الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنفال [8: 1]
سورة الأنفال
ترتيبها في القرآن (8)، وترتيبها في النزول (88).
{يَسْـئَلُونَكَ} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (215)؛ لبيان المعنى.
{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} : يسألونك: جاءت بصيغة المضارع، ولم يقل سألوك للدلالة على تكرار وتجدد السؤال، فالسؤال عن الأنفال سوف يتكرر في المستقبل، أو يدل على كثرة السائلين عن الأنفال، وقال تعالى: يسئلونك، ولم يبدأ بالواو، ولم يقل: ويسئلونك، ذكر الواو يدل على أنه سؤال من عدة أسئلة، وعدم ذكر الواو يدل على أنه سؤال وحيد لم ترافقه أسئلة أخرى، والأنفال: هي الغنائم الحربية الّتي تؤخذ من العدو بقتال، وهي جمع نفل، والنّفل: هنا يعني: الغنيمة، أما ما يؤخذ من العدو من دون قتال فيُسمَّى: الفيء، والّذين يسألون: هم الصّحابة الّذين حضروا معركة، أو غزوة بدر الكبرى، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الغنائم؛ أي: كيف توزع؛ لأنّهم اختلفوا في كيفية قسمتها؛ أيْ: توزيعها؛ فجاء الرّدُّ.
{الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} : أيْ: حكمها لله والرّسول، وقد بيَّنت الآية (41) من سورة الأنفال كيف توزَّع؛ حيث قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .
{قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} : لله: اللام: لام الاختصاص، أو الاستحقاق، وأضاف الرسول، ولم يقل: وللرسول؛ لأن ما لله تعالى هو ما لرسوله صلى الله عليه وسلم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} : التقوى: هو امتثال أوامر الله، وطاعته، وتجنب نواهيه؛ كي تتَّقوا سخطه، وغضبه، وناره، وأصلحوا ذات بينكم: بترك، أو حل الشّقاق، والنّزاع، والخلاف في مسألة الغنائم، وغيرها من المسائل الاجتماعية، والدِّينية.
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} : البين: هو ما بين شيئين، أو يربط بين شيئين، وتُسمَّى الصّلة، أو البين، وذات تعني: صاحبة؛ أيْ: أزيلوا الخلاف، أو الفاصل، أو الخصام الّذي ينشأ بينكم؛ لأي سبب.
والصلاح: فعل كل ما يتمكَّن به من الخير، أو يتخلص به من الشر.
والإصلاح: يتم بتربية النّفوس على الفضائل، والأخلاق، والأعمال الصّالحة.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : في كلِّ ما يأمرانكم به، أو ينهيانكم عنه، وطاعة الرّسول هي طاعة لله سبحانه. ارجع إلى الآية (32) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان.
{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : إن: شرطية، وجواب الشّرط محذوف دل عليه ما قاله؛ أي: إن كنتم مؤمنين؛ فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله.
سورة الأنفال [8: 2]
{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{الْمُؤْمِنُونَ} : ولم يقل: الّذين آمنوا، المؤمنون: الّذين أصبحت صفة الإيمان عندهم ثابتة؛ أي: استقاموا على الإيمان، وأمّا الّذين آمنوا: فهم السّائرون على درب الإيمان.
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{إِذَا} : ظرف زماني يدل على الاستقبال، فيه معنى: الشّرط.
{ذُكِرَ اللَّهُ} : ذكرت عظمته، وصفاته، وأسمائه الحسنى، وقدرته، وجبروته، ووعده، ووعيده.
{وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : الوجل: مزيج من الشعور بالخوف، والمهابة من الله سبحانه وتعالى ، والقلق، أو عدم الشعور بالطمأنينة؛ قد يرافقه البكاء، مع تغيرات في نبضات القلب، وقشعريرة في الجلد؛ بسبب التقصير في حق الله تعالى، وما قدَّموا لأنفسهم.
{وَإِذَا} : ظرفية زمانية؛ للاستقبال، متضمِّنة معنى: الشّرط.
{تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} : أي: تليت عليهم آيات القرآن؛ أي: قرأت عليهم، والتّلاوة لا تكون إلا لكلمتين، أو أكثر، أمّا القراءة: فقد تكون لكلمة واحدة، والتّلاوة: أصلها إتْباع الشّيء للشيء، وتلاه يعني: تبعه؛ أيْ: تلاوة الآية بعد الآية، وكل تلاوة قراءة، وإذا تُليت: ولم يقل: تتلى، تُليت: فعل ماضٍ، تُليت عليهم ولو مرة واحدة؛ زادتهم إيماناً، أمّا تتلى: فعل مضارع؛ يدل على التّجدُّد، والتّكرار؛ أيْ: باستمرار.
{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} : تصديقاً ويقيناً زادتهم إيماناً على إيمانهم؛ أيْ: قوي إيمانهم؛ فهم في إقبال على الله سبحانه وتعالى .
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : وعلى: تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر؛ أيْ: لا يتوكلون إلا على ربهم وحدَه، يتوكلون: تعني: يقدِّمون الأسباب أولاً، ثم يطلبون منه العون؛ لتحقيق ما يرجون، فلا يطلبون إلا منه، ولا يرجون إلا إياه. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان.
لا بُدَّ من مقارنة ثلاث آيات متشابهة، هي:
الآية (3) من سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} .
والآية (28) من سورة الرعد: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
والآية (23) من سورة الزّمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
ففي آية الأنفال: ذِكرُ الله أدَّى إلى وجل القلوب، وفي آية الرّعد: ذكر الله أدَّى إلى اطمئنان القلوب، فكيف نفسر ذلك؟
أولاً: لا تعارض بين الآيتين؛ لأنّ الإنسان المسرف على نفسه، أو الظّالم لنفسه، والّذي يرتكب السّيئات يصبح يرجف ويخاف ربه حين يُذكر الله ووعيده؛ لأنّه خالف منهج الله فيصاب بالوجل مخافة منه، ومهابة الله وعقابه، أمّا الإنسان الّذي هو سابق بالخيرات، ولا يرتكب السّيئات؛ فحين يُذكر الله، أو آياته يصاب بالاطمئنان؛ فالمؤمن يمر بمراحل متعددة حسب إيمانه، قد يصاب قلبه بالوجل تارة؛ لشعوره بالتقصير، والخوف، والمهابة من الله، أو تارة أخرى بالاطمئنان؛ لعلمه بأن الله أرحم الراحمين، ويغفر الذنوب جميعاً، أو تارة أخرى يشعر بالوجل، والاطمئنان معاً.
كما في آية الزّمر: فقد جمعت الوجل والاطمئنان معاً، الوجل أولاً، ويتمثل في قوله:{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، ثم الاطمئنان يتمثل في قوله تعالى:{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
سورة الأنفال [8: 3]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} :
{يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} : ومن صفاتهم الأخرى: يقيمون الصّلاة، وإقامة الصّلاة؛ تعني: أدائها، والقيام بها كاملة؛ أي: القيام بأركانها من تكبير، ومن ركوع، وسجود، وتلاوة، وسننها وشروطها، وفي أفضل أوقاتها، والمحافظة عليها، والدّوام.
{وَمِمَّا} : تعني: من بعض. ما: اسم موصول؛ تعني: الّذي.
{رَزَقْنَاهُمْ} : أي: أعطيناهم، أو آتيناهم من المال، والعلم، والحرث، والمتاع.
{يُنْفِقُونَ} : ينفقون بصيغة المضارع؛ لتدل على تكرار الإنفاق، وتجدُّده، واستمراره. ارجع إلى سورة البقرة، آية (3)؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 4]
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد إلى البعد؛ بعد منزلتهم.
{هُمُ} : ضمير فصل؛ يفيد المبالغة؛ أيْ: إذا كان هناك مؤمنون فهم أفضلهم، وأحسنهم إيماناً.
{الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} : المؤمنون: ارجع إلى الآية (2).
{حَقًّا} : الحق الصّدق: وهو الأمر، أو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، ولا يتبدل.
{لَّهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.
{دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : درجات في الجنة، منازل في الجنة حسب أعمالهم، وقيل: الجنة (100 درجة)، بين كل درجة ودرجة ما بين السّماء والأرض. عند ربهم: تدل على عندية الشّرف.
{وَمَغْفِرَةٌ} : من الغفران، والغفر: ستر الذّنب؛ أي: العفو عنه، والثّواب على العمل الصّالح؛ أي: مغفرة كاملة لذنوبهم، وسيئاتهم.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : رزق: نكرة؛ ليشمل كلَّ أنواع الرّزق في الجنة، رزق واسع لا ينفد، ولا ينقص، رزق طيب مبارك، وبما أنّه رزق من الكريم، وهو الله سبحانه؛ فهو رزق كريم.
ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقوله تعالى في سورة آل عمران، آية (163):{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} : ارجع إلى سورة آل عمران، آية (163)؛ لمعرفة الفرق.
سورة الأنفال [8: 5]
{كَمَا} : الكاف: كاف التّشبيه؛ تدل على تشبيه حالة بحالة أخرى.
{أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} : رغم أنّ الخروج من بيته صلى الله عليه وسلم في المدينة كان باختيار رسول الله من نفسه أضاف الله سبحانه الخروج إليه؛ فقال: أخرجك ربك، ولم يقل: كما خرجت من بيتك؛ ليدل على أنّ الله هو المدبِّر، ولا يتم شيئاً إلا بإذنه، ومشيئته.
{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق؛ أي: الخروج كان حقاً لا بُدَّ منه.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} : كما كان فريق من الصّحابة كارهين لقسمة الأنفال؛ أي: كارهين لحكم الأنفال؛ كانوا كارهين للخروج إلى غزوة بدر، وكانت العاقبة في كلا الحالتين خيراً، أو: وإن كان فريق من المؤمنين كارهين للخروج لقتال المشركين في بدر كان خروجك من بيتك بالحق لا بُدَّ منه.
سورة الأنفال [8: 6]
{يُجَادِلُونَكَ} : من الجدال: وهو الحوار بين طرفين أو أكثر؛ لإظهار حُجة أو لدفع شبهة، أو إثبات حق، والنّون في يجادلونك: بدلاً من يجادلوك؛ تفيد التّوكيد.
يجادلونك: فريق من الصّحابة يجادلونك بعدما اتضح أن العِير «غير ذات الشّوكة» الّتي يقودها أبو سفيان نجت، وأمرتهم بالتّصدي، وقتال الطّائفة ذات الشّوكة؛ أي: السّلاح.
أو يجادلونك: قبل بدء المعركة: بأنّهم قلة في العدد، والعدة، ولم يخرجوا للقتال، وغير مستعدين له.
{فِى الْحَقِّ} : في قتال المشركين «النّفير» الّذين جاؤوا من مكة؛ لنصرة الباطل.
{بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} : بعد إعلام الرّسول صلى الله عليه وسلم لهم: بأنّ الله سينصرهم.
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} : كأنما: الكاف: للتشبيه، كأن فزعهم، وخوفهم، وهم سائرون إلى غزوة بدر لملاقاة العدو «النّفير» يشبه حال الّذين يساقون إلى الموت.
{يُسَاقُونَ} : من دون إرادتهم؛ أي: قسراً عنهم. ويساقون: تعني يكونون أمام السائق كي لا يتخلفوا أو ينكصوا على أعقابهم ويدل ذلك القسر والإكراه في السوق.
{وَهُمْ يَنْظُرُونَ} : أي: كأنهم يرون الموت أمام أعينهم، وهم قادمون عليه عالمون بأنّ مصيرهم الموت.
سورة الأنفال [8: 7]
{وَإِذْ} : أي: واذكر.
{يَعِدُكُمُ} : حين وعدكم الله.
{إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} : الطّائفة الأولى: أبو سفيان، وما معه من العِير والمال، وفيها (40 فارساً)، وسُمِّيت غير ذات الشوكة، الطّائفة الثّانية: أبو جهل، وجيشه القادم من مكة، ولم يحدِّد أيَّ الطّائفتين سيظفرون بها.
ولما نجا أبو سفيان بالعِير والتّجارة أخبر أبو سفيان أبو جهل أنّه نجا بالعِير، ولكنّ أبو جهل كره أن يعود أدراجه إلى مكة من دون قتال الرّسول صلى الله عليه وسلم وصحابته؛ فمضى قادماً إلى أرض بدر، ولما علم بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودُّوا لو أنّهم ظفروا بالطّائفة غير ذات الشّوكة «العِير والأموال» ؛ لأنّهم اعتبروا ذلك مغنماً من دون قتال.
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ} : أن: للتوكيد، الإرادة: العزم على فعل ما يريد.
{أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} : أيْ: أن يفي الله بوعده الّذي وعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر المؤمنين، أو إنّ إحدى الطّائفتين أنّها لكم، وإن تظفروا بالنّصر، وعلى ذات الشّوكة «السّلاح» .
{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} : أيْ: يستأصل الكافرين عن بكرة أبيهم بقتالكم إياهم، وقتال الملائكة معكم.
سورة الأنفال [8: 8]
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} :
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} : ليحق: اللام: للتوكيد، يحق الحق:«هذا هو الحق الثّاني» ؛ ليظهر الإسلام، ويعزه.
{وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} : أي: يمحق الكفر، والشّرك، ويزيل الباطل، والباطل ما لا وجود له في الأصل، أو لا دليل، وهو الزائل، ويطلق على الشرك، والكفر، والظلم، والكذب
…
وغيره.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} : لو: شرطية، ولو كره المجرمون؛ أي: الكفار، والمشركون.
والمجرمون: جمع مجرم، وأجرم؛ أي: أذنب، أو ارتكب ذنباً، وعصى ربه، وجرم؛ تعني: قطع؛ أي: قطع صلته بربه، أو جحد به.
واصطلاحاً: المجرم: هو من تمرد على أوامر ربه وعصى ربه، ولم يتجنب نواهيه، ورفض الخضوع إليها.
سورة الأنفال [8: 9]
{إِذْ} : أي: واذكر إذ، أو واذكر حين؛ إذ: ظرف زمان للماضي.
{تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} : تطلبون الغوث، من استغاث؛ أي: طلب الغوث من القادر على الإغاثة؛ أي: تستنصرون الله، وتطلبون منه أن ينصركم عليهم، وأصلها من الغيث: وهو المطر الّذي يحمل الرّحمة.
وجاء بصيغة الجمع تستغيثون: كأن كلّ واحد كان يطلب الغوث؛ أي: النّصر من الله، وإذا كان المستغيث هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو يمثل كلَّ الصّحابة ودعاؤه يكفي، أو كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى أن ينصر عباده المؤمنين، وهم يقولون: آمين.
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} : فاستجاب: الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ أي: استجاب لدعائكم مباشرة.
{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكم خاصَّةً، وليس لغيركم.
{أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} : مُرْدفين: أي: يتبع بعضهم بعضاً، أو يلحق بعضهم بعضاً، وفي قراءة نافع مردَفين بفتح الدال على صيغة اسم المفعول، وتعني: متبوعين بغيرهم من الملائكة؛ يعني: إذا وعدهم الله بألف من الملائكة إذا أردفوا بغيرهم صاروا ثلاثة آلاف، ثم بعد ذلك يصيرون خمسة آلاف وهذا ما ذكر في سورة آل عمران آية (124-125) كما قال تعالى:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (أي: لهم علامات خاصة). إذن: كان الوعد بألف، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم صارت خمسة آلاف، والآيات الثلاثة في الأنفال وآل عمران تتحدث عن معركة بدر حيث لم يذكر نزول ملائكة في معركة أحد. الإمداد: أكثر ما يستعمل في المحبوب، والمد: أكثر ما يستعمل في المكروه؛ كقوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، وكقوله تعالى:{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79]، والإمداد هنا يعني: الزّيادة في العدد؛ أي: في عدد الملائكة والسّلاح. والإمداد بالجيش أو بغيره، وما كان على جهة القوة والإعانة، والمد يكون من جهة الزيادة في العدد أو في بشر.
{بِأَلْفٍ} : الباء: للإلصاق.
{مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} : من ردفه؛ أي: تبعه؛ أي: متتابعين يتبع بعضهم بعضاً، بعضهم ردف بعض؛ يلحق بعضهم بعضاً.
سورة الأنفال [8: 10]
{وَمَا} : الواو: استئنافية. ما: النّافية.
{جَعَلَهُ} : الهاء: تعود على الإمداد بالملائكة.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{بُشْرَى} : جعل الإمداد بالملائكة بشرى حصراً وقصراً؛ بشارة لكم بالنّصر، والبشرى: الإخبار بما يُسر به المخبر؛ أي: خبر يُسركم، ولأول مرة.
وانتبه لحذف لكم؛ لم يقل: بشرى لكم، وإنما قال فقط: بشرى؛ لأنّه تقدَّم قوله سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ، وكذلك قال:{إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} ، فلا حاجة لإعادة ذكر لكم للمرة الثّالثة.
{وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} : جاء باللام: للتوكيد، وقدَّم به على قلوبكم، ولم يقل: ولتطمئن قلوبكم به (كما ورد في آية آل عمران 126)، هذا التقديم يفيد الاختصاص؛ أي: لتطمئن به قلوبكم لا بغيره لكي تثبت بعدما أصابها من الخوف الشديد من المشركين، وقدَّم به الّتي تعود على الإمداد بالملائكة مباشرة قبل أن تهلع قلوبهم، وترتعد أمام جيش الأعداء؛ الّذي يفوق بالعدد والعدة.
فجاء بذكر الإمداد أولاً قبل القلوب؛ لأن الإمداد بالملائكة هو الأهم؛ لأنه يُطمئنُ قلوبهم؛ فتبقى صامدة.
{وَمَا} : الواو: استئنافية. ما: نافية للتوكيد.
{النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : إلا أداة حصر؛ أيْ: من عند الله، ولا تحسبوه من عند الملائكة؛ فالناصر هو الله وحده، وليس الملائكةُ، ولا أيُّ أحدٍ.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : إن: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد. العزيز: الغالب الّذي لا يقهر، القوي الممتنع لا يحتاج إلى أحد، ولا يناله أحد؛ أيْ: لا يُغلب، ولا يُقهر، الحكيم من الحكمة؛ أي: الحكيم في تدبيره لخلقه، وكونه، والحكيم من الحكم: الحاكم؛ فهو أحكم الحكماء، وهو أحكم الحاكمين.
سورة الأنفال [8: 11]
{إِذْ} : تعني: واذكر بمعنى: حين، وظرف للزمن الماضي.
{يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} : أيْ: يحل بكم النّعاس كأنّه غشاء، أو غطاء؛ أيْ: يتسرب إلى الدّماغ، أو جزء من الدّماغ، بينما لو قال: يغشاكم؛ يعني: يبقى محيطاً بكم من كل الجوانب، ولا يتسرب إلى داخلكم.
{أَمَنَةً مِّنْهُ} : أمنة: تعني: زوال الخوف الكافي الّذي مكنهم من النوم، والأمنة: من الأمن (بعض الطمأنينة)، والفرق بين الأمن، والأمنة: الأمن: يعني: الأمن التام، الكامل. أما الأمنة؛ فتعني: بعض الأمن.
{مِّنْهُ} : من الله عز وجل رحمة ربانية وسكينة ليزيل الخوف عن قلوبكم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (154) لمزيد من البيان.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : ماء المطر.
{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} : اللام: للتعليل، والتّوكيد، يطهركم به: لكي تستعملونه في الوضوء، والغسل.
{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} : رجز الشّيطان: أي: وسوسته لكم، وتخويفه إياكم من العطش، والهزيمة، والظنون السيئة.
{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} : وليربط: الواو: عاطفة، ليربط: اللام: للتوكيد، يربط على قلوبكم: أيْ: يجعلها صابرة ثابتة باليقين، والصّبر، وعدم الفرار من أرض المعركة، وانتظار النصر.
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} : أي: المطر إذا نزل على الأرض الرّملية جعلها متماسكة؛ «أيْ: يجعل الرّمل متماسك» ، فلا تغوص الأقدام، والمطر كذلك يمنع هبوب الرّمل والغبار؛ مما يساعد على الرّؤية، ولم ينزل المطر على عدوهم، أو النعاس.
فبذلك وفَّر الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كل عناصر النصر؛ مثل: النعاس، وإنزال المطر، الماء للشرب والطهارة، ويثبت به الأقدام، وإنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم؛ فما عليهم إلا الصبر، واليقين بنصر الله القادم.
سورة الأنفال [8: 12]
{إِذْ} : انظر إلى الآيات السّابقة.
{يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ} : الوحي: هو الإعلام بالخفاء لغة. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان. والوحي كان للرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وليس للصحابة، ولذلك قال:(يوحي ربك)، ولم يقل:(يوحي ربكم).
{أَنِّى مَعَكُمْ} : أيْ: إني مُعينكم (بالعون) على التّثبيت، وغيره من الوسائل.
{فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} : عن طريق الإلهام بالصّبر، والشّجاعة، وعدم الفرار؛ إذ للملائكة قدرة على الإلهام، كما للشياطين قدرة على الوسوسة، وقيل: كان الملائكة يتشبهون بصور رجال من المؤمنين، يقاتلوا في الطّليعة؛ كي يمدوهم بالشّجاعة، والعزيمة، وتقوى شوكتهم على عدوهم.
{سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} : وهو سلاح فتاك، وجند من جنود الله. أسند إلقاء الرعب إلى نفسه سبحانه بينما الضرب للملائكة والمؤمنين.
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} : أي: الرّؤوس، أو أعالي الأعناق.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} : البنان: الأصابع؛ لأنّ الأصابع إذا قطعت تعطلت وسائل الضّرب، والأيدي من دون الأصابع لا قيمة لها، وتصبح معطلة، منهم خاصَّةً؛ أي: عدوكم اقطعوا أصابعهم، وتكرار كلمة فاضربوا، واضربوا: للتوكيد، وتعني: من دون رحمة، ولا رأفة.
سورة الأنفال [8: 13]
{ذَلِكَ} : اسم: إشارة؛ يفيد البعد، ويشير إلى الضّرب فوق الأعناق، وضرب البنان.
{بِأَنَّهُمْ} : الباء: للإلصاق، والتّعليل، أو السببية.
{شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : شاقوا من المشاقة المشتقة من الشّق، هذا في شق، وهذا في شق؛ أي: خالفوا وعادوا الله ورسوله.
{وَمَنْ} : شرطية، استغراقية.
{يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : يعادي، ويخالف، ويشاقق من المشاقة؛ أي: العداوة، ومن يشاقق الله ورسوله؛ يشاقق: ولم يقل: يشاق؛ فهو فك الإدغام، ودائماً في القرآن متى يفك الإدغام، ويقول: يشاقق: يأتي معها ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم. ارجع إلى الآية (115) من سورة النساء؛ لمزيد من البيان.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. إن: للتوكيد.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} : العقاب: هو الجزاء على العمل، وعادة يعقب العمل، والعقاب: هنا القتل، والهزيمة في معركة بدر.
سورة الأنفال [8: 14]
{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} :
{ذَلِكُمْ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ذلكم: بدل من ذلك؛ لأنّ ذلكم تفيد التّوكيد، وأقوى من ذلك، وتستعمل للأمور الكثيرة، أو تشير إلى عدَّة أمور مهمة بدلاً من أمر واحد، كما هو الحال في ذلك، ذلكم العقاب، والضّرب فوق الأعناق، وضرب البنان، والرّعب، والقتل، والأسر.
{فَذُوقُوهُ} : الخطاب موجَّه إلى الكفار. الفاء: للمباشرة؛ أي: الآن ذوقوه في الحياة الدّنيا، فذوقوه: من الذّوق: وهو الإحساس بالمطعوم، ذوقوا الآن فقط ما سيحل بكم من عذاب النّار في الآخرة.
{وَأَنَّ} : للتوكيد.
{لِلْكَافِرِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.
{عَذَابَ النَّارِ} : في الآخرة.
سورة الأنفال [8: 15]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف، أو أمر جديد، واستعمل الهاء: للتنبيه.
{إِذَا} : ظرفية زمانية للمستقبل، شرطية.
{لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : للقتال.
{زَحْفًا} : زاحفين نحوكم؛ أي: رأيتموهم يزحفون زحفاً لقتالكم، أو تعني: أريد منكم أن تزحفوا نحوهم ككتلة واحدة، أو جسم متماسك يدب الرّعب في صفوف الأعداء، والزّحف: جاءت من زحف الصّبي قبل المشي؛ أي: الحبو، والانتقال من مكان إلى مكان، والزّحف جاءت من الجيش الكثير العدد الّذي يُرى لكثرته كأنه كتلة واحدة متحركة تزحف ببطء.
{فَلَا} : الفاء: للتأكيد، لا: النّاهية.
{تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} : جمع: دُبر، خلاف القبل، ولم يقل: ظهوركم، أو أعقابكم، وذكر الدّبر: وهو أبشع المفردات لأبشع الكبائر، وهي الفرار، والتولي يوم الزحف، وهذا تحذير شديد، وكأنّه يعني: كيف تولي دبرك للعدو، أو تمكِّن العدو من نفسك؛ أي: لا يسمح لكم أن تولوهم الأدبار.
سورة الأنفال [8: 16]
{وَمَنْ} : شرطية؛ للعاقل، وتشمل: المفرد، أو الجمع.
{يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} : يومئذٍ: يوم القتال، ويومئذٍ: يوم: ظرف زمان أضيف إلى ظرف آخر إذ.
{إِلَّا} : أداة استثناء؛ أي: لا يسمح لكم أن تولوهم الأدبار؛ إلا في حالتين:
{مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} : يسمح لكم إذا كنتم ستقاتلون طائفة أخرى أهمَّ، أو انسحاب خدعة، ثم تعاودون الكرَّ والقتال في مكان أفضل، أو المفاجأة. متحرفاً لقتال: أيْ: حريف: لا يغلبه أحدٌ؛ لكونه مدرباً وخبيراً في القتال، أو القتال حرفته؛ أي: مهنته.
{أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} : أي: الانضمام إلى فئة أخرى تحتاج إلى مساعدة، أو إمداد. ارجع إلى الآية (13) من سورة آل عمران؛ لتعريف الفئة.
{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد، قد: لزيادة التّوكيد.
{بَاءَ} : رجع مصحوباً.
{بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} : الباء: للإلصاق، والملازمة، مطروداً من رحمة الله.
{وَمَأْوَاهُ} : المأوى: المستقر، ومكان الإقامة، والرّاحة الدّائمة.
{جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : بئس: من أفعال الذّم؛ أي: ساء المصير، والمصير: المنتهى، أو النهاية، والمستقر الأخير، وهي جهنم.
جهنم: اسم من أسماء النار، أو دركة من دركاتها السبع، وهذا الاسم: مشتق من كونها كريهة المنظر، أو بعيدة القعر.
سورة الأنفال [8: 17]
المناسبة: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش قريش؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً الله سبحانه: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها، وفخرها؛ يكذبون رسولك؛ اللهم إنّي أسألك ما وعدتني؛ فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من التّراب فارمهم بها، فقال: لما التقى الجمعان لعليٍّ رضي الله عنه : أعطني قبضةً من رمل الوادي؛ فرمى بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبقَ مشترك إلا شُغل بعينه؛ فانهزموا، فلحق بهم المؤمنون يقتلونهم، ويأسرونهم، وبعد المعركة معركة بدر، أخذ الصّحابة يتفاخرون بأنّهم قتلوا، وأسروا وفعلوا كذا، وكذا فنزلت هذه الآية» . [رواه الطبري، والقرطبي، وابن كثير].
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} : الخطاب للمؤمنين؛ الفاء: جواب شرط محذوف تقديره: لا تقولوا، ولا تفتخروا، ولا تظنوا أنكم قتلتموهم في معركة بدر، ولكنّ الله قتلهم.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} : لكن: حرف استدراك؛ للتوكيد، ولكن الله قتلهم: بأيديكم، وأيدي الملائكة الكرام.
{وَمَا رَمَيْتَ} : يا محمّد أعين الأعداء بالحصى؛ لأنّ كفاً من الحصى لا يملأ عيون جيش يزيد عن الألف، ولكن الله القوي العزيز هو الّذي رمى.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : أوصل ذرات الرّمل تلك، أو التّراب إلى عيونهم، وقذف في قلوبهم الرّعب.
{وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} : ليبلي: اللام: لام التّوكيد، والتّعليل، وليبلي: من البلاء، والبلاء: يكون في الخير، أو الشّر، وهنا كان بلاءً حسناً؛ أيْ: اختباراً حسناً. منه: من الله في خوض المعركة، والقتال، وبالتّالي بالنّصر، والغنيمة؛ لكي يُطلعَ المؤمنين على صدق إيمانهم، ونواياهم؛ فيكون حُجَّةً لهم، أو حُجَّةً عليهم.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{اللَّهَ سَمِيعٌ} : أحاط سمعه بجميع أقوال عباده في السّر، والعلن، وأدعيتهم، وتضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال أعدائهم، وما قاله الكفار، والمشركون.
{عَلِيمٌ} : بأحوال المؤمنين، وأحوال المشركين، وعليم بنواياهم، وظواهرهم، وبواطنهم.
سورة الأنفال [8: 18]
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} :
{ذَلِكُمْ} : اسم إشارة، يشير إلى القتل، والرّمي، والبلاء الحسن، والنّصر.
استعمل ذلكم بدلاً من ذلك؛ للمبالغة، والتعظيم، والأهمية، ولأنّه يشير إلى عدة أمور.
{وَأَنَّ اللَّهَ} : أن: للتوكيد، وتقديره: ذلكم، واعلموا أنّ الله موهن كيد الكافرين.
{مُوهِنُ} : مضعف، والوهن: هو الضّعف.
{كَيْدِ الْكَافِرِينَ} : الكيد: هو التّدبير الخفي الّذي يقوم به الفرد، أو الجماعة؛ لينال من عدوه من دون علمه، وهو أشد من المكر؛ أي: حين أراد مشركو قريش استئصال محمّد صلى الله عليه وسلم، وأتباعه؛ رد الله كيدهم في نحورهم.
سورة الأنفال [8: 19]
الخطاب في هذه الآية موجَّه لكفار مكة: «أبو جهل، وجيشه» ؛ على سبيل التّهكم.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، تستفتحوا: الألف، والسّين، والتّاء؛ تعني: الطّلب؛ أي: إن تطلبوا الفتح، والفتح: هو النّصر، والغلبة من دون قتال؛ فقد جاءكم الفتح؛ أي: النّصر على سبيل التّهكم، والاستهزاء، وقد قيل: إن المستفتح كان أبا جهل قبل معركة بدر، أو قيل: إنّ المشركين حين خرجوا للقاء محمّد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أخذوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، أو قالوا: اللهم انصر أقْرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعاني؛ قاله السدي.
{فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} : أي: أن تطلبوا الفتح: النّصر، والظّفر من دون قتال، أو حرب في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه.
{فَقَدْ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ أي: جاءكم الفتح بسرعة. قد: للتحقيق، والتّوكيد.
{جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} : أي: الهلاك، والقتل، والأسر على سبيل التّقريع، والتهكم.
{وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} : إن: شرطية؛ كالسّابقة.
{تَنْتَهُوا} : عن الكفر، ومحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعداوته.
{فَهُوَ} : الفاء: للتوكيد، هو: لزيادة التّوكيد.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} : أي: أسلم لكم من القتل، والهلاك، والأسر.
{وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} ، وإن تعودوا لمحاربته وقتاله؛ نعد إلى هزيمتكم، أو تعودوا إلى الاستفتاح نعد إلى الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَنْ} : حرف نفي للمستقبل القريب، والبعيد.
{تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} : الفئة: الجماعة. ارجع إلى الآية (13) من سورة آل عمران؛ لتعريف الفئة.
{وَلَوْ} : شرطية.
{كَثُرَتْ} : في العدد، والعدة.
{وَأَنَّ} : للتوكيد.
{اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} : إذا استقاموا على طاعته، وكانوا أنصار الله؛ فلن يتخلَّى عنهم.
لنقارن بين هذه الآية، والآية (8) من سورة الإسراء:
الأنفال، آية (19):{وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} .
الإسراء، آية (8):{وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} .
آية الأنفال: نزلت في كفار مكة، ودلت الآية على أنهم سيعودون إلى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدّليل جاءت بصيغة المضارع، وإن تعودوا نعُد التي تدل على التّكرار، والتّجدد.
آية الإسراء: نزلت في بني إسرائيل، واليهود، وإن عدتم: عدتم؛ عدنا بصيغة الماضي، والّتي تدل على العودة مرة فقط، وينتهي الأمر.
سورة الأنفال [8: 20]
المناسبة: لما خاطب الله سبحانه الكفار، والمشركين، وحذرهم بقوله: وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد؛ ينتقل في هذه الآية إلى خطاب المؤمنين، ويأمرهم بطاعة الله ورسوله، ويحذرهم من مخالفته؛ فقال:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : الهاء: للتنبيه، وياء النداء: للبعد، وهو نداء جديد.
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : فيما يأمرانكم به، أو ينهاكما عنه، ولم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؛ لأن طاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة، فطاعة الرسول هي طاعة لله تعالى، وإذا فصل بين الطاعتين إنما يشير إلى طاعة الرسول فيما يبين وما يشرح من الأمور المجملة أو غير المذكورة، وكما قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. ارجع إلى الآية (31) من سورة آل عمران لمزيد من البيان.
{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} : لا: النّاهية، تولوا عنه؛ أي: تتولوا عنه؛ أدغمت إحدى التاءَين بالأخرى، ولا تولوا عنه؛ أي: لا تعرضوا عنه، وتخالفوا أوامره
{وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} : الآيات، والمواعظ، وما أنزل إليكم من ربكم.
ولنقارن هذه الآية، مع الآية (52) من سورة هود.
الأنفال، آية (20):{وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} .
هود، آية (52):{وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} .
آية الأنفال: استعمل تولوا بدلاً من تتولوا؛ لأن تولي المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكرر، أو أقل عدداً، أو أقصر زمناً إذا حدث من تولي الكافرين، أو المجرمين؛ الّذي هو تولي كثير وعام، فالزّيادة في فعل التّولي وطوله يقابله زيادة في بناء الفعل، وحروفه؛ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
مع العلم: أن المخاطبين في قوله تعالى: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} : هم قوم عاد. ارجع إلى سورة هود، آية (52).
بينما المخاطبون في آية الأنفال: الصحابة الكرام.
سورة الأنفال [8: 21]
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} :
{وَلَا} : النّاهية.
