المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة التوبة [9: 87] {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ١١

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة التوبة [9: 87]

{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} :

{رَضُوا} : قبلوا، أو اكتفوا.

{بِأَنْ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} : الخوالف: جمع خالفة، والخوالف: النّساء، القاعدات، المقيمات في البيوت بعد رحيل الرّجال.

{وَطُبِعَ} : مبني للمجهول يناسب قوله تعالى: وإذا أنزلت سورة: مبني للمجهول.

{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : بحيث لا يدخل قلوبهم ذرة من الإيمان، ولا يخرج منها ذرة كفر. قلوبهم أصبحت كالحجارة، أو أشد قسوة، وطبع على قلوبهم: الفاعل ضمير مبني للمجهول مقارنة بقوله: وطبع الله على قلوبهم الفاعل هو الله سبحانه؛ فحين يقول: وطبع الله على قلوبهم: أشد، وأقوى، وأسوأ حالة من قوله: وطبع على قلوبهم، والطّبع كما نعلم أشد من الختم؛ لأنّ الختم قد يُفك، والطّبع لا يفك. وإذا قارنا هذه الآية (87) مع الآية (93) من نفس السورة نجد أن السياق في الآية (93) جاء في الذين أشد ضلالاً وكفراً، وهم من الأغنياء الذين لم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.

{فَهُمْ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{لَا يَفْقَهُونَ} : لا: النّافية؛ فهم لا يفقهون: الفقه: هو الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها؛ أيْ: لم يفهموا ما في جهادهم مع رسول الله من الأجر العظيم. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

ص: 1

سورة التوبة [9: 88]

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

{لَكِنِ} : حرف استدراك، وتوكيد.

{الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} : أيْ: وإن تخلف هؤلاء عن الخروج، فلا يهم ذلك، ولا تكترث بهم، ما دمت قد خرجت أنت، والذين آمنوا معك للجهاد في سبيل الله.

{وَأُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، بُعد منزلتهم، ومكانتهم في الآخرة.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{الْخَيْرَاتُ} : جمع الخيرة، لهم الخيرات في الدارين: الدّنيا والآخرة.

{وَأُولَئِكَ} : تكرار أولئك: يفيد التّوكيد.

{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد. المفلحون: الناجون من النار، والفائزون بالجنة؛ الفائزون حقاً، بل هم في طليعة الفائزين. ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 2

سورة التوبة [9: 89]

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

هذه الآية قد تكون تفسيراً للخيرات، والفلاح في الآخرة، أما في الدّنيا: فتشمل النّصر، والمعونة، والغنى

وغيرها.

{أَعَدَّ اللَّهُ} : هيَّأ، وجهَّز الله لهم.

{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : جنات: حدائق، وبساتين فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه . ارجع إلى الآية السابقة (72)؛ لمزيد من البيان.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : من: تعني: تنبع من تحت هذه الجنات الأنهار. أما تجري تحتها، كما ورد في الآية (100) من نفس السورة؛ أيْ: تمر تحتها الأنهار الّتي تنبع من أماكن أخرى.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود هو استمرار البقاء إلى ما لا نهاية، ويبدأ من زمن دخولهم الجنات.

{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد، الفوز العظيم لا يعادله فوز. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في معنى الفوز وأنواعه أو درجاته، ارجع إلى الآية (72) من سورة التّوبة؛ للمقارنة.

ص: 3

سورة التوبة [9: 90]

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} : لفهم هذه الآية لا بد من معرفة: أنّ المنافقين قسمان: قسم كان يعيش في المدينة، وسبق الحديث عنهم، وقسم كان يعيش خارج المدينة، كانوا يسمون الأعراب؛ لقوله سبحانه:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} ؛ فهذه الآية تتحدث عن هؤلاء الأعراب المنافقين الّذين كانوا يسكنون خارج المدينة في البوادي، والصّحراء.

{وَجَاءَ} : الواو: استئنافية. جاء: فعل ماض، وجاء تدل على صعوبة في المجيء بعكس أتى التي تدل على سهولة المجيء.

{الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} : بفتح العين، وتشديد الذَّال: جمع مُعَذِّر: وهو الّذي يعتذر، وليس له عذر حقيقي؛ فهو يفتعل، أو يختلق العذر؛ أيْ: هو كاذب، عذره غير صحيح.

بينما المُعْذرون: بسكون العين جمع مُعْذر: هو الّذي يعتذر بعذر حقيقي صحيح، والمُعْذرون لهم عذر واحد فقط.

أما المُعْتذرون: بسكون العين جمع معتذر: هو الّذي يعتذر بعدة أعذار حقيقية صحيحة؛ أيْ: عنده أكثر من عذر.

وجاء المُعذِّرون من الأعراب: الأعراب: اسم جنس، وهم البدو الّذين يسكنون الصحراء، أو خارج المدن، والقرى، والواحد أعرابي، وهم يشتهرون بشدة وغِلظَة الطّباع الّتي تماشي طبيعة الصّحراء القاسية.

أما العرب: فهم الّذين يعيشون في المدن، والقرى، وعندهم حضارة، وأسهل معاشرة من الأعراب.

المُعَذَّرون: بفتح العين، وتشديد الذَّال وفتحها: إذن جاء الأعراب الّذين ينتحلون الأعذار الكاذبة.

{لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد. ليؤذن لهم: بالقعود، وعدم الخروج للجهاد، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليؤذن لهم، وقعد الّذين كذبوا الله ورسوله؛ هؤلاء صنف آخر من الأعراب المنافقين الّذين لم يكترثوا، أو يهمهم لا الخروج في سبيل الله، ولا الجهاد، ولم يفكِّروا حتّى بأيِّ عذر ليس عندهم نية بالاعتذار؛ حتّى ولو كان كذباً؛ مما يدل على تكبرهم؛ فهم الأسوأ على الإطلاق؛ فهم كذبوا في إيمانهم.

{سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : السّين: للاستقبال القريب؛ سيصيب الّذين كفروا منهم: من الأعراب منهم خاصَّة لا غيرهم: عذاب أليم قريب في الدّنيا بالقتل، والسّبي، والتّشريد، والفضيحة، وفي الآخرة: عذاب النّار.

ص: 4

سورة التوبة [9: 91]

{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{لَّيْسَ} : أداة نفي؛ لنفي الحال، والاستقبال، وليس مقيدة بزمن.

{عَلَى الضُّعَفَاءِ} : العجزة، والشّيوخ، والنّساء، والصّبيان.

{وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} : الواو: عاطفة، لا: لتأكيد النّفي، المرضى: بمرض حاد، أو مزمن؛ مثل: السّكري، والتهاب المفاصل، وكذلك الأعمى، والأعرج.

{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} : ولا: لتأكيد النّفي؛ نفي الحرج: وهو الإثم، أو الذّنب على كل هؤلاء، وكذلك الفقراء: ليس عليهم إثم، أو ذنب في عدم الخروج للجهاد في سبيل الله، أو الإنفاق في سبيل الله (أي: الجهاد).

{إِذَا} : شرطية؛ تفيد الحتمية، والحرج في القرآن له ثلاثة معانٍ:

1 -

الضيق.

2 -

الإثم، أو الذنب.

3 -

الشك.

{نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : النّصح لله ورسوله هنا؛ يعني: حضَّ الآخرين القادرين على الجهاد بالخروج، والإنفاق، أو معاونة أهل المجاهدين بعد الخروج، ومحاربة أكاذيب المنافقين الّذين تخلفوا عن الخروج، ودحر إشاعاتهم، وإطاعة النّبي صلى الله عليه وسلم، وتصديقه.

{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : ما: النّافية، على المحسنين: سمَّى هؤلاء الضعفاء، والمرضى، والفقراء الّذين نصحوا لله، ورسوله محسنين إذا قاموا بما يستطيعون من جهد؛ فهم كأنهم اشتركوا في الجهاد.

{مِنْ سَبِيلٍ} : من ابتدائية استغراقية. من سبيل: من عقوبة، أو لوم، أو توبيخ، أو إثم، أو ذنب.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : لهؤلاء غفور: كثير المغفرة، لهم وأمثالهم، رحيم في التّوسعة عليهم؛ فلا يكلِّفهم ما لا طاقة لهم به، وأثابهم ثواب المحسنين.

ص: 5

سورة التوبة [9: 92]

{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} :

ليس على الضّعفاء، ولا على المرضى، ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون، ولا على الّذين إذا ما أتوك.

{إِذَا} : ظرفية شرطية؛ تفيد الحتمية.

{أَتَوْكَ} : لم يقل: جاؤوك؛ لأنهم أتوا وهم يتطلعون إلى الخروج للجهاد؛ قلوبهم مطمئنة صافية أتوك بسهولة، ولم يجدوا في أنفسهم حرج، أو مشقة.

{لِتَحْمِلَهُمْ} : اللام: لام التّعليل؛ أيْ: لم يجدوا وسيلة نقل، أو ركوب (أيْ: دواب): للخروج للجهاد معك؛ أيْ: سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدّواب؛ فكان الجواب: لا أجد ما أحملُكم عليه.

{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ} : أيْ: لم تجد لهم من الدّواب ما تحملهم عليه، وسُمُّوا البكائين، واختلف في عددهم، وأسمائهم. قيل: كانوا ستة، أو سبعة، وكانوا من أشد الفقراء، وليس المهم الأسماء، والعدد، وإنما النية، والقصد.

فكان على المجاهد: أن يعول نفسه في الذّهاب، والإقامة مدَّة الحرب، وأن يجد له وسيلة النقل، وعنده ما يكفيه لعائلة كل ذلك؛ فإذا لم يقدروا على ذلك إذن تكون وظيفتهم أخرى: وهي النّصح لله ورسوله.

{تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} : أيْ: تفيض دمعاً؛ كأن العين كلها دمع فائض من كثرة بكائهم، وحزنهم؛ أيْ: رجعوا من عندك بعد أن أخبرتهم بالخبر الحزين: أنهم لا يستطيعون الخروج معك؛ لعدم توافر الراحلة.

والفيض: الانصباب بغزارة؛ لشدة حزنهم؛ لعدم الاستطاعة على الخروج، حزناً ألا يجدوا ما سينفقون.

{حَزَنًا} : حَزَنَاً بفتح الحاء، وهناك الحُزْن بضم الحاء، وهناك فرق بينهما.

فالحَزَن: لا ينتهي، ولا ينقضي، كما هو الحال في الحُزْن الّذي سرعان ما ينتهي، وينقضي، وهذا يدل على أنّهم حزنوا حزناً شديداً طويلاً طويل الأمد حتّى ماتوا وهم عليه.

{أَلَّا} : أصلها: أن لا. أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد، ولا: النّافية.

{أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} : لماذا لم يقل: ألا يجدوا ما يركبون؟ هم أتوك لتحملهم، ما ينفقون تدل على كونهم فقراء ليس عندهم من مقومات الخروج؛ حتّى الزّاد، وما ينفقون تشمل: الطّعام، والرّاحلة.

ص: 6

سورة التوبة [9: 93]

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَـئْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{السَّبِيلُ} : الذّنب، والإثم، واللوم، والتّوبيخ، والعقوبة.

{عَلَى الَّذِينَ يَسْتَـئْذِنُونَكَ} : على الذين؛ أيْ: واقع على الّذين يطلبون الإذن بالتّخلف، والبقاء في المدينة، وعدم الخروج.

{وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} : هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، أغنياء: عندهم المال، وعندهم ما يحملهم، وعندهم الطّعام، والزّاد، وكل شيء يحتاجونه.

{رَضُوا} : الرّضا: هو اطمئنان القلب إلى أمر فيه نفع.

{بِأَنْ يَكُونُوا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد. اختاروا عدم الخروج، وقبلوا أن يكونوا في عداد الخوالف (النّساء).

{وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : جاءت بالتّصريح باسم الفاعل، وهو الله سبحانه الفاعل. بينما في الآية (87) من نفس السّورة، قال تعالى:{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : مبني للمجهول. ارجع إلى الآية السابقة (87)؛ لمزيد من البيان.

{فَهُمْ} : الفاء: للتوكيد، هم: ضمير فصل لزيادة التّوكيد.

{لَا يَعْلَمُونَ} : تعود على الأغنياء؛ فهم لا يعلمون كما علم البكاؤون، ولو علموا كما علم البكاؤون؛ لما تخلفوا عن الخروج لحظة واحدة؛ نفى العلم عنهم، ونفي العلم أسوأ من نفي الفقه؛ أيْ: لا يعلمون أسوأ من لا يفقهون؛ لأنّ العلم، أو لكي تتعلم تحتاج إلى فهم؛ فعندما نفى العلم عنهم؛ فهو قد نفى أيضاً الفهم (الفقه)؛ فقوله: فهم لا يعلمون؛ أيْ: لا يفقهون، ولا يعلمون، وكذلك لا يعلمون؛ تعني: لا يفهمون بذواتهم، ولا يفهمون ما يقوله الغير لهم بشأن إصلاحهم، وتقواهم، أو محاولة تعليمهم.

سورة التّوبة [الآيات 94 - 99]

ص: 7

سورة التوبة [9: 94]

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} : هذا إخبار من الله لرسوله، وللمؤمنين عن المنافقين حين ترجعون من تبوك سيحاولون الاعتذار إليكم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة:«لا تكلِّموهم، ولا تجالسوهم» .

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} : الّذي يعتذر هو من يُبدي كلاماً ليخرجه من دائرة اللوم، والتّوبيخ على قولٍ أو فعل صدر منه مظنة أنّه ذمٌّ؛ فيطلب منه الصّفح.

{إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} : ظرفية، زمانية؛ للاستقبال. رجعتم إليهم: أيْ: بعد رجوعكم من تبوك إلى المدينة.

{قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم، والخطاب كذلك موجَّه إلى المؤمنين: لا: النّاهية. تعتذروا: بأيِّ عذر؛ لأنّه:

{لَنْ نُّؤْمِنَ لَكُمْ} : لن: النّافية؛ للاستقبال القريب، والبعيد، وهي من أقوى حروف النّفي؛ أيْ: لن نؤمن لكم قريباً، أو بعيداً، نؤمن لكم: لن نصدقكم مهما قلتم، أو اعتذرتم.

{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} : قد: للتحقيق، والتّوكيد (قد ثبت وتحقق): أنّ الله نبَّأ رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي عما فعلتموه، أو قلتموه في غيابنا عنكم.

إذن: علَّة النّهي عن الاعتذار لن نؤمن لكم؛ أيْ: لن نصدقكم.

وعلَّة عدم تصديكم؛ لأنّ الله نبأنا عن أخباركم.

وبعد أن رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستماع إلى أعذارهم عندها أخبرهم بأنّ الله قد أخبره بما يخفوه في صدورهم من النّفاق، والكذب، وقال لهم:{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} : السّين: للاستقبال القريب، سيرى الله عملكم: أتتوبون إلى ربكم وتنيبون إليه، وتستغفرونه؟ أم تستمرون على نفاقكم، وكفركم.

{وَرَسُولُهُ} : أيْ: وسيرى الرّسول من خلال إعلام الله له بطريق الوحي، ولم يقل: والمؤمنون؛ لأن المؤمنين لا يرون أعمال المنافقين القلبية الخفية؛ مثل: النّفاق، والكفر.

{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : ثم: للترتيب، والتّراخي. تردُّون: من الرّد، والرّد يكون ليس بإرادتكم، واختياركم؛ تردُّون بعد بعثكم يوم القيامة.

{إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ} : الغيب: هو كل ما غاب، واستتر عن البشر، ما غاب من السّماء، والأرض؛ فهو يعلم، وعالم، فلا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

{وَالشَّهَادَةِ} : ارجع إلى الآية (105)؛ للبيان.

{فَيُنَبِّئُكُمْ} : الفاء: تعليلية. ينبئكم: يخبركم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق. ما: اسم موصول؛ بمعنى الّذي، أو مصدرية.

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : العمل: يضم القول، والفعل؛ أيْ: يخبركم بأقوالكم، وأفعالكم في الدّنيا. ارجع إلى الآية (105)؛ للبيان، ومعرفة الفرق بين الآيتين (94، و105).

ص: 8

سورة التوبة [9: 95]

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} : السّين: للاستقبال القريب، وتدل على أنّهم لم يحلفوا بعد، وسيحلفون بعد انقلابكم إليهم؛ أيْ: بعد عودتكم إليهم؛ أيْ: رجوعكم إلى المدينة من تبوك.

{انقَلَبْتُمْ} : من الانقلاب: وهو الرّجوع لا إلى ما كان عليه من قبل، ولكن لحالة مختلفة لا تشابه الحالة الأولى؛ أيْ: ما قبل الحدث. أما الرّجوع؛ يعني: الرّجوع إلى الحالة الأولى الّتي كان عليها قبل الحدث؛ أيْ: نفسها؛ مثال: انقلب الطّين خزفاً؛ رجع الطّين طيناً.

{لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} : اللام: لام التّعليل، تعرضوا عنهم؛ أيْ: لتتركوهم، ولا تعاتبوهم، ولا تؤنِّبوهم، أو توبخوهم على ما فعلوا.

{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ فأعرضوا عنهم؛ أي: استجيبوا لما طلبوه، وأعرضوا عنهم.

{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} : تعليل لترك معاتبتهم، وتوبيخهم. إن: للتوكيد.

{رِجْسٌ} : أيْ: هم القذارة، والنّجاسة عينها، والخبث، والرّجس قد يعني: الكفر، والشّرك، ويعني هنا: النّجاسة المعنوية، أو هم نجس، كما قال سبحانه:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نفس السورة آية (28)، والرجس أعم وأوسع معنًى من الرجز، ولمعرفة الفرق بين الرجس والرجز ارجع إلى سورة البقرة آية (59).

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : مصيرهم إلى جهنم في الآخرة. المأوى: مكان استقرارهم، وإقامتهم في الآخرة هي جهنم.

{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : جزاء بما كانوا يكسبون في الدّنيا من المعاصي، والآثام، وسمَّاه كسباً، وليس اكتساباً؛ لأنّهم داوموا على فعل النّفاق، والمعاصي؛ حتّى أصبحت مهنتهم، أو حرفتهم، واعتادوا عليها؛ فأصبح ارتكابها سهلاً، كما يحصل عند كسب الحسنات. ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 9

سورة التوبة [9: 96]

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} :

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} : يحلفون لكم الأيمان الكاذبة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صحابته بأن لا يكلِّموا الّذين تخلفوا عن تبوك، ولا يجالسوهم.

{لَكُمْ} : خاصَّة، وليس لغيركم.

{لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} : اللام: لام التّعليل؛ أيْ: علَّة الحلف بالأيمان الكاذبة: هي أن ترضوا عنهم؛ أيْ: تقبَّلوا ما فعلوه من التّخلف، ولا تؤاخذوهم ولا تعاتبوهم، والرّضا كما قلنا سابقاً: هو اطمئنان القلب إلى أمر فيه نفع.

