك إلى الله عز وجل، ولا تتهاون؛ لأنه ربما يكون عندك الآن تهاون بسيط، لكن يزداد حتى تكون الصلاة عندك أثقل شيء.

6 -

أن من راءى الناس بعمله الصالح ففيه شبه بالمنافقين، والرياء بابه واسع، ليس في الصلوات أو النفقة أو الصوم أو الحج، فقط، بل هو أوسع من هذا، حتى الإنسان لو أنه لبس ثيابًا رثة ليظهر للناس بمظهر الزاهد فهو مراءٍ، ولذلك لا تظن أن الرياء يختص بالعبادات المحضة، قد يكون في أي شيء، فكل شيء تظهر فيه للناس أنك تتقرب به إلى الله ليراك الناس فإنه رياء - والعياذ بالله -، رياء محبط للعمل؛ لأن الله يقول في الحديث

ص: 363

القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(1)

فالله غني عنا، ونحن المضطرون إليه، وهو في غنى كامل عنا، فإذا أشركنا بالله - نعوذ بالله من الشرك - أحدًا فإنه لن يقبله منا، فهو أغنى الشركاء عن الشرك.

7 -

التحذير من مراءاة الناس، فأنت ترائي الناس لماذا؟ الناس لا ينفعونك؟ ولا يضرونك، إنما الذي ينفعك ويضرك هو الله عز وجل:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53] فلا تهتم بالناس مدحوك أو قدحوا فيك، أهم شيء أن تنظر إلى رضا الله عز وجل، وابتعد بعدًا تامًا عن الرياء.

ولكن هنا مسألة وهي: أن الشيطان يأتي إلى الإنسان فيقول: إن صليت فقد راءيت، وإن حسنت صلاتك فقد راءيت، وهو بعيد من هذا، فهل يترك تحسين الصلاة خوفًا من ذلك، أو يترك العبادة خوفًا من ذلك؟

الجواب: لا، وهذا من مثبطات الشيطان للإنسان، ولكن ليشق طريقه وليستمر، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يلتفت إلى هذه الوساوس؛ لأن الشيطان يتمنى أن لا نعبد الله؛ لأنه عصى الله، فيريد من الناس أن يعصوا ربهم أيضًا، فلا تترك العبادة من أجل الرياء.

ثم إن طرأ على بالك أنك تحسنها من أجل رؤية الناس: فإن كنت طالب علم يقتدى به فانو أنك تحسنها من أجل أن يقتدي الناس بك، وتكون في هذه الحال عابدًا معلمًا، فإن

(1)

تقدم ص 265.

ص: 364

الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه وقد يطلب منه أن يبين لهم كيفية الصلاة يقول لهم: "صلوا معنا"، وكان يصعد على المنبر حين بني له، ويصلي عليه ويقول:"فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي"

(1)

، وبهذا تطرد الشيطان عنك.

8 -

أن ذكر الله تعالى عند المنافقين قليل، وقلنا: إن الذكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فهم {لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ، حتى بالجوارح الظاهرة التي يراها الناس لا يذكرون الله إلا قليلًا.

9 -

أنك إذا رأيت في نفسك قلة في ذكر الله، فإن فيك شبهًا بالمنافقين، ولهذا وصف الله المؤمنين أولي الألباب بأنهم:{لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190، 191] وما يضرك إذا ذكرت الله؟ فليس هناك عضو كاللسان في عدم التعب، فإذا كان كذلك فأكثر من ذكر الله.

وجاء في الحديث: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإِسلام قد كثرت عليَّ، - يعني: وقد كبرت - فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"

(2)

يعني: أدم ذكر الله.

10 -

أن المنافقين يذكرون الله، ولكن ذكرهم قليل.

* * *

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة برقم (544) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب فضل الذكر، حديث رقم (3375)؛ وابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث رقم (3793)؛ وأحمد (4/ 188)؛ وابن حبان (3/ 96)(814) عن عبد الله بن بسر.

ص: 365

* قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} .

{مُذَبْذَبِينَ} أي: مرددين، يرددهم الشيطان، مرةً هنا، ومرةً هنا.

قوله: {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ} أي: المؤمنين، {وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} أي: الكافرين، فهم في الظاهر مسلمون، وفي الباطن كافرون، فهم إذا أتوا الكفار قالوا: إنا معكم، وإذا جاءوا إلى المسلمين قالوا: إنا معكم، ألم نكن معكم؟ ! فهم والعياذ بالله مذبذبين لا يستقرون على رأي، وهذا لأنهم لم يؤمنوا أول مرة، كما قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110] ولهذا احذر أن لا تقبل الحق إلا مترددًا، فمتى بان لك الحق فقل: سمعًا وطاعة، وآمن خوفًا من أن يقلب فؤادك وبصرك إذا لم تقبل الحق في أول مرة.

ومن هذا أو قريب منه ما يفعله بعض الناس، إذا قلت له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكذا .. أو إن الله أمر بكذا .. قال: هل الأمر للوجوب؟ ! كأنه يقول: إذا لم يكن للوجوب فلن أفعل، وهذا غلط، إذا سمعت الله يأمر، أو الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر فقل: سمعنا وأطعنا، سواءً كان للإستحباب أو للوجوب، وإنما يسأل عن الواجب أو المستحب إذا ضيع الإنسان هذا الأمر وتركه، فحينئذٍ لا حرج عليه أن يقول: هل هو واجب فأقضيه، أو غير واجب فلا آثم بعدم القضاء، أما قبل أن تفعل فإن تمام العبودية أن تقول: سمعنا وأطعنا، ثم إن كان واجبًا فقد حصلت على ثواب

ص: 366

الواجب وإبراء الذمة، وإن لم يكن واجبًا حصلت على خير وثواب، فلم تندم، لكن الندم أن تتردد فتقول: هل هو واجب أو لا؟ !

ولا أعلم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يأمرهم: أواجب ذلك أم سنة، إلا في قضية واحدة، في قصة بريرة رضي الله عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تبقى مع زوجها مغيث، قالت: إن كنت تأمرني فسمعًا وطاعة، وإن كنت تشير علي فلا حاجة لي به، وكانت بريرة أعتقت، وإذا أعتقت الزوجة تخير بين البقاء مع زوجها وبين فسخ النكاح، فلما عتقت خيرها الرسول عليه الصلاة والسلام قال:"إن شئتِ بقيت مع زوجك، وإن شئتِ افسخي النكاح"

(1)

، فاختارت الفسخ، وإنما خيرها الشارع لأنها الآن ملكت نفسها ملكًا تامًا، وكانت حين العقد مملوكة لا تصرف لها في نفسها، أما الآن فقد تحررت، ولهذا جعل لها الخيار، فاختارت الفسخ، واختارت نفسها، فكان زوجها يلاحقها في أسواق المدينة وهو يبكي، يريد أن ترجع، فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعجب ويقول: ألا تعجبون من حب مغيث لبريرة وبغض بريرة لمغيث؟ ! وهذا حق أن نعجب؛ لأن العادة أن القلوب شواهد كما يقولون، تتبادل البغضاء والمحبة، لكن هذه - سبحان الله - أبت!

وكامرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه المشهود له بالجنة، جاءت للرسول عليه الصلاة والسلام تطلب المخالعة، وقالت: إني لا أعيب عليه في خلق ولا دين، لكني أكره الكفر في

(1)

رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة (5283) عن ابن عباس.

ص: 367

الإِسلام، حتى أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخالعها وترد عليه حديقته

(1)

، وهذا من العجب.

المهم: أننا لا نعلم أن الصحابة راجعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره وقالوا: هل هو على سبيل الإلزام أو على سبيل التطوع أبدًا، فلتكن كالصحابة قل: سمعنا وأطعنا، وأحمد الله أن الله عز وجل شرع لك هذا الأمر؛ لأنه لولا أن الله شرعه لك لكان قيامك به بدعة لا يزيدك إلا ضلالًا وبعدًا عن الله.

قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} الجملة هذه شرطية، وفيها إشكال وهو: أن "من" الشرطية تجزم الفعل. وإشكال آخر: أن الفعل لا يلحقه كسر، يعني: لا يكون مجرورًا، وهنا جاء مكسورًا، فهذان إشكالان.

والجواب على الإشكال الأول: هو مجزوم، لكن كسر كسرة عارضة لالتقاء الساكنين.

والجواب على الإشكال الثاني: ليست الكسرة الظاهرة كسرة إعراب، وإنما هي للتخلص من التقاء الساكنين.

أما جواب الجملة الشرطية، فهو قوله:{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} فأي إنسان يكتب الله سبحانه ضلاله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} إلى الهداية، وقوله:{سَبِيلًا} يعني: طريقًا، وهؤلاء المنافقون قد أضلهم الله، فلن تجد لهدايتهم سبيلًا - والعياذ بالله - ولكن ربما يمنّ الله على بعضهم فيهتدي، كما قال تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 65 - 66].

(1)

تقدم ص 306.

ص: 368

قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} {سَبِيلًا} هذه نكرة في سياق النفي، فتعم كل سبيل، فلا يمكن أن يكون سبيل لمن أراد الله له الضلالة، نسأل الله أن يهدينا صراطًا مستقيمًا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن حال المنافقين التردد بين الكفر والإيمان، لكن الحكم عليهم في الآخرة أنهم كفار، أما في الدنيا فيعاملون على ظواهرهم؛ لأن الأحكام في الدنيا على الظواهر.

2 -

أنك إذا رأيت نفسك مترددًا بين القبول والإنكار فاعلم بأن فيك شبهًا بالمنافقين؛ لأن المؤمن لا يمكن أن يكون مترددًا، ولا أن يكون له الخيرة فيما قضى الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، بل لا يترددون، وإنما يقبلون وينقادون.

3 -

أن الطمأنينة والإستقرار أمر مطلوب، ولهذا نجد أشد الناس استقرارًا وطمأنينة هم المؤمنون {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

4 -

أن من أضله الله فلن يستطيع أحد أن يهديه، لقوله:{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} .

فإن قال قائل: لماذا يضل الله فلانًا ويهدي فلانًا؟ قلنا له: هذا الذي منع الله هدايته هل منعه ظلمًا أو عدلًا؟

الجواب: عدلًا ولا شك، وتفضل على الآخر فهداه، فهو لم يمنع أحدًا حقه، وإنما تفضل على هذا فهداه.

ص: 369

ثم اعلم أنه لن يكون الإضلال إلا لسبب من العبد؛ لقوله الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وكما قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] فلو أنهم آمنوا أول مرة واستقاموا على الطريق لم يضلهم الله أبدًا.

وبهذا نعرف أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"

(1)

أنه ليس المراد أنه لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع بحسب عمله، ولكن: المراد لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع بحسب أجله؛ لأنه لو كان عمله أوصله حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع ما خذله الله أبدًا، لكنه في قلبه حسكة، كما جاء في الحديث الآخر:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار"

(2)

وهذا التأويل متعين أن نقول: حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع باعتبار الأجل، يعني: حتى إذا قارب أجله وقارب الموت أظهر وأعلن أنه من أهل النار والعياذ بالله!

5 -

الإشارة إلى اللجوء إلى الله عز وجل في طلب الهداية؛ لقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} ، وعليه: فإذا دعونا أحدًا إلى الحق فأبى وتردد فإننا نلجأ إلى الله أن يهديه؛ لأن الله على كل شيء قدير، وكم من أناس كانوا أشقى القوم فصاروا أسعدهم، وكانوا أفسد القوم فصاروا أصلحهم، وما أمر عمر بن

(1)

تقدم ص 113.

(2)

تقدم ص 114.

ص: 370

الخطاب - الرجل الثاني من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ببعيد! وهذا خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، كانوا في أحد كفارًا معادين للإسلام، يريدون القضاء على أهل الإِسلام، ويريدون قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، وقتل الصحابة، ومع ذلك كانوا بعد هذا قادة وشجعانًا في نصرة الإِسلام وهزيمة الكفار.

فالله سبحانه يهدي من يشاء، فإذا علم الله في قلب الإنسان خيرًا - ونسأل الله أن يجعل قلوبنا هكذا - هداه للإسلام قال الله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70]، فإذا علم الله من قلب العبد الخير وفقه له وهداه، حتى وإن ضل فالعاقبة أن الله يهديه!

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)} [النساء: 144].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} سبق الكلام على مثل هذا التعبير، وذكرنا أن تصديره بالنداء يفيد التنبيه، وأن تصديره بهذا الوصف - وصف الإيمان - يدل على أن امتثاله من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان.

قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: لا تجعلوهم أولياء؛ لأن اتخذ بمعنى: جعل، ومنه قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] أي: جعله خليلًا له، لا

ص: 371

تجعلوهم أولياء أي: تتولونهم، وتثقون بهم، وتناصرونهم، وتعلقون آمالكم بهم من دون المؤمنين؛ لأن بعض المؤمنين يكون ضعيف الإيمان، وضعيف التوكل على الله، فيعتمد على هؤلاء الكفار لقوتهم، ويتولاهم ويرى أن المؤمنين لا يبلغون مبلغهم، وهذا لا شك أنه نقص في الإيمان والتوكل، فقد سبق أن الله قال:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].

وقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: من سواهم.

قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} وهذا استفهام بمعنى الإنكار يعني: {أَتُرِيدُونَ} باتخاذكم {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، {أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ} أي: تصيروا له {عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} أي: حجةً بينة وواضحة؛ لأن كونكم مؤمنين يقتضي أن تتولوا المؤمنين لا الكفار، فإذا عدلتم عن هذا الواجب إلى موالاة الكفار فقد جعلتم {لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} تستحقون به عقوبة الله.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

فيها دليل على تحريم اتخاذ الكافرين أولياء؛ لأن الله نهى عن ذلك وحذر منه، نهى عن ذلك بقوله:{لَا تَتَّخِذُوا} ، وحذر منه بقوله:{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} .

2 -

أنه لا تجتمع ولايتان: ولاية الكفار، وولاية المؤمنين؛ لقوله:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، ولا يعني ذلك أنهم لو اتخذوهم هم والمؤمنين أولياء جاز ذلك، بل نقول: إن قوله {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: أنكم إذا اتخذتم الكفار أولياء عدلتم عن ولاية المؤمنين.

ص: 372

3 -

أن الله سبحانه له سلطان وحجة على من خالف أمره، ويدل على هذا قوله تعالى حين ذكر إرسال الرسل:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فهنا لو لم يرسل الرسل صارت الحجة {لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ} وإذا أرسل الرسل وبيَّنت الأحكام صارت الحجة لله على العباد.

4 -

وجوب موالاة المؤمنين ومناصرتهم؛ لأن المؤمنين إخوة، فما أصاب أحدهم فقد أصاب الآخر، وما حصل من ضرر وجب على جميع المؤمنين إزالته على حسب الحال والإمكان.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].

صلة هذه الآية بالتي قبلها هي: أن الذين يتخذون {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يشبهون المنافقين، والمنافقون هم الذين اتخذوا {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فمن اتخذهم فقد شابه المنافقين، والمنافقون ليس لهم حظ في الآخرة إطلاقًا؛ لأنهم {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} يحلون فيه ولا يخرجون منه.

و{الدَّرْكِ} بمعنى المكان الأسفل الذي ليس دونه شيء، قوله:{الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ولا يعني هذا أن غيرهم لا يدخلون فيه، لكن هم فيه يقينًا، وأما غيرهم فيحتمل أن يكونوا معهم فيه وأن يكونوا فوقهم.

وقوله: {فِي الدَّرْكِ} فيها قراءة "في الدرَك" أي: فتح الراء بدلًا عن سكونها، وهي قراءة سبعية.

ص: 373

قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} {وَلَنْ تَجِدَ} الخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم، وإما لكل من يصح توجيه الخطاب إليه.

وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أي: لن تجد لهم من يمنع العذاب عنهم، وينصرهم في هذه الحال.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

فيها دليل على أن المنافقين من أهل النار؛ لقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} .

2 -

أن النار دركات، والدرك كما قلنا المكان المهلك، فكل مكان أنزل مما فوقه حسب شدة العقوبة.

3 -

أن هؤلاء المنافقين {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وهذا لا يعني أن غيرهم لا يشاركونهم بل قد يشاركهم غيرهم، لكننا نجزم بأن المنافقين {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ} وأن من سواهم قد يكونون فيه، وقد لا يكونون فيه.

4 -

أنه لا ناصر للمنافقين في الدنيا، وقد ينتصرون بسبب التمويه والخداع، ولكن في الآخرة لن ينتصروا، ولن يجدوا من ينصرهم؛ لقوله:{وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} .

5 -

يستفاد من قوله: {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أن المنافقين أشد كفرًا من بعض الكفار الأصليين ولا شك، والمنافق أشد؛ لأن المنافق جمع بين الأمرين، بين الكفر والخداع، ولهذا قال الله تعالى:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] فحصر العداوة فيهم لما يحصل منهم من المفاسد العظيمة.

* * *

ص: 374

* قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} [النساء: 146].

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} من النفاق؛ أي: رجعوا من النفاق إلى خالص وصريح الإيمان.

قوله: {وَأَصْلَحُوا} أي: أعمالهم، أصلحوها بدل ما كانوا مفسدين كانوا مصلحين؛ لأنه سبق في سورة البقرة قول الله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] فإذا أصلحوا بدل أن كانوا مفسدين فهذا الشرط الثاني.

قوله: {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي: توكلوا عليه ولم يلجئوا إلى غيره؛ لأن المنافقين من ديدنهم الرجوع إلى الكفار، وتعظيمهم الكفار، والإعتصام بهم، فهنا يعتصمون بالله بدلًا عن اعتصامهم بالكافرين.

قوله: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} {دِينَهُمْ} أي: عبادتهم لله عز وجل، فلم يجعلوا مع الله شريكًا فيه، وقد سبق أن من صفات المنافقين أنهم يراءون الناس، فإذا أزالوا هذه الخصلة {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} .

قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} فلن يصلوا إلى درجة المؤمنين ومنزلة المؤمنين إلا بهذه الأوصاف الأربعة:

الوصف الأول: التوبة من النفاق.

الثاني: الإصلاح.

الثالث: الإعتصام بالله.

الرابع: إخلاص الدين لله.

ص: 375

ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} لم يقل: "وسوف يؤتيهم" بل قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} ليشملهم وغيرهم، وليكونوا هم ضمن المؤمنين، ولم يستحقوا هذا الوعد على انفرادهم.

{أَجْرًا} أي: ثوابًا، وسمى الله الثواب أجرًا تفضلًا منه، كأنه بمنزلة أجرة الأجير التي لا بد أن يعطى إياها.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن المنافق تقبل توبته، لكن لن يكون مع المؤمنين حتى يتصف بالصفات الأربع، المذكورة في الآية، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فقال بعض العلماء: لا تقبل توبة المنافق؛ لأنه لم يظهر منه إلا الإِسلام أصلًا، فهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، فإذا قالوا: إنهم آمنوا وتركوا النفاق فهذا هو ما كانوا يقولونه بالأول، وينكرون النفاق، وعلى هذا فلا تقبل توبتهم، بل يقتلون وأمرهم إلى الله، إذا كانوا صادقين فالله عز وجل يوم القيامة يجزيهم بصدقهم، وأما إذا كانوا كاذبين فلهم النار، لكننا نحن في الدنيا لا نقبل توبتهم.

ولكن الصحيح أن توبتهم مقبولة، إلا أنه يتحرى فيها ما لا يتحرى فيمن كفره صريح؛ لأن من كفره صريح يصرح إما كافر وإما مؤمن، ولا يظهر أنه مؤمن وهو كافر، لكن البلاء هو المنافق، ولهذا لا بد أن نتحرى ونرصده ذاهبًا وراجعًا.

2 -

أنه لا بد لمن أفسد أن يصلح مقابل إفساده، ولا تكفي التوبة المجردة، فلا بد من إصلاح ما أفسد.

وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن المبتدع لا توبة له؛

ص: 376

لأنه أفسد أممًا اتبعوه على بدعته فمن يصلح هذه الأمم؟ ! وعلى هذا فلا توبة له، ولكن الصحيح أن له توبة، وأن إصلاحه ما أفسد أن يعلن الرجوع عما كان من الفساد، وأن يدعو إلى الإصلاح.

ولهذا يقال: إن أبا الحسن الأشعري رحمه الله، لما تاب من الإعتزال قام يوم الجمعة على الكرسي، ووضع عمامته، وقال: أما بعد: فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان .. ثم صرح برجوعه عن الإعتزال، وصار يرد على المعتزلة، فمثل هذا الرجل الذي كان مبتدعًا معتزليًا، توبته مقبولة؛ لأنه أصلح ما أفسد، ولهذا كان خطر البدعة عظيمًا لما يحصل بها من الفساد.

3 -

أن من كان معتصمًا بغير الله فإن من تحقيق توبته أن يعدل عن الإعتصام بغير الله إلى الإعتصام بالله؛ لأن الداء يداوى بدواء مقابل، فالإعتصام بغير الله شرك، يداوى بالإعتصام بالله عز وجل، ولكل داء دواء يناسبه.

4 -

أن من تمام التوبة إخلاص المشرك؛ لقوله: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} والمنافقون عندهم إشراك؛ لأنهم يراؤون الناس، {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} .

5 -

أن من اتصف بهذه الصفات فإنه يكون مع المؤمنين، ولو كان قبل ذلك منافقًا؛ لأن هذه الصفات تنتشله من النفاق إلى الإيمان، فهذه معية المؤمنين لا شك أنها منزلة عالية، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].

ص: 377

6 -

وعد المؤمنين بما هو أصدق الوعود، وهو قوله:{وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} ، وهذا التزام من الله سبحانه، التزم على نفسه أن يثيب المؤمنين بالأجر العظيم، وهذا الأجر العظيم يكون في الدنيا، ويكون في الآخرة، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

* * *

* قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].

{مَا} هنا استفهامية؛ يعني: أي شيء يفعله الله بعذابكم؟ ! قوله: {إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} أي: أنكم إذا شكرتم الله عز وجل على نعمه، وقمتم بطاعته، وآمنتم فإن الله لن يعذبكم؛ لأنكم لا تستحقون العذاب حسب وعده، فأي شيء يفعله الله بكم إذا قمتم بشكره والإيمان به؟ !

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} شاكرًا لمن يستحق الشكر من عباده القائمين بأمره، كما قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].

وقوله: {عَلِيمًا} أي: عليمًا بمن يستحق الشكر من عباده، وهم الذين قاموا بطاعته.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الله سبحانه غني عن عذاب الخلق إذا قاموا بالشكر والإيمان.

2 -

أن من لم يشكر الله، أو من لم يؤمن به فإنه عرضة

ص: 378

للإنتقام والعذاب؛ لأن الله سبحانه نفى العذاب عمن شكر وآمن، وهذا يدل على أن من لم يشكر ويؤمن فإنه معرض لعقابه، وهذا هو الواقع، قال الله تبارك وتعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 25].

3 -

إثبات هذين الإسمين من أسماء الله وهما: الشاكر والعليم.

فإذا قال قائل: كيف يشكر الله عباده؟ قلنا: بأن يثيبهم على ما عملوا، أكثر مما عملوا، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

مسألة: معاملة الكفار في التجارة ليست ولاية، الولاية: المناصرة، والإعتماد عليهم، وكونه يخشى من معرتهم، وأما الإتجار فلا بأس، لكن لا شك أن الإنسان إذا دار الأمر بين أن يتاجر مع كافر أو مع مؤمن لا شك أن التجارة مع المؤمن أولى.

مسألة: في بعض البلاد التي يتواجد فيها الكفار ويعملون هناك، مع الوقت يصبح المسلم لا يبغضهم، وقد - مع العادة - يذهب ما في قلبه من بغض الكفار، فقد يصادقهم، فهل هذا داخل في أنه يواليهم؟

الجواب: نعم، ولا شك أن هذا عنده خلل في الدين؛ لأن هذا نوع من الولاء، والواجب أن أعاملهم لمصلحتي أنا لا لمصلحتهم هم، وأن أعاملهم بمعاملة دون أن يصل أثرها إلى القلب، وإلا فمن المعلوم أن الإنسان إذا أحسن إليه أحد سيحبه، فلو عجز مثلًا الأطباء المسلمون عن معالجة هذا المريض، وهذا

ص: 379

الطبيب الكافر عالجه فبرئ بإذن الله، لا شك أنه سيقع في قلبه محبة لهذا الرجل، لكن ليست محبة تصل إلى محبة الدين، إنما هي محبة طبيعية، أن الإنسان يحبه لأنه أحسن علاجه.

* * *

* قال الله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)} [النساء: 148].

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} هذه الجملة جملة خبرية منفية، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} ، و {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} معناه أن يقول: فلان ظلمني، فلان أخذ حقي، وفلان جحدني وما أشبه ذلك، فالله لا يحب هذا، إلا من ظلم بأخذ حقه أو عدوان عليه، فإن محبة الله لا تنتفي في حقه، مثال المظلوم: لو أن إنسانًا آذاه جاره فصار يتكلم عند الحاكم، أو عند الأمير، أو من يستطيع أن يزيل مظلمته، ويجهر بهذا السوء، وليس المراد بالجهر أن يصوت بين الناس، وإنما المراد أن يبينه لغيره، فإن هذا المظلوم له أن يقول ذلك.

ومن هذا النوع قصة الجار الذي كان يؤذيه جاره، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج متاعه من بيته، فيمر الناس به فيقولون ما هذا؟ فيقول: آذاني جاري، فصار في هذا فضيحة للجار بالفعل.

ومن الجهر بالسوء ممن ظلم أن يسبك إنسان أمامك، ويقول: أنت بخيل، أنت جبان، أنت سفيه، وما أشبه ذلك، فلك أن ترد عليه بما وصفك به من العيب، فتقول: السفيه أنت، الجبان أنت، البخيل أنت، كما قال بدون زيادة؛ لقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]،

ص: 380

ولقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، ولقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)} [الشورى: 41 - 42]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم"

(1)

.

فكل هذه النصوص تدل على أنه يجوز الجهر بالقول ممن كان مظلومًا، ومن ذلك ما يفضيه الإنسان إلى صديقه ورفيقه في شكاية الحال، كما لو أن إنسانًا ظلمه شخص وجاء إلى صديقه يتحدث، ويقول: فلان فعل بي كذا .. وفعل بي كذا .. وفعل بي كذا .. ومن ذلك أيضًا: الزوجة تشكو ما يحصل من زوجها إلى أخواتها أو إلى أمها، وما أشبه ذلك؛ لأن كل هؤلاء مظلومون، وقد استثنى الله تعالى من ظلموا.

ومن ذلك إذا قال: لعنك الله، فقل: لعنك الله أنت؛ لأن هذا اعتداء بمثل ما اعتدى عليك، وعلى هذا نقول: إن {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} إذا كان من مظلوم فإن محبة الله لا تنتفي عنه، وهذا من نعمة الله عز وجل أن رفع الحرج عنها؛ لأن الله إذا كان لا يحب {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} حتى من المظلوم صار في هذا حرج؛ لأن المظلوم يكاد يتشقق صدره حتى يتحدث عما في صدره من الظلامة، فيخف عليه الأمر.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} {سَمِيعًا} لأقوالكم، {عَلِيمًا}

(1)

رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن السباب، حديث رقم (2587) عن أبي هريرة.

ص: 381

بما في قلوبكم، يعني: فاحذروه، احذروا أن تقولوا ما لا يرضاه، واحذروا أن تخفوا في صدوركم ما لا يرضاه.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات المحبة لله؛ أي: أن الله يحب، ووجه الدلالة: أننا استدللنا على الإثبات بالنفي؛ لأن هذا النفي خص بحال معين، فيكون دليلًا على أن ما سوى ذلك تثبت به المحبة، ومحبة الله عز وجل للعبد هي غاية ما يتمناه الإنسان، وأكمل مراتب الإنسان، ولهذا قال الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ولم يكن الجواب على ما يتوقع من أن يقال: "فاتبعوني تصدقوا في دعواكم"، بل قال:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وهذا هو الغاية.

ومحبة الله عز وجل تنال بهذا الشرط، وهو شرط يسير لمن يسره الله عليه، نسأل الله أن ييسره لنا، وهو: اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرًا وباطنًا، في العقيدة والقول والفعل، فإذا حققت ذلك فإن محبة الله سوف تنالك، وأنكر قوم محبة الله كالأشاعرة، ونسأل الله أن يعفو عن الأموات منهم وأن يهدي الأحياء، أنكروا المحبة، وقالوا: إن الله لا يحب، لكن إنكارهم إياها ليس إنكار جحود، إذ لو كان إنكار جحودٍ لكفروا؛ لأنه تكذيب لما أثبته الله لنفسه، لكنه إنكار تأويل قصدوا به تنزيه الله، لكنهم ضلوا، فقالوا: إن المحبة لا تقع إلا بين متجانسين، والله عز وجل مباين للخلق، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وقالوا: إن المحبة التي جاءت في الكتاب والسنة هي

ص: 382

الإحسان، ففسروها بأمر بائن منفصل عن الله، أو هي إرادة الإحسان؛ لأن الإرادة عندهم ثابتة لله عز وجل، فيقال لهم: هل الإحسان إلا ثمرة المحبة، وهل إرادة الإحسان إلا ثمرة المحبة؛ لأن الله لا يحسن إلى من لا يحب إلا على سبيل الإستدراج، ولهذا إذا رأيت الله ينعم على العبد مع إقامته على معاصيه فاعلم أن ذلك استدراج:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)} [الأعراف: 182].

إذًا: عقيدتنا أن الله عز وجل يُحِب، وأنه يُحَب جل وعلا، وأن محبته أعلى المراتب وأفضل المنازل.

2 -

حسن الإِسلام، وأنه يدعو إلى التراضي وعدم الجهر بالسوء، وأن لا نفضح أحدًا بسوئه، ولهذا كانت الغيبة من كبائر الذنوب، وهي ذكرك أخاك بما يكره.

3 -

عدالة الإِسلام، ووجه ذلك: أنه رخص للمظلوم أن يجهر بالقول، لكن بحسب مظلمته ولا يزيد، فإن زاد فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"على البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم"

(1)

.

4 -

أن الدين الإِسلامي لا يكبت النفوس، بل يوسع لها ويشرح الصدور، ويدخل السرور، ولهذا نهي الإنسان أن يتعرض لما فيه الغم والهم، والوساوس والأوهام، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الذي يشكُ هل خرج منه ريح أو لا:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"

(2)

والمعنى حتى يتيقن

(1)

تقدم ص 381.

(2)

رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، =

ص: 383

يقينًا مثل الشمس، أما مجرد التخيل أنه خرج من بطنه شيء، أو من دبره شيء، أو من قبله شيء، فهذا يجب أن يطرح، لئلا يقع الإنسان في تذبذب وتردد.

والدين الإسلامي يريد منك أن تكون دائمًا مبسوطًا، وفي سرور، وجه ذلك: أنه رخص للمظلوم أن يجهر بالسوء بقدر مظلمته؛ لأن ذلك تنفيس عن نفسه بلا شك.

5 -

إثبات هذين الإسمين لله عز وجل وهما: السميع والعليم، أما السميع فقال العلماء: إنه ينقسم إلى قسمين: سمع بمعنى: إدراك المسموع، وسمع بمعنى: الإستجابة، والسمع الذي بمعنى إدراك المسموع يتنوع أيضًا، فتارة يراد به بيان إحاطة الله تعالى بكل مسموع، وتارةً يراد به التأييد والنصرة، وتارةً يراد به التهديد على حسب ما تقتضيه الحال والسياق.

فمن الأول: قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] وهذه المرأة كانت في حجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الأرض، والرب عز وجل في السماء فوق عرشه، وتقول عائشة:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كنت في الحجرة وإنه ليخفى علي بعض حديثها"

(1)

والله قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} ، {وَاللَّهُ يَسْمَعُ

= ومسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، حديث رقم (362) واللفظ له.

(1)

علقه البخاري (6/ 2689)؛ ووصله النسائي، كتاب الطلاق، باب الظهار، حديث رقم (3460)؛ وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار، حديث رقم (2063)؛ وأحمد (6/ 46).

ص: 384

تَحَاوُرَكُمَا} فهذا سمع يراد به بيان إحاطة الله بكل مسموع.

وتارةً يراد به التأييد والنصرة، مثل قول الله تبارك وتعالى: لموسى وهارون {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] يعني: فأؤيدكما وأنصركما.

وقد يراد بذلك في هذه الآية التهديد أيضًا، وهو تهديد فرعون، وأما الذي للتهديد فمثل قوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وهؤلاء اليهود، قالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} قال تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] وهذا لا شك أن المقصود به التهديد، وكذلك قوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80] فهو مسموع مكتوب، وستكون القراءة يومِ القيامة قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 13، 14].

قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك، خذ هذا الكتاب اقرأه وحاسب نفسك.

القسم الثاني من أقسام السمع: سمع الإستجابة؛ أي: أن الله يستجيب، وذلك فيما إذا أضيف إلى الدعاء أو نحو ذلك، مثل قوله تعالى:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] أي: لمجيبه، وليس مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن الله يسمع دعاءه فقط؛ لأن سماع الدعاء لا شك أنه كمال، وأن الله تعالى مدرك لكل مسموع، لكن المقصود من دعاء الداعي الإستجابة،

ص: 385

فيكون معنى سميع الدعاء أي: مستجيب الدعاء، قالوا: ومن ذلك قول المصلي: سمع الله لمن حمده؛ أي: استجاب، وهذا حق، ويؤيد ذلك أنه عُدِّي باللام، "سمع الله لمن حمده"، ولو كان المراد إدراك الحمد، أو إدراك قول الحامد، لقال: سمع الله من حمده.

أما العليم فهذا أوسع شيء، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء جل وعلا، محيط بالظاهر والباطن، بالماضي والمستقبل، بالواجب والممكن والمستحيل، ولهذا لا شيء أعم من العلم فيما يحضرني الآن، فالعلم شامل جدًا، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل.

ومن ذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام: حين سأله فرعون ما بال القرون الأولى {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52] سبحان الله! {لَا يَضِلُّ} جهلًا {وَلَا يَنْسَى} ذكرًا، بل هو جل وعلا عالم بكل شيء، ولا ينسى الماضي، بينما العالم سوى الله أهل للنسيان، كذلك علم الله عز وجل محيط بالظاهر والباطن:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ولا شيء أخفى من هذا، فما توسوس به نفسك وتحدثك به فالله تعالى يعلم به، وأما الظاهر فظاهر علم الله به، وكذلك علم الله محيط بالواجب والممكن والمستحيل.

أما المستحيل: فقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] هذا خبر عن علم، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكون في السموات والأرض آلهة سوى الله، ومستحيل

ص: 386

غاية الإستحالة، فهذا خبر عن مستحيل صادر عن علم.

أما العلم بالواجب: فعلم الله تعالى بنفسه، وبماله من الأسماء والصفات، فإن هذا من العلم بالواجب، وهو أعلم بنفسه من غيره.

وأما تعلقه بالممكن: فعلمه بما يحدث في الكون، فكل ما يحدث في الكون غير ما يتعلق بالله عز وجل، فهو ممكن؛ لأن الكون كله حادث بعد أن لم يكن "كان الله تعالى ولم يكن شيء قبله"

(1)

، وفي لفظ:"لم يكن شيء غيره"

(2)

، فكل الكون حادث، وقابل للزوال؛ لأن كل حادث قابل للزوال، بدليل عدمه قبل وجوده، وكلمة "قابل" ليس معناها أن كل موجود فانٍ، لكنه قابل للفناء، وإنما قلنا ذلك لئلا يرد علينا مسألة الروح، فالروح مخلوقة بعد العدم، لكنها باقية لا تفنى، والولدان والحور في الجنة مخلوقة، ولكنها لا تفنى، بل تبقى أبد الآبدين، والجنة أيضًا مخلوقة وتبقى أبد الآبدين، والنار مخلوقة وتبقى أبد الآبدين؛ ولهذا نقول: كل موجود قابل للزوال لا أنه زائل؛ لأن من المخلوقات شيئًا لا يزول، لكن كونه حادثًا بعد أن لم يكن دليل على أنه من أقسام الممكن القابل للعدم والوجود.