{تَكُونُوا كَالَّذِينَ} : الذين: اسم موصول؛ كالكافرين، والمشركين.
{قَالُوا سَمِعْنَا} : ما تقول من الآيات، والوعيد، والإنذار.
{وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : وهم: للتوكيد، لا يسمعون؛ أي: لا ينتفعون بما يسمعون، أو يقولون: سمعنا وعصينا، أو لا يستجيبوا لما تأمرهم به، أو تنهاهم عنه؛ كالصم، وعندها يكونون شراً من الّذين لم يسمعوا على الإطلاق، أو البتة.
سورة الأنفال [8: 22]
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{شَرَّ الدَّوَابِّ} : جمع: دابة: وهي ما تدب على الأرض، وتشمل: الإنس، والجن.
أصل الكلام: إنّ أشر الدّواب عند الله على وزن أفعل، ولكثرة الاستعمال، وأخف على اللّسان قال: شر الدّواب؛ أي: شر الخلق.
{عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} : أي: الكافرين، والمشركين.
{الصُّمُّ} : جمع أصم؛ أي: الّذين لا يسمعون الحق، وما أنزل الله من الآيات والذكر الحكيم.
{الْبُكْمُ} : جمع أبكم: وهو الأخرس عن قول الحق، وكلمة التّوحيد.
{الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} : من عقل الشّيء عرفه بدليله، وفهم أسبابه، ونتائجه.
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{لَا} : النّافية للجنس؛ أي: الّذين لا يعقلون، لا يتدبرون، ولا يفهمون الحق، والصّواب، ولا يهتدون للخير، ويتجنبون الهدى، والرشاد.
سورة الأنفال [8: 23]
{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.
{عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} : أي: لو علم في هؤلاء شر الدّواب الصّم البكم؛ الّذين لا يعقلون خيراً أيَّ خير؛ يعني: أيَّ نفع، أو صلاح، قليلاً أو كثيراً، أو مهما كان.
{لَّأَسْمَعَهُمْ} : لأسمعهم آياته، وأحكامه، السّماع الحقيقي: وهو سماع الحق، والهدى، سماع الاستجابة، والفهم، والبصيرة، وهو الإيمان بآيات الله، ورسوله، واللام: للتوكيد، وهداهم الهداية الخاصَّة.
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} : لو: شرطية غير امتناعية؛ أي: لا تقول: لو أسمعهم على سبيل الافتراض؛ لما حدث التّولي، أو امتنع التّولي لامتناع الاستماع؛ لأنّهم هم متولون أصلاً، سواء أسمعهم، أو لم يسمعهم.
{لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} : لتولوا: اللام: للتوكيد، وهم: لزيادة التّوكيد؛ مؤكداً جحودهم، وإعراضهم عن الحق، والإيمان، وطاعة الله ورسوله.
{مُّعْرِضُونَ} : جملة اسمية: تدل على الثّبوت، والاستمرار؛ أي: قد علم الله سبحانه منذ الأزل أن هؤلاء ليس فيهم أيُّ خير، فلم يسمعهم السماع الحقيقي الّذي يُفيدهم، مع العلم أن آلات السمع عندهم موجودة، وتسمع اللغو، والباطل، ولكنها معطلة عن سماع الحق.
سورة الأنفال [8: 24]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد أو أمر جديد والهاء للتنبيه.
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ} : استجيبوا: الألف، والسّين، والتّاء: للطلب؛ أيْ: أجيبوا؛ أطيعوا الله فيما أمر به، أو نهى عنه؛ أي: شرع لكم.
{لِلَّهِ} : اللام: للاختصاص.
{وَلِلرَّسُولِ} : أي: واستجيبوا للرسول أيضاً: اتبعوا الرّسول، وسنته، وأطيعوه فيما أمركم به، أو نهاكم عنه، وتكرار اللام، وللرسول: يفيد التّوكيد.
{إِذَا} : ظرفية زمانية للمستقبل، وشرطية.
{دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} : دعاكم لما فيه حياتكم، أو لما هو سبب حياتكم في الدّنيا، والآخرة حياتكم الأبدية إذا دعاكم للقرآن، والإسلام، وأمور دينكم، ودنياكم.
قال سبحانه: إذا دعاكم، ولم يقل: إذا دعياكم بالتّثنية؛ أي: الله ورسوله؛ لأنّ دعوتهما دعوة واحدة.
{لِمَا} : اللام: هنا للتعليل، وما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي يُحييكم.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} : أي: يستطيع الله أن يقف حائلاً، أو حاجزاً، أو مانعاً بين الإنسان، وما يتمناه، وقلبه وما يريده، من الحول بين الشّيء والشّيء؛ بمعنى: الحجز، والفصل بينهما، أو يحول بينه، وبين قربه تعالى من عبده:{نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، والله يصرف القلوب كما يشاء؛ فالإنسان على سبيل الافتراض يريد أن يستدرك ما فاته من الإيمان؛ فيحول بينه وبين ذلك الموت، أو الإنسان يريد أن يُوفق للاستجابة، والطّاعة، ويعبد الله، فلا يوفقه الله؛ لسبب ما في العبد، وما دام الله سبحانه يستطيع أن يفعل ذلك؛ فما علينا إلا أن نُسرع، ونستجيب لله سبحانه قبل أن ينتهي الأجل، ويحول الله بيننا، وبين التّوفيق.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} : قدَّم إليه الجار والمجرور: للحصر؛ أي: إليه وحده تحشرون؛ أي: تجتمعون في أرض المحشر. الحشر: هو السّوق، والجمع معاً.
سورة الأنفال [8: 25]
{وَاتَّقُوا} : أي: تجنبوا واحذروا.
{فِتْنَةً} : جاءت بصيغة النّكرة؛ لتشمل كلَّ أنواع الفتن؛ مهما كانت صغيرة، أو كبيرة، وما نوعها، والفتنة أشد من الاختبار، وأهمها فتنة الكفر، والشّرك، والمعصية، والقتل، والبدع، وفتنة العذاب، والبأساء، والضّراء؛ كالفقر، والمرض، والغلاء، وتسلط الظّلم، وفتنة انتشار الزِّنى، واللواطة، والفاحشة، وفتنة السّكوت عن إنكار المنكر، والأمر بالمعروف. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)، والعنكبوت، آية (2-3)؛ لمزيد من البيان.
{لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} : لا تصيبن: لا تهلك، أو لا تضر، أو لا تؤذي الّذين ظلموا منكم فقط؛ «أي: الّذين قاموا بعمل المنكر، أو إظهار البدع، ونشرها، والكفر، والقتل
…
وغيرها»، وإنما تصيب كذلك، وتتعدَّى الّذين ظلموا؛ لتصيب الصّالح أيضاً؛ لأنّ الصّالح لم يقم بواجبه بردع الظّالم، والحدِّ من ظلمه، وبتغيير المنكر، لا باليد، ولا باللسان، ولا بالقلب.
{مِنكُمْ خَاصَّةً} : أيْ: ستعم الفتنة، وتشمل الكلَّ؛ فلا ينجو منها إلا من رحم ربك.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : تأكيد للتحذير السّابق؛ أي: إذا عاقب سبحانه؛ فإنّ عقابه أليم شديد.
سورة الأنفال [8: 26]
{وَاذْكُرُوا} : فضل الله عليكم.
{إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الْأَرْضِ} : إذ: بمعنى: حين. أنتم: للتوكيد. قليلٌ: أي: قلة؛ أي: عددكم قليل في مكة، أو المَدينة خائفين فقراء، مستضعفون بسبب الإذلال، والاضطهاد من الكافرين، والمشركين.
{يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} : من الخطف: وهو الأخذ بسرعة؛ أي: يأخذكم أعداؤكم من الكفار، والمشركين، وغيرهم بسرعة بالتعذيب، أو القتل، والسّلب دون أن يدافع عنكم أحدٌ، أو ينصركم أحدٌ.
{فَـئَاوَاكُمْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، آواكم: جعل لكم مأوى تأوون إليه: وهو المدينة المنورة، ورحَّب بكم الأنصار.
{وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} : أيْ: أمدكم بيد العون في كثير من الغزوات؛ بإنزال الملائكة، وبالرعب، وبكفِّ أيدي النّاس عنكم
…
وغيرها.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : الحلال المبارك الطاهر؛ من مطعم، ومشرب، وملبس، ومركب.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعلَّ: للتعليل، تشكرون: المنعم: وهو الله على ما رزقكم، وذلك بطاعته، والاعتراف بفضله عليكم، وتكرار الشّكر، والاستمرار على ذلك. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 27]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد إلى الّذين آمنوا بأمر، وتكليف جديد بعدم الخيانة.
{لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} : لا: الناهية، تخونوا الله والرّسول: الخيانة: الغدر، أو نقض العهد، أو إخفاء الشّيء؛ أي: الأمانة.
والأمانة: تعريفها: كلّ حق يجب أداؤه إلى الغير من دون شهود، أو وثيقة، والأمر متروك إلى من عنده الأمانة إن شاء أقر بها، أو إن شاء أنكرها، وخيانة الله: تكون في تعطيل ما شرعه من الدِّين، وتعدِّي حدوده، ومحارمه، وعصيانه؛ أي: عدم أداء حقِّ الله؛ مثل: الفرائض، وعدم تجنب المحرمات، وإخفاء الكفر، والنفاق، وخيانة الرّسول: بعدم اتباع سنته، أو معصيته.
{وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} : المالية، أو العهود، والمواثيق، والمعاهدات.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} : أيْ: تخونون بنِيَّة، وقصد، ولستم ساهين ناسين، وأنتم تعلمون وبالَ عاقبة الخيانة.
سورة الأنفال [8: 28]
{أَنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} : أي: ابتلاء، واختبار، والفتنة: أشد من الابتلاء، وفتنة الأموال: تكون كيف كسبها، وكيف أنفقها، وهل أدَّى زكاتها، وهل شغلته عن طاعة الله، وذكره، والأولاد فتنة: لكونها تشغلكم عن طاعة الله، وسبب للوقوع في الإثم، والذّنوب.
وقدَّم الأموال على الأولاد: تقديم الأكثر على الأقل؛ فالكلّ عنده مال، وليس عند الكلّ أولاد.
{وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} : وأنّ: للتوكيد، عنده أجر عظيم: خير من الأموال والأولاد، وهو النجاة من النار، والفوز بالجنة.
سورة الأنفال [8: 29]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف، أو أمر جديد، أو حكم.
{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ} : إن: شرطية، تتقوا الله: أي: تطيعوا أوامره، وتجنبوا نواهيه في القول، والعمل.
{يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} : هذا هو جواب الشّرط، والفرقان: هو ما يفرق بين الحق والباطل؛ أي: ندلكم كيف تعرفون الحق من الباطل، والنّافع من الضّار، والصّالح من المفسد، والهدى من الضّلال؛ مما يحقق لكم النّجاة، والنصر.
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ} : أي: يستر سيئاتكم؛ فلا يعاقبكم عليها، والسّيئات، قيل: الصّغائر من الذّنوب. وقيل: السيئة الشيء الذي يسيء إليك، وتختلف عن الذنب؛ السيئات تحتاج إلى تكفير، والذنوب تحتاج إلى توبة وغفران، والغفران أشد من التكفير.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} : الذّنوب، والكبائر.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} : والله ذو؛ أيْ: صاحب. ولفظ (ذو): أشرف وأفضل من لفظ: صاحب. ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (87).
والفضل: الزّيادة الّتي تعطى زيادة عن الأجر، أو الثواب.
سورة الأنفال [8: 30]
{وَإِذْ} : ظرف زماني، واذكر إذ يمكر بك، أو اذكر حين مكر بك، والمخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : يمكر: جاءت بصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، واذكر إذ اجتمع الّذين كفروا في دار الندوة؛ ليتشاوروا في أمرك، ويمكروا بك، والمكر: هو التّدبير الخفي؛ لإلحاق الضّرر بالآخر؛ من حيث لا يعلم، أو يشعر، وفيه نوع من الخداع والسوء، ولا يقوم به إلا ضعيف أو مهزوم، وتمخض اجتماعهم في دار الندوة عن ثلاثة مقترحات: هي الحبس، أو القتل، أو النّفي خارجاً، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
{لِيُثْبِتُوكَ} : اللام: لام التّعليل، يثبتوك: أيْ: يحبسوك، ويقيدوك بالقيد؛ حتّى لا تقدر على الهروب.
{أَوْ} : للتخيير.
{يَقْتُلُوكَ} : بحيث يختار من كل قبيلة غلاماً، فيضربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد؛ فيفترق دمه بين القبائل؛ فلا يستطيع بنو هاشم على حربهم، وإذا طلبوا الدّية تدفع لهم.
وكان القرار النّهائي: الاتفاق على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} : أيْ: هم يمكرون ليقتلوك، والله يمكر، وهو أعظم منهم مكراً، قادر على إحباط مكرهم، ومعاقبتهم على ذلك؛ لأنّه هو القوي العزيز، وهو خير الماكرين.
والسّؤال: كيف يمكر الله سبحانه، أو ينسب المكر إلى نفسه؟
الجواب: هو مجرد مشاكلة باللفظ، والمكر من الله؛ يعني: الانتقام منهم، ومجازاتهم على ما يقومون به من مكر، وغدر، وكيد.
وجاء جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة إلى المدينة، وأمر رسول الله علياً رضي الله عنه ؛ فنام في فراشه، وأبطل الله مكرهم، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
سورة الأنفال [8: 31]
أسباب النزول: كما ذكر الواحدي في أسباب النزول، وروى الطبري. قيل: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، كان تاجراً، ويسافر بين البلاد، ويشتري كتب الأعاجم، ويحدِّث بها أهل مكة، ولما سمع ما يُتلى من القرآن، وقصصه قال لأهل مكة: أنا أخبركم بمثل هذا.
{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل.
{تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} : على كفار قريش، أو أهل مكة، تتلى عليهم آيات القرآن، وقصص القرآن، وذكر الأقوام الخالية، وتتلى: تدل على تكرار التلاوة، وتجدُّده.
{قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا} : مثل هذه القصص، والأقوال، والأمثال من قبل أن تخبرونا.
{قَدْ} : للتحقيق، والتّوكيد.
{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} : لو حرف شرط، وتمنٍّ.
{لَقُلْنَا} : اللام: لام التّوكيد.
{لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} : أي: مثل الّذي تقوله يا محمّد، أو تتلوه علينا.
{إِنْ} : حرف نفي أشد نفياً من ما؛ أي: ما هذا إلا أساطير الأولين.
{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقريب.
{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : جمع أسطورة، والأسطورة: هي القصة الّتي سطرت في الكتب القديمة الأولى من أخبار السّابقين، والأسطورة: قد تكون قصة خيالية، أو أكذوبة.
سورة الأنفال [8: 32]
{وَإِذْ} : أي: واذكر إذ قالوا، أو حين قالوا.
{قَالُوا} : القائل هنا قيل: أبو جهل، أو النضر بن الحارث، وهو المرجح، أو غيره، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السّبب.
{إِنْ} : شرطية.
{كَانَ هَذَا} : الّذي يقرؤه محمّد علينا؛ أي: القرآن هو الحق المنزل من عندك.
{فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.
{حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} : كما حدث لأصحاب الفيل، أو قوم لوط من قبل.
{أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : كما حدث لقوم عاد، وثمود، ومدين، والإتيان: أسهل من المجيء، والمجيء فيه معنى الصعوبة والشدة.
قالوا ذلك استهزاءً وجحوداً، وقيل: جواب هذا السّؤال، أو الدّعاء جاء في سورة المعارج:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} . وكذلك في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} .
سورة الأنفال [8: 33]
{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: النّافية.
{كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ توكيد النفي، ومنهم من يسميها لام الجحود. ليعذبهم: يعذبهم فعل مضارع؛ يدل على التّجدد، والتّكرار. وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} : جملة خبرها؛ أي: (خبر كان) محذوف تقديره قاصداً أو ناوياً أو مقدراً أن يعذبهم وأنت فيهم.
{وَأَنْتَ فِيهِمْ} : أي: وأنت يا رسول الله حيٌّ، وما زلت بينهم، أو معهم؛ فلن يعذبهم حتّى تخرج من عندهم، أو يتوفاك الموت.
أي: العذاب مرفوع عنهم مؤقتاً ما دمت يا رسول الله بين ظهرانيهم؛ فإذا مت قد ينزل بهم العذاب، وبما أن بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم مؤقت لذلك استعمل الجملة الفعلية، ولم يقل: معذبهم.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} : معذبهم: اسم يدل على الثّبوت؛ أي: الله من صفاته الثّابتة الرّحمة بعباده المؤمنين.
{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} : يستغفرون: أولاً: فعل مضارع؛ يدل على التّجدد، أو التّكرار؛ أي: الاستغفار، ولو كان متكرر، أو متقطع، أو مؤقت غير ثابت يرفع، أو يمنع عنهم العذاب؛ حتّى تقوم السّاعة، وهذا من رحمة الله سبحانه بهذه الأمة: أن عوَّض عليهم بعدم بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم بالاستغفار المتجدِّد والمتكرر.
وثانياً: لم يقل: وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون؛ لكان ذلك يعني: يجب أن تكون صفة الاستغفار عندهم ثابتة مستمرة، وهذا من المستحيل، أو الصعب جداً، واكتفى بالاستغفار المتجدِّد، أو المؤقت؛ بقوله:{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
ثالثاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} : فيه نفي للفعل؛ أي: التعذيب مقارنة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} : فيه نفي القصد أو النية للقيام بالفعل (التعذيب)، أو هناك فرق بين نفي القصد (النية)، ونفي الفعل ذاته؛ لأن نفي القصد أو النية أبلغ وأشد من نفي القيام بالفعل، وفي هذا دليل على مكانة وشرف النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه.
سورة الأنفال [8: 34]
{وَمَا لَهُمْ} : وما: الواو: استئنافية. ما: اسم استفهام؛ للحث، وتقديره: ولمَ لا يعذبُهُم الله.
{أَلَّا} : أن لا؛ أن: حرف مصدري، لا: نافية للتوكيد.
ومعنى ذلك؛ أي: شيء يمنعهم من أن يعذبهم الله، إن يعذبهم الله عدل؛ لأنّهم فعلوا، وما زالوا يفعلوا ما يستحق العذاب؛ فهم لا زالوا يصدون - فعل مضارع يدل على التّجدُّد، والتّكرار - يصدون النّاس عن المسجد الحرام؛ أيْ: يمنعون النّاس عن الطّواف بالمسجد الحرام، والعمرة؛ فهم منعوا رسول الله، والمؤمنين عام الحديبية من زيارته، والعمرة.
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} : وما: النّافية، كانوا أولياءَه: حيث كانوا يدَّعون أنهم أولياء المسجد الحرام باطلاً؛ فنفى الله سبحانه عنهم ذلك، وكيف يكونون أولياءَه وهم المشركون بالله، ويعادون دينه، ويصدون عن المسجد الحرام؛ فمن أعطاهم الولاية عليه؟
{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} : إن: نافية تفيد النّفي أكثر من: ما؛ أيْ: أولياؤه المتقون.
{إِلَّا الْمُتَّقُونَ} : إلا: أداة حصر؛ أي: حصراً، وقصراً، أولياؤه: هم المتقون لا غيرهم.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} : لكن: حرف استدراك، أكثر أهل مكة لا يعلمون.
{لَا يَعْلَمُونَ} : أنهم ليسوا أولياءَه؛ إما لجهل، وإما لعنادهم، أو أنهم لا يستحقون أن يكونوا أولياءَه.
سورة الأنفال [8: 35]
{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: النّافية؛ للتوكيد.
{كَانَ صَلَاتُهُمْ} : ولم يقل: كانت صلاتهم؛ لأنّ صلاتهم كانت صفيراً (من التصفير) وتصفيقاً، وكلاهما مذكر فجاء بالفعل المطابق لنوع صلاتهم.
{عِنْدَ الْبَيْتِ} : أي: المسجد الحرام.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مُكَاءً} : من فعل مكا، يمكو؛ أي: صفَّر.
{وَتَصْدِيَةً} : تصفيقاً؛ فقد كان الرّجال كذلك يطوفون بالبيت عراة، وهم يصفِّرون، ويصفِّقون، وكان ذلك في بداية الإسلام، وكان هذا من الجهل، والضّلال.
{بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} : الباء: للتعليل، أو السّببية، وما: مصدرية؛ أيْ: بسبب كفرهم.
سورة الأنفال [8: 36]
لا زالت الآيات تتحدث عن غزوة بدر، ونزلت هذه الآية كما قال مقاتل والكلبي تتحدث عما أنفقه الكافرون من أهل مكة من الأموال والأَنعام يوم بدر؛ مثال: المطعمين يوم بدر كانوا (12) رجلاً من كبار قريش يطعم كلّ واحد (10) من الجزور يومياً، وقيل: نزلت في أبي سفيان؛ فقد استأجر يوم أُحُدٍ ألفين من الأحابيش، وأنفق عليهم (40) أوقية من الذَّهب؛ ليقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السّبب.
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.
{كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} : ينفقون، ولم يقل: أنفقوا، بل يستمرون في الإنفاق، والتّجدُّد، وتكرار فعل الإنفاق في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين.
{لِيَصُدُّوا} : اللام: لام التّوكيد، والتّعليل، يصدوا؛ أيْ: يمنعوا النّاس عن اتِّباع محمّد صلى الله عليه وسلم، وعن سبيل الله، وهو دين الإسلام، والإيمان.
{فَسَيُنْفِقُونَهَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، والسّين: للاستقبال القريب؛ أي: سينفقونها قريباً.
{ثُمَّ} : للاستقبال، والتراخي في الزّمن.
{تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} : أيْ: في الآخرة؛ أيْ: عاقبة إنفاقها ندماً، وحسرة، أو المال نفسه يتحول إلى حسرة.
{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} : في الدّنيا، والآخرة.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} : يحشرون: يجمعون، وعلَّة هذا الجمع: هو ليميز الله الخبيث من الطّيب، «والحشر: هو السّوق+ الجمع». إلى: حرف يستعمل لكل الغايات، وهنا يفيد الانتهاء.
سورة الأنفال [8: 37]
{لِيَمِيزَ اللَّهُ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد، يميز الله: يكشف، يفصل، يفرِّق.
{الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} : أي: العمل الخبيث «الإنفاق في سبيل الصّد عن سبيل الله» من الطّيب الإنفاق في سبيل الله، وإعلاء كلمته، أو يميز الخبيث «الكافر» من الطّيب «المؤمن» ، أو يميز أهل النّار من أهل الجنة، وقدَّم الخبيث على الطّيب؛ لأنّ الحديث عن الّذين كفروا.
{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} : أي: يجمع الخبيث بعضه فوق بعض.
{فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} : الرّكم: أن يجعل بعض الشّيء على بعض؛ أي: يجمع الكفار بعضهم على بعض، أو فيركمه: يُلقي بعضهم على بعض إلى جهنم، أو تجمع أموالهم بعضها فوق بعض؛ أي: تضم، ثم يُلقى بها في جهنم لتكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم، جميعاً: للتوكيد.
{فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ} : الفاء: ظرفية، جهنم: اسم من أسماء النّار، أو دركة من دركات النّار، مشتق من كونها بعيدة القعر، أو الجهومة: الشّيء المخوف الكريه المنظر.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد.
{هُمُ الْخَاسِرُونَ} : هم: يفيد التّوكيد، الخاسرون: للمبالغة؛ أي: إذا كان هناك خاسرون؛ فهم في الطّليعة، أو الخاسرون حقاً أعظم الخاسرين.
سورة الأنفال [8: 38]
سبب النّزول: قيل: نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه في مكة قبل فتحها، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
{إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال. إن ينتهوا عما هم عليه من الكفر، والشّرك، ويدخلوا في الإسلام، ويتوبوا يغفر لهم.
{مَا قَدْ سَلَفَ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد، قد سلف: ما قد مضى من سيئات أعمالهم؛ «لأنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، والتّوبة تَجُبُّ ما قبلها» ، كما ورد في الصّحاح.
{وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} : وإن: شرطية، يعودوا إلى حرب الرّسول، والكفر؛ فقد مضت سنة الأولين؛ أي: أخذهم بالعذاب، والعقوبة بعد الإنذار، وانتهاء المُهلة.
انتبه إلى قوله: إن ينتهوا، ولم يقل: إن تنتهوا؛ أي: ليس المراد أن تخاطبهم نفسك؛ أيُّ إنسان يمكن أن يبلغهم ذلك.
سورة الأنفال [8: 39]
{وَقَاتِلُوهُمْ} : ولم يقل: اقتلوهم، قاتلوهم؛ أي: هناك مفاعلة قتال طرفين كلّ يحاول قتل الآخر، أما اقتلوهم: فتعني: من طرف واحد؛ أي: من دون أن يتصدوا لكم، أو يخرجوا لقتالكم.
{حَتَّى} : حرف غاية؛ أي: حتّى النّهاية (نهاية الغاية).
{لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} : لا: النّاهية، تكون فتنة: فتنة هنا؛ تعني: الشّرك، والكفر، أو الظّلم، أو أي فتنة، أو الفتنة في الدِّين؛ أي: اضطهاد؛ أي: المؤمن، أو المؤمنة من أجل دينه. ارجع إلى الآية (25) من نفس السّورة؛ للبيان.
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} : أي: لا شرك، فلا يعبد مع الله أحد سواه.
{فَإِنِ انتَهَوْا} : الفاء: للتفصيل، إن: للتوكيد، انتهوا: استجابوا، وأطاعوا، ودخلوا في الإسلام.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء، وإن: للتوكيد.
{بِمَا} : الباء: للإلصاق، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، أو مصدرية.
{يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : يعملون: تضم الأقوال، والأفعال، بصير: يرى، ويراقب أعمالهم، ويحيط علمه بكلّ شيء.
ولنقارن سورة الأنفال، الآية (39):{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
مع سورة البقرة، الآية (193):{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} .
الاختلاف: آية الأنفال: ويكون الدِّين كلّه لله، والنّهاية: فإنّ الله بما يعملون بصير.
آية البقرة: ويكون الدِّين لله، والنّهاية: فلا عدوان إلا على الظّالمين.
الاختلاف: سببه أنّ آية الأنفال: جاءت في سياق قتال الكفار كافة، والآية تفيد العموم، والشّمول، ولذلك قال: كلّه لله؛ أي: قاتلوا الكفار كافة؛ ليكون الدِّين كله لله.
أمّا آية البقرة: فجاءت في سياق قتال كفار مكة؛ فحسب، وحول المسجد الحرام قتال لصد عدوانهم، وحتّى يكون الدِّين لله.
أمّا نهاية الآيتين: فإنّ الله بما يعملون بصير؛ لأنّ من الكفار بعد قتالهم منهم من سيدخل في الإسلام، ومنهم من لن يدخل؛ فإنّ الله بما يعملون بصير.
وأما قوله تعالى: فلا عدوان إلا على الظّالمين؛ لأنّه سبقها قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وكذلك قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، فلذلك ختمها بقوله: فلا عدوان إلا على الظّالمين «كفار قريش وغيرهم» .
سورة الأنفال [8: 40]
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} :
{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{تَوَلَّوْا} : أعرضوا أو نكثوا العهد، وعادوا إلى حربكم.
{فَاعْلَمُوا} : الفاء: تعليلية، وللتوكيد.
{أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} : أنّ: تفيد التّوكيد أيضاً، مولاكم: متولي أموركم بالنّصر، والتّأييد، والمعونة.
{نِعْمَ الْمَوْلَى} : نعم: من أفعال المدح، المولى: المتولي بأمور عباده، المتعهد لأوليائه بالأمن، والهداية، والمحافظ على أوليائه، والقيِّم على أمورهم.
{وَنِعْمَ النَّصِيرُ} : على وزن فعيل؛ صيغة مبالغة، النّصير: كثير النصرة لعباده المؤمنين، ولأوليائه على أعدائهم.
سورة الأنفال [8: 41]
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا} : أيها المسلمون: أنما: أن: للتوكيد، ما: شرطية، أو اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.
{غَنِمْتُم} : من الغنيمة؛ أي: أخذتم من أموال الكفار بالقتال، والقهر، والحرب «هذا يُسمَّى الأنفالَ» ، وما غنمتم من أموال الكفار من دون قتال «هذا يُسمَّى الفيءَ» ؛ فالغنيمة قد تكون نفلاً، أو فيئاً.
{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية؛ تشمل كلّ شيء غنمتموه قليلاً، أو كثيراً مهما كان نوعه، أو قيمته.
{فَأَنَّ} : الفاء: جواب الشّرط؛ تفيد التّوكيد.
{لِلَّهِ خُمُسَهُ} : اللام: لام الاختصاص، والتّعليل. خمسه: والسّؤال كيف يكون لله خمسه مع العلم أن لله ما في السّموات، وما في الأرض، وهو مالك الملك؟ قيل: ذكر اسم الله هنا؛ للتشريف، والبركة.
{وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} : الواو: في كلّ هؤلاء عاطفة. إذن () لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كما أجمع أكثر المفسرين، فالغنيمة، أو الأنفال تقسم إلى خمسة أخماس: أربعة أخماسها توزع على المقاتلين، والخُمُس الباقي لهؤلاء الخمسة بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته نصيبه هو لصالح المسلمين، والثّابت: أنّ الغنائم لم تكن تحل لأحد من الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلِذِى الْقُرْبَى} : أيْ: سهماً من خُمُس الخُمُس لذوي القربى: وهم أقارب النّبي صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم، وبنو المطلب، حسب قول الإمام الشّافعي مستنداً إلى حديث في صحيح البخاري.
{وَالْيَتَامَى} : وهم الأطفال الصّغار من المسلمين من لا أب له.
{وَالْمَسَاكِينِ} : أهل الفقر، والحاجة من المسلمين.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} : المسافر البعيد عن ماله، أو الّذي فقد ماله، ولم يبقَ معه شيئاً، ويُسمَّى ابن السّبيل؛ أيْ: ابن الطّريق؛ فهو بحاجة للمساعدة، وكما قلنا أربعة أخماس الغنيمة الباقية توزع على المقاتلين: للفارس مثلاً: سهمان، أو ثلاثة أسهم، وللراجل: سهم واحد، هذا هو قول أكثر أهل العلم، وهذا تغيَّر في عصرنا الحديث؛ فالدّولة هي المسؤولة عن كلّ ذلك، والجنود هم موظفون عند الدّولة، ولهم أجرهم.
{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو النّدرة.
{كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} : فاعلموا أنما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية توزع على المقاتلين.
{إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} : بالله: الباء: للإلصاق، إيمان العقيدة.
{وَمَا أَنزَلْنَا} : الواو: عاطفة، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.
{عَلَى عَبْدِنَا} : محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو ألف من الملائكة المردفين، والمطر، والنّعاس، والإيحاء بالضّرب فوق الأعناق، والبنان.
{يَوْمَ الْفُرْقَانِ} : يوم بدر، وسُمِّي يوم الفرقان؛ لأنّه فرق بين أهل الحق، وأهل الباطل؛ معسكر الإيمان، ومعسكر الكفر، والشرك.
{يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} : تكرار يوم؛ يفيد التّوكيد، توكيد عظمة ذلك اليوم، يوم التقى: جمع المسلمين بجمع الكافرين من قريش على ماء بدر.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : قادر على الجمع بينهما، وقادر على أن يجعل فئة قليلة تغلب فئة كثيرة؛ أي: لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السّموات.
سورة الأنفال [8: 42]
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} : إذ: ظرف للزمن الماضي؛ أي: واذكروا إذ أنتم بالعدوة الدّنيا، بالعدوة الدنيا: العدوة ظرفية تعني شط الوادي، والدّنيا؛ أيْ: شط الوادي الأقرب إلى المدينة المنورة، والدّنيا: مؤنث الأدنى؛ أي: الأقرب.
{وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} : كفار قريش بالعدوة القصوى: شط الوادي الأبعد عن الوادي؛ أي: العدوة القصوى وهي أفضل من العدوة الدنيا؛ لأنّ الماء كان فيها، وكانت أرض صلدة، والعدوة الدّنيا ليس فيها ماء، وأرض رملية يصعب المشي عليها.
{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} : أيْ: أبو سفيان، والأربعون رجلاً، والعير أسفل منكم؛ أي: بالسّاحل، وبمكان أسفل من مكانكم حيث غيَّر أبو سفيان مسير القافلة، واتجه إلى ساحل البحر، وساحل البحر هو أسفل من الأرض اليابسة، وذكر كلّ هذه التّفاصيل؛ للتذكير بأهمية موقع القتال، وقلة عدد المسلمين وعدتهم حينذاك، وعدم خبرتهم في القتال، وحالتهم الصّعبة، وهم لا يريدون القتال، ولم يخرجوا له.
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ} :
{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.
{تَوَاعَدتُّمْ} : أيْ: وجعلتم بينكم وبين المشركين موعداً لزمن القتال والمكان على سبيل الافتراض.
{لَاخْتَلَفْتُمْ} : اللام: للتوكيد؛ أي: اختلفتم في المكان، والزّمان؛ فجاء بعضكم متأخِّراً عن الموعد، أو منحرفاً عن المكان، ولم يحصل اللقاء بينكم، أو وليتم مدبرين بعد أن رأيتم عددهم، وعدتهم؛ خوفاً من القتل، ولم يحدث اللقاء كما حدث في بدر في الزمان والمكان المحدد.
{وَلَكِنْ لِّيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} :
{وَلَكِنْ} : للاستدراك، والتّوكيد.
{لِّيَقْضِىَ} : اللام: للتوكيد، والتّعليل.
{لِّيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} : أي: يُتم الله سبحانه أمراً مقدراً: وهو نصر الله لأوليائه، وجمعكم بغير ميعاد، وليحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين دلالة على عظمة ذلك الأمر أو النصر.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} :
{لِّيَهْلِكَ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ ليهلك في معركة بدر {مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}: ليموت من مات من الكفار، أو المؤمنين عن بينة.
{عَنْ بَيِّنَةٍ} : أيْ: ليتبيَّن لكلّ منهما حقيقة نفسه، ويعلم حالته الّتي هو عليها من الكفر، أو الإيمان من دون لبس، ولا شك، هذا مات على الإسلام، وهذا مات على الكفر.
{وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} : ويعيش من عاش بعد معركة بدر، سواء من الكفار، أو المؤمنين.