{فَإِنْ} : الفاء: للتوكيد. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال والشّك.

{تَرْضَوْا عَنْهُمْ} : على سبيل الافتراض وتنسون ما فعلوه من التّخلف، وتصفحوا عنهم.

{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} : الفاء: للتوكيد. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.

{لَا يَرْضَى} : لا: النّافية؛ أيْ: إن رضيتم عنهم، فليس لرضاكم فائدة، ولا يهُم؛ لأنّ رضا الله سبحانه هو وحده المهمُّ، والمقبول.

{عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} : الفاسقين: جمع فاسق؛ أي: الخارجين عن طاعة الله، ورسوله، وعن الدِّين باختيارهم، ومن دون إكراه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ لمزيد من البيان.

ص: 10

سورة التوبة [9: 97]

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{الْأَعْرَابُ} : مجموعة من البشر اتصفوا بنقص في الدِّين والإيمان، ولا يعني سكان البادية، كما يظن بعض المفسرين، ولا يجوز القول أن كل سكان البادية كفار؛ فهم قوم ذمَّهم الله، وكانوا أشد كفراً من غيرهم أينما وجدوا، وكانوا لا يعرفون حدود الله، وفرائضه.

{وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} : أجدر بترك العلم، أو من المتوقع منهم ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله؛ لكونهم بعيدين عن منابع العلم، أو حضور دروس العلم.

{أَلَّا} : أن لا يعلموا. أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل. لا: الناهية.

{حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} : من الحلال، والحرام، والطّلاق، والزّواج، والرّدة، والحرابة، والقتل، والسّرقة. الحدود: هي الفرائض، والأوامر، والنّواهي الّتي يجب عدم تجاوزها، أو الاقتراب منها.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : بما شرع، وبما أنزل على رسوله، وعليم: بأقوالهم، وأفعالهم، وأحوالهم، ومصادر علمهم.

{حَكِيمٌ} : من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء، وهو أحكم الحاكمين، فلا يشرع إلا بحكمةٍ، وبما أنّه هو الحاكم؛ فيجب عدم مخالفة حدوده، وأوامره.

ص: 11

سورة التوبة [9: 98]

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

{وَمِنَ} : من: الابتدائية، وتفيد البعضية؛ أيْ: بعض الأعراب الّذين دخلوا في الإسلام.

{مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} : من هذه اسم موصول؛ بمعنى: الّذي يعتبر الزّكاة، أو الصّدقة حين يعطيها غرامةً؛ أيْ: خسارة، والغرم: التزام ما لا يلزم؛ فهو يعطيها، وهو مجبر، أو كاره، أو يعطيها خوفاً، أو رياءً، ولا يؤمن بثوابها، وأنّها تطهير، ونماء للمال.

{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} : يتربص: من التّربص: وهو الانتظار بحذر، وترقُّب يتربص دوائر الموت، أو القتل: أن تحل بكم حتّى لا تأخذوا منه تلك الغرامة.

{الدَّوَائِرَ} : جمع دائرة: مصيبة؛ مثل: الموت، والقتل، والمكروه.

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} : دعاء معترِض دعا الله عليهم بنفس ما دعوا به أنفسهم، والسّوء: هو الذّم، والسّوء: كل ما يسيء إلى النّفس.

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} : سميع لما يقولون، ويتناجون، ويسرون، عليم: بأعمالهم (أقوالهم+ أفعالهم)، وما يسرون في أنفسهم، وما يقولونه لغيرهم.

ص: 12

سورة التوبة [9: 99]

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

الصّنف الآخر: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} : إيمان تصديق، وعقيدة، ويؤمن بالبعث، واليوم الآخر، والحساب.

{وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: هذا الصّنف من الأعراب يعتبر ما ينفق من زكاة، أو صدقة: أنّها قربات عند الله: جمع قربى، والقربى؛ يعني: شيء يقرِّبه إلى رضا الله ومحبته.

{وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} : دعائه، واستغفاره له؛ فهو يعتبرها شيء يقربه إلى الله، وكذلك تجعل الرّسول يدعو له حين تصله زكاته؛ أيْ: طمعاً في دعوات (صلوات) الرّسول، واستغفاره.

{سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ} : السّين: للاستقبال القريب. في رحمته: في جنته، أو رحمته الّتي هي أعظم من الدّخول في الجنة، فرحمة الله باقية، وخالدة ببقاء ذات الله.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة كثير الغفران؛ يغفر لهم ذنوبهم، ولو كانت مثل زبد البحر، ومهما عظمت، أو كثرت.

{رَحِيمٌ} : لا يعجِّل لهم العذاب؛ لعلهم يتوبون فيغفر لهم، يؤكد الله سبحانه بأنّه سيدخلهم في رحمته بعد أن يغفر لهم ذنوبهم أوّلاً.

سورة التّوبة [الآيات 100 - 106]

ص: 13

سورة التوبة [9: 100]

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

المناسبة: بعد ذكر المنافقين، والأعراب: ينتقل إلى ذكر بقية أصناف النّاس؛ فيذكر صنفين: هما المهاجرين، والأنصار، والّذين اتبعوهم بإحسان.

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} : قيل: هم الّذين صلوا إلى القبلتين، أو الّذين شهدوا بدراً، وشهدوا بيعة الرّضوان، أو هم الّذين سبقوا إلى الإيمان من المهاجرين (من أهل مكة)، والأنصار الّذين سبقوا إلى الإيمان من أهل المدينة.

{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} : أيْ: من التّابعين، وتابع التّابعين إلى يوم القيامة.

{اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد. بإحسان: في العبادات، والطّاعات، والإيمان. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ لبيان معنى الإحسان.

{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} : جميعاً، وقبل طاعاتهم، وإيمانهم، وتجاوز عن سيئاتهم.

{وَرَضُوا عَنْهُ} : بما أتاهم من فضله، ونعمه.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} : وأعدَّ؛ أيْ: هيَّأ، وجهَّز، وبنى لهم جنات تجري تحتها الأنهار، وأعد: جاء بصيغة الفعل الماضي، وأنّ الإعداد انتهى، وتم مع كونه يكون يوم القيامة؛ لأنّ الزّمن ماضيه، وحاضره، ومستقبله عند الله واحد؛ فهو سبحانه خالق الزمان، والمكان.

{تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} : ولم يقل من تحتها، وهذه هي الآية الوحيدة في القرآن التي جاءت بدون من تحتها لا تنبع الأنهار من تحتها، وإنما تأتيها وتمر تحتها بدون أن تتفجر، أو تنبع، وقيل: هي أقل منزلة، وأقل درجة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. ارجع إلى الآية (89)؛ للبيان، والمقارنة.

{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته، وارجع إلى الآية (72)؛ للبيان، والمقارنة.

ص: 14

سورة التوبة [9: 101]

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} :

المناسبة: في الآية (97-98-99): ذكر أصناف الأعراب الّذين يعيشون في البادية، والصّحراء؛ بعيدين عن المدن، والقرى، ونوعية إسلامهم، وإيمانهم.

ثمّ ذكر السّابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار، والّذين اتبعوهم بإحسان، والآن يذكر بقية الأعراب الّذين يسكنون حول المدينة المنورة، ومكة، وداخل المدينة المنورة، أمثال: قبائل جهينة، ومزينة، وأسلم، وأشجع، وغفار.

فيقول سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} : منافقون: جمع منافق: هو الّذي يظهر الإسلام، أو الإيمان، ويبطن الكفر. ارجع إلى سورة النساء، آية (138)؛ لمزيد من البيان.

{مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} : ترجع إلى ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة، كلاهما مردوا على النّفاق، أو ترجع إلى أهل المدينة فقط.

{مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} : مرد: يمرد؛ أيْ: تدرب، وتمرَّن؛ حتّى أصبح النّفاق حرفتهم؛ فاستقاموا عليه، واتخذوه سبيلاً؛ حتّى ماتوا.

{لَا تَعْلَمُهُمْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم، نحن نعلمهم؛ أيْ: يخفون عليك. لا تعرف مَنْ هم؛ لأنهم شديدوا الحذر.

وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30].

{سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ} : لأنّهم مردوا على النّفاق، والسّين في سنعذبهم: للاستقبال القريب، المرة الأولى في الدّنيا: بالفضيحة، والهزيمة، والقتل، والتّشريد، والمرة الثّانية: حين الموت، وعذاب القبر (حياة البرزخ).

{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي.

{يُرَدُّونَ} : يرجعون إلى عذاب عظيم: هو عذاب جهنم، عذاب الحريق، أو الدّرك الأسفل من النّار. يردون: من الرّد: وهو الرّجوع، والرّد: هو الذّهاب إلى مكانٍ ما، وعدم النّية للرجوع للمكان الّذي انطلق منه، وفيه معنى: الإكراه، والإجبار على العودة.

{عَذَابٍ عَظِيمٍ} : هو أعظم أنواع العذاب على الإطلاق، وهو يشمل كلّ أنواع العذاب الأخرى الأليم، والمُهين، والشّديد، والمُقيم.

ص: 15

سورة التوبة [9: 102]

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{وَآخَرُونَ} : الواو: عاطفة؛ أيْ: آخرون معطوفة على أهل المدينة؛ أيْ: من أهل المدينة.

{اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد بعدم الخروج معك إلى تبوك.

{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} : وهؤلاء هم الّذين ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، ومنهم أبي لبابة، وأصحابه (قيل: كان عددهم 6، أو 8، أو 10). إذن: يمكن تقسيم المخلفون إلى ثلاثة أصناف:

الصّنف الأوّل: المنافقين الّذين مردوا على النّفاق من أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب.