ووجه ذلك: أنه لو لم يكن قابلًا للوجود لم يوجد، ولو لم يكن قابلًا للعدم لم يعدم أولًا.

المهم: أن علم الله محيط بكل شيء، وإيماننا بعلم الله ليس أن نؤمن بهذه الصفة العظيمة الواسعة الشاملة، لكن المهم

(1)

رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم (7418) عن عمران بن حصين.

(2)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ

} (3192) عن عمران بن حصين.

ص: 387

أن نحذر من أن يعلم في قلوبنا ما لا يرضاه عنا، أو أن يعلم من أفعالنا ما لا يرضاه عنا، أو من أقوالنا ما لا يرضاه عنا، أو مما نترك ما لا يرضاه عنا، هذا هو المهم، ولهذا يجب أن يركز طالب العلم على الفوائد المسلكية التي تستفاد من أسماء الله وصفاته، لا على أقسامها وتقسيمها وعمومها وشمولها، وأهم شيء أن تُعدل من منهجك ومسلكك، ولهذا قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أن تعبدوه بمقتضى هذه الأسماء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاهما دخل الجنة"

(1)

ومن إحصائها التعبد لله بمقتضاها، وفقنا الله إلى ذلك.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149].

{إِنْ تُبْدُوا} هذه جملة شرطية، وجواب الشرط قيل: إنه محذوف، وقيل: إنه قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ، وهذه الجملة وإن كان ظاهر الحال أنه لا رابط بينها وبين الشرط، لكنها تدل عليه، وسنتكلم إن شاء الله عن ذلك.

قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ} ، {تُبْدُوا} أي: تظهروا، وعرفنا أن الإبداء بمعنى الإظهار من ذكر مقابله، وهو قوله: {أَوْ

(1)

رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدًا، حديث رقم (6957)؛ ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، حديث رقم (2677) عن أبي هريرة.

ص: 388

تُخْفُوهُ} وهذه قاعدة مفيدة في التفسير، أنه ربما يخفى عليك معنى بعض الكلمات، فتنظر إلى ما يقابلها، فقوله تعالى:{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] لو أن أحدًا سأل ما معنى {ثُبَاتٍ} لعرفت معناها من ذكر مقابلها، وهو قوله:{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} فيكون معنى {ثُبَاتٍ} أي: فرادى، إذًا: المعنى إن تظهروا خيرًا أو تخفوه فلن تعدموا أجره، فسوف تؤجرون عليه؛ لأن الخير مطلوب ونافق، سواءً كان مبدى، أو مخفي.

في مقابل ذلك قوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} ، قوله:{تَعْفُوا} العفو هو الإبراء من التبعة، فالمعنى {تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} أي: تبرئوا من أساء إليكم من تبعة سوئه.

وقوله: {عَنْ سُوءٍ} أي: عما يسوء من قولٍ أو فعل.

قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} أي: أنه ذو عفو مع القدرة على الإنتقام ممن أساء إليه، فإذا كان الله تعالى عافيًا عمن أساء مع القدرة، فأنتم من باب أولى أن تعفوا؛ لأنكم ليس لديكم القدرة في الإنتصار للنفس، والإنتقام من المجرم كالذي عند الله عز وجل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الخير خير، سواء أبدي أو أخفي، فإن قيل: أيهما أفضل الإبداء أو الإخفاء؟

الجواب: قد يقول القائل: الإخفاء أفضل، وهنا قد يعارض قوله: كون الله بدأ بالإظهار فقال: {إِنْ تُبْدُوا} ، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، ولكن الذي يظهر أن ذلك راجع إلى المصلحة، فإن كانت المصلحة في الإبداء أظهر، مثل أن يكون رجلًا ذا

ص: 389

أسوة إذا أظهر ما عنده من خير تأسى به الناس، وفعلوا فعله فهذا طيب، سواء كان ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص، بأن يتصدق على شخص معين حتى يراه الناس أنه تصدق عليه، فيقتدوا به؛ لأن كثيرًا من الناس لا يتصدق على أحد إلا إذا علم أن الجهة الفلانية تصدقت عليه، كجمعية البر الخيرية مثلًا.

إذًا نقول: الإبداء والإخفاء يرجع إلى المصلحة، فإن لم تظهر المصلحة الراجحة في الإبداء فالإخفاء أفضل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يظلهم الله في ظله:"ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"

(1)

.

2 -

أن الإحسان إلى الغير إما بإعطاء الخير ظاهرًا أو خفيًا، وإما بدفع السوء وذلك بالعفو عنه، لقوله:{أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} فالعفو عن السوء خير، فيستفاد من ذلك فضيلة العفو عن السوء.

ولكن لا نقول: إن العفو أفضل مطلقًا، بل تبع المصلحة، ولهذا قيد الله العفو في مكان آخر بقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فإذا كان في العفو إصلاح فهو أفضل، وإن كان في العفو إفساد فالإنتصار أفضل، فمثلًا لو كان هذا الرجل شريرًا، فلو عفونا عنه لازداد في شره واعتدائه على الناس، فهنا الإنتصار أفضل، أولًا: لإعطاء النفس حظها؛ لأن النفس تحب أن تنتصر ولا شك.

(1)

رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، حديث رقم (629)؛ ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم (1031) عن أبي هريرة.

ص: 390

وثانيًا: لكف شره عن الناس، فيكون هنا الإنتصار أفضل، وأما إذا تساوى الأمران فلا شك أن العفو أفضل، أولًا: لما فيه من الإحسان إلى المسيء.

وثالثًا: أن الله تعالى يحب العافين عن الناس.

3 -

الإشارة إلى أنك إذا عفوت عن الخلق عفوًا في محله فأبشر بعفو الله، لقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} يعني: فمتى عفوتم عفا الله عنكم، وهذا له شواهد كثيرة في الشريعة، منها قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(1)

، ومنها:"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"

(2)

، ومنها:"الجزاء من جنس العمل"

(3)

، والشواهد على هذا كثيرة.

4 -

فضل الله سبحانه بالعفو عن حقه، حتى إنه جل وعلا يغفر لمن لا يشرك به شيئًا، تفضلًا؛ لأن الله قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] حتى وإن عظمت الذنوب فإن الله تعالى يغفرها إن شاء، فضلًا منه.

5 -

أن عفو الله تعالى أكمل أنواع العفو؛ لأنه عفو مع القدرة، لقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} ، ويتولد من الجمع بين

(1)

رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والإستغفار، باب فضل الإجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم (2699).

(2)

رواه البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث رقم (2310)؛ ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (2580) عن ابن عمر.

(3)

لم يرد هكذا، ولكن معناه صحيح ففي التنزيل هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. انظر: الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث 141.

ص: 391

العفو والقدرة صفة الكمال، وهو أن الله سبحانه عفى مع القدرة على الإنتقام، وهذا هو العفو الحقيقي، أما العفو مع العجز عن الإنتقام فليس بعفو، فلو أن أحدًا اعتدى عليك وهو أقوى منك بدنًا، وأضخم منك جسمًا، ففكرت وقلت: إن أخذت بحقي فأخشى أن يزيد في الضرب والعدوان، لكن يا فلان! الله يسامحك، فهذا عفو مع العجز، فإن كان فيه احتمال أن يأخذ بحقه فله أجر بقدر هذا الإحتمال، وإن لم يكن احتمال فليس له أجر، اللهم إلا أن يكون بإدخال السرور على المعتدي، فيما لو ارتدع عن العدوان وفكر، فإذا هو يشعر بأن المعتدى عليه قد سامحه فيطمئن قلبه، فهنا قد يؤجر.

6 -

إثبات هذين الإسمين من أسماء الله وهما: العفو والقدير، فيدلان على إثبات صفة العفو والقدرة؛ لأن القاعدة في باب الأسماء والصفات: أن كل اسم متضمن لصفة، ولا عكس.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)} [النساء: 150 - 151].

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} والكفر بالله ورسله: أن يكفر الإنسان بما يجب الإيمان به، سواء كان كفرًا بوجود الله، أو كفرًا بربوبيته، بأن ادعى بأن معه ربًا، أو كفرًا بألوهيته بأن عبد معه غيره، أو كفرًا بأسمائه وصفاته بأن أنكرها وجحدها، المهم الكفر بالله: هو جحد ما يجب الإيمان به في جانب الله،

ص: 392

قوله: {وَرُسُلِهِ} ، كذلك جحد ما يجب نحوهم، فهذا الكفر بالرسل.

قوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} فالذين لا يؤمنون بالرسل يكفرون بالله عز وجل، والذين يكفرون ببعض الرسل يكفرون بجميعهم عليهم السلام.

وقوله: {وَيُرِيدُونَ} أي: يهمهم أن يفرقوا بين الله ورسله، فيؤمنون بالله ويكفرون بالرسل، أو يؤمنون بالرسل بعضهم دون بعض، كما قال:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} وهذا كثير، فمثلًا: النصارى يدعون أنهم يؤمنون بالله، ويدعون بأنهم يؤمنون بعيسى وموسى عليهما السلام ومن سبقهما، هكذا يقولون، لكن يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الرسل، ففرقوا بين الله ورسله، وآمنوا بالله وكفروا بالرسل، وفرقوا كذلك بين الرسل، فآمنوا ببعضهم وكفروا ببعضهم.

قوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي: طريقًا يوصلهم إلى الله، فيظنون أنهم بهذا العمل سلكوا طريقًا حسنًا يوصلهم إلى الله عز وجل، ولكنهم كما قال الله تعالى:{ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 104، 105].

قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} ، {أُولَئِكَ} مبتدأ، وقوله:"هُمْ" ضمير فصل.

فإن قال قائل: أفلا يجوز أن تكون مبتدأ ثانيًا و {الْكَافِرُونَ} خبر المبتدأ، والجملة خبر المبتدأ الأول؟ قلنا: هذا جائز، لكنه خلاف الأولى؛ لأن ظاهر القرآن أن ما بعده خبر ما قبله، قال الله

ص: 393

تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} [الشعراء: 40] ولم يقل: "هم الغالبون" فدل هذا على أن مثل هذا التركيب تكون فيه "هُم" ضمير فصل لا محل له من الإعراب.

الثاني: أننا إذا قلنا: إن "هم" ضمير فصل لا محل له من الإعراب؛ صرنا لا نفتقر إلى جملة تكون خبر المبتدأ، وصار المبتدأ والخبر جملة واحدة، والأصل في الأخبار أنها مفرد لا جملة، إذًا قوله:{هُمُ} ضمير فصل، وضمير الفصل يفيد ثلاثة أشياء:

أولًا: التوكيد.

ثانيًا: الحصر.

ثالثًا: التمييز بين الخبر وبين التابع؛ لأنه إذا جاء ضمير الفصل تعين أن ما بعده خبر، وإذا لم يأت احتمل أن يكون خبرًا وأن يكون تابعًا، فإذا قلت:"زيد الفاضل في الدرس" فهنا يحتمل أن "الفاضل" صفة، فيكون المعنى: زيد الفاضل في الدرس حاضر، فإذا قلت:"زيد هو الفاضل في الدرس" تعين أن تكون خبرًا، وحصرته في الفضل، فقلت: زيد هو الفاضل ومحله في الدرس.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} ، {حَقًّا} هذه منصوبة، وإعرابها مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ومضمون الجملة قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فأثبت الله لهم أنهم الكفار حقًا، فتأتي {حَقًّا} مؤكدة لمضمون الجملة، وذلك لأن أحقية هؤلاء للكفر مفهومة من قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فإذا جاءت {حَقًّا} صارت مؤكدة لمضمون الجملة، وصار عاملها محذوفًا وجوبًا،

ص: 394

فلا يصح أن يقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "أُحق ذلك حقًا"، وذلك لأنها مؤكدة لمضمون الجملة، فكانت مضمون الجملة كأنها الفعل المحذوف، ولا يجمع بين هذا وهذا.

ولهذا ذكره ابن مالك وغيره من العلماء: أن المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله يجب حذف عامله.

قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} ، {وَأَعْتَدْنَا} أي: هيأنا، فهي بمعنى: أعددنا، قال الله تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران: 131] وهنا قال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} وفي هذا السياق {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} خروج عن مقتضى السياق، إذ مقتضى السياق أن يقال:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا} لهم؛ لأنه متى أمكن الإتيان بالضمير فإنه لا يؤتى بغيره، فإن ذكر الضمير أوضح في الجملة وأخصر، لكن هنا عدل عن الإتيان بالضمير إلى الإتيان بالظاهر المطابق لوصفه، فما هي البلاغة في هذا؟

الجواب: البلاغة: أن هذا إظهار في مقام الإضمار، والإظهار في مقام الإضمار له فوائد وهي: إرادة العموم؛ لأنه إذا قال: "أعتدنا لهم عذابًا مهينًا"، صار هذا خاصًا بهم، لكن قوله:{أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} فكل كافر سواء هؤلاء أو غيرهم.

الفائدة الثانية: تطبيق الوصف على مرجع الضمير الذي لولا هذا الظاهر لكان موجودًا، فأين مرجع الضمير لو كان هناك ضمير؟

الجواب: هؤلاء الذين قالوا: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} ، ومثل ذلك قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ

ص: 395

وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 98] لم يقل: عدوًا له الذي هو مقتضى السياق.

الفائدة الثالثة: مراعاة فواصل الآيات.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

غلبة الهوى على كثير من الناس؛ لأن هؤلاء الذين يفرقون بين الله ورسله أو يؤمنون ببعض الرسل دون بعض، لا يحملهم على ذلك إلا الهوى، فاليهود يقولون: لا نؤمن بغير موسى، والنصارى يقولون: لا نؤمن بغير عيسى، لمجرد الهوى.

2 -

أن الكفر ببعض الرسل كفر بالجميع لقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} ، ويدل على هذا أيضًا قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} [الشعراء: 105] مع أن نوحًا كان أول الرسل، ومع ذلك جعل تكذيب قومه له تكذيبًا لجميع الرسل؛ لأن التكفير بالرسول كأنه تكفير بالجنس أي: بجنس الرسالة، وإلا فما الفرق بين محمد، وعيسى، وموسى، وإدريس ونوح عليهم السلام، وما أشبه ذلك؟

3 -

أن هؤلاء المفرقين يقولون: إننا نتخذ ذلك سبيلًا، يعني: لنرضي هؤلاء وهؤلاء، وهذا لا ينجيهم من عذاب الله، ولا ينجيهم من الكفر.

4 -

ذم تلك الطريقة أي: الإيمان بالبعض دون البعض، وإن هذا منهج قبيح، فيتفرع على هذا ذم أهل الكلام الذين أرادوا أن يجمعوا بين الدليل السمعي والعقلي في صفات الله، وقالوا: إننا أخذنا بهذا وهذا، من أجل التوفيق بين الأدلة، وهم خالفوا الأدلة كلها، فهم أرادوا الجمع بين دليل السمع والعقل، ولكنهم

ص: 396

في الحقيقة خالفوا السمع والعقل كما هو معروف من مناظرتهم والرد عليهم.

5 -

وعيد الكفار بالعذاب المهين.

6 -

أن الجزاء من جنس العمل؛ لأنهم إنما فرقوا بين الرسل استكبارًا وهوى، فأعد لهم العذاب الذي يهينهم ويخذلهم، ولهذا قال:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} .

7 -

أن الإظهار في موضع الإضمار لا يعد تطويلًا بلا فائدة، وجه ذلك: أن الضمير أخصر من الظاهر، فلا يقول القائل: إن الإتيان بالظاهر في موضع الضمير تطويل وزيادة بلا فائدة، بل نقول: هو فائدة، وقد ذكرنا فيما سبق أن من فوائد الإظهار في موضع الإضمار قصد العموم، وتطبيق الوصف على أولئك الذين يعود الضمير عليهم لو كان موجودًا، وكذلك بيان عليه الحكم، فمثلًا: في قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} لو قال: "أعتدنا لهم" لم يتبين لماذا أعد لهم هذا العذاب، لكن لما قال:{لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} كأن هذا الوصف يفيد العلية؛ أي: أن العلة في إعداد العذاب المهين لهم هو الكفر.

* * *

* قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} [النساء: 152].

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لما ذكر الله عز وجل حال الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ذكر حال الذين يجمعون في الإيمان بين الجميع، والقرآن هكذا! إذا

ص: 397

ذكر حالًا ذكر ما يضادها، إذا ذكر عقوبة ذكر المثوبة؛ لأنه مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بهذا ثم بهذا، ولأن التنويع مما يشد النفس والذهن إلى ما يتلى أو يسمع؛ ولأجل أن يكون سير الإنسان إلى الله عز وجل بين طرفي النقيض: الإفراط والتفريط؛ لأن الإنسان لو غلب جانب الرجاء لحصل له الأمن من مكر الله، ولو غلب جانب الخوف لحصل عليه القنوط واليأس من رحمة الله.

قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الإيمان بالله سبق عدة مرات ماذا يتضمن، والإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام كذلك، فإنه يقتضي الإيمان بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله عز وجل، وأما الإيمان بشرائعهم فإن الشريعة الإِسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم نسخت جميع الشرائع، لكن نؤمن بأن شرائعهم من عند الله عز وجل.

قوله: {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} في أصل الإيمان لا في العمل، ففي أصل الإيمان نؤمن بالجميع، وأنهم كلهم رسالتهم حق من عند الله، أما العمل فقد قال الله تبارك وتعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ووجه ذلك: أن أصل الإيمان شيء واحد، وهو الإيمان بالواحد القهار عز وجل، وأما الشرائع فإنها تختلف باختلاف الناس وأحوالهم، والعموم والخصوص، فلهذا جعل الله لكل {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} حتى الشريعة الإِسلامية في أول أمرها ليست كالشريعة الإِسلامية في آخر الأمر، ففي أول الأمر ليس هناك صوم، ولا زكاة، ولا حج، ثم فرضت الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة؛ لأن الله عز وجل يشرع الشرائع حسب ما يليق بأحوال الناس.

ص: 398

وقوله: {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: في أصل الإيمان، فيقولون: إيماننا بمحمد، وإيماننا بنوح عليهما الصلاة والسلام على حد سواء، بمعنى: إننا نؤمن بأن الرسولين الكريمين وكذلك من بينهما من الرسل كلهم على حق ومن عند الله، وهذا في أصل الإيمان كما قلت، أما في الشرائع فتختلف.

قوله: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} ، {أُولَئِكَ} أتى باسم الإشارة هنا تعظيمًا لهم، وجاءت بصيغة البعيد لعلو منزلتهم.

وقوله: {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} ، سوف والسين تتناوبان على فعل المضارع كثيرًا، لكن هناك بينهما فرق، فالسين للتحقيق والتقريب، وسوف للتحقيق مع البعد، فهذا الفرق بينهما، وكلاهما يدل على التحقيق، لكن السين للقريب، وسوف للبعيد، فهل إيتاء أجورهم كان بعيدًا؟

الجواب: هو بعيد قريب، أما من جهة امتداده، وأن الله تعالى يجازيهم شيئًا فشيئًا، ثم يأتي الجزاء الأوفى في يوم القيامة فهو لا شك أنه بعيد، وأما كون كل آت قريب فهو قريب، كما قال الله تعالى:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17].

وقوله: {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: ثواب أعمالهم، وسمى الله ثواب الأعمال أجورًا تكرمًا منه وفضلًا منه عز وجل، فكأنه استأجر هؤلاء على عمل عملوه ثم أعطاهم أجرهم، كالإنسان يستأجر أناسًا ليبنوا له بناءً فإذا بنوه أعطاهم أجورهم، وهذا يعني أن الله عز وجل التزم وألزم نفسه سبحانه بأن يثيب هؤلاء، ولا مانع من أن يكون الله تعالى ألزم نفسه بما شاء كما قال تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

ص: 399

وقد قال الأول:

ما للعباد عليه حقٌ واجب

كلا ولا عملٌ لديه ضائعُ

إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا

فبفضله وهو الكريم الواسعُ

ولكن ابن القيم رحمه الله قيد هذا فقال:

ما للعباد عليه حقٌ واجبُ

هو أوجب الأجر العظيم الشأن

فجعل عليه حقًا واجبًا، لكن هو الذي أوجبه.

إن عذبوا فبعدله أو نعموا

فبفضله والفضل للمنان

فالحاصل: أن الله سمى الثواب أجرًا تكرمًا منه وفضلًا؛ كأن العاملين لأنفسهم عاملون له، إذا انتهى عملهم أوفاهم أجورهم.

وقوله: {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} لم يبين هنا مقدار الأجر، لكنه بينه في مواضع كثيرة في القرآن، وكذلك في السنة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} لما كان هؤلاء المؤمنون {بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لما كانوا قد يخطئون، ختم الله هذه الآية بقوله:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ولما كان هذا الإيمان المطابق من فضله ورحمته أردف المغفرة بالرحمة، فهؤلاء لا بد أن يقصروا، ولا أحد إلا يقصر، فختم الآية بالمغفرة، ثم هذا الإيمان الذي حصل لهم ليس بكسبهم، ولا من عمل أيديهم، ولكنه من رحمة الله عز وجل، فلذلك ناسب أن تختم الآية بالغفور الرحيم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن القرآن الكريم مثاني، إذا ذكر شيئًا ذكر ضده بالوجوه التي ذكرناها في الشرح.

ص: 400

2 -

أنه لا بد أن نؤمن بالله وجميع الرسل، ولكن كيف يكون الإيمان وبمن نؤمن؟

أما الإيمان فكيفيته: أن نؤمن بأصل الرسالة، وأنهم رسل حق من عند الله عز وجل، وأما الشرائع فتختلف، لكل منهم شرعة ومنهاج، أما من نؤمن به فيجب علينا أن نؤمن بكل من ذكره الله في القرآن باسمه، وعينه؛ لأنهم عينوا لنا، وما لم يعين فنؤمن به إجمالًا؛ لأننا نؤمن أن من الرسل من لم يقصصهم الله علينا، فنؤمن بهم إجمالًا.

3 -

أنه لا يجوز أن نفرق بين أحد منهم، وذلك في أصل الإيمان، وهل نفرق بينهم في الفضل ونقول هذا الرسول أفضل من هذا الرسول؟

الجواب: نعم، يجب علينا أن نفضل بينهم؛ لأن الله تعالى أخبر بذلك في كتابه، فقال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، وعلى هذا فسبب التفضيل ما حباهم الله به من المناقب والفضائل، وكثرة الأتباع وما أشبه ذلك، وهو توقيفي، لكننا إذا علمنا أن الله فضل هذا الرسول على ذاك، إما أن نعلم السبب ويتضح، وإما أن لا نعلمه، ولهذا قال العلماء: إن أولي العزم من الرسل خمسة: أولهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله الله على غيره لما له من المناقب العظيمة التي لم يدركها أحد، والفضائل التي خصه الله بها، والأتباع الذين لا يوجد مثلهم في جميع أتباع الرسل، بل هم ضعفا أتباع الرسل كلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الجنة عشرون ومئة صف، هذه الأمة منها ثمانون صفًا

(1)

، وهذا يعني أن

(1)

الحديث الوارد بلفظ: (أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم) وهذا الحديث عند ابن حبان في صحيحه =

ص: 401

هذه الأمة تعدل جميع الأمم وتزيد الضعف، ثم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهذان الرسولان الكريمان هما خليلا الرحمن، ولم تثبت الخلة فيما نعلم لأحد سواهما، ثم موسى لأنه عليه الصلاة والسلام كابد من المشقة مع فرعون ومع بني إسرائيل ما لم يتبين لنا في رسول سواه، بقي عندنا عيسى ونوح، أيهما أفضل؟ منهم من قال: إن نوحًا أفضل؛ لأن نوحًا عليه الصلاة والسلام بقي يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وحصل منهم من السخرية والإستهزاء به ما هو معلوم في القرآن والسنة، ومنهم من فضل عيسى؛ لأنه كابد بني إسرائيل، وبنو إسرائيل هم أشد الناس عتوًا وطغيانًا كما يظهر ذلك لمن تدبر القرآن والسنة، فحصل له مشقة إلى حد أن بني إسرائيل جعلوا أمه زانية، وجعلوا عيسى ولد زنا والعياذ بالله! قاتلهم الله! فحصل له عليه الصلاة والسلام من المضائق، وحصل له من المناقب والكرامات ما لم نعلم أنه حصل لنوح.

ولو قال قائل: إما أن نجعلهم على حد سواء، وإما أن نتوقف لكان هذا خيرًا؛ لأنه ليس هناك أشياء تميز تمامًا أيهما أفضل.

المهم: أن إيماننا بالرسل يدخل فيه الإيمان بما حباهم الله تعالى به من الفضائل، وأن نفضل بعضهم على بعض، وهذا لا يضر، ولكن إذا أدى هذا التفضيل إلى خصومة ونزاع، واحتقار رسولنا إذا فضلناه على رسول الآخرين، فإنه يجب التوقف والسكوت، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال:"لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"

(1)

مع أن يونس عليه الصلاة

= كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7566)، وكذلك أورده الحاكم في مستدركه كتاب الإيمان (248).

(1)

أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3416).

ص: 402

والسلام خرج مغاضبًا لقومه قبل أن يؤذن له بالخروج، ولهذا نجوا لما آمنوا حين جاءهم العذاب؛ لأن نبيهم لم يبق فيهم فأنجاهم الله، فالمهم: أنه لو قدر أننا نريد أن نفاضل بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وعندنا يهود ولو فضلنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لذهبوا يفضلون موسى عليه السلام، ويحتقرون محمدًا، فحينئذ يجب الكف عن ذلك.

4 -

أن الله وعد هؤلاء {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} بالأجور، {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} .

5 -

تمام منة الله سبحانه على العباد، حيث سمى الثواب أجرًا، ومن المعلوم أن الأجر ثابت لزومًا للمستأجر، والذي أوجب هذا الأجر هو الله تعالى، أوجبه على نفسه، وهذا يدل على تمام فضل الله عز وجل ومنته، أما كيف تكون هذه الأجور؟ فإن الله تعالى بينها في كتابه، وكذلك السنة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويختلف الأجر باختلاف الأشخاص، واختلاف النيات، واختلاف المتابعة، أما اختلافه باختلاف الأشخاص فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"

(1)

هذا لأنهم أصحابه، فهذا باعتبار الأشخاص.

(1)

رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذا خليلًا" حديث رقم (3470)؛ ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث رقم (2541) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 403

وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أيام الصبر "أن العامل فيهن له أجر خمسين من الصحابة"

(1)

، والمراد أن ما يلحقه من المشقة في العمل يقابل خمسين مرة من عمل الصحابة؛ لأن الصحابة كلهم مؤمنون، وكلهم مستقيمون، لكن أيام الصبر كل الناس على خلاف هذا الرجل الذي قام بطاعة الله، فهو غريب بينهم، ومن المعلوم أنه إذا كان غريبًا بينهم فسوف تشق عليه العبادة، فمن أجل ذلك صار للعامل فيهن أجر خمسين واحدًا من الصحابة، وهذا لا يعني الفضل المطلق على الصحابة؛ لأن هؤلاء فاقوا الصحابة في مشقة العمل عليهم، أما الفضل المطلق فهو للصحابة رضي الله عنهم.

ويكون أيضًا الأجر بحسب الإخلاص، فمن كان أخلص لله كان أكثر ثوابًا، حتى إن الله قال في الحديث القدسي:" أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(2)

وكذلك يختلف باختلاف المتابعة، فمن كان للرسول صلى الله عليه وسلم أتبع، كان أجره أكثر، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"

(3)

.

(1)

رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم (4341)؛ والترمذي، كتاب التفسير، باب سورة المائدة، حديث رقم (3058)؛ وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، حديث رقم (4014) عن أبي ثعلبة الخشني.

(2)

تقدم ص 265.

(3)

رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4607)؛ والترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع، حديث رقم (2676) عن العرباض بن سارية.

ص: 404

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله: الغفور الرحيم، الغفور في مقابل الذنوب، والرحيم في مقابل الثواب والحسنات؛ لأن المغفرة تتعلق بالذنب، والرحمة تتعلق بحصول المطلوب من الثواب والأجور.

* * *

* قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)} [النساء: 153].

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ} وفي قراءة {أَنْ} (تُنْزِل) ومعناهما واحد، والخطاب في قوله:{يَسْأَلُكَ} لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الخطابات الموجهة إليه على وجه الخصوص، فلا يتناول أمتهُ.

والخطاب الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام: إما أن يدل الدليل على أنه له وللأمة فهذا واضح، وإما أن يدل الدليل على أنه خاص به، فهذا أيضًا واضح على أنه خاص به، وإما أن لا تكون هناك قرينة تدل على هذا ولا على هذا، فالأصل أنه له، وأمته تبع له.

فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] هنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولهذا قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} ولم يقل: لك، وقوله:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1]{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} هذا يدل على أنه له وللأمة،

ص: 405

ومثل هذه الآية {يَسْأَلُكَ} الخطاب لهُ، وقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1] الخطاب له، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] الخطاب لهَ، وقوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الخطاب لهُ.

وقوله: {أَهْلُ الْكِتَابِ} أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، لكن اليهود في المدينة أكثر من النصارى بكثير، فيوجد نصارى لا شك، لكن اليهود أكثر منهم، وسبب كثرتهم في المدينة أنهم قرؤوا التوراة أنه يبعث نبي هو خاتم الأنبياء، وشريعته أكبر الشرائع، وأن مهاجره المدينة، فجاءوا من فلسطين إلى المدينة، ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: يقولون للمشركين: سيبعث نبي، ونكون أتباعًا له، ونغلبكم {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] فهذا هو سبب وجود ثلاث قبائل من اليهود في المدينة.

فأهل الكتاب هنا من حيث الأصل يشمل اليهود والنصارى، لكن أكثر ما يكون في المدينة هم اليهود.

قوله: {أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} هذا السؤال يحتمل أنه للتحدي، أو لإقامة البينة كما يدعون أنه ليس برسول؛ لأن الكتب السابقة كانت تنزل من السماء لا سيما التوارة، فإن الله كتب لموسى في الألواح من كل شيء، وأنزلها عليه، فكأنهم يقولون: إما أن تأتي بكتاب من السماء فنصدقك، وإما أن تكون كموسى ينزل عليه كتاب من السماء فتكون نبيًا، فالآية تحتمل هذا وهذا.

ص: 406

أما قريش فقالوا: لولا أنزل عليه ملك، قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 8، 9] وقوله: {لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} أي: بصورة الرجل؛ لأنه لا يمكن أن يكون ملكًا بصورة الملائكة ثم يخاطب البشر، فلو أن الله أرسل ملكًا إلى البشر لجعله بصورة البشر.

قوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} يعني: فلا تعجب أن يسألوك {أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} وعلى هذا فيكون قوله: {فَقَدْ} جملة معطوفة على مقدر، دل عليه السياق، والمعنى: إذا سألوا هذا فلا تستغرب، ولا تستكثر هذا السؤال {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} والذي سألوه قالوا:{أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} والعياذ بالله!

وهؤلاء هم القوم السبعون الذين اختارهم موسى، فقد اختار موسى من قومه سبعين رجلًا لميقات الله، فجاءوا لميقات الله، وسمعوا الله عز وجل يكلم موسى، سمعوه بآذانهم يكلم موسى، ومع ذلك لم يصدقوه {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} يعني: وإلا فلست بصادق، وهذا الذي يسمع ليس كلام الله، وماذا حصل لهم؟

قال الله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وماتوا في آن واحد، ولكن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يحييهم، {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155] فأحياهم الله، ثم صاروا في بني إسرائيل.

الحاصل أن هؤلاء قالوا قولًا أعظم مما طلبوا من

ص: 407

الرسول، {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} يعني: نراه بأعيننا، وهذا شيء مستحيل! من هم الذين يرون الله في الدنيا؟ ! الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يرون الله في الدنيا، فكيف بهؤلاء القوم العتاة المعاندين؟

فقول الله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} ؛ أي: أنهم صعقوا فهلكوا، وقوله:{بِظُلْمِهِمْ} أي: بسبب ظلمهم، فالباء هنا للسببية، والظلم أنهم اعتدوا في الدعاء {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} وهذا عدوان عظيم، لا بالنسبة لموسى، ولا بالنسبة للرب عز وجل، فإن مثل هذا لا يمكن أبدًا، ومن دعا بما لا يمكن فقد اعتدى في الدعاء.

قوله: {أَرِنَا اللَّهَ} فيها قراءة أخرى وهي: "أَرْنَا الله" يعني: بسكون الراء؛ لأن هذه أخف على الإنسان وإلا فالمعنى واحد.

قوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، قوله:{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} المفعول الثاني محذوف؛ أي: إلهًا، وقوله:{ثُمَّ} للترتيب الذكري، يعني: أضف إلى هذا الأمر المنكر منكرًا آخرًا، وهو اتخاذهم العجل إلهًا، وهذا العجل ليس حيوانًا، بل عجلًا جمادًا، استعاروا حليًا، ثم صنعوه على هيكل عجل، وجعلوا داخله مجوفًا، وجعلوا له ثقبًا في رأسه، وفتحة في دبره، فيوجهونه إلى الريح مستدبرًا إياها، فتدخل الريح في هذا المجوف من ثقب واسع، وتخرج من ثقب ضيق، وبطبيعة الحال سوف يكون له صوت، فكان له خوار كخوار الثور، وقوم العجل هؤلاء ثيران، فقد قال لهم السامري:{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88] يعني: أن موسى ضل وضاع عن الإله؛

ص: 408

لأنه كان قد واعد ربه ثلاثين ليلة، فأتمها الله عشرًا حتى صارت أربعين ليلة، قالوا: موسى ضال، يبحث عن الإله، وهذا هو الإله، فاتخذوا هذا العجل الذي صنعوه بأيديهم إلهًا يعبدونه، ونصحهم هارون وقال:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه: 90] فكان الجواب: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)} [طه: 91] ، ونعرف أن موسى عليه السلام لم يضل إلهه، وأن له إلهًا سوى هذا، وبقوا على عبادة العجل، وهذا أيضًا منكر عظيم، حيث جعلوا مع الله إلهًا آخر صنعوه بأيديهم، ثم صاروا كالصبيان، تدخل الريح من الدبر وتخرج من الفم، ويظنون أن هذا خواره، وإذا كان إله يخور فما الفائدة منه؟ لكن هذا يدل على سفاهة عقولهم، وأنهم على حد كبير من السفه!

وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، {الْبَيِّنَاتُ} يعني: الآيات البينات، والبينات الظاهرة التي ليس فيها إشكال؛ لأن موسى عليه السلام آتاه الله تسع آياتٍ بينات واضحة جلية، يغني عنها آية واحدة، كان له عصى يهش بها على غنمه، ويتوكأ عليها، وله فيها مآرب كالدفاع عن نفسه وما أشبه ذلك، فإذا ألقاها انقلبت في الحال ثعبانًا مبينًا، وحية عظيمة فهذه من أعظم الآيات.

ثم هي ليست حية وهمية تخيلية كما هو في صنيع السحرة، بل هي حية حقيقية تتحرك، وتأكل وتبلع بإذن الله عز وجل، والسحرة ملأوا الدنيا حبالًا وعصيًا، وصار يخيل إلى موسى أنها تسعى حتى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه: 67] فألقى هذه العصا،

ص: 409

فبدأت تلتهم هذه الحبال والعصي، وسبحان الله! يعني: في لحظة تذوب هذه الحبال والعصي، ثم تبلع أُخر في لحظة، يعني: هذا خلاف المعتاد، فالمعتاد أن الطعام يدخل في الجوف، ويبقى مدة، ويتحول إلى دم ثم يخرج فضلات، لكن هذه بإذن الله تبلع، والظاهر - والله أعلم - أنه يخرج مباشرة منصهرًا خالصًا، وهذا من آيات الله عز وجل، ومع ذلك جاءتهم البينات وشاهدوها، ولكنهم اتخذوا العجل إلهًا.