{عَنْ بَيِّنَةٍ} : ومن دون شبهة أنه يعيش كمسلم، أو أنه يعيش كافراً.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} :
{وَإِنَّ} : للتوكيد.
لسميع: اللام: لزيادة التّوكيد، سميع: لكلّ ما يقوله عباده في السّر، والعلن، والقريب، والبعيد من الأصوات.
{عَلِيمٌ} : بكلّ ما يفعلوه في الخفاء، وفي الظّاهر؛ أحاط علمه بكلّ شيء؛ فلا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السّماء.
سورة الأنفال [8: 43]
في هذه الآية، والّتي تليها: يخبرنا الله سبحانه بما حدث من الأحداث، والأمور الغيبية التي أصابت قلوب، وعيون كلّ من الطّرفين يوم بدر.
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا} :
{إِذْ} : ظرفية؛ أي: في ليلة معركة بدر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في المنام: أنّ عدد جيش الكفار قليل؛ «فكانت هذه المعجزة الأولى» ، وفي الصّباح أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الرّؤيا؛ ففرحوا بذلك، وسرت فيهم روح العزيمة، والجرأة، والشّجاعة على القتال، والمضي إلى أرض المعركة.
{وَلَوْ} : شرطية؛ أيْ: لو كانت الرؤيا أنّ عدد جيش الكفار كثير؛ لحدث العكس.
{أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} : في منامك.
{لَّفَشِلْتُمْ} : الفشل: أي: الإحباط، والوهن، وعدم الجرأة على القتال، واللجوء إلى الفرار، واللام في لفشلتم، واللام في لتنازعتم: تدلان على التّوكيد.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} : فلم يحدث مثل ذلك الفشل، والتّنازع في أمر القتال.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : ارجع إلى الآية (119) من سورة آل عمران؛ للبيان.
سورة الأنفال [8: 44]
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} : وفي يوم المعركة «معركة بدر» ، وقبل بدء القتال حدثت معجزة ثانية؛ فقد أصبح يرى المؤمنون عددَ أعدائهم قليلاً؛ حتّى يبث الله في المؤمنين الشّجاعة، والشّعور بالعزة، والنّصر.
{وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} : وفي نفس الوقت أصبح المشركون «جيش أبي جهل» : يرون عددَ المؤمنين «صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم» قليلاً أيضاً؛ حتّى يبث في أنفسهم الإقدام على المعركة، ولا يتراجعون؛ حتّى قال أبو جهل: إنّهم أكلةُ جزور خذوهم أخذاً، واربطوهم بالحبال؛ فالله سبحانه يريد أن تبدأ المعركة.
وما إن بدأت المعركة حتى حدثت معجزة ثالثة: أصبح المشركون يرون عدد المؤمنين ضعفين، وذكر هذا في الآية (13) من سورة آل عمران:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِى فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} ؛ مما أدَّى إلى انسحاب المشركين من أرض المعركة، وهزيمتهم، وقُتِل (70) منهم، وأُسِر (70). ارجع إلى الآية (13) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان.
{لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} : هذا تكرار للآية (42)؛ للتوكيد أنّ وعده بنصر المؤمنين، وإعلاء كلمة الحق سيتم لا محالة.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} : تقديم الجار والمجرور: وإلى الله: يفيد الحصر؛ أيْ: وإلى الله حصراً وقصراً كل الأمور ترجع إليه؛ للفصل، والحساب، وإصدار الحكم بعد ذلك إلى الجنة، أو إلى السّعير.
سورة الأنفال [8: 45]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء إلى الّذين آمنوا بأوامر جديدة، بكيفية قتال العدو:
الأمر الأوّل: كان في الآية (15-16) من نفس السّورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} .
الأمر الثّاني: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} : إذا: ظرف زماني للمستقبل.
{لَقِيتُمْ فِئَةً} : أيْ: حاربتم. فئة: جماعة من النّاس. ارجع إلى الآية (13) من سورة آل عمران؛ للبيان.
{فَاثْبُتُوا} : أيْ: لا تفروا، أو تنسحبوا من أرض المعركة؛ اصمدوا أمام عدوكم.
الأمر الثّالث: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} : أيْ: في مواطن الحرب لا تنسوا ذكر الله بالتّكبير، والتّحميد، والتّسبيح، والصلاة، والدعاء باللسان؛ تضرعاً وخفية، والتّوكل على الله.
{لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : لعلَّ: للتعليل، والتّرجي؛ أيْ: لعلَّكم إذا ثبتُّم في أرض المعركة، وذكرتم الله، وأخذتم بالأسباب الأخرى الموصلة إلى الفلاح، والنّصر؛ لعلَّكم تفلحون: لعلَّ النّصر، والفوز يتحقق لكم. ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة؛ لبيان معنى الفلاح.
سورة الأنفال [8: 46]
الأمر الرّابع: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : اتبعوا ما أمر الله تعالى، ورسوله في أحكام القتال؛ مثل: عدم الخيانة، والأمانة، وتوزيع الغنائم، وطاعة أولي الأمر منكم.
{وَلَا تَنَازَعُوا} : لا: النّاهية، ولا تنازعوا: أي: إياكم والخلاف.
{فَتَفْشَلُوا} : فإنّه مدعاة للفشل، والهزيمة، وعليكم بوحدة الصّف، والكلمة.
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} : أيْ: قوتكم، وقيل: الرّيح الدّولة؛ أيْ: تذهب دولتكم، واستعمل الريح؛ لأن الريح القوية العاصفة قد تقلع الأشجار والبيوت، فالريح تحمل في معانيها وتمثل القوة، واستخدم الريح بدلاً من القوة.
{وَاصْبِرُوا} : على الشّدائد، والمحن، والجراح، وتحمل البأس.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} : يمدهم بالعون، والقوة، والصّبر.
سورة الأنفال [8: 47]
{وَلَا} : الواو: استئنافية، لا: النّاهية.
{تَكُونُوا} : أي: لا تتشبهوا بالكفار، والنهي عن التشبه أبلغ من النهي عن الفعل كما لو قال: ولا تخرجوا كالذين خرجوا من ديارهم.
{كَالَّذِينَ} : الكاف: للتشبيه. الّذين: اسم موصول؛ يفيد الذم.
{خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} : أيْ: كفار مكة، وعلى رأسهم أبو جهل، وأصحابه، خرجوا من مكة لحماية العير «القافلة الّتي يقودها أبو سفيان» بالدّفوف والمعازف، ولما نجا أبو سفيان بالعير أبى أبو جهل العودة إلى مكة، وقال: لا نرجع حتّى نرد بدراً، ونشرب بها الخمور، وتعزف لنا القيان، ونطعم الطّعام، وتسمع بنا العرب؛ فذلك كان بطراً، ورئاء النّاس؛ أيْ: تكبراً، وخيلاء، ورئاء النّاس: بإطعامهم الطّعام؛ أيْ: يريدون الحرب، والخروج إلى بدر للسمعة، وحتّى تصبح لهم الهيبة، والسّمعة بين العرب.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : يمنعون النّاس من الدّخول في الإسلام؛ فقد ظنوا أنّهم بقتالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يخوفون النّاس، ويصدونهم عن الدّخول في الإسلام، والإيمان بالله ورسوله.
{وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} : بما: الباء: للإلصاق، ما: حرف مصدري.
{مُحِيطٌ} : عالم بكلّ شيء يعملونه؛ أيْ: بما يقولون، ويفعلون محيط به إحاطة تامة.
سورة الأنفال [8: 48]
{وَإِذْ} : أيْ: واذكر إذ زيَّن، أو: اذكر حين زين الشّيطان، وإذ ظرف للزمن الماضي.
{زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} : الشّيطان: هو إبليس.
{زَيَّنَ لَهُمُ} : بالوسوسة، والتّزيُّن لكفار مكة أبي جهل، وأتباعه من قريش بالخروج للقاء الرّسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الّذين تصدوا للعير القادمة من الشّام يقودها أبو سفيان، زيَّن لهم بالوسوسة، وشجعهم على الخروج من مكة؛ لأنّ قريشاً قتلت رجلاً من كنانة، وكانت تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم إذا خرجوا، وكان سراقة بن مالك سيد بني بكر بن كنان، وقيل: إنّ إبليس تمثل بصورة سراقة، وقدِم إلى قريش، ومعه جند من الشّياطين، وقال لقريش: اخرجوا، وإنَّا معكم، ولا تخافوا أحداً؛ فلا غالب لكم اليوم من النّاس؛ هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
{وَإِنِّى جَارٌ لَّكُمْ} : أي: مجيركم، وحاميكم من بني بكر، أو من أيِّ عدو.
{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب، والتّرتيب، لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.
{تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} : الفئة المؤمنة، والفئة الكافرة.
{تَرَاءَتِ} : اقتربت الفئتان من بعضهما، وبدأت المعركة.
{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} : أيْ: رأى إبليس الّذي لا زال متمثلاً بصورة سراقة بن مالك الملائكة تنزل إلى أرض المعركة، معركة بدر، ولَّى هارباً تاركاً أرض المعركة، وقال:
{إِنِّى بَرِاءٌ مِّنكُمْ} : أيْ: لا دخل لي فيكم، وأنا متخلٍّ عنكم.
{إِنِّى أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} : أي: الملائكة تنزل إلى أرض المعركة.
{إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ} : أن يهلكني.
{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : ولما عادت قريش إلى مكة منهزمة، قالوا: إنّ سراقة هو سبب هزيمتهم في بدر؛ فبلغ هذا الخبر سراقة بن مالك؛ فتعجب، وقال: ما علمت بخروجكم حتّى بلغني هزيمتكم، فلما أسلم بعضهم علموا: أنّ إبليس تمثل في صورة سراقة.
سورة الأنفال [8: 49]
{إِذْ} : واذكر إذ يقول المنافقون، أو حين قال المنافقون.
{يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} : المنافقون: جمع منافق: وهو الّذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، وكلمة منافق مأخوذة من حيوان يشبه الفأر يُسمَّى اليربوع يحفر لنفسه نفقاً في الأرض له بابان، أو أكثر؛ فإذا حاولت صيده خرج من الباب الآخر.
{وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : ضعاف الإيمان، أو مرض الحسد، أو الحقد، أو الشّبهات؛ يقولون بعد أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى بدر، وكان عددهم (313) رجلاً:
{غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} : قالوا ذلك سراً؛ أي: اغتر هؤلاء المسلمون بدينهم، فكيف يخرجون للتصدِّي لقريش القادمة بأكثر من (1000) مقاتل، غرَّ: من الغرور: هو خداع، أو إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضرُّه؛ أي: الوقوع في مضرة مع الإيهام بمنفعة، والمغرور: هو الّذي يرى نفسه، أو يشعر بأنّه أعظم من غيره بما يملكه من خصلة، أو خصال، فقال المنافقون: غرَّ هؤلاء؛ أيْ: أحس المسلمون بقوتهم رغم أنّهم قلة، أو بوعد الله لهم بالنّصر فهذا غرور في ظنهم.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : يطلب العون من الله، وبعد أن يقدِّم الأسباب؛ فهو حسبه، وكافيه، وينصره على عدوه، ولو كان ضعيفاً.
{فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} : العزيز: الّذي لا يقهر، ولا يُغلب، الممتنع. والفاء، وإن: للتوكيد.
{حَكِيمٌ} : والحكيم: في تدبير شؤون خلقه، وكونه؛ فهو الحاكم المالك، وهو ذو الحكمة؛ لأنّه أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 50]
لا زالت الآيات تتحدث عن كفار قريش الّذين خرجوا من ديارهم بطراً، ورئاء النّاس، فلو ترى هؤلاء حين يتوفاهم ملائكة الموت:
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى} .
{وَلَوْ} : لو: شرطية، وجواب لو محذوف للتعجب والتهويل والتعظيم.
{إِذْ يَتَوَفَّى} : إذ: ظرف زماني؛ أي: حين يتوفَّى الّذين كفروا ملائكة الموت بما فيهم ملك الموت يتوفَّى؛ أيْ: في مرحلة الوفاة، وهي المرحلة السّابقة لقبض الرّوح؛ ففي هذه المرحلة يبدأ عذاب البرزخ، ويظن النّاس أنّ المريض متألم، ومتوجع، فلو أتيح لأعينهم رؤية الحقيقة؛ لرأوا الملائكة يضربون وجوه هؤلاء الكفار، وأدبارهم، والعياذ بالله، وترى على وجه المريض الهلع، والذّعر، والخوف، وتقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق الّذي ينتظركم.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : المشركين قد يكونوا قتلى بدر، وغيرهم من الكفار.
{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} : أي: وجوههم وظهورهم إذا جاؤوهم من بين أيديهم ومن خلفهم، أو إذا لقوهم يضربون وجوههم وإذا ساقوهم يضربون أدبارهم، وهذا الضرب قبل قبض أرواحهم؛ أي: قبل الموت، وسواء أكان في يوم بدر، أو يوم القيامة، أو يوم تتوفاهم الملائكة.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} : في القبر (البرزخ)، وفي الآخرة (عذاب الحريق في جهنم).
سورة الأنفال [8: 51]
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، ويشير إلى الضّرب، وعذاب الحريق.
{بِمَا} : الباء: باء السّببية، أو التّعليل؛ أيْ: بسبب، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، أو مصدرية.
{قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} : أيْ: بما قدَّمتم من الأعمال السّيئة، والمنكرات، والكفر، والظّلم، ونسب ارتكاب المعاصي إلى الأيدي؛ لأنّ معظم الأعمال السّيئة يزاولها، أو يكسبها الإنسان بيده، وهناك طبعاً اللسان، والأعين، والأرجل، وغيرها من الحواس، والأعضاء.
{وَأَنَّ اللَّهَ} : وأنّ: للتوكيد.
{لَيْسَ} : للنفي المستمر.
{بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} : الباء: للتوكيد، والإلصاق، ظلام: صيغة مبالغة لظالم؛ فكان يمكن أن ينفي الأدنى أيْ: ظالماً، ويقول: ليس ظالماً للعبيد، أو يقول: ليس بظلام للعبد، ولكنه عدل عن ذلك فهو ليس بظالم، وليس بظلام، لا للعبد، ولا للعبيد. ارجع إلى الآية (182) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 52]
{كَدَأْبِ} : الكاف: للتشبيه، الدّأب: هو الشّأن، والحال، والدّأب؛ يعني: الدّوام على فعل أمر ما، والإدمان عليه لطول الزّمن.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : أي: حال كفار مكة، وشأنهم، وأفعالهم، ودأبهم كحال، وشأن، وأفعال آل فرعون، ومن سبقهم من الأمم؛ مثل: قوم نوح، وعاد، وثمود.
{كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : كما كفر هؤلاء مشركي مكة، كفروا: أي: جحدوا بآيات ربهم، ولم يؤمنوا بها.
{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} : الأخذ: يعني الانتقام والعذاب، والهلاك، والأخذ: يكون بطرق متعدِّدة: بالصّيحة، والرّجفة، أو الطّوفان، أو بالسّنين، ونقص الثّمرات
…
وغيرها.
{بِذُنُوبِهِمْ} : الباء: للإلصاق، والتّعليل، والذّنوب: الآثام، والمعاصي، والكبائر.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ للتوكيد.
{قَوِىٌّ} : لا يُغلب، ولا يُقهر، وممتنع.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} : مشتق من عقب؛ لأنّ فاعل الذّنب يستحق عقوبته عقيب فعل ذنبه؛ يعني: في الدّنيا، وعادة العقاب يكون في الدّنيا، والعذاب في الآخرة.
سورة الأنفال [8: 53]
{ذَلِكَ} : اسم إشارة للبعد، ويشير إلى الأخذ والعقاب الّذي حدث لكفار مكة، وآل فرعون، ومن سبقهم من الأمم لم يحدث إلا بسبب كفرهم، وجحدهم بنعم الله؛ فهم بدَّلوا نعمة الإيمان بالكفر، ولم يشكروا الله تعالى المنعم عليها، فمن سُننه الكونية هذه السُّنة: سُنة تغيُّر النِّعمة.
{بِأَنَّ اللَّهَ} : الباء: للتوكيد، والإلصاق، والاستمرار، أن: لزيادة التّوكيد.
{لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} : لم يك: ولم يقل: لم يكن؛ حذف النّون؛ لأنّ يك: أقل من يكن؛ أي: لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم أدنى، أو أقل تغيُّراً بأن منعها عنهم، أو أنقصها، أو بدَّلها؛
{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.
{يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} : أيْ: حتّى هم يغيروا ما بأنفسهم؛ حتّى يكونوا هم البادئين بالتّغيير، وهذا من رحمته سبحانه: أنّه شاء أن يكون الإنسان هو البادئَ بالتّغيير، بالكفر، وترك الشّكر، والإعراض.
{وَأَنَّ} : أنّ: للتوكيد، الله سميع لكلّ ما يقوله الكافرون، ومكذبوا الرّسل، وعليم بما يفعلون.
{اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} : ارجع إلى الآية (42) من نفس السّورة.
سورة الأنفال [8: 54]
هذا هو الدّأب الثّاني، وأمّا الدّأب الأوّل: فقد جاء في الآية (52)، وهذا الدّأب الثّاني غير الدّأب الأوّل.
الدّأب الأوّل: كان في العقيدة: الكفر، والشّرك، وعدم الاستجابة للرسل، والإيمان؛ فكان دأب كفار قريش؛ كدأب آل فرعون، ومن سبقهم من الأمم، مثل: قوم نوح، وعاد، وثمود في الكفر، والشّرك.
وأما الدّأب الثّاني: فجاء في الكفر بالنِّعم، والجحود بها؛ فكان كفار قريش أيضاً يشبهون آل فرعون، ومن سبقهم من الأمم في الكفر بأنعم الله، وعدم شكر المنعم على نعمه.
وأمّا الفروق بين الآيتين:
فالآية (52): {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
والآية (54): {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} .
الفرق الأول: {كَفَرُوا} (آية 52)، {كَذَّبُوا} (آية 54): الكفر: هو أعم من التّكذيب، والكفر أشد من التّكذيب، والتّكذيب: قد يكون جزئياً، أما الكفر: فهو عام.
الفرق الثاني: {بِآيَاتِ اللَّهِ} (آية 52)، {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} (آية 54):
{بِآيَاتِ اللَّهِ} : آيات الألوهية؛ أي: العبودية، والتقوى، والطاعة، وآيات التوحيد؛ توحيد الصفات، والأسماء، والتكاليف، والمنهج.
{بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : آيات الخلق، والرزق؛ أي: آيات الربوبية، والحلال، والحرام، والنِّعم.
الفرق الثالث: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} (آية 52)، {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} (آية 54).
الأخذ: يكون بالعذاب، وأنواعه، والأخذ: قد يكون أليماً شديداً.
والهلاك: قد يعني: الموت أولاً. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (5).
{فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} : الفاء: للتوكيد، بذنوبهم: الباء: للتعليل، أو السببية.
وهناك فرق بين قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 54]، وقوله تعالى:{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [آل عمران: 11] إضافة التكذيب بآيات ربهم الخاصة يشير إلى بشاعة وشدة كذبهم والاجتراء على الله تعالى مقارنة بقوله بآياتنا (عامة).
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} : وبين كيف تم ذلك في سورة طه، آية (78).
{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} ، وأيضاً في سورة يونس، آية (90-92).
{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} : مشركو قريش، وآل فرعون، والّذين من قبلهم كانوا ظالمين: بالشّرك، والكفر، والمعاصي، وظالمين لأنفسهم بالصّد عن سبيل الله، وبإدخال أنفسهم في النّار، وبجحدهم نِعَمِ الله تعالى.
سورة الأنفال [8: 55]
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
أسباب النّزول: قيل: نزلت هذه الآية في بني قريظة حين نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا مشركي قريش بالسّلاح في معركة بدر، كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما . والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{شَرَّ الدَّوَابِّ} : أصلها: أشر الدّواب، والدّواب جمع دابة، والدّابة: هي كلّ ما يدب على الأرض، مثل: الحيوان، والإنسان، والجن.
ومنهم من قال: الإنسان مستثنى من هذا التّعريف، ويقصد بالشّر الإصرار على الكفر، ونقض العهد، فهم لا يؤمنون، كما جاء في الآيتين (55-56).
{عِنْدَ اللَّهِ} : العندية: عندية منزلة، أو درجة.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (6)؛ لبيان معنى الّذين كفروا.
{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : فهم: الفاء: للتوكيد، هم: لزيادة التّوكيد.
{لَا يُؤْمِنُونَ} : لا: النّافية، يؤمنون: تدل على إصرارهم على الكفر، وعدم الإيمان بالله تعالى، وبآياته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والبعث، والحساب، والجزاء.
سورة الأنفال [8: 56]
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} :
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} : أخذت منهم العهد على عدم التّدخل والانحياز، ونصرة الأعداء، أو إعانة مشركي قريش.
{مِنْهُمْ} : من الّذين كفروا؛ أمثال: بنو قريظة.
{ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّةٍ} :
{ثُمَّ} : للترتيب الزّمني، والتّراخي.
{يَنْقُضُونَ} : أي: لا يوفون بالعهد، أو ينكثون العهد، وينقضون بصيغة المضارع: لتدل على استمرار نقضهم، وتجدُّده، ولم يتوقَّف. ارجع إلى سورة النحل آية (92) لمزيد من البيان.
{فِى كُلِّ مَرَّةٍ} : للتوكيد.
{وَهُمْ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.
{لَا يَتَّقُونَ} : لا: النّافية، يتقون: لا يطيعوا أوامر الله، ولا يتجنبوا محارمه، ولا يخافون عاقبة الغدر، والنّقض.
سورة الأنفال [8: 57]
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} :
{فَإِمَّا} : الفاء: عاطفة، إن: شرطية، وما: تفيد التّوكيد، وأصلها: للتفصيل.
{تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ} : تجدنَّهم، وتظفر بهم، وتقدر عليهم في الحرب.
{تَثْقَفَنَّهُمْ} : من الثقف: وثقف الرجل؛ أيْ: تمكن منه، وظفر به، وليس مجرَّد أن وجده حاول قتله، أو أسره، بل لا بُدَّ من أن يكون قادراً على فعل ذلك، وإلا يصبر زمناً، أو مكاناً آخر.
{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَّنْ خَلْفَهُمْ} : أرغمهم على ترك منازلهم بالقوة؛ فيصبحوا لا منزل لهم؛ إلا العراء، أو الخيام؛ فيؤدِّي ذلك إلى خوف الّذين من خلفهم من أعداء الدِّين الّذين يتربصون بكم؛ فيخافون أن يتشرَّدوا، كما حصل ذلك لغيرهم؛ مما يؤدِّي إلى الكف عن محاربتك، والكيد منك.
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} : لعلَّ: للتعليل. يذكرون: لا ينسون ما حدث لإخوانهم، أو يتعظون. يذَّكرون: أصلها يتذكرون، ويذَّكرون: فيها مبالغة في التذكر، أو شدة تذكر تجعلهم يستيقظون من سباتهم، وتهتز مشاعرهم أو قلوبهم لما حدث، وأما يتذكرون تستعمل لما يحتاج إلى طول وقت للتذكر العقلي.
سورة الأنفال [8: 58]
{وَإِمَّا} : أصلها: (وإن ما) أدغمتا. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، ما: للتوكيد، وإما أصلها للتفصيل.
{تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} : أيْ: إذا ظهرت لك بوادر خيانةٍ، أو نقضٍ للعهد من الّذين بينك وبينهم عهد.
{فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} : الفاء: للتوكيد، انبذ: من النّبذ: وهو إلقاء الشّيء وطرحه؛ استهانةً به، وإظهاراً بعدم الاهتمام به؛ أي: اطرح العهد الّذي بينك وبينهم؛ أي: تخلَّى عنه، أو تحلَّل منه لمجرد الخوف من الخيانة وتوقعها؛ لأن الانتظار لكي تحدث فيه خطر كبير للأمة ولمصالحها، وأخبرهم: بأنّك نقضت العهد معهم؛ لكي يعلم الكل ذلك.
{عَلَى سَوَاءٍ} : أيْ: هم وأنت على سواء في العلم، لا خداعٌ، ولا خيانةٌ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} : إنّ: للتوكيد، لا يحب: لا: النّافية.
{الْخَائِنِينَ} : جمع خائن، والخائن: هو الّذي تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أو تصدر منه خيانة في أمر غير عظيم.
أمّا الخوان: فهو الّذي تصدر منه الخيانة مرات عديدة، أو مراراً، وتكراراً، وفي أمور عظيمة؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
سورة الأنفال [8: 59]
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} :
{وَلَا يَحْسَبَنَّ} : الواو: استئنافية، لا: النّاهية، يحسبن: من حسب؛ أي: اعتقد، أو هو الظّن الرّاجح، وحسِبَ: تقوم على حساب حسي، وحساب قلبي قائم على النّظر، والتّجربة، والحساب.
{الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} : سبقوا: من السبق؛ أي: الّذين فرُّوا من معركة بدر من المشركين خوفاً من القتل، أو الأسر: بأنّهم خلصوا، أو فلتوا من العذاب، والآية عامة؛ تعني: كلّ الكفار، وأصل السّبق: هو الفوت، والنّجاة من العذاب.
{إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} : إنّ: حرف توكيد، لا: النّافية، يعجزون: أيْ: سوف ندركهم في الدّنيا، ونأخذهم بالعذاب، لا يحسبن الّذين كفروا أنا غير قادرين عليهم.
سورة الأنفال [8: 60]
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ} : من الإعداد، والتّهيئة؛ لقتال العدو.
{مَا اسْتَطَعْتُم} : قدر استطاعتكم؛ أيْ: كل ما تقدرون عليه، كل ما بوسعكم، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.
{مِنْ قُوَّةٍ} : من: استغراقية؛ تشمل كلّ قوة. قوة: جاءت نكرة؛ لتشمل أيَّ قوة مهما كانت من السّلاح، والصّواريخ، والطّائرات، والقنابل. والإعداد: يشمل الإعداد العسكري، والمالي، والمعنوي «النّفسي» ؛ لبث روح الشّجاعة، والإقدام، والتّضحية.
{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} : ومن: استغراقية، رباط الخيل: كان هذا في القديم، والآن قد يتمثل رباط الخيل: بالطّائرات، والصّواريخ، والقذائف، وراجمات الصّواريخ، والأسلحة الخفيفة، والثقيلة، ولنعلم أن الخيل كانت رمز القوة في الزمن القديم.
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} : من الرهبة: وهي الخوف المقترن بالعلم من الّذي تخافه، وطول مدة الخوف المصحوب باضطراب نفسي، وقلق؛ أي: ترهبونهم حتّى لا يقاتلوكم، أو يجرؤوا على محاربتكم. وتكرار {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ولو قال عدو الله لكان يكفي أو عدوكم يكفي، ولكن قوله تعالى:{عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} : فيها حث على وجوب القتال والجهاد أكثر؛ لأن الجهاد في سبيل الله فيه مكاسب دنيوية وأخروية.
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} : أي: إرهاب العدو الموالي لهؤلاء، أو إرهاب الآخرين من غيرهم «غير كفار قريش» ، واليهود لا تعلمونهم الله يعلمهم، أمثال: الفرس، والرّوم، وغيرهم من الأمم.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَىْءٍ} : ما: شرطية، من شيء: من: استغراقية. شيء: مهما كان صغيراً، أو كبيراً: من مال، أو غير مال، طعام، أو مسكن.
{فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : الجهاد، وغيره، وإعلاء كلمة الله تعالى.
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} : أضعافاً كثيرة عشرة أضعاف أو (70) ضعفاً، أو أكثر من ذلك.
{وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} : أنتم: تفيد التّوكيد، لا: النّافية، تظلمون: لا تنقصون حسنة، ولا تظلمون سيئة؛ أي: لا تظلمون من الثّواب، والأجر شيئاً، والشيء: هو أقل القليل.
سورة الأنفال [8: 61]
{وَإِنْ} : شرطية تدل على احتمال الحدوث.
{جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} : مالوا إلى الصّلح، والسّلم، وعدم القتال، ودعوك إليه بنية حسنة ورغبة صادقة فاجنح لها.
{فَاجْنَحْ لَهَا} : أيْ: وافق على الصّلح، والسّلم أيضاً.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : استعن بالله، وفوض أمرك إلى الله بعد الأخذ بالأسباب، والحيطة، والحذر.
{إِنَّهُ} : للتوكيد في كمال السّمع، والعلم.
{هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : ارجع إلى الآية (42).
سورة الأنفال [8: 62]
{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، يريد بنو قريظة أن يخدعوك، أو غيرهم.
{يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد، يخدعوك حين يدعوك إلى السّلم، أو الصّلح، أو لتكف عنهم حتّى يستعدوا، أو يفاجئوك بغدر، أو مكر، والخداع: هو محاولة ستر وجه الصّواب عن الآخر؛ لكي يوقعه في مكروه.
{فَإِنَّ} : الفاء: جواب الشّرط. إن: للتوكيد.
{حَسْبَكَ اللَّهُ} : الحسب: الكافي، وحسبك: أي: كافيك، أو يكفيك الله؛ أي: لن يستطيعوا خداعك.
{هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} : هو ضمير فصل للتوكيد، أيَّدك بنصره: يوم بدر، والباء: للإلصاق، أيَّدك: من التّأييد، وهو التّمكين بالقوة، وبإنزال الملائكة، والمطر، والنّعاس، والرّعب
…
وغيرها من وسائل النصر، وأضاف سبحانه النصر إلى نفسه؛ لأنه نصر خارق للعادة بإنزال الملائكة والمطر وما حدث في بدر لينصر رسوله صلى الله عليه وسلم خاصة، ولذلك قال أيدك بنصره.
{وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : وليس معنى ذلك أنّهم حسبه، وإنما يؤيدونك، أو قوَّاك بنصرتهم لك.
سورة الأنفال [8: 63]
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} : أيْ: أحدث بينهم الموافقة في الآراء، والتحابَّ، والتوادَّ، والصفاء، وأبعد عنهم التّباغضَ؛ بعد أن كانوا أعداءً تسيطر عليهم الحميَّة، والعصبية، مثال: ألَّف بين الأوس والخزرج (بين المهاجرين والأنصار)، ألَّف بينهم بالإسلام، وأخوَّة الدِّين، ويختلف التألف عن الجمع؛ فقد تجمع بين أفراد القوم، ويبقى بينهم عدم التحابِّ، والتوادِّ.
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} : شرطية، أنفقت ما في الأرض: من مال، أو غيره، جميعاً توكيد.
{مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} : ما: النّافية، ألفت بين قلوبهم: ولكن الله ألَّف، ولكن: للاستدراك، والتّوكيد.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{عَزِيزٌ} : القوي الّذي لا يُقهر، ولا يُغلب، والممتنع؛ أيْ: لا يضرُّه أحدٌ من خلقه.
{حَكِيمٌ} : في تدبير شؤون خلقه، وكونه، حكيم فهو الحاكم، وحكيم من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 64]
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء للنبي صلى الله عليه وسلم استعمل فيها يا النّداء؛ للبعد، والهاء: للتنبيه، وهو نداء تكريم، وتعظيم، ولم يقل: يا محمّد، أو: يا أيها الرّسول.
إذا نظرنا في القرآن الكريم: نجد أنّ الله سبحانه حين ينادي على رسله ناداهم بأسمائهم، أمثلة:{يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا} [الصافات: 104]، {يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48]، {يَامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116].
أما حين نادى الله سبحانه وتعالى نبيَّه محمّداً؛ فقد ناداه بيا أيها النّبي، وذلك في (13) آيةً في القرآن، وناداه بيا أيها الرّسول مرتين في آيتين.
هذا في النّداء، أما في الإخبار، وهو غير النّداء؛ فقد ذكر اسمه محمّد في (4) آيات، وورد اسم أحمد في آية واحدة، وسنرى سبب ذلك حين بيان تلك الآيات، وهي:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40].
{مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29].
{وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّهِمْ} : [محمّد: 2].
والنّداء بـ (يا أيها الرّسول): يأتي في سياق الدّعوة والتّبليغ والرّسالة: مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} [المائدة: 41].
وباقي النّداءات جاء بيا أيها النّبي، وهو نداء تشريف، وعام، ويأتي في سياق الأمور، والشّؤون الخاصَّة به صلى الله عليه وسلم، وعلى كونه الأسوة، والقدوة للناس، أو في سياق الأحكام الخاصَّة به صلى الله عليه وسلم، وشؤون أسرته، وأزواجه، وأحكام الأسرة المسلمة بشكل عام.
{حَسْبُكَ اللَّهُ} : الحسب الكافي، وحسبك؛ أيْ: يكفيك أو كافيك.
{وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : لا تعني- كما يظن بعض النّاس-: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، وإنما تفسيرها حسبك الله وحده، ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله، أو: يا أيها النّبي حسبك الله، وأيها المؤمنون حسبكم الله؛ «أي: يكفيكم الله وحده»، أو: يا أيها النّبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين أيضاً هو الله، والواو في كلمة ومن تبعك؛ تعني: مع، أيْ: حسبك الله مع من تبعك من المؤمنين، الكلّ حسبكم الله سبحانه وتعالى ، في كلّ ما تدعونه، أو تحتاجونه في أمور دنياكم، وآخرتكم من النّصر، والرّزق، والتّوكل.
سورة الأنفال [8: 65]
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء إلى النّبي. ارجع إلى الآية السّابقة؛ للبيان.
{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : التّحريض: هو الحث، والتّشجيع على فعل الشّيء، ويكون ذلك بإلقاء الخُطب، أو تبيان الحكمة، والموعظة، والتّزيين، وبكونك الأسوة الحسنة، والقدوة الصّالحة.
{عَلَى الْقِتَالِ} : أي: حثهم على الجهاد، والقتال في سبيل الله.
{إِنْ يَكُنْ مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، والقلَّة.
{يَكُنْ} : يوجد.
{مِّنكُمْ} : خاصَّةً؛ أيْ: من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو منكم من أتباع رسول الله، وأنصاره من المؤمنين.
{عِشْرُونَ صَابِرُونَ} : أيْ: أصبح الصّبر عندهم صفة ثابتة.
{يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} : أيْ: كلّ مؤمن إذا صبر، وتوكل على الله قادر على أن يقاوم، ويجاهد عشرة رجال من الأعداء.
{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِّائَةٌ} : أي: مئة صابرة أيضاً.
{يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : أي: الرّجل يغلب (10) رجال من الّذين كفروا، فالمعيار الإيماني، أو القوة الإيمانية الواحد يساوي أو يعادل عشرة.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} : الباء: للإلصاق والتوكيد؛ ما هو الفرق بين بأنهم قوم لا يفقهون، والقول: لا يفقهون؟ إضافة كلمة قوم تدل على عدم الفقه، والفهم عندهم منذ القديم متمكن فيهم؛ أي: أسوء من قوله: بأنهم لا يفقهون؛ لا يفقهون: لا: النّافية، يفقهون: الفقه لغةً: الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مثل القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها؛ أي: لا يفهمون حكمة الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وما هو جزاء الّذين يحاربون الله، ورسوله، والّذين يسعون في الأرض فساداً، فالمؤمن يقاتل بشجاعة، ولا يخاف الشّهادة في سبيل الله، وأما الكافر: فهو يقاتل للحفاظ على حياته، ودنياه، ولا يؤمن بالآخرة، وما فيها.
سورة الأنفال [8: 66]
{الْـئَانَ} : ظرف زماني، الآن وقد كثر عدد المسلمين، والمجاهدين في سبيل الله، وتغيَّرت وسائل القتال، والحرب من السّيف إلى الصّاروخ، ومن الرّكوب على الجياد إلى الطّائرات
…
وغيرها.
{خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} : الحكم السابق، أو المعادلة الإيمانية السّابقة الواحد يعادل عشرة إلى معادلة جديدة الواحد يعادل اثنين.
{وَعَلِمَ أَنَّ} : تدل على التّوكيد؛ أيْ: أنّه علم علماً مؤكداً أنّ فيكم ضعفاً.
{فِيكُمْ ضَعْفًا} : لم يُبيِّن ما هو هذا الضّعف؛ فقد يكون في الاستقامة على الدِّين، وقد يكون في العدَّة، والعتاد، والقوة العسكرية، ويشمل كلَّ ضعف؛ لأنّه نكرة، و (ضعفاً) قد تكون جمع ضعيف.
فمع مرور الزّمن تكثر الفتن، ويضعف الإيمان ويُقبل النّاس على الدّنيا، ومع مرور الزّمن تتغير وسائل الحرب، فتظهر الصّواريخ العابرة للقارات، والطّائرات، ووسائل القتل، والدّمار.
{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} : فكلّ نصر، أو هزيمة يكون بإرادة الله.
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} : يمدهم بقوته، وبنصره، وبالصّبر، والشّهادة.
ويجب أن لا نظنَّ أنّ الآية الثّانية (66) نسخت الآية الأولى (65): فكلا الحكمين قائمين، فالحكم الأوّل: هو الحد الأعلى، وتمثل المسلمين الأوائل، والحكم الثّاني: هو الحد الأدنى، وتمثل باقي المسلمين والمؤمنين.
سورة الأنفال [8: 67]
أسباب النّزول: نزلت هذه الآية في أسرى بدر.
{مَا كَانَ} : ما: النّافية. كان: تعني: «ينبغي» ؛ أي: ما كان ينبغي أو يصح.
{لِنَبِىٍّ} : اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد، نبي: نكرة، ومعنى ذلك: ما صح لأيِّ نبيٍّ من الأنبياء بما فيهم أنت يا محمّد صلى الله عليه وسلم: أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض، وأما لو قال: يا أيها النّبي، أو ما كان للنبي؛ لدلَّ ذلك على المعرفة، ولكانت الآية خاصَّةً به صلى الله عليه وسلم.
{أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.
{أَسْرَى} : جمع أسير: وهو الّذي يقبض عليه من العدو، ويشد عليه بإسار: وهو القيد من الجلد، أو الحديد، هناك فرق بين أسرى، أو أُسارى:{وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85]. ارجع إلى الآية (85) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
أسرى: جميع أسير، وأُسارى: جمع أسرى، فأسارى: جمع الجمع. وقيل: الأسرى: الذين في اليد، وأسارى: الذين هم في القيود.
{حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ} : حتّى: حرف غاية، وتشير إلى نهاية الغاية، وهي يثخن في الأرض؛ أي: تصبح له شوكة، وقوة عظيمة عندها يصح أن يأخذ أسرى بدلاً من قتلهم؛ أيْ: كان الأصح، والصّواب هو قتل المشركين الكفار يوم بدراً بدلاً من أسر السّبعين رجلاً، ثخن الشّيء: غلَظ وصلب، فهو ثخين؛ كقوله تعالى:{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29].
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} : تريدون المال، أو متاع الدّنيا الزّائل الفاني، ويعني هنا: الفداء فداء أسرى بدر بالمال.
{وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} : والله يريد لكم الجنة، والنّعيم المقيم، فلا تبدلوا الأعلى بالأدنى، ولم يقل تعالى: والله يريد عرض الآخرة؛ لأن العرض يزول والآخرة متاعها خالد لا يزول.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : قوي، عزيز، لا يُغلب، ولا يُقهر، ممتنع لا يضره أحد من خلقه، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وكونه، وحكيم فيما يشرعه لكم؛ لأنّه هو الحاكم، وهو أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
سورة الأنفال [8: 68]
{لَّوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :
{لَّوْلَا} : حرف امتناع لوجود.
{كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} : حكم منه تعالى سبق في اللوح المحفوظ، وهو ألّا يعذِّب أحداً قبل أن يُبيِّن لهم أمراً، أو نهياً ما يفعلون.
{لَمَسَّكُمْ} : اللام: لام الاختصاص (التّعليل)، والتّوكيد.
{فِيمَا أَخَذْتُمْ} : أيْ: من الفدية؛ أي: المال يوم بدر؛ لإطلاق سراح الأسرى.
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} : وهو أشد أنواع العذاب على الإطلاق، والّذي يتضمن الألم الشّديد، والمهين؛ فهذا الكتاب يعني: أنّ الله غفر لأهل بدر ذنوبَهم، وأخطاءَهم.
سورة الأنفال [8: 69]
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
بعد نزول الآية السّابقة: امتنع الصّحابة عما أخذوه من الفدية، أو المال، والغنائم، وأصبحوا في حيرة من أمرهم؛ فنزلت هذه الآية.
{فَكُلُوا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة، والتّوكيد.
{مِمَّا غَنِمْتُمْ} : من الفدية، والغنائم، مما: من: بعضية، من بعض ما غنمتم، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.
{حَلَالًا طَيِّبًا} : الحلال: ما نصَّ الشارع على حلِّه، والذي لا يتعلَّق به حقُّ الغير، والطيب الطاهر المستحسن غير النجس، أو الخبيث، وسواء أكان طيباً في الواقع، أم لا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : بطاعة أوامره، وطاعة رسوله، وتجنُّب محارمه.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : لما أخطأتم من الأسر، وأخذ الفدية، غفور رحيم: صيغة مبالغة.
{غَفُورٌ} : كثير المغفرة، يغفر الذنوب جميعاً؛ إلا الشرك، والكفر، ويغفر الذنوب مهما كثرت، وعظمت.
{رَحِيمٌ} : بكم وبعباده المؤمنين، ومن آثار رحمته: الإمهال، فلا يعجل لهم العقوبة، أو العذاب؛ لعلَّهم يتوبون.
سورة الأنفال [8: 70]
أسباب النّزول: كما روى الطبراني، والكلبي، قيل: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الّذي خرج إلى بدر قبل إسلامه مع مشركي مكة، وكان معه كمية من الذّهب الّتي كان ينوي إنفاقها على إطعام العرب أيام بدر، وبعد أن أُسر دفعها فدية لنفسه، وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أسلم، وحسن إسلامه طلب من الرسول أن يرد عليه ما أُخذ منه من فدية؛ فنزلت هذه الآية.
{قُلْ لِمَنْ فِى أَيْدِيكُم مِنَ الْأَسْرَى إِنْ} : شرطية، وتفيد الاحتمال، أو الندرة.
{يَعْلَمِ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} : أيْ: فيه الدخول في الإسلام والإيمان والإخلاص.
{يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} : من الفدية؛ أيْ: يخلفكم خيراً، مما أُخذ منكم أضعافاً مضاعفة في الدّنيا والآخرة.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} : ذنوبكم وسيئاتكم.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : ارجع إلى الآية (69) من نفس السورة.
سورة الأنفال [8: 71]
قيل: هذه الآية نزلت في أسرى بدر حين طلب بعض الأسرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بالذّهاب إلى مكة؛ لكي يحضروا له الفداء، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه خدعةً، واحتيالاً؛ لكي يطلق سراحهم حتّى يحضروا الفدية، أم هذه حيلة وخيانة للنجاة، أو يراد بهم الأسرى الذين أخذ منهم الفداء وأظهروا إسلامهم إذا عادوا إلى مكة خانوك وعادوا إلى الكفر.
{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} : وإن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشّك، وقيل: معنى إن يريدوا خيانتك: بالكفر بعد الإسلام؛ أي: الردّة بعد أن نطقوا بالشّهادة، وعادوا إلى ديارهم، وعادوا إلى الكفر، فلا تبالِ بهم.
{فَقَدْ} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط، قد: تحقيق، وتوكيد.
{خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} : أيْ: إن عادوا إلى الخيانة فسيمكنك الله منهم: بقتلهم، أو أسرهم، كما فعل ببدر، خانوا الله: بكفرهم، ونقضهم عهدهم، وعدم إيمانهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : عليم: بأيِّ خيانة يمكن أن يقوموا بها، أو عليم بنواياهم، وما تخفي صدروهم، وعليم: كثير العلم؛ صيغة مبالغة لعالم.
{حَكِيمٌ} : في تدبيره لخلقه، وما يأمرهم، ويفرض عليهم ويجازيهم عليه.
وحكيم مشتقة من الحكم؛ فهو أحكم الحاكمين، أو مشتقة من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء في تشريعه، وما يفرض من الأحكام.
سورة الأنفال [8: 72]
{إِنَّ} : للتوكيد.
هناك ملاحظة يجب الإشارة إليها، وهي إذا جاءت إنَّ في مطلع آية الجهاد، كما في هذه الآية نرى تأخير جملة في سبيل الله إلى ما بعد ذكر أموالهم وأنفسهم، وإذا لم تجئْ إن، أو تذكر في مطلع آية الجهاد؛ فإنّ ذلك يصاحبه تقديم كلمة في سبيل الله على الأموال والأنفس، وهذه الملاحظة قد تساعد حافظ القرآن.
{الَّذِينَ آمَنُوا} : آمنوا بالله، ورسوله، وما أنزل الله، وكتبه، وملائكته، واليوم الآخر.
{وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : من دار الحرب، والكفر إلى دار الإسلام إلى المدينة، وإلى الحبشة، أو غيرها، وهم المهاجرون، وتركوا أموالهم، وديارهم استجابة لله ورسوله.
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول.
{آوَوْا} : أسكنوا المهاجرين ديارهم.
{وَّنَصَرُوا} : المهاجرين على أعدائهم، آووا ونصروا: هم الأنصار.
{أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : أي: المهاجرين، والأنصار بعضهم أولياء بعض في الموالاة؛ أي: المودة، والمحبة، والمعونة، والنّصرة، وتبادل الأسرار، والنّصرة: ينصر بعضهم بعضاً.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} : خوفاً على أموالهم، وديارهم، وبقوا في مكة، لا ولاية لهم؛ أيْ: لا تولوهم حتّى يهاجروا.
{حَتَّى} : حرف غاية «نهاية الغاية» ؛ أي: متى هاجروا؛ ارجعوا إلى ولايتهم.
{وَإِنِ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والنّدرة.
{اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ} : أيْ: طلبوا منكم أن تنصروهم في الدِّين على المشركين؛ فعليكم واجب نصرتهم، ولكن بشرط:
{إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ} : عهد مؤكد. إلا: أداة استثناء؛ أي: لا تنصروا الّذين طلبوا منكم النّصرة في الدِّين على هؤلاء الّذين عاهدتم، ولا يجوز نقض العهد معهم.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : بصير بظواهر الأمور وبواطنها، بصير بما تقولون، وتفعلون.
سورة الأنفال [8: 73]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : ويجب الانتباه إلى أمر مهم: هو أن موالاة المؤمنين بعضهم لبعض أمر تشريعي شرعه الله تعالى، وكذلك عدم موالاة الكفار؛ بينما موالاة الكافرين بعضهم لبعض أمر كوني فرضته الحال، والحاجة، والمصالح الاجتماعية، وليس أمراً تشريعياً؛ أيْ: هو أمر وضعيٌّ من وضع البشر.
{إِلَّا} : إلا: أصلها: إن: الشّرطية؛ تفيد الاحتمال، لا: النّافية.
{تَفْعَلُوهُ} : ما شرع لكم من موالاة المسلمين ونصرتهم؛ أيْ: ولاية بعضكم لبعض.
{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الْأَرْضِ} : ابتلاء في الأرض، وشرٌّ، والابتلاء أشدُّ من الفتنة.
{وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} : أي: انتشار للفساد في الأرض، وانتشار الشّرك والكفر، والقتل، والتشرد، وانتصار للباطل على الحق، وفساد في الدِّين، وإهلاك للحرث، والنسل، وسفك الدّماء.
سورة الأنفال [8: 74]
هذه الآية ليست تكراراً للآية السّابقة (72)، فهذه الآية تتحدث عن ثواب، ومنزلة الّذين آمنوا وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله «المهاجرين» ، والّذين آووا ونصروا «الأنصار» إذا أطاعوا أمر الله، ووالَى بعضهم بعضاً، وطبَّقوا شرع الله.
{وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ولم يذكر بالمال، أو بالنفس ليكون شاملاً لكل من يريد أن يجاهد في سبيل الله تعالى بأي شيء كان.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، يشير إلى علو المنزلة.
{هُمُ} : تفيد التّوكيد.
{الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} : أيْ: حقاً في كمال الإيمان؛ فهم في طليعة المؤمنين مقارنة بالمؤمنين الذين لم يهاجروا.
{لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} : لهم خاصَّةً، مغفرة: تُمحَى عنهم سيئاتهم وذنوبهم.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : لا ينقطع في الجنة، رزق مبارك من دون تعب، ولا جهد، ولا مشقة.
سورة الأنفال [8: 75]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} : انظر كيف لم يحدد (من بعد) فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} ، ولم يقل: من بعد ذلك؛ لتدل على الإطلاق والعموم، وتشمل كل مؤمن آمن من بعد، ومنهم من فسر من بعد صلح الحديبية، وتأخرت هجرتهم عن الهجرة الأولى، وهؤلاء الّذين آمنوا قيل هم الّذين وصفهم الله تعالى في سورة الحشر، الآية (10):{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} .
{وَهَاجَرُوا} : إلى المدينة، والسّؤال: هل كانت هناك هجرة أخرى؟
الجواب: لا، وقيل: هجرة إلى الله في سبيل مرضاة الله؛ للجهاد في سبيله، وإعلاء كلمته، والانضمام إلى صفوف المؤمنين.
{فَأُولَئِكَ مِنكُمْ} : الفاء: للتأكيد، أولئك: اسم إشارة؛ يفيد المدح، منكم: أيها المهاجرون والأنصار، أو أيها المؤمنون.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} : أي: ذوو الأرحام الّذين تربطهم رابطة الرحم؛ أي: النّسب والدّم.
{بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} : في حقِّ الميراث؛ أيْ: في الإرث من التّوارث بالهجرة، أو الموالاة بالإيمان. ارجع إلى سورة الأحزاب، آية (6)؛ لمزيد من البيان.
{فِى كِتَابِ اللَّهِ} : في اللوح المحفوظ، وفي القرآن، أو في حكم الله.
{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.
{بِكُلِّ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد.
{شَىْءٍ عَلِيمٌ} : بكل ما شرعه لكم من الأحكام في علم المواريث، وعليم بما تفعلونه في قسمة الميراث، وما تحلُّونه، وما تحرِّمونه في التّوارث. وعليم بالهجرة، أو الجهاد، والموالاة، وكلِّ ما تقومون به من قولٍ أو فعلٍ.
سورة التوبة [9: 1]
سورة التوبة
سورة التّوبة [الآيات 1 - 6]
ترتيبها في القرآن (9)، وترتيبها في النزول (113).
تسميتها: لقوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ} ، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} ، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} .
وسورة براءة؛ لقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وعن ابن عباس قال: إنها الفاضحة.
وهي السّورة الوحيدة في القرآن الّتي لم تبدأ بـ: بسم الله الرّحمن الرّحيم، وقيل في أسباب عدم ذكر التسمية، وهو أمر توقيفي:
1 -
أنّ بسم الله الرّحمن الرّحيم؛ تعني: الأمان، والرّحمة، وبراءة تنافي الرّحمة، والأمان، كما قال ابن عباس، وجاء في تفسير الرازي.
2 -
أنّ سورة الأنفال، وسورة التّوبة واحدة؛ لأن سورة التوبة متممة لسورة الأنفال؛ فسورة الأنفال ذكر فيها العهود، وبراءة نقضها.
نزلت سورة التّوبة في السنة التاسعة من الهجرة، وهي السّنة الّتي حدثت فيها غزوة تبوك، وهي آخر غزوات الرّسول صلى الله عليه وسلم.
ترتيب نزولها هي السّورة (113) في ترتيب نزول السّور، وسور القرآن (114)، نزلت قبل سورة النّصر:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الّتي هي آخر سورة نزلت، كما قال ابن عبّاس في «صحيح مسلم» .
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : أيْ: هذه براءة من الله ورسوله.
أو {بَرَاءَةٌ} : بالتّنوين: مصدر لفعل برأ يبرأ، والتّنوين، أو المجيء، أو البدء بالمصدر: للتفخيم.
{مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : لزيادة التّفخيم، والتّهويل؛ من الله ورسوله، ولم يقل: من الله، ومن رسوله؛ لأنّ براءة الله، وبراءة رسوله هي واحدة، نفس البراءة.
و {بَرَاءَةٌ} من برئ؛ أيْ: سَلِم، أو تخلى، أو قطع من العيب، أو الدّين، أو الحماية، أو العهد، أو لم يبق ثمة علاقة، أو صلة، أو عهد مع المشركين؛ أيْ: هذا أمر من الله ورسوله بقطع، ونبذ عهود الموالاة للمشركين؛ الّذين عاهدتم منهم.
والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بالتّخلي عن كلّ العهود المبرمة مع المشركين؛ مثل: قبائل خزاعة، وبني مدلج، وبني خزيمة، وغيرهم.
وسبب هذه البراءة؛ لأنّ المشركين لم يوفوا بما عاهدوا عليه المؤمنين، فجاء الأمر الرّباني بنقض العهد معهم.
و {عَاهَدْتُمْ} : من العهد، والمعاهدة: عقد العهد بين طرفين التزم كلٌّ منهما بقبول شروط العقد، وكانت العهود توثق بوضع كلّ طرف يده اليمنى بيمين الآخر، ولذلك سمِّيت أيماناً. ارجع إلى الآية (27) من سورة البقرة؛ للبيان.
سورة التوبة [9: 2]
{فَسِيحُوا فِى الْأَرْضِ} : فسيحوا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، سيحوا في الأرض أربعة أشهر: أيْ: سيروا في الأرض بحرية آمنين أربعة أشهر دون قتال؛ فمن كان له عهد أقل من أربعة أشهر؛ فأجله إلى مدته، ومن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر فأجله أربعة أشهر، ولا أمان، ولا حرية بعدها.
{فَسِيحُوا} : من السّياحة، والسّياحة في الأصل: جريان الماء، كما تمليه الطّبيعة، ثم استعملت في السّير، وسبب هذه الأربعة أشهر حتّى لا يُنسب إلى المسلمين الغدر، أو نبذ العهد دون إعلان، أو إنذار.
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} : تبدأ من قراءة علي رضي الله عنه لهم هذا الإنذار في منى من السّنة التّاسعة للهجرة، وكان معه أبو بكر رضي الله عنه .
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ} : أنكم: تفيد التّوكيد. غير معجزي الله: بالهرب، أو التّحصُّن، أو الخفاء بعد هذه المهلة؛ أيْ: لا تفوتونه.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ} : وأنّ: للتوكيد، مخزي: من الخزي: وهو الذّل، والفضيحة في الدّنيا، والآخرة، سواء أكان ذلك بالقتل، والتّشريد، أم العذاب بالبأساء، والضّراء في الدّنيا، وفي الآخرة بعذاب النّار.
سورة التوبة [9: 3]
{وَأَذَانٌ} : أيْ: إعلام، أو بلاغ من الله، ورسوله: وهو ما قرأه علي رضي الله عنه عليهم في منى، وأذان: مصدر أذن.
{إِلَى النَّاسِ} : جميعاً من عاهد، أو لم يعاهد، ومن نكث، أو لم ينكث بعهده.
{يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} : وسمِّي الحجَّ الأكبرَ؛ لأنّه الحج الوحيد الّذي اجتمع فيه الكفار، والمؤمنون معاً، وبعدها لم يسمح لهم بالاقتراب من المسجد الحرام، وقد يكون لتسمية الحج الأكبر أسباب أخرى؛ منها: كون يوم عرفة كان يوم الجمعة، أو الحج الأكبر؛ لأنّه كان حج قران (عمرة، وحج معاً).
{أَنَّ اللَّهَ بَرِاءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} : أنّ: للتوكيد، الله بريء من المشركين ورسوله: هذا هو نص الأذان، وهنا يجب الانتباه إلى أمرين:
الأوّل: قولُهُ: ورسولُهُ: بالضّم، ولو جاءت بالفتح: ورسولَهُ: لكان ذلك يعني: أنّ الله بريء من المشركين، وبريء من رسوله، وهذا خطأ فاحش.
والأمر الثّاني: لو عطف بالرّفع، وقال: أنّ الله بريء من المشركين، ورسولَه: لكانت براءة الرّسول بمنزلة براءة الله، وهذا غير صحيح؛ لأنّ براءة الرّسول صلى الله عليه وسلم تابعة لبراءة الله، ولذلك عطف بالرّفع على منصوب؛ ليفيد كلا المعنيين.
فإن: الفاء: للتوكيد، إنّ: شرطية تفيد الاحتمال.
{تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} : رغم الإعلام بالبراءة، وإمهاله أربعة أشهر لا يغلق الله سبحانه باب رحمته أبداً بالتّوبة؛ فإن تبتم من الكفر، والغدر، ونقض العهود؛ فهو أفضل لكم وخيرٌ.
{وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} : وإن: شرطية؛ تفيد النّدرة، والقلة.
{تَوَلَّيْتُمْ} : عن التّوبة، أو الوفاء، بالعهود، وامتثال أوامر الله ورسوله.
{فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ} : اعلموا علم اليقين.
{غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ} : فائتين (ناجين) من عقابه، وعذابه.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : البشارة عادة هي الإعلام بخبر سار لأول مرة، ولكن استعملت هنا: للتهكم، والتقريع بهم، بدلاً من القول، وأنذر؛ قال وبشر بعذاب أليم، لا يستطيع أحد على تحمله.
سورة التوبة [9: 4]
{إِلَّا} : أداة استثناء؛ أيْ: يستثنى من هذا الإنذار، والإعلام الأربعة أشهر.
{الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْـئًا} : أي: الّذين لم ينقضوا عهدهم معكم، أو لم ينقضوا من بنود العهد شيئاً.
{شَيْـئًا} : نكرة؛ أيْ: لم يقتلوا منكم أحداً، ولم ينقصوكم من الممتلكات شيئاً؛ بالاستيلاء على أموالكم، أو التّعرض لتجارتكم، ولم تبدر منهم أيُّ خيانة أمثال بني بكر، وبني ضمرة.
{وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} : أيْ: لم يُعينوا عليكم أحداً، يظاهروا: اشتقت من رفع الحمل على الظّهر، ولكي ترفعه على الظّهر تحتاج إلى من يساعد على رفعه.
{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} : أيْ: أتموا العهد إلى مدته مهما طالت، والوفاء بالعهد من فرائض الإسلام، والفاء: للمباشرة، والتّوكيد.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} : جاء بكلمة المتقين؛ لأنّ من يوفي بالعهد هو من المتقين، والمتقين الّذين امتثلوا لأوامر الله تعالى، وقالوا: سمعنا، وأطعنا، وتجنَّبوا نواهيه.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد، يحب المتقين، وجاءت كجملة اسمية؛ لتدل على ثبوت صفة الوفاء بالعهد، والتّقوى.
سورة التوبة [9: 5]
{فَإِذَا} : الفاء: عاطفة، إذا: شرطية؛ تفيد حتمية الحدوث.
{انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} : انسلخ: انقضت وانتهت، وخرجت الأشهر الحرم؛ أيْ: أشهر الأمان الأربعة الّتي أبيح فيها للمشركين الّذين نقضوا عهدهم أن يسيحوا في الأرض بأمان، وشبه انقضاء الأشهر الأربعة بما يقوم به الجزار بسلخ الجلد عن الحيوان المذبوح، وقال تعالى: انسلخ، ولم يقل: انسلخت؛ ذكر الفعل، والتّذكير يدل على جمع القلَّة.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} : فاقتلوا المشركين الّذين نكثوا عهدهم.
{حَيْثُ} : ظرف مكان، وجدتموهم؛ أيْ: في أيِّ مكان في الحلِّ، والحرم.
{وَخُذُوهُمْ} : أيْ: أسرى إذا تعذَّر قتلهم.
{وَاحْصُرُوهُمْ} : أي: احبسوهم، والحصر؛ يعني: قيِّدوا حركاتهم، (ويكون بالسجن).
{وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} : أي: ارصدوا حركاتهم؛ أيْ: راقبوها حتّى تأمنوا مكرهم، وأفعالهم، وأقوالهم. كلّ: تفيد التّوكيد؛ أيْ: لا يغيبوا عن أعينكم، والمرصد: هو الموضع الّذي يرَاقب فيه العدو.
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : ثم بعد الأخذ، والحصر، والرّصد لا زال باب التّوبة مفتوح لهم؛ لأن الله سبحانه غفور رحيم بعباده.
{فَإِنْ تَابُوا} : الفاء: للتعقيب، تابوا من الكفر، ومعاداة المسلمين، ودخلوا الإسلام، وأعلنوا الشّهادة.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : أدوا الصّلاة الّتي هي عماد الدّين، بجميع أركانها، وشروطها، وأوقاتها، والمحافظة عليها، ودوامها.
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} : الّتي تحقق التّكافل الاجتماعي. ارجع إلى الآية (43) من سورة البقرة؛ للبيان.
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} : أطلقوا سراحهم، واتركوهم وشأنهم.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : إنّ: تفيد التّوكيد بغفور رحيم.
{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة كثير المغفرة، وتعني: ستر الذنب، وترك العقاب، يغفر الذنوب مهما كثرت، وعظمت؛ إلا الشرك، والكفر.
{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة من الرحمة؛ رحيم بعباده المؤمنين، لا يعجل لهم العقاب؛ لعلهم يتوبون.
سورة التوبة [9: 6]
{وَإِنْ} : الواو: استئنافية، إن: شرطية؛ تفيد قلة الحدوث، أو النّدرة.
{اسْتَجَارَكَ} : طلب الحماية من أجاره تكفل بحمايته، استجارك: الألف، والسين، والتّاء؛ تعني: الطّلب، طلب جوارك؛ أيْ: حمايتك، واستأمنك من القتل فأجره.
{فَأَجِرْهُ} : أيْ: أزل عنه الجور، وأمنه، واحميه.
{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} : حتّى: حرف غاية، ويفيد منتهى الغاية؛ حتّى يسمع كلام الله؛ أي: القرآن، ويطلع عليه، ويفكر فيه، ويتدبره، أو حتّى يتوب، أو يعلن الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
{ثُمَّ} : للترتيب، والتّراخي، أبلغه مأمنه، وبما أنه طلب منك الحماية؛ فخذه إلى مكان آمن، أو مسكنه، أو دار قومه، أو أين ما يطلب منك.
{ذَلِكَ} : التّكفل بحمايته، وأمنه.
{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} : الباء: للتعليل، وللتوكيد، أو للسببية؛ بسبب أنّهم لا يعلمون، قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام، ولا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
سورة التّوبة [الآيات 7 - 12]
سورة التوبة [9: 7]
{كَيْفَ} : للاستفهام، والاستبعاد، والتّعجب، استبعاد ثبات المشركين على أيِّ عهد يصدر عنهم، والعهد: تعريفه كما بينا في الآية (1) من سورة التّوبة، وآية (27) من سورة البقرة.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} : كيف يكون؟ الجواب: لا يكون، أو لا عهد لهم.
وعهد جاءت بصيغة النّكرة للتعظيم؛ أيْ: مهما كان نوعه صغيراً، أو كبيراً، أو مع أيِّ طرف.
{لِلْمُشْرِكِينَ} : اللام: لام الاختصاص.
{عِنْدَ اللَّهِ} : ظرف زمان، ومكان؛ أيْ: لا عهد لهم عند الله، ولا عند رسوله، وتكرار عند: للتوكيد، وكلاً على حدة؛ أيْ: لا عهد لهم عند الله، ولا عند رسوله، ولا كلاهما معاً.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : إلا: أداة استثناء، عاهدتم عند المسجد الحرام. قيل: هم بنو بكر، وبنو ضمرة، وهم المستثنون من قبل في الآية (4) من سورة التّوبة.
{عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أيْ: قرب المسجد الحرام.
{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} : ما: شرطية، أو مصدرية.
{اسْتَقَامُوا لَكُمْ} : أيْ: حافظوا على عهدهم، ولم ينقضوه.
{فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} : أيْ: وأنتم حافظوا على عهدكم إليهم، ولا تنقضوه، والفاء: للمباشرة والتّوكيد.
{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.
{يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} : الّذين يوفون بعهدهم إذا عاهدوا؛ الّذين أطاعوا أومر الله، وتجنبوا نواهيه، وتكرار إنّ الله يحب المتقين: يؤكد حبه للمتقين الّذين من بين صفاتهم الثّابتة: الوفاء بالعهد، والتّقوى، المتقين: جملة اسمية تدل على الثّبوت، بثبوتهم على التقوى، والاستقامة.
سورة التوبة [9: 8]
{كَيْفَ} : للاستفهام، والاستبعاد، والتّعجب من أن يكون لهم عهد، وحذف الفعل، ولم يكرِّره مرة أخرى؛ لأنّه أصبح معلوماً.
{وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} : إن: شرطية.
{يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} : أيْ: يتمكنوا منكم، أو تكون لهم قوة، أو يجدوا من يظاهرهم عليكم فعندها:
{لَا يَرْقُبُوا} : لا: النّافية، يرقبوا: من الرّقيب، الرّقابة: تعني: الحراسة، والمراقب الحارس؛ أيْ: لا يحافظوا على عهد، ولا قرابة، ولا جوار، ولا حلف، ولا قسم، ولا أمانة.
{فِيكُمْ} : في: ظرفية زمانية ومكانيه؛ أيْ: لا يرقبوا في أيِّ زمان، ولا مكان.
{إِلًّا} : الإل: الحلف، أو اليمين، أو العهد، أو القرابة، والجوار.
{وَلَا ذِمَّةً} : الذّمة: الأمانة، أو حقاً؛ أي: الوفاء بالأمانة الّتي ليس عليها شهود، أو كتابة، أو يؤدِّي حقاً لأهله.
{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} : أيْ: يظهرون لكم الكلام الحسن الجميل، والنون في يرضونكم: بدلاً من يرضوكم للتوكيد؛ أيْ: مجرد كلام، أو لغو لا قيمة لما يقولون.
{وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} : الإيفاء بالعهد، أو تأبى قلوبهم إلا الغدر، ونكث العهد، والخيانة.
{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} : وأكثرهم خارجون عن طاعة الله، ورسوله، وعن دِين الإسلام، كاذبون، وناقضون للعهد، والميثاق.
سورة التوبة [9: 9]
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ} : اشترى: أخذ المادة المشتراة، ودفع الثّمن؛ أيْ: أخذوا الثّمن القليل (المال، أو الجاه)، ودفعوا الثّمن آيات الله (أيْ: إيمانهم)؛ لأنهم امتنعوا عن الاستماع إلى آيات الله (آيات القرآن)، ولذلك لم يؤمنوا فخسروا إيمانهم، ولو استمعوا؛ لآمنوا.
أسباب نزول هذه الآية: روي أنّ أبا سفيان كان يجمع الأعراب بين الحين والآخر على طعامه؛ ليكونوا في حِلفِه.
في هذه الآية يقول الحق سبحانه: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
وفي الآية (77) من سورة آل عمران يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
وفي الآية (177) من سورة آل عمران: {اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} .
إذن: هم اشتروا المال، والكفر، ودفعوا آيات الله، أو عهد الله وأيمانهم ثمناً لذلك.
{ثَمَنًا قَلِيلًا} : وصف الثّمن بالقليل؛ لأن ليس هناك ما يساوي، أو أفضل من ثمن النّجاة من النّار، والفوز بالجنة؛ فمهما أخذوا من أموال طائلة؛ تبقى قليلة مقابل ما خسروا.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} : صدوا أنفسهم عن دين الإسلام، والإيمان، وصدوا غيرهم؛ أيْ: منعوهم من الدّخول في دين الإسلام، أو منعوا غيرهم من الوفاء بالعهد، أو منعوهم من طاعة الله، والتّقرب إليه بشتى الوسائل: بالتّعذيب، والاضطهاد، أو الرّشوة، ومنعهم من الاستماع إلى القرآن، واللغو حين تلاوته؛ حتّى لا يفهم منه شيئاً، أو يمنعون النّاس من الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّهُمْ سَاءَ} : للتوكيد، ساء: قبح، وساء من أفعال الذّم، وتعني: كذلك بئس.
{مَا} : اسم موصول، أو مصدرية؛ أيْ: بئس وقبح الّذي، أو بئس العمل عملهم.
{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : يعملون: تضم الأقوال، والأفعال؛ أيْ: ساء، أو بئس ما يقولون، أو يفعلون.
سورة التوبة [9: 10]
{لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} :
{لَا يَرْقُبُونَ} : لا: النّافية، يرقبون: من راقب؛ أيْ: حافظ، والمراقب الحارس الّذي يحرس الأشياء، لا يرقبون: لا يحافظون، ولا يراعون عهداً، أو أمانة مع أيِّ مؤمن، والفاعل هنا كفار مكة، ومَن حولهم من الأعراب، والمنافقين، واليهود.