الصّنف الثّاني: الّذين اعترفوا بذنوبهم، وخلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً.

الصّنف الثّالث: المُرجون لأمر الله (قيل: هم الثّلاثة).

{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} : الخلط؛ يعني: الجمع بين شيئين، أو أكثر، ويبقى كلّ واحد منهما منفصل عن الآخر رغم الخلط، العمل الصّالح؛ مثال: ما سبق من جهادهم، وطاعاتهم، وتوبتهم، واعترافهم بذنوبهم، والعمل السّيِّئ؛ قيل: هو التّخلف عن الجهاد، أو الخروج إلى تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{عَسَى} : من أفعال الرّجاء الممكن حصولها، ويتوقَّع حدوثها.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} : أنّ: حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد، يتوب عليهم: أيْ: يقبل توبتهم، وبما أنه جاء بـ: عسى؛ يعني: قبِل الله توبتهم.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة كثير الغفر؛ يغفر الذّنوب الكبائر، والصّغائر.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة على وزن فعيل؛ كثير الرّحمة لعباده المؤمنين، لا يعذبهم إذا تابوا، واعترفوا بذنوبهم، ولم يصروا على ما فعلوا.

ص: 16

سورة التوبة [9: 103]

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم.

{مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : أيْ: من أموال الّذين اعترفوا بذنوبهم، وهم أغنياء، ونسب الأموال وملكيتها لهم رغم أنّ المال كلّه لله تعالى.

{صَدَقَةً} : وليست الزّكاة صدقة خاصَّة بهم.

{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} : أيْ: صدقة الغاية منها تطهرهم، وتزكيهم بها، والتّطهير لغة: إزالة القذارة الحسية، والمعنوية من فعل طهر يطهر، وتعني: تطهرهم من ذنوبهم عدم الخروج معك؛ أيْ: تمحو، وتزيل عنهم ذنوبهم، وقد تعني: تطهر أموالهم إذا دخل في المال شبهة من دون قصد، أو علم، وتزكيهم بها من التّزكية: وهي النّماء؛ أيْ: تنمِّي حسناتهم، وترفع درجاتهم، وتنمِّي المال، أو تزيده بركة.

{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} : أي: ادعوا لهم بالخير، واستغفر لهم، صلِّ من الصّلاة، والصّلاة: هي الدّعاء، والاستغفار؛ أي: ادع لهم بالقبول، والخير.

{إِنَّ صَلَاتَكَ} : إنّ: للتوكيد، دعاءَك، واستغفارَك لهم.

{سَكَنٌ لَّهُمْ} : اطمئنان لقلوبهم، ورحمة لهم، ودعاؤك لهم يشعرهم: أنّ صدقاتهم ستُقبل منهم؛ فيفرحوا بذلك.

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} : الدّعاء، وسميع لأقوالهم، صيغة مبالغة من سمع كثير السّمع، وسميع لسرهم، وعلنهم.

{عَلِيمٌ} : بأفعالهم، وأحوالهم، وما تخفي صدورهم.

ص: 17

سورة التوبة [9: 104]

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} :

{أَلَمْ يَعْلَمُوا} : ألم: الهمزة: للاستفهام، والتّوبيخ، والإنكار. لم: حرف نفي؛ يعلموا: من العلم.

ودخول نفي على نفي: هو إثبات؛ أيْ: كان من المفروض أن يعلموا هذا الأمر، أو الحكم، أو الخبر، أو الآية، أو النّبأ سابقاً؛ لأنّه أعلن، أو كان معروفاً سابقاً لديهم؛ فأنكر عليهم تخلُّفهم عن العلم به، ولم يقل: اعلموا أنّ الله يقبل التّوبة كفعل أمر، أو إخباراً من الله؛ لأنّه سبحانه يأتي بها في صيغة السّؤال، والاستفهام؛ ليجيب المسؤول عليها بنفسه، وتكون إقراراً منه.

{أَنَّ اللَّهَ} : أنّ: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} : ولم يقل: يقبل التّوبة من عباده، فما هو الفرق بينهما.

{يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} : أيْ: يقبل التّوبة الصّادرة عن عباده؛ أيْ: يتجاوز عن العقوبة على الذّنب؛ لأنّ التّوبة تدل على أنّ هناك ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة فتاب المذنب؛ فإذا تقبل الله سبحانه توبته؛ فقد تجاوز عن عقوبته.

أما لو قال: يقبل التّوبة من عباده؛ فتعني: من الجهة؛ أيْ: من العبد.

إذن (عن): تشير إلى الصّدقة نفسها، ومن: تشير إلى الجهة المصدّرة للتوبة؛ أي: العبد.

{وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} : أيْ: يقبل الصّدقات (الزّكاة، وصدقات النّفل).

وفي هذه الآية يقول الحق: يأخذ الصّدقات، وفي الآية السّابقة (103):{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} : إذن يكون السّياق المتصدق، أو المصدق يتصدق، والرّسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الصّدقة (أو المؤمنون)، والله يتقبل الصّدقة، ولا يردُّها؛ أيْ: يثيب عليها، فالله سبحانه يقبل التّوبة، ويقبل الصّدقات، ولمعرفة الفرق بين المصدقين والمتصدقين: ارجع إلى سورة الحديد، آية (18).

{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ} : للتوكيد، وهو: لزيادة التّوكيد.

{التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : ارجع إلى الآية (37) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 18

سورة التوبة [9: 105]

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَقُلِ اعْمَلُوا} : الخطاب في هذه الآية إلى المؤمنين الّذين خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً؛ بينما في الآية السّابقة (94): الخطاب كان موجَّهاً إلى المنافقين فقط.

قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم خاصَّة: اعملوا الكثير من الأعمال الصالحة؛ أعمالاً جديدة بعد التّوبة، أو اعملوا ما شئتم من خير، وحلال، وأعمال طيبة.

{فَسَيَرَى اللَّهُ} : الفاء: للتوكيد، سيرى: السّين: للاستقبال القريب، سيرى الله عملكم: أعمالكم الظّاهرة، والباطنة (الأقوال، والأفعال).

{وَرَسُولُهُ} : بما أنّها أعمال ظاهرة؛ مثل: الصّلاة، والإنفاق (الصّدقات)، والحج، والعمرة، والصّيام؛ فالرّسول كذلك سيراها.

{وَالْمُؤْمِنُونَ} : سيرونها مثل الذّهاب إلى المساجد، وحلقات العلم، والحج، والصّدقات.

{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : وستردون: الواو، والسّين: تدل على قرب الرّد؛ أي: الرّجوع إلى الله؛ أيْ: قرب الجزاء، والثّواب؛ أيْ: تثابون على العمل الصّالح في الدّنيا، والآخرة، ومن دون تأجيل. ارجع إلى الآية (101)؛ للبيان؛ وكقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، بينما في آية التّوبة (94):{ثُمَّ تُرَدُّونَ} : ثم: فيها تراخي في الزّمن، وفيها وعيد؛ أيْ: من كرم الله عليهم: أنّه يؤخِّر العقاب عنهم في الدّنيا؛ حتّى يتوبوا، أو لعلَّهم يتوبون، ويغفر لهم.

{إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ} : عالم الغيب المطلق: الّذي لا يطلعه على أحد، والغيب النسبي: الّذي يطلعه على رسله، ومَنِ اصطفاهم.

{وَالشَّهَادَةِ} : وعالم الشّهادة؛ أيْ: ما يشاهد بالمدركات، والعيون، والآذان؛ أيْ: عالم بما يشاهده النّاس بحواسهم؛ لأنّه سبحانه هو خالق هذه الحواس، وأعلم بما أودع فيها؛ فلا تعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : ارجع إلى الآية (94)؛ للبيان.

لو قارنا هذه الآية (105) من سورة التّوبة: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، مع الآية (94) من سورة التّوبة:{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

ليس هناك تكرار؛ لأنّ الآية (94): تتحدث عن المنافقين، وأمّا الآية (105): فتخاطب المؤمنين الّذين خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً.

وفي الآية (94): لم يُذكَر المؤمنون؛ لأنّ الله وحده مطَّلع على قلوب المنافقين، ورسولُه مطَّلع بما يخبره الله سبحانه، وأمّا الآية (105): فتحثهم على الأعمال الصّالحة، ومنها: الظّاهرة للعيان؛ فالله سبحانه، ورسوله، والمؤمنون يشاهدونها.

وفي الآية (94): {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، وفي الآية (105):{وَسَتُرَدُّونَ} . ارجع إلى الآية (94)؛ للبيان، ومعرفة السبب في الاختلاف.

ص: 19

سورة التوبة [9: 106]

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{وَآخَرُونَ} : من أهل المدينة مرجون لأمر الله. قيل: هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الرّبيع؛ أي: الثّلاثة الّذين تخلَّفوا عن تبوك، ولم يكن لهم عُذر.

{مُرْجَوْنَ} : من الإرجاء: وهو التّأخير.

{لِأَمْرِ اللَّهِ} : لحكم الله فيهم الّذي لم ينزل بعد.

{إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} : إما: حرف شرط، وتفصيل. يعذبهم: بأن لا يقبل لهم توبة، ولو تابوا، أو يُمتهم بلا توبة.

{وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} : إما: حرف شرط، وتفصيل، إذا تابوا قريباً، أو بعيداً؛ أيْ: إذا شاء سبحانه.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : عليم بأحوالهم، ونواياهم، وأقوالهم، وأخبارهم، ولماذا تخلَّفوا، وهل سيتوبون قريباً، أو بعيداً.