قوله: {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} سبحان ربنا عز وجل، ما أكرمه وأعظمه، عفا الله عنهم؛ لأنهم أمروا بالتوبة، ولكنها توبةٌ شديدة، منَّ الله علينا معشر هذه الأمة الإِسلامية المحمدية برفعها، أمروا أن يقتلوا أنفسهم، وليس معنى أن كل واحد يقتل نفسه، بل يقتل بعضهم بعضًا، لكن الأمة الواحدة كأنها نفس واحدة، فألقيت عليهم الظلمة، وأخذوا الخناجر والسكاكين، وجعل الواحد منهم يقتل مَنْ أمامه ولو كان أباه أو أمه، فلما علم الله منهم صدق الرجوع إلى الله، وامتثال الأمر؛ لأن كون الإنسان يؤمر بأن يقتل قومه، هذه من أشد ما يكون على النفوس، فلما انقادوا وذلوا إلى هذا النوع من التوبة رفع الله عنهم ذلك وعفا عنهم.

قوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} {وَآتَيْنَا} أعطينا، والسلطان في كل موضع بحسبه، فسلطان الأنبياء هي آياتهم؛ لأنها حجة قوية يتسلطون بها على من أنكر، فهذا السلطان الذي أوتي موسى هو الحجج والبراهين الدالة، حتى إن الله سبحانه كتب لهم في التوراة من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء، والعموم هنا في قوله:{لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154] أي: مما

ص: 410

يحتاجه بنو إسرائيل في عهدهم، كما في قوله:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]{الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانهم، وليسوا على كل العالمين حتى الأمة هذه، لكن هذا الكتاب المبين الذي قال الله فيه:{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] هذا يعم كل شيء؛ لأنه كتاب للأمة إلى يوم القيامة، فلا بد أن يكون قد أتى بما تحتاجه الأمة إلى يوم القيامة.

وقوله: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} قوله: {وَآتَيْنَا} من أبان، وهو صالح لأن يكون من أبان اللازم أو أبان المتعدي؛ لأن كلمة "أبان" رباعية تكون لازمة، كما يقال: أبان الصبح، فهذه لازمة يعني: بأن، وتكون متعدية كما تقول: أبان لي هذا الرجل ما أشكل علي، فهذا السلطان الذي أوتيه موسى مبين مظهر للحق، وهو بيَّن بنفسه، وهذا مبني على القول الراجح وهو جواز استعمال المشترك في معنيين، والمشترك: هو ما تعدد معناهُ واتحد لفظه، فلفظه لفظًا واحدًا يصلح للمعنيين فأكثر، مثل كلمة "العين"، فإنها تكون للعين الباصرة، وتكون للذهب، فيسمى عينًا، وتكون للشمس، تسمى عينًا، وتكون للماء البخاري، تسمى عينًا، فهذا المشترك، فهل يمكن أن يستعمل المشترك في جميع المعاني التي يصلح لها؟ الجواب نقول: يمكن، لكن لا بد من قرينة، ولا بد من أن لا يتنافى المعنيان، فقول الله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} [التكوير: 17] قال العلماء: {عَسْعَسَ} كلمةٌ تصلح للإقبال والإدبار؛ أي: إذا أقبل أو إذا أدبر، فيصح أن نقول: إن {عَسْعَسَ} بمعنى: أقبل وأدبر؛ لأنهما لا يتنافيان، فيقسم الله بالليل حين إقباله، وذلك عند غروب الشمس، ويقسم بالليل حين إدباره، وذلك عند طلوع الفجر أو طلوع الشمس.

ص: 411

إذًا قوله: {مُبِينًا} هنا نقول: ما دامت صالحة للمتعدي واللازم فهي من المشترك، ويجوز أن نستعملها في المعنيين لعدم التنافي بينهما.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

فيها دليل على تعنت أهل الكتاب، وإنما قلت ذلك لأن هذا اللفظ المطابق للقرآن، وكلما أمكن أن نأتي باللفظ الذي هو لفظ القرآن والمطابق له فهو أولى.

2 -

دفاع الله تعالى عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه سلاه بقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} ، وإلا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلب منه أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابًا من السماء - وهم أهل كتاب - ولم يفعل، من المعلوم أن هذا سيكون في قلبه حرج منه؛ لأن أهل الكتاب معروفون عند الجاهليين بالعلم؛ لما في أيديهم من الكتب، فإذا قالوا: أنزل علينا {كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} ولكنه لم يفعل لا بد أن يكون في قلبه شيء، وسوف يلحقه من الغم والهم ما يلحقه، فدافع الله عنه وقال: لا تتعجب ولا تستكبر هذا السؤال {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} .

3 -

أن بني إسرائيل كما آذوا موسى آذوا محمدًا عليه الصلاة والسلام، يعني: أهل الكتاب كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] آذوا الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهموا بقتله كما في قصةِ بني النضير، وكذلك فعلوا في الواقع، إذ أهدوا إليه في خيبر شاة فيها سم، ولاكها ولكنه لفظها، إلا أنها أثرت في لهواته عليه الصلاة

ص: 412

والسلام، أثرت فيها ألمًا، حتى قال في مرضه:"ما زالت أكلة خيبر تعاودني، وهذا أوان انقطاع الأبهر مني"

(1)

، ولهذا ذهب بعض التابعين - وأظنه الزهريّ - إلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من النبيين الذين قتلتهم بنو إسرائيل.

4 -

أن سؤال الإنسان أن يرى الله جهرة من أكبر العدوان، لقوله:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} وهل يؤخذ منه أنه يمتنع في الدنيا أن يرى أحد ربه؟

الجواب: نعم، الظاهر أنه يؤخذ منه؛ لأن الله قال:{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} ؛ لأنه لو كان يمكن لكان سؤالهم ليس بذاك الشنيع، لكنه لا يمكن أن يرى الله في الدنيا، ويدل لهذا: أن موسى عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] لكن قول موسى {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} ليس كقول هؤلاء {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} فبينهما فرق، فموسى سأل الرؤيا شوقًا إلى الله {عز وجل، ومحبة لرؤيته، اللهم لا تحرمنا إياها، لكن بنو إسرائيل قالوا ذلك تحديًا وعنادًا واستكبارًا، فقال الله له: {لَنْ تَرَانِي} أي: لا يمكن، ثم ضرب الله له مثلًا فقال:{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] فقوله: {اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أي على ما هو عليه، {جَعَلَهُ دَكًّا} جعله مندكًا بالمرة، صار كالرمل، ولم يهرب

(1)

رواه أبو داود، كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلًا سمًا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ (4512)؛ ورواه الدارمي في المقدمة، باب ما أكرم الله به النبي صلى الله عليه وسلم (67).

ص: 413

كما يتوقع الناس: بل استقر مكانه، وإن هرب فلن تراني، كأن الجبل لم يتمالك نفسه حتى انهد، ولم يتمكن من الهرب، ولما رأى موسى هذا الأمر العظيم {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} أغمي عليه، {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: لم أسأل هذا إنكارًا، أو جحدًا فأنا أول المؤمنين، لكن أتوب إليك مما سألت؛ لأن هذا السؤال لا يجوز.

ومحمد صلى الله عليه وسلم لم ير الله على كل الأقوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، هل رأيت ربك؟ قال:"رأيت نورًا"

(1)

، وفي رواية قال:"نور أنى أراه"

(2)

، يعني: كيف أراه مع هذه الأنوار، الحجب حجب عظيمة من الأنوار، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، - أي: بهاؤه وعظمته - ما انتهى إليه بصره من خلقه"

(3)

والمعنى: لأحرقت سبحات وجهه كل شيء؛ لأن بصره ينتهي إلى كل شيء.

فمع هذه العظمة كيف يمكن لأحد في الدنيا أن يراه، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ير ربه على كل الأقوال:

أولًا: من قوله هو نفسه صلى الله عليه وسلم حيث قال: "نور أنى أراه؟ ! "، وقال في لفظ آخر:"رأيت نورًا" يعني: نورًا حجب الرؤية، وعائشة رضي الله عنها أنكرت ذلك، وقالت: "من زعم أن

(1)

رواية عند مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"نور أنّى أراه"، وفي قوله:"رأيت نورًا"، حديث رقم (178) من حديث أبي ذر.

(2)

رواية عند مسلم، كتاب الإيمإن، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"نور أنّى أراه"، وفي قوله:"رأيت نورًا"، حديث رقم (178) من حديث أبي ذر.

(3)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينام" وفي قوله: "حجابه النور .. " حديث رقم (179) عن أبي موسى.

ص: 414

محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية"

(1)

هذا دليل.

وابن عباس رضي الله عنهما كما يقول شيخ الإِسلام: إنه لم يقل إن محمدًا رأى ربه بعينه، حتى نقول إن قوله معارض لقول عائشة، وإنما الرؤية التي أثبتها ابن عباس رضي الله عنهما هي رؤية القلب التي قويت حتى صار كالمشاهد، وهذا الأقرب من ابن عباس؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما أفقه من أن يظن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يرى الله عز وجل في الدنيا.

والخلاصة: أن هذه الآية فيها إشارة إلى أنه لا يمكن رؤية الله في الدنيا، والآية الأخرى التي في سورة الأعراف صريحة.

ورؤية الله في المنام لا تسمى رؤية عين، ونحن كلامنا في رؤية العين، وإلا فقد قال الرسول عليه الصلاة السلام:"أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"

(2)

وحقيقةً: أن الإنسان أحيانًا يصل إلى درجة كأنما يشاهد الله عز وجل، لكن ليس هذا مرادنا، إنما مرادنا أنه رؤي بالعين يقظة، كما ذكرت آنفًا، أما أنه من قوة اليقين كأنه يشاهده فهي رؤية من حيث اليقين؛ لأن الإنسان إذا رأى شيئًا تيقن، فإذا رآه بقلبه ووصل إلى هذا الحد صار كما قال الرسول:"أن تعبد الله كأنك تراه"

(3)

.

(1)

رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير والنجم، حديث رقم (4574)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم (177).

(2)

تقدم (1/ 431) من حديث جبريل.

(3)

تقدم (1/ 431) من حديث جبريل.

ص: 415

وهذا مشهور عن شيخ الإِسلام رحمه الله أنه يقول: إن المؤمن يرى الله عز وجل في المنام بقدر عمله وإيمانه به، واتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم، لكن في نفسي من هذا شيء، ويمكن أن يقال: إن الله يري هذا الإنسان ملكًا أو ما أشبه ذلك على قدر اتباعه وتمسكه.

5 -

عناد بني إسرائيل وتعنتهم، حيث كانوا يسمعون كلام الله، ولكنهم قالوا لنبيهم:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55].

6 -

أن الذنب كلما عظم كان أسرع للعقوبة، لقوله:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} ، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، ولهذا أخذتهم الصاعقة في الحال فماتوا جميعًا.

7 -

بيان قدرة الله سبحانه حيث أهلكهم جميعًا، وهو سبحانه على كل شيء قدير، ففي يوم القيامة عند قيام الساعة ينفخ في الصور؛ فيصعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله بلحظة واحدة، وينفخ فيه فيقوم الناس من قبورهم بلحظة واحدة.

8 -

إثبات الأسباب، وأن لها أثرًا في حصول المسببات، لقوله:{بِظُلْمِهِمْ} فإن الباء للسببية، وهذه مسألة ذكر بعض العلماء أن عليها من كتاب الله ألف دليل على إثبات الأسباب، وتعليل الأحكام وبيان الحكم.

9 -

أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئًا، لقوله:{بِظُلْمِهِمْ} ، وليس أخذ الله إياهم مجرد مشيئة، ولكن لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، كما قال تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101].

ص: 416

10 -

بيان سفه بني إسرائيل، وأنهم مع عنادهم واستكبارهم أهل سفه، وذلك بعبادتهم العجل واتخاذهم إياه إلهًا، لقوله:{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْل} .

11 -

أنهم اتخذوا ذلك عن علم، فليس لهم عذر، لقوله:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ومعلوم أن المذنب بعد العلم أشدُ من المذنب عن غير علم، بل إن المذنب عن غير علم لا أثر لذنبه مطلقًا - على القول الراجح -.

12 -

أن ما جاءت به الرسل فهو حجة ظاهرة لا تخفى إلا على من أعمى الله قلبه، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .

13 -

بيان شمول عفو الله، حيث قال:{فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} .

14 -

عظمة الرب عز وجل، وذلك بعود الضمير إلى الله تعالى بصيغة الجمع، فإن قوله:{فَعَفَوْنَا} لا شك أنها للتعظيم، وليست للتعدد كما زعم النصرانيُ الخبيث، فإن النصراني يقول: الآلهة متعددة، وهذا موجود في القرآن:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس: 12]{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] وما أشبه ذلك، فيقال له: إن هذا للتعظيم، وأنت من الذين في قلوبهم زيغ تتبع المتشابه، وإلا فعندك آيات محكمات ظاهرات كقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] ولكن هذا الذي في قلبه زيغ هو الذي يتبع المتشابه.

15 -

أن الله تعالى أعطى موسى حججًا بينة لا تخفى على أحد، لقوله:{وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} وهذا هو ظاهر الآية، وإن كان بعضهم قال: تسلطًا على بني إسرائيل، لكن الصواب ما

ص: 417

ذكرنا أن قوله: {سُلْطَانًا مُبِينًا} أي: بالحجج البينة الظاهرة، وقد مر علينا أن الله آتاه تسع آيات بينات، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وهي في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} [الأعراف: 133] هذه خمس، ومع العصا واليد صارت سبعًا، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130] فهذه تسع، وهذه التي ذكرها الله آيات صريحة، وهي سلطان بين الحجة، {الطُّوفَانَ} يعني: الغرق، فأغرق الثمار قبل أن تخرج، {وَالْجَرَادَ} أكلها بعد أن خرجت، {وَالْقُمَّلَ} أفسدها بعد أن خزنت، {وَالضَّفَادِعَ} أفسدت الماء {وَالدَّمَ} الصحيح أنه النزيف يخرج به - أي: بهذا النزيف - فائدة الغذاء، فانظر الآن هي سلسلة من حين ما بذروا إلى أن وصل إلى غذاء الجسم، وهو الدم، وكلهم ابتلوا به والعياذ بالله!

16 -

العذر بالجهل مطلقًا لقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} حتى عباد القبور، فالصحيح أنه لا فرق، وأن الدين كله واحد.

* * *

* قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)} [النساء: 154].

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} قوله: {وَرَفَعْنَا} الضمير يعود إلى الرب عز وجل، لكنه جاء بصيغة الجمع تعظيمًا.

قوله {فَوْقَهُمُ} أي: فوق رؤوس بني إسرائيل.

ص: 418

و {الطُّورَ} الجبل المعروف، وهو جبل عظيم كبير، اجتثه الله تعالى ورفعه حينما تقاعسوا عن تنفيذ الأوامر، فصار الجبل فوقهم كأنه ظلة، حتى ظنوا أنه واقع عليهم، وقيل لهم:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] ، فآمنوا إيمان إكراه في الحقيقة؛ لأنهم هددوا بالموت والهلاك، فإيمانهم إيمان اضطرار - والعياذ بالله! - ولهذا قال المفسرون: لما سجدوا كانوا ينظرون إلى الجبل، وإلى الآن يقولون: إن اليهود يسجدون على أطراف الجباه - وليس باستقامة - كأنما ينظرون إلى شيء يخافون أن يقع عليهم.

وقوله: {بِمِيثَاقِهِمْ} أي: رفعًا مصحوبًا بالميثاق؛ لأن الله تعالى أمرهم عند رفعه أن يأخذوا الكتاب بقوة، والميثاق هو العهد المؤكد.

قوله: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ؛ أي: باب بيت المقدس،:{سُجَّدًا} أي: ساجدين لله تعالى شكرًا لله تعالى على النعمة؛ لأن الله تعالى أمرهم أن يذهبوا إلى هذه القرية، وأن يقاتلوا أهلها، ولكنهم قالوا: إن فيها قومًا جبارين، والقصة مبسوطة في سورة المائدة، وبعد أن حصل عليهم التيه أربعين سنة أذن الله لهم بدخول القرية، وقيل لهم:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أي: حال كونكم سجدًا؛ أي: ساجدين لله عز وجل.

وهل المراد بالسجود حقيقتهُ أو المراد الذل والخضوع كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15] الظاهر الأول: لأنهم دخلوا على أستاههم.

وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ولكنهم لم يفعلوا،

ص: 419

وإنما دخلوا على أستاههم، والإست: هي الدبر، والمعنى أنهم دخلوا يزحفون - والعياذ بالله - استكبارًا، وقيل: إنهم دخلوا على القفا، وقيل لهم: قولوا حطة، ولكنهم لم يفعلوا، لم يقولوا: حطة بل قالوا: حنطة، يعني: كأن هؤلاء القوم لا يريدون إلا أن يأكلوا ويشربوا فقط كالبهائم.

قوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} وفي قراءة: "لَا تَعدُّوا في السَّبْتِ" والتعدي والعدو بمعنى واحد، والمعنى:{لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} بصيد الحيتان وقد حرمت عليكم، وكان اليهود قد حرم الله عليهم أن يصيدوا الحوت في يوم السبت ابتلاء وامتحانًا، فصارت الحيتان تأتي يوم السبت شرعًا، أي: طافية على سطح الماء وبكثرة، وكان اليهود - كما هو معروف من سيرتهم - أهل طمع وجشع، فغاظهم ذلك، وقالوا: ما الطريق إلى أخذ هذه الحيتان التي تأتي يوم السبت شرعًا، وفي غير يوم السبت لا يأتي منها شيء، فاحتالوا على ذلك بأن وضعوا شباكًا يوم الجمعة، فتأتي الحيتان وتتساقط فيها، ثم يأتون يوم الأحد فيأخذونها، فالفعل هنا ظاهره الإباحة؛ لأنهم ما تعدوا في السبت، لكن المقصود منه انتهاك حرمة الصيد في يوم السبت.

ولهذا قيل لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] فقلبوا قردة؛ لأن القرد أشبه ما يكون بالإنسان، وهم بفعلهم هذا يشبه أن يكون حلالًا؛ لأنهم لم يصيدوا مباشرة يوم السبت، لما قيل لهم:{لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} لم يمتثلوا بل اعتدوا يوم السبت على وجه الحيلة والمكر والخداع، ومن استحل المحرم بالحيلة فهو أعظم إثمًا ممن استحله بصرحه؛ لأنه إذا استحله بالحيلة جمع بين مفسدتين:

ص: 420

المفسدة الأولى: استحلال المحرم.

المفسدة الثانية: الخداع والتحيل على رب العالمين، الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19].

ولهذا كان الذين يتحيلون على الربا أعظم إثمًا من الذين يأتون الربا على وجه صريح؛ لأن المتحيلين يخادعون الله، فيجمعون بين مفسدة الربا ومفسدة الخداع؛ ولأن المتحيلين يرون أنهم على صواب، فلا يكادون ينزعون عنه، والذي يأتي الشيء صريحًا ويعرف أنه أخطأ فربما تلومه نفسه في يوم من الأيام حتى ينزجر.

قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي: عهدًا قويًا على أن يقوموا بما أمروا به، ولكنهم لم يقوموا بذلك، فنقضوا العهد ولم يبالوا، وكفروا بنعمة الله.

* * *

* قال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155].

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ، {فَبِمَا} الفاء عاطفة، والباء حرف جر، و "مَا" زائدة إعرابًا، ولكنها زائدة معنى؛ لأن كل حرف زائد إعرابًا فإنه يفيد التوكيد، والتوكيد لا شك أنه زيادة معنى، وعلى هذا فنعرب "مَا" زائدة، و "نقض" اسم مجرور بالباء؛ لأنه لو حذفت "ما" صار التركيب "فبنقضهم ميثاقهم".

وأين متعلق الجار والمجرور في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ؟

ص: 421

الجواب: كلام الله يفسر بعضه بعضًا، وفي سورة المائدة قال الله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وعلى هذا فيكون الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف يفسره ما جاء في القرآن الكريم نفسه.

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي: فبنقضهم ميثاقهم، ونقض الميثاق هو المخالفة فيه، بأن يكون بينك وبين آخر عهد ثم تخالفه، فهذا هو نقض الميثاق، وهؤلاء خالفوا ما أمروا به ولم يقوموا به فنقضوا الميثاق.

قوله: {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} الكونية والشرعية فالظاهر العموم، يعني:{وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} حين كفروا بموسى، واقترحوا عليه وقَالُوا:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] إلى غير ذلك مما يعرف من سيرة القوم "الأمة الغضبية"، ومن أراد أن يعرف شيئًا من سيرتهم فليعد إلى كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم رحمه الله، فإنه بين معايبهم ومخازيهم والعياذ بالله!

قوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} {وَقَتْلِهِمُ} فيها ثلاث قراءات: "وَقَتْلِهُمُ الأَنْبِيَاء" أي: بضم الهاء والميم، والقراءة الثانية: كسر الهاء وضم الميم "وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ"، القراءة الثالثة: كسر الهاء والميم، "وَقَتْلِهِم الأَنْبِيَاءَ" وكلها قراءات سبعية يجوز للقارئ أن يقرأ بها، ولكن إنما يحسن ذلك لطالب العلم، أما العامي فلا تسمعه قراءة غير التي في المصحف؛ لأنك إذا أسمعته قراءة أخرى لهان القرآن بقلبه، أو لغلطك، وقال: إن هذا يتخبط بكتاب الله عز وجل، كما أنكر عمر رضي الله عنه على هشام بن الحكم حين قرأ الآية من سورة الفرقان على خلاف ما كان

ص: 422

يقرؤها عمر رضي الله عنهما، حتى تنازعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فالعامة إذا قرأت بخلاف ما في أيديهم لا شك أنهم سوف ينكرون عليك إنكارًا عظيمًا - وإن كنت على حق - ثم لو قدرنا أنهم لو وثقوا بك فسوف يهون القرآن في نفوسهم، والإنسان يجب عليه أن يجعل تعظيم القرآن في قلوب الناس أعلى من كل شيء يعظم سوى الله عز وجل.

وقوله: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، {الْأَنْبِيَاءَ} جمع نبي، فإن كان نبيء بالهمزة فيقال: الأنبئاء، وإن كان بالياء قيل: الأنبياء، وكلتاهما قراءتان:"الأنبئاء""والأنبياء".

وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} هذا بيان للواقع، وليس قيد احتراز؛ لأنه لا يمكن أن يكون قتل النبي بحق، لكنه بيان للواقع، وأن قتل النبي ليس بحق، والقيد الذي لبيان الواقع يفيد العلية، يعني: كأنه قال: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ} لأن قتل الأنبياء {بِغَيْرِ حَقٍّ} ، وسيأتي إن شاء الله بيان الحق في الفوائد.

قوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} نسأل الله العافية، إذا دعوا إلى الحق قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} والغلف: جمع أغلف، والأغلف: هو المغلف الذي عليه غلاف لا يصل إليه شيء، فهم يقولون هكذا {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، وهذا كقول قريش:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] فقريش أعظم؛ لأنهم قالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} وبنو إسرائيل قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} لا نسمع، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} لا نرى، فسدُّوا جميع الطرق - أعني: قريشًا - قالوا: القلوب لا تفقه، والآذان لا تسمع، والأعين لا

ص: 423

تبصر، والعياذ بالله! مع أن الحق أبلج، وأوضح ما يكون - نسأل الله الهداية -.

قال الله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ، قوله:{بَلْ} هنا للإضراب الإبطالي، يعني: بل ليس في قلوبهم غلاف، وليست قلوبهم غلفًا، ولكن {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} لأن الأصل الفطرة، والفطرة دين الإِسلام، وما يرد عليها مما لا يوصل الحق إلى القلب فهو وارد، وليس أصليًا فيها، فكأن الله كذبهم، وقال: إن القلوب ليست غلفًا، ولكن طبع عليها - بعد أن كانت على الفطرة - بكفرهم.

وقوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أي: جعل عليها طابعًا، والشيء المختوم يجعل عليه طابع يطبع عليه، يعني: بمعنى الختم.

وقوله: {بِكُفْرِهِمْ} الباء للسببية؛ أي: بسبب كفرهم طبع على قلوبهم فلا يصل إليها الخير.

ولهذا قال: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} ، اختلف العلماء في قوله:{إِلَّا قَلِيلًا} فقيل: إن المعنى لا يؤمنون أبدًا، وأن مثل هذا التعبير جارٍ في لسان العرب، فهو نفي للكل، وقيل: المعنى: إلا قليلًا منهم، فيكون الإستثناء من الواو، في قوله:{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} منهم، وعلى هذا فينقسمون إلى قسمين: مؤمن وهو الأقل، وكافر وهو الأكثر، وقيل:{إِلَّا قَلِيلًا} يعود على الإيمان أي: لا يؤمنون إلا إيمانًا قليلًا، ثم هل المعنى {إِلَّا قَلِيلًا} أي: إلا ضعيفًا، أو {إِلَّا قَلِيلًا} في الزمن، بمعنى: أن أكثر وقتهم الكفر، وقد ينقدح الإيمان في قلوبهم ولكن سرعان ما

ص: 424

ينطفي؛ لأنه ليس على أساسه؟ كل هذا محتمل، والسياق لا ينافيه.

فيقال: إن منهم المؤمنين، ومنهم الكافرون، والكافرون أكثر، ثم المؤمنون أيضًا، ليسوا مستقرين على الإيمان مستمرين عليه، ثم إيمانهم ليس إيمانًا قويًا راسخًا، وعلى هذا فالآية صالحة لجميع هذه الإحتمالات.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

بيان قدرة الرب عز وجل، وأن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يرفع هذا الجبل العظيم؟ ثم من الذي يستطيع أن يجعله فوق رءوسهم؛ ليس واقعًا عليهم حتى يموتوا، ولا رفيعًا بعيدًا حتى يأمنوا، ولكنه فوق الرءوس قريب؟ إذًا: ففيه دليل على قوة الله عز وجل وقدرته.

2 -

أن إيمان بني إسرائيل إيمان إكراه؛ لأن أي قادر يقول: أنا سأسقط عليك حجارة من السماء إن لم تؤمن، فيؤمن المهدد على إكراه، وعليه: فالمؤمن على إكراه لا بد أن يكون إيمانه ضعيفًا مهزهزًا، إذا زال الإكراه ربما يرجع إلى الكفر.

3 -

أنهُ يشرع عند فتح البلاد صلاة الفتح، لقوله:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ، ويمكن أن يؤخذ هذا على أساس أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافه، وقد قيل: إن شرعنا ورد بوفاقه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة صلى ثماني ركعات ضحى في بيت أم هانئ، فقال بعض العلماء: إن هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: إنها صلاة الفتح؛ لأنه ليس من عادة الرسول عليه الصلاة

ص: 425

والسلام أن يصلي صلاة الضحى ثمان ركعات، فتكون هذه صلاة الفتح، وأخذ بها بعض الخلفاء فكانوا إذا فتحوا المدينة صلوا صلاة الفتح.

وما أقرب هذا القول من الصواب، أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الضحى حين فتح مكة صلاة فتح، شكرًا لله عز وجل على ما أنعم به من الفتح، ولا سيما إذا كان الفتح فتح عاصمة، فإن بني إسرائيل فتحوا بيت المقدس، ومحمد صلى الله عليه وسلم فتح أم القرى عاصمة القرى كلها.

4 -

أن لله تعالى أن يحرم الحلال في زمن، ويبيحه في زمن آخر؛ لأنه حرم عليهم الصيد يوم السبت.

5 -

أن اليهود أهل مكر وخديعة، حيث اعتدوا في السبت.

6 -

أن المتحيل على المحرم ولو بما صورته الإباحة يعتبر واقعًا فيه، لقوله:{لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} فاعتدوا فيه بهذه الحيلة، إذًا: فمن تحيل على محرم بما صورته المباح فهو واقع في المحرم، بل هو زيادة.

7 -

أنه يظهر الفرق التام بين هذه الأمة وبين بني إسرائيل - ولله الحمد - فهذه الأمة حرم الله عليهم الصيد في حال الإحرام في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ثم ابتلاهم بإرسال الصيد عليهم، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فالطائر يناله الرمح، والزاحف تناله اليد، فالزاحف كالأرانب والغزلان وما أشبهها، يناله الإنسان بيده، ويمسكه فلا يهرب منه، والطائر يناله الرمح دون السهم، وهذا ابتلاء، قال الله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ

ص: 426

يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] فماذا كان موقف الصحابة من هذه الآية؟

الجواب: تجنبوا وامتثلوا الأمر، تجنبوا ذلك مع أنه سهل عليهم، فهذه الأمة أمة: سمعنا وأطعنا والحمد لله، جعلنا الله منهم.

8 -

أن من تحيل على محارم الله من هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، وأي إنسان يتحيل على محارم الله فإن فيه شبهًا من اليهود، سواء كان في البيع أو في الشراء، أو فيما أحل الله من الطعام وحرم، أو في النكاح، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحلل التيس المستعار

(1)

.

9 -

أن الله جل وعلا لم يعذب عباده إلا بعد أن قامت عليهم الحجة، لقوله:{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} عهدًا قويًا بينه وبين الخلق، ثم ينقضون عهده، فإن الله تعالى يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

10 -

إثبات الأسباب الشرعية، وكذلك إثبات الأسباب القدرية من باب أولى، لقوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} والباء للسببية، وإثبات الأسباب المؤثرة في مسبباتها من مقتضى حكمة الله عز وجل؛ لأن الشيء لو وقع صدفة هكذا لكان سفهًا، لكن إذا وقع الشيءُ مربوطًا بسببه دل ذلك على الحكمة والإتقان، والإنسان الذي يفعل الشيء اعتباطًا بدون سبب موجب له لا يعد حكيمًا، لكن الذي يفعل الشيء بأسبابه والمؤثرات فيه هذا هو الحكيم، والله عز وجل قد ربط المسببات بالأسباب، ولكن يجب أن نعلم أنه لقصورنا ونقصنا قد نعلم السبب وقد لا نعلمه، إذًا: فيه إثبات الأسباب.

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب المحلل والمحلل له (1936) عن عقبة بن عامر.

ص: 427

والناس في الأسباب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

قسم: فرط، وقسم: أفرط، وقسم: توسط، وخير الأمور الوسط.

القسم الأول: فرط وقال: إنه لا أثر للأسباب إطلاقًا، حتى النار التي تحرق الورق ليس لها أثر، واحتراق الورق لم يكن بالنار ولكن عند النار، واحتجوا لذلك بأنك لو أثبت أن للسبب تأثيرًا في المسبب لأشركت بالله، حتى قالوا: أي إنسان يثبت سببًا فهو مشرك، في الربوبية.

القسم الثاني: أفرط وجاوز الحد وقال: إن الأسباب مؤثرة بطبيعتها، ولا يمكن أن تتخلف الأسباب، وهؤلاء أخطأوا أيضًا وأفرطوا.

القسم الثالث: قالوا: إن الأسباب مؤثرة لا بنفسها، ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، وهؤلاء هم أهل الحق، سواء كان السبب قدريًا أو كان السبب شرعيًا، ولذلك نجد بعض الأشياء مشروعة لها أسباب ولها موانع، مثل الإرث له سبب وله مانع، فربما يكون أبوك الذي يرث مالك كله إذا انفرد به لا يرث شيئًا مع وجود السبب، لوجود المانع، إذًا: السبب هو المؤثر الآن، فالذي جعل الأبوة سببًا للإرث جعل القتل مانعًا من الإرث مثلًا.

كذلك أيضًا الأسباب القدرية، فهذه النار محرقة جعل الله فيها قوة الإحراق، ولما ألقي فيها إبراهيم قال الله لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم} [الأنبياء: 69] فانتفى الإحراق، مع أنها سبب مؤثر بأمر الله، ولكن لم تؤثر لما قال الله لها:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم} ، فكانت بردًا وسلامًا عليه.

ص: 428

قال أهل العلم: إن الله تعالى لو قال لها: كوني بردًا فقط لهلك من البرد، الله أكبر! لكن قال:{بَرْدًا وَسَلَامًا} لئلا تهلكه من البرد، فكانت {بَرْدًا وَسَلَامًا} عليه.

إذًا نحن نقول: إن الأسباب مؤثرة بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة لا بنفسها، وحينئذ لم نشرك، وإنما قلنا بما تقتضيه ربوبية الله وحكمة الله، ربوبية الله بالتأثير، وحكمة الله بقرن المسبب بسببه، وهذا هو الحق، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.

11 -

أن نقض الميثاق سبب للعنة الله عز وجل؛ لأن الآية على تقدير محذوف وهو: "لعنَّاهم".

12 -

أن هؤلاء احتجوا بقدر الله على شرعه، حيث قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فأبطل الله ذلك، فيترتب على هذا: أن كل من احتج بالقدر على الشرع فحجته داحضة، وقد أبطل الله هذا في قوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]، ولو كانت حجتهم صحيحة مقبولة ما أذاقهم الله بأسه.

فإن قال قائل: أليس الله تعالى قد قال في آيةً أخرى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] فكيف ينفي احتجاجهم بأن شركهم بمشيئة الله، ثم يثبت أن شركهم بمشيئة الله؟

الجواب عن هذا: أن يقال: إن الله سبحانه قال ذلك لنبيه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} تسليةً له، وليس إقرارًا لهم على شركهم، ولكن ليسلي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تبين له أن شركهم كان بمشيئة الله

ص: 429

رضي بقدر الله، والرضا بقدر الله هنا ليس من جهة الفاعل لكن من جهة أجنبي منه، وأما قولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} فقصدهم في هذا الإحتجاج بالقدر على الشرع ليستمروا على ما هم عليه من الباطل، وفرق بين هذا وهذا.

13 -

أن الكفر بآيات الله سبب للعن كنقض العهد والميثاق، ولكن يقال: إن نقض العهد والميثاق منه ما يصل إلى حد الكفر، ومنه ما هو دون ذلك، أما الكفر في مثل هذا السياق فالمراد به الكفر الأكبر المخرج من الملة.

14 -

إثبات الآيات لله، وآيات الله تعالى نوعان: كونية وشرعية، فالكونية جميع المخلوقات، فكل المخلوقات دالة على خالقها عز وجل، وعلى قدرته وعلمه، وحكمته ورحمته، وغير ذلك مما يتعلق بهذه المخلوقات.

والآيات الشرعية: هي ما أنزله الله على رسله من الوحي، فهي آيات شرعية؛ لأنك لو تدبرتها لوجدت أنه لا يمكن لأي بشر أن يأتي بمثلها، وليس المراد الإعجاز اللفظي بل الإعجاز المعنوي، أما الإعجاز اللفظي فيقال: إنه لم يثبت إلا للقرآن فقط، فالله أعلم، لكن على كل حال الآيات الشرعية هي التي جاءت بها الرسل، وهي آية من آيات الله لا أحد يستطيع أن يأتي بمثلها.

وقد تحدى الله سبحانه المكذبين بالرسل بالآيات الكونية والآيات الشرعية، فقال تعالى في الآيات الكونية:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] فهذا تحدٍ بالآيات الكونية،

ص: 430

لا أحد يقدر أن يخلق ولا الذباب، وقال في الآيات الشرعية:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] ، {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} لا يمكن، {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} أي: مساعدًا ومعينًا.

المهم أن آيات الله سبحانه لا يكفر بها إلا المكابر، وإلا فإنه لا يمكن لأي إنسان إلا أن يقر، حتى أعتى من نعلم من أهل الأرض مستيقن بالحق، وهو فرعون وقومه، مستيقنون لكن جحدوا به ظلمًا وعلوًا، وموسى صلى الله عليه وسلم يخاطب فرعون يقول:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] يخاطبه محاورة، فهل قال فرعون: ما علمت؟ أبدًا، أُخرس ولم يتكلم؛ لأن هذه آيات بينة واضحة.