{فِى} : ظرفية زمانية ومكانية.
{مُؤْمِنٍ} : أيِّ مؤمن.
{إِلًّا} : الإل العهد، وقيل: القرابة، أو الجوار، أو اليمين، والقسم.
{وَلَا ذِمَّةً} : ولا حق، ولا أمانة، وتكرار (لا) تفيد التّوكيد، وفصل كلّ من الإل والذّمة؛ فهم لا يرقبون لا الإل لوحده، أو الذّمة لوحدها، أو كلاهما.
{وَأُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد؛ يفيد الذم.
{هُمُ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.
{الْمُعْتَدُونَ} : جمع معتدٍّ؛ أيْ: هم المعتدون. المعتدي: هو من تجاوز الحد في الظّلم، ظلم الغير، حقاً من بين كلّ الأعداء؛ أيْ: هم في طليعة الأعداء، والمعتدون: جملة اسمية؛ تعني: أنّ صفة الاعتداء أصبحت عندهم ثابتة، لا تتغيَّر.
سورة التوبة [9: 11]
هذه الآية تؤكد لنا: أنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأنّ باب التّوبة مفتوح.
{فَإِنْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب. إن: شرطية، ولم يقل: فإذا تابوا؛ استعمال (إنْ): يدل على الاحتمال، والشّك، وقلة الحدوث، ولو استعمل فإذا تابوا: لدلَّ على حتمية الحدوث، وأن توبتهم مؤكَّدة.
{فَإِخْوَانُكُمْ} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ تفيد التّوكيد.
{فِى} : ظرفية {الدِّينِ} ، الإخوة نوعين: إخوة النّسب والدّم، وهناك الإخوة في الدّين والعقيدة، وشاء الله أن يرفع الإيمان إلى مرتبة النّسب؛ فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، فما دام قد دخلوا معنا في الإيمان؛ فأصبح لهم حق إخوة النّسب في التّواد، والتّراحم، بل جعل إخوة الدّين أهم من إخوة الدّم، والنّسب.
{وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : نفصل؛ أيْ: نأتي بالآيات بأشكال وألوان متعدِّدة، ومواضيع مختلفة؛ لكي يتعلم النّاس، ويفقهوا أمور دينهم، واللام في لقوم: لام الاختصاص؛ أيْ: نفصل هذه الآيات لقوم يعلمون؛ أي: يتفكرون أولاً، ثم يتدبرون، ثم يفقهون، ثم يعلمون ما في الآيات من أحكام ومواعظ وأسرار.
سورة التوبة [9: 12]
{وَإِنْ} : الواو: عاطفة، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم} : نقضوا أيمانهم، وعهودهم، وإن نكثوا أيمانهم: هذا القول يثبت أنّ لهم أيمان، ولكن حين قال بعدها لا أيمان لهم؛ نفى عنهم الأيمان أصلاً.
{مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} : للتوكيد، ومن: تعني بعد الزّمن القصير مما يدل على أيمانهم لا تطول.
{وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ} : الطّعن في الدِّين: أن يعاب، ويعني: السّب، والشّتم، والإساءة بالقول، والفعل، وأنّ الدِّين ناقص، وغير كامل، وأصل الطّعن: طعن الجسم بالآلة الحادة؛ كالسكين، أو الرّمح؛ لإفساده، أو طعنوا الرّسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة بسبب إيمانهم.
{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} : فقاتلوا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والتّوكيد، أئمّة الكفر: زعماء الكفر، وقادته؛ أيْ: رؤساء المشركين، وقادتهم.
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.
{لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} : لا: النّافية للجنس، أيمان: عهود لهم صادقة، وقيل: لا أمان لهم؛ أيْ: بطل أمانهم؛ لأنّهم نقضوا عهدهم.
{لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} : لعل: للتعليل، ينتهون؛ أيْ: لينتهوا بأنفسهم عن نقضهم الأيمان، والطّعن في الدِّين، ومحاربة الإسلام، أو لعلَّ قتالكم لهم يُنهي كلّ ذلك.
سورة التوبة [9: 13]
{أَلَا} : أداة حضٍّ، وحثٍّ على القتال.
{تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} : نقضوا عهودهم؛ مثل: نقض عهد الحديبية
…
وغيره.
{وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} : هموا: عقدوا، وعزموا النّية على إخراجه من مكة؛ حين اجتمعوا في دار النّدوة.
{وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : بدؤوا بالعداوة، ومحاربتكم، والصّد عن الإسلام من أوّل ما بدأ صلى الله عليه وسلم يدعو النّاس إليه، أو بدؤوكم بنقض العهود بالقتال يوم بدر، أو في غيره من المواقع.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتفيد النّفي؛ أيْ: لا تخشوهم؛ أيْ: لا يصح أن تخشوهم، أو تخافوهم، أو ما الّذي يمنعكم من قتالهم؛ إلا أن تكونوا خائفين منهم، أو تخافون أن يغلبوكم، أو ينالكم منهم مكروه، وهنا أنتم أمام حالين: إما أن تخشوهم، أو تخشوا الله سبحانه، والله سبحانه هو أحق بالخشية؛ لأنه هو الأشد، والأعظم، والمؤمن لا يخشى إلا ربه وحده.
{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : بالله حقاً؛ فعليكم بقتالهم، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك؛ فإما الشّهادة في سبيل الله، وإما النّصر.
سورة التّوبة [الآيات 14 - 20]
سورة التوبة [9: 14]
{قَاتِلُوهُمْ} : تكرار؛ للحضِّ، والتّرغيب، والتّوكيد، وأن القتال مطلوب منكم، ولو قال: إن تقاتلوهم؛ فيدل على أن القتال غير مؤكَّد عليكم، ثمّ يبيِّن الله -جل وعلا- الحكمة من الأمر بالقتال؛ فيقول:
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} : والسّؤال: لماذا اختار أن يعذب المشركين، وكفار مكة بأيدي المؤمنين، وليس بعذابٍ من عنده: بأن ينزل عليهم آية، وينتهي الأمر؟! ولا داعي للقتال، لو حدث ذلك، وأنزل الله عليهم آية من السّماء؛ لما تغيَّرت نظرة كفار مكة بالنّسبة للمؤمنين ـ ولكونهم لا يؤمنون بالله ـ إذن: لن تتغيَّر حالتهم الإيمانية، ولو كانوا آمنوا من قبل؛ لانتهت المسألة، وما قالوا؛ هذا حدث كوني قد مسَّ آباءنا البأساء والضّراء مثل هذا من قبل، فأراد الله سبحانه أن يُري الكفار بأس الفئة القليلة الّتي غلبت فئة كثيرة، ولعلَّ ذلك يردعهم؛ فلا تحدثهم أنفسهم بقتال المؤمنين في المستقبل.
{وَيُخْزِهِمْ} : يذلهم، ويفضحهم، والخزي فيه عذاب نفسي، وفضيحة أمام النّاس.
{وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} : بالقوة، والعدة، والسّلاح.
{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} : قيل: هؤلاء القوم: هم خزاعة؛ قدموا من اليمن، وسبأ إلى مكة؛ فأسلموا، وكانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجهوا، ولقوا من أهل مكة أذىً شديداً، وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فبشرهم بالفرج القريب، وكان ذلك في بدر.
سورة التوبة [9: 15]
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ} : الغم والهيجان الّذي أصاب قلوب المؤمنين أمثال: خزاعة وغيرهم من أفعال المشركين من قريش، وبني بكر من الظّلم، والإيذاء، والغدر بخزاعة.
والغيظ: هو غضب كامن في نفس العاجز عن الثأر، والانتقام، أو التشفي، وهو نوع من الغم، أو مرحلة من مراحل الغضب، وهو أشد من الغضب، وقيل: مراحل الغضب هي: السخط، ثم الغضب، ثم الغيظ، ثم الحرد، ثم الحنق، ثم الاختلاط.
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} : هذا إخبار من الله بأن بعض أهل مكة سيتوبون من بعد كفرهم، وقد كان ذلك حين أسلم بعض منهم، وحسن إسلامهم؛ مثل: أبي سفيان، وعكرمة
…
وغيرهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : بنيات كل فرد، وما يقولون، وما يفعلون، وما يدبرون، وما كان، وما سيكون من توبة بعض المشركين.
{حَكِيمٌ} : الحاكم، وذو الحكمة: وهي تدبير أمر خلقه، وكونه بحكمته.
حكيم: مشتقة من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء، وحكيم: مشتقة من الحكم؛ فهو أحكم الحاكمين.
لنقارن الآيتين (15، و27) من سورة التّوبة.
الآية (15) من التّوبة، يقول تعالى:{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
جاءت في سياق كفار مكة، وما فعلوه برسول الله من التّضييق، والعمل على إخراجه من مكة، فأمر الله بقتالهم، وخزيهم، ثمّ يتوب الله على من يشاء؛ أيْ: من أسلم منهم بعد ما فعل ما فعل من العدوان، والصّد عن سبيل الله؛ فقال:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؛ عليم: بما جرى، وحكيم: فيما يقدر.
أما الآية (27) من التّوبة: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : فجاءت في سياق ما جرى يوم حنين من تولِّي المسلمين، والهزيمة في بداية معركة حنين؛ حيث أعجبتهم كثرتهم، وفاجأهم العدو رغم أنهم كانوا (12) ألفاً، والعدو (4) آلاف؛ فهؤلاء فروا، ثمّ عادوا، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وقع منهم من خطأ فالله غفره لهم، ولذلك قال:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
سورة التوبة [9: 16]
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي؛ «أم المنقطعة» ، والهمزة: للاستفهام الإنكاري.
{حَسِبْتُمْ} : من الحسبان: وهو الظّن الرّاجح؛ أي: اعتقدتم، وهو حساب حسي وحساب قلبي قائم على النّظر، والتّجربة والحساب، والمخاطب: هم المؤمنون.
{أَنْ} : أن حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.
{تُتْرَكُوا} : من دون ابتلاء، وتمحيص، أو لا تصيبكم فتنة، والابتلاء: يكون في الخير، أو الشر، وهذا الابتلاء، والاختبار فائدته:
1 -
معرفة الّذين جاهدوا منكم، وصدق نواياهم للجهاد، أم فقط كذب، وادِّعاء، وبطر، ورياء.
2 -
معرفة من يتخذ وليجة من دون الله، ولا رسوله، ولا المؤمنين، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} .
وقوله سبحانه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} : لما: حرف نفي.
سبحانه يقوم بهذا الابتلاء، أو الاختبار لهؤلاء، لا ليعلم نفسه سبحانه صدق جهادهم، أو تجسسهم؛ فهو يعلم منذ الأزل ذلك، ولكن قيامه بالابتلاء والاختبار هو ليبيِّن لهم صدقهم، أو كذبهم يوم القيامة، ويقيم الحجج عليهم، أو لهم؛ فهو اختبار للعبد؛ لكي يعرف نفسه فيما إذا كان صادقاً، أم كاذباً؛ فقد يأتي يوم القيامة فيقول: لولا اختبرتني بكذا الفعلة؛ فهو اختبار للعبد نفسه.
{وَلِيجَةً} : بطانة من الكفار؛ ليفشوا إليهم أسرار المؤمنين؛ أيْ: يتخذوهم أصدقاء يتداخلون فيهم، أو معهم؛ ليعرفوا أسرارهم.
وليجة: من الولوج؛ دخول شيء بشيء من {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} : أيْ: هناك من اتخذوا من غير الله، وغير رسوله، وغير المؤمنين أصدقاء يسرون إليهم بالمودة، وبأخبار المؤمنين.
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : خبير عليم ببواطن الأمور، وبأعمال العباد، ودقائقها. وقدم خبير؛ لأن السياق في النوايا، والأسرار، وهذه أفعال لا يعلمها إلا الله تعالى.
سورة التوبة [9: 17]
{مَا} : النّافية.
{كَانَ} : أيْ: ما كان ينبغي، وليس معقولاً، أو مقبولاً، أو يصح للمشركين. اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد؛ أن يعمروا مساجد الله.
{يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} : العمارة نوعين: حسية؛ تعني: التّشييد، والبناء، والتّرميم والإعداد.
والعمارة المعنوية: القدوم إلى المسجد، والصّلاة، والذّكر، والاعتكاف، والعبادة.
{أَنْ} : حرف مصدري؛ يعني: التّوكيد للمشرك.
إذن لا يُعقل، أو يصح أن يبني المشركون مسجداً لله، أو يأتوا إليه، ويعمروه بالعبادة؛ لأنّ ذلك يصبح شاهداً عليهم بالكفر؛ إضافة إلى الشّهود الآخرين.
أو {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} : بما يقولونه؛ أيْ: بكلامهم الّذي لا يطابق أفعالهم.
{مَسَاجِدَ اللَّهِ} : جمع مسجد، ومسجد اسم جنس، ومساجد الله تشمل كلّ مسجد بما فيها المسجد الحرام.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت وذهبت أجورها بلا فائدة؛ بسبب شركهم، وكفرهم.
{حَبِطَتْ} : مشتقة من مرض الحبط الّذي يصيب الماشية؛ فتصاب بانتفاخ البطن، أو الحبن، ويُظن أنها سمينة، أو نمت وهي في الحقيقة مريضة، ومتورِّمة، وما نراه هو ليس لحماً، أو شحماً، وإنّما تورُّم مرضيٌّ، ثمّ تموت الماشية، ولا يستفاد منها بشيء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)؛ لمزيد من البيان.
{وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} : قدَّم الجار والمجرور للحصر والقصر.
{هُمْ} : ضمير يفيد التّوكيد.
{خَالِدُونَ} : من الخلود، وهو استمرار البقاء من وقت له بداية، وليس له نهاية.
سورة التوبة [9: 18]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} : بالبناء، والتّشييد، والصّيانة، والإعداد، وبالعبادة، والذّكر، والقدوم إليها، وإقامة العلم. ارجع إلى سورة الجن آية (18) لبيان معنى:(مساجد الله).
{مَنْ} : ابتدائية.
{آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (8) للبيان.
{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} : وهي عماد الدِّين إقامتها بأركانها، وشروطها، وأوقاتها، والمحافظة عليها.
{وَآتَى الزَّكَاةَ} : ارجع إلى الآية (43) من سورة البقرة.
{وَلَمْ} : للنفي.
{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} : والخشية: هي الخوف مع شعور بعظمة الخالق، والعلم به (معرفته).
{وَلَمْ} : أداة حصر، وقصد.
{فَعَسَى أُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد. أولئك: اسم إشارة، واللام: للبعد، والمدح.
عسى: من أفعال الرجاء.
{أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} : أن: تدل على الاستقبال. من المهتدين إلى طريق الحق، والصّواب، والإسلام، والطريق المستقيم المؤدِّي إلى الجنة.
سورة التوبة [9: 19]
سبب النّزول: كما روي عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أسرى بدر، ومنهم: العباس بن عبد المطلب؛ فبعد الأسر تحدث إليهم بعض الصّحابة، ودعوهم للإسلام، والجهاد في سبيل الله، فأجابوهم أنا كنا نسقي الحجيج، ونعمر المسجد الحرام، ونفكُّ العاني، وكذلك كانوا يفتخرون بأنّهم أهل الحرم، ويقومون على السّقاية، وسدنة البيت، ويعتبرون ذلك أفضل من الإيمان، والجهاد؛ فنزلت هذه الآية. ذكره الواحدي في أسباب النزول.
{أَجَعَلْتُمْ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري، والتعجبي.
{سِقَايَةَ الْحَاجِّ} : سقي الحجيج بالماء.
والسّقاية في اللغة: موضع السّقي المكان الّذي يشرب منه النّاس؛ مثل: السّبيل، والسّقاية: هي إناء السّقي، أو المهنة مهنة السّقي.
{وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : بنائه، وصيانة وسدانة البيت.
{كَمَنْ} : الكاف: للتشبيه.
{آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية (8) من سورة البقرة؛ للبيان، والجهاد في سبيل الله. ارجع إلى سورة الحج آية (39) للبيان المفصل.
{لَا يَسْتَوُنَ عِنْدَ اللَّهِ} : لا: النّافية، لا يستوون في الدّرجة، والفضل.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : الظّالمين: جمع ظالم: وهو الّذي اختار لنفسه طريق الضّلال، والغواية، واتبع هواه، والشّيطان، وازداد ظلماً، وبعداً عن خالقه، ولم يتب، ولم يطلب من الله العون، ولم يقدم الأسباب للهداية؛ فالله سبحانه لا يهديه، ويتركه لنفسه، وهواه.
سورة التوبة [9: 20]
هذا التّصنيف إذا قابلناه بالتّصنيف في سورة الأنفال، الآية (74).
نجد أنّ تصنيف آية الأنفال كان تصنيفاً بعد الهجرة مباشرة، أمّا التّصنيف في آية التّوبة فجاء بعد سنوات من الهجرة.
{أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} : من الّذين افتخروا بسقاية الحج، وعمارة المسجد الحرام.
{وَأُولَئِكَ هُمُ} : أولئك: اسم إشارة للبعيد؛ يفيد المدح، والتّعظيم، وهم: ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.
{الْفَائِزُونَ} : تفيد كمال فوزهم؛ أي: الفائزون حقاً، وإن كان غيرهم من بين الفائزين.
وإذا قارنا هذه الآية من سورة التّوبة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} .
مع الآية (72) من سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} .
في آية التّوبة: قدَّم في سبيل الله على أموالهم وأنفسهم؛ لأنّ السياق سياق الآيات في الجهاد، وأهم شيء في الجهاد أن يكون في سبيل الله.
وفي آية الأنفال: قدَّم الأموال والأنفس على سبيل الله؛ لأنّ السّياق كان في الغنائم؛ أي: الأنفال، ولذلك قدَّم الأموال على سبيل الله.
وهناك ملاحظة أخرى:
مجيء إنَّ: فإذا ذكرت إنّ في بداية آية الجهاد: نرى دائماً تقديم أموالهم، وأنفسهم على جملة في سبيل الله. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (72)؛ للمقارنة.
للنظر:
آية الأنفال (72): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} .
آية التوبة (20): {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} .
سورة التّوبة [الآيات 21 - 26]
سورة التوبة [9: 21]
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} :
الّذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله؛ يبشرهم ربهم برحمة منه.
{يُبَشِّرُهُمْ} : من البشارة؛ يخبرهم ربهم بخبر سار. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ لبيان معنى البشارة.
{بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} : الباء: للإلصاق، والاهتمام، والرّحمة: هنا تعني النّجاة من النّار، والفوز بالجنة، وهي أكبر رحمة.
{مِّنْهُ} : تعني: رحمة عامة، ولم يقل من لدنه؛ فهذا يدل على رحمة خاصَّة، والرحمة تعريفها: تعني جلب ما يسر، ودفع ما يضر.
{وَرِضْوَانٍ} : من الرّضا: وهو سرور واطمئنان القلب إلى أمر فيه نفع، صيغة مبالغة، على وزن فعلان؛ أيْ: كثير الرّضا، ورضوان مشتقة من رضا الله عن العبد، وهو أكبر من الجنة، وما فيها، وهو أفضل الجزاء.
فالجنّة: هي الجزاء المادي، ورضوان الله هو الجزاء الرّوحي المعنوي، ومن ثمراته الزّيادة، وهي رؤية الله -جل وعلا- ؛ لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].
{وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق، جنات الفردوس، والنّعيم، وجنات عدن، وجنات المأوى، ودار السّلام.
{فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} : دائم لا يزول، ولا يحول.
سورة التوبة [9: 22]
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} :
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود: هو البقاء، والاستمرار من بداية؛ أيْ: له بداية، وليس له نهاية، يبدأ من زمن دخولهم الجنات.
{أَبَدًا} : للمبالغة في الخلود؛ أي: الخلود في المستقبل إلى غير نهاية، وقد تعني: للتوكيد.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد.
{عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} : الأجر: يكون مقابل العمل؛ أي: الأجر لا يُستحق إلا بعد العمل، والأجر يكون في الطّاعات للأعمال البدنية، أو هو الجزاء على العمل، سواء أكان عملاً دنيوياً، أم أخروياً، والأجر يأتي دائماً بمعنى: النفع.
{أَجْرٌ عَظِيمٌ} : أيْ: أعظم الأجور على الإطلاق.
سورة التوبة [9: 23]
المناسبة: قيل: نزلت هذه الآية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى المدينة؛ فعزَّ على بعض المسلمين ترك آبائهم، وإخوانهم في مكة، ولم يهاجروا، وتركوا الهجرة، كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقيل: نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بأهلهم بمكة؛ فنهى الله عن ولايتهم، كما رُوي عن مقاتل، والمهم: هو عموم اللفظ، وليس خصوص السبب.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين هم على درب الإيمان بأمر أو بتكليف هو:
{لَا تَتَّخِذُوا} : لا: النّاهية، تتخذوا: من اتخذ، وبمعنى: جعل، أو صير.
{آبَاءَكُمْ} : الآباء، والأمهات، والأجداد، والأعمام.
{وَإِخْوَانَكُمْ} : أي: الأصدقاء والإخوة.
{أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي، والولي: المعين، وتعني: المودة، والمحبة؛ أيْ: لا تتخذوهم بطانة تحبوهم، وتودوهم، وتفشوا إليهم بأسرار المسلمين، أو تؤثروهم على الهجرة إلى المدينة، أو تنصروهم.
{لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك، أو الندرة.
{إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} : ولم يقل: إن أحبوا الكفر على الإيمان؛ لأن القول: إن أحبوا؛ تعني: هذا الحب، هو حب الفطرة؛ أيْ: أمر فطري، وهذا غير معقول، وإنّما قال استحبوا وهذا الحب هو حب مستفعل؛ أيْ: هو حبٌّ هم صنعوه، واختاروه بأنفسهم، وهو حبٌّ يعارض حب الفطرة؛ الّذي هو حب الإيمان، وللمزيد في بيان الولي: ارجع إلى الآية (107) من سورة البقرة.
{وَمَنْ} : شرطية.
{يَتَوَلَّهُمْ} : يتخذهم أولياء، ويلقي إليهم بالمودة، ويطلعهم على أسرار المسلمين، ويتجسس لهم، وينصرهم.
{مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : منكم خاصَّة.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتأكيد، أولئك: اسم إشارة للبعد.
{هُمُ} : ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.
{الظَّالِمُونَ} : الظّالمون حقاً، وإن كان يوجد غيرهم من الظّالمين؛ فهم أظلمهم. جمع ظالم، والظالم: الّذي لا يتبع منهج الله سبحانه؛ فيظلم نفسه بأن يوردها في النار. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان في معنى الظلم.
و {الظَّالِمُونَ} : جملة اسمية تفيد الثّبوت، صفة الظّلم أصبحت ثابتة عندهم.
سورة التوبة [9: 24]
هذه الآية تتمة للآية السّابقة؛ نزلت في هؤلاء الّذين تخلفوا عن الهجرة بسبب أهليهم، وعيالهم، وأموالهم، وديارهم.
وقد قيل: إنّه لما نزلت الآية السّابقة قال بعض الصّحابة: يا رسول الله! إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدِّين؛ قطعنا آباءنا، وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخُربت ديارنا؛ فنزلت هذه الآية، كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{إِنْ} : شرطية.
{كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} : عشيرتكم: جمعها عشائر، والعشيرة: تضم كل الأقارب، والعائلة.
{وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} : أيْ: حصلتم عليها بجهد ومشقة، وتعب، وليست من المال الموروث؛ أيْ: من وراء تجارة، أو حرفة. اقترفتموها: من الاقتراف، أو القرف. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (113)؛ للبيان.
{وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} : بوارها؛ لتركها وراءكم في مكة بعد الهجرة، وعدم رواجها، وخاصَّة إذا كانت له شراكة مع المشركين، أو غير المسلمين؛ فستضيع حصتهم.
{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} : مسرورين بها، أو فرحين بها.
{أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : من الهجرة، ومن محبة الله ورسوله، والامتثال لأوامرهما، وطاعتهما.
{فَتَرَبَّصُوا} : التّربص: هو الانتظار، ولو طال، والانتظار مع التّحفز؛ أي: الانتباه، والترقُّب لوقوع شيء بكم.
{حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} : بقضائه، أو عقابه، وقيل: فتح مكة، وهذا وعيد لهؤلاء الّذين لا يريدون الهجرة.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : جمع فاسق: وهو الخارج عن طاعة الله، والدّين ـ باختياره طريق الفسق والضّلال ـ وابتعاده عن طريق الهدى؛ فالله لا يوفقه، ولا يرشده إذا كان الفاسق يريد أن يفسق؛ يتركه الله سبحانه لما يحب من الفسق، والعصيان. ارجع إلى الآية (26) من سورة البقرة؛ لبيان الفسق، والفاسقين.
سورة التوبة [9: 25]
{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أيْ: قد ثبت، وتحقق ذلك النّصر.
{نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} : مواطن: جمع موطن: اسم مكان لفعل وطن، يطن، والموطن: هو مكان التّوطن؛ أي: الإقامة، ويطلق على موقع المعركة.
{مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} : مثل: بدر، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة.
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} : غزوة، أو موقعة حنين، وحنين: وادي بين مكة، والطائف.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عشرة آلاف مقاتل من المدينة، مع ألفين من أهل مكة؛ لمحاربة هوزان، وثقيف بعد فتح مكة، وكانوا أربعة آلاف، فأُعجب المؤمنون بكثرتهم، وقالوا عندها: لن نغلب بعد اليوم من قلة، ولكن سرعان ما انهزموا في بداية المعركة، ولم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثمّ لما عدلوا عن غرورهم، وتضرعوا إلى الله؛ نصرهم الله في نهاية المعركة، وأنزل جنوداً (ملائكة، ولكنها لم تقاتل).
{إِذْ} : ظرفية زمانية؛ تفيد الفجأة.
{أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} : أيْ: غرتكم كثرة عددكم، ولم تتوكلوا على الله.
{فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـئًا} : تُغن: ولم يقل تغني، حذف الياء؛ للدلالة على أن هذا كان غنى مؤقت في بداية المعركة وزال، أما يغني: بزيادة الياء يعني: غنى كامل ودائم؛ أيْ: لم تنفعكم شيئاً، وفررتم في أول المعركة، ولم يبق مع النّبي إلا مئة رجل. شيئاً: نكرة، وتعني: أي شيء، والشيء: هو أقل القليل.
{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} : أيْ: ضاقت عليكم رغم سعتها، ورحابها.
{ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} : ثم: لتباين موقف الغرور، والشّعور بالنصر، مع الشّعور بالهزيمة.
{مُّدْبِرِينَ} : جمع مدبر: اسم فاعل من أدبر، انهزمتم راجعين من أرض المعركة على أدباركم؛ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه العباس، وأبو سفيان، وقلة من الصّحابة.
سورة التوبة [9: 26]
{ثُمَّ} : للترتيب، ترتيب الأحداث، وليس للتراخي في الزّمن.
{أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : لو تأملنا في القرآن: لوجدنا أنّ الله سبحانه يأتي بذكر سكينته، وهاء الضّمير في سكينته: يعود على الله تعالى.
وقد لوحظ: أنه سبحانه حين يذكر الرّسول يذكر سكينته؛ تعظيماً للسكينة، وتشريفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين لا يذكر الرّسول في سياق الآيات يأتي بذكر السّكينة بدلاً من سكينته، فهذه سكينة عامة بالمؤمنين، وتلك سكينة خاصَّة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} : أي ملائكةً لم تقاتل كما قاتلت في بدر، وإنّما كانت فائدتها: أنّها ثبتت قلوب المؤمنين، وألقت الرّعب في قلوب الكافرين.
{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : بالقتل، والسّبي، والأسر، وخسارة الأموال، والأنعام يومها، وتكرار على رسول الله، وعلى المؤمنين: يفيد التّوكيد، وفصل كل منهما على حِدَةٍ.
{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} : ذلك: اسم إشارة؛ للبعد، يشير إلى العذاب؛ جزاء الكافرين على كفرهم في الدّنيا: بالهزيمة، والقتل، والسّبي، وخسارة الأموال.
سورة التّوبة [الآيات 27 - 31]
سورة التوبة [9: 27]
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
{ثُمَّ} : يفتح الله باب التّوبة. ثم: للترتيب والتراخي في الزمن، أو للتباين بين مرتبة التولي مدبرين والتوبة.
{يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : من بعد ذلك من بعد الهزيمة، والخزي، والخسارة.
{عَلَى مَنْ يَشَاءُ} : أيْ: يقبل الله توبة من يشاء أن يتوب.
وقيل: بعد موقعة حنين بـ (20) يوماً؛ لحق قوم هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم قرب الجعرانة (7) أميال من مكة، وأسلموا، وتابوا إلى الله، وأعاد الله لهم ما أُخذ منهم.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : كثير المغفرة، غفور لمن تاب، وآمن، وعمل صالحاً. صيغة مبالغة من غفر؛ أيْ: ستر ومحا الذنب.
{رَحِيمٌ} : لم يعجِّل لهم العقوبة؛ ليتوبوا، وتعاد إليهم أموالهم، وسبيهم.
سورة التوبة [9: 28]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بأمر جديد، أو تكليف، أو بيان، أو حكم: وهو المشركون نجس. يقال لكل شيء مستقذر نجس.
{إِنَّمَا} : كافة، ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} : جمع مشرك، فكل مشرك نجس، والنّجاسة تقسم إلى نجاسة حسية؛ مثل: البول، والميتة، ولحم الخنزير، ونجاسة حكمية معنوية: كالشرك، والخمر، والميسر، بسبب اعتقاداتهم الفاسدة، وشركهم، وقوله: إنما المشركون نجس: تشبيه بليغ.
{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} : لا: الناهية، يقربوا المسجد الحرام: أيْ: ألا يكونوا قريبين من حدود الحرم، من جهة المدينة المنورة عند التنعيم (3 أميال) من الكعبة، ومن جهة اليمن (7 أميال)، ومن جهة جدة (10 أميال)، ومن جهة الجعرانة (9 أميال)، ومن جهة العراق (7 أميال).
وهل النهي يشمل كل مسجد، أم المسجد الحرام فقط؟ وكل مسجد غيره؛ لأنهم قالوا بالقياس؛ اختلف العلماء في هذا. ارجع إلى المصادر الفقهية.
{بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} : بعد هذا العام التّاسع من الهجرة؛ أي: المنع يبدأ في السّنة العاشرة.
{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة؛ للقرب، وهو العام الّذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه ، وقرأ علي رضي الله عنه على النّاس وثيقة البراءة من المشركين.
ولما نزلت هذه الآية خاف، وتوهم بعض المسلمين من أهل مكة: أن تنقطع تجارتهم، أو لقمة عيشهم بسبب هذا المنع؛ فرد الله على ظنهم بقوله:
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} : وإن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشّك.
{عَيْلَةً} : مصدر عال، يعيل؛ لها معانٍ عدة: العيلة: الفقر، عال يعيل عَيْلة: إذا افتقر، والعيلة: من أعال إعالة؛ فهو يعيل؛ أيْ: أصبح صاحب عيال، أو كثر عياله، وتعني: وإن خفتم ألا تجدوا ما تنفقوا على عيالكم. ارجع إلى سورة النساء، آية (3)؛ لمزيد من البيان.
{فَسَوْفَ} : الفاء: للتّأكيد، سوف: حرف للاستقبال؛ تفيد البعد، والتّراخي؛ أيْ: سوف يرزقكم الله تعالى بإنزال المطر، وإخراج الزرع، والثمار.
{يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : بإنزال مطر، أو إسلام الكثير من النّاس، والقدوم إلى الحج، والعمرة، وازدياد حركة التّجارة.
الفضل: هو الزّيادة على ما يستحق.
{إِنْ شَاءَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{عَلِيمٌ} : عليم بأقوالكم، وأفعالكم، ونواياكم، وعليم بما يصلح أحوالكم: الغنى، أم الفقر.
{حَكِيمٌ} : حكيم من الحكم؛ فهو الحاكم، وحكيم من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء في العطاء، أو المنع، حكيم بتدبير شؤون خلقه، وكونه، وشرعه؛ فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ لمزيد من البيان.
سورة التوبة [9: 29]
أسباب النزول: روى ابن المنذر، عن الزهري، قال: أنزلت هذه الآية في قتال كفار مكة من قريش، والعرب. وقيل: هم الكفار من الّذين أوتوا الكتاب، وسبب قتالهم: هو عدم دفعهم الجزية.
{الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق؛ أيْ: إيمان عقيدة، وتوحيد، إيمان يشمل إيمان الألوهية، والرّبوبية، والصفات، والأسماء، والملائكة، والرسل، والكتب
…
وغيره.
{وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} : تكرار لا: للتوكيد؛ توكيد النفي، والباء: للتوكيد. واليوم الآخر؛ أي: يوم البعث والحساب، والجزاء، وتعني: الكفر بأحدهما، أو كلاهما معاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (8) لمزيد من البيان.
{وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : من الشرك، والكفر، والقتل، والفساد، ونقض العهود.
{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} ؛ أي: دين التوحيد.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} : أي: اليهود، والنّصارى.
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} : والجزية: هي المقدار من المال، أو الضريبة الّتي يجب أن يدفعها كل من يعيش في ديار المسلمين من غير المسلمين مقابل تقديم الحماية له، والخدمات الاجتماعية، لكن لا يشارك في الجيش، أو الدفاع، أو حماية الوطن، وكان يطلق على هذه الضريبة: الجزية، وهو قادر على دفع ذلك، أما من تبيَّن أنه غير قادر؛ فتسقط عنه.
{عَنْ يَدٍ} : عن سعة وقدرة، وقيل: عن طوع وانقياد، وقيل: قهر وذل، وإذا أسلم تسقط عنه.
{وَهُمْ صَاغِرُونَ} : هم: للتوكيد. صاغرون: تعني: الالتزام، والخضوع لهذا الحكم؛ صاغرون: جمع صاغر: وهو الذليل.
سورة التوبة [9: 30]
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} : وقالت بعض الطّوائف من اليهود: عزير ابن الله؛ عزيرٌ بالتّنوين، وعند اليهود يسمَّى: عِزْرا، ويقرأ بالتّنوين، أو بالضّم: عزيرُ، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل، ضرب الله به مثلاً؛ لإحياء الموتى حين قال تعالى:{أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} .
وقيل: قد حفظ التّوراة عن ظهر قلب. وقيل: إنّه كتب التّوراة لبني إسرائيل بعد أن فقدها بنو إسرائيل إلى العمالقة.