{حَكِيمٌ} : حكيم في تدبير شؤون خلقه، وشرعه. حكيم: من الحاكم؛ فهو الحاكم، وهو أحكم الحاكمين؛ أي: العادل، وحكيم: من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ للبيان.

سورة التّوبة [الآيات 107 - 111]

ص: 20

سورة التوبة [9: 107]

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :

أسباب النزول: كما ذكر الواحدي في أسباب النزول: لما بنى المسلمون من بني عمرو بن عوف مسجد قباء؛ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتاهم؛ فصلى فيه؛ فقال المنافقون من الأنصار، وكانوا حوالي (12 رجلاً) من بينهم: أبو عامر الرّاهب: نبني نحن أيضاً مسجداً؛ كما بنوا مسجد قباء، ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه، بنوه بأمر من أبي عامر الراهب؛ الّذي عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة؛ بنوه في زمن الخروج لغزوة تبوك، بنوه قريباً من مسجد قباء؛ ليضاهي مسجد قباء، ولا حاجة لبنائه إلا لإيقاع الفتنة، والاختلاف بين المؤمنين، وتفريق كلمتهم، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوم إليه؛ ليصلي فيه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعد للخروج إلى تبوك؛ فقال لهم بعد العودة من تبوك، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك نزل الوحي، وأخبره بالأمر؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة وأمر بهدمه، ونزلت هذه الآيات.

{وَالَّذِينَ} : الواو: عاطفة. الّذين: اسم موصول يشير إلى المنافقين الّذين بنو مسجد ضرار.

{اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} : اتخذوا؛ أيْ: بنوا مسجداً ضراراً: الضرار بمعنى المضارة لمسجد قباء، وسمِّي بعد ذلك مسجد ضرار؛ لأنه يقصد به الضرر بالمؤمنين، وإيقاع العداوة بينهم.

{وَكُفْرًا} : بنوه بأمر من أبي عامر الرّاهب؛ ليكون مقراً لصلاته فيه بعد عودته من الشّام بعد أن خرج إلى الشام؛ ليأتي بجند من الروم؛ ليخرج محمّداً وأصحابه من المدينة، ولدعم الكفر، والنّفاق.

{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} : للذين يصلون بقباء؛ فيأتي قسم فيصلي في مسجد ضرار، وقسم يصلي في قباء طمعاً في اختلاف كلمتهم.

{وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : إعداداً وتجهيزاً لمجيء الّذي حارب الله ورسوله: هو أبو عامر الرّاهب، والّذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر الفاسق؛ الّذي كان ينتظر رجوعه من الشّام.

{مِنْ قَبْلُ} : من قبل بناء مسجد ضرار.

{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} : وليحلفن: الواو: عاطفة، اللام: لام التّوكيد، يحلفن إن أردنا إلا الحسنى: إن أردنا: إن النّافية؛ أيْ: ما أردنا؛ إلا: أداة حصر، الحسنى: أيْ: ما أردنا ببنائه إلا الحسنى: الصّلاة، وذِكر الله، أو التّوسعة على المصلين، أو الرّفق بالمسلمين من المطر، أو الحر؛ لأنّ مسجد قباء لا يسع كلّ المصلين، وقيل: الحسنى: الجنة.

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} : استعمل يشهد بدلاً من يعلم؛ لأنّ بناء المسجد ليس أمر غيبي، أو سر، أو عمل قلبي، وإنما عمل يشهده الكل الرّسول، والصّحابة، ولذلك قال: يشهد إنهم لكاذبون: إنّ: للتوكيد. لكاذبون: اللام: لام التّوكيد، كاذبون بقولهم: إن أردنا الحسنى ببناء المسجد، وكاذبون: جملة اسمية؛ تدل على الثّبوت.

ص: 21

سورة التوبة [9: 108]

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} :

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} : لا: النّاهية. تقم فيه أبداً: لا تصلي فيه أبداً، ولم يصلي صلى الله عليه وسلم فيه، وأمر بهدمه، وقيل: إحراقه؛ لأن الصّلاة؛ تعني: القيام، والنّهوض، أبداً: للتوكيد.

{لَّمَسْجِدٌ} : اللام: لام التّوكيد؛ أيْ: مسجد قباء، وقيل: المسجد النّبوي.

{أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} : بُني على الطّاعة، وبناه المتقون؛ فالمسألة ليست في البناء، ولكن فيمن يدخل المسجد، ويصلي فيه، والهدف وما يقام فيه من أعمال.

{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} : بُني، أو أُسِّس. من: الابتدائية؛ أيْ: بدأ بالتأسيس على التقوى من أوّل يوم.

{أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} : أحق، أو أجدر أن تقوم فيه بصلاة، أو ذكر.

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} : بالماء للوضوء، والغسل (طهارة للبدن)، والمطهِّرون: المتطهرون (الطهارة الحسية+ الطهارة المعنوية).

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} : مبالغة في الطّهارة، والمطهِّرون؛ تعني: طهارة القلب من النّفاق، والطهارة الجسدية معاً؛ أي: الطهارة الحسية، والمعنوية معاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (222) لمزيد من البيان، وسورة الواقعة آية (79).

ص: 22

سورة التوبة [9: 109]

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} : أفمن: الهمزة استفهامية؛ للتقرير.

{أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} : أيْ: أقام بنيانه؛ أي: القواعد، أو ما يسمَّى الأساس، والبنيان يختلف عن البناء، البنيان؛ يعني: بناء قوي ثابت يدوم قروناً طويلة؛ مثل: الأبنية التّاريخية، والأهرامات، أما البناء: فقد يكون غير ثابت، والبناء له ميزة التّغيُّر، والتّحوُّل.

{عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} : انتبه إلى الاستعارة؛ حيث شبه الإيمان بالبنيان والتّقوى ورضوان الله بقواعد البناء، أو الأسُس للبناء؛ كالأرض الصلبة الصّخرية الّتي يقوم عليها البناء، والتّقوى: هي امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه.

{أَمْ مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ} : أم: للإضراب الانتقالي، والاستفهام.

{أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} : شبه المسجد المبني على الضلال ببنيان قائم على شفا جرف هار.

{عَلَى شَفَا} : من الأرض الّتي يصنع البحر لها سطح، وليس لها قاعدة.

{جُرُفٍ} : الجزء المتآكل، أو ما ينجرف بالسّيول، وهو جانب الشّط.

{هَارٍ} : مشرف على السّقوط غير متماسك.

{فَانْهَارَ بِهِ} : به: تعود على الباني، أو البنيان سقط بالباني، والبنيان، وهذا تمثيل للبناء، أو المسجد الّذي يقوم على الكفر؛ فانهار به في نار جهنم، وهكذا شبه الإيمان بالبنيان القائم على أسس متينة صلبة، والكفر والضلال على أسس متصدعة متداعية؛ فهو قد جسد المعنويات في صور المحسوسات بصورة متكاملة في الإعجاز البياني في صورة الاستعارة.

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : الظّالمين: بالنّفاق، ولم يريدوا الهداية، واختاروا الضّلال، والنّفاق. ارجع إلى الآية (19) من نفس السّورة؛ للبيان.

ص: 23

سورة التوبة [9: 110]

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا} : أيْ: مسجد ضرار رغم هدمه، وأصبح مكان للقمامة، وسمّاه بنياناً، وليس بناءً؛ لأن ذكره سيدوم قروناً طويلة، وستذكره الأجيال على كونه ليس له قدسية؛ كاللعبة، ولم يكن بنائه على تقوى، ورضوان من الله تعالى.

والبنيان قد يعني: بناءً تاريخياً ثابتاً، لا يتغيَّر، ويدوم قروناً طويلة؛ مثل: الأهرامات، والأبنية الأثرية.

{رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} : موضع شكٍّ، واتِّهام من أن يصيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء بسبب ما بنوا، أو موضع غيظ، أو ارتياب بسبب هدمه، أو مصدر للشك، والرّيبة الدّائمة في قلوبهم، وسيظل أثره في قلوبهم.

{إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} : أن يموتوا، والقلوب لا تنقطع إلا بالموت حزناً وأسفاً، وقال تعالى:{تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} ، ولم يقل: تتقطع، تقطّع فيها مبالغة في التّمزق، والتّقطع، وإلا بمعنى: حتّى.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : ارجع إلى الآية (106) من سورة التّوبة.

ص: 24

سورة التوبة [9: 111]

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

في هذه الآية يبيِّن الله سبحانه فضل الجهاد.

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} : إنّ: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد، اشترى: فعل ماض؛ تعني: أنّ الشّراء قد حصل، وتم، وكذلك لو نظرنا إلى كلمة بايعتم؛ كذلك فعل ماضٍ، إذن: البيع والشّراء قد تمَّ، وانتهى.

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} : قدَّم الأنفس على المال في هذه الآية؛ قدم الأسمى والشيء الغالي؛ لأن المشتري هو الله سبحانه، ولأنّ الجهاد بالنّفس أعلى درجة من الجهاد بالمال، والتّضحية بالنّفس أشد على الإنسان من التّضحية بالمال؛ فالله يريد شراء النّفس، ثمّ شراء المال. بينما في باقي الآيات يقدم المال؛ لأنه الأظهر أو الأعم.

{بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} : بأنّ: الباء: للإلصاق، والاختصاص، والمشتري عادة له الخيار فيما يشتري أوّلاً؛ لأنه هو دافع الثّمن.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص، أو الملكية. بينما قوله تعالى:{وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الصف: 12]. الدخول أولاً، ثمّ يحصل التملك، والتملك فيه حثٌّ على العمل، والمبالغة أكثر من مجرَّد الدخول. هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، والقصر (قصر يفيد المبالغة)؛ فهناك من تكون لهم الجنة، ولكنهم أولى بها من غيرهم.

{يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ومن يقاتل إما أن يَقْتل، وإما أن يُقتل؛ فيقتلون ويُقتلون.

{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} : وعداً عليه حقاً؛ أيْ: ثابتاً لا يتغيَّر في التّوراة، والإنجيل، والقرآن؛ أيْ: ذكر ذلك الحكم في كلّ الكتب السّماوية؛ فكلّ أمة أُمرت بالجهاد.

{وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} : من: استفهامية، والإجابة: لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى، وجملة: ومن أوفى بعهده من الله بعد قوله: وعداً عليه حقاً؛ الّتي تحمل نفس المعنى: للتوكيد.

{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم} : فاستبشروا: الانتقال من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب: هو تشريف من الله لهم، والبشارة خبر سار للمؤمن، ويظهر أثرها على الوجه سروراً، وغبطة، والفاء: للتوكيد.

{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : الواو: للاهتمام، والتّوكيد، ذلك: اسم إشارة يفيد البعد، وتعظيم الفوز، وذلك إشارة إلى الصّفقة التي تمت بين الله سبحانه، والمجاهدين، وهو ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته، وارجع إلى الآية (72) من سورة التّوبة؛ للبيان، والمقارنة.

سورة التّوبة [الآيات 112 - 117]

ص: 25

سورة التوبة [9: 112]

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} :

أوصاف تسعة لأهل البيع؛ أيْ: أهل الجنة:

{التَّائِبُونَ} : جمع تائب عن الشّرك، والنّفاق، والمعاصي. ارجع إلى سورة النساء، آية (16-18)؛ للمزيد من البيان.

{الْعَابِدُونَ} : المطيعون لأوامر الله، ونواهيه، عبادة مع المحبة، والإخلاص، والتّعظيم، والخشية.

{الْحَامِدُونَ} : لله في السّراء، والضّراء، والرّاضين بقضاء الله وقدره.

{السَّائِحُونَ} : جمع سائح من الفعل ساح في الأرض في طلب العلم الشّرعي، والدّعوة إلى الله سبحانه كما قال عكرمة، والسّائحون قد تعني: الصّائمين كما فسرها أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وعائشة –وقد تعني الجهاد في سبيل الله كما فسرها عطاء.

{الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} : أي: المقيمون الصّلاة، والرّاكعون السّاجدون تشيران إلى كثرة السّجود، والركوع.

{الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} : المعروف: هو كلّ ما أمر به الشّرع، واستحسنه العقل، والعرف الصّحيح.

{وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} : المنكر: هو ما يستقبحه الشّرع، ويمنعه، وما تستنكره العقول السّليمة؛ لمنافاة الأخلاق.

{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} : المحافظة على الأوامر؛ فلا يعتدوها، والبعد عن المنهيات؛ فلا يقربوها. تلك حدود الله فلا تعتدوها: تلك حدود الله فلا تقربوها.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} : بالجنة، والبشرى: من البشارة؛ ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

1 -

انتبه إلى إدخال الواو فقط على: والنّاهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، الواو: تشير إلى الاهتمام، ولما كان النّهي عن المنكر، والمحافظة على حدود الله أصعب العبادات: أضاف لها الواو؛ تفريقاً عن غيرها من العبادات؛ لأنّها الأشد، وقد تكون سبباً للقتل، والإهانة.

2 -

الحافظون لحدود الله: اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد.

3 -

كلّها صفات ثابتة لهم لا تتغيَّر، جاءت بالصّيغة الاسمية، وليست الفعلية.

ص: 26

سورة التوبة [9: 113]

{مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} :

{مَا كَانَ} : ما: في القرآن تأتي على وجهين:

الوجه الأوّل: للنفي؛ مثال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60].

الوجه الثّاني: للنهي؛ مثال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53]، {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التّوبة: 113].

{مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى} : أيْ: ما يصح للنبي، والّذين آمنوا:

{أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} : أن: حرف مصدري؛ للتعليل، والتّوكيد.

{يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} : من الاستغفار: وهو الدّعاء أن يغفر الله لآبائهم، أو ذويهم الّذين ماتوا وهم على الشّرك، أو الكفر.

{وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى} : لو: شرطية، ولو كان هؤلاء الآباء، والأمهات، أو غيرهم من النّاس أولي قربى: ذي قرابة تجمعهم رابطة الدّم، أو النّسب، أو الصّداقة.

{مِنْ بَعْدِ} : من: ابتدائية. بعد: ظرفية زمانية.

{مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} : لهم: اللام: لام الاختصاص.

{أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} : أنّ: للتوكيد، أصحاب: الجحيم: ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

السّؤال هنا: كيف تبيَّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم؟

أيْ: تحققوا وتبيَّن لهم أن آباءَهم وذويهم أنّهم ماتوا على الشّرك، ولم يتوبوا عندها لا يجوز الاستغفار لهم، والدعاء.

و {الْجَحِيمِ} : اسم من أسماء النّار، أو دركة من دركاتها السّبع: جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية.

ص: 27

سورة التوبة [9: 114]

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} :

وحتّى لا يحتج أحد من المؤمنين، ويقول: إنّ إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه، أو عمه، وأنا سأستغفر لفلان؛ جاءت هذه الآية لتبيِّن شأن استغفار إبراهيم.

{وَمَا كَانَ} : ما: النّافية.

{اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} : يرجح المفسرون: أن آزر ليس أباه، وإنما عمه (الأب قد يعني: العم)؛ ارجع إلى سورة البقرة، آية (133)؛ للبيان.

{إِلَّا عَنْ مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} : إلا: أداة حصر.

{مَّوْعِدَةٍ} : على وزن المرة؛ أي: كانت موعدة قالها مرة واحدة ولم تتكرر، وموعدة فقط وليست وعداً؛ لأن كلمة وعداً لا تعني بالضرورة واحدة؛ أي: مرة واحدة لم تتكرر، وليس لكم أن تفعلوها أو تقولوها؛ أي: تستغفروا لأي كافر مهما كان حتى ولو كان أقرب الناس إليكم إذا كان ذلك موعدة من إبراهيم لأبيه حين قال: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]؛ فقد قال إبراهيم ذلك ظناً أنّ عمه قد يتوب، ويؤمن، أو كان يرجى، أو يؤمل منه التّوبة.

{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} : فلما: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين. تبين: لإبراهيم عن طريق الوحي: أنّه لن يؤمن؛ انقطع رجاؤه، واستغفاره لأبيه (أيْ: عمه).

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} : إنّ: للتوكيد.

{لَأَوَّاهٌ} : أوّاه: كثير التّأوه، كثير الدّعاء والتّضرع إلى الله، أواه: مبالغة في التأوه.

{حَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من الحلم؛ أيْ: كثير الحلم، والحلم: هو الصّبر، والإناة، وفي سورة هود، آية (75):{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} أيضاً كثير الرّجوع والإنابة إلى الله؛ أيْ: سريع التّوبة.

ص: 28

سورة التوبة [9: 115]

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} : ما: النّافية.

{لِيُضِلَّ} : اللام: لام التّوكيد، والتّعليل. ليضل: من الضلال، والضّلال له معانٍ: الهلاك، والنّسيان، والضّياع، والضّلال: ضد الهدى، والرّشاد إلى طريق الحق، والصّواب، أو الانحراف عن المنهج، واتباع طريق الباطل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (198)؛ لبيان معنى الضلال.

{لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} : إذ: ظرفية، وحتّى: حرف غاية نهاية الغاية، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي يتقون.

{حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} : حتّى يُبيِّن لهم ما شُرع لهم، أو ما أمروا به من الطّاعة، أو النّهي، واجتنابه، والحلال، والحرام عن طريق الرّسل، والكتب، والوحي؛ أيْ: يبيِّن لهم طريق الهداية، والتّقوى؛ فإذا لم يتقوه، أو يفعلوا ما أمرهم به، أو نهاهم عنه، أو يهتدوا بعد تلك الوسائل؛ عندئذٍ يتركهم في ضلالهم، وانحرافهم يعمهون، وهذا يعتبر عذراً لمن خالف قبل ورود النّهي عنه، وكما قيل: لا حكم قبل الشّرع؛ فهؤلاء الّذين استغفروا لذوي قرباهم قبل نزول هذه الآية؛ فلن يؤاخذهم الله على ما فعلوا، وليس عليهم ذنب، أو إثم.

{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{بِكُلِّ} : الباء: للإلصاق، والاختصاص.

{شَىْءٍ} : نكرة؛ أيْ: يعلم من هو ضالٌّ، ومن هو مهتدٍ، وعليم بأحوال النّاس، وأعمالهم، وما شرع لهم.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير العلم، يعلم الأقوال، والأفعال، وما يجري في السّماء، والأرض، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ويعلم ما في البر، والبحر، وما أهلك الله سبحانه أمة حتّى يبيِّن لها ما يجب أن تتقيه من أسباب الهلاك، والدّمار، وذلك عن طريق كتبه ورسله وأنبيائه.

ص: 29

سورة التوبة [9: 116]

{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{لَهُ} : اللام: لام الملكية، والاختصاص، وتقديم له: تفيد الحصر له وحده.