15 -

عتو بني إسرائيل؛ حيث اعتدوا على من أتوا بشرع يهدون الناس به، حيث قتلوا:{الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، بل قتلوا {الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21] ولو كانوا غير أنبياء، وكل من يأمر بالقسط من الناس فإن بني إسرائيل يريدون قتله، والذي يقدرون على قتله يقتلونه؛ لأنهم إنما يريدون الفساد في الأرض.

16 -

أن قتل الأنبياء لا يمكن أن يكون بحق، وقوله:{بِغَيْرِ حَقٍّ} بيان للواقع وليس قيدًا احترازيًا، وهو كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم} [الأنفال: 24] والرسول لا يدعو لما يميت أبدًا، لا يدعو إلا لما فيه الحياة.

ص: 431

17 -

أن الله تعالى يطبع على القلب بالكفر، بمعنى أن الإنسان إذا كفر ولم يعلم الله فيه خيرًا طبع الله على قلبه، فلا يهتدي أبدًا، لقوله تعالى:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ، وهذا إبطال لاحتجاجهم بالقدر، وهناك أيضًا آية تبين هذا أعظم بيان، أن من زاغ عن الحق فهو السبب، وذلك في قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] فلا يمكن لأحد أن يزيغ إلا وهو السبب في زيغ نفسه.

18 -

أن من طبع الله على قلبه فإنه لا يؤمن إلا قليلًا، يعني: إلا إيمانًا قليلًا لا يقوى به على الإستقامة، وقد سبق لنا أن {قَلِيلًا} هذه لها ثلاثة احتمالات، وأن الآية تعم الجميع؛ لأن لدينا قاعدة في التفسير، وينبغي أن لا تغيب عن أفهامنا: أنه متى احتملت الآية أكثر من معنى بدون أن يكون هناك تناقض فإنها تحمل على كل المعاني.

* * *

* قال الله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)} [النساء: 156].

{وَبِكُفْرِهِمْ} معطوف على قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} هذا هو الراجح، وإن كان فيها خلاف عند المعربين، لكن هذا أرجح ما يكون؛ أي:{بِكُفْرِهِمْ} "لعناهم".

وقوله: {وَبِكُفْرِهِمْ} هذا توكيد على أنهم كفروا كفرًا أكبر، أكد بهذا التكرار.

قوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ} وهي بنت عمران وأخت هارون، وهنا إشكال: كيف تكون أختًا

ص: 432

لهارون وبين هارون وبينها سنين طويلة؟ أورد هذا على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:"إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم، وإن هارون أخا مريم ليس هو هارون أخا موسى، لكن كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، حتى وصل إلى هارون أخي مريم"

(1)

.

وقد وصفها الله تعالى بأنها: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]، وأنها أبعد ما يكون عن البغي، مع أن بني إسرائيل قالوا: لها {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] هذا نفي، ولا يمدحون بذلك أباها وأمها، أبوها ليس {امْرَأَ سَوْءٍ} وأمها ليست {بَغِيًّا} ، وإنما المراد رميها بالزنا؛ كأنهم يقولون من أين جاءكِ هذا؟ ! الأم طاهرة، والأب بعيد عن السوء، ولهذا ذهب بعض العلماء الفقهاء إلى أنَّ القذف بالتعريض يجب به الحد، فلو تنازع شخصان وقال: أحدهما للآخر الحمد لله، أنا محصن الفرج، عفيف، ما زنيت، هو يقول عن نفسه، والمعنى أنك أنت بالعكس، ولهذا قال بعض العلماء: أنه يجب أن يحد؛ لأن هذا التعريض أشد.

وقوله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حيث قالوا: إنها كانت بغيًا، ويلزم من ذلك أن يكون عيسى أحد الأنبياء أولي العزم ولد زنا - والعياذ بالله! - وهذا بهتان عظيم، ونظير ذلك ما وقع من المنافقين في عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، قال تعالى:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} [النور: 12] بيِّن، {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ

(1)

رواه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب (2135).

ص: 433

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)} [النور: 13، 14]{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15].

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات السبب، لقوله:{وَبِكُفْرِهِمْ} .

2 -

أن الكفر سبب للشر والفساد واللعن والإبعاد عن رحمة الله عز وجل؛ لأنه متعلق بمحذوف، كما قلنا في قوله:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155].

3 -

أن اليهود رموا مريم ببهتان عظيم، حيث قالوا: إنها زانية، وإن عيسى ابن زنا، نسأل الله العافية، وهذا بهتان عظيم، ولكن هل نقول: إنهم كفروا برميهم إياها؟ نقول: أما من قذفها بذلك بعد أن برأها الله منه فهو كافر، لا لقذفه ولكن لتكذيبه تبرئة الله سبحانه إياها، فعلى هذا يكون كفره من باب كفر الجحود؛ لأنه أنكر ما أثبته الله عز وجل، والله سبحانه قال:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] فشهد الله لها بإحصان الفرج، وعليه فمن رماها بما رماها به اليهود فإنه كافر مكذب لله عز وجل.

مسألة أخرى لها علاقة تامة بهذا: لو قذف أحد من الناس زوجة النبي عليه الصلاة والسلام عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه يكون كافرًا من وجهين:

الوجه الأول: تكذيب خبر الله عز وجل، وأول ما ذكر الله القصة ذكر الإفك {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] مما يدل على أن هذا القضية من أصلها وفصلها كذب، فمن رمى أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه فإنه كافر مكذب لله عز وجل.

الوجه الثاني: أنه دنس فراش النبي عليه الصلاة والسلام،

ص: 434

وأم المؤمنين عائشة - وحاشاها أن تكون فعلت ما رميت به - إذا كانت زانية والعياذ بالله فهي خبيثة، والله يقول:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] ولهذا يلزم من ذلك أن يكون القائل طعن بالرسول عليه الصلاة والسلام.

زد على ذلك أنه طعن في حكمة الله عز وجل، أن يجعل هذه المرأة الزانية فراشًا لأفضل البشر عنده - نعوذ بالله - لأنه ليس من الحكمة أن يجعل وليه وصفيه وخليله محمدًا صلى الله عليه وسلم يفترش امرأةً زانية، فهؤلاء الذين يرمونها بما برأها الله منه هم كفرة لا شك، نشهد بالله أنهم كفرة، وليسوا من الإسلام في شيء؛ لأنهم كذبوا الله ورسوله؛ ولأنهم دنسوا فراش النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولأنهم طعنوا في حكمة الله، ولا إشكال في هذا.

لكن لو قذف غير أم المؤمنين عائشة من زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، اللاتي متن وهن تحته أو مات عنهن فما حكمه؟ الجواب: الصحيح أنه يكفر، ولا نقول: لأنه تكذيب لله، فالله ما برأ واحدةً منهن، لكن لأنه دنس فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وطعن في حكمة الله، ولهذا كان القول الراجح أن من قذف واحدةً من أمهات المؤمنين فإنه كافر، يباح دمه وماله إلا أن يتوب، فإذا تاب فينظر الإمام هل يرفع عنه القتل لأنه تاب أو لا يرفع لأنه حد، فهذا يرجع إلى رأي الإمام.

4 -

أن رمي المحصنات بهتان عظيم، ولهذا أوجب الله فيه حدًا قدره ثمانون جلدة، حتى لو شهد أحد بأن فلانة أو فلانًا زنى، وأنه شاهد ذكر هذا الرجل في فرجها، فنقول: عليك ثمانون جلدة، ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أزكى الناس، ولو قال: معي شاهد آخر، فنقول: الشاهد الثاني نجلده

ص: 435

أيضًا ثمانين جلدة مع الأول، ولو قالوا: عندنا شاهد ثالث، قلنا نجلده أيضًا ثمانين جلدة، وكل هذا حمايةً للأعراض والأنساب، يعني أن جلد القاذف ليس حماية لعرض المقذوف فقط، بل وللأنساب أيضًا؛ لأنه إذا ثبت زناه اختلط نسب الزاني بنسب الزوج، فما يدرى هذا الولد لهذا أو لهذا فتضيع الأنساب، ولهذا كان من الواجب أن يقام على القاذف حد، وأيضًا لا يكفي أن يقام عليه الحد، فبالإضافة إلى ذلك لا تقبل له شهادة أبدًا، حتى ولو شهد بما يساوي فلسًا؛ لأن الله قال:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فأكد النفي بالتأبيد، فإذا شهد وهو من أعدل الناس قلنا: لا نقبل؛ لأن هذا أمر الله، العقوبة الثالثة: الخروج عن العدالة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وبناءً على ذلك فكل عمل ديني أو دنيوي يشترط فيه العدالة فإنه لا يتولاه أبدًا، لكن الله استثنى فقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] وهذا الإستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة بالإتفاق، وهو ارتفاع الفسق إذا تاب، ولا يعود إلى الأولى بالإتفاق، وهي قوله:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] واختلف العلماء هل يعود للثانية؟ وهي {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أو لا؟ على قولين: وينبغي أن يرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم القاضي.

* * *

* قال الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)} [النساء: 157].

ص: 436

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} هذا أيضًا مما ادعاه اليهود بنو إسرائيل، يقولون:{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ، وذكروه باللقب والإسم والكنية، {الْمَسِيحَ} لقب، والإسم {عِيسَى} ، {ابْنَ مَرْيَمَ} الكنية، وهذا لا شك أنه واقع من اليهود، قالوا:{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ذكروه بالإسم وباللقب، والكنية لئلا يكون اشتباه، وهذا من باب التوكيد، توكيد العين والشخص بأنه هو المراد.

أما قوله: {رَسُولَ اللَّهِ} فقد اختلف المفسرون فيها، هل هذا من قولهم أو من قول الله؟ فقال بعض أهل العلم: إنه من قول الله، يعني: لما قال هؤلاء: {الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} فهم لا يقرون بأنه رسول، لكن الله تعالى قال:{رَسُولَ اللَّهِ} كأنه يقول: إنه لا يستحق أن يقتل لأنه رسول.

وقال بعض المفسرين: إن هذا من كلامهم، وأنهم قالوا: ذلك على سبيل التهكم، يعني: الذي يزعم أنه {رَسُولَ اللَّهِ} ، وأن هذا كقول قريش للرسول:{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6] كيف ينزل عليه الذكر وتقولون: إنه مجنون؟ ! لكن هذا من باب التهكم.

على كل حال: القرآن عظيم، جاء بهذه الصيغة، من أجل أن يدير الإنسان فكره في كل ناحية ليتأمل أيهما أحق، ويمكن أن يقال: قاله الله تعالى تكريمًا وتعظيمًا لعيسى عليه الصلاة والسلام، وقاله هؤلاء استهزاء وتهكمًا.

قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} القتل موجود، فهم قالوا:{قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} لكن أين الصلب؟ يقولون: هذا من باب

ص: 437

حذف المعلوم بالسياق، وهنا هم قالوا: قتلنا وصلبنا، لكن طوي ذكره اكتفاءً بما سيذكر.

فقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} وهم قالوا: إنَّا قتلناه وصلبناه، والصلب: أن توضع خشبة على طول جسد المصلوب، ويعرض فوقها على حذاء عضديه عارضة، ثم يوقف ويشد على هذه الخشبة، وتربط يداه على العارضتين.

ولذلك اتخذ النصارى لسفههم وضلالهم وقلة عقولهم الصليب الذي صلب عليه نبيهم إلهًا، وعلى الأقل مقدسًا، مع أنهم لو كانوا عقلاء لكانوا إذا رأوا الصليب كسروه وأوقدوا به النار، لكنهم سفهاء ضلال، لا يميزون بين الحق والباطل.

قوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، {شُبِّهَ} أي: ألقي شبهه على شخص آخر، فقتلوا هذا الشخص، وانظروا الضلال والفتنة، ألقي شبهه على رجل، فقتلوا هذا الرجل وصلبوه، وقالوا:{قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} وقد اتفق جميع الذين كانوا حاضرين معه على أنه رفع، كما قال الله عز وجل، ونحن لسنا بحاجة إلى شهادة أحد بعد شهادة الله عز وجل.

ومن الذي شُبِّه؟ قيل: إن الذي شبه هو نفس الذي دل اليهود على عيسى؛ لأن اليهود كانوا يبحثون عن عيسى عليه السلام، وعيسى كما تعلمون كان يسيح في الأرض هو وأمه خوفًا على نفسه من اليهود، فقيل لهم: إنه كان في البيت الفلاني، فأرسلوا لقتله، وكان دليلهم واحدًا منهم، فلما وصلوا إلى البيت الذي هو فيه وأصحابه - وكانوا نحو ثلاثة عشر نفرًا أو اثني عشر - دخل الذي يدل عليه ليتأكد، فلما دخل ألقى الله عليه

ص: 438

شبه عيسى، سبحان الله! فدخل اليهود فأمسكوه يظنونه عيسى، فقال: أنا صاحبكم، فقالوا: أنت عيسى، فقتلوه وصلبوه، أما عيسى عليه الصلاة والسلام، فيقال: إن الله فتح له كوة في الجدار وخرج من غير الباب، ورفعه الله إليه سبحانه.

وقيل: إن الذي شبه رجل من قوم عيسى، حيث قال عيسى لقومه الثلاثة عشر نفرًا: من يصبر على القتل فيلقي الله عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فقام شاب منهم وقال: أنا، فكأنهم استصغروه فأعادها مرة ثانيةً وثالثة، فقال: أنا، قال: أنت ذاك، فألقى الله شبهه عليه، ونجا عيسى، وهذا الشاب هو الذي دخل اليهود عليه فقتلوه وصلبوه.

فقوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فيذكر الله أنه رفعه.

قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} ، {الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} فقال بعضهم: إنه عيسى، وقال بعضهم: ليس عيسى، كأن الشبه ليس تامًا؛ ففيه ملامح عيسى، وفيه ملامح غيره، ولهذا اختلفوا.

فمنهم من قال: قتلنا عيسى، ومنهم من قال: لم نقتله؛ لأن الشبه لا يقتضي المماثلة، ولعلهم لقوة انفعالهم لم يتأنوا كثيرًا، فألقي الشبه على واحد منهم، أو على من في البيت فقتلوه، ثم بعد قتله تنازعوا هل حقيقة أنهم قتلوا عيسى أو لا؟ فاختلفوا فيه، وهؤلاء الذين اختلفوا لم يختلفوا عن علم، ولكن عن شك، منهم من قال: قتلناه، ومنهم من قال: لم نقتله، واختلفوا وصار هذا في النهاية اختلافًا دينيًا، فمن اليهود من أقر بأنهم قتلوه، ومنهم

ص: 439

من أنكر، وقال: إن الذي قتلنا الشبه شبه عيسى، والجسد ليس جسده، والنصارى أيضًا اتبعوهم في اختلافهم ذاك.

قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} نفى الله عنهم أن يكونوا عالمين، ووجه ذلك: أن العلم إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع إدراكًا جازمًا، وهؤلاء لم يصلوا إلى هذا الحد، بل نعلم أنهم لم يعلموا هذا؛ لأنهم {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} .

وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} "مَا" هنا نافية، وهل هي حجازية، أو تميمية، أو حجازية لم تكمل شروطها؟ الجواب: حجازية لم تكمل شروطها، والذي اختل من الشروط عدم الترتيب بين اسمها وخبرها، وابن مالك رحمه الله يقول في الألفية:

إعمال ليس أعملت ما دون إن

مَعَ بقا النفي وترتيب زكن

أي: عُلم، وهنا الترتيب مختلف، ولو قلت:"ما زيد قائمًا" كنت حجازيًا، ولو قلت:"ما زيد قائم" كنت تميميًا، وقال الشاعر يصف معشوقته:

ومهفهف الأعطاف قلتُ له انتسب

فأجاب ما قتلُ المحب حرامُ

إذًا هي تميمية، ولو كانت حجازية لقال:"ما قتل المحب حرامًا".

لكن {مَا} لا تعمل عمل ليس عند الحجازيين إلا مع الترتيب وبقاء النفي، وهنا لا ترتيب، ولذلك نعرب {مَا} نافية، وقوله:{لَهُمْ} جار ومجرور خبر مقدم، وقوله:{عِلْمٍ} مبتدأ مؤخر، لكن دخل عليه حرف الجر الزائد إعرابًا الزائد معنى؛ لأن الحروف الزائدة إعرابًا تفيد تقوية الكلام.

قوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ، {إِلَّا} هنا أداة استثناء، لكن

ص: 440

الإستثناء منقطع، وعلامة الإستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، ونحن نعلم جميعًا أن {اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ليس علمًا، وعلى هذا فلا يكون الإستثناء هنا متصلًا بل هو منقطع؛ لأن {اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ليس علمًا، فيكون المستثنى الآن من غير جنس المستثنى منه، ويكون منقطعًا، وتقدر {إِلَّا} في الإستثناء المنقطع بـ "لكن"، يعني "ما لهم به من علم لكن اتباع الظن".

و"الظَّنُّ" هو الراجح من أحد احتمالين أو احتمالات، فإذا كان الأمر يحتمل شيئين فأكثر وترجح أحدها فالراجح يسمى ظنًا، والمرجوح يسمى وهمًا، وإن تساوى الأمران فهو شك، هذا عند الأصوليين، أما عند الفقهاء فالشك ما يقابل اليقين، فيشمل الوهم والظن والشك، ولهذا قالوا: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو على طهارته، ومعنى الشك بالحدث: يشمل الظن والوهم والشك، لكن الأصوليين رحمهم الله قسموا ما لا يكون علمًا إلى هذه الأقسام: ظن، وشك، ووهم.

وقوله: {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} وحينئذ لا علم عندهم، والأمثلة التي يكون فيها الإستثناء منقطعًا من القرآن كثيرة، مثل قوله تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} [الغاشية: 22 - 24] فهنا {إِلَّا} استثناء منقطع؛ لأن انتفاء السيطرة على هؤلاء يشمل من كفر ومن كان غير كافر، ولهذأ أتت الفاء في الجواب، والتقدير {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} لكن {مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} .

يقول جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} {مَا} نافية، وقوله:

ص: 441

{قَتَلُوهُ} فعل وفاعل ومفعول به، قوله:{يَقِينًا} قيل إنها مصدر في موضع الحال من الواو في قوله: {قَتَلُوهُ} أي: وما قتلوه متيقنين، ولكنهم في شك منه، فهنا يتناسب هذا مع قوله:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} ، وقوله:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} وعلى هذا فتكون {يَقِينًا} مصدرًا في موضع الحال، وعاملها قوله:{قَتَلُوهُ} وصاحبها الواو، يعني: وَمَا قَتَلُوهُ متيقنين، وقيل: إن {يَقِينًا} مؤكدة للنفي؛ أي: "مَا قَتَلُوهُ - أقول ذلك أو أنفي - يَقِيناً" ولا يصح أن تكون مؤكدة للمنفي، يعني: ومَا قَتَلُوهُ قتلًا يَقِينًا بل قتلًا ظنيًا، فهذا لا يصح.

إذًا: إما هي مصدر في موضع حال من فاعل قتلوا، وإما هي تأكيد للنفي، وعلى القاعدة التي مرت علينا في التفسير أنه إذا احتمل الكلام معنيين فأكثر لا منافاة بينهما ولا مرجح لأحدهما حمل على المعنيين جميعًا، وشروط حملها على المعنيين: ألا يكون بينهما تعارض، وألا يكون الحمل على وجه مستبعد، بمعنى ألا يترجح أحدهما على الآخر، فإن ترجح أحدهما على الآخر أخذ بالراجح، وعلى هذا فنقول: كلمة {يَقِينًا} لها معنيان:

المعنى الأول: مَا قَتَلُوهُ، متيقنين.

والمعنى الثاني: مَا قَتَلُوهُ، أنفي ذلك يَقِينًا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن اليهود باءوا بإثم قتل المسيح أخذًا بإقرارهم؛ لأن الله جعل الإقرار شهادة فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ولهذا نقول:

ص: 442

اليهود قتلوا المسيح حكمًا ولم يقتلوه واقعًا؛ لأنهم أقروا بأنهم قتلوه، ولكنهم لم يقتلوه واقعًا في الحقيقة، فحكم قتل المسيح ثابت على اليهود بإقرارهم.

2 -

أنهم - يعني: اليهود - إما أن يكونوا قد أقروا بأنه رسول، وقالوا:{رَسُولَ اللَّهِ} ليعلنوا على أنفسهم أنهم فعلوا ذلك عنادًا، أو أن قوله:{رَسُولَ اللَّهِ} هذه من كلام الله، كما سبق ذكر القولين اللذين قال بهما المفسرون في ذلك.

3 -

نسبة الإنسان إذا لم يكن له أب إلى أمه، وتؤخذ من قوله:{عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .

4 -

فائدة نحوية: أن الإنسان إذا اشتهر بلقبه فلا بأس أن يقدم على اسم العلم؛ لأنه قدم المسيح، وإلا فالأصل أن يقدم الإسم أولًا ثم اللقب ثم الكنية، لكن إذا اشتهر باللقب فإنه يقدم، مثل أن تقول: الإمام أحمد بن حنبل، أو أحمد بن حنبل الإمام، فالأول مقدم؛ لأنه مشتهر به.

5 -

أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول الله، لقوله:{رَسُولَ اللَّهِ} وهو آخر نبي بعث بعده محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19] وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بينه وبين عيسى أحد من الرسل

(1)

، وبه نعرف كذب الأخبار التي قالت: إن خالد بن سنان وهو من العرب كان رسولًا، فيقال: ليس بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أحد من الرسل.

(1)

رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (2365) عن أبي هريرة.

ص: 443

6 -

شرف عيسى عليه الصلاة والسلام، لأنه {رَسُولَ اللَّهِ} وكفى بالإنسان شرفًا أن يكون رسولًا لله، كما كفى به شرفًا أن يكون عبدًا لله، لكن الرسالة أخص من العبودية.

7 -

إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب خلافًا لقول اليهود، والذي قال: إنه لم يقتل ولم يصلب هو الله عز وجل في قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} .

8 -

سفاهة النصارى وقلة تمييزهم حيثُ كانوا يعبدون الصليب ويعظمونه، ولو كانوا عقلاء لكسروه، صليب يصلب عليه نبيهم، ثم يذهبون إلى تقديسه! لو أخذنا بظاهر الحال لقلنا: هذا دليل على بغضهم لعيسى، حيث قدسوا ما عذب به، وهو الصليب، لكن هم يدعون أن هذا تعظيم لعيسى عليه الصلاة والسلام.

9 -

تمام قدرة الله عز وجل، حيث انقلب الرجل إلى مشابه عيسى، سواء قلنا: إنه أحد القاعدين في البيت، أو إنه اليهودي الذي دل اليهود على مكان عيسى، فهو في كلا الحالين دليل على تمام قدرة الله عز وجل.

10 -

إذا قلنا: إن المقتول هو الرجل الذي دل اليهود، فإن فيها تأييدًا للمثل القائل:"من حفر لأخيه حفرة وقع فيها"، فإن هذا الرجل جاء يدل اليهود ليقتلوا عيسى، فقتلوه هو.

11 -

أن اليهود اختلفوا بعد أن قتلوا عيسى - بزعمهم - هل قتلوه أم لا؟

12 -

أنهم تكلموا بهذا بلا علم، فهذا الإختلاف كله لا علم فيه، ولهذا قال تعالى:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} وكل المختلفين ليس لهم به علم، وإنما هو الظن.

13 -

أنه كما ينتفي العلم عن النصارى؛ لأنهم ضلال، فقد

ص: 444

انتفى العلم عن اليهود في هذه المسألة، ولم يدركوها حقًا.

14 -

الإشارة إلى ذم من اتبع الظن، ووجهه: أن الله نفى عنهم العلم أولًا، ونفي العلم يقتضي ثبوت الجهل، والجهل مذموم، فـ {اتِّبَاعَ الظَّنِّ} أيضًا مذموم، ولكن الله تعالى بين في سورة الحجرات أن الظن بعضه غير مذموم، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] يعني: ولا تجتنبوا بعض الظن، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يعني: وبعضه ليس بإثم، فالظن المبني على قرائن قوية، وليست أوهامًا ولا تخيلات هذا ليس بإثم، والظن الذي لا أصل له هذا إثم، ولكن إذا ظن الإنسان بأخيه سوءًا فهل الأولى أن يحقق أو أن يتجاهل الأمر؟ الجواب: يقال: حسب الحال، فقد يكون من المصلحة النفي حتى نصل إلى اليقين، إما نفيًا أو إثباتًا، وقد يكون من المصلحة أن نتجاهل ونتغاضى، فإذا كان الأمر بينك وبين هذا الرجل فالتجاهل أحسن، يعني: لو نقل إليك إنسان كلامًا فيك من شخص فالأولى أن تتجاهل هذا؛ لئلا يقع في قلبك شيء عليه، فضلًا عن أنه ربما تذهب إليه وتتنازع معه، ولهذا جاء في حديث رواه ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخبرني أحد منكم عن أحد شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"

(1)

والحديث فيه ما فيه من حيث السند، لكن معناه جيد، إلا إذا دعت الحاجة إلى إخبار الإنسان فهذا شيء آخر، مثل أن نعرف أن هذا الرجل بينه وبين هذا صداقة، ويفضي إليه بسره،

(1)

رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس، حديث رقم (4860)؛ والترمذي، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (3896)؛ وأحمد (1/ 395).

ص: 445

والثاني ينقل الكلام، فهو كالمنخل تمامًا لا يمسك الماء، فهذا يجب أن تنصحه، وإذا أخبرت عن حاله فليس هذا نميمة بل هو نصيحة.

المهم: أن الظن ينقسم إلى قسمين: بعضه له قرائن قوية فهنا ينتفي عنه الإثم، وقسم آخر ليس له قرائن قوية فظنه إثم.

15 -

انتفاء قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه لم يقتل يقينًا، لقوله:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} واليقين هنا عائد إلى نفي القتل.

فإن قال قائل: ما الذي أحوج القضية إلى أن يكون فيها هذا التأكيد، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} ألسنا نحن نؤمن بكلمة واحدة من ربنا عز وجل؟

الجواب: بلى، لكن الذي أوجب هذا أن اليهود لهم دعاية قوية فيما يذهبون إليه، فمن أجل هذه الدعاية القوية قوبلوا بهذه التأكيدات التي تدل على أنهم لم يقتلوا عيسى، وهذا من رحمة الله وحكمته، أما كونه من رحمته؛ فلئلا يعلق في قلوب المسلمين من هذه الدعاية، وأما كونه من حكمته الله، فلأجل أن يتبين الأمر كما هو، حتى لا يكون ملتبسًا.

16 -

أن هؤلاء الذين يدعون قتله لم يتيقنوا من قتله، بل هم في شك منه، بناءً على أن {يَقِينًا} مصدر في موضع الحال من فاعل "قتلوا"، يعني: وما قتلوه متيقنين بل هم في شك من ذلك، والله أعلم.

* * *

ص: 446

* قال الله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء: 158].

{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} {بَلْ} حرف إضراب، وهو إضراب إبطالي، وعلامة الإضراب الإبطالي أن يكون مبطلًا لما سبقه، وعلامة الإنتقالي ألا يكون مبطلًا لما سبقه، لكنه ينتقل من حال إلى حال، مثل قوله تعالى:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 66]{بَلْ} هنا انتقالية، لكن الإضراب في قوله:{بَلْ رَفَعَهُ} إضراب إبطالي؛ أي: بل لم يصدقوا في دعواهم.

وقوله: {رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، رفعه الله تعالى إليه حيًا، إما من كوة في البيت، أو من الباب، الله أعلم، وكل ذلك ممكن، وكل ذلك بقدرة الله عز وجل.

وقوله: {رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وأين كان؟

الجواب: كان في السماء الثانية، دليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به، وجد في الأولى: آدم، ووجد في الثانية: عيسى، ويحيى، ووجد في الثالثة: يوسف، ووجد في الرابعة: إدريس، ووجد في الخامسة: هارون، ووجد في السادسة: موسى، ووجد في السابعة: إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لأنه أعلى هؤلاء منزلة عند الله عز وجل، ولهذا كان في السماء السابعة، وآدم في السماء الدنيا ليقرب من بنيه، فإن بنيه كانوا في الأرض، وأقرب ما يكون إلى الأرض من السماوات: السماء الدنيا، وفضل الله واسع {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] إذًا قوله: {رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} إلى السماء الثانية، مع ابن خالته يحيى، لكن

ص: 447

يحيى ليس مرفوعًا في حال حياته، إنما هو مرفوع بعد أن مات.

قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} أي: ذا عزة، والعزة ثلاثة أقسام - كما قال العلماء -: عزة القهر، وعزة القدر، وعزة الإمتناع:

فعزة القهر: أن الله سبحانه وتعالى غالب غير مغلوب، وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي:

أين المفر والإله الطالبُ

والأشرم المغلوب ليس الغالبُ

ومن أمثلة ظهور الغلبة في العزة، قول الله تبارك وتعالى ردًا على قول المنافقين:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فالعزة هنا أظهر معانيها الغلبة؛ لأنه في مقابلة قول هؤلاء المنافقين، وعزة الغلبة واضحة، أن يكون غالبًا لكل شيء، فهو غالب وليس بمغلوب جل وعلا.

وعزة القدر: أي أنه ذو قدر عظيم لا نظير له.

وعزة الإمتناع: أنه يمتنع عليه النقص، وأخذوا هذا من قول العرب: أرض عزاز؛ أي: صلبه قوية.

قوله: {حَكِيمًا} أي: ذا حكمة، والحكمة هي: إحكام الشيء وإتقانه، ووضعه موضعه بحيث لا يقول عاقل ليته لم يكن هنا، هذه الحكمة، وقد نتوسع في المعنى ونقول: إن الحكيم مشتقة من الحكمة والحكم، قال الله تبارك وتعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فهو الحكيم؛ أي: الحاكم في عباده، وبين عباده، فهو الحاكم في عباده، يشرع ما شاء فيهم بأمره ونهيه، وهو الحاكم بينهم بشرعه في الدنيا وبجزائه في

ص: 448

الآخرة، ويكون أيضًا من الحكمة، وهي إتقان الشيء ووضعه في موضعه، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة في شرعه، وفي قدره، ولهذا نقول: الحكمة شرعية وقدرية.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} مناسبة ختم الآية بهذين الإسمين الكريمين؛ لأن هؤلاء اليهود جاءوا مغالبين يريدون أن يقتلوا رسولًا من رسل الله عز وجل، فناسب أن يختم الآية بالعزة والحكمة، وهي هنا في الحكم أظهر منها في الحكمة، يعني هو الحاكم عز وجل؛ ولذلك منع هؤلاء من إفسادهم وقتلهم النبي.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إبطال ما ادعاه هؤلاء من قتل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، حيث نفى قتله ثم بين أنه مرفوع إلى الله.

2 -

إثبات علو الله عز وجل، لقوله:{إِلَيْهِ} وإلى للغاية، فدل ذلك على أن المرفوع إليه عالٍ، والأدلة على علو الله تعالى بذاته كثيرة لا تحصر من القرآن، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة، وقد تكرر هذا كثيرًا وبيناه - والحمد لله -.

3 -

أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام حي، لقوله:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وهذا يقتضي رفعه بجسده، كما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم بجسده إلى السماوات.

ولو جاء سائل يقول: إذا قلنا: إن عيسى حيٌّ، فما الجواب على قول الله {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55]؟

والجواب على هذا: أن قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فيه أقوال:

الأول: أن المراد بالوفاة النوم، والدليل قول الله تعالى:

ص: 449

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60] والمعنى: أن الله تعالى عندما أراد أن يرفعه ألقى عليه النوم، حتى لا ينزعج بهذا الرفع.

والقول الثاني أن قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: قابضك، كما يقال: توفى فلان حقه؛ أي: استوفاه وقبضه.

والقول الثالث: أن الآية ليست على الترتيب الذكري، وأن المعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك، فيكون الترتيب هنا من باب الترتيب الذكري لا المعنوي، وهذه كلها أجوبة صحيحة، وأظهرها الأول، وهو أن المراد وفاة النوم، وأن الله تعالى ألقى عليه النوم حتى يكون {عند رفعه غير منزعج ولا متأثر.

4 -

إثبات هذين الإسمين لله عز وجل، وهما: العزيز والحكيم، والعزيز: المتصف بالعزة، والحكيم: المتصف بالحكم والحكمة؛ لأنها من حكم وأحكم، وسبق أن قلنا: إن عزة الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الإمتناع، فهي ثلاثة معان.

5 -

إثبات الحكمة لله عز وجل، وهو أنه لا يحكم بشيء إلا لحكمة ولا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهذه الحكمة قد تكون معلومة للناس، وقد تكون غير معلومة.

6 -

وجوب اقتناع الإنسان بحكم الله ورضاه بقدره، فوجوب اقتناعه بحكم الله؛ لأنه إذا آمن أنه لحكمة وجب أن يقتنع به، ولهذا كان السلف الصالح لا يقنعون النفوس عند الإشكال إلا بالنصوص، كما قالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت "ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت:

ص: 450

كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"

(1)

وأما الرضا بقضائه، فالمراد: أن يرضى الإنسان بقضاء الله لا بالمقضي؛ لأن المقضي فيه تفصيل، لكن القضاء من حيث هو قضاء الله يجب عليه أن يرضى به، وهذا من تمام توحيد الربوبية.

7 -

إثبات الحكم لله عز وجل، فالحكم لله كونًا وشرعًا، أما الحكم الكوني فنافذ على كل أحد؛ مسلم وكافر، مؤمن وفاجر، فكل أحد خاضع للحكم الكوني، وأما الحكم الشرعي فمن الناس من خضع له، ومن الناس من لم يخضع له، فالمؤمنون خاضعون له، والكافرون لم يخضعوا له.

* * *

* قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء: 159].

{إِنْ} هنا نافية؛ أي: "ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به" و {إِنْ} تأتي في اللغة العربية على وجوه متنوعة، فتأتي نافية كما في هذه الآية، وأمثلتها كثيرة، وغالبًا ما تأتي نافية إذا أتت بعدها إلا، مثل قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]، وقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7]، وقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]، وقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 137] فـ {إِنْ} تكون هنا نافية، وتأتي مخففة من الثقيلة، مثل:"إن زيدًا لقائم" فهي مخففة من الثقيلة، وتأتي شرطية مثل:"إن قام زيد قام عمرو".

(1)

رواه البخاري، كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة، حديث رقم (315)؛ ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، حديث رقم (335) عن عائشة، واللفظ لمسلم.

ص: 451

وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} المراد بهم اليهود والنصارى.

وقوله: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} مستثنى من محذوف، والتقدير "وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به" وعلى هذا فقوله:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} خبر لمبتدأ محذوف دل عليه السياق، وتقدير الخبر المحذوف أحد.

وقوله: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} نجد الفعل هنا مفتوحًا {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} فهو مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد.

وقوله: {بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} {بِهِ} أي: بعيسى عليه الصلاة والسلام، {قَبْلَ مَوْتِهِ} الضمير يعود على عيسى، وقيل يعود على الرجل من أهل الكتاب، يعني: أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضره الموت آمن بعيسى، أو المعنى: ما من أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى إلا آمن بعيسى، وكلا المعنيين صحيح، والثاني: أظهر، وهو أن الضمير يعود على عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأن عيسى سوف ينزل في آخر الزمان، وسوف يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، حتى الجزية لا يقبلها.

وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} ظرف، عامله:{يَكُونُ} ، والمعنى: أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يكون شهيدًا عليهم يوم القيامة.