{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} : لكونه وُلِدَ بلا أب، وجرت على يديه الكثير من المعجزات؛ مثل: إحياء الموتى، والتّكلم في المهد، وخلق الطّير من الطّين، ومعالجة الأكمه، والأبرص.
{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} : ذلك: اسم إشارة للبعد، ويشير إلى قولهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله.
{قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} : أيْ: مجرد قول بالفم، لا سند له، ولا برهان، كلام لغو، وعبث، والباء: للإلصاق.
{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : يضاهئون: يشابهون، أو يماثلون، والمضاهاة: هي المشابهة، والمماثلة، وقيل: مشتقة من امرأة ضهياء: هي المرأة الّتي لا يظهر لها ثدي، أو قيل: لا تحيض، وأنّها تشبه الرّجل.
{قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الوثنيين، وقدماء الفرس، والعرب المشركين؛ الّذين قالوا: الملائكة بنات الله.
{مِنْ قَبْلُ} : من الأمم الّذين جاؤوا من قبلهم.
من قبلُ: بالضّم حين تضم: تدل على مدة معينة من الزّمن، سواء أكانت قريبة، أم بعيدة.
من قبلِ: وحين تكسر تدل على مدة غير معينة قريبة، أو بعيدة
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} : لعنهم الله، وطردهم من رحمته، أو أبعدهم عن رحمته، وهو دعاء عليهم بالهلاك.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أيْ: كيف يصرفون عن الحق، والدّليل: وهو توحيد الله، وتنزيهه عن الشّرك، والولد إلى عبادة مخلوقاته؛ مثل: المسيح ابن مريم، والعزير، والأوثان.
{يُؤْفَكُونَ} : مشتقة من الإفك، وهو الكذب المفترى المتعمَّد. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (61)؛ للبيان.
سورة التوبة [9: 31]
{اتَّخَذُوا} : جعلوا، أو صيروا.
{أَحْبَارَهُمْ} : جمع حبر: وهو العالم عند اليهود.
{وَرُهْبَانَهُمْ} : جمع: راهب، وهو العابد عند النّصارى، المنقطع لعبادة الرّب؛ أيْ: عُبادهم، والعالم عند النّصارى يسمَّى قسيساً، كما قال تعالى:{بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82].
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} : أرباباً: جمع رب، واتخذوا: لا يعني أنّهم يقولون لكل حبر وراهب رب، ولكن المعنى هنا: أطاعوهم، كما أطاعوا الرّب الإله الخالق في التّحليل، والتّحريم، والتّعظيم؛ أيْ: عظموهم، كما يعظمون الرّب بالدّعاء، والذّكر، والثّناء.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله، أو سواه.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} : أي: اتخذوا المسيح ابن مريم رباً؛ حين قالوا: المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
{وَمَا أُمِرُوا} : الواو: حالية؛ تفيد التّوكيد، أمروا: في كتبهم في التّوراة، والإنجيل، وما جاءت به رسلهم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{لِيَعْبُدُوا} : اللام: لام التّوكيد، العبادة: لا تكون إلا للخالق، وهي الخضوع، والطّاعة مع المعرفة بالمعبود. ارجع إلى سورة النحل، آية (73)؛ لبيان معنى العبادة.
{إِلَهًا وَاحِدًا} : الإله: المعبود، واحداً: توكيد، والواحد؛ تعني: المتفرِّد بالذّات، والذي لا يتجزأ، فلا شريك له، ولا يصبح اثنين، أو ثلاثة، أما الأحد: فهو الّذي لا شبيه، ولا نظير، ولا مثيل، ولا ثاني له.
{لَا} : النّافية للجنس.
{إِلَهَ} : معبود بمعنى: مألوه على وزن مفعول؛ لا معبود بحق في الوجود إلا هو.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
قوله: {لَا إِلَهَ} : للنفي. إلا هو: للإثبات، أو توكيد النّفي.
فقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : جمعت النّفي، والإثبات معاً. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ لمزيد من البيان.
{سُبْحَانَهُ} : أيْ: أصفه بكل كمال، وأنزهه عن كل نقص، وشرك، وعجز، وما لا يليق به؛ تنزيهاً لذاته، وصفاته، وأفعاله؛ فلا ذات مثل ذاته، ولا صفة مثل صفاته، ولا فعلاً مثل أفعاله. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (1)؛ لمزيد من البيان.
{عَمَّا} : عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد، ما: مطلقة للعاقل، وغير العاقل، ما: حرف مصدري.
{يُشْرِكُونَ} بالله، يشركون بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد، والتّكرار، وأنّهم مستمرون في شركهم بقولهم المسيح ابن الله، أو عزير ابن الله، أو الملائكة بنات الله، أو يتخذون من دونه أولياء، أو يتخذون الأصنام، والأوثان آلهة يُعبدون.
سورة التّوبة [الآيات 32 - 36]
سورة التوبة [9: 32]
{يُرِيدُونَ} : أي: اليهود، والنّصارى
…
وغيرهم.
{أَنْ} : حرف مصدري؛ تفيد التّوكيد.
{يُطْفِـئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} : نور الله: دين الله، دين الإسلام، شبه الدّين بالنّور. بأفواههم: الباء: للإلصاق، والتّوكيد، والاختصاص، بأفواههم؛ أيْ: بأقوالهم، وأقوالهم فارغة لا تستند إلى برهان، ولا دليل.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} : يأبى من الإباء: شدة الامتناع؛ أيْ: لا بد أن يُتم الله نوره، ولو في المستقبل؛ إلا: أداة حصر. أن: للتوكيد، يتم نوره: جاء بجملة فعلية فيها تجديد واستمرار.
{نُورَهُ} : أيْ: دينه وهو الإسلام؛ أيْ: ينشر، ويظهر دينه، والإظهار يكون بالحُجَّة، والسلطان، ومنها آيات الإعجاز العلمي، ولا يعني بالقوة، والجبروت، ولو شاء الله لفعل هذا أيضاً.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} : ولو: بمعنى: وإنْ كره الكافرون. لو: شرطية.
ولا بد من مقارنة هذه الآية بآية الصّف (8)، والّتي يقول فيها سبحانه:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِـئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
ففي هذه الآية، آية الصف: أضاف اللام: لام التّوكيد، والتّعليل في كلمة (ليطفئوا)، وبدل أن يتم الله نوره، قال: والله متم نوره، جاء بالجملة الاسمية بدلاً من الفعلية، وتفسير الاختلاف يعود إلى أنّ آية التّوبة جاءت في سياق اتخاذ الأحبار، والرّهبان أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم.
أما آية الصّف: فجاءت في سياق إنكار نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء الرّد أشد بالتّوكيد بلام (ليطفئوا)، وكذلك جاء بالجملة الاسمية، والله متم نوره؛ للدلالة على الثّبات، وعدم التّغير، والإتمام حاصل لا محالة.
بينما في التّوبة: جاء بالجملة الفعلية؛ أيْ: تدل على التّجدد، والاستمرار، والجملة الاسمية أقوى من الفعلية، وآكد؛ فيكون المعنى بالتّجديد، والاستمرار، والثّبات معاً على إتمام الله سبحانه لنوره (دينه). ارجع إلى سورة الصف، آية (8)؛ لمزيد من البيان، والمقارنة.
سورة التوبة [9: 33]
{هُوَ} : ضمير منفصل يفيد الاختصاص والقصر والتّوكيد على الله سبحانه.
{أَرْسَلَ رَسُولَهُ} : محمّد صلى الله عليه وسلم.
{بِالْهُدَى} : بالقرآن، والباء: للتوكيد.
{وَدِينِ الْحَقِّ} : دين الإسلام.
{لِيُظْهِرَهُ} : اللام: للتعليل، والتّوكيد، والهاء: تعود إلى الدِّين.
{عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} : ليظهر هذا الدِّين على سائر الملل، سواء حدث هذا عاجلاً، أم آجلاً، كما قيل بعد نزول عيسى عليه السلام ، أو ليظهره إظهار حُجَّة، وبرهان ليعليه؛ أيْ: يجعله مهيمناً هيمنة برهان، وحُجَّة، وليس معناه: يمحو الدّيانات الأخرى، ولا ظهور أتباع بحيث يصبح كلّ واحد مسلم.
{الدِّينِ كُلِّهِ} : كله: توكيد.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} : ولو: حرف شرط؛ بمعنى: وإن كره المشركون.
سورة التوبة [9: 34]
{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.
{كَثِيرًا} : ولم يقل كلّ، بل قال: كثيراً؛ أيْ: هناك القلة من الأحبار وهم علماء اليهود لا يأكلون أموال النّاس بالباطل، والكثير يأكل.
{وَالرُّهْبَانِ} : عُباد النّصارى. ارجع إلى الآية (31) من نفس السّورة؛ للبيان.
{لَيَأْكُلُونَ} : اللام: للتعليل، والتّأكيد. يأكلون: جاء بالفعل المضارع؛ ليدل أنهم أكلوا، ولا زالوا يأكلون، وتدل على التّجدد، والاستمرار في الأكل؛ أيْ: أخذ أموال النّاس بالباطل، وشبه الأخذ بالأكل؛ لكثرة حدوثه؛ لأنّ النّاس تأكل المرات العديدة في اليوم، أو لأنهم يشترون بالمال الباطل الطعام فينتهي في بطونهم.
{أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} : بالباطل: الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ بغير الحق؛ أيْ: بالرّشوة، والغش، والكذب، والخداع، والحرام.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : يمنعون النّاس عن الدّخول في دينه، واتباع رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم، ويحاربون الإسلام بأقوالهم، وأفعالهم.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} : الّذين: اسم موصول يفيد الذّم.
{يَكْنِزُونَ} : الكنز؛ بمعنى: الجمع، والخزن. يكنزون: جاء بصيغة المضارع؛ للتجدد، والتّكرار، وبصيغة الجمع؛ لأنّ المخاطبين كثرة؛ هذا عنده ذهب، وهذا عنده فضة، أو كلاهما.
{الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} : هما أساس التّعامل التّجاري، والعملة.
{وَلَا يُنْفِقُونَهَا} : لا: النّافية.
{يُنْفِقُونَهَا} : لا يؤدُّون حق زكاتها، أو ينفقون بعضها في سبيل الله، ومساعدة الفقراء، والمساكين، ولم يقل ينفقونهما؛ لأنّ الصّيغة هي الجمع؛ إذن: هم يقومون بأربعة أفعال: الأكل بالباطل، والصّد عن سبيل الله، وكنز الذّهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله.
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : الفاء: للتوكيد، بشرهم: من البشارة، والبشارة هي الإخبار بأمر سار عادة، واستعملت هنا بقصد التّهكم، والاستهزاء.
{بِعَذَابٍ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد، والاستمرار.
{أَلِيمٍ} : شديد الإيلام لا يطيقه أو يقدر عليه أحد.
سورة التوبة [9: 35]
{يَوْمَ} : ظرف زمان منصوب؛ تقديره: واذكر يوم يحمى عليها، أو تتمة للآية السّابقة: فبشرهم بعذاب أليم يُحمى عليها. قال: يُحمى عليها في نار جهنم، ولم يقل: تحمى عليها؛ لأنّ تحمى عليها قد تعني: النّار أن توقد وتُسعر، ولكن قوله: يحمى عليها؛ تعني: الأموال الذّهب والفضة.
{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} : لماذا اختيرت هذه الأعضاء من بين سائر أعضاء الجسم.
نحن لو نظرنا إلى ما يفعله الغني البخيل في وجه الفقير لكي لا ينفق عليه شيئاً:
أوّلاً: العبوس، ويظهر ذلك على الجباه؛ لذلك تكوى أولاً جباهُهُم.
ثمّ يدير له جانبه في المجلس؛ جنوبهم تكوى ثانياً.
ثمّ يولي له ظهره؛ ظهورهم تكوى ثالثاً.
{هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} : هذا: الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة؛ يفيد القرب والذّم.
{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي كنزتم.
أو مصدرية {كَنَزْتُمْ} : وبال كونكم كانزين لأنفسكم؛ أي: اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.
{فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} : ذوقوا وبال ما كنزتم، أو كونكم كانزين.
سورة التوبة [9: 36]
نزلت هذه الآية بشأن النّسيء الّذي كانت العرب تفعله؛ كي يستحلُّوا فيه المحرمات.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} : عند الله؛ أيْ: في علمه تعالى، وحكمه، والشّهور: جمع شهر، وهي الأشهر القمرية؛ لأنّ الحساب كان يتم بها، ويعتمد على رؤية القمر، وعدة الشهور، وثباتها يعتمد على ثبات بُعد الأرض عن الشمس، وهو (150 مليون كم)، فلو كانت الأرض أقرب إلى الشمس؛ لقل عدد الشهور، ولو كانت أبعد؛ لكان عدد الشهور أكثر. إذن: ثبات عدد الأشهر باثني عشر شهراً؛ يدل على ثبات بُعد الشمس عن الأرض.
{فِى كِتَابِ اللَّهِ} : في اللوح المحفوظ، أو المدوَّن في كتابه؛ أيْ: في شرع الله يوم خلق السموات والأرض؛ أيْ: يوم حدِّد بُعدُ الأرض عن الشمس، وعن القمر، وعن غيرها من الأجرام، وثبته على ذلك، وهو البُعد المثالي للعيش على هذه الأرض.
{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} : ثلاثة أشهر متواليات: ذو القعدة، وذو الحِجَّة، ومحرَّم، ورجب. حُرُم: لا قتال فيها؛ هنَّ فرصة للسلام، والأمان.
قال تعالى: منها، ولم يقل: منهنَّ أربعة حرم؛ لأنّ منهنَّ: جمع قلة (أقل من عشرة)، أما اثنا عشر؛ فهي جمع كثرة، ولذلك استعمل منها.
{ذَلِكَ} : أيْ: تحريمها من الدِّين القيم؛ الدِّين الّذي تستقيم به أمور الحياة، وهو دِين إبراهيم، دِين الإسلام؛ فمن دون الدِّين لا حياة حقيقة أصلاً، بل يعم الفساد، والضّلال، وأمّا إذا اعتدوا عليكم، واستحلوا حرمة هذه الشّهور؛ فقاتلوهم، وذلك جزاء الكافرين.
{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} : الفاء: للتوكيد، لا: النّافية.
{تَظْلِمُوا} : من ظلم النّفس؛ أيْ: إنقاصها حقها من فعل الخيرات، وتزكيتها في هذه الأشهر الحرم؛ أيْ: أكثروا، وبادروا إلى القيام بالأعمال الصالحة؛ لأن أجرها عظيم، ولا تجعلوا الحرام حلالاً، والحلال حراماً، وبفعل المعصية، وترك الطّاعات، والقتل، والسّلب، وقال فيهنَّ: ولم يقل فيها؛ لأنّ الأربعة أشهر جمع قلَّة، وفيهنَّ: لجمع القلَّة. انتبه إلى الفرق بين قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ، وقوله تعالى:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} .
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} : يجب الانتباه إلى معنى كافة في هذه الآية؛ كافة هنا: تعود على المؤمنين؛ تعني: يا أيها الّذين آمنوا إذا قاتلتم المشركين فكونوا جميعاً؛ أيْ: يداً واحدة، أو قاتلوهم كافة الكل يشارك في قتالهم، كما يقاتلونكم كافة، ولا تفرقوا. أمّا إذا عادت إلى المشركين فكيف نقاتلهم كافة ونحن قلة؟
وانتبه إلى قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} : الكاف: للتنبيه؛ أيْ: قوى الباطل تجتمع عادة مع بعضها، فلا داعي لدعوتها إلى الاجتماع أصلاً؛ فهم لا يقاتلونكم إلا كافة من شدة خوفهم منكم، ولا تعني: قاتلوا المشركين كافة، وأنتم قلَّة، أو لا تقدروا عليهم.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} : علم اليقين. أن: للتوكيد، مع المتقين: يمدهم بالعون، والنّصر. معهم بعلمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السّموات، ولا في الأرض.
سورة التّوبة [الآيات 37 - 40]
سورة التوبة [9: 37]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر، والتّوكيد.
{النَّسِاءُ} : تأخير الشّيء، من نسأ؛ أيْ: أخَّر، وتعني: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر؛ أي: التلاعب بتغير موضع الشهر عن موقعه الحقيقي؛ حتّى يبيحوا لأنفسهم ما حرم الله فيها من القتال، أو فعل المحرمات.
فكان معلوماً عند العرب حرمة الأربعة أشهر: رجب، وذي القعدة، وذي الحِجَّة، ومحرَّم؛ أيْ: لا قتال فيها فكانوا إذا احتاجوا إلى تحليل الشّهر المحرم للحرب عندها يؤخِّرون مثلاً تحريم شهر محرم إلى صفر، وهكذا تصبح الأشهر مختلطة، أو إلى زيادة، أو إنقاص يوم من الشهر.
{زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ} : فأخبرهم الله سبحانه: أنّ هذا زيادة في الكفر؛ إضافة إلى كفرهم بالله، وكتبه ورسله (الكفر العادي)؛ لأنّهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال.
{يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} : به تعود على النسيء. يُضَل به الفاعل مجهول (مبني للمجهول)؛ قد يكون الشّيطان، أو من جاء من قبلهم، أو هم أنفسهم من يقوم بإضلال.
وهناك فرق بين الضّلال، والإضلال؛ فالضّلال: يقتصر على الذّات، أو النّفس، أما الإضلال: فيتعدَّى إلى الغير.
{يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} : بإبدال شهر من الأشهر الحرم، بشهر من الشّهور الحل، أو إبدال شهر حل بشهر محرم، أو يحرمونه عاماً، ويحافظون على حرمته، فلا يحلونه أبداً، أو يحلونه هذا العام، ويحرمونه العام القادم.
{لِّيُوَاطِـئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد.
المواطأة: هي الموافقة في العدد؛ فهم لا يحلوا شهراً من الأشهر الحرم؛ إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرموا شهراً من الحلال؛ إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام؛ لئلا تكون الأشهر الحرم أكثر من أربعة؛ أيْ: لتوافق عدة الأربعة أشهر الحرم الّتي حرم الله؛ أي: العدد في النهاية متساوٍ.
{فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : فيحلُّوا القتال في الأشهر الحرم.
{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} : زَين لهم الشّيطان سوء أعمالهم، أو قادتهم ورؤساؤهم.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : والله لا يهدي القوم الّذين اختاروا طريق الكفر على الإيمان، وساروا فيه، ولا يريدون العودة إلى طريق الهدى، والتّوبة؛ فالله سبحانه لا يهديهم كلما ابتعدوا عن طريق الهداية، ويتركهم وشأنهم.
سورة التوبة [9: 38]
المناسبة: قيل: نزلت هذه الآية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالخروج إلى غزوة تبوك، والاستعداد لها، وكان ذلك في زمن عسرة، وجدب، وحر شديد، وقد طابت الثّمار؛ فعظم على النّاس هذا الأمر؛ أي: الجهاد، والخروج، وبعضهم فضل البقاء؛ فنزلت هذه الآية، كما روى الطبري عن مجاهد.
نداء جديد إلى الّذين آمنوا، والهاء: للتنبيه للجهاد في سبيل الله، وحين يقول في سبيل الله: تعني: غالباً الجهاد في سبيل الله، والاستعداد للخروج؛ فهو يشكل الخطوة الأولى في الجهاد، وقتال العدو.
{مَا لَكُمْ} : ما: الاستفهامية فيها معنى التّوبيخ، والتعجب، لكم: خاصَّة.
{إِذَا قِيلَ لَكُمُ} : إذا: بمعنى حين ظرف زماني، قيل لكم: من قِبل الرّسول، أو إخوانكم.
{انْفِرُوا} : اخرجوا من النفرة: الأصل في النّفرة: التّباعد بين إنسان وصديقه كان بينهما مودة، ومحبة، ثمّ حدث من هذا الصّديق فعل، أو قول أدَّى إلى أن يبتعد عنه، أو ينفر منه، انفروا فيها حث للنّاس، ودعوتهم للخروج إلى أمر ما بسرعة؛ مثل: الجهاد، أو إنقاذ غريق، أو حريق، ومنه إعلان النّفير العام هبوا إلى القتال.
{فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ابتغاء مرضاة الله؛ لإعلاء كلمة الله، أو الجهاد غالباً.
{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} : أصلها تثاقلتم إلى الأرض؛ أدغمت التّاء في الثّاء؛ أي: أخلدتم إلى الأرض؛ غرتكم شهوات الدّنيا؛ حيث طابت الثمار؛ أيْ: أينعت، وكون الجو حاراً، أو اطمأننتم إلى الدّنيا، وأردتم البقاء في الدّيار، وعدم الخروج، والتّثاقل: معناه لك المقدرة على الفعل المطلوب منك، ولكنك تتصنع أنك غير قادر؛ أي: تتكاسل.
{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتوبيخي، الرّضا: القبول، والسّرور، وحب القلب، أرضيتم بنعيم الدّنيا بدل نعيم الآخرة، وبالحياة: بالباء: للإلصاق، والتّوكيد.
{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} : فما: الفاء: عاطفة، ما: النّافية، متاع الدّنيا: الفاني، والزائل، والقليل، والمتاع: هو كل ما ينتفع به، ويرغب في اقتنائه؛ كالطّعام، والأثاث، والسّلعة، والأداة به، وما يستمتع به من لذائذ لا يقارن بمتاع الآخرة الدّائم، والأكبر، والّذي لا ينفد.
سورة التوبة [9: 39]
{إِلَّا} : أصلها: إن: الشّرطية، لا: النّافية، وتقديرها: إن لا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً.
{تَنْفِرُوا} : إن لم تخرجوا للجهاد مع النّبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. ارجع إلى الآية (38)؛ لمزيد من البيان.
{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : ينذركم بالعذاب الأليم في الدّارين، وبالقحط، أو الأوبئة، أو الهلاك.
{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} : يستبدلكم بجيل آخر، أو قوماً آخرين، ويستبدل قوماً غيركم: من الاستبدال، والاستبدال لا يعني الاستخلاف.
الاستبدال: يأتي بقوم غير القوم، ولو بعد مرور قرون، والاستبدال يحصل لأقوام أعرضوا عن دين الله، وتطبيق شريعته، ولذلك قضى عليهم، وأهلكهم، وجاء بقوم آخرين.
والاستخلاف: يأتي بجيل، أو قوم بعد جيل، أو تلو الآخر من دون انقطاع.
والاستخلاف: يحصل لأقوام قصروا في دينهم، وإيمانهم؛ فأبدلهم بقوم آخرين، وانقضى أجلهم؛ أيْ: ماتوا، وجاء بقوم آخرين.
{وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـئًا} : ولا: النّافية، تضروه: الهاء: تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأنّ الله وعده بالعصمة، والنّصر.
{شَيْـئًا} : أقل القليل. شيئاً: نكرة مهما كان نوعه؛ بالقول، أو بالفعل، والضّر: هنا كلّ ما يحصل من عواقب وخيمة من ترك الجهاد.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : قادر على هزم الأعداء وحده، وقادر على أن يهلككم، ويأتي بقوم آخرين أفضل منكم؛ لرفضكم الاستجابة إلى الخروج في سبيل الله سبحانه وتعالى .
{قَدِيرٌ} : صيغة مبالغة كثير القدرة؛ قادر على أن يفعل أيَّ شيء، أو يقهر أيَّ شيء.
سورة التوبة [9: 40]
{إِلَّا} : ارجع إلى الآية السّابقة؛ للبيان.
{تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} : إن لم تنصروه، وتؤيِّدوه بالنّفير، والخروج إلى تبوك.
{فَقَدْ نَصَرَهُ} : الفاء: للتوكيد، قد: لزيادة التّوكيد، والتّحقيق، ولم يقل: فسينصره الله؛ لأن قوله تعالى: فقد نصره الله (بصيغة الماضي)؛ أيْ: قد حدث وانتهى.
{نَصَرَهُ اللَّهُ} : قبل ذلك أيْ: أعانه على أعدائه، أو تكفل الله بنصره.
أيْ: إن تخاذلتم، ولم تنصروه الآن؛ فقد نصره الله من قبل؛ إذ أخرجه الّذين كفروا من مكة.
{ثَانِىَ اثْنَيْنِ} : أيْ: هو وأبو بكر فقط، وأسند الإخراج إلى الكفار، والحقيقة: أنّ الله هو الّذي أذن له بالخروج عن طريق جبريل عليه السلام حين هموا بقتله، وحين اجتمعوا في دار الندوة، وعزموا على قتله، ولكنهم لم ينالوه بأذى، وترك علياً في فراشه صلى الله عليه وسلم، وخرج من بينهم، ولم يروه إلى الغار (غار جبل ثور) في مكة.
{إِذْ} : ظرف زمان بمعنى: واذكر إذ، أو واذكر حين.
{هُمَا فِى الْغَارِ} : هذه هي مرة أخرى الّتي نصره الله فيها، بإرسال العنكبوت؛ لينسج خيوطه على باب الغار، وجاء بالحمام؛ ليبني عشَّه كذلك، ولم يَرَ، أو يعثر الكافرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وهما داخل الغار، وهم على بابه.
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} : إذ؛ أيْ: حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: لا تحزن إن الله معنا: وأبو بكر لم يحزن عن ضعف إيمان، أو لخروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان حزنه خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمسَّ بمكروه.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} : إنّ: للتوكيد، الله معنا: بعونه، ونصره؛ معنا: يرانا، ويراقبنا، ويحفظنا؛ معنا: بعلمه، وقدرته.
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} : فأنزل: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أيْ: مباشرة أنزل الله سكينته، أنزل الله سكينته على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلاهما. ارجع إلى الآية (26) من نفس السورة لمزيد من البيان.
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} : مثل: العنكبوت، والحمام، والطّمس على قلوب الّذين كفروا، وعدم الدّخول في الغار، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلم بجنود؛ تعني: الملائكة في الغار، أو في بدر.
{لَّمْ تَرَوْهَا} : {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} : كلمة الكفر، والشّرك. السّفلى: أي: المغلوبة، أو الباطلة.
{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا} : هي: ضمير فصل؛ تفيد التّوكيد، كلمة الإيمان والتّوحيد: لا إله إلا الله محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{الْعُلْيَا} : كلمة الحق.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : عزيز: القوي الّذي لا يغلب، ولا يقهر، والممتنع له العزة جميعاً.
{حَكِيمٌ} : في أفعاله، وتدبير شؤون خلقه، وكونه حكيم هو الحاكم؛ إليه يرجع الأمر كله، وحكيم من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين، في هجرة نبيه إلى المدينة. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
سورة التّوبة [الآيات 41 - 47]
سورة التوبة [9: 41]
{انْفِرُوا} : اخرجوا للقتال من دون تردُّد، أو تثاقل. ارجع إلى الآية (38)؛ للبيان.
{خِفَافًا} : من دون سلاح، أو بالسّلاح الخفيف.
{وَثِقَالًا} : حاملين السّلاح، مدججين بالسّلاح؛ شباناً أو كهولاً.
{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} : وجاهدوا: من الجهاد؛ أي: قتال العدو؛ لإعلاء كلمة الله تعالى، أو الدّفاع عن الأنفس، وجاهدوا فيها حث على الجهاد، وليس مجرد أن تخرج، فلا بد من الخروج من بذل أكبر الجهد.
{بِأَمْوَالِكُمْ} : الباء: للإلصاق، والاهتمام، والأموال مهمة للاستعداد للجهاد، وشراء المؤونة، والعدة، والإنفاق على الجنود، ورعاية أهليهم حين الخروج.
{وَأَنفُسِكُمْ} : بالتّضحية بالأنفس؛ ضحوا بأنفسكم في سبيل الله.
{فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ابتغاء مرضات الله، لا لرياء، أو سمعة، أو غنيمة، أو حمية، أو عصبية.
{ذَلِكُمْ} : ذلكم: اسم إشارة للبعيد، واستعمل ذلكم، وليس ذلك؛ لأنّ الخطب عظيم، وهو الجهاد، ولكونه يشمل: الأموال، والأنفس
…
وغيرها؛ أي: يشير إلى عدة أمور.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} : من القعود عن الجهاد، والموت؛ موت البعير، وخير لكم من البخل، والشّح. خير لكم عند ربكم، خير: نكرة تشمل: كل أنواع الخير.
{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : إن: شرطية. تعلمون: أنّ الشّهادة في سبيل الله، أو النّصر، وإعلاء كلمة الله، ونصر دينه خير لكم من الدّنيا، ونعيمها الزّائل الفاني.
سورة التوبة [9: 42]
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} : لو: شرطية، كان عرضاً قريباً: الخروج إلى تبوك للجهاد.
{عَرَضًا} : أيْ: متاعاً، أو غنيمة، أو منفعة دنيوية، وسمِّي ذلك عرضاً؛ لأنّه يزول، ويتغير، وكلّ ما يتغير يسمَّى عرضاً، والدّنيا عرض، والصّحة والمرض عرض.
{قَرِيبًا} : سهل الوصول إليه، أو التّناول، أو ليس فيه تعب، ومشقة، وسفر.
{وَسَفَرًا قَاصِدًا} : سفراً وسطاً غير بعيد معتدلاً، والقاصد، ومنه المقتصد الّذي هو الوسط.
{لَاتَّبَعُوكَ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد. لاتبعوك: طلباً للغنيمة، أو المنفعة الدّنيوية.
{وَلَكِنْ} : حرف: استدراك، وتوكيد.
{بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} : أي: المسافة الّتي تحتاج إلى تعب، ومشقة، ولذلك لم يخرجوا معك.
{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} : السّين: للاستقبال القريب؛ أيْ: سيحلفون بالله: عندما ترجعون من غزوة تبوك؛ سيحلفون بالله لكم كذباً (وهذا ما حدث فعلاً): لو استطعنا لخرجنا معكم، فهم كانوا يستطيعون الخروج، ولديهم المال، والقدرة، ولكنهم حلفوا كذباً، لم يستطيعوا.
{يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} : لأنهم لم يخرجوا معك في سبيل الله، ويحلفون بالله كذباً أنهم غير قادرين على الخروج؛ فهم زجُّوا بأنفسهم في دائرة الهلاك، يُهلكون أنفسهم بصيغة المضارع بدلاً من أهلكوا أنفسهم بصيغة الحال، وبشاعة الحلفِ.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} : للتوكيد، لكاذبون: اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ كاذبون: جمع كاذب، وجاء بالجملة الاسمية بدلاً من يكذبون للدلالة على أنّ سمة الكذب أصبحت ثابتة عندهم، ولم يقل: والله يشهد إنهم لكاذبون: لأنّ الكذب عمل قلبي، أو سر أو غيبي لا يعلمه إلا الله، ولم يشاهده النّاس، أو الصّحابة، أو يعلموا به.
سورة التوبة [9: 43]
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} : من العفو: وهو محو الخطأ، أو الذّنب، ولا عقاب عليه.
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} : لم: اللام: للتعليل. ما: للاستفهام. أذنت لبعض المنافقين بعدم الخروج إلى تبوك، أو التّخلف عنك.
{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.
{يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} : أيْ: لو تمهلت لتبيَّن لك الحق؛ أيْ: تعلم الّذين صدقوا، وتعلم الكاذبين، تعلم الّذين صدقوا في أعذارهم، هل هي صدق أم كذب، وقال الّذين صدقوا: ولم يقل: الصّادقين؛ لأنّ صفة الصّدق غير ثابتة عندهم، والّذين صدقوا: صدقوا؛ أيْ: صفة الصدق عندهم غير ثابتة، مرة يصدقون، ومرة يكذبون.
أما الصّادقون: فصفة الصّدق عندهم ثابتة؛ أيْ: يصدقون دائماً.
وسنرى في الآية (47): أنّ ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم بالقعود كان فيه حكمة: هي لو أنّهم خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً، ولأوضعوا خلالهم، وربما كانوا سبباً لهزيمة المسلمين.
سورة التوبة [9: 44]
{لَا} : النّافية.
{يَسْتَـئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : أيْ: من طلب منك الإذن بالقعود، وعدم الخروج: هم الّذين لا يؤمنون بالله، واليوم الآخر، وأما من آمن بالله، واليوم الآخر. ارجع إلى سورة البقرة آية (8). فلم يطلبوا منك ذلك، وخرجوا ليجاهدوا في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم.
{أَنْ يُجَاهِدُوا} : أنْ: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من علم، علم ما في قلوبهم من إيمان وتقوى. عليم: صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم.
{بِالْمُتَّقِينَ} : الباء: للإلصاق، المتقين: الّذين أطاعوا أوامر الله، وتجنبوا نواهيه، والباء: للإلصاق؛ أيْ: أصبحت صفة، أو سمة التّقوى عندهم ثابتة لا تتغير.
سورة التوبة [9: 45]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{يَسْتَـئْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : أي: المنافقون، بعدم الخروج.
{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} : لا زالت الرّيبة تساور قلوبهم، والرّيبة: هي الشّك، والتّهمة معاً.
{فَهُمْ} : الفاء: للتوكيد، هم: لزيادة التّوكيد.
{فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} : التّردد: هو الذّهاب، والمجيء، وعدم الاستقرار في مكان واحد؛ أيْ: لا مع المؤمنين، ولا مع الكفار.
يترددون بين الخروج معك، أو البقاء في ديارهم مع الكفار.
سورة التوبة [9: 46]
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} : الواو: استئنافية، لو: شرطية، أرادوا الخروج: معك.
{لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} : اللام: رابطة لجواب الشّرط، تعليلية، والعدة: ما يعدُّه الإنسان ويهيئه؛ أيْ: للخروج في سبيل الله؛ أيْ: لو كانوا عازمين على الخروج في سبيل الله؛ لأعدوا، وأحضروا ما يلزمهم للحرب من الزّاد، والرّاحلة، والسّلاح؛ فهم ليس عندهم حتّى النّية في الخروج، فكيف الاستعداد.
وسبب ذكر ذلك؛ لأنّهم لو استعدوا للخروج، وأحضروا عدتهم، ثمّ حدث طارئ ما يمنعهم عن الخروج، لكن ذلك مقبول، أو أهون درجة.
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} : لكن: حرف للاستدراك، والتّوكيد، كره الله انبعاثهم: ارجع إلى الآية (19) من سورة النّساء؛ لمعرفة الفرق بين الكُره، والكَره؛ بضم الكاف، أو فتح الكاف. انبعاثهم: انطلاقهم، أو قيامهم للخروج.