{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : المُلكُ: الحكم؛ أيْ: هو الحاكم، حاكم السّموات والأرض؛ ضم الميم في كلمة مُلك: تعني: الحاكم، أو الحكم، وكسر الميم في كلمة مِلك: تعني: الملكية، كما في قوله تعالى:{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ؛ فالله إذا منعك من الاستغفار لأولي القربى؛ لأنّه هو الحاكم؛ فهو النّافع، أو الضّار وحده، والاستغفار لأولي القربى لا ينفع، ولا يضر إذا لم يقبله الله سبحانه، أو يستجيب له، فكيف إذا حرمه، ومن مظاهر كونه الحاكم، ولا حاكم غيره؛ لأنّه هو الّذي يُحيي، ويُميت.

{وَمَا لَكُمْ} : ما: النّافية، لكم: اللام: لام الاختصاص.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} : أيْ: في هذه الحياة الدّنيا.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله من استغراقية، ولي المعين المحب، والقريب.

{وَلَا} : تكرار لا يفيد زيادة النّفي، وفصل كلّ من الولاية عن النّصرة.

{نَصِيرٍ} : النّاصر. ارجع إلى الآية (107) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

انتبه إلى الفرق بين قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، وقوله تعالى:{مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، حين يستعمل من دون تأتي في سياق الدّنيا، أما قوله: ما لهم من ولي ولا نصير، فتأتي في سياق الآخرة، ففي الآخرة ليس هناك غير الله وحده من ولي، ولا نصير، أمّا في الدّنيا فقد يكون هناك من يواليه، وينصره إضافة إلى الله، ولذلك يستعمل من دون الله.

ص: 30

سورة التوبة [9: 117]

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

{لَقَدْ} : اللام: لام التّوكيد. قد: للتحقيق أيضاً والتّوكيد.

{تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} : لقد تاب؛ أيْ: لقد قبل الله توبة النّبي، والمهاجرين، والأنصار، والتّوبة تدل على ذنب، وهل فعل النّبي صلى الله عليه وسلم ذنباً حتّى يقول سبحانه: لقد تاب الله على النّبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، وإنما صلى الله عليه وسلم أذن، أو سمح لبعض الصّحابة بالتّخلف عن الخروج إلى تبوك، سواء لحقوا به بعد ذلك أو لم يلحقوا به؛ لقوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} .

{وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ} : صحابته رسول من المهاجرين، والأنصار أمثال: أبي ذر، أبي خيثمة

وغيرهما، وهؤلاء قبل توبتهم بسبب تثاقلهم في الخروج، أو لسماعهم لأقوال المنافقين، أو راودتهم أنفسهم بالرّجوع بعد أن خرجوا، وأيضاً من الّذين اعترفوا بذنوبهم وغيرهم.

{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} : زمن العسرة (غزوة تبوك) بسبب الحر الشّديد، وقلة الزّاد، والرّاحلة، والفقر.

{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} : الزّيغ: هو الميل، كاد: من أفعال المقاربة؛ أيْ: لم تزغ، ولكنها كادت تزيغ؛ تميل، والزّيغ هنا: ليس عن الإيمان، وإنما بالتّخلف عن الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : تكرار (ثمّ تاب) عليهم: للتوكيد؛ لإزالة الشّك من نفوسهم، والتّجاوز عن ذنوبهم.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{بِهِمْ} : الباء: للإلصاق؛ هم: ضمير فصل.

{رَءُوفٌ} : من الرّأفة: وهي أشد الرّحمة، أو أخص من الرّحمة، ومنهم من قال: تكون فقط للمؤمنين، ورؤوف: من رأف به؛ أيْ: أشفق عليه بأن دفع عنه السّوء، أو كره أن يحل به مكروه.

{رَحِيمٌ} : كثير الرّحمة، الرّحمة تكون للمؤمن، والكافر في الدّنيا؛ فلا يعجِّل لهم العقاب، ويغفر لهم، أما في الآخرة: فالرّحمة خاصَّة بالمؤمنين.

سورة التّوبة [الآيات 118 - 122]

ص: 31

سورة التوبة [9: 118]

{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} :

{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ} : الواو: عاطفة، معطوفة على النّبي صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: لقد تاب الله على النّبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين، والأنصار، وعلى الثّلاثة الّذين خلفوا، والثّلاثة قيل: هم: كعب بن مالك، هلال بن أمية، ومرارة بن الرّبيع.

{الَّذِينَ خُلِّفُوا} : أُرجئوا، وتأخَّر نزول الحكم فيهم، وكانت مدة إرجائهم خمسين يومّاً، ولم يقبل النّبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتّى نزلت هذه الآية.

{حَتَّى إِذَا} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية؛ إذا: ظرفية زمانية.

{ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} : الرّحب: المكان المتسع؛ ضاقت عليهم الأرض بسعتها، ولم يجدوا مكاناً يلجؤون إليه بسبب إعراض النّاس عنهم، وعدم الحديث إليهم، أو مخالطتهم، وضاقت عليهم أنفسهم. تكرار كلمة ضاقت: للتوكيد؛ أيْ: شعروا بالغم، والهم، والوحدة، والنّدم، والذّنب، والعزلة؛ حتّى عن أزواجهم.

{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} : ظنوا؛ أيْ: أيقنوا من الظّن المرجح، ومجيء أن بعد الظّن: تفيد في قلب الظّن يقيناً.

{لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} : لا: النّافية للجنس؛ ملجأ: ملاذ؛ أيْ: لا مكان يلجؤون إليه هرباً من شدة يأسهم، وندمهم، وخوفهم من سخط الله، وعقابه.

{إِلَّا إِلَيْهِ} : إلا: أداة حصر؛ إليه: إلا فقط بالرّجوع إلى الله وحده.

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} : ثم: للتراخي في الزّمن، تاب عليهم: شرع لهم التّوبة رحمة منه؛ لأنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون أيِّ عذر.

{لِيَتُوبُوا} : اللام: لام التّعليل؛ ليتوبوا، وأركان التّوبة: الإقلاع عن الذّنب، والنّدم، وعدم الرّجوع إليه، والإكثار من النّوافل؛ فإن تابوا قبِل الله تعالى توبتهم، وعفا عنهم.

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ} : إن: للتوكيد، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : التواب: صيغة مبالغة كثير قبول التّوبة يقبل توبة التّائبين مهما كان عددهم، وعدد توباتهم.

{الرَّحِيمُ} : لأنّه شرع لهم التّوبة رحمة منه، وقبولها رحمة أخرى؛ فهو واسع الرّحمة بالمؤمنين؛ رؤوف رحيم.

ص: 32

سورة التوبة [9: 119]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} :

نداء جديد للذين آمنوا: بالتّقوى، والتّقوى: هي امتثال أوامر الله، وتجنب نواهيه؛ اتقوا غضب الله، وسخطه: بإطاعة أوامره؛ التزموا الصّدق، والثّبات على دين الله تعالى، وطاعته، ولا تكونوا كالمعذِّرين الّذين جاؤوا بالأعذار الكاذبة، وكونوا مع الصّادقين: وهم الأنبياء، والرّسل، ولم يقل: كونوا من الصّادقين؛ أيْ: كونوا أنبياء ورسلاً، كونوا معهم في الدّنيا: بالصّدق، والطّاعة بامتثال الأوامر؛ تكونوا في صحبتهم بالآخرة.

ص: 33

سورة التوبة [9: 120]

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} :

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} : ما: النّافية، ما كان يصح، أو يحق لأهل المدينة.

{لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} : اللام: لام التّعليل، والاختصاص، أهل المدينة المنورة خاصَّة.

{وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْأَعْرَابِ} : كمزينة، وجهينة، وأشجع، وغفار، وأسلم.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} : كان يجب عليهم الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وعدم التّخلُّف.

{وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَّفْسِهِ} : أيْ: لا يحق لهم، أو يصح لهم إيثار أنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: أن يجلسوا في ديارهم مرتاحين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الصّحابة يحاربون العدو، ويقاسون من شدة الحر، والعطش، والمشقة.

{عَنْ نَّفْسِهِ} : ولم يقل: على نفسه، عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد، وعلى: تفيد العلو، والتّكبر.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ} : ذلك: اسم إشارة للبعد يشير إلى ما يعانيه النّبي صلى الله عليه وسلم، والّذين معه لا يصبهم ظمأ (عطش شديد)، ولا نصب (تعب ومشقة)، ولا مخمصة: مجاعة خاصَّة؛ والمخمصة في اللغة: أصلها الضمور؛ أي: الجوع الشديد الذي يستمر لزمن طويل يؤدي إلى ضمور البطن والأطراف؛ لأن المصاب استهلك المادة الدهنية أو الشحم لتوليد الطاقة؛ جوع فردي. بينما المسغبة: مجاعة عامة تشمل الكل (سورة البلد آية 14).

{وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} : يدوسون مكاناً من أرض الكفار بأقدامهم، أو خيلهم يؤدِّي إلى غيظ الكفار، والغيظ: هو الغضب الكامن في نفس الإنسان العاجز عن التّشفي من مسبب الغيظ. ارجع إلى الآية السابقة (15) من نفس السّورة.

{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا} : لا: النّافية، ينالون من عدو نيلاً: من: الاستغراقية؛ عدو نيلاً؛ أيْ: أسراً، أو قتلاً، أو غنيمة، أو هزيمة (من ديارهم، وأموالهم).

{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} : إلا: أداة للحصر، كتب لهم به عمل صالح؛ أيْ: كتب لهم به ثواب ذلك العمل الصّالح، وعمل صالح: نكرة؛ أيُّ عمل صالح مهما كان نوعه، وقيمته سيثابون عليه.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : إنّ الله: للتوكيد، ولم يقل: إنّ الله لا يضيع أجر العاملين؛ لأنّه بكرمه، وفضله ارتقى بعملهم الصّالح إلى درجة الإحسان، واعتبر كل ما يفعلونه من الإحسان، وأنّه سيجازيهم عليه، ولن ينساه، وضمهم إلى المحسنين.