ومعنى الآية الكريمة: أنه لا يوجد أحد من أهل الكتاب إلا آمن بعيسى قبل أن يموت عيسى، وعلى هذا التقدير يكون المعنى: ما من أحد من أهل الكتاب أدرك عيسى إلا آمن به قبل أن يموت، وعلى القول الثاني: أن الضمير يعود على الواحد من

ص: 452

أهل الكتاب، يكون المعنى: أنه ما من إنسان من أهل الكتاب يحضره الموت إلا آمن بعيسى، حتى اليهود الذين كانوا ينكرون رسالته يؤمنون به.

وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} هم اليهود والنصارى، وسموا بذلك؛ لأن لهم كتبًا حية وإن كانت محرفة، وهي التوراة عند اليهود، والإنجيل عند النصارى؛ ولهذا سموا أهل الكتاب، ولا يعلم كتاب بقي إلى بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام مما جاءت به الرسل إلا التوراة والإنجيل، وقيل: إن المجوس لهم كتاب أنزل، أو لهم شبهة؛ ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأنه لا يوجد كتاب بقي إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا التوراة والإنجيل.

وقوله: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي: إيمان قبول وإذعان، وليس مجرد التصديق؛ لأن مجرد التصديق لا يسمى إيمانًا، ولهذا لا يحكم بإيمان أبي طالب مع أنه مصدق، بل لا بد من قبول ما آمن به الإنسان والإذعان له.

وقوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى، أو موت الإنسان، وذلك حين يرى الحق، فإذا رأى الكتابي الحق سواء كان ذلك بنزول الموت، أو كان ذلك بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه يقبل، ولكن هذا الإيمان يكون كالإيمان الإضطراري؛ لأنهم لما كان باختيارهم لم يؤمنوا بعيسى بل كفروا به.

قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} وذلك مذكور في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا

ص: 453

لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 116 - 117] فيوم القيامة سيشهد عيسى ابن مريم عليها السلام على قومه أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن الكتابي قد يؤمن إيمان اضطرار إما عند موته، أو إذا نزل عيسى، ولكن النصوص تدل على أن الإيمان الإضطراري لا ينفع، وأن الإيمان لا ينفع إذا حضر الأجل، لقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] ولكن الإيمان الإضطراري في غير هذا الحال قد يرسخ في قلب المرء، فقد يؤمن أولًا خوفًا من السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه ويثبت، ويكون إيمانًا حقيقيًا يثاب عليه وينجو به من النار.

2 -

إثبات الموت للبشر كلهم حتى الأنبياء، قال الله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء: 34].

3 -

أن الموت ثابت للرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن دونهم من باب أولى، وقد ذكرنا أدلة على ذلك.

4 -

إثبات القيامة، لقوله:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} وقد بينا فيما سبق لماذا سمي هذا اليوم بيوم القيامة؟

5 -

أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يشهدون على أممهم؛

ص: 454

لقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} ، وهذا عام في كل الرسل؛ لقوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]، وهل يكون العلماء الذين هم ورثة الأنبياء شهداء؟

الجواب: نعم، فإن العلماء يشهدون على الأمم ببلوغ الرسالة إليهم، ويشهدون للرسل بأنهم بلغوا، ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء.

6 -

أن الناس يوم القيامة يتكلمون، ويستشهدون، ويناجون؛ لأن الله يقول:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].

* * *

* قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)} [النساء: 160 - 161].

{فَبِظُلْمٍ} الفاء عاطفة على ما سبق، والباء هنا للسببية، والظلمُ في الأصل النقص، ومنه قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)} [الكهف: 33] وأما في الشرع فهو التعدي، سواء كان بترك واجب أو بفعل محرم.

وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} يعني بهم: قوم موسى، حين قالوا:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: رجعنا، ومع رجوعهم والتزامهم بالرجوع إلى الله ظلموا أنفسهم.

ص: 455

قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} هذا الفعل هو العامل في قوله: {فَبِظُلْمٍ} يعني: الجار والمجرور في قوله: {فَبِظُلْمٍ} متعلق بقوله: {حَرَّمْنَا} ، والتحريم في اللغة المنع، ومنه حريم البئر، وهو: ما حولها، فيمنع من إحيائه، ومنه سمي النساء حريمًا، لاحتجابهن والمنع من التعدي عليهن.

وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، {طَيِّبَاتٍ} أي: أطعمة طيبات، فهي صفة لموصوف محذوف، والطيب ضد الخبيث، والخبيث له إطلاقات متعددة، تارةً يراد به الشيء النجس، وتارةً يراد به الرديء، وتارة يراد به المحرم مطلقًا.

قوله: {أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي: كانت في الأول حلالًا، وهي باقية على طيبها، لكن حرمت عليهم بسبب ظلمهم.

وقوله: {أُحِلَّتْ لَهُمْ} المُحِل هو الله عز وجل؛ لأنه هو الذي بيده الأمر.

قوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} {وَبِصَدِّهِمْ} الواو حرف عطف، وصدّ: مصدر يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي، ويحتمل أن يكون من الفعل اللازم، وذلك لأن صدَّ تكون فعلًا لازمًا، وتكون متعدية، فيقال:"صد الرجل عن كذا" بمعنى أعرض، "وصد غيره عن كذا" بمعنى صرفه عنه، وهنا يجوز فيها الأمران، فهم قد صدوا أنفسهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} وصدوا غيرهم أيضًا بما عندهم من الكتاب الذي يشبهون به، ويموهون به على الناس، ويقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس هو المبعوث المنتظر أو ما أشبه ذلك.

وقوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} المراد بسبيل الله شرعه الذي

ص: 456

شرعه الله لعباده، وسمي سبيل الله؛ لأنه طريق موصل إلى الله عز وجل؛ ولأن الله تعالى هو الذي وضعه للعباد، ولم يشرعه أحد سواه، فأضيف إلى الله تعالى باعتبارين: الإعتبار الأول: أنه موصل إليه، كما تقول: هذا طريق المدينة، وهذا طريق مكة، والثاني: أن الله هو الذي وضعه للعباد وشرعه لهم، مع أنه يضاف أحيانًا للسالكين؛ كقوله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فهنا أضاف السبيل إلى المؤمنين باعتبار أنهم سالكوه، وعلى هذا فإذا أضيف السبيل إلى الله كان باعتبارين، وإذا أضيف إلى العباد صار باعتبار واحد.

وقوله: {كَثِيرًا} يختلف إعرابها باختلاف كلمة صدّ، فإن كانت لازمة فهي صفة لمصدر محذوف؛ أي:"صدودًا كثيرًا" وإن كانت متعدية فهي مفعول لصدّ، وإن شئت قلت: صفة لمفعول صدّ المحذوف؛ أي: "خلقًا كثيرًا"، وهم في الواقع جديرون بالوصفين فأنهم صدوا بأنفسهم، وصدوا غيرهم.

قوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} هذا الوصف الثالث {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} ولم يقل أكلهم؛ لأن الأخذ أعم، فقد يأخذ إنسان الربا ولا يأكله، فيستعمله في لباس أو في بناء أو ما أشبه ذلك، وقد يأخذه للأكل، فتارةً يعبر بالأكل؛ كقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] وتارةً يعبر بالأخذ وهو أعم، لكن التعبير بالأكل أشد؛ لأن ممارسة الآكل للربا أشد من ممارسة غير الآكل، إذ أن الآخذ يستعمل الربا، وقد يفيده في أمور أخرى غير الأكل.

ص: 457

وقوله: {الرِّبَا} لغة: الزيادة، وفي الشرع: الزيادة في أشياء معينة، بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والشعير، والتمر، والبر، والملح، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم:"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر وبالبر، والملح بالملح، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر مثلًا بمثل سواء بسواء"

(1)

أما إلحاق غير الستة بها فقد اختلف العلماء في ذلك:

أما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها غيرها؛ لأنهم يمنعون القياس، وأما القياسيون فاختلفوا، فمنهم من قال: لا يلحق بها غيرها، بل يقتصر على ما جاء به النص، كابن عقيل الحنبلي رحمه الله، حيث قال: يقتصر على ما جاء به النص، مع أنه من أهل القياس والمعاني، لكنه قال: إن العلماء اختلفوا في العلة واضطربوا، وليس هناك نص بيِّن يجب المصير إليه، فإذا اختلفوا فهو كاختلاف المأمومين على الإمام في الزيادة أو النقص في الصلاة، والمعروف أنه إذا اختلف المأمومون على الإمام في الزيادة أو النقص سقطت أقوالهم، ولم يؤخذ بقول الزيادة ولا بقول النقص، فيقول: لما اختلف العلماء رحمهم الله في علة الربا في هذه الأشياء الستة بطلت العلة، ورجعنا إلى القول بأنه يقتصر على ما جاء به النص.

والقول الثاني عند أصحاب القياس: أن العلة معقولة، ويمكن أن يلحق بهذه الأشياء الستة ما كان مثلها، ثم اختلفوا في المماثلة، هل هي الطعم، أو الكيل، أو الكيل والإدخار؟ ولهذا

(1)

اللفظ لمسلم، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، حديث رقم (1587).

ص: 458

كانت أقوال العلماء في هذه المسألة مضطربة لا تكاد تأتي على شيء تطمئن إليه كثيرًا.

وعلى كل حال نحن نقول: الربا حرمه الله ورسوله، سواء كان ذلك عن طريق الأثر أو عن طريق النظر والقياس.

قوله: {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ، {وَقَدْ} الواو هنا للحال، يعني: والحال أنهم {قَدْ نُهُوا عَنْهُ} وبلغوا، وقامت عليهم الحجة، لكنهم أخذوه، والناهي عنه هو الله ورسله.

الوصف الرابع: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يعني أنهم استولوا على أموال الناس، فالمراد بالأكل هنا الإستيلاء سواء استولوا فأكلوه، أو لبسوه أو عمَّروا، أو فعلوا أي شيء.

وقوله: {بِالْبَاطِلِ} ، "الْبَاطِلِ" كل ما خالف الشرع فهو باطل، سواء أخذوه عن طريق الغش، أو عن طريق الكذب، أو عن طريق الجهل بالمبيعات، أو عن طريق كتم الحق، أو ادعاء ما ليس لهم، المهم أن المراد {بِالْبَاطِلِ} كل ما أخذ بغير حق.

وقوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يحتمل أن تكون معطوفة على ما سبق، ويكون العامل هو {حَرَّمْنَا} يعني: وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم بصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا

إلخ، ويحتمل أن العامل محذوف، والتقدير: وعذبناهم بصدهم عن سبيل الله كثيرًا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، ويدل عليه قوله:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .

يخبر الله في هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء اليهود الذين ظلموا أنفسهم، حرم الله عليهم بعض الطيبات لا كل الطيبات،

ص: 459

بدليل قوله: {طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهي نكرة لا تفيد العموم، بدليل الإطلاق، فما الذي حرم عليهم؟

الجواب: قال الله تعالى مبينًا ذلك في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فحرم الله عليهم من أجناس الحيوان {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} والمراد بكل ذي ظفر: كل ما رجلاه، أو قدماه غير مشقوقة، يعني: الذي لم تشق رجله يسمى: ذا الظفر، مثل الإبل، والنعام، وما أشبه ذلك، يعني: الذي ليس له أصابع ولا شقت قدمه يسمى: ذا الظفر، وعلى هذا فالإبل محرمة على بني إسرائيل.

قوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} يعني: أنهم كانوا صادين عن سبيل الله وصادين لغيرهم أيضًا، فهم مستكبرون ومجرمون؛ مستكبرون عن طاعة الله بصدهم لأنفسهم، ومجرمون حيثُ اعتدوا على غيرهم، وصدوهم عن سبيل الله.

قوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} يعني: أخذهم إياه أكلًا واستعمالًا وانتفاعًا.

قوله: {وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} وهذا أشد في الإثم والتحريم؛ لأنهم قد قامت عليهم الحجة.

وكذلك أيضًا وصفهم بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ومن ذلك الرشوة، فقد كانوا آكالين للسحت والرشوة في الحكم، يعني: أنهم يرشون الحكام ليحكموا لهم بما لم ينزل به الله شرعًا، ثم بين الله عز وجل أنه أعد للكافرين منهم عذابا أليما،

ص: 460

وهنا نجد الإظهار في موضع الإضمار، حيث لم يقل "وأعتدنا لهم" بل قال:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقد سبق أن للإظهار في موضع الإضمار فوائد، وهي: الإشارة إلى علة الحكم، والإشارة إلى عموم الحكم لكل من اتصف بهذا الوصف، والتسجيل عليهم بما يقتضيه هذا الوصف؛ أي: أنهم بذلك صاروا كفارًا، لكن هنا لا يستقيم هذا المعنى؛ لأنه قال:{لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} فجعلهم قسمين: قسم كافر، وقسم غير كافر، أيضًا تنبيه للمخاطب؛ لأن الكلام إذا خرج عن الأسلوب فإنه لا بد أن ينتبه الإنسان، ومن ذلك الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة أو العكس، فهذا يقتضي انتباه المخاطب، وهو أسلوب من أساليب العربية.

وبيَّن الله عز وجل أن هذا العذاب الذي أعدهُ لهم أليم؛ أي: مؤلم، وفعيل تأتي بمعنى مُفعل، ومنه قول الشاعر:

أمن ريحانة الداعي السميعُ

يؤرقني وأصحابي هجوع

معنى السميع هنا: المسمع.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

إثبات الأسباب، وأن الله تعالى قد يشرع الشيء لسبب، لقوله:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، ومن ذلك أن الله شدد على بني إسرائيل الذين أمروا بذبح البقرة حين قال لهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فلو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لأجزأهم، وحصل بذلك المقصود، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.

ص: 461

وإثبات الأسباب انقسم الناس فيه إلى طرفين ووسط: منهم من أنكر الأسباب مطلقًا، وقال: إثبات الأسباب يقتضي إثبات خالق مع الله، ومنهم من أثبت الأسباب على أنها فاعلة بطبيعتها، ومنهم من أثبت الأسباب على أنها فاعلة بما أودع الله فيها من القوى الموجبة للمسببات، وهذا القول هو القول الوسط الذي دل عليه المنقول والمعقول، فأي دعوى لخالق مع الله، إذا قال: إن الله خلق هذا الشيء ليكون سببًا للشيء الفلاني؟ وأي دعوى تصح لإنكار تأثير الأسباب في مسبباتها، وكل يعرف أن الأسباب مؤثرة في مسبباتها، ولهذا هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فأثبتوا أن الذي خلق الأسباب وأوجدها هو الله عز وجل.

ولذلك قد تتخلف المسببات بإذن الله، كما تخلف إحراق النار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، مع أنها نار عظيمة محرقة، حتى قيل: إنهم لم يستطيعوا أن يقربوا منها، بل رموه إليها بالمنجنيق من بعد، ومع ذلك صارت عليه بردًا وسلامًا، وهذا يدل على أن السبب ليس يؤثر بنفسه، بل بإرادة الله عز وجل، وأيضًا من حكمة الله عز وجل أن جعل لكل شيء سببًا.

2 -

أن الظلم سبب لحرمان الخير، وهذا لقوله:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، والظلم سبب لحرمان الخير الشرعي والقدري، فقد ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم ليخبر أصحابه بأن الليلة ليلة القدر، فتلاحى رجلان من الأنصار أو من غيرهم فرفعت

(1)

، ونسيها عليه

(1)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (49) عن عبادة بن الصامت.

ص: 462

الصلاة والسلام، وهذا حرمان لأمر شرعي، وهو "أن من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه"

(1)

لكن حرم الناس هذا الخير بسبب الظلم، وهو التلاحي، والتخاصم، والتنازع، ولهذا يغفر في ليلة القدر لغير المتشاحنين؛ أي: الذين بينهم شحناء، كما تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس فيغفر لكل أحد إلا من بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا

(2)

.

3 -

أن الله تعالى قد يحرم بالظلم تحريمًا قدريًا، لأن الذي حصل لبني إسرائيل تحريم شرعي، قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] فهذا تحريم شرعي، لكن قد يحرم الإنسان تحريمًا قدريًا مع حل الشيء شرعًا، فيصاب مثلًا بمرض، فيقول له الأطباء: اترك الأكلة الفلانية، بسبب ظلمه، وقد يتهور إنسان مثلًا ويسرف في الإنفاق - والإسراف في الإنفاق أكلًا وشربًا ولبسًا حرام -، والدليل:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فقد يسرف الإنسان، فيحرم من هذا الخير الذي أسرف فيه قدرًا لا شرعًا، بأن يصاب بمرض لا يتلاءم معه أن يأكل كل شيء، أو أن يلبس كل شيء، وهذا نسميه: تحريمًا قدريًا.

4 -

أن الأمر إلى الله تعالى تحليلًا وتحريمًا، لقوله:

(1)

رواه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونيه (1901)؛ رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760) عن أبي هريرة.

(2)

رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي من الشحناء والتهاجر (2565) عن أبي هريرة.

ص: 463

{حَرَّمْنَا} ، وقوله:{أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهو كذلك، فالتحليل والتحريم ليس إلينا ولا لأحد من الناس، بل هو إلى الله ورسوله، قال الله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

5 -

أن الطيبات نفسها قد تكون ممنوعة شرعًا حتى بعد كمال الدين، يقول شيخ الإسلام: إن الطعام حرام على الإنسان إذا كان يتأذى به لو أكل، أو خاف التخمة، فإنه يكون حرامًا عليه، مثلًا: لو أن إنسانًا أكل طعامًا، وكان الطعام شهيًا ولذيذًا، فجعل يأكل ويأكل ويأكل حتى وصل إلى الحلقوم، فهذا لا شك أنه سيتأذى، وربما يحصل عليه ضرر إما في الحاضر أو المستقبل، فيقول شيخ الإسلام: إنه يحرم عليه أن يأكل، وكذلك إذا خاف التخمة، وذلك بتغير المعدة ونتنها، وإن لم يكن من أجل الأذية، فأحيانًا بعض الأطعمة لا يتلاءم مع أطعمة أخرى، فتجد الإنسان يأكل هذا على هذا، فتتغير معدته، ويحصل لها نتن ورائحة كريهة، هذا أيضًا نقول: إنه حرام عليه أن يأكل؛ لأن الله أنما أباح الأكل والشرب من أجل تقويم البدن، فإذا عاد ذلك إلى ضرر صار حرامًا.

6 -

التحذير من الصد عن سبيل الله، سواء كان صدًا بنفسه أو صدًا لغيره، لقوله:{وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} .

7 -

أن الصد لا يتقيد بصيغةٍ معينة، بل كل ما فيه صد عن سبيل الله سواء بالتخذيل، أو بالإرجاف، أو بالإيعاد، أو بالوعد، أو بغير ذلك فإنه داخل في التحذير من ذلك، ومن أمثلة الصد عن سبيل الله بالتخذيل: أن يأتي المرء إلى إنسان ويقول له: يا فلان! لا تكلف نفسك بالدعوة والموعظة ونصح الناس، إنك تدعو موتى، ولقد أسمعت لو ناديت حيًا، مع أن الأول المنصوح

ص: 464

عنده همة ونشاط وعزيمة، فيأتي هذا ويخذله، فيكون هذا قد صد عن سبيل الله، لكن إذا علم أن هذا الشخص ربما يتكلم بما لا يعلم، فتخذيله عن الكلام ليس من الصد عن سبيل الله، بل من حماية سبيل الله؛ لأنه ربما يأتي إنسان عنده إقدام، وعنده شجاعة، ويحب أن يدعو، لكن لا علم عنده، فهذا لا حرج عليك إذا قلت له: إنه لا ينبغي له أن يكلف نفسه أو يتعبها، سواء أضفت هذا إلى أن الناس لن يقبلوا منه، أو أضفت هذا إلى أنه ليس عنده علم فيقع في حرج، فهذا لا بأس به، بل هذا من حماية سبيل الله، وليس من الصد عن سبيل الله.

8 -

ذكر الوصف الذي يكون أشد في الذم وإن كان لا مفهوم له، لقوله:{وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} ، فهذا غاية الذم، لكن لو أنهم صدوا قليلًا لكان لهم نصيب من الإثم، إنما الغاية هي الكثرة.

9 -

أن المتعاطين للربا من هذه الأمة مشبهون لليهود، لقوله:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} .

10 -

أن أخذ الربا محرم، سواء كان للأكل، أو للشرب، أو للبس، أو للإقتناء، أو لأي غرض كان، لعموم قوله:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} .

11 -

أن الحجة لا تقوم إلا بعد بلوغها، وأن من فعل شيئًا لا يدري عن حكمه فهو غير مؤاخذ به، لقوله:{وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} ، وعلى هذا فلو تعامل الإنسان بمعامله ربوية وهو لا يدري أنها من الربا، يعني أنه يعرف الربا؛ لكن لا يدري أن هذه المعاملة المعينة من الربا، ثم علم بعد ذلك، فلا نقول: إن ما أخذه من

ص: 465

الربا حرام، بل نقول: ليس حرامًا، لقوله تعالى:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275]، وهو لم يعلم أنه منهي عنه، لكن إذا كان يعلم أنه منهي عنه وأخذه ثم تاب، فهل نقول رده على من أخذته منه؟

الجواب: لا؛ لأننا إذا قلنا رده على من أخذته منه، لكان له - أي: للمردود عليه - الغُنم مرتين، لكن نقول: تصدق به، ولا تدخله في ملكك، وأيضًا لا ترده إلى المرابي الذي كان عالمًا بأن الربا حرام، وسولت له نفسه فأعطاك الربا.

وإذا كان المرابي قد أُخذ منه الربا، وتاب، فلا يلزمه أن يتصدق بمقدار ما أعطى من الربا؛ لأنه مظلوم في الواقع، فإذا تاب إلى الله عز وجل فإننا لا نقول: يلزمك أن تتصدق بمقدار ما دفعت من الربا، فالكلام فيمن أخذ الربا.

12 -

تحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ لقوله: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} ، وقد ذكرنا أن الباطل هو ما ليس بحق، وبناء على ذلك: لو أن الإنسان أكل مال الحربي فلا يكون ممن أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الحربي مباح الدم والمال، ولو تلصص جماعة ليس لهم شوكة على بلاد الكفار الحربية وأخذوا أموالًا فهي لهم، ولا شيء عليهم في ذلك؛ لأن أموال الكافر الحربي مباحة للمسلمين.

وإن أخذ مال ذمي أو معاهد أو مستأمن بغير حق فقد أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن هؤلاء الثلاثة معصومون؛ فأموالهم محترمة، وأنفسهم محترمة.

13 -

الوعيد الشديد لمن اتصف بهذه الصفات: الظلم،

ص: 466

وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله، لقوله:{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .

14 -

إثبات عدل الله عز وجل، حيثُ ذكر هذه الصفات، وذكر أن الذي أُعد له العذاب الأليم هو الكافر من هؤلاء.

* * *

* قال الله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)} [النساء: 162].

قال الله عز وجل استدراكًا على ما مضى من وصف هؤلاء الذين هادوا: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} فقوله: {لَكِنِ} هنا حرف استدراك على ما مضى من أوصافهم، وقوله:{الرَّاسِخُونَ} اسم فاعل من رسخ إذا ثبت، ومنه رسوخ الشجرة، ورسوخ أساس البنيان، وما أشبه ذلك؛ لأنه يثبت ولا يتزعزع، وقوله:{فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} ، {الْعِلْمِ} المراد به هنا العلم الشرعي، فـ "ألـ" للعهد الذهني؛ لأن الرسوخ في غير العلم الشرعي لا يمدح صاحبه فيه ولا يذم، بل هو على حسب ما يؤدي إليه ذلك الرسوخ.

وقوله: {مِنْهُمْ} أي الذين هادوا، ونمثل لهذا بعبد الله بن سلام رضي الله عنه، فإنه كان حبرًا من أحبار اليهود، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ، قوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على قوله: {الرَّاسِخُونَ} ، لكن هل

ص: 467

المراد بذلك {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الذين أثمر علمهم الإيمان، فتكون من باب عطف الصفة على الصفة، وعطف الصفة على الصفة جائز في اللغة العربية، كما في قوله تبارك وتعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: 1 - 4] أو أن المؤمنين هنا غير الراسخين في العلم، والمراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار؛ أي: من هذه الأمة، فيكون العطف من باب عطف المتباينين المتغايرين؟ ذكروا في هذا قولين: ولا يبعد أن يكون القولان كلاهما صحيحًا.

وقوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ، {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} هو القرآن، والمنزل له هو الله عز وجل، كما قال تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]، والمنزل إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم، والنازل هو القرآن، إذًا "مَا" اسم موصول يعود على القرآن.

وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} أي: من الكتب السابقة، فيؤمنون بأن الله أنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود، والصحف على إبراهيم، وكذلك على موسى عليهم الصلاة والسلام.

قوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} أي: الذين يأتون بها على وجه الإستقامة والتمام، بأن يأتوا بها تامة الشروط والأركان والواجبات، ويكملونها بالمستحبات، والمراد بالصلاة هنا عموم الصلوات فيشمل الفرائض والنوافل.

ص: 468

وفي الآية إشكال من حيث الإعراب، حيث جاء قوله:{وَالْمُقِيمِينَ} بالياء بين مرفوعات؛ مرفوع سابق، ومرفوع لاحق، فأشكل على بعض الناس كيف جاءت هذه الكلمة بين المرفوعات على أنها بالياء؟ فقيل: إن قوله: {الْمُقِيمِينَ} معطوف على قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} ؛ أي: والمؤمنون بـ {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} والمراد بهم الملائكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أنه ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد، فكأنه قال: والمؤمنون بالملائكة، وقيل: إن المقيمين هنا وصف عام، يشمل كل من أقام الصلاة من الملائكة وغيرهم، وأنه نص على {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} لأهميتها؛ ولأنها آكد أفعال البدن من العبادات، فعلى هذا تكون منصوبة لا مجرورة، ونصبت على المدح؛ أي: أمدح {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} فعاملها محذوف والتقدير وأمدح المقيمين الصلاة، وإنما جاء القطع حيث نصبت بفعل محذوف، لفائدتين:

الفائدة الأولى: معنوية، وهي بيان العناية بإقامة الصلاة.

الفائدة الثانية: الإنتباه، وذلك لأن الكلام إذا كان على نسق واحد فإن الإنسان ينسجم معه، ولا يكون هناك شيء يوجب وقوفه، لكن إذا اختلف توقف، وتساءل: لماذا جاءت هذه الكلمة على هذا الوجه، مخالفة لغيرها من الكلمات؟

وهذا بلا شك خير ممن قال: إن هذا غلط من الكتاب، كما قال بعضهم - والعياذ بالله - حيث قال إن الذين كتبوا المصحف أخطأوا فقالوا: والمقيمين، وأنها على قراءة ابن مسعود "والمقيمون" وهي الصواب، لكن هذا لا يستقيم إطلاقًا، إذ كيف

ص: 469

يمكن للأمة الإسلامية أن يبقى الغلط في القرآن الكريم ولا يغير، وكيف يلتئم هذا مع قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

والحقيقة أن الغالط هو القائل بهذا، وأنه أبعد النجعة وأخطأ خطأ عظيمًا، بل الفائدة كما ذكرنا سابقًا.

إذًا: يبقى النظر هل نقول إن "المقيمين" بالجر، والمعنى {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ، وهم الملائكة، أو أنها منصوبة على تقدير فعل محذوف؟

الجواب: الثاني أولى، وإن كان الأول فيه احتمال، لكن الثاني هو الراجح، والحكمة من ذلك أي: من القطع لفظية ومعنوية كما ذكرنا.

قوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قيل: إنها مستأنفة، وأن الخبر قوله:{أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} ، وقيل: إنها معطوفة على ما سبق من قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ، لكن الأقرب أنها مستأنفة لوجود الفاصل بينها وبين المعطوف عليه، وهو قوله:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} .

وقوله: {وَالْمُؤْتُونَ} أي: المعطون و {الزَّكَاةَ} أي: النصيب المقدر في الأموال الزكوية، وعلى هذا فالمراد بذلك زكاة المال، وقيل: المراد بذلك زكاة البدن، لقول الله تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] والمراد بذلك زكاة البدن، لكن الأول أقرب إلى الصواب؛ لأن الله تعالى يقرن دائمًا بين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

وقوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يعني: المعطونها لمستحقيها،

ص: 470

والزكاة: مال فرضه الله تعالى في أموال معينة، تؤخذ من الأغنياء، وترد على الفقراء.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الإيمان بالله ليس هو التصديق فقط؛ لأن مجرد التصديق لا يسمى إيمانًا، ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنًا مع كونه مصدقًا للرسول عليه الصلاة والسلام، بل الإيمان هو: الإقرار التام المستلزم للقبول والإذعان، فلا بد من إقرار القلب الإقرار التام، ولا بد من قبول ما جاءت به الشريعة، ولا بد من الإذعان حتى يتم الإيمان، والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وبربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وتفرده في ذلك، وهذا قد مضى كثيرًا مشروحًا مبينًا، وقوله:{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو يوم القيامة، ووصف بالآخر لأنه لا يوم بعده فإنه آخر مراحل الإنسان؛ لأن الإنسان له أربع مراحل بعد أن يكون إنسانًا:

المرحلة الأولى: في بطن أمه، والثانية: في الدنيا، والثالثة: في البرزخ، والرابعة: في يوم القيامة.

ولهذا يسمى اليوم الآخر، وليس الآخر هو البرزخ الذي بين الحياة والموت، كما يفهم من تعبير بعض الناس، حين يصف الميت بأنه انتقل إلى مثواه الأخير، فإن هذا ليس بصحيح، بل مثواه الأخير هو يوم القيامة إما الجنة وإما النار.

والإيمان باليوم الآخر لا يتضمن أن تؤمن أن الناس سوف يبعثون فقط، بل له متعلقات كثيرة، حددها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ كفتنه القبر، وعذاب القبر،

ص: 471

ونعيم القبر، وما أشبه ذلك، فإنه يدخل في الإيمان باليوم الآخر؛ لأن الموت آخر ما للإنسان في الدنيا، فإن من مات قامت قيامته، والإيمان باليوم الآخر يتضمن استقامة الإنسان على دين الله؛ لأنه يخاف اليوم الآخر، ويرجو اليوم الآخر، كما قال تعالى:{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: 6] فهو يخاف اليوم الآخر فيتجنب المعصية، ويرجو اليوم الآخر فيقوم بالطاعة، ولهذا يقرن الله تبارك وتعالى دائمًا بين الإيمان به والإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان باليوم الآخر هو الذي يحمل على الإستقامة أو على تمام الإستقامة.

قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} فيها قراءتان "سيؤتيهم" و {سَنُؤْتِيهِمْ} ، وقراءة "سيؤتيهم" جارية على نسق الكلام؛ لأن نسق الكلام كله للغائب في قوله:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} أي: "سيؤتيهم" الله {أَجْرًا عَظِيمًا} فالقراءة بالياء - وهي سبعية صحيحة - هي على نسق السياق، وأما القراءة بالنون ففيها انتقال من الغيبة إلى المتكلم، والإنتقال - ويسمى الإلتفات - له فائدة، وهي تنبيه المخاطب بما سيأتي بعد؛ لأنه إذا تغير نسق الكلام فلا بد أن يتوقف الإنسان متسائلًا: ما هو السبب الذي تغير به الكلام؟ وحينئذ ينتبه إلى المعنى أكثر.

أما الفوائد الأخرى التي تتفرع على الإلتفات، فكل مقام يذكر له ما يناسبه، فقوله هنا:{أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} يكون تكفلًا صريحًا من الله عز وجل بأنه سيؤتيهم أجرًا عظيمًا، وإضافة الشيء إلى النفس أبلغ من إضافته إلى الغائب.

ص: 472

وقوله: {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} أي: ثوابًا عظيمًا؛ أي: ذا عظمة، واعلم أن العظيم إذا عظم الشيء فإنه يكون فوق ما يتصور، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"

(1)

.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

تمام عدل الله عز وجل، وأنه إذا حكم بحكم عام يختص أفراده بخلاف ذلك الحكم فلا بد أن يذكره، ونأخذ هذا من كلمة:{لَكِنِ} الإستدراكية، بعد أن حكم عليهم بما حكم؛ من أخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، قال:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ} فتمام العدل أن يذكر الخير والشر، سواء كان ذلك الخير والشر بالنسبة للطائفة، أو كان ذلك الخير والشر بالنسبة للواحد، فمن أراد تقويم شخص فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه، أما من أراد أن يبطل ما يكون من باطل فهنا لا يلزم أن يذكر المحاسن؛ لأن ذكر المحاسن في مقام الرد عليه يرفع الرد عليه، والتنفير منه، ويوجب العطف عليه، فهنا يفرق بين شخص يريد أن يقوِّم شخصًا فلا بد أن يذكر المعايب والمحاسن، وبين إنسان يريد أن يرد على شخص باطله فيذكر الباطل ولا يذكر المحاسن؛ لأنه لو ذكر المحاسن لضعف جانب الرد عليه.

2 -

فضيلة الرسوخ في العلم، وانتبه لكلمة "الرسوخ"،

(1)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث رقم (3072)؛ ومسلم أول، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2824) عن أبي هريرة.

ص: 473

ومعناها الثبوت والإستقرار، وذلك لأن العلم علمان: علم راكد، بمعنى أنه على السطح، وأي ريح تزعزعه، وهذا ما يكون عند كثير من الطلبة، فتجد كثيرًا من الطلبة يجمع العلوم دفعه واحدة، فيكون كالطبيب العام، ليس له اختصاص في شيء، وبعض الطلبة يركز ويحرص، فهذا هو الذي يدرك العلم، ويكون عنده قدرة وملكة، حتى إن بعض العلماء زعم أن من نبغ في فن من الفنون كان مدركًا لجميع الفنون.

ولا يخفى ما ذكر عن محاجة أبي يوسف مع الكسائي، حين تناظرا عند الرشيد، وكان الكسائي يزعم أن كل من أتقن علمًا إتقانًا تامًا أمكنه أن يدرك جميع العلوم، فقال له أبو يوسف: ما تقول فيمن سها في سجود السهو؟ قال أقول: لا سجود عليه، قال: من أين أخذت هذا من علمك - والكسائي معروف بعلم النحو - قال: أخذته من علمي أن القاعدة عندي أن المصغر لا يصغر، فسجود السهو على زعمه مصغر فلا يصغر.

على كل حال هذه قصة الله أعلم هل هي مصنوعة أو حقيقة، وهي بلا شك غير صحيحة، لكن قصدي من إيرادها أن أقول: إن الرسوخ في العلم هو العلم، ومن ثم كنت أقول دائمًا لطلاب العلم احرصوا على قواعد العلم وضوابط العلم، وذلك لأن الجزئيات لا حصر لها، فكل يوم يخرج للناس معاملة جديدة، أو حدث جديد في العبادات، ولا يمكن للإنسان أن يحكم عليه الحكم الصحيح إلا إذا كان عنده قواعد وأصول يلحق بها هذه الجزئيات، أما من يأخذ العلم مسألة مسألة فهو كالذي يلقط الجراد من الصحراء؛ لأنه سيتعب دون أن يملأ الكيس،

ص: 474

لكن الذي يحرص على القواعد هو الذي يدرك العلم بإذن الله.

3 -

أن العلم سبب للإيمان، لقوله:{يُؤْمِنُونَ} ولا شك أنه كلما ازداد الإنسان علمًا ازداد إيمانًا وبصيرة بتوفيق الله عز وجل، فعليك بالعلم واحذر الشبهات والجدال. قال ابن مسعود رضي الله عنه:"ما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا"

(1)

ولهذا نجد أن أهدى الناس طريقًا، وأقلهم تكلفًا هم الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الجدال عندهم قليل، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة، أما كون الإنسان كلما فهم مسألة ذهب يورد فيها على قلبه أو على غيره ما لا يكون واردًا، فهذا من التكلف والتنطع، وهو سبب للحرمان.

4 -

أن من أهل الكتاب من هو راسخ في العلم، مؤمن بالله، لقوله:{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي: من أهل الكتاب.