{فَثَبَّطَهُمْ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. ثبطهم: منعهم، وأقعدهم عن الخروج؛ جعلهم يشعرون بالجبن، والكسل؛ فلم يخرجوا، أو شغلهم عن الخروج.
{وَقِيلَ} : القائل هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما طلبوا منه ذلك.
{اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} : الّذين لا يجب عليهم الجهاد من النّساء، والأطفال، والشّيوخ، أو ربما المعذورين أولو الضّرر، أو القواعد من النّساء.
سورة التوبة [9: 47]
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} : لو: شرطية. خرجوا فيكم: ولم يقل: خرجوا معكم؛ لأنّ فيكم: في: ظرفية؛ تعني: مختلط فيهم، أو أصبح منهم؛ بينما خرجوا معكم: قد يخرجوا معهم، ويبقوا منعزلين عنهم غير مختلطين بهم.
{مَا زَادُوكُمْ} : ما: النّافية، زادوكم بخروجهم.
{إِلَّا خَبَالًا} : إلا: أداة حصر، خبالاً: شراً، وفساداً، وبلبلة في الأفكار، والخبال: مرض عقلي، واضطراب في الرّأي؛ فلا تستطيعون اتخاذ قرار حاسم.
{وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} : من الإيضاع؛ يقال: أوضعت النّاقة: إذا أسرعت في سيرها؛ أيْ: يسرعوا بينكم بالفتنة، والفساد.
{خِلَالَكُمْ} : جمع خلَلَ، والخلل: هو الفرجة بين الشّيئين؛ أيْ: أحدثوا الفرقة بين صفوفكم بسرعة.
أو لسَعَوا بينكم وأسرعوا في نشر وبث النّميمة، والتّحريش، والإفساد، والتّفرقة، وإثارة الفتن، والكذب، والرّعب.
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} : يبغون: يلتمسون لكم الفتنة في الدّين، وبغى: طلب، أو التمس، وأضاف النّون في يبغونكم: للتوكيد.
{الْفِتْنَةَ} : إيقاع الخلاف بينكم، والشّك في الخروج، والجهاد، وتهويل الأمر، والهزيمة.
{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} : أيْ: بينكم أُناس ضعاف يسمعون لحديثهم، ويتأثرون بأقوالهم، وأخبارهم، وينقلونها إلى غيرهم.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} : عليم: صيغة مبالغة من عالم؛ كثير العلم بأحوال الظّالمين الظّاهرة، والباطنة، ونواياهم، وأقوالهم، وأفعالهم.
{بِالظَّالِمِينَ} : الباء: للإلصاق؛ الظّالمين: الّذين لم يخرجوا معكم، وقعدوا.
{بِالظَّالِمِينَ} : ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
والظّالمين: جملة اسمية؛ تدل على ثبوت صفة الظّلم فيهم.
والظّالمين: جمع ظالم، وهو كل من خرج على منهج الله، أو لم يطعه.
سورة التّوبة [الآيات 48 - 54]
سورة التوبة [9: 48]
{لَقَدِ} : اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، والتّوكيد.
{ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} : طلبوا، أو أرادوا الفتنة من قبل الخروج إلى تبوك، أو من قبل؛ تعني: يوم أحد؛ حين انصرفوا راجعين، والفتنة: قد تعني: صد النّاس عن الدّخول في الإسلام، والفتنة: قد تعني: بث الخلاف، والفرقة، والشّتات بين المسلمين؛ للإيقاع بهم، أو محاولتهم رد المسلمين إلى الكفر.
{وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} : قلبوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، والتّقلب: جعل أعلى الشّيء أسفله، أو أسفله أعلاه، ودبَّروا لك الحيل؛ حتّى يتخلصوا منك، ومن دين الإسلام الجديد.
{حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية. جاء الحق: النّصر.
{وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} : ظهر، وانتشر أمر الله؛ دين الله الإسلام، أو شرعه، ودخل النّاس فيه أفواجاً، وعلا وانتصر شرعه.
{وَهُمْ كَارِهُونَ} : أن يروا كلّ ذلك يحدث أمام أعينهم، وكارهون: جملة اسمية؛ تدل على الثّبات؛ ثبات كرههم لكم، ولدينكم.
سورة التوبة [9: 49]
سبب نزول الآية: كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في الجد بن قيس: وهو من الأنصار، من المنافقين؛ فقد جاء يطلب الإذن بعدم الخروج، والسّماح له بالبقاء في المدينة؛ لأنّه لم يكن له جلد على الحرب، وشدائدها، وكان له ولع بحب النّساء، وسمع عن جمال بنات الروم، وخشي أن يُفتن بهنَّ.
{وَمِنْهُم} : أيْ: الجدُ بن قيس منهم من المنافقين.
{مَنْ يَقُولُ ائْذَن لِّى} : بالقعود، وعدم الخروج.
{وَلَا تَفْتِنِّى} : لا: النّاهية، تفتني: أيْ: لا توقعني في الفتنة، وهي الإثم؛ أي: الفاحشة؛ كونه لا يملك نفسه من بنات بني الأصفر؛ أيْ: نساء الرّوم.
{أَلَا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} : ألا: أداة استفتاح؛ ليلفت السامع؛ فينصت، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الّذي يتكلم به المتكلم؛ أيْ: يستمع المستمع بكلّ قواه.
أيخافون أن يقعوا في فتنة نساء الرّوم؛ فهم قد سقطوا في فتنة النّفاق، وفتنة التّخلف، وعدم الخروج، وأيُّ فتنة أعظم من هذه الفتن! أمّا فتنة رؤية نساء الرّوم؛ فلا شيء مقارنة بتلك الفتن؛ بعد أن وقعوا في أشد منها بكثير، والفتنة: قد تكون جهنم؛ أيْ: ألا في جهنم سقطوا.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} : إن: حرف توكيد.
{بِالْكَافِرِينَ} : الباء: باء الإلصاق؛ أي: المصاحبة، والكافرين: جملة اسمية؛ تدل على الثّبوت؛ ثبوت كفرهم، وإنّ جهنم محيطة بهم يوم القيامة من كل الجوانب، وكأنهم في وسطها يصطلون فيها، ولا محيص، ولا مهرب لهم عنها؛ فهي مؤصدة عليهم، وشبهت بالسّوار المحيط بالمعصم.
سورة التوبة [9: 50]
{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الافتراض.
{تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} : نصر، أو غنيمة، والحسنة: ما يُسر النّفس حصوله، السّيئة: ما يسوء النّفس وقوعه. ارجع إلى سورة البقرة آية (201) لمزيد من البيان.
{تَسُؤْهُمْ} : جواب الشّرط؛ تحزنهم وتزعجهم؛ تضايقهم، أو يشعروا بالغم.
{وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} : إن: شرطية. تصبك مصيبة: مثل: القتل، أو الهزيمة، أو جراح وشدة.
{يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} : أيْ: قد أخذنا حذرنا؛ فلم نخرج معه، أو نقاتل معه. من قبل: أيْ: من قبل حدوث هذه المصيبة.
{وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ} : يستمروا على إعراضهم، وهم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد. فرحون: بما أصابك من الخسارة، والهزيمة، أو فرحون بسلامتهم، وعدم خروجهم معك، ولبيان معنى الفرح وأنواعه ارجع إلى سورة آل عمران آية (170).
سورة التوبة [9: 51]
{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{لَنْ يُصِيبَنَا} : لن: للنفي؛ تدخل على الفعل المضارع؛ كما هو الحال في هذه الآية؛ يصيبنا: فتخلصه للاستقبال، وتنفيه نفياً مؤكداً؛ نفي الاستقبال البعيد، والقريب.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} : ما: اسم موصول للتوكيد؛ توكيد الحصر؛ إلا ما كتب الله لنا: اللام: تفيد الاختصاص، ما كتب لنا: ما قدّر لنا من القدر، والقدر: هو تقدير الله -جل وعلا- ؛ لما خلق من مخلوقات مهما كانت من إنسان، أو حيوان، أو نبات، أو جماد؛ حتّى الورقة، والذّرة، والحبة في البر، والبحر، والرّطب، واليابس.
ونحن نعلمه بعد وقوعه سواء أكان خيراً، أم شراً.
فالقدر يعني: التّقدير؛ أيْ: فعل الله سبحانه وتعالى وهو المقدر، وما قدره الله سبحانه هو القدر، وهذا التّقدير حدث قبل خلقه السّموات والأرض بـ (50 ألف سنة)، والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان، والنّاس في القدر ثلاثة أقسام:
1 -
الغلاة في إثباته؛ مثل: الجبرية الّذين يؤمنون بأنّ كل ما يفعله الإنسان بغير اختياره؛ يقوم، ينام، يشرب، يعصي، وهو عقيدة مبنية على آية الله:{خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} [الزمر: 62]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، ومثل هذه العقيدة باطلة في الكتاب والسّنة؛ لقوله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 102]، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
2 -
الغلاة في إنكار القدر؛ بعكس الأوّل: يؤمنون أنّ كلّ ما يفعله الإنسان هو بإرادته؛ يأكل، ينام، يصلي، يعصي، يطيع؛ كلّه بإرادته، وهو مستقل بعمله؛ ليس لله قدرة، ولا اختيار؛ فالعبد يخلق أفعاله، والله يعلم ما سيصنعه عبده، مع نفي مشيئة الله، أمثال القدرية.
3 -
أهل السّنة والجماعة: يؤمنون بعلم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه، وللعبد مشيئة، وخيار، ولكن ضمن مشيئة الله، وما قدره.
والتقديرات أربعة أنواع:
1 -
تقدير أزلي (أولي) قبل خلق السموات والأرض بـ (50 ألف سنة).
2 -
تقدير جنيني: حين نفخ الروح، ويشمل الرزق، والأجل، والعمل شقي، أو سعيد.
3 -
تقدير سنوي، أو حولي، ليلة القدر؛ كما قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
4 -
تقدير يومي، كما قال تعالى:{يَسْـئَلُهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز، ويُذل، والإيمان بالقدر من تمام الرّبوبية.
والإيمان بالقدر: لا ينافي ما يفعل الإنسان باختياره؛ لأنّ ما يفعله الإنسان هو من قدر الله أيضاً.
{هُوَ مَوْلَانَا} : من المولى؛ أيْ: مالكنا، وسيدنا، ومتولي أمورنا، ومدبرها، وحافظنا، وناصرنا.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : ولأنّه هو مولانا؛ فعليه يجب أن نتوكل؛ أيْ: نطلب منه المساعدة، والمعونة في تدبير أمورنا، والقيام بها بعد أن نقوم، ونؤدِّي الأسباب المطلوبة منا.
فاتخاذ الأسباب لا تكفي؛ فلا بد من الاعتماد عليه، وقوله تعالى: وعلى الله: تقديم الجار والمجرور على الفعل؛ يفيد القصر؛ أيْ: فقط نتوكل على الله وحده لا غيره.
سورة التوبة [9: 52]
{قُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} : هل: استفهام؛ بمعنى: النّفي، والنّفي هنا غير تام؛ لأنّ فيه معنى التّحدي، والتّربص.
{تَرَبَّصُونَ بِنَا} : أيها المنافقون. التّربص: الانتظار الطّويل، وبحذر، ويقظة، وأصلها: تتربصون، وحذفت إحدى التّاءين.
{بِنَا} : الباء: للإلصاق؛ للدلالة على نفاد صبرهم، وتربصهم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} : الحسنيين: مشتقة من أحسن، وتأنيث أحسن حسنة، وحسنى، وتثنية الحسنى: هي الحسنيين؛ إلا إحدى العاقبتين: إما النّصر، أو الشّهادة في سبيل الله، وكلاهما حسن.
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} : ننتظر، ولو طال الانتظار، بكم: الباء: للإلصاق، والتّوكيد.
{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد التّوكيد.
{يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ} : الباء: للتعليل، والتّوكيد.
{بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ} : أيْ: أن تحل بكم قارعة من السّماء، أو مصيبة، أو زلزلة، أو رجفة، أو ما شاء الله.
{أَوْ بِأَيْدِينَا} : أيْ: ننتصر عليكم بالقتل، والأسر، والتّشريد.
{فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} : أي: انتظروا وترقبوا، أو انتظروا عاقبة ونهاية ما سيحدث لنا ولكم في الدّنيا، وفي الآخرة، وفيها نوع من الوعيد، والتّهديد.
سورة التوبة [9: 53]
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} :
هذه الآية أمر في معنى الخبر.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا} : من دون إكراه، أو جبر.
{أَوْ كَرْهًا} : ملزمين أو مُكرهين. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
{لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} : والسّؤال هنا كيف يأمرهم بالإنفاق، ثمّ يقول لهم: لن يُتقبل منكم، هذا القول يشابه قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} : أيْ: أنفقوا، أو لا تنفقوا؛ لا يهم، ولا يُتقبل منكم.
{لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} : للنفي القريب، والبعيد، وبكل تأكيد لن يُتقبل منكم خاصَّة.
{إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} : إن: للتعليل. فاسقين: من الفسق: وهو الخروج عن طاعة الله تعالى، ولم يحدد معنى الفسق في هذه الآية، وإنما حدَّده في الآية الآتية (54).
سورة التوبة [9: 54]
عدم قبول نفقاتهم في الآية السّابقة: هو كونهم قوماً فاسقين، ولم يشرح معنى فاسقين في تلك الآية السّابقة، ثمّ جاء في هذه الآية ليحدد معنى الفسق الّذي أريد به، وتضمن ثلاثة أمور:
1 -
الكفر بالله وبرسوله.
2 -
ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.
3 -
ولا ينفقون إلا وهم كارهون.
{كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} : انتبه استعمال الباء بالله، وبرسوله، ولم يقل بالله ورسوله، بالله وبرسوله: فيها توكيد أكثر من بالله ورسوله؛ وتعني: كفر العقيدة.
والباء: تفيد الإلصاق، والاختصاص، وحين يستعمل بالله وبرسوله؛ يستعملها في سياق المنافقين الّذين يعتبرون أنفسهم مسلمون، ويحاربون الله ورسوله، وهم غير معروفين. وحين يستعمل بالله ورسوله يستعملها في سياق الكفار؛ فهؤلاء هم كفار من الأصل لا يؤمنون بالله، ولا بمحمّد، وهويتهم معروفة، ويعبدون الأوثان وهم أخف وطئاً من المنافقين؛ لأنّهم لا يخادعون، ولا يمكرون.
{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} : رياءً من دون إخلاص، فهم يصلون رياء؛ إلا: أداة حصر، هم: ضمير فصل للتوكيد، وكسالى: تعني: التّراخي في القيام إليها.
{وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} : فهم لا ينفقون طاعة، بل لمصالح ظاهرة، وستراً لنفاقهم، ويُعدون الإنفاق مغرماً، وخسارة؛ إلا: أداة حصر، كارهون: غير راغبون؛ أيْ: مكرهون عن غير طيب نفس.
سورة التّوبة [الآيات 55 - 61]
سورة التوبة [9: 55]
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} : فلا: الفاء: استئنافية. والتّقدير: بما أنّهم كفروا بالله وبرسوله، ولا يأتون الصّلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون؛ فإن اتصفوا بتلك الصّفات: فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم، أو لا تنظر إلى أموالهم، ولا أولادهم.
لا: النّاهية. تعجبك: من الإعجاب بالشّيء: وهو الفرح به، مع التّعجب، واستحسانه.
{أَمْوَالُهُمْ} : من كثرتها، أو من غناهم.
{وَلَا} : أولادهم من الكثرة والقوة، تكرار لا: الناهية للتوكيد، ولفصل كلّ منهما على حدة، كثرة الأموال عن كثرة الأولاد، أو كلاهما معاً.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد.
{بِهَا} : في الحياة الدّنيا؛ ليعذبهم بها في كيفية جمعها، ويخافون عليها، وما يصحب ذلك من الحرص، ومن القلق، والهم حين يخسرون في التّجارة، أو الأسهم، وفي الآخرة يعذبون على عدم إخراج زكاتها؛ فتكون عليهم حسرة، أو ينفقونها في الصّد عن سبيل الله، أو في المحرمات، والمعاصي، أو التّبذير. وأمّا الأولاد فيعذبهم بهم حين يمرضون، أو يموتون، أو يحدث لهم طارئ، أو مصيبة.
{فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : ولم يقل في الدّنيا؛ لأنّها جاءت في سياق الإعجاب، والفرح؛ فإضافة كلمة الحياة تزيد من الغرور، ولكنه وصفها بالدّنيا؛ أيْ: بالحياة الدنيئة السفلى؛ لكونها زائلة، لا تدوم، وتخلوا من الطمأنينة.
{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} : تخرج.
{وَهُمْ كَافِرُونَ} : هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، كافرون: لم يتوبوا إلى الله؛ لأنّ التّكاثر ألهاهم؛ حتّى زاروا المقابر.
ولا بد من مقارنة هذه الآية (55) من سورة التّوبة، مع الآية (85) من سورة التّوبة أيضاً.
كلا الآيتين في سياق المنافقين:
الآية
85
الآية 55
في سياق الجهاد، والقتال في سبيل الله
في سياق الإنفاق في سبيل الله
{وَلَا تُعْجِبْكَ} : الواو: لا تدل على الترتيب، والتّعقيب
{فَلَا تُعْجِبْكَ} : الفاء: للترتيب، والتّعجب والتّوكيد
{أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ} : جمع الأموال والأولاد معاً؛ أيْ: أُعطوا نعمتي المال والأولاد معاً
{أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} : زيادة لا: للتوكيد؛ نافية، وفصل كلّ من الأموال والأولاد على حدة، أو كلاهما معاً؛ أيْ: منهم من أُعطي الأموال، ومنهم من أُعطي الأولاد
{أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} : أنْ: للتعليل
{لِيُعَذِّبَهُمْ} : اللام: للتوكيد، والتّعليل، والعذاب ليس بسبب جمعهم المال فقط، وإنما بسبب حبهم له، وعدم إنفاقه.
{فِى الدُّنْيَا} : من دون كلمة الحياة؛ لأنّ الجهاد، والقتال لا يناسب معه ذكر الحياة الدّنيا؛ اكتفى بذكر الصّفة
{فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : لأنه يتحدث عن المال، ناسب ذكر الحياة كلمة الدّنيا. الحياة الدنيا: الدنيا صفة للحياة
سورة التوبة [9: 56]
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُمْ مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} :
{وَيَحْلِفُونَ} : أي: المنافقون يحلفون بالأيمان الكاذبة، وكلمة الحلف في القرآن تأتي عادة في سياق اليمين الكاذب، وأما القسم في القرآن فيأتي عادة، أو يصدر من الصادق في أيمانه، أو الّذي يظن أنه صادق في قوله، رغم أنه كاذب، أو على غير حق، أو يقسم بغير حق.
{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد، يحلفون بالله الخطاب للمؤمنين.
{إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} : إن: للتوكيد، واللام: للاختصاص، والتّوكيد، منكم؛ أيْ: من المؤمنين، أو على دينكم.
{وَمَا هُمْ مِّنكُمْ} : ما: النّافية، هم: ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد، منكم: أيّها المؤمنون.
{وَلَكِنَّهُمْ} : لكن: حرف استدراك، وتوكيد.
{قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} : الفرق: هو الخوف الشّديد مع الفزع الدّائم بتوقع الضّرر أن يفتضح أمرهم (نفاقهم)، ويحل بهم ما حل بالمشركين من القتل، والسّبي، ويؤيدون ذلك بالأيمان الكاذبة إنّهم لمنكم، وهم يبطنون الكفر.
سورة التوبة [9: 57]
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَـئًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} :
{لَوْ} : شرطية.
{مَلْجَـئًا} : وهو الحصن.
{مَغَارَاتٍ} : جمع مغارة: هي الكهف في الأرض عموماً مقارنة بالغار الذي هو مغارة في الجبل.
{أَوْ مُدَّخَلًا} : اسم مكان في الأرض تدخل فيه بمشقة والْتواء وصعوبة.
{لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} : لذهبوا إليه، وهم يسرعون، كما تسرع الفرس الجموح، والجماح: هو فقد السّيطرة على الفرس الّتي يركبها الفارس؛ فلا يقدر على التّحكم بها؛ لأن ليس لها جماح، أو رسن، أو لجام.
ويعني ذلك: أنّهم في زمن السّلم، ومن مظاهر خوفهم (كونهم قوم يفرقون)؛ أيْ: يتمنون الفرار منكم؛ لئلا يفتضح أمرهم (نفاقهم)، والعيش بعيداً عنكم، ولو كان في ملجأ، أو مغارات، أو مدخلاً؛ أيْ: مكان أمن، ولو كان شر الأمكنة؛ لأنّ الله قذف في قلوبهم الرّعب.
وفي زمن الحرب، والقتال مجرد بدء القتال تجدهم يبحثون عن ملجأ، أو مغارات، أو مدخلاً؛ ليفروا إليه مسرعين خوفاً على أرواحهم من القتل، أو التّشريد، والفضيحة.
سورة التوبة [9: 58]
المناسبة: حدث هذا اللمز يوم حنين يوم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم.
{وَمِنْهُم} : من: البعضية؛ أيْ: بعض المنافقين.
{مَنْ يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ} : يَعيبُ عليك، ويطعن بك يا محمّد في قسمة الصدقات: بأنّك غير عادل، أو مقسط.
{فَإِنْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} : أيْ: قبِلوا، واطمأنوا، وتوقفوا عن اللمز.
{وَإِنْ لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ} : ظرفية فجائية، هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.
{يَسْخَطُونَ} : السّخط: هو عدم الرّضا؛ يبدأ في القلب، ثمّ يتعدَّى إلى اللسان؛ فيظهر التّذمر.
سورة التوبة [9: 59]
{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية (جوابها محذوف تقديره: لكان خيراً لهم).
{رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : فالله: هو المشرع، والرّسول: هو المنفذ، أو المقسِط.
{مَا} : اسم موصول بمعنى: الّذي، وأوسع شمولاً من الذي، والإيتاء: هو العطاء مع قابلية استرداده. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة. رضوا بما آتاهم الرّسول من الغنائم وقبلوا بها.
{وَقَالُوا حَسْبُنَا} : يكفينا ما آتانا الله ورسوله، أو رضينا بما قسم الله لنا.
{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} : سيرزقنا الله من فضله مرة أخرى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سيرزقنا الله عن قريب، والسّين: للاستقبال القريب؛ أيْ: في الدّنيا.
{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} : إنّا إلى طاعة الله ورسوله عاكفون مقيمون؛ أيْ: طالبون من الله الخير، والعفو، وتقديم (إلى الله) يفيد الحصر، والقصر؛ أيْ: فقط إلى الله راغبون، راغبون: جمع راغب على وزن فاعل.
سورة التوبة [9: 60]
تسمَّى هذه الآية آيةَ مصارف الزّكاة.
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} : للتوكيد، والحصر. الصّدقات: تعني الزّكاة.
{لِلْفُقَرَاءِ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق (أو الملكية)، والفقير الّذي لا شيء له.
{وَالْمَسَاكِينِ} : المسكين الّذي له شيء، ولكنه غير كاف، وهو أحسن حالاً من الفقير.
{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} : الجباة الّذين يجمعون الزكاة.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} : هم حديثو العهد بالإسلام، أو إسلامهم ضعيف، ولكسب قلوبهم، واستمالتهم للدخول في الإسلام يصرف لهم من الزكاة.
{وَفِى الرِّقَابِ} : لتخليصهم من الرّق، والعبودية، أو السّجن، أو الأسر؛ نعطي المال ليس لهم مباشرة إنما لغيرهم؛ لتبادل الأسرى، أو الفداء بالمال.
{وَالْغَارِمِينَ} : الّذين أثقلهم الدَّين، وعجزوا عن الوفاء بالدَّين، ولا يعصون الله (ولا يسرفون من الإسراف والتّبذير).
{وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ} : في الجهاد، وشراء السّلاح، والعدة للجهاد، ومن العلماء من قال في سبيل الله؛ يعني: كلّ عمل يرضي الله.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} : المسافر المنقطع في سفره، والغريب عن وطنه يعطى من الزّكاة؛ لسد حاجته حتّى يرجع إلى وطنه.
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} : أيْ: هؤلاء الثّمانية الّذين سبق ذكرهم يستحقون الزّكاة بفرض من الله تعالى، فلولا قوله:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} : فقد يُفهم إنما الصّدقات على سبيل الاستحباب، وليس الوجوب.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة كثير العلم، واسع العلم، عليم بمن يستحق الزّكاة، وعليم من يُزكي، وكم يُزكي، وبمن ينفق في سبيل الله.
{حَكِيمٌ} : صيغة مبالغة كثير الحكمة، أحكم الحاكمين، أحكم الحكماء، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وحكيم بما يُشرع لهم، وما يفرض عليهم.
انتبه إلى استعمال اللام، لام الملكية في الأصناف الأربعة الأوائل: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، ثمّ استعمل (في) في الأصناف الأربعة الأواخر: الرّقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السّبيل، والسبب في ذلك؛ لأنّ الأربعة الأوائل حين تصرف لهم الزّكاة، أو الصّدقات تصبح ملكاً لهم، وقيل: إنّ اللام للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم: لام الملكية؛ أيْ: يصرفونها كما يشاؤون.
أمّا الأربعة الأواخر: حين تصرف لهم الزّكاة؛ فهي لا تصل إلى أيديهم أنفسهم؛ فلا يملكونها، وإنما تصرف، وتعطى لغيرهم؛ فمثلاً في الرّقاب: تعطى لتخليص الفرد من الرّق، والعبودية؛ فهي تعطى للمالك، أو في سبيل فك أسره؛ فهي لا تعطى للشخص نفسه.
وفي الغارمين: المثقلون بالدُّيون؛ تدفع لمستحقي الدُّيون، وليس له هو نفسه تدفع من أجله، وليس له
…
وهكذا.
وفي سبيل الله: تدفع للجهاد، والتّحضير له.
وابن السّبيل: تعطى كي تسد حاجته فقط للعودة إلى وطنه، تعطيه أجرة الطّريق، وحاجته فقط، ولا يعطى المال لكي يمتلكه، وقد يكون غنياً، والتّرتيب هنا لا يفيد من هم الأهم، فالأهم.
سورة التوبة [9: 61]
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} : منهم: من البعضية؛ أيْ: من بعض المنافقين.
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} : بأقوالهم، وأفعالهم، والإيذاء ما يؤذي الإنسان في نفسه، أو بدنه، أو ماله، أو أهله، وإيذائهم له يتكرر، ويتجدد لقوله يؤذون بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد، والتّكرر، ولم يقل: أُوذوا وانتهى الأمر.
{وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} : هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، يقولون: هو أذن: أيْ: يصدق كلّ ما يقال له من خبر، ويستمع لكل فرد، ويعتبرون هذا غير جيد، ولا يليق بحقه، أو هو لا يميز بين الحق والباطل، ولا يمحص ما يقال له، وأطلقوا عليه لقب أُذن على اسم الجارحة الأذن.
{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} : أيْ: إن كان أذن كما تقولون فَنِعم الأذن؛ لأنّ نفعه يعود عليكم، ويبلغكم ما أنزل عليكم من ربكم.
{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق؛ إيمان عقيدة وإخلاص. ارجع إلى سورة البقرة آية (8).
{وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} : إيمان تصديق؛ أيْ: يصدقهم، ولم يقل: يؤمن لكم؛ لكان ذلك يشمل الكل: المؤمن، والمنافق
…
وغيرهما.
{وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} : والرحمة؛ تعني: يجلب لكم كل منفعة، ويدفع عنكم كل مضرة، ويبيِّن لكم ما أنزل عليكم.
{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص، رحمة خاصَّة للذين آمنوا منكم.
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : يؤذونه بأيِّ قول، أو فعل، أو طعن، أو عيب في ذاته، وأهله.
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام في الدّنيا، والآخرة.
سورة التّوبة [الآيات 62 - 68]
سورة التوبة [9: 62]
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} : يحلفون؛ أي: المنافقون يحلفون الأيمان الكاذبة للمؤمنين: أنّهم لم يطعنوا بالنّبي في خلواتهم، أو يطعنوا بالمؤمنين، وأنّ ذلك لم يصدر عنهم؛ يحلفون ليرضوكم، والله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين.
{لِيُرْضُوكُمْ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد.
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} : ولم يقل: يرضوهما؛ لأنّ الله ورسوله مثنى، ولكن جاء بصيغة المفرد (أن يرضوه)؛ لأنّ رضا الله سبحانه، ورضا رسوله واحد.
{إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك إن كان إيمانهم صحيح، وليس نفاقاً.
سورة التوبة [9: 63]
{أَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام، والتّوبيخ، والاستنكار.
{يَعْلَمُوا} : دائماً حين يقال: ألم يعلموا؛ يعني: أن هذا الأمر المعلن عنه الآن أُعلن في السابق، أو حدث سابقاً أن بلغهم الحكم، أو الخبر، أو الآية، أو النبأ، وكان من الواجب أن يعلموا ذلك، ولم ينسوه؛ فقوله:{أَلَمْ يَعْلَمُوا} استنكار لجهلهم، وعدم علمهم، أو لتخلفهم عن العلم، وهو:{أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} .
{أَنَّهُ} : أن: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.
{مَنْ} : شرطية؛ تفيد معنى الابتداء، والاستغراق.
{يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : أيْ: يعادي، ويحارب، ويشاقق دين الله ورسوله، كلمة يحادد: من الحد، وحد السّيف: هو الجزء القاطع؛ أيْ: كأنّه يحمل السّيف ليحارب، أو يحادد منهج الله ورسوله، أو دين الله ورسوله.
{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} : هذا إنذار إلى من يحادد الله ورسوله، الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ تفيد التّوكيد.
{خَالِدًا فِيهَا} : ولم يقل: خالدين فيها؛ لأنّ العزلة، والانفراد: هو نوع من العذاب؛ إضافة إلى النّار.
{ذَلِكَ} : ذلك: اسم إشارة يفيد البعد، بعد درجته في الخزي والذّل.
{الْخِزْىُ الْعَظِيمُ} : أيْ: ما ينتظرهم من العذاب، ليس أليماً فقط، بل فيه خزي، وهوان، وفضيحة؛ لكونه سيحدث على مرأى من النّاس.
سورة التوبة [9: 64]
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} : الحذر: هو توقي الضرر، أو الإعداد لدفع الخطر، أو الضّرر المتوقع سواء أكان التّوقع ظناً، أم يقيناً؛ فهم يخافون، ويحذرون أن تنزل عليهم سورة؛ أيْ: على المؤمنين (الرّسول والصحابة).
{سُورَةٌ} : مجموعة من الآيات؛ تكشف بما في قلوبهم من النّفاق، أو تفضحهم.
{بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ} : الباء: للتعليل، وما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي في قلوبهم.
{فِى قُلُوبِهِمْ} : في: ظرفية. قلوبهم: ورغم حذرهم؛ فهم لا يكفون عن الاستهزاء بالآيات، والدّين، والرّسول، والمؤمنين.
{قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} : الاستهزاء: هو التصغير من قدر وشأن المستهزَأ به، وعيبه.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد.
{مُخْرِجٌ} : مُظهر، ومُبدٍ.
{مَا تَحْذَرُونَ} : ما: بمعنى: الّذي، وهي أوسع شمولاً من الّذي.
{مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} : أي: إظهار نواياكم، وأقوالكم، وأفعالكم، وتخلفكم، وإسراركم.
سورة التوبة [9: 65]
سبب النّزول: كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ثلاثة من المنافقين يسيرون إلى غزوة تبوك بين يدي النّبي اثنان كانا يستهزئان بالرّسول، وبالقرآن، والثّالث يضحك؛ فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان هؤلاء الثّلاثة يستهزئون، ويضحكون؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: سلهم عما كانوا يستهزئون، ويضحكون منه، وقل لهم: أحرقكم الله؛ ففعل؛ فعلموا أن قرآناً نزل فيهم، فأقبلوا يعتذرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: ما تكلمت بشيء، ولكن ضحكت عجباً من قولهم؛ فنزلت الآية:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم} [الآية: 66].
وقيل: هناك أسباب أخرى، ومهما كان السّبب؛ فالعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السّبب.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} : لئن: اللام للتوكيد، إن: شرطية، سألتهم: المنافقين الثّلاثة، ليقولن: اللام للتوكيد والنّون لزيادة التّوكيد.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} : نخوض من الخوض والدّخول في الماء لمجرد اللعب؛ فالمنافقون يسمون الطّعن والاستهزاء بآيات الله ورسوله والمؤمنين مجرد تسلية ولعب، (واللعب هو اللهو الّذي يُشغل عن الطّاعات).
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: أبالله: الهمزة همزة استفهام إنكاري، والباء: للإلصاق.
{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ} : أبالله: تستهزئون؛ كأن تقولوا: إنّ الله فقير ونحن أغنياء، عيسى ابن مريم، والعزير ابن الله، الملائكة بنات الله، يداه مقبوضتان، وآياته (آيات القرآن العظيم والمعجزات)، أو يعدنا بالنصر على الروم، وفتح قصور الشام وحصونها.
{وَرَسُولِهِ} : تقولون: شاعر، وساحر، وكاهن، ومجنون، وإنّه مفتر، وأنّه أبتر، وأنّه أُذن.
{كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} : الاستهزاء: هو الاستخفاف، والتّحقير، والعبث بآيات الله، وبالتّالي الضّحك.
سورة التوبة [9: 66]
{لَا تَعْتَذِرُوا} : لا: النّاهية، تعتذروا: الاعتذار: الإدلاء بالعذر؛ طلباً لعدم المؤاخذة؛ لما قاله، أو فعله، لا تعتذروا: أيْ: لن تنفعكم أعذاركم الكاذبة.
{قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد، كفرتم بعد إيمانكم: كفرتم بسبب استهزائكم بعد إيمانكم بعد أن ادَّعيتم الإيمان باللسان فقط.
{إِنْ نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنكُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والنّدرة، نعف عن طائفة منكم؛ أيْ: نغفر ونتوب على طائفة منكم بأن نتوب عليهم إن تابوا؛ أي: الثالث الّذي كان يضحك (اعتبره وحده طائفة). ارجع إلى الآية السابقة (65).
{نُعَذِّبْ طَائِفَةً} : الاثنين المستهزئين (الطائفة الأخرى).
{بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} : الباء: للتعليل، أو الإبدال. أنّهم: للتوكيد.