ص: 34

سورة التوبة [9: 121]

{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَلَا} : لا: النّافية.

{يُنْفِقُونَ} : من الإنفاق: أيْ: صرف الأموال، أو الزاد.

{نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} : نفقة: نكرة؛ صغيرة، ولا كبيرة، ومهما كان نوعها، ولو كانت تمرة، أو درهم، أو كبيرة؛ مثل: إنفاق سيدنا عثمان رضي الله عنه على جيش العسرة.

{وَلَا} : تكرار لا: يفيد التّوكيد، وفصل الإنفاق عن يقطعون وادياً، أو كلاهما معاً.

{يَقْطَعُونَ وَادِيًا} : في ذهابهم للجهاد في سبيل الله، أو رجوعهم منه.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كُتِبَ لَهُمْ} : في صحائف أعمالهم كتب لهم؛ لهم: اللام: لام الاختصاص؛ لهم خاصَّة.

{لِيَجْزِيَهُمُ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد.

{اللَّهُ أَحْسَنَ} : على وزن أفعل؛ أيْ: أفضل الجزاء؛ أي: الثّواب، والأجر.

{مَا} : اسم موصول؛ تعني: الّذي عملوا.

{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : كانوا يعملون في الدّنيا، ويعملون: تضم الأقوال، والأفعال معاً.

لنقارن بين الآيتين: الآية (120)، وهي قوله:{لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : هذه ابتلاءات من الله، وليس من عملهم، {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا}: هذه من أعمالهم الحقيقية، {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فهذه الآية تضم ابتلاءات من الله صبروا عليها+ أعمال قاموا بها= أثابهم الله عليها؛ فقال تعالى: {كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ؛ لأن هذه ابتلاءات، وليست من أعمالهم؛ فأكَّد لهم: أنها تكتب لهم أعمالاً صالحة، وجعلها من أعمال الإحسان، ورفع درجتهم إلى درجة المحسنين؛ فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .

أما الآية (121)، وهي قوله:{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : فهذه كلها من أعمالهم (نفقات، وقطع وديان)، أعمال حقيقة صالحة، وليس بينها ابتلاءات، كما في الآية (120) فوعدهم الله أحسن الجزاء عليها، ولا داعي للقول عنها أنها أعمال صالحة؛ لأنّ ذلك واضح.

ص: 35

سورة التوبة [9: 122]

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: النّافية، وما كان يصح، أو ينبغي.

{الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا} : النّفرة هي دعوة النّاس، أو حث النّاس للخروج إلى أمر ما بسرعة للجهاد، أو غيره؛ مثل: حريق، أو زلزلة أرضية.

{لِيَنفِرُوا كَافَّةً} : لا يصح للكل أن ينفر؛ أي: الكل يخرج لأمر ما، ويتركون المدينة، أو مساكنهم كلها خالية.

{فَلَوْلَا نَفَرَ} : لولا: أداة حضٍّ، نفر: خرج من كل طائفة فرقة.

{مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} : من: ابتدائية استغراقية؛ طائفة: الجماعة تقسم إلى طوائف، هذه الطّائفة تنفر للجهاد، وتلك تنفر للتفقُّه في الدِّين، وطائفة تبقى حارسة.

{وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} : فالطائفة الّتي تخرج للتفقُّه في الدِّين، ثمّ تعود إلى الدّيار؛ لكي تنذر الطّائفة الّتي نفرت للغزو، أو تنذر القاعدين (الطائفة الحارسة).

{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} : لعل: رجاء، أو للتعليل، يحذرون: عقاب الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

والخلاصة: أن تتبادل الطّائفة الّتي خرجت للجهاد، أو الغزو، والطّائفة الّتي خرجت للتفقُّه في الدِّين، والطّائفة الحارسة المعلومات، وأمور الدِّين.

سورة التّوبة [الآيات 123 - 129]

ص: 36

سورة التوبة [9: 123]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد: وهو قتال الكفار، والهاء: للتنبيه، واليقظة.

{قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} : يجاورنكم؛ يلونكم: من يلي؛ أي: الّذي يأتي بعده؛ مثل: بني قريظة، والنّضير، قاتلوا العدو القريب قبل مقاتلة الرّوم، والفرس العدو البعيد؛ أيْ: تخلَّصوا من عدوكم القريب أولاً، وطهِّروا مَنْ حولكم حتّى تطمئنوا بعد الخروج إلى العدو الأبعد.

{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} : ليجدوا: اللام: لام التّوكيد، والتّعليل، غلظة: قسوة أو خشونة، وشدة، وهذه الغلظة نحو الكفار وليست صيغة ثابتة دائمة، وأيضاً رحماء بينكم.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} : يمدهم بعونه، ونصره؛ مع: تعني: المعية، واعلموا علم اليقين: أن للتوكيد؛ الله مع الّذين يطيعون أوامر الله، ويجتنبون نواهيه.

ص: 37

سورة التوبة [9: 124]

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} :

{وَإِذَا} : الواو: استئنافية، إذا: ظرفية زمانية للمستقبل، ما: نافية للتوكيد.

{أُنزِلَتْ سُورَةٌ} : سورة كاملة، أو بعض آيات السّورة.

{فَمِنْهُم مَنْ يَقُولُ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أيْ: من المنافقين من يقول بعضهم لبعض.

{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} : استفهامية، زادته هذه إيماناً؛ يقولون ذلك استهزاءً، وإنكاراً لزيادة الإيمان.

{فَأَمَّا} : الفاء: استئنافية، أما: حرف شرط، وتفصيل.

{الَّذِينَ آمَنُوا} : الّذين: اسم موصول؛ آمنوا: ساروا على درب الإيمان.

{فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} : تظهر علامات السّرور على وجوههم، والفرحة: فرحاً بما أنزل ربهم موقنين: أنّ الله سيزيد إيمانهم.

ص: 38

سورة التوبة [9: 125]

{وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} :

{وَأَمَّا} : حرف شرط، وتفصيل.

{الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : مرض النّفاق، والكفر، والشّك.

{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} : زادتهم كفراً، ونفاقاً إلى كفرهم، وإثماً.

والرجس في اللغة: كل ما استقذر من عمل والقذر هو النتن حسياً، أو معنوياً.

وفي الشرع: يطلق على كل ما يستقبح شرعاً؛ كالكفر، والشّرك، والأوثان، والأصنام

وغيرها. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لمزيد من المعنى والفرق بين الرجس والرجز.

{وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} : من دون توبة.

{وَهُمْ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{كَافِرُونَ} : جملة اسمية تدل على الثّبوت، ثبوت الكفر، والنّفاق.

ص: 39

سورة التوبة [9: 126]

{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} :

{أَوَلَا} : الهمزة: للاستفهام، والتّوبيخ؛ لا: النّافية.

{يَرَوْنَ} : رؤية قلبية، ورؤية بصرية معاً؛ أيْ: يتفكرون، ويرون بأعينهم ماذا يحدث لهم في كل عام.

{أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} : أن للتوكيد؛ يفتنون: الفتنة: هي الابتلاء، والابتلاء يكون بالخير، والشّر؛ يفتنون: بالمرض، والقحط، أو الجهاد، أو نقص في الأموال والأنفس. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)، والعنكبوت، آية (2-3).

{فِى كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} : في: ظرفية زمانية؛ كل عام: جاء بكلمة (عام) الّتي تأتي في القرآن عادةً في سياق الخير، وكلمة السّنة تأتي في سياق الشّر؛ لأنّ الفتنة في كل عام هي لصالحهم؛ لكي يتوبوا، أو يذكروا، ويرجعوا عن شركهم، وكفرهم، ونفاقهم؛ فالفتنة غايتها إنقاذهم.

{ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} : ثمّ هنا: ليست للتراخي في الزّمن، لا: النّافية، لا يتوبون: لا يكفون ويرجعون إلى الله.

{وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} : وتكرار لا: النّافية؛ لزيادة التّوكيد، وفصل كل من التّوبة عن التّذكر، والإيقاظ؛ يذكرون: من التّذكر، وعدم النّسيان، يذكرون: يتعظون، ويصحون من غفلتهم، ويعودون إلى رشدهم، يذكرون، ولم يقل: يتذكرون. يذَّكَّرون: فيها مبالغة في التذكر وتعني: التذكر الشديد، أو القوي، والتذكر القلبي الذي ربما يوقظ قلوبهم ويتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وأما يتذكرون: تأتي في سياق التذكر العقلي، أو الفكري الذي يحتاج إلى زمن طويل. ارجع إلى سورة الأنفال آية (57) لمعرفة الفرق بين يذكرون، ويتذكرون.

ص: 40

سورة التوبة [9: 127]

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} :

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} : ارجع إلى الآية (124) من سورة التّوبة.

{نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} : هنا حذف يقولون؛ لأنّه مفهوم من السّياق؛ نظر بعض المنافقين إلى بعض: قائلين هل يراكم من أحد من المؤمنين. من: استغراقية؛ تعني: أيّاً من المؤمنين، وقد تعني: نظر بعضهم إلى بعض من دون أن يقولوا شيئاً، واستعملوا لغة العيون؛ كالغمز، وغيرها من الحركات؛ خوفاً من أن يسمعهم المؤمنون.

{هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} : هم يريدون الهرب، والتّسلل؛ لوذاً: خوفاً من أن يفتضح أمرهم؛ فهم في خوف دائم؛ فهم يسألون؛ هل: للاستفهام