5 -

أنه لا يمكن أن يتم الإيمان إلا بالإيمان بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، لقوله:{يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} فكل إنسان يدعي أنه مؤمن دون أن يؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كافر وكاذب في دعواه؛ لأن دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ناسخ لجميع الأديان.

6 -

إثبات رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤخذ من الكاف في قوله:{بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} .

7 -

أن القرآن كلام الله، والكلام صفة للمتكلم، فيقتضي ذلك أن الله هو الذي تكلم به وهو كذلك.

8 -

أنه لا بد من الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل

(1)

انظر: قسم التفسير وأصوله، تفسير سورة الكهف (6/ 77).

ص: 475

من قبله، لقوله:{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ولهذا جاء في الآية من سورة البقرة: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [285].

9 -

الإشارة إلى أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله:{مِنْ قَبْلِكَ} ولم يقل من بعدك، وهذا هو الواقع، لكن الآية فيها الإشارة وليس فيها التصريح.

10 -

فضيلة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأن الله تعالى نص عليهما من بين سائر الأعمال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قرينتان في كتاب الله، ولولا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مانع الزكاة وأنه يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، لقلنا: إن تارك الزكاة كافر، كما قلنا ذلك في تارك الصلاة، لكن ليس لنا أن نكفر من دلت النصوص على عدم كفره، كما أنه ليس لنا أن نتهيب في تكفير من دلت النصوص على كفره؛ لأننا متعبدون بقول الله ورسوله.

11 -

فضيلة الإيمان بالله واليوم الآخر، لقوله:{وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ونص على الإيمان بهذا مع أنه داخل في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} لأهميته؛ لأن مدار الإيمان كله على الإيمان بالله؛ لأنا نؤمن بأن الرسل رسل الله، وأن الكتب كتب الله، وأن الملائكة عباد الله، وهلم جرًا، فالركيزة الأولى هي الإيمان بالله عز وجل، وما بعده يعتبر فروعًا أو جهات متعددة من الإيمان بالله.

12 -

إثبات اليوم الآخر وقد سبق الكلام عليه.

13 -

وعد الله سبحانه وتعالى من اتصف بهذه الصفات، أنه

ص: 476

سيؤتيه أجرًا عظيمًا لا يتصور عظمته، لقوله:{أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} .

14 -

علو مرتبة هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، يؤخذ ذلك من الإشارة إليهم بإشارة البعيد {أُولَئِكَ} ولم يقل: هؤلاء، ولم يقل: فإننا سنؤتيهم، بل قال:{أُولَئِكَ} والإشارة إلى المشار إليه بالبعد تدل على علو مرتبته، كما في قوله تعالى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} [البقرة: 1، 2] مع أنه بين أيدينا، لكن لعلو مرتبته أشير إليه بإشارة البعيد.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم، المؤمنين بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبلنا.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)} [النساء: 163].

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} {إِنَّا} الضمير يعود إلى الله عز وجل، وجاء بصيغة الجمع للتعظيم.

وقوله: {أَوْحَيْنَا} الوحي هو: الإعلام بسرعة وخفاء، والمراد به هنا: إعلام الله تعالى أنبياءه ورسله بشرعه الذي يتعبد به عباده، فهذا هو الوحي، وقد ذكر الله عز وجل في سورة "الشورى" أنه ثلاثة أقسام، فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا

ص: 477

وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].

وقوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} "ما" هنا يحتمل أن يكون موصولة، وإذا كان كذلك فلا بد من عائد محذوف، والتقدير: كالذي أوحيناه إلى نوح، ويحتمل - وهو الأقرب - أن تكون مصدرية؛ أي: كإيحائنا، وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير.

ونوح هو أول الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث الشفاعة.

ولهذا قالوا: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} والمراد بـ "النَّبِيِّينَ" هنا النبيون الذين أرسلوا إلى أقوامهم، وقد جعل الله النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم ونوح، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] وبهذا نعرف أنه لا رسول قبل نوح عليه الصلاة والسلام، وأن ما ذكر المؤرخون من أن إدريس قبل نوح عليهما السلام فهو قول خطأ، والصواب: أن إدريس عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل فيما يظهر.

قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} قوله: {إِبْرَاهِيمَ} هنا فيها قراءتان: "إبراهام" و"إبراهيم"، وكلاهما قراءتان صحيحتان سبعيتان، يجوز أن يقرأ بهما الإنسان، ولكن لا يجوز أن يقرأ الإنسان بين العامة بقراءة خارجة عما في أيديهم من المصاحف؛ لأن ذلك يكون سببًا للفتنة.

وقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ} "إِسْمَاعِيلَ" هو ابن إبراهيم الأكبر، {وَإِسْحَاقَ} وهو ابنه الثاني، {وَيَعْقُوبَ} هو ابن إسحاق، وإنما

ص: 478

نص عليه مع أنه ابن الإبن؛ لأن أنبياء بني إسرائيل كانوا من ذرية يعقوب.

إذًا {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} أخوان، {وَإِسْمَاعِيلَ} عم يعقوب عليهم السلام.

وقوله: {وَالْأَسْبَاطِ} قيل: إن {الْأَسْبَاطِ} المراد بهم قبائل بني إسرائيل، كما قال تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] وقيل: إن المراد بالأَسْبَاطِ هم أولاد يعقوب، فعلى الأول يكون من باب ذكر العام وإرادة الخاص؛ لأن الأسباط كلهم ليسوا أنبياء، وإنما الأنبياء فيه، وعلى الثاني لا إشكال.

{وَعِيسَى} وهو آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم رسول ولا نبي أيضًا.

وقوله: {وَأَيُّوبَ} وهو من بني إسرائيل.

قوله: {وَيُونُسَ} كذلك.

قوله: {وَهَارُونَ} كذلك أيضًا من بني إسرائيل.

قوله: {وَسُلَيْمَانَ} من بني إسرائيل.

قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} {دَاوُودَ} هو أبو سليمان، والزبور هو: الكتاب الذي أعطاه الله تعالى داود؛ ونص عليه لأن فيه مواعظ مرققة للقلوب؛ ولأن داود عليه الصلاة والسلام كان يترنم به، فتسمعه الطير وتسبح معه وكذلك الجبال.

* * *

* قال الله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164].

ص: 479

الرسل الذين لم يذكرهم في هذه الآية مثل: يونس، وشعيب، ولوط، وصالح، ويوسف عليهم الصلاة والسلام.

قوله: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: قبل ذكر هذه الآية.

وقوله: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} لأن الله تعالى لم يقص على الرسول عليه الصلاة والسلام إلا من كانوا حول جزيرة العرب، أما من كانوا بعيدين؛ كالذين في أمريكا، وأقصى آسيا، وما أشبه ذلك فلم يذكروا؛ لأن المقصود من ذكر الأنبياء هو الإعتبار، وإذا لم يكن هناك قرب في الأحاديث وفي المكان فإن الإعتبار يكون في ذلك قليل.

قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} {وَكَلَّمَ اللَّهُ} قوله: {اللَّهُ} فاعل و"مُوسَى" مفعول به، وقوله:{تَكْلِيمًا} مصدر مؤكد لمعنى الفعل الذي قبله، كلم تكليمًا، وإنما أخّر ذكر موسى لما ذكر من خصائصه، وهو الكلام، فإنه كلمه تكليمًا، كما أخر ذكر داود بعد سليمان مع أنه أبوه من أجل النص على الزبور الذي آتاه الله تعالى داود، والترتيب بين الأنبياء في الذكر يكون لأسباب بلاغية لفظية أو معنوية، حسب ما يتبين من السياق.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

أن أول الرسل نوح، لقوله:{وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، وهذا هو الحق وليس قبله رسول، أما النبوة فكانت قبل نوح، فإن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبيًا؛ لأنه كان يتعبد الله عز وجل، ولا يمكن أن يتعبد الله إلا بوحي من الله، وبثبوت الوحي له يكون نبيًا، ولكنه لم يُرسل إلى أولاده؛ لأنه في ذلك الوقت لا حاجة

ص: 480

للرسل؛ إذ أن الناس كانوا على ملة واحدة، كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 213] أي: كان الناس أمة واحدة على الحق، وعلى الدين القويم، فاختلفوا:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] لكن في عهد آدم لا اختلاف، ولهذا كان نبيًا ولم يكن رسولًا.

2 -

أن الوحي إلى جميع الأنبياء، والرسل كان من جنس واحد، لقوله:{كَمَا أَوْحَيْنَا} ولكن الموحى به: يتفق في أشياء، ويختلف في أشياء، فالتوحيد اتفق عليه الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25] وهذا متفق عليه، أما الشرائع والمنهاج فإن الأمم تختلف؛ لأن الله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها، كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48] فالشرائع والمنهاج يختلف، أما الأصل فهو متفق عليه، فكل الرسل اتفقوا على التوحيد.

إذًا: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} هذا في أصل الوحي وما اتفقت فيه الشرائع، وهو التوحيد، أما المنهاج والشرائع فهي لكل أمة بحسبها.

3 -

بطلان قول بعض المؤرخين: إن إدريس كان قبل نوح، فهذا القول باطل يبطله القرآن الكريم.

4 -

الإيحاء لهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام: إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق

إلى آخره.

ص: 481

5 -

أن الله تعالى قص أنباء بعض الرسل ولم يقص أنباء آخرين، والحكمة من ذلك هي - كما أشرنا إليه في التفسير -: أن الأنبياء البعيدين عن منطقة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يقص الله علينا من نبأهم.

ولكن لو قال قائل: هل لكل أمة رسول؟

الجواب: نعم، ولا شك في هذا، لقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ولقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

7 -

أن الله تعالى كلم موسى كلامًا حقيقيًا، لقوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} والذين أنكروا أن يكون الله كلمه سلكوا مسلكين: منهم من حرف الآية لفظًا ليتغير المعنى، ومنهم من حرفها معنى وأبقى اللفظ على ما هو عليه، فمنهم من قال: إن صواب القراءة: {وَكَلَّمَ} اللهَ {مُوسَى تَكْلِيمًا} فجعل المكلِّم موسى، وهذا تحريف لفظي يتغير به المعنى، وهذا لا شك أنه جناية على الله عز وجل وعلى كلامه، وهو أيضًا باطل؛ لقوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] إذ لا يمكن لأحد أن يقول هنا: إن المكلم موسى؛ ؛ لأن الهاء في قوله: {كَلَّمَهُ} ضمير مفعول، ولا يمكن أن تكون ضمير الفاعل.

ومنهم من قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} من "الكلْم" وهو الجرح، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من مكلوم يكلم في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله"

(1)

فقوله: "يكلم"

(1)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من يجرح في سبيل الله عز وجل! حديث رقم (2649)؛ ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج =

ص: 482

بمعنى: يُجرح، فقالوا:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} أي: جرحه بمخالب الحكمة، وهذا تحريف، والعياذ بالله، يعني: أنهم جعلوا هذا من باب الإستعارة، وهذا أيضًا باطل، بل الصواب: أن الله تعالى كلم موسى تكليمًا واضحًا بحرف وصوت سمعه موسى، وأن كلامه إياه كان على وجهين:

الوجه الأول: المناجاة.

الوجه الثاني: المناداة، قال الله تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52] والنداء يكون للبعيد، والمناجاة تكون للقريب، ومن المعلوم أن البعيد يحتاج إلى صوت أعلى، والقريب يكفيه الصوت الخفي.

* * *

* قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165].

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، {رُسُلًا} جمع رسول، بمعنى: المرسَل، والظاهر: أنها حال من قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] أي: حال كونهم رسلًا، وكانت حالًا لأنها بمعنى المشتق؛ إذ أن {رُسُلًا} بمعنى: مرسلين.

وقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} البشارة: الإخبار بما يسر، والإنذار: التخويف بما يخاف منه؛ وذلك أن الشرائع التي جاءت بها الرسل أوامر ونواهي، فالذي يناسب الأوامر البشارة، بأن

= في سبيل الله، حديث رقم (1876) عن أبي هريرة.

ص: 483

يبشر عامل هذا العمل بالثواب، والذي يناسب النواهي هو الإنذار؛ فينذر الإنسان من الوقوع فيها، ولهذا كانت أنواع التكليف اثنين: أمر ونهي، فالذي يليق بالأمر البشارة، والذي يليق بالنهي الإنذار، وهذا ما جاءت به الرسل، البشارة والإنذار، حتى محمد عليه الصلاة والسلام جاء بذلك، كما قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45].

وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} اللام هنا في قوله: {لِئَلَّا} للتعليل؛ أي: لأجل ألا يكون {لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} والحجة: ما يحتج به الغير على آخر، لدفع الملامة، ورفع العقوبة عنه، هذه هي الحجة، يعني: الدليل أو البينة أو ما أشبه ذلك.

وقوله: {بَعْدَ الرُّسُلِ} أي: بعد إرسال الرسل؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام يبينون للناس بيانًا تامًا لا يحتاج معه إلى إيضاح، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4]، فلا بد من البيان على كل رسول، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فلعزته أرسل الرسل، وجعل النصر لهم في الدنيا والآخرة، ولحكمته شرع الشرائع وأحكمها وأتقنها.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان حال الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنه لا تخلو رسالتهم من بشارة ونذارة، حسب الأوامر والنواهي.

ص: 484

2 -

أنه ينبغي للإنسان الداعي إلى الله أن يعامل الناس بما تعامل به الرسل أقوامها، فتارة يبشر، وتارة ينذر؛ لأنه إن سلك سبيل البشارة دائمًا أدخل الناس في الإرجاء، وإن سلك سبيل الإنذار دائمًا أدخل الناس في القنوط واليأس، فلذلك يجب أن يكون الإنسان حكيمًا يراعي أحوال الناس، فمثلًا: إذا رأى الناس قد انهمكوا في أمر محرم فالأولى هنا أن لا يسلك سبيل البشارة فيوقع الناس في الأمن من مكر الله، بل يسلك سبيل الإنذار ويشدد، فإن لم ينفع فيهم الوعيد الديني فالرادع السلطاني، ولهذا كان من سياسة عمر رضي الله عنه أنه كان يستعمل الردع السلطاني إذا لم يصلح الناس بدونه، ولهذا ورد أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة إذا لم يرتدع، قال شيخ الإسلام: إن هذا حكم ثابت إذا لم ينته الناس بدونه.

3 -

إثبات التعليل لأحكام الله القدرية، كما هو ثابت في الأحكام الشرعية، ويؤخذ من لام التعليل، وهذا ثابت بأدلة كثيرة، أوصلها بعضهم إلى ألف دليل على أن أفعال الله وأحكامه معللة، ولو لم يكن من ذلك إلا اسم الله الحكيم لكان هذا كافيًا، فكل ما فعله فلحكمة، وكل ما شرعه فلحكمة.

4 -

أن الله تعالى يحب الإعذار من الناس؛ لأنه أرسل الرسل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} .

5 -

الفائدة العظيمة الكبرى وهي: العذر بالجهل حتى في أصول الدين؛ لأن الرسل يأتون بالأصول والفروع، فإذا كان الإنسان جاهلًا لم يأته رسول فله حجة على الله، ولا يمكن أن تثبت الحجة على الله إلا إذا كان معذورًا؛ لأنه لو لم يكن معذورًا

ص: 485

فلا حجة له، وهذا الأصل هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، ولكن قد يكون الإنسان مفرطًا فلا يعذر بجهله، كما لو ألقي إليه أن هناك دينًا إسلاميًا إلهيًا، ولكنه لم يبحث عن هذا الدين، وأعرض واستكبر، فهنا نقول: إنه لا يعذر؛ لتفريطه، وعدم بحثه، والإنسان إذا أراد أن يذهب إلى قرية من القرى وسلك سبيلًا ثم قيل له: هذا لا يوصلك إلى القرية، فسوف يتركه ويسأل: أين الطريق إلى هذه القرية؟ فلهذا نقول: العذر بالجهل ليس على إطلاقه من كل وجه، لكن بشرط ألا يكون مفرطًا في التعلم، فإن كان مفرطًا فلا عذر له، والتفريط: أن يُذكر له أن الدين خلاف ما هو عليه، ولكنه يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولن أبحث، وكما يقول بعض العوام: لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم، اعمل ما تريد ولا تسأل، فإن سألت، قالوا: حرام، وهذا مشكل، وإن سألت، قالوا: هذا واجب، وهذا أيضًا مشكل!! وهذا غلط كبير.

6 -

بيان رحمة الله تعالى بعباده؛ حيث أرسل إليهم الرسل يعلمونهم ويرشدونهم ويهدونهم إلى دين الله، ولولا الرحمة ما أرسل إليهم، ولوكلهم إلى العهد السابق الذي أخذه عليهم وهم في أصلاب آبائهم، وعذبهم بناءً عليه.

7 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز، والحكيم.

* * *

* قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166].

ص: 486

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} كلمة {لَكِنِ} حرف استدراك، وجاء حرف الإستدراك في هذا الموضع لأن النبي صلى الله عليه وسلم له من يكذبه، ويقول: إنك لم ترسل كما أرسل الرسل، فقال:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} خلافًا لمن كذبه، وقال إنه لم يُنزل إليه.

وقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} قوله: {يَشْهَدُ} شهادته تعالى لنبيه نوعان: شهادة قولية، كما في هذه الآية، وشهادة فعلية وهي: تمكينه في الأرض، ونصره على عدوه، وإظهار الآيات التي تعجز البشر على يده صلى الله عليه وسلم، فإن هذه شهادة فعلية. قوله:{بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} وهو القرآن.

وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} يعني: أنه نزل بعلم من الله عز وجل، أو أنزله بمعلومه؛ أي: بما علم سبحانه وتعالى أنه مصلح للخلق وللعباد، وكلا المعنيين صحيح ولا يتنافيان، فيجب حمل الآية على المعنيين، بناءً على القاعدة، أنه إذا احتمل الدليل لمعنيين على السواء، ولا منافاة بينهما وجب حمله عليهما جميعًا.

وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} الملائكة تشهد أيضًا أن الله أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قرآنًا كان به رسولًا، وهل المراد بالملائكة هنا ملك واحد وهو جبريل لأنه نزل بالقرآن، أو العموم؟

الجواب: العموم، ويجب أن نعلم أنه إذا جاء اللفظ عامًا فالواجب حمله على عمومه إلا بدلالة قوية تدل على أنه أريد به الخصوص، سواءً كانت دلالة شرعية أو عقلية.

ومن المعلوم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به كان جبريل عليه السلام يستفتح، فيقال: "من معك؟ فيقول: محمد،

ص: 487

فيقال: أرسل إليه؟ فيقول: نعم"

(1)

، فتعلم الملائكة بهذا أنه أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.

و{الْمَلَائِكَةُ} عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وجعل لهم عبادات كما اقتضتها حكمته، وجعل بعضهم أفضل من بعض.

وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} {شَهِيدًا} حال؛ أي: كفى الله عز وجل شاهدًا، والباء هنا قالوا: إنها زائدة لتحسين اللفظ، والأصل "كفى اللهُ شاهدًا" ونعم، والله! كفى اللهُ شاهدًا، لكن إذا جاء شاهد آخر وثالث ازداد الأمر قوة، كما قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] فالشهادة على الوحدانية صارت من ثلاثة أطراف: الرب عز وجل، والثاني: الملائكة، والثالث: أولو العلم، أما الشاهد بالرسالة فلم يذكر إلا طرفين: الله، والملائكة؛ لأن أولي العلم لا يكونون أولي علم إلا بعد ثبوت الرسالة، فهم تابعون.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

إثبات الشهادة لله، من قوله:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وهو سبحانه وتعالى شاهدٌ على كل أعمال الخلق، وعلى كل ما يحدث في السماء والأرض، بل على ما لا يحدث لو حدث كيف كان، قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] مع أنه لم يتكلم به، ولكن الله يعلم بذلك.

(1)

رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3207) عن مالك بن صعصعة؛ ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (162) عن أنس بن مالك.

ص: 488

2 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله:{بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} .

3 -

أن القرآن كلام الله، وتؤخذ من قوله:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} وبهذا استدل أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله.

فإن قال قائل: إن الله تعالى ذكر الإنزال في أشياء ليست كلام الله: مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، وكذلك قوله:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6].

فالجواب: أن ما ذكر هنا أعيان قائمة بنفسه، وأما الكلام فهو معنى لا يقوم إلا بذات، وعلى هذا يتبين أن القرآن كلام الله عز وجل.

واستدل العلماء أيضًا بهذه الآية وأمثالها على أن الله تعالى في العلو، لقوله:{بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} وهو كذلك، فإن الله تعالى فوق كل شيء، والأدلة على هذا متوافرة، - ولله الحمد - وقد سبق بيانها كثيرًا، ولكن الغريب أننا في مخالطتنا للناس في الموسم تبين لنا أن كثيرًا من المسلمين - مع الأسف - لا يؤمنون بعلو الله، ويقولون: إن الله بذاته في كل مكان؛ وذلك لأن علماءهم يقررون لهم هذا، وتكلمنا على هذا كثيرًا في لقاءاتنا في المسجد الحرام، حتى أنهم - والحمد لله - اقتنعوا، وقالوا: سبحان الله! كيف علماؤنا يقولون كذا وكذا؟ ! حتى إننا صادفنا طالبًا شابًا من الصين يتكلم بلغة عربية جيدة، فلما انتهينا من الكلام عن هذا، وانتهى الدرس جاء إلي وقال: سبحان الله! هذا الذي قلت هو الحق، لكن أنا إلى الآن رأسي غير مستقر - لأنه

ص: 489

ترسخ عنده القول الباطل - وإن علماءنا يقولون هذا، وأن من قال: إن الله عالٍ بذاته فهو كافر، وأن ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، كلهم مبتدعة؛ لأنهم خرجوا عن المذاهب الأربعة، فقلت: من قال لك هذا؟ ! قل لقومك الذين درسوك: ابن تيمية رحمه الله حنبلي، وكل تفقهه على مذهب الحنابلة، وكذلك ابن القيم، وكذلك ابن عبد الوهاب، وليرجعوا إلى هذا، لكن - الحمد لله - ظهر على وجهه علامة البشر والقبول، وانتفع، والحمد لله.

فأنا أقول: سبحان الله! إن دلالة علو الله عز وجل واضحة، سمعية وعقلية وفطرية، ومع ذلك يقولون هذا القول المنكر، نسأل الله العافية.

4 -

أن إنزال الله للقرآن كان بعلمه، فلا يتطرق إليه أي خلل؛ لأنه يعلم متى نزل، وبماذا نزل، وكيف نزل، وعلى من نزل، ولا يمكن أن يتطرق اختلاف أو ادعاء نقص أو ادعاء زيادة؛ لأن الله أنزله بعلمه؛ أي: أن إنزاله مقرون بعلم الله، فمن ادعى أن فيه زيادة أو نقصًا فقد رمى الله بالجهل؛ لأن الله أنزله بعلمه، وكذلك نزل القرآن بما يعلم الله تعالى أنه مصلح للخلق.

5 -

إثبات الملائكة، وأن الملائكة ذات عقول، خلافًا لمن قال: إنهم لا عقول لهم، كما قال بعض الناس ممن نسأل الله لهم العافية والعفو، فالملائكة لها عقول؛ فهي تعلم، وتسمع، وتقول.

6 -

عناية الله سبحانه وتعالى برسوله وبما أوحاه إليه؛ حيث

ص: 490

ذكر أن الله يشهد به، وكذلك الملائكة، وكثرة سياق الأدلة على الشيء تدل على العناية به، وهو كذلك.

7 -

أن شهادة الله كافية عن كل شهادة، لقوله:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} .

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)} [النساء: 167].

هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: الأول: {إِنَّ} والثاني: {قَدْ} .

وقوله: {كَفَرُوا} أي: بالله، والكفر في الأصل: الستر، ومنه الكُفُرَّى وهو: وعاء طلع النخل؛ هذا لأنه يستر ما في جوفه.

وقوله: {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (صَدَّ) لها وجهان:

الوجه الأول: أعرضوا عن سبيل الله، وعلى هذا يكون (صَدَّ) فعلًا لازمًا.

والوجه الثاني: صدوا غيرهم؛ أي: حملوهم على الإعراض، وعلى هذا فيكون (صَدَّ) متعديًا، والمفعول به محذوف؛ أي: وصدوا غيرهم عن سبيل الله، فالآية إذًا محتملةً للوجهين، وكلاهما لا يناقض الآخر، فتكون محمولة عليهما جميعًا.

والكفار لا شك أنهم صادون بأنفسهم، صادون لغيرهم، فإن كانوا من دعاة الكفر فصدهم ظاهر، وإن لم يكونوا من دعاة الكفر فإن من الناس من يقتدون بهم؛ فهم بهذا يصدون عن

ص: 491

سبيل الله، كما صد هؤلاء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها"

(1)

.

إذًا: صد الكفار لغيرهم يكون بالقول، ويكون بالفعل، يكون بالقول إذا كانوا دعاة إلى الكفر، وكلما رأوا شخصًا يريد الهداية ذهبوا إليه يصدونه، ويكون بالفعل إذا كانوا يفعلون، ولكن لا يدعون، إلا أن الناس إذا رأوهم اقتدوا بهم ولا سيما إذا كانوا من أشراف الناس ووجهائهم، وعادة الناس يتبعون وجهاء القوم.

وقوله: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} السبيل بمعنى: الطريق، وأضافه الله إليه لأنه تبارك وتعالى هو الذي شرعه لعباده فأضيف إليه، واعلم أن السبيل والطريق والصراط تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى غير الله، فيضاف إلى الله باعتبار أن الله هو الذي شرعه للعباد، ويضاف إلى غيره باعتبار السالكين، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فأضاف السبيل إلى المؤمنين وهنا أضافه إلى الله، فيضاف إلى الله لأنه هو الذي شرعه؛ ولأنه يوصل إليه سبحانه، فمن سلكه وصل إلى الله عز وجل، كما تقول: سبيل مكة من هنا؛ لأنك إذا سلكته أوصلك إليها.

قوله: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} الضلال بمعنى: التيه؛ أي: تاهوا عنه وقوله: {ضَلَالًا بَعِيدًا} وذلك لكفرهم وصدهم عن سبيل الله، ووُصف بأنه بعيد لأن هذا الضلال - والعياذ بالله - ضلال عن شيء بيَّن، فإن الحق منار وعلم يهتدي به كل ضال، فإذا ضل عنه أناس كان ضلالهم بعيدًا؛ لقوة الدليل.

(1)

تقدم ص 201.

ص: 492

فيخبر الله عز وجل وخبره هو الصادق - خبرًا مؤكدًا بأن الذين جمعوا بين هذين الوصفين: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} ؛ لأنهم جمعوا بين الكفر والصد عن سبيل الله.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

تأكيد الخبر ولو كانت ابتدائيًا إذا دعت الحاجة إليه، وقد قال علماء البلاغة: إن الأصل في الخبر أن يلقى غير مؤكد، فمثلًا إذا كنا نخاطب رجلًا ساذجًا لا يعرف شيئًا قلنا: محمد قائم، فهذا لا يحتاج إلى توكيد؛ وذلك لأن المخاطب سوف يقبل الخبر، وإذا كنا نخاطب شخصًا مترددًا فهنا يحسن أن نؤكد الخطاب، حتى يرتفع عنه التردد، وإذا كنا نخاطب منكِرًا أو في حكم المنكِر فإننا نؤكده وجوبًا، وتتعدد أدوات التوكيد بحسب قوة الإنكار، وهنا أكد الله الخبر مع أن الخبر يلقى إلى خالي الذهن لأهمية الموضوع؛ لأن الموضوع إذا كان ذا أهمية فمن المستحسن أن يؤكد.

2 -

أن من آمن واستقام على سبيل الله، ودعا الناس إليه فهو على الهدى، ونعرف ذلك من المقابل والضد، فإنه إذا ثبت الحكم لشيء ثبت نقيضه لضده.

3 -

أن الضلال ينقسم إلى: ضلال قريب، وضلال بعيد، وهكذا أيضًا المعاصي تنقسم: إلى كبائر، وصغائر كما هو معروف.

* * *

* قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168 - 169].

ص: 493

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)} ، هذه الآية كالآية الأولى فيها التوكيد لهذا الحكم، لكن فيها التصريح بالظلم، فبأي شيء ظلموا؟

الجواب: ظلموا بالإستمرار على الكفر لأن الإنسان إذا استمر على الكفر فقد ظلم نفسه، كما قال الله تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]، والظلم في الأصل: بمعنى النقص؛ لقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)} [الكهف: 33] أي: لم تنقص، وسمي المعتدي ظالمًا لأنه نقّص من حق المعتدَى عليه، وهنا هل ظلموا غيرهم وإلا ظلموا أنفسهم؟

الجواب: كلاهما، فحصل منهم الظلم لأنفسهم ولغيرهم؛ حيث دلوا غيرهم على طرق الكفر.

قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} اللام في قوله: {لِيَغْفِرَ} تُسمى عند علماء النحو "لام الجحود" أو "لام النفي"، وعلامتها: أن تقع بعد "ما كان" أو {لَمْ يَكُنِ} ، فكلما وجدت اللام بعد {لَمْ يَكُنِ} أو "ما كان" فهي لام الجحود أو لام النفي، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33] اللام لام جحود؛ لأنها وقعت بعد ما كان، والمعنى: أنه لا يوفقهم للتوبة حتى يغفر لهم، وليس المعنى: لم يكن الله ليغفر لهم إذا تابوا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب على من تاب مهما كان عمله، لكن المراد أنه لا يوفقهم للتوبة حتى يغفر لهم، والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، وفسرناها بهذين المعنيين؛ لأنها مأخوذة من المغفر وهو: الذي يوضع على الرأس عند القتال وقاية للرأس من

ص: 494

السهام، وفيه المعنيان جميعًا، وهما: الستر والوقاية، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه يخلو يوم القيامة بعبده المؤمن ويقرره بذنوبه فيقول:"قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"

(1)

.

وقوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يعني: لا يوفقهم، فالهداية هنا هداية توفيق، وقوله:{طَرِيقًا} أي: مسلكًا يسيرون عليه، إلا طريقًا واحدًا وهو طريق جهنم.

و{جَهَنَّمَ} من أسماء النار.

قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} {خَالِدِينَ} أي: ماكثين فيها، {أَبَدًا} أي: باستمرار، والأبد هو: الإستمرار في المستقبل، والأمد هو: الإستمرار إلى حد معين غير مؤبد.

قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي: كان خلودهم في النار على وجه الأبد يسيرًا على الله عز وجل؛ مع أنه يستلزم أن تبقى النار بما فيها من السعير والعذاب وأنواع العقوبات، ومع هذا فهي يسيرة على الله عز وجل.

والإنسان لو أراد أن يوقد تنورًا فإنه يحتاج إلى عمل ووقود وتعب، لكن النار وهي أعظم شيء في الحرارة إذا بقيت على وجه الأبد فإن هذا أمر يسير على الله عز وجل، وليس صعبًا عليه.

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 -

أن من اتصف بهذين الوصفين: الكفر والظلم فإنه

(1)

تقدم (1/ 341).

ص: 495

مسدود عنه باب التوفيق، لقوله:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} .

2 -

إثبات الأفعال الإختيارية لله عز وجل؛ يعني: أنه يفعل ما يشاء بإرادته متى شاء، لقوله:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ، والمغفرة فعل اختياري، وهذا الذي عليه السلف الصالح أهل السنة، فهم يقولون بإثبات الأفعال الإختيارية لله عز وجل، وأنكر ذلك أهل التعطيل كالأشاعرة والمعتزلة، وقالوا لا يمكن أن يكون لله تعالى فعل اختياري يتجدد ويحدث، وعللوا ذلك بعلل واهية، فقالوا: إن الحدث لا يكون إلا بحادث، ولو أنا أثبتنا لله تعالى أفعالًا يحدثها متى شاء للزم من ذلك أن يكون الله حادثًا.

ولا شك أن هذا قياس باطل؛ لأنه مصادم للنص، فالآيات الكثيرة التي لا تحصر كلها تدل على أن الله يفعل ما يشاء متى شاء، كما قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، وقال:{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن الله يفعل ما يشاء متى شاء، فهذا القياس باطل لمصادمته للنص، وأيضًا هو خطأ؛ وذلك أننا نحن - ونحن محدثون - تقوم بنا أفعال متجددة ليست بلازمة لنا منذ خلقنا، ولا يلزم من حدوث هذه الأفعال أن نكون لم نحدث إلا عند حدوثها، بل حدوثها سابق علينا، كذلك الرب عز وجل وجوده أزلي أبدي، ولا يمنع من ذلك أن يُحدث ما شاء من أفعاله وأحكامه وأقواله.

3 -

أن الكافر لا يوفق للهدى؛ لقوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} .

ص: 496

فإن قال قائل: أليس يوجد أناس من الكفرة الماردين المارقين المضادين للدعوة الإلهية من هداهم الله؟

فالجواب: بلى، لكن لا مانع من أن نخصص العام، فيكون هذا العموم مخصوصًا بمن أراد الله تعالى هدايته، فمن أراد الله هدايته فإنه قد يهدى، ولو كان قد كفر وظلم، إذ من المعلوم أن من الصحابة رضي الله عنهم من كان كافرًا ظالمًا ومع ذلك أسلموا، وكانوا رؤساء في الإسلام، ولهم مقام صدق.

4 -

أن للنار طريقًا، وللجنة طريقًا، وطريق النار: يتلخص في مخالفة أمر الله ورسوله تركًا للمأمور وفعلًا للمحذور، فالمخالفة لأمر الله ورسوله هي طريق جهنم، والموافقة لأمر الله ورسوله هي طريق الجنة.

5 -

إثبات الخلود الأبدي؛ لقوله {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، والخلود الأبدي يتضمن أبدية المكان الذي يكون فيه الخلود، وعلى هذا يكون في الآية دليل واضح على أبدية الخلود في النار.

وقد جاء ذكر الأبدية في هذه الآية، وفي آية أخرى في سورة الأحزاب، وفي آية ثالثة في سورة الجن، وكلها معلومة.

وبناءً على ذلك لا قول لأحد بعد قول الله ورسوله مهما كان من العلم، فما دام هناك آيات صريحة، فإننا لا نركن إلى قول أحد كائنًا من كان؛ لأن خبر الله صدق، صادر عن علم مراد به البيان التام، فلا يمكن أبدًا أن يتخلف مدلوله، حتى لو قيل: إن فلانًا يقول بكذا، وفلانًا يقول بكذا فنقول: لا قول لأحد بعد قول الله ورسوله.

ص: 497

6 -

أن كل شيء - وإن صعب - فهو يسير على الله عز وجل، لكمال قوته وقدرته وسلطانه، لقوله:{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} .

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)} [النساء: 170].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} هنا الخطاب لعموم الناس، مع أن السورة مدنية، والغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها للمؤمنين؛ لأن القرآن نزل وسط أمة مؤمنة، لكن قد يأتي الخطاب بالعموم لقرائن تحتف به؛ وذلك أن الخطاب سوف ينتقل من هذا العموم إلى مخاطبة أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا من المؤمنين، ولهذا قال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} ، والرسول هو: محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني، إذ لا رسول مع محمد صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك أن تقول: جاء الأمير، وليس في البلد إلا أمير واحد، فكلٌ سينصرف ذهنه إلى هذا الأمير أمير البلد.

وقد ذكر العلماء أن العهود ثلاثة:

عهد حضوري، وعهد ذكري، وعهد ذهني، فما تعين بالذهن فـ "أل" فيه للعهد الذهني، وما تعين بالذكر فـ "أل" للعهد الذكري، ومثاله قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16]؛ أي: الرسول السابق الذكر، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5 - 6]، أي: أن

ص: 498

العسر الثاني هو الأول، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:"لن يغلب عسر يسرين"

(1)

.

وتكون للعهد الحضوري، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وكقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16].