{كَانُوا مُجْرِمِينَ} : جمع مجرم، والمجرم: المذنب، أو المنافق، وتطلق على المشرك، والكافر، والظّالم. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55) لبيان معنى مجرمين، وسورة الجاثية آية (31).
سورة التوبة [9: 67]
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} : جمع منافق، والمنافق: هو الّذي يظهر الإيمان باللسان، ويبطن الكفر. ارجع إلى الآية (49) من سورة الأنفال.
{بَعْضُهُم مِنْ بَعْضٍ} : أيْ: صنف واحد كتشابه أجزاء الشّيء الواحد، أو ذكورهم؛ كإناثهم متشابهون في النّفاق، والصّفات، والأحوال، وبعضهم من بعض؛ تعني: ليسوا من المؤمنين.
{يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} : يأمرون: يدعون إلى المنكر. المنكر تعريفه: هو ما يستقبحه الشّرع، ويمنعه، وما تستنكره العقول السّليمة؛ لمنافاته الأخلاق.
{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} : يحثون على ترك المعروف، والمعروف: هو كلّ أمر به الشّرع، واستحسنه العقل، والعرف الصّحيح، وينهون عن الإيمان.
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} : يمسكون عن الإنفاق في سبيل الله، والصّدقة؛ كناية عن الشّح، والبخل.
{نَسُوا اللَّهَ} : نسوا طاعة الله، وعبادته، وذِكره.
{فَنَسِيَهُمْ} : والله سبحانه لا ينسى أبداً، ولا ينسب له الغفلة سبحانه كقوله تعالى:{فِى كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، ولكن تعني: أهملهم، ونسيهم من رحمته، أو تركهم ولم ينظر إليهم، أو يكترث بهم.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} : إنّ: للتوكيد، هم: ضمير فصل يفيد المبالغة، الفاسقون: إذا كان يوجد غيرهم من الفاسقين فهم حقاً العاملون في الفسق، وفي طليعتهم.
{الْفَاسِقُونَ} : جمع فاسق، والفاسق: من خرج عن شرع الله؛ أيْ: دينه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ لمزيد من البيان.
سورة التوبة [9: 68]
{وَعَدَ اللَّهُ} : الوعد عادة يكون للخير، والوعيد للشر، من أوعد، وإذا استخدم وعد بدلاً من أوعد: فهذا يدل على الاستهزاء بالمنافقين، والتهكم، ولم يقل: يعد الله المنافقين؛ فجاء بصيغة الماضي؛ ليدل على أنّ هذا الأمر تحقق، وانتهى.
{الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} : الكفار: تدل على الاسم، والكافرين: تدل على الفعل، وفيها مبالغة من الكفر، والكفار أكثر من الكافرين؛ أيْ: عموم الكافرين، والمشركين، وعبدة الأصنام.
{نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود: استمرار البقاء من وقت مبتدأ، وهو دخولهم فيها، والخلود: اللزوم المستمر لما لا نهاية.
{هِىَ حَسْبُهُمْ} : دلالة على عظم عذابها؛ أيْ: تكفيهم جميعاً، وتكفي كل واحد منهم مهما عمل من سيئات، وذنوب، ومعاصٍ؛ فلا يحتاج إلى شيء آخر من العذاب.
{وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} : طردهم من رحمته، فلا تقبل لهم توبة، ولا عودة إلى الإيمان في الآخرة؛ لأنّ مكان التّوبة، والعودة هو في الدّنيا.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} : دائم، ومستمر على ألمه، وشدته، ونوعه لا يخفف، ولا يتغير، وتقديم لهم؛ تعني: خاصَّة لهم.
سورة التّوبة [الآيات 69 - 72]
سورة التوبة [9: 69]
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : الكاف: للتشبيه، والخطاب للمنافقين؛ فهم كأولئك الّذين جاؤوا من قبلهم في أمرين:
الأوّل: الاستمتاع بالخلاق؛ فهم استمتعوا بخلاقهم، وأنتم استمتعتم بخلاقكم، كما استمتعوا هم بخلاقهم، والخلاق: مشتق من الخلق؛ ويعني: التّقدير؛ أي: استمتعوا بنصيبهم الّذي قدر لهم من الملاذ، وكلمة خلاق: اختيرت بدلاً من نصيب؛ لتفيد كلا المعنيين.
والأمر الثّاني: خضتم في الباطل؛ كما خاضوا.
{كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا} : واختلفتم عنهم: بأنهم كانوا أشد منكم قوة؛ قوة بدنية؛ حيث زادهم الله بسطة في الجسم، وكانوا عمالقة، ويعيشون سنين أطول، وكانوا أكثر أموالاً، وأكثر أولاداً.
{أُولَئِكَ} : اسم: إشارة للبعد؛ تفيد الذمَّ.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : أيْ: لم يعُد لأعمالهم ثواب في الدّنيا والآخرة بطلت أعمالهم بسبب كفرهم ونفاقهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)، وآل عمران، آية (22)؛ لبيان معنى: حبطت.
{وَأُولَئِكَ} : تكرار أولئك: للتوكيد.
{هُمُ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْخَاسِرُونَ} : للمبالغة؛ أيْ: هم من أعظم الخاسرين؛ فإن وجد خاسرين فهم أشد الخاسرين. ارجع إلى سورة النساء، آية (119)؛ لمزيد من البيان.
سورة التوبة [9: 70]
الآية السّابقة: تحدثت بشكل عام عمن جاؤوا من قبل.
وهذه الآية: جاءت ببعض الأمثلة على أسماء الأقوام الخاسرين.
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} : ألم: الهمزة للاستفهام الإنكاري، والتّعجب، لم: حرف نفي، ألم يأتهم: أيْ: أتاهم؛ فحين ينفي النّفي في أمر ما يعني: المراد إثبات الأمر.
{فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (57)، وسورة آل عمران، آية (117)؛ للبيان.
سورة التوبة [9: 71]
قال تعالى سابقاً: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِنْ بَعْضٍ} ، ويقول في هذه الآية:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : هذا يسمَّى فنَّ المقابلة في علم البديع.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : الولاية: مأخوذة من يليه؛ أيْ: صار قريباً؛ فالموالاة: المحبة، والمودة، والنّصرة، والقرب، والمعونة؛ كلّ مؤمن ينصر أخاه، وكلّ مؤمن هو ولي، وهو موالٍ في نفس الوقت.
الولاية؛ تعني: القرب (من يليه صار قريباً منه)، والنّصرة. ارجع إلى سورة المائدة، آية (5)؛ لمزيد من البيان.
{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} : ارجع إلى الآية (67) من نفس السّورة.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} : لأن الصّلاة؛ تعني: استدامة الولاء للخالق سبحانه، وإقامة الصّلاة تعني: بشروطها، وأركانها، وسننها، وأوقاتها، وهي عماد الدِّين.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : ارجع إلى الآية (43) من سورة البقرة؛ للبيان.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} :
{وَيُطِيعُونَ} : الطاعة: الاستجابة، والانقياد لمطلوب الشارع وهو الله سبحانه بما أمر به واجباً كان أم مستحباً. يطيعون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدُّد، والتكرار؛ فهي طاعة تتكرَّر، وتتجدَّد، ومستمرة.
{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : ارجع إلى سورة آل عمران، آية (32)؛ لمزيد من البيان.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، والتّعظيم.
{سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} : السّين: للاستقبال القريب؛ تعني: الرّحمة قادمة لهؤلاء لا محالة، دائمة لا تنقطع، وإن تأخرت قليلاً، والرّحمة؛ تعني: جلب كل ما يسُر، ودفع ما يضر (أي: الوقاية)، وتعني: الإنعام.
{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.
{عَزِيزٌ} : غالب على أمره، لا يُغلب، عزيز ولا يُقهر، وممتنع، وقوي لا يعجزه شيء؛ له العزة جميعاً.
{حَكِيمٌ} : فيما يدبِّره في خلقه، وكونه، وحكيم تعني: الحاكم؛ فهو أحكم الحاكمين، وحكيم من الحكمة؛ تعني: أحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ للبيان.
سورة التوبة [9: 72]
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : وعد من الوعد.
الوعد: ما يلزم الشخص نفسه بالفعل، ومن دون شرط، ويرتب على عدم القيام به التوبيخ؛ فالوعد يقضي الإنجاز، وإذا أطلق ولم يتقيد يأتي عادة في سياق الخير، كما يأتي الوعيد في سياق الشر، والوعد: قد يكون مؤقت، أو غير مؤقت.
{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع من تحتها؛ جنات: جمع جنة، ومنها جنات الفردوس، وجنات عدن، وجنات النّعيم، ودار السّلام
…
وغيرها.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : ارجع إلى الآية (68) من نفس السّورة.
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ} : جنات عدن؛ تعني: جنات الإقامة الدّائمة، جنات كما جاء في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيها ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} : رضوان: مصدر لفعل رضي يرضى، ورضوان من الله أكبر: جملة اسمية؛ تدل على الثّبوت. مقارنة رضي الله عنهم، ورضوا عنه: ارجع إلى سورة آل عمران، آية (15)؛ لمعرفة معنى: رضوان.
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} : أكبر من الجنات، والمساكن الطّيبة، وجنات عدن، وكل ما فيها.
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد. هو: ضمير الفصل؛ يفيد التّوكيد.
فلما كان هناك رضوان من الله أكبر من الجنات ناسب ذلك استعمال هو: ضمير الفصل.
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : أعظم أنواع الفوز، وليس هناك أفضل من الفوز العظيم. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في معنى الفوز العظيم وأنواع الفوز أو درجاته والفروق.
لنقارن هذه الآيات الثّلاثة من سورة التّوبة:
{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} آية (72): فيها توكيد واحد: هو ضمير الفصل، هذا الفوز أعظم من الفوز العظيم، ولكنه أقل درجة من {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} آية (89): ليس فيها توكيد؛ الفوز العظيم.
{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} آية (111): فيها توكيدان: الواو+ هو؛ الفوز العظيم هذا: هو أعلى درجات الفوز، ويتضمن جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة، ورضوان من الله، والخلود فيها أبداً. انظر إلى السياق في الآيات الأخرى؛ فهي أقل من ذلك.
فالآية (111): جاءت في سياق الجهاد في سبيل الله، ويَقتلون، ويُقتلون.
والآية (89): جاءت في سياق الجهاد في سبيل الله، ولم يقاتلوا، أو يقتلوا (كما حدث في تبوك
…
وغيرها).
والآية (72): جاءت في سياق المؤمنين، والمؤمنات الّذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويأتون الزكاة.
لنقارن الآية (72) مع الآية (100) من سورة التّوبة:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} .
فقوله تعالى في الآية (72): {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : يشمل جنات، ومساكن طيبة، ورضوان من الله، وتجري من تحتها الأنهار.
1 -
هذه أعلى منزلة من الّتي وردت في الآية (100)، والّتي تخص السّابقون الأولون، والذين اتبعوهم (ليس فيهم الأنبياء).
2 -
{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا} : أفضل من: {تَجْرِى تَحْتَهَا} : تدل على الثّبوت.
3 -
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} : جملة اسمية؛ أفضل من: {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : جملة فعلية تدل على تجدُّد الحدوث.
سورة التّوبة [الآيات 73 - 79]
سورة التوبة [9: 73]
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : ارجع إلى الآية (64) من سورة الأنفال؛ للبيان. والخطاب موجَّه إلى أمته صلى الله عليه وسلم.
{جَاهِدِ الْكُفَّارَ} : جاهد بالقول والحُجَّة والقوَّة، الكفار: جمع كافر، والكفار: صيغة مبالغة، ولم يقل: الكافرين، الكفار: جمع تكسير؛ فهي تدل على أكثر عدد من الكافرين.
وكلمة الكفار: تشير عادة إلى عقيدة الكفر، والكافرين تشير إلى فعل الكفر، أو العمل.
{وَالْمُنَافِقِينَ} : جمع منافق: وهو الّذي يظهر الإيمان والإسلام، ويبطن الكفر. ارجع إلى الآية (138) من سورة النساء؛ لمزيد من البيان.
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} : الغلظة: الشّدة بالإنذار، وخشونة الجانب، وعدم الرّأفة، وعدم اللِّين معهم.
{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : المأوى: مكان الاستقرار، والإقامة في الآخرة.
{جَهَنَّمُ} : اسم من أسماء النّار؛ مشتق من الجهومة؛ أي: الشيء المرعب، والكريه المنظر، وقد تعني: بعيدة القعر.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : وبئس: من أفعال الذّم، والمصير: النّهاية؛ بئس النّهاية، أو المنتهى والإقامة.
وقدَّم الكفار على المنافقين في هذه الآية: التّقديم هنا من حيث الزّمن فالكفار جاؤوا قبل المنافقين، والنّفاق ظهر في المدينة بعد الهجرة، أو بسبب كثرة الكفر مقارنة بالنفاق.
وقد يقدِّم النّفاق على الكفر إذا كان سياق الآيات في المنافقين، وأعمالهم، وانتشار النّفاق وكثرته؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
سورة التوبة [9: 74]
سبب النّزول: كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : المرجح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بغزوة تبوك؛ فذكر المنافقين الّذين تخلفوا عن تبوك، وسماهم رجساً، وعابهم، وبعد ذلك قال الجلاس بن سويد: والله لئن كان محمّداً صادقاً فيما يقول؛ فنحن أشرُّ من الحمير؛ فسمعه عامر بن قيس الأنصاري، وقال له: لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم أشرُّ من الحمير، ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ قام عدد من المنافقين ليقتلوا عامر بن قيس؛ فلجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قال الجلاس، وكان من سادة قومه؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلاس؛ فأنكر ما قاله، وحلف بالله أنّ ما قاله عامر بن قيس كذب، وعندها دعا عامر بن قيس الله أن ينزل على نبيه آية لتصديق الصّادق، وتكذيب الكاذب؛ فنزلت هذه الآية، واعترف الجلاس بما قاله، ثمّ تاب بعد ذلك وحسنت توبته، وتجاوزت هذه الآية إلى ذكر أشياء أخرى، منها: محاولة الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما سنرى.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ حين قال: رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذلَّ؛ فحلف أنّه لم يقل ذلك، وهذا ما قاله قتادة.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين الّذين سبُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في الدِّين، ثمّ حلفوا أنّهم لم يقولوا ذلك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، هذا ما قاله الضحاك.
{يَحْلِفُونَ} : أي: المنافقون؛ أمثال: الجلاس بن سويد، أو عبد الله بن أُبَيٍّ، والحلف يعني هنا: الأيمان الكاذبة.
{مَا قَالُوا} : ما: النّافية، قالوا: ولم يُبين، أو يذكر ما قالوا؛ لأنّه غير مهم، أو الّذي قالوا من سبٍّ، أو طعن، أو كذب.
{وَلَقَدْ قَالُوا} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، والتّوكيد.
{قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} : لم يذكر الله سبحانه ما هي كلمة الكفر الّتي قالها المنافقون ترفعاً عن ذكرها، ولكي لا يردِّدها أحد، أو تذكر في كتاب الله الكريم، ولذلك لا داعي لمحاولة معرفتها، والتكهُّن بها.
{وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} : عادوا إلى الكفر بعد أن أظهروا، أو ادعوا الإسلام بالنّطق بالشّهادة؛ أيْ: مجرَّد قول باللسان فقط.
{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} : وهمُّوا على قتل الرّسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا (12) منافقاً، وكان ذلك عند العقبة، وفشلت مؤامرتهم لقتل النّبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتحقق ما هموا به، وقيل: كلّهم ماتوا، وهم على الكفر، ومحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا نَقَمُوا} : الواو: استئنافية، ما: النّافية، نقموا: فيه تهكم عليهم، وتأكيد الشّيء بخلافه، وتعني: فليس هناك شيء بقي لهم؛ لينقموا: ليعتبوا، أو لا يرضوا بعد أن أغناهم الله، ورسوله من فضله؛ فقد كانوا كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما قبل قدوم النّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ضنك العيش فقراء؛ فلمَّا قدِم: غنموا، وصارت لهم الأموال، وقيل: إنّ الجلاس بن سويد لما قُتل له غلام على يد المسلمين دفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم (12000) درهم دِيةً؛ فبدلاً من شكر الله وحده على ما فضل الله عليهم ورسوله؛ كفروا، ونقموا، وهموا بما لم ينالوا.
{إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} : إلا: أداة حصر، أن أغناهم الله ورسوله من فضله: ولم يقل: من فضلهما، ولكنه قال: من فضله؛ لأنّ الله سبحانه لا يُثنى مع أحد، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، والفضل يعود إلى الله وحده، وإن كان رسول الله سبباً لذلك الفضل.
{فَإِنْ} : الفاء: للتوكيد، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.
{يَتُوبُوا} : من النّفاق، ومما قالوه، وفعلوه.
{يَكُ} : ولم يقل: يكن، يك: للدلالة على أنّ هذه التّوبة، ولو كانت بأقل الدرجات أفضل من كفرهم، ونفاقهم؛ فعسى الله أن يعفو عنهم حيث باب التّوبة ما زال مفتوحاً أمامهم.
{وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} : عن التّوبة، والإيمان، ويعرضوا، ويصروا على النّفاق.
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الْأَرْضِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} : ولي: القريب المعين الّذي يكن لك المحبة، والمودة، ولا نصير: الّذي ينقذه من العذاب، أو يشفع له، أو يدفع عنه العذاب، من: تفيد الاستغراق، والتّوكيد.
سورة التوبة [9: 75]
{وَمِنْهُم} : من المنافقين. من: ابتدائية، وتعني: المفرد، والمثنى، أو الجمع.
{عَاهَدَ اللَّهَ} : العهد: الوعد المقرون بشرط، والعهد: يقتضي الوفاء.
{لَئِنْ} : اللام: للتوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال، والشّك.
{آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} : آتاهم: أعطاهم، وهناك فرق بين الإيتاء، والعطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ للبيان.
{مِنْ فَضْلِهِ} : أي: المال، والحرث، والأنعام.
{لَنَصَّدَّقَنَّ} : اللام: للتوكيد، والتّعليل، والنّون: للتوكيد أيضاً. الصّدقة: تعني: الزّكاة الواجبة، أو صدقة النّفل.
{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} : ولنكونن: اللام: لام التّعليل، والتّوكيد، والنّون: للتوكيد.
{مِنَ} : ابتدائية بعضية.
{الصَّالِحِينَ} : أيْ: نعمل عمل أهل الصّلاح، والخير؛ مثل: الإنفاق في الخير، والبر، والطاعات. ارجع إلى سورة البقرة، آية (130)؛ لمزيد من البيان في معنى الصالحين.
سورة التوبة [9: 76]
{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} :
{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب. لما: ظرف زماني متضمن معنى الشّرط.
{آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} : أتاهم؛ أيْ: رزقهم رزقاً وافراً؛ زاد عما تعطيه الأسباب، وقدرة الشّخص؛ فهو رزق+ فضل. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ للبيان.
{مِنْ فَضْلِهِ} : والفضل: هو الزّيادة على الأجر؛ أيْ: رزقهم، وأغناهم من فضله، ومن دون استحقاق.
{بَخِلُوا بِهِ} : والبخل: هو الامتناع عن العطاء.
{وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} : أعرضوا، وامتنعوا عن التّصدق، والعمل الصّالح الّذي وعدوه، وطاعة الله ورسوله، وهم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مُّعْرِضُونَ} : جمع معرض؛ أيْ: رافض، أو ناقض لعهده، ومعرضون: جملة اسمية؛ تدل على الثّبوت؛ أيْ: ثبوتهم، واستمرارهم على الإعراض، والتولي.
سورة التوبة [9: 77]
{فَأَعْقَبَهُمْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب. أعقبهم؛ أيْ: تلا ذلك، أو عاقبهم على نفاقهم بأن أسكن الله النّفاق في قلوبهم إلى يوم القيامة.
فلا ينفك عنهم، ولا يمكنهم من التّوبة؛ فيموتوا وهم على النّفاق.
{نِفَاقًا} : هنا: نكرة يشمل كلّ أنواع النّفاق: نفاق القول، والعمل
…
وغيرها.
{إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} : إلى يوم القيامة.
{بِمَا} : الباء: باء البدلية، أو السّببية، أو التّعليل. ما: حرف مصدري.
{أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} : ما: هنا اسم موصول؛ تعني: الّذي وعدوه من التّصدق، والعمل الصّالح، {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
{وَبِمَا} : تكرار بما: للتوكيد، وفصل كلاً منهما على حدة، أو كلاهما معاً؛ أيْ: بعضهم أخلف، وبعضهم كذب.
{يَكْذِبُونَ} بما كانوا يكذبون أنّهم مؤمنون، ومخلصون، أو إنّهم لمنكم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ـ كما جاء في الصحيحين ـ:«آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» .
سورة التوبة [9: 78]
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} : الهمزة: للاستفهام، وتعني: ألم يكن عندهم علماً سابقاً، أو أولم يكن معروفاً لديهم سابقاً؛ أيْ: كان عندهم علم، وخبر، ومعروفاً سابقاً أنّ الله يعلم سرهم ونجواهم. ارجع إلى الآية (63) من سورة التّوبة؛ لمزيد من البيان.
{أَنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} : السّر: هو ما يسره الإنسان في نفسه، ولا يطلعه على أحد.
{وَنَجْوَاهُمْ} : من النّجوى: وهي ما تسر به للغير بوجود شخص آخر لا يعلم ما تسرون به. ارجع إلى النّجوى في سورة المجادلة، آية (7).
{وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} : أن: للتوكيد، علام: صيغة مبالغة من فعل علم على وزن فعّال عالم، عليم، علام.
{الْغُيُوبِ} : جمع غيب، والغيب: هو غاب، واستتر عن البشر، وما غاب في السّماء، والأرض.
{عَلَّامُ} : لأنّه هو خالق الغيوب، فلا الغيب يغيبُ عن علمه، ولا العالم المشهود. ارجع إلى سورة المائدة، آية (109)؛ لمزيد من البيان في علام الغيوب.
سورة التوبة [9: 79]
{الَّذِينَ} : اسم موصول يعود على المنافقين.
{يَلْمِزُونَ} : من اللمز: وهو أن يعيب شخص على آخر، وهو غير حاضر، وأما الهمز: فهو أن يعيب شخص على آخر، وهو حاضر.
والعيب: يكون بالقول، أو الفعل، أو بالإشارة بالعين، أو الفم، أو اليد.
يلمزون بصيغة المضارع بدلاً من لمزوا؛ لتدل على تجدُّد، وتكرُّر هذا الفعل، واستمرارهم عليه.
{الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ} : المطوعين: جمع مطوع، أو متطوع. المتطوعون: المتبرعون، المتصدقون من المؤمنين، والمطوع: هو الّذي يزيد على ما فرض الله عليه من جنس ما فُرض، وهذا يسمَّى الإحسان، وهو نوعان: إحسان الكم، وإحسان الكيف.
يعيبون على المطوعين من المؤمنين في الصّدقات: يعيبون على الفرض ما فرضه الله ورسوله؛ سواء كان المقدار قليلاً، أو كثيراً؛ فإذا كان المقدار كثيراً يقولون: جاء المطوع رياء، وإذا كان قليلاً يقولون عن صاحبه: بخيل.
{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} : الجهد: هو الشّيء القليل من المال؛ إلا طاقتهم، وما يقدرون عليه من التّصدق، وجُهد المقل قدر ما يتحمله حال القليل المال.
{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} : السّخرية: استنقاص حق من يسخر منه، وفيها معنى الإذلال لمن يسخر منه، والتّسخير في الأصل التّذليل.
والسّخرية: تكون خاصَّة بالأشخاص، أو أعمالهم، والسّخرية تدل على فعل قام به المسخور منه أولاً، ويسخرون بصيغة المضارع؛ للدلالة على حكاية الحال إحضار فعل السّخرية؛ كأنه يحدث الآن.
{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} : أيْ: جازاهم الله على سخريتهم، وهذا من باب المشاكلة في القول، أو أذلهم الله، وأنقص قدرهم، والله سبحانه غني عن السّخرية من أحد.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : لهم: اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام في الآخرة لا يطيقونه.
سورة التّوبة [الآيات 80 - 86]
سورة التوبة [9: 80]
{اسْتَغْفِرْ} : أمر؛ بمعنى: الخبر.
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} : تقديره: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم؛ لن يغفر الله لهم.
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} : قيل: تعود على المنافقين الّذين كانوا يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات.
سبب نزول الآية: روي عن ابن عمر: سأل عبد الله بن عبد الله بن أُبَيٍّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً صالحاً: أن يستغفر لأبيه، أو قيل: جاء بعض المنافقين؛ لما نزلت الآيات الفاضحة بشأنهم يعتذرون، ويطلبون من الرّسول الاستغفار؛ فجاء الرّد من الله سبحانه بنزول هذه الآية.
فاستغفار النّبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، وعدمه سواء، والسّبب واضح: ذلك بأنّهم كفروا بالله، ورسوله، وماتوا على ذلك.
{سَبْعِينَ مَرَّةً} : كانت السّبعة عند العرب في السّابق تعتبر نهاية العدد، وإذا أرادوا الزّيادة على السّبعة يستعملون حرف عطف مثل سبعة، وثامنهم كلبهم، أو يستعملون السبعين (70)؛ للمبالغة، أو سبعمئة.
{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} : فلن: الفاء للترتيب والتّعقيب وتفيد التّوكيد، لن: من أقوى حروف النّفي؛ ينفي المستقبل القريب، والبعيد؛ بأن الله لن يغفر لهم إذا لم يتوبوا، ويرجعوا عن نفاقهم، وكفرهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} :
والسّبب لعدم قبول الاستغفار:
{بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} : الباء: للإلصاق، والتّعليل، وتفيد التّوكيد؛ جحدوا بالله، وآياته، ولم يعترفوا برسوله.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : لا يهدي القوم الفاسقين؛ الّذين هداهم الله إلى طريق الخير، والإيمان، ولكنّهم رفضوا ذلك، واختاروا طريق الفسق، والخروج عن طاعة الله ورسوله، والضّلالة، والغي، وتمادوا في ذلك، ولم يعد هنالك أمل في إصلاحهم.
لنقارن بين هذه الآية (80): {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
مع الآية (6) من سورة المنافقون: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
فآية التّوبة: لما نزلت وحدَّدت سبعين مرة؛ ظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا زاد عن السّبعين قد يقبل الله؛ فجاءت الآية في سورة المنافقون بحسم الأمر: لن يكون هناك استغفار مقبول لهم؛ مهما كان عدده، ونوعه إذا لم يتوبوا توبة صادقة، أو توبة نصوحاً.
سورة التوبة [9: 81]
{فَرِحَ} : الفرح: هو شعور النّفس بالسّرور، وهو فرح مذموم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان أنواع الفرح.
{الْمُخَلَّفُونَ} : منهم المنافقون، والّذين تخلفوا، ولم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وبقوا في المدينة.
{بِمَقْعَدِهِمْ} : بقعودهم، المقعد: هو مكان القعود، والقعود يعني: البقاء في المكان.
1 -
خلاف: قد تعني: بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم تصبح الآية: فرح المخلفون بمقعدهم بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك.
2 -
وخلاف: قد تعني: فرح المخلفون بمقعدهم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
وخلاف: قد تعني: أنّهم تأخروا عن الجهاد.
وقد تعني كل هذه المعاني.
{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِى الْحَرِّ} : وقالوا: لا تنفروا في الحر؛ إذن: هم فرحوا أولاً بمقعدهم، وكرهوا الجهاد ثانياً، وثالثاً: لم يكتفوا بموقفهم المخزي، بل أخذوا يحرِّضون المؤمنين على عدم الخروج، والجهاد، والقتال في سبيل الله، وقالوا لبعضهم بعضاً: لا تخرجوا بسبب الحر الشّديد؛ أيْ: إيثاراً للراحة، وعدم التّعرض للحر الشّديد، والشّدة.
{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} : الله سبحانه علم ما قالوا لبعضهم بعضاً: لا تنفروا في الحر؛ فردَّ عليهم: قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم نار جهنم أشد حراً.
{لَّوْ} : شرطية.
{كَانُوا يَفْقَهُونَ} : والفقه: الفهم؛ فهم الأحكام الشرعية؛ فالتّدرج يكون كما يلي: التّفكر، ثمّ التّدبر، ثمّ الفقه، ثمّ العلم. ارجع إلى سورة النساء آية (78) للبيان المفصل في يفقهون.
سورة التوبة [9: 82]
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} : الفاء: للتوكيد، واللام: لام الأمر، أو التّعليل، ولم يقل: سيضحكون: كلام إخباري، وإنما: فليضحكوا جاء مؤكداً للضحك، ولا بدّ من أن يحدث في الدّنيا، ولكنّه قليل؛ فليضحكوا قليلاً في الدّنيا.
{وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا} : الباء: للإلصاق، والبدلية، والسّببية، وما: اسم موصول، أو مصدرية، وليبكوا كثيراً في الآخرة، واللام في ليبكوا: للتوكيد، وتعني: أما الزمن: أي: ليضحكوا وقتاً أو زمناً قليلاً في الدنيا، وليبكوا وقتاً أو زمناً كثيراً في الآخرة. وأما الحدث: أي: ليضحكوا ضحكاً قليلاً في الدنيا، وليبكوا بكاء كثيراً في الآخرة، وقد تعني كلاهما.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : في الدّنيا من الذّنوب، والسّيئات، والكسب عادة يستعمل للحسنات (للحلال).
والاكتساب يستعمل للسيئات (للحرام). ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة؛ للبيان لماذا استعمل يكسبون.
سورة التوبة [9: 83]
{فَإِنْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.
{رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ} : رجعك: ولم يقل: رجعت، رَجَعَكَ: الفاعل هنا هو الله سبحانه؛ أما رجعت: فالفاعل هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقوله: رجعك: تدل على أن الأمر بيد الله تعالى، ولا خيار لك. رجعك الله؛ أيْ: قدر لك الرّجوع بعد غزوة تبولك إلى طائفة منهم؛ طائفة من المخلفين (المنافقين)؛ الّذين لم يتوبوا بعد رجوعك إلى المدينة، واستمروا على نفاقهم.
{فَاسْتَـئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} : طلبوا منك الإذن لهم؛ ليخرجوا معك في الغزوات القادمة.
{فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} : الفاء: للتوكيد، قل لهم: لن حرف نفي للمستقبل القريب والبعيد، تخرجوا معي أبداً: أبداً للتوكيد، تخرجوا معي للجهاد، ولن تقاتلوا معي عدواً.
{إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : إنكم: إن: للتوكيد، رضيتم بالقعود أول مرة (بعدم الخروج لتبوك). قيل: كانوا (12) رجلاً.
{فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} : ولم يقل: مع المخلفين. الفاء: للتوكيد؛ اقعدوا مع الخالفين: تختلف عن المخلفين؛ لها معانٍ عدة:
الأول: الخالفين من النّساء، والصّبيان، والمرضى: الّذين تخلفوا، ولم يستطيعوا الخروج.
ثانياً: الّذين تخلّفوا لأعذار.
ثالثاً: المخالفين الفاسدين؛ لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة التوبة [9: 84]
سبب النّزول: نزلت في شأن عبد الله بن أُبَيٍّ زعيم المنافقين؛ حين مرض جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبَيٍّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي أسلم، وحسن إسلامه طالباً من رسول الله أن يعطيه قميصه حتّى يكفن فيه أباه؛ فأعطاه ثمّ سأله أن يصلي عليه؛ فقام ليصلي عليه، ويستغفر له عندها وقف عمر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والقبلة؛ حتّى لا يصلي، ونزلت هذه الآية؛ كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما . أخرجه البخاري.
ووافق الوحي موقف سيدنا عمر رضي الله عنه في عدم الصّلاة على عبد الله بن أُبَيٍّ، وكذلك وافق الوحي سابقاً رأي سيدنا عمر رضي الله عنه في أُسارى بدر، ووافقه في اتخاذ مقام إبراهيم مصلى؛ حيث كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى. أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس.
{وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} : كان إذا دفن الميت، وقف على قبره، ودعا له، أو السّلام عليه، أو الوقوف على القبر لدفنه؛ فمُنع في هذه الآية أن يقيم على قبر أيِّ منافق ويدعو له.
{إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} : إنّهم: إن: للتوكيد؛ كفروا بالله ورسوله؛ هذا تعليل للنهي، ولم يقل: وماتوا وهم كافرون، وماتوا وهم فاسقون، وصفهم بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر؟؟ والكفر أعظم من الفسق؛ فكيف يكفر، ثمّ يموت وهو فاسق؟
إذا قلنا: كفروا بالله ورسوله؛ أيْ: هم غير مسلمين أصلاً، وفاسقون؛ أيْ: خارجون عن الإسلام، ولم يتوبوا، وماتوا وهم على ذلك، وقد تعني: ذكر الخاص بعد العام، العام: هو الكفر، والفسق: هو الخاص.
سورة التوبة [9: 85]
ارجع إلى الآية (55) من سورة التّوبة؛ للبيان، والمقارنة.
سورة التوبة [9: 86]
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية؛ تفيد حتمية الحدث، وكثرته.
{أُنزِلَتْ سُورَةٌ} : تحض على الجهاد في سبيل الله.
{أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} : أن: تفيد التّوكيد، آمنوا بالله؛ أيْ: أخلصوا دينكم، آمنوا بالقلب، واللسان، آمنوا بالله إيمان عقيدة. ارجع إلى سورة البقرة آية (8).
{وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} : بالمال، والأنفس، واخرجوا معه.
{اسْتَـئْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} : طلبوا (الألف، والسين، والتاء؛ تعني: طلب الإذن، والسّماح لهم)، طلب أولو الطّول: الأغنياء الّذين يملكون المال، والعدة، والقدرة على الجهاد.
{ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} : ذرنا: اتركنا مع القاعدين: العجزة، والمرضى، والخالفين.
ما هو الفرق بين القاعدين، والخالفين؟
القاعدين: ليس لهم القدرة على القتال؛ كالمرضى، والأطفال، والنّساء، والعجزة من الرجال.
الخالفين: لهم القدرة على القتال، ولكنّهم انتحلوا الأعذار الكاذبة؛ للسماح لهم بالقعود مع الخالفين.
الخالفين: الّذين تخلَّفوا من دون عذر، أو تعني: المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: العاصين.
سورة التّوبة [الآيات 87 - 93]