و"أل" التي للعهد الحضوري لها ضابط: وهي التي تأتي بعد اسم الإشارة، فإذا أتت "أل" بعد اسم الإشارة فإنها للعهد الحضوري؛ وذلك لأن اسم الإشارة يدل على القرب، فإذا قلت: هذا الرجل فـ "أل" هنا للعهد الحضوري؛ لأن المشار إليه قريب.

قوله: {بِالْحَقِّ} الباء للمصاحبة والتعدية؛ أي: مصاحبة للحق، فما جاء به فهو حق، أو بالحق يعني: أنه رسول من عند الله حقًا، فالآية تدل على هذا وهذا، إذ ليس بينهما منافاة، وعلى هذا نقول: إن المراد بها المعنيان جميعًا؛ أي: أنه جاء بالحق، ولم يأت بالباطل، وأنه رسول حق، ليس بكاذب، عليه الصلاة والسلام.

والحق هو: ضد الباطل، وأصله الثبوت، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس: 96] أي: ثبتت ولزمت، فالأصل أن هذه الكلمة تفيد معنى الثبوت، فالحق ثابت، والباطل زائل، كما قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].

وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} {مِنْ} هنا للإبتداء، أي: أن الحق جاء من عند الله، وتأمل قوله:{مِنْ رَبِّكُمْ} حيث إن فيها إشارة إلى أنه يجب عليكم أن تقبلوا هذا الرسول؛ لأنه جاء من ربكم

(1)

تقدم ص 78.

ص: 499

الذي هو مالككم، والمدبر لأموركم، فيجب عليكم أن تقبلوا ما جاء به هذا الرسول؛ لأنه من ربكم.

وقوله: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} الفاء للتفريع؛ أي: فيتفرع على ذلك وجوب الإيمان. أي: آمنوا بالرسول وبما جاء به.

وقوله: {خَيْرًا لَكُمْ} منصوبة على أنها خبر يكن المحذوفة، والتقدير "فآمنوا يكن خيرًا لكم" أي: خيرًا من الكفر، ولا شك أن الإيمان خير من الكفر؛ لأن الإيمان به سعادة الدنيا والآخرة، والكفر به خسارة الدنيا والآخرة؛ لقول الله تبارك وتعالى في الكفر:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] وقوله في الإيمان: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

وقوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أي: بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به فَإِنَّ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعني: فهو غني عنكم؛ لأن له ما في السماوات والأرض، ومن جملة ما يملكه هؤلاء الكافرون.

إذًا: كأنه قال: إن تكفروا فإن الله غني عنكم؛ لأن له ما في السماوات والأرض.

وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هنا يقول النحويون: لماذا عبر بـ {مَا} التي يعبر بها عن غير العاقل دون "من" التي يعبر بها عن العاقل؟

والجواب: قالوا: لأن غير العاقل أكثر من العاقل.

وقد يقول قائل: إن في هذا نظرًا؛ لأن من جملة العقلاء الملائكة؛ إذ لا شك في أنهم من جملة العقلاء، وهم عدد لا

ص: 500

يحصيهم إلا الله، فيجيب هؤلاء ويقولون: الملائكة لهم أمكنة، وكل واحد منهم قد شغل مكانًا، والأمكنة التي في السماء والأرض أكثر من الملائكة، وعلى هذا فيكون غير العاقل في السماوات والأرض أكثر، وهذا ليس ببعيد أن يقال: إنه غلب غير العاقل؛ لأنه أكثر.

وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ختم الآية بالعلم والحكمة إشارة إلى أن كفر هؤلاء الذين كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم كان عن علم وحكمة من الله، أما كونه عن علم فلأنه في ملكه، ولن يكون في ملكه ما لا يعلمه.

وأما كونه عن حكمة فلأنه لا تقوم أحوال العباد ولا دين العباد إلا بهذا التقسيم؛ أي: أن يكون بعضهم مؤمنًا وبعضهم كافرًا، ولولا هذا الإنقسام ما قام علم الجهاد، ولا تميز المؤمن من الكافر، ولا صار للمؤمن مزية يتميز بها عن الكافر، ولا حصل للنار ملؤها؛ وقد تكفل الله لها بذلك، فمن حكمة الله أن يكون في الناس مؤمن وكافر.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

بيان أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله حقًا، لقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} .

2 -

عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الناس لقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} .

فإن قال قائل: أفلا يمكن أن يراد بالناس الخصوص، كما في قوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173].

ص: 501

فالجواب: أن الأصل في العموم إرادة العموم.

3 -

إلزام قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عقلًا كما هو لازم شرعًا، ووجه ذلك قوله:{مِنْ رَبِّكُمْ} فإذا كان من ربنا وهو مالكنا وخالقنا والمتصرف فينا كيف يشاء وجب علينا قبوله.

4 -

أن ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام هو الحق، ولا يصح أن نقول: كل ما ينسب للرسول حق بل كل ما جاء به؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة وأحاديث موضوعة، لكن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق.

5 -

إثبات الربوبية العامة؛ لقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} بالإضافة إلى قوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} ، وربوبية الله سبحانه وتعالى عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، والخاصة كقوله:{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 122] وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92 - 93]، وقوله:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] والأمثلة على هذا كثيرة.

6 -

أن إرسال الرسل من مقتضى الربوبية؛ لأنه تصرف في الخلق، وفعل من أفعال الله، وكل ما كان كذلك فهو داخل تحت مضمون الربوبية.

7 -

وجوب الإيمان بالحق ممن جاء به؛ لقوله: {فَآمِنُوا} بعد قوله: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} ، وهذه قاعدة في كل من جاء بالحق أنه يجب علينا أن نؤمن بما جاء به، فالحق يقبل من أي إنسان، ومن كل من جاء به، لكن إذا كان الذي جاء به ممن عرف بالباطل فهل يقبل منه الحق؟

ص: 502

الجواب: نعم، ولذلك مثال في قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] وسكت عن قولهم {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} والسكوت عن أحد الشقين مع إنكار الآخر يدل على الإقرار بالثاني الذي لم ينكر.

8 -

أن الإيمان كله خير، خير في الدنيا وخير في الآخرة، حتى في المعيشة وإن كانت ضنكًا فهي عند المؤمن خير؛ لأن المؤمن كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام:"إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن إصابته سراء شكر فكان خيرًا له"

(1)

.

9 -

أن أمر الله تعالى عباده بالإيمان به وإثابتهم على ذلك ليس لافتقاره إليهم، بل هو غني عنهم لقوله:{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

10 -

عموم ملك الله؛ لقوله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فكل ما في السماوات والأرض فهو لله عز وجل.

فإن قال قائل: أليس لنا أملاك يختص بها كل واحد منا؟

فالجواب: بلى، لكن ملكنا لما نملكه ليس على سبيل الإطلاق ولهذا لا يحق لنا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، بل لا نفعل بها إلا ما أذن الله به، فلو أراد الإنسان أن يحرق ماله فليس له ذلك.

إذًا: الملك قاصر، والملك المطلق الشامل هو لله رب العالمين وما يضاف إلينا ملكًا فإنه ملك قاصر مربوط بما علم الله به.

(1)

تقدم (1/ 433).

ص: 503

11 -

إثبات الجمع للسماوات، فهي سبع سماوات مصرحًا بذلك في القرآن، أما الأرض فهي تأتي دائمًا في القرآن مفردة، لكن في السنة جاءت مجموعة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أراضين"

(1)

والقرآن أشار إلى ذلك فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] والمماثلة في النوع والسعة والكبر غير ممكنة؛ لأنه من المعروف أن السماء أعظم من الأرض بكثير، فلم يبق إلا العدد، هذا من جهة القرآن، ومن جهة السنة إذا لم يكن هناك سبع أرضين فإنه لا يمكن أن يعاقب الإنسان على شيء ليس موجودًا، فلا يقال: إن ذكر السبع أرضين من باب العقوبة ومضاعفتها فقط، فلولا وجود سبع أرضين فإنه لا يمكن أن يعاقب الإنسان على شيء ليس موجودًا، لكن كونه يعاقب من سبع أرضين يدل على أن القرار ملك لصاحب الأرض العليا، كما أن الهواء ملك له، والهواء إلى السماء الدنيا كلها لمالك الأرض، كذلك أيضًا قاع الأرض إلى الأرض السابعة ملك له، ولهذا لو أراد الإنسان أن يحفر خندقًا من تحت بيت الإنسان أو من تحت أرضه فإنه لا يملك هذا.

وذكر ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية" أن العلماء اختلفوا في الأرضين هل هي متطابقة، يعني: متلاصقة ويكون الفاصل بينها أمرًا مجهولًا، أم أن بينهما فجوات، وهذه الفجوات كما بين السماء والسماء، وهذا التقدير الأخير ليس بصحيح؛ لأن مسافة الأرض الآن لو دارت عليها الطائرة لم تنسب ولا إلى

(1)

تقدم ص 274.

ص: 504

السماء الدنيا، لكن يقال: هذه السبع أرضين الله أعلم بكيفيتها، ولا ندري هل هي متلاصقة أو بينها فاصل، وعلينا أن نؤمن؛ لأن هذا شيء فوق طاقتنا.

12 -

إثبات اسمين من أسماء الله هما: العليم والحكيم، لقوله تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، وقد مر علينا كثيرًا أن علم الله تعالى واسع شامل لكل شيء في السماء أو في الأرض، وإيماننا بذلك يوجب لنا أن نحذر من مخالفته؛ لأننا لو خالفناه فإنه عالم بنا، واسم الله العليم أبلغ من اسميه: السميع والبصير؛ لأن السميع إذا آمنا بمقتضاه حذرنا مما يُقال، والبصير إذا آمنا بمقتضاه حذرنا مما يُرى، لكن العليم إذا آمنا به حذرنا مما يُقال أو يُرى أو يُفعل أو يُترك؛ لأن الله تعالى عليم به.

وأما الحكيم فهو مشتق من الحكم والحكمة، فلله الحكم وله الحكمة البالغة.

والحكم نوعان: كوني وشرعي، فما كلف الله به العباد فهو حكم شرعي، وما انفرد به الله عز وجل فهو حكم كوني، ثم كل منهما لا يصدر إلا لحكمة.

إذًا: فالحكمة: كونية وشرعية، ثم الحكمة تكون على الصورة المعينة وعلى الغاية المرادة، ولهذا نقول: الحكمة غائية وصورية؛ أي: على الصورة المعينة حكمة فإيجاد الواجب حكمة، والإثابة عليه حكمة، فالأول صوري، والثاني غائي.

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ

ص: 505

وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)} [النساء: 171].

{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} قوله هنا: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} عام أريد به الخاص، والمراد بهم النصارى؛ لأن الله تعالى ذكر حال اليهود فيما سبق، من قوله:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] إلى آخره، وما قبلها أيضًا، ثم خاطب أهل الكتاب الذين هم النصارى، فقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} والغلو هو: الزيادة، في الشيء، وهذه الزيادة تُسمى غلوًا وتُسمى إفراطًا، وضدها: التفريط والتقصير.

وقوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي: فيما تدينون الله به، وذلك أنهم اعتقدوا أن المسيح هو الله، أو ثالث ثلاثة أو قالوا: إن المسيح وأمه إلهان، وقالوا: إن المسيح ابن الله، كل هذه الأقوال يرونها دينًا، فقال لهم الله تعالى:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي: فيما تدينون الله به.

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} أي: ولا تقولوا على الله فيما تصفونه به إلا الحق؛ أي: الشيء الثابت المقبول عقلًا وفطرة ونقلًا، وضده الباطل، فمن قال: إن المسيح ابن الله، فقد قال على الله غير الحق، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة فقد قال على الله غير الحق، ومن قال: إن المسيح وأمه إلهان فقد قال على الله غير الحق.

ص: 506

قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ، هذه الجملة إبطال لقولهم: إن المسيح ابن الله، وأن المسيح وأمه إلهان، وأن الله ثالث ثلاثة، وما أشبه ذلك.

وقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} ، عندنا أربع كلمات: المسيح، وعيسى، وابن مريم، ورسول الله ولا بد من إعرابها:

أما قوله: {الْمَسِيحُ} فهو مبتدأ، وأما قوله:{عِيسَى} فهو عطف بيان، وأما قوله:{ابْنُ مَرْيَمَ} فهو صفة، وأما قوله:{رَسُولُ اللَّهِ} فهو خبر، وجملة:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} جملة تدل على الحصر، فيكون التركيب:"ما المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله" وليس جزءًا من الله ولا إلهًا.

وقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ} المسيح: لقب لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ وسُمي بذلك لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، فيبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله عز وجل، بخلاف المسيح الدجال، فإنما سُمي المسيح لأنه ممسوح العين؛ أي: أعورها.

وقوله: {عِيسَى} هو العلم.

فإن قال قائل: كيف قدم اللقب على العلم، واللقب وصف، والعلم ذات؟

قلنا: إن اللقب إذا اشتهر به الملقب صار بمنزلة العلم، بل أظهر في تعيين الملقب من العلم، ولهذا تقول: الإمام أحمد مثلًا، فتقدَّم اللقب "المسيح" على عيسى ابن مريم؛ لأنه بلقبه أظهر وأبين.

وقوله: {ابْنُ مَرْيَمَ} هي: مريم ابنة عمران، ونسب إليها

ص: 507

لأنه ليس له أب، وإلا فمن المعلوم أن من له أب شرعي فإنه يجب أن ينسب إليه لا إلى أمه.

وقولنا أب شرعي احترازًا ممن له أب قدري لا شرعي، وهو ما حصل بالزنا، والعياذ بالله! فإن هذا له أب قدري وهو الزاني، لكن الزاني ليس أبًا شرعيًا.

وقوله: {رَسُولُ اللَّهِ} أي: مرسل من الله عز وجل، وليس ربًا ولا جزءًا من رب، بل إنه رسول الله.

وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} الواو حرف عطف، وقوله:{وَكَلِمَتُهُ} معطوفة على رسول الله، {وَكَلِمَتُهُ} أي: كلمة الله؛ أي: الكائن بكلمة الله، وليس هو الكلمة؛ لأن الكلمة وصف للمتكلم لا شيء بائن منه، وعلى هذا فيكون معنى {وَكَلِمَتُهُ} أي: الكائن بكلمته {كُنْ} ، قال الله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي: أوصلها إلى مريم، بأن قال لها احملي مثلًا، أو كلمة نحوها، ونعوذ بالله أن نقول على الله ما لم يقل، لكن هذا معنى كونه كلمة تصل إلى مريم، عن طريق جبريل، كما قال تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] وأضاف الله النفخ إليه؛ لأنه فعل رسوله الذي أرسله لينفخ في فرجها، وإضافة النفخ إلى الله مع أنه كان من جبريل كإضافة القراءة إلى الله مع أنه كان من جبريل في قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 18] ، فالذي يقرأ جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم يتبعه.

ص: 508

وهل مريم وموسى بن عمران أخوان؟ لأنها مريم بنت عمران، وهو موسى بن عمران؟

الجواب: أورد هذا الإشكال على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم"

(1)

يعني: أن موسى بن عمران ليس أخًا لمريم بنت عمران، فعمران الذي هو أبو موسى لا نعلم أنه نبي، لكنه أبو نبي، فكان هذا الإسم شائعًا في بني إسرائيل، فسمي أبو مريم عمران.

قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} هل معناه أنه ريح منه، وهو ما حصل بالنفخ من جبريل، أو أنها روح منه أي: أن روحه مخلوقة من الله عز وجل، أو الأمران؟

الجواب: الأمران؛ لأنهما لا يتنافيان، فإن جبريل نفخ في فرجها، والنفخ ريح، وكذلك عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام جسد نفخت فيه الروح فصار إنسانًا.

ولهذا سماه الله تعالى روحًا يغلب على دينه المسالك الروحية والرهبانية وما أشبه ذلك.

وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} من الله، و"من" هنا ليست للتبعيض قطعًا، وقد استدل بها النصارى على أن عيسى جزء من الله، وجعلوا "من" للتبعيض؛ وذلك لأنهم زائغون، والزائغون هم الذين يتبعون ما تشابه من الأدلة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

وذُكر أن نصرانيًا استدل بها على أن عيسى جزء من الله، وقال: إن قرآنكم يدل على ما قلنا من أن عيسى جزء من الله، وكان عنده أحد العلماء فتلا هذه الآية {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا

(1)

تقدم ص 433.

ص: 509

فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فقال: للنصراني: هل السموات والأرض وما فيها جزء من الله؟ ! فحار النصراني، وعرف أنه على ضلال ثم أسلم؛ لأنه تبين له الحق، فـ "من" هنا ليست للتبعيض، ولكنها للإبتداء؛ أي: أنها من عند الله عز وجل.

قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} {فَآمِنُوا} الضمير "الواو" يعود إلى أهل الكتاب الذين يراد بهم النصارى، وقوله:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي عيسى وموسى ومحمد وجميع الرسل، ولا تقولوا: لا نؤمن إلا بمحمد؛ لأن عيسى هو الذي بشَّر به، بل آمنوا بالله ورسله كلهم من أولهم إلى آخرهم.

والإيمان في اللغة اشتهر بأنه التصديق، ولكن الصحيح: أنه ليس التصديق، وأنه الإقرار، ولهذا يُعدى بالباء، فيقال: آمن بكذا؛ أي: أقر به إقرار مؤمن مصدق، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه "الإيمان"، وذكر أن من فسره بالتصديق فليس بصواب، لكن قد يُضمن معنى التصديق ثم يتعدى باللام، مثل قوله:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، والإيمان هنا بمعنى الإنقياد؛ أي: فانقاد له لوط {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26].

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} جملة {لَا تَقُولُوا} مكونة من فعل مضارع وفاعل، والقول هو: النطق باللسان، وهنا كلمة {ثَلَاثَةٌ} لم يقع عليها الفعل؛ لأن القول لا ينصب إلا جملة أو شبه جملة، ولا ينصب الإسم المفرد إلا على لغة بعض العرب الذين يجعلون القول كالظن، فينصبون به المفرد، وعلى هذا فنقول:{ثَلَاثَةٌ} ليست مفعولًا لـ {تَقُولُوا} ، ولكنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير:"ولا تقولوا: الله ثلاثة".

ص: 510

وكانوا يقولون بالتثليث كما ذكر الله ذلك عنهم في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73].

وقوله: {انْتَهُوا} أي: عن قول: ثلاثة، فنهى أولًا، ثم أمر ثانيًا بقوله:{انْتَهُوا} .

وقوله {خَيْرًا لَكُمْ} {خَيْرًا} خبر "يكن" المحذوفة والتقدير: "انتهوا يكن خيرًا لكم".

وقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} هذا دفع لقوله: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، و"إنما" أداة حصر، فالجملة فيها حصر الألوهية بالله عز وجل.

وقوله: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} "سُبْحَانَ" بمعنى تنزيه، وهي اسم مصدر، وفعلها "سبح"، والمصدر منه "تسبيح"، واسم المصدر "سبحان"، وهي ملازمة للنصب على المفعولية المطلقة دائمًا، فكلما جاءت "سبحان" فهي منصوبة على أنها مفعول مطلق، وعاملها محذوف وجوبًا؛ ولا يجمع بينها وبين عاملها.

وقوله: {أَنْ يَكُونَ} أن هذه مصدرية، وقد حذف حرف الجر منها للعلم به؛ أي: تنزيهًا له عن أن يكون له ولد، وإنما هو منزه عن الولد جل وعلا لأمور متعددة:

أولًا: لأنه مالك كل شيء، والمالك لا بد أن يكون المملوك مباينًا له في كل الأحوال.

وثانيًا: أنه ليس له زوجة، والإبن إنما يكون غالبًا ممن له زوجة، كما ذكر الله ذلك في سورة الأنعام {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].

ص: 511

ثالثًا: أن الولد إنما يكون لمن يحتاج للبقاء؛ أي: بقاء النوع باستمرار النسل، والرب عز وجل ليس بحاجة إلى ذلك؛ لأنه الحي الذي لا يموت.

رابعًا: أن الإبن إنما يحتاج إليه والده ليساعده ويعينه على شئونه وأموره، والله سبحانه وتعالى غني، وقد أشار إلى ذلك في قوله:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [يونس: 68] فعلى كل حال هو منزه عن أن يكون له ولد، وما قدر الله حق قدره من قال: إن له ولدًا.

قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذا كالدليل على أنه منزه عن أن يكون له ولد، فإن ما في السموات وما في الأرض ملك له، والولد لا بد أن يكون كوالده في أنه له قسط من الملك؛ لأنه سوف يرث والده إذا مات مثلًا، والله سبحانه له ملك السموات والأرض.

وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} "مَا" هنا للعموم؛ أي: كل ما في السموات من ذوات وأحوال وأمور فهي لله عز وجل، وكذلك ما في الأرض.

وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} قال المعربون: إن الباء هنا زائدة، والتقدير:"وكفى الله وكيلًا" أي: حافظًا على كل شيء، فلا يحتاج إلى ابن يساعده، أو يعينه في حفظ الملك.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

النهي عن الغلو في الدين، لقوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وإذا نهى الله أمة عن شيء وقصه علينا فهو عبرة لنا؛ يعني: أننا منهيون عنه، ويؤكد هذا قول

ص: 512

النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم"

(1)

أي: لا تغلوا فيَّ.

2 -

أن الغلو في الدين كالنقص منه، فكما أن الإنسان منهي عن النقص في دينه فهو أيضًا منهي عن الغلو.

3 -

أنه لا يجوز لنا أن نغلو في ديننا، سواء ما يتعلق برسولنا صلى الله عليه وسلم أو بأعمالنا، وعلى هذا: فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الله فهو غالٍ فيه عليه الصلاة والسلام، ومن نزله منزلة الرب وأنه يتصرف في الكون فهو غالٍ فيه، ومن زعم أن غيره ممن هو دونه يتصرف في الكون فهو غالٍ فيه، فالغلو هو مجاوزة الحد في كل شيء.

4 -

تحريم القول على الله إلا بالحق، لقوله:{وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وهو الشيء الثابت.

- ويتفرع من هذه الفائدة: تحريم تحريف آيات الصفات وأحاديثها؛ لأن الذي يحرفها لم يقل على الله الحق، بل قال عليه الباطل، فآيات الصفات مثل قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فلو قال قائل: ليس المراد باليدين اليد الحقيقية، بل المراد النعمة والقدرة وما أشبه ذلك، فنقول: هذا قال على الله غير الحق؛ لأنه قال ما لا يريده الله عز وجل.

5 -

بيان أن المسيح عليه الصلاة والسلام لا يستحق من أمر الربوبية شيئًا، وتؤخذ من قوله:{رَسُولُ اللَّهِ} .

6 -

جواز نسبة الإنسان إلى أمه إذا لم يكن له أب، لقوله:

(1)

رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت .. ، حديث رقم (3261).

ص: 513

{عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وعيسى ابن مريم ليس له أب كما هو معلوم للجميع، فإذا كان الولد ولد زنًا قلنا إنه ليس له أب شرعي، فينسب إلى أمه، ويبقي عندنا إشكال: فهو ينسب إلى أمه حقيقة وحكمًا ولا شك فيه، لكن عند المناداة، وعندما نضع له اسمًا يشتهر به بين الناس وينادى به، فهل نحن ننسبه إلى أمه فيكون بذلك نشر عارها، وكسر قلبه، أو نضع له اسمًا ننسبه إلى من هو حقيقة منسوب إليه؟ فنقول - مثلًا -: عبد الله بن عبد الكريم، فنحن إذا قلنا هو: عبد الله بن عبد الكريم هل أخطأنا؟

الجواب: لا؛ لأن الزاني عبد لله عز وجل، وإن كان زانيًا فهو عبد لله، فنسميه بهذا الإسم؛ لأنه لو سميناه منسوبًا إلى أمه لكان كل إنسان يسمع ذلك سيقول: لماذا؟ ثم يلحق العار هذا الرجل وذريته، ويبقي وصمة عار في تاريخهم إلى ما شاء الله.

فنقول: الحمد لله، أما من جهة الأحكام الشرعية فلا شك أننا لا نرتب عليه أحكام الأبوة، ولهذا لو مات ابن الزنا فأمه ترثه فرضًا وتعصيبًا، فلهذا نقول: يوضع له اسم ينسب إليه ولا يخالف الواقع.

أما اللقيط فيوضع له اسم مثل: عبد الله بن عبد الكريم، أو عبد الرحمن بن عبد العزيز، أو فلان بن أبيه، لكنه ليس أبًا شرعيًا، وقد يكون له أب شرعي؛ لأن بعض الناس ربما يلقي أولاده - مثلًا - في الطرقات والمساجد عجزًا عنهم، فهذا اللقيط في الحقيقة لا ندري هل هو ابن زنًا أو ابن رشد، لكن أباه ألقى به لعجزه عنه.

والمشهور عند أهل العلم أن ميراثه لبيت المال، وديته إن

ص: 514

قتل لبيت المال، إلا إذا تزوج وصار له أولاد فأولاده يرثونه، ولكن نقول: الراجح: أن ماله يكون لمن التقطه؛ لأنه قام عليه وحضنه وتعب فيه فيكون له، وهو أولى من بيت المال الذي يكون لعموم الناس.

أما ما اشتهر في عهد الصحابة من نسبة بعضهم لأمه فلأنهم يرضون بذلك، وقد اشتهر هذا الشيء وليس هناك أدنى شك في أنهم أولاد حقيقة لآبائهم وإلا فهناك ابن أم مكتوم، وعبد الله بن مالك ابن بحينة رضي الله عنهم.

أما الحديث الذي فيه وعيد للذي انتسب لغير أبيه فهو لم ينتسب لغير أبيه، بل نعرف أن أباه فلان.

مسألة: الولد إذا كان من الزنا، ولكن بعد أن حملت المرأة تزوج بها الزاني زواجًا شرعيًا ثم ولدت فهذا الولد إلى من ينسب؟

الجواب: أولًا نقول: لا بد من توبة الزاني والزانية ولا بد من تحقق ذلك.

ثانيًا: إذا أراد أن يتزوجها فأكثر العلماء يقولون: إنه لا يجوز أن يتزوجها؛ لأنه الآن في عدة لا يلحقه ولده، فيجب أن ينتظر حتى تنتهي العدة؛ وذلك بوضع الحمل على الوجه المعروف. ومن العلماء من يجوز ذلك إذا تحققت التوبة، وأنه إذا استلحقه الزاني يُلحق به. لكن هذا الباب لا يجوز إطلاقًا أن يفتح للناس، فلو كان هذا القول من الناحية النظرية قولًا صحيحًا إلا أنه لا يجوز أن يُفتى به الناس على الإطلاق؛ لأنهم لو أُفتوا به لتساهلوا في هذا الأمر، ولكان كل إنسان يزني بامرأة فإذا حملت

ص: 515

ذهب يتزوجها، وأهلها سوف يضطرون إلى أن يزوجوه، وسيفتح بهذا باب شر على الناس.

7 -

إثبات رسالة عيسى ابن مريم؛ لقوله: {رَسُولُ اللَّهِ} ، لهذا يجب علينا أن نؤمن بأن عيسى رسول، ليس له حق في الربوبية بأي حال من الأحوال.

8 -

إطلاق السبب على مسببه، لقوله:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} فإن عيسى ليس هو الكلمة نفسها، لكنه خلق بالكلمة، فأطلق السبب وأريد المسبب.

9 -

أن عيسى عليه الصلاة والسلام من أشرف عباد الله وأكرمهم عليه؛ لأنه أضافه إلى نفسه فقال: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ، والإضافة للتخصيص والتكريم.

10 -

أن عيسى عليه الصلاة والسلام روح من الله، لقوله:{وَرُوحٌ مِنْهُ} يعني: أنه من جملة الأرواح التي خلقها الله عز وجل، ولكن أضيف إلى الله عز وجل من باب التكريم والتشريف. واعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: نوع معنى لا يقوم إلا بغيره، وهذا يكون من صفاته، مثل: علم الله، وقدرة الله، وسمع الله، وكلام الله، وما أشبه ذلك، فهذه معانٍ إذا أضيفت إلى الله فهي من صفاته وليست بمخلوقة، ونوع آخر يضاف إلى الله لكنه بائن منه ومنفصل عنه، وهذا يكون مخلوقًا، لكن أضيف إلى الله من باب التشريف والتكريم، ومنه قوله هنا:{وَرُوحٌ مِنْهُ} ، وقوله تعالى:{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)} [الشمس: 13] فأضاف الناقة إليه، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ

ص: 516

لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] كل هذه أعيان قائمة بنفسها فإضافتها إلى الله إضافة تشريف وتكريم.

11 -

وجوب الإيمان بالله ورسله كلهم أجمعين من نوح إلى محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وقد سبق مرارًا ذكر ما يتضمنه الإيمان بالله عز وجل؛ فلا حاجة للتكرار، وكذلك ما يتضمنه الإيمان بالرسل.

12 -

النهى عن التثليث، لقوله:{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} يعني: أنه يحرم أن يقول الإنسان: إن الله ثالث ثلاثة، وهذا من الشرك، فالنهي عنه كقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] فلا يقول قائل: لماذا اقتصر على النهي فقط؟ نقول: نعم، اقتصر على النهي ولو كان هو شركًا؛ لأن الشرك منهي عنه.

13 -

أن من تاب من التثليث وانتهى عنه تاب الله عليه؛ لقوله: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} فدل هذا على أن من تاب فهو خير له، وهذا يستلزم قبول التوبة.

14 -

انفراد الله تعالى بالألوهية، في قوله:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ} دلت على الحصر، وهو أن الله تعالى هو الإله وحده، لكن قوله:{وَاحِدٌ} يكون زيادة تأكيد.

15 -

تنزيه الله أن يكون له ولد، يعني: أنه منزه عن أن يكون له ولد، تؤخذ من قوله:{سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَد} تنزيهًا له، ووجه كون اتخاذ الولد بالنسبة إلى الله تعالى عيبًا ونقصًا لأنه يستلزم أن يكون محتاجًا إليه، وأن يكون باقيًا فيما لو هلك الأب.

ص: 517

والذين قالوا: إن الله اتخذ ولدًا ثلاثة أصناف، وهم: اليهود، والنصارى، والمشركون.

16 -

انفراد الله تعالى بالملك، من قوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] فقدم ما حقه التأخير، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

17 -

أن السموات عدد، يؤخذ من صيغة الجمع، لكنه مبهم، ولكن ورد في قوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وأما الأرض فالآية فيها إشارة، وجاءت السنة بذلك صريحًا في قوله:"من اقتطع شبرًا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين"

(1)

.

18 -

أن الله وكيل على الخلق، بمعنى أنه رب وحافظ لهم؛ لقوله:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} .

19 -

في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ما يوجب للإنسان صدق الإعتماد على الله عز وجل، وأن يعتمد على الله وحده، لقوله تعالى:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} فاجعل اعتمادك على الله فإنه كافيك، ولو أننا صدقنا في ذلك لكان الله حسبنا، ومن كان الله حسبه فقد تم له أمره. قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] فأنت يا أخي! توكل على الله، فأنت إن صدقت التوكل على الله فإن الله حسبك وكافيك، ويسهل لك أمرك، وهذا وعد من الله عز وجل ليس من زيد ولا عمرو، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصًا وتروح

(1)

تقدم ص 274.

ص: 518

بطانًا"

(1)

فالطير تغدو من أوكارها خماصًا جائعة، قد مضى عليها الليل، ونفذ ما في بطونها، لكنها متوكلة على الله عز وجل، تعرف ربها وتعتمد عليه، ولا ترجع إلا وهي بطان ممتلئة بطونها، فلو أننا توكلنا على الله حق التوكل لكفانا، لكن ينقصنا ذلك كثيرًا، والأسباب المادية تجد أكثر الناس يعتمد عليها وينسى المسبب عز وجل.

* * *

* قال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [النساء: 172].

المسيح هو ابن مريم، الذي اتخذه هؤلاء إلهًا، فبين الله أن المسيح نفسه لا يمكن أن يستنكف عن عبادة الله، بل هو عليه الصلاة والسلام يطلب الوسيلة إلى الله؛ أي: في القرب لديه قال الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] يعني: يطلبون الوسيلة التي تقربهم إلى الله عز وجل، وأولئك يدعونهم فهم مساكين، وهنا يقول:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} .

فقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ} بمعنى يأبى أنفة وعلوًا، وقوله:{أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّه} أي: عبدًا شرعيًا؛ لأن الكوني لا أحد يستنكف عنه، حتى أفجر عباد الله لن يستنكف أن يكون عبدًا لله العبودية القدرية، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا

(1)

تقدم (1/ 328).

ص: 519

آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93] ففرعون مستكبر، لكن قدريًا لا يمكن أن يستكبر، أما الإستكبار عن الأمر الشرعي فهذا كثير.

فقوله: {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} أي: عبودية شرعية.

وقوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} يعني: ولن يستنكف الملائكة المقربون، والملائكة هم: عالم غيبي خلقهم الله من نور، وجعل غذاءهم التسبيح، ولهذا كانوا صمدًا لا يأكلون ولا يشربون.

وقوله: {الْمُقَرَّبُونَ} هل هي صفة كاشفة أو صفة قيد؟ الجواب: يحتمل أن تكون صفة كاشفة؛ لأن الملائكة مقربون إلى الله عز وجل، ويحتمل أن تكون قيدًا، وعلى هذا الإحتمال يكون الملائكة فيهم المقربون وفيهم من ليس بمقرب. فالله أعلم.

فإن قال قائل: ما المناسبة في ذكر الملائكة عند ذكر عيسى؟ قلنا: المناسبة أن من الناس من جعل الملائكة أولادًا لله، كما أن منهم من جعل المسيح ابنًا لله عز وجل، فهذه هي المناسبة، يعني: حتى الملائكة الذين اتخذتموهم أولادًا لله لن يستنكفوا أن يكونوا عبادًا لله.

ثم قال: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} .

قوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ} الجملة هنا شرطية، و"مَن" أداة شرط، وقوله:{يَسْتَنْكِفْ} فعل الشرط، وجواب الشرط قوله:{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} وقرن بالفاء لأنه صدر بالسين، وإذا صدر الجواب بالسين وسوف فإنه يتعين أن يربط بالفاء.

وقوله: {يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} يستنكف عن عبادته شرعًا،

ص: 520

{وَيَسْتَكْبِرْ} يتعلا ويترفع، ويأبى أن يخضع للأوامر والنواهي.

قوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} أي: المستنكف المستكبر، والمتعبد المتذلل، كلهم سيحشرهم إليه، وعلى هذا فالضمير في قوله:{فَسَيَحْشُرُهُمْ} يعود على الجميع.

وهنا مباحث:

أولًا: قوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ} روعي في فعل الشرط لفظ الشرط؛ لأن "مَن" لفظ مفرد، و {يَسْتَنْكِفْ} فاعله مفرد، والجواب قوله:{فَسَيَحْشُرُهُمْ} روعي فيه المعنى، وأيضًا روعي فيه المعنى بالمعنى الأعم؛ لأن قوله:{فَسَيَحْشُرُهُمْ} يشمل المستنكف وغير المستنكف، وعلى هذا فيكون فيه عموم أوسع.

فإذا قال قائل: فهل يجوز في اللغة العربية أن يتعدد مرجع الضمير، فمرة يعود بالإفراد ومرة يعود بالجمع؟ قلنا: نعم، هذا موجود في اللغة العربية، بشرط أن يكون مرجع الضمير صالحًا للإفراد والجمع، فإذا كان صالحًا للإفراد والجمع جاز أن يعود الضمير عليه بالإفراد، وأن يعود عليه بالجمع، وأن يتنوع، قال الله تعالى في آخر سورة الطلاق:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] ففي الآية هنا عاد الضمير أولًا باعتبار اللفظ، ثم باعتبار المعنى، ثم باعتبار اللفظ.

والحكمة من ذلك التنبيه على أن مثل هذه الكلمات للعموم، يعني: أن {مَنْ} سواء كانت شرطية أو موصولة تأتي للعموم، ونستفيد من كون الذي يرجع إليها مرة يكون بالإفراد، ومرة يكون بالجمع.

ص: 521

وثانياً: قوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ} أي: سيجمعهم، وذلك يوم القيامة، فإن الله سبحانه يجمع الأولين والآخرين في مكان واحد، لا بناء، ولا جبال، ولا أشجار، ولا هضاب، ولا رمال، في مكان واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر؛ لأنهم على أرض مسطحة تمد مد الأديم، كما قال الله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} [الإنشقاق: 1 - 3] وهي الآن مبسوطة وليست ممدودة، وهي الآن أيضًا مطوية، كما قال تعالى:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]، لكن إذا كان يوم القيامة صارت ممدودة:{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)} ، وكما جاء في الحديث:"تمد مد الأديم"

(1)

أي: مد الجلد، ولهذا يسمعهم الداعي إذا دعى أولهم سمع آخرهم؛ لأنه ليس هناك انحناء، أو جبال، أو أشجار يمنع وصول الصوت، وأيضًا ينفذهم البصر، فيراهم الرائي كلهم؛ لأنه ليس هناك انحناء حتى يغيب بعضهم عن البصر، بل يُشاهدون جميعًا، فكل الخلائق يجمعون يوم القيامة جميعًا في هذا الصعيد، كما قال الله تعالى ردًا على الذين قالوا:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} [الصافات: 16، 17] قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} [الواقعة: 49، 50] فالأولون والآخرون كلهم يجمعون في هذا المكان.

(1)

رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب فتنة الدجال وخروج عيسى

، حديث رقم (4081)؛ وأحمد (1/ 375)؛ والحاكم (2/ 416) عن ابن مسعود.

ص: 522

زد على ذلك أن الوحوش والبهائم كلها تحشر مع الناس، فيا له من مشهد عظيم! هذا المشهد يجب أن نتذكره دائمًا قيامًا وقعودًا، وإذا تذكره الإنسان فإنه قد يقول يومًا من الأيام: ليتني شجرة تعضد، كما قال ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه، وإن الإنسان أحيانًا ليمر بالعصفور أو بالقط فيقول: يا ليتني! مثله؛ يخشى من الذنب، وإلا فمن المعلوم أن ابن آدم إذا قدر الله له السعادة فهو أفضل منها بكثير، كما قال تعالى:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4]، لكن من يضمن لنفسه هذا؟ ! ومن يضمن لنفسه أنه سالم من هذا الموقف العظيم؟ ! من هذا اليوم الذي {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 17، 18] ، فلو ضمن الإنسان هذا لقال: الحمد لله الذي خلقني، مع أن الله محمود على كل حال، لكن الإنسان يخشى من الذنوب.

فأقول: إن الخلائق كلها سوف تحشر إلى الله عز وجل، ويجازى كل إنسان بما عمل، ولو أنكر الإنسان ما الذي يشهد عليه؟ نفس البدن، أعضاؤه وجلده، فكل الجلد يشهد بما مس من عمل سيء، وبما تصبب عرقًا من شهوة باطلة، وغير ذلك، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24] اللهم نجنا من ذلك اليوم.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أنه لا يمكن للمسيح عيسى ابن مريم الذي جعله هؤلاء إلهًا أن يستنكف عن عبادة الله، ويتفرع على هذه الفائدة: أن العبد لا يصلح أن يكون ربًا أو معبودًا؛ لأنه هو نفسه عابد مربوب.

ص: 523

2 -

الإستطراد بذكر ما يشارك الشيء وإن لم يكن له ذكر، لقوله:{وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ؛ لأننا ذكرنا في التفسير أنها ذكرت إلى جانب المسيح؛ لأن من الناس من يعبد الملائكة، ويدعي أنها بنات الله.

3 -

أن الملائكة مقربون إن قلنا: إن الصفة صفة كاشفة، أو أن الملائكة ينقسمون إلى قسمين: مقربون، وغير مقربين إذا قلنا: إنها صفة قيد.

4 -

وعيد من استنكف عن عبادة الله واستكبر، لقوله:{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} ثم فصل.

5 -

أن الإستنكاف غير الإستكبار، فالإستنكاف بالقلب؛ بأن يكون الإنسان عنده أنفة وكبرياء قلبية عن عبادة الله، والإستكبار أن يدع العبادة ويستكبر عنها، ويحتقر العبادة ويحتقر الرسول؛ كقولهم:{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41].

6 -

إثبات البعث لقوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} .

7 -

أنه عام لكل أحد، فلا بد لكل حي من البعث، سواء كان من بني آدم أو من غير بني آدم، حتى البهائم والوحوش تحشر يوم القيامة.

* * *

* قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} [النساء: 173].

ص: 524

في هذه الآية والتي بعدها التفصيل، والتفصيل بعد الإجمال من أساليب البلاغة، ومن المعلوم أن القرآن اشتمل على أعلى أنواع البلاغة.

قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} "أَمَّا" هنا شرطية، وتفيد مع الشرط التفصيل، أما كونها شرطية فلأن لها جوابًا، وهو قوله:{فَيُوَفِّيهِمْ} ، وأما كونها تفصيلية فلأنه فُصل فيها المؤمنون والذين استنكفوا واستكبروا.

وقوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هذه تكرر الكلام عليها كثيرًا فلا حاجة إلى إعادة شرحها.

وقوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: يعطيهم أجورهم وافية كاملة، وقد جاء في القرآن والسنة بيان كيف هذه الأجور، وأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ولهذا قال:{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} يعني: زائدًا على أجورهم، فإذا استحق الإنسان الحسنة فهي بعشرة أمثالها وتتضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} استنكفوا بقلوبهم، واستكبروا بجوارحهم عن عبادة الله.

قوله: {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: عذاب عقوبة وألم، فقوله:{أَلِيمًا} بمعنى: مؤلم، وكلمة:{عَذَابًا} من حيث الإعراب يسميها النحويون: مصدرًا؛ لأن المفعول المطلق هو: الذي لا يكون كالفعل أو كالعامل، أما إذا كان من العامل فإنه يسمى مصدرًا، والمصدر له عدة أغراض منها: التوكيد كما هنا:

ص: 525

{عَذَابًا أَلِيمًا} ، فهو توكيد من جهة أنه عاد بلفظ العامل "يعذب"، وهو أيضًا توطئة لما بعده؛ حيث وصف بأنه أليم.

وقوله: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} "الولي" أي: من يتولاهم إذا عذبهم الله، وقوله:{وَلَا نَصِيرًا} يمنع عنهم عذاب الله، فليس لهم دافع ولا رافع من عقوبة الله عز وجل، والدافع الولي، والرافع النصير.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

في الآية دليل على المجازاة، وأن الإنسان يُجازى بقدر عمله، ولكن حسب ما وعد الله عز وجل.

2 -

فضيلة الإيمان والعمل الصالح؛ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

3 -

أنها ربما تشعر بأن العمل الصالح لن يكون مقبولًا إلا بالإيمان؛ لأنه قدم ذكر الإيمان، والأصل أن ما قدم فهو الأسبق، وهذا أمر دلت عليه السنة، بل دل عليه القرآن، كما في قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] فلا بد من الإيمان السابق على العمل الصالح.

وهل يمكن أن يستدل بهذا على أن العمل الصالح لا يدخل في الإيمان؛ لأن الأصل في العطف التغاير؟

الجواب: نعم، قد يستدل به من يستدل على أن العمل الصالح ليس من الإيمان، ولكن نقول: قد دل الكتاب والسنة على أن العمل من الإيمان، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] قال أهل التفسير: أي: صلاتكم

ص: 526

إلى بيت المقدس، والصلاة عمل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"

(1)

وربما يقال: إذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح صار المراد بالإيمان عمل القلب وقول القلب، وبالعمل الصالح عمل الجوارح وقول اللسان، فيكون هذا من باب ما يفترق عند الإجتماع ويجتمع عند الإفتراق.

4 -

الرد على الجبرية، يؤخذ من قوله:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فأضاف العمل إليهم، والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يعمل، ولا يضاف العمل إليه إلا مجازًا، وأن عمله ليس باختياره ولا بقصده.

5 -

بيان منَّة الله عز وجل؛ حيث سمى الثواب أجرًا، كأنه استأجر أجراء يعملون فيأجرهم، مع أن فائدة العمل للعامل نفسه، بينما الأجراء في غير المعاملة مع الله يكون العمل لمن دفع الأجرة، أما هذا فالعمل للإنسان، ومع ذلك يأجره الله عز وجل.

6 -

أن ثواب الأعمال الصالحة يزيد على ما قدره الله تعالى، لقوله:{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .

7 -

أن المستنكفين المستكبرين جزاؤهم العذاب، لقوله:{فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهل يدخل في هذا أهل المعاصي؟

(1)

هذا اللفظ لمسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان، حديث رقم (58)، وهو عند البخاري مختصرًا، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، حديث رقم (9) من حديث أبي هريرة.

ص: 527

الجواب: إن قلنا: نعم، لزم أن يقع بهم العذاب على كل حال، وإن قلنا: لا، فهو أقرب؛ لأن المؤمنين يستحقون العذاب، ولكنهم لا يعذبهم الله إذا شاء، إما بمغفرة من الله، أو بشفاعة أو بدعاء المؤمنين لهم، أو ما أشبه ذلك.

8 -

أن من أرداه الله بسوء فإنه لا مرد له، ولا عاصم منه، لقوله تعالى:{وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ، ويترتب على هذا أن المشركين لن ينتفعوا بآلهتهم مهما كان، بل إن الله قال:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] فيلقون فيها جميعًا العابد والمعبود.

* * *

* قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} [النساء: 174].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} الخطاب هنا بـ {أَيُّهَا النَّاسُ} لإفادة أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لا تختص بقوم دون قوم، فالناس كلهم مخاطبون بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اليهود والنصارى مخاطبون بذلك.

وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ} الجملة هنا مؤكدة بمؤكد واحد، وهو {قَدْ} .

وقوله: {بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} البرهان هو الدليل، والمراد بها الآيات التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعظم آية جاءت بها الرسل آية النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن الذي بقي آية للرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم.

ص: 528

وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} الربوبية هنا: ربوبية بالمعنى الأخص؛ لأن كونه عز وجل يمنُّ علينا بالآيات البينات القاطعة لا شك أن هذا من مقتضى ربوبيته الخاصة، فهو سبحانه وتعالى رب الجميع، لكن هناك ربوبية خاصة يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده.

وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} ، {نُورًا} يعني به: القرآن، والنور ضد الظلمة.

وهو نور معنوي لا شك؛ لأن به يستنير القلب والوجه، وفي القبر والبعث، فالقرآن كله نور، ولكنه يحتاج إلى تأمل، وإلى تدبر لمعانيه، وإلى عمل به.

وقوله: {نُورًا مُبِينًا} كلمة "مبين" ذكرنا فيما سبق أنها تصلح أن تكون بمعنى "بيَّن"، وبمعنى "مظهر"؛ وذلك لأنها مشتقة من "أبان"، و"أبان" تصلح متعدية ولازمة، فتقول: أبان لي الطريق، وحينئذ تكون متعدية، وتقول: أبان الفجر، بمعنى طلع، وهذه لازمة، وعلى هذا فكلمة {مُبِينًا} يصح أن تفسرها بأنه مبين لغيره، وبأنه بين في نفسه ولا يتنافى المعنيان، وقد مر أن القاعدة المهمة الأصلية أنه متى كانت النصوص من القرآن والسنة تحتمل معنيين لا مرجح لأحدهما على الآخر، ولا منافاة بينهما، وجب حمل النص على المعنيين جميعًا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

أن القرآن الكريم نازل لجميع الخلق، لقوله:{قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، ويترتب على هذه عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أنه يجب على من لم يعرف اللغة العربية أن يتعلمها، ليتوصل إلى الإستفادة من القرآن، لقوله:{بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، ومن

ص: 529

المعلوم أن تلاوته على رجل أعجمي لا تفيده، كما قال تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 198 - 199] لأنهم لا يعرفونه، ولا يتذوقون طعمه.

3 -

إثبات الربوبية، وأن إرسال الرسل وإنزال الكتب من مقتضى ربوبيته، لقوله:{قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .

4 -

أن القرآن الكريم نور، ولكن لا يتذوق ذلك أو لا يشاهد ذلك إلا من جمع بين أمرين:

الأول: التدبر.

والثاني: التذكر.

ودليل هذا قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} لأي غرض؟ {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، هذه واحدة، {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] فمن تدبر الآيات، وسلم من الهوى، وسلم من تحريف الأدلة، واتعظ بما فيها، فإنه سيجد نورًا عظيمًا في قلبه، ويُكشف له من العلوم ما لا يُكشف لغيره.

5 -

أن القرآن الكريم فيه بيان لكل شيء؛ لأن النور لا بد أن تستبين به كل الأشياء؛ كالنهار إذا طلع بانت به الأشياء، وكالحجرة إذا أسرجتها فلا بد أن يبين منها ما كان خافيًا، فالقرآن تبيان لكل شيء، ولكن قد يخفي البيان إما لقلة الإيمان، وإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما لسوء القصد، وإلا فإن القرآن بين ونور لكل أحد، لكن قد يكون عند الإنسان ضعف إيمان، بمعنى أنه لا يثق بأن القرآن فيه تبيان كل شيء، أو يكون قاصر علم، وليس عنده أداة يتمكن بها من استنباط الأحكام من

ص: 530

الأدلة، ومن ثَمّ صرنا محتاجين إلى تعلم أصول الفقه، وإما أن يكون من قصور الفهم، فيكون الإنسان عنده علم وعنده تدبر لكن لا يفهم، والناس يختلفون في هذا اختلافًا عظيمًا، فتجد بعض الناس يستطيع أن يستنبط من الآية أو الحديث فوائد كثيرة، ولا يستنبط غيره من ذلك إلا قليلًا بالنسبة له، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ ولهذا لما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل خصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، يعني: هل أوصى إليكم؟ قال: "لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهمًا يؤتيه الله أحدًا في كتابه" - انظر إلى قوله: "إلا فهمًا يؤتيه الله أحدًا في كتابه" - وما في هذه الصحيفة، قيل: وما فيها؟ قال: "العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر"

(1)

.

الشاهد من هذا قوله: "فهمًا يؤتيه الله أحدًا في كتابه" وأنت إذا تأملت كلام العلماء رحمهم الله وجدت الفرق العظيم بينهم في الفهم، فتجد - مثلًا - هذا العالم يشرح حديثًا ثُمّ يستنبط منه عشرين فائدة، وآخر يشرحه ولا يستنبط إلا خمس أو أربع فوائد، وكذلك في الآيات.

والرابع سوء القصد، فقد يكون الإنسان عنده علم واطلاع وفهم، ولكن قصده سيء، فيطالع الكتاب والسنة من أجل أن ينتصر لقوله، وإن كان يعلم أنه باطل، نسأل الله العافية، سيء القصد يحرم الوصول إلى المقصود.

* * *

(1)

ورواه البخاري، كتاب الديات، باب لا يقتل المسلم بالكافر (6915).

ص: 531

* قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء: 175].

قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} هذه جمعت بين الإيمان والتوكل فقوله: {آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} فلم يلجأوا إلى أحد سواه، بل جعلوه عز وجل حمايتهم وبه عصمتهم، إذ لا يعتصمون بأحد سوى الله، ولا يعتمدون ويتوكلون إلا على الله.

وقوله: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} السين في قوله: {سَيُدْخِلُهُمْ} تفيد شيئين: الأول: التحقيق، والثاني: القرب.

أما التحقيق فظاهر، وأما القرب فما أقرب الآخرة من الدنيا! وما بين الإنسان وبين الآخرة إلا أن تخرج روحه من جسده ثم يكون في عالم الآخرة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في "العقيدة الواسطية": يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.

وقوله: {فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} كلمة {رَحْمَةٍ} يصح أن تكون صفة لله، ويصح أن تكون مخلوقة لله. والمراد هنا: الرحمة المخلوقة؛ لأن الرحمة الصفة لا يمكن أن يدخل الناس فيها، لكن الرحمة المخلوقة هي التي يمكن أن يدخل الناس فيها؛ ولهذا قال:{فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} ، و"من" هنا ليست للتبعيض ولكنها للإبتداء؛ أي: رحمة كائنة منه.

ص: 532

قوله: {وَفَضْلٍ} أي: زائد على ما يستحقونه من الثواب والأجور.

وقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} فذكر الله تعالى لـ {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} ثمرتين عظيمتين:

الثمرة الأولى: أن يدخلهم الله في الرحمة والفضل.

والثانية: أن {يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: يدلهم. وهذا يدل على أن الإيمان والإعتصام بالله سبب لزيادة العلم، وهو واضح، ودلت عليه نصوص أخرى، مثل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 17]، وقوله:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31].

وقوله: {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} فيها قراءتان: الأولى: بالسين، والثانية: بالصاد؛ لأن السين والصاد تتناوبان لقرب مخرجيهما.

وقوله: {صِرَاطًا} الصراط هو: الطريق الواسع السهل، وأصل ذلك من قولهم: زرط اللقمة، إذا ابتلعها بسرعة، وصرطها كلها، ومعناها واحد.

وقوله: {مُسْتَقِيمًا} ضد المعوج، والإعوجاج تارة يكون اعوجاجًا طلوعًا ونزولًا، وتارة يكون اعوجاجًا يمينًا وشمالًا، وصراط الله عز وجل مستقيم ليس فيه يمين ولا شمال، وليس فيه طلوع ولا نزول؛ لأنه سهل.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

فضيلة الإيمان بالله والتوكل عليه، ووجه ذلك أنه وعدهم بأنه يدخلهم في رحمة منه.

2 -

أن من آمن واعتصم بالله فإنه سوف ينال الرحمة

ص: 533

العاجلة والآجلة، لقوله:{فَسَيُدْخِلُهُمْ} والسين تدل على القرب، وبينا وجه ذلك في التفسير، وأن أنعم الناس بالًا وأشدهم انشراحًا في الصدور هم المؤمنون المعتصمون بالله.

3 -

أن الرحمة تطلق صفة من صفات الله، وتطلق على ما كان من آثارها، وهذه الآية من إطلاق آثار الصفة؛ لأنه قال: سيدخلهم في رحمة منه، ومن إطلاق الرحمة على ما كان من آثارها ما ثبت في الصحيح قول الله تعالى للجنة:"أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"

(1)

.

4 -

بيان فضل الله عز وجل على هؤلاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، لقوله:{وَفَضْلٍ} .

5 -

أن من آمن بالله واعتصم به فإن إيمانه واعتصامه سبب للهداية، لقوله:{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .

6 -

أن الصراط الهادي إلى الله عز وجل مستقيم لا اعوجاج فيه؛ لقوله: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} .

وهل الإستقامة هنا استقامة الدنيا فقط أو الدنيا والآخرة؟

الجواب: العموم، فدين الله تعالى مستقيم دنيا وأخرى.

* * *

* قال الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} [النساء: 176].

(1)

تقدم (1/ 181).

ص: 534

الإستفتاء طلب الإفتاء، والإفتاء هو: الإخبار عن حكم شرعي أو غير شرعي أيضًا؛ لأن الإنسان قد يستفتي في أمور دنيوية، والفاعل في قوله:{يَسْتَفْتُونَكَ} الصحابة، والكاف في قوله:{يَسْتَفْتُونَكَ} يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقوله: {قُلْ} مجيبًا لهم.

قوله: {فِي الْكَلَالَةِ} متعلقة بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} ، و {يُفْتِيكُمْ}؛ لأننا قلنا: لا مانع من أن يتسلط عاملان على معمول واحد كما هو مذهب الكوفيين، وعلى هذا فنقول:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ، أما على رأي البصريين، فيقولون: إن قوله: {فِي الْكَلَالَةِ} متعلق بـ {يُفْتِيكُمْ} و {يَسْتَفْتُونَكَ} حذف منها معمولها، ولم يكن فيها الضمير؛ لأنه ليس عمدة.

والإستفتاء عن الكلالة ما هي؟ فبين الله تعالى ما هي الكلالة بذكر المسألة التي تتضمنها، وأصل الكلالة: مأخوذة من الإكليل، وهو ما أحاط بالشيء، ولهذا نقول في تفسيرها: هم الحواشي؛ لأن قرابات الإنسان ثلاث شعب: شعبة منه، وشعبة أصل له، وشعبة من آبائه وأجداده، فالشعبة التي منه تُسمى الفروع، والشعبة التي هو منها تُسمى الأصول، والشعبة التي من أبائه وأجداده تُسمى الحواشي، وعلى هذا نقول: المراد بالكلالة: الحواشي: الأخ وأبناؤهُ، والعم وأبناؤهُ، سواءً كان عمك أو عم أبيك أو عم جدك، هؤلاء هم الكلالة، ولهذا فسرها الصديق رضي الله عنه، بما ذكروا عنه أنها:"من لا ولد له ولا والد".

ص: 535

وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} {إِنِ} ، شرطية، وأدوات الشرط لا تدخل إلا على الأفعال، وهنا دخلت على اسم {إِنِ} وهذا موضع خلاف، فعلى رأي من يرى أن الشرط لا يدخل إلا على الأفعال فيقول:{إِنِ امْرُؤٌ} فاعل لفعل محذوف، والتقدير "إن هلك امرؤ"، ولكن هناك قول آخر، وهو أن أدوات الشرط تدخل على الأسماء، لورود ذلك كثيرًا في اللغة العربية؛ كقوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الإنفطار: 1]، وقوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الإنشقاق: 1]، وقوله:{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)} [الإنفطار: 2] وأمثلة هذا كثيرة، فيقول: لا مانع من أن تدخل أداة الشرط على الأسماء.

وهناك رأي ثالث يقول: إن الذي يلي "إن" الشرطية يكون معمولًا للفعل الذي بعدها، فإن كان فاعلًا فهو فاعل مقدم، وإن كان نائب فاعل فهو نائب فاعل مقدم، وإن كان منصوبًا فهو مفعول مقدم، ولا مانع.

وعلى كل حال فالذي نرى أنه إذا اختلف النحاة في شيء فإننا نتبع الأسهل.

وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} أي: مات، قوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} لا ذكور ولا إناث؛ لأن الولد نكرة في سياق النفي فيعم.

وقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي: {أُخْتٌ} شقيقة أو لأب، ولم يذكر الأخت من الأم؛ لأن الأخت من الأم ذكرها الله تعالى في أول السورة فقال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ

ص: 536

كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12].

إذًا: إذا وجد أخت شقيقة أو لأب والولد مفقود، يعني: ليس له فرع وارث {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، ويتعين أن لا يكون معها ذكور من الأصول؛ لأنه لو كان معها ذكور من الأصول لم ترث النصف؛ إذ من شرط إرث الأخت الشقيقة أو لأب النصف أن لا يوجد أصل وارث من الذكور، فصار هنا لا ولد ولا والد من الذكور، الولد من قوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، ولا والد يؤخذ من كون فرض الأخت هنا النصف؛ لأنه لو كان هناك وارث من الذكور لم ترث النصف.

وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ، قوله:{يَرِثُهَا} أي: أخوها {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} يعني: ليس لها ولد لا ذكر ولا أنثى، بأن ماتت امرأة عن أخيها الشقيق فقط، أو امرأة عن أخيها من أب فقط، وليس لها ولد.

وقوله عز وجل: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وهنا المسألة مشكلة كيف قال الله عز وجل: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} مع أنه لو كان لها زوج لم يرث إلا ما بقي من فرض الزوج، والله عز وجل قال:{يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ؟

والجواب: نقول: هذا الكلام باعتبار الكلالة، وهم الذين يرثون بالقرابة، بقطع النظر عن الذي يكون بالزوجية، فهم يسألون عن الكلالة، والكلالة لا تتعلق إلا بالأقارب، فقوله:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} يعني: إن كان لها زوج فهو يرث ما بقي بعد الزوج، وإن لم يكن لها زوج فإنه يرثها.

فإذا قال قائل: ربما يكون لها أم فهل يرثها أخوها؟

ص: 537

الجواب: نعم، ولكن بعد فرض الأم؛ لأن الله سبحانه ذكر هنا من يرث بالتعصيب، ولهذا لم يقدر له نصيبًا، بل قال:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} .

قوله: {فَإِنْ كَانَتَا} الضمير يعود على الأختين، {اثْنَتَيْنِ} يعني: ليس معهما ذكر، {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} {مِمَّا تَرَكَ} أي: مما ترك الأخ.

قوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ولم يقدر الله عز وجل؛ لأنه إذا كان مع الأخوات أخوة ورثن بالتعصيب، فذكر الله هنا الإخوة الإناث الخلص الواحدة، والإناث الخلص مع التعدد، والإناث مع الذكور؛ وذلك لأنه لا يمكن أن تخرج القسمة عن هذه الأقسام الثلاثة: إما أنثى واحدة، أو إناث متعددات، أو مختلط: ذكور، وإناث.

فالواحدة لها النصف، والثنتان فأكثر {الثُّلُثَانِ} ، وإذا كانوا {رِجَالًا وَنِسَاءً} فبالتعصيب {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إذًا: الأقسام أربعة:

ذكور خلص، وإناث خلص متعددات، أو منفردات.

الرابع: اجتماع الذكور والإناث.

وبناءً على ذلك نتعرض لأرث الأخت النصف، ترث الأخت النصف بشروط:

الشرط الأول: ألا يوجد فرع وارث، وهذا مأخوذ من قوله {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} وقوله:{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} .

الشرط الثاني: ألا يوجد أصل من الذكور وارث، مأخوذة من قوله:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} لأنه لو كان هناك أب ما ورثها.

ص: 538

الشرط الثالث: الإنفراد.

الشرط الرابع: عدم المعصب.

هذه شروط إرث الأخت الشقيقة النصف، والأخت لأب تزيد شرطًا واحدًا وهو أن لا يوجد أحد من الأشقاء الذكور أو الإناث.

فإذا هلك هالك عن أخت شقيقة وزوج، ففرضها النصف؛ لتمام الشروط.

وإذا هلك هالك عن أختين شقيقتين وزوج فيكون لهما الثلثان، وعن أخت شقيقة وأخ شقيق يكون الأرث بالتعصيب، لقوله:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} .

ثم قال الله عز وجل: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} {يُبَيِّنُ} أي: يظهر الحق بينًا.

وقوله: {أَنْ تَضِلُّوا} قال العلماء: معناها: لئلا تضلوا، وقيل التقدير فيه: كراهة أن تضلوا؛ لأن الله تعالى يريد أن يهدينا.

وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعلم الله سبحانه عام لكل شيء ماضيًا كان أو حاضرًا أو مستقبلًا، وسواءً كان فيما يتعلق بفعله أو بفعل العباد {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن علمه عز وجل أنه أفتانا فيما يشكل علينا.

من فوائد الآية الكريمة:

1 -

حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة الحق، لقوله:{يَسْتَفْتُونَكَ} وما أكثر ما استفتوا، وما أكثر ما سألوا ليصلوا إلى الحق.

ص: 539

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يشكل عليه بعض الشيء فيفتي الله به؛ لقوله: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} ولم يقل: فأفتني فأفتهم.

3 -

إطلاق الإفتاء على الله، لقوله تعالى:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} ، وهذا فعل من الأفعال، وإن كان هو قولًا، فهل يجوز أن نشتق من ذلك اسمًا لله فنقول: المفتي؟

الجواب: لا، لكن يجوز أن نشتق منه وصفًا؛ لأن الوصف أوسع وأعم.

4 -

أن ترتيب الآيات توقيفي، ووجه ذلك: أن هذه الآية لها صلة بآيات المواريث التي في أول السورة، ولو كان اجتهاديًا لكان مقتضى الإجتهاد أن تربط مع أخواتها، وأن تذكر هناك، لكن لما كان ترتيب القرآن توقيفيًا في آياته صار محلها هنا، ونظير ذلك قوله تبارك وتعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 238 - 240] فهاتان الآيتان ذكرتا في سياق آيات العدد؛ لأن ترتيب الآيات من عند الله عز وجل، أو من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وليس للرأي فيه مجال.

5 -

أنه إذا هلك هالك لا ولد له، ولا أب له، وله أخت فلها النصف، لقوله تعالى:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فإن كان له ولد نظرنا: إن كان الولد ذكرًا سقطت الأخت، وإن كان أنثى أخذت فرضها والباقي للأخت.

مثال الأول: لو هلك هالك عن أخت شقيقة وابن، فالمال للإبن، وليس لها شيء معه.

ص: 540

هلك هالك عن أخت شقيقة وابن ابن فالمال لابن الإبن، وليس للأخت الشقيقة شيء؛ لأن أبناء الأبناء وإن نزلوا بمنزلة الأبناء.

ولو هلك هالك عن أخت وأب فتسقط لوجود ذكر من الأصول.

ولو هلك هالك عن أخت وجد فنسأل إذا كان من قبل الأم فإنها ترث النصف؛ لأن الجد من قبل الأم من ذوي الأرحام، وإن كان من قبل الأب كأب الأب فهذا موضع خلاف بين العلماء، والراجح المقطوع به: أنها تسقط مع وجود الجد، وأنه لا ميراث لها مع الجد.

6 -

أنه لو ماتت امرأة عن أخيها الشقيق أو لأب فقط فالمال له، لقوله:{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فإذا هلكت امرأة عن أخ شقيق فقط فالمال كله له، أو عن ابن أخ شقيق فالمال له، وعن بنت أخ شقيق فليس لها شيء؛ لأنها من ذوي الأرحام، وعن ابن أخ شقيق وبنت أخ شقيق فالمال لابن الأخ الشقيق ولا شيء لأخته، لأنه عاصب وهي من ذوي الأرحام.

7 -

أن الأختين فأكثر لهما الثلثان، لقول الله تبارك وتعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} ، فلو أن امرأة هلكت عن أختين شقيقتين وزوج، فميراث الزوج النصف، وميراثهما الثلثان، وهذا مشكل؛ لأن النصف والثلثين أكثر من التركة، لكن يقول العلماء: إنها تعالج المسألة، وكيفية ذلك أن تقول: المسألة هنا من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى سبعة، ويكون الزوج بدل أن كان له ثلاثة ونصف من

ص: 541

سبعة لم يكن له إلا ثلاثة من سبعة، ومسألة العول أخذ بها عمر رضي الله عنه بمشورة الصحابة، ولم يخالف فيها إلا القليل من الناس.

8 -

أن الميراث يدخل في ملك الوارث شاء أم أبى، وتؤخذ من قوله:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، وقوله:{فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} واللام للتمليك.

9 -

أن الرقيق المملوك لا يرث، وتؤخذ من اللام التي هي للتمليك، إذ أن العبد المملوك لا يملك، فالعبد المملوك ملكه لسيده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من باع عبدًا له مال فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع"

(1)

ولأننا لو ورثنا الأخ من أخته إذا كان رقيقًا لكان حقيقة الأمر أننا ورثنا سيده وهو أجنبي منها.

10 -

تفضيل الذكر على الأنثى في التعصيب، لقوله:{فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} والحكمة: فضل الذكورة على الأنوثة؛ ولأن الذكر عليه متطلبات في الحياة من نكاح، وإنفاق على الغير، وغير ذلك.

فإن قال قائل: يرد عليكم هذا في الأخوة لأم، فإنهما سواء، فنقول: لأنهما لا يرثان بالتعصيب، وإنما يرثان بالفرض.

11 -

أن الفرض قد يزيد بزيادة المفروض له، والدليل: أن الواحدة لَهَا النصْفُ وللإثْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ، لكن هناك فرض لا يزيد بزيادة المفروض له وهو أربعة أنواع:

الأول: فرض الزوجة، فالزوجة واحدة أو متعددة لا يزيد فرضها.

(1)

تقدم (1/ 101).

ص: 542

الثاني: الجدات، فللواحدة السدس، وللمتعددات السدس.

الثالث: بنات الإبن إذا ورثن السدس.

الرابع: الأخوات لأب إذا ورثن السدس.

فهؤلاء أربعة لا يزيد الفرض بزيادتهم.

12 -

أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا كل ما نحتاج إليه، لئلا نضل، لقوله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} وحذف المفعول لأجل العموم.

13 -

الرد على أهل التفويض في صفات الله عز وجل، الذين يقولون: إننا لا نعلم معاني صفاته عز وجل؛ لأنه إذا لم نعلم لزم من ذلك أن لا بيان في القرآن، والله عز وجل يقول:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ، ولأن الضلال في باب الصفات أعظم من الضلال في باب الأحكام؛ لأن الضلال في باب الصفات يتعلق بالخالق عز وجل، والضلال في الأحكام إنما هو في العبادة، وبينهما فرق.

14 -

الحث على العلم بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل؛ لأننا لا نعلم بيان الله عز وجل إلا عن طريق الكتاب والسنة، وكل إنسان يفر من الضلال، ويريد البيان والهدى، فنقول: طريق ذلك أن تحرص على اتباع الكتاب والسنة.

15 -

عموم علم الله عز وجل في كل شيء، لقوله:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

مسائل متعلقة بالآية:

مسألة: الواجب على كل إنسان عنده مال أن يوصي لمن لا يرث من الأقارب؛ لأن الله أوجب هذا فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا

ص: 543

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180] وإن لم يوص فهذا لا يجوز.

مسألة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"

(1)

فإن لم يكن عاصب فقد اختلف العلماء رحمهم الله، هل يُرد الباقي على صاحب الفرض أو يجعل في بيت المال؟ فمنهم من قال: يُرد، ومنهم من قال: يُجعل في بيت المال، والصحيح: أنه يُرد، فمثلًا: يُرد على الأختين فيكون لهما ثلثان فرضًا والباقي ردًا.

مسألة: في الحديث: "لا وصية لوارث"

(2)

.

فإذا أوصى لأولاده ينظر إن كانوا وارثين فإنها لا تصح الوصية، مثل: لو كان له بنت وابن ابن، فهنا لا تصح الوصية لابن الإبن؛ لأنه وارث، والوصية للوارث محرمة؛ لأنها تعدٍ لحدود الله، فالله تعالى قد أعطى الوارث شيئًا معينًا، فكيف تأتي أنت وتوصي له؟ !

مسألة: الدين يقدم على الميراث، فلو هلك هالك وعنده عشرة آلاف ريال وهو مطالب بعشرة آلاف ريال، فهنا لا حظ للورثة فيها، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] لكن الوصية قد يقول قائل: كيف تقدم على الورثة،

(1)

تقدم (1/ 94).

(2)

رواه أبو داود، كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، حديث رقم (2870)؛ والترمذي، كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث، حديث رقم (2120)؛ وابن ماجه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، حديث رقم (2713).

ص: 544

مع أنه لا بد أن يكون للورثة نصيب؟ الجواب: يظهر هذا في المثال: امرأة أوصت بثلثها ولها زوج وأخت شقيقة، لو لم تكن وصية لكان للزوج النصف كاملًا، وللشقيقة النصف كاملًا، أما الآن وقد صارت الوصية فنقول: المسألة من ثلاثة: للموصى له واحد، وللزوج نصف الباقي واحد، وللأخت الشقيقة واحد، فالآن صار حقيقة الأمر أن الزوج لم يكن له إلا ثلث، والأخت الشقيقة لم يكن لها إلا ثلث، والوصية ما نقصت؛ لأنه أوصى بالثلث، وأعطى الموصى له الثلث، لكن الزوج لم يبق له إلا الثلث، بينما لولا الوصية لورث النصف، هذا هو وجه تقديم الوصية على الميراث؛ لأنه ليس معنى قولنا: تقديم الوصية على الميراث أنه لا يرث الورثة مع الوصية، بل المعنى: أنه لو كان هناك نقص فالنقص على الورثة دون الوصية. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* * *

وبذلك انتهت الدروس العلمية المسجلة التي كان يلقيها فضيلة شيخنا

محمد بنُ صالح العثيمين في تفسير سورة النساء

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

رحم الله شيخنا رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح جناته، ومَنَّ عليه بمغفرته ورضوانه

وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ص: 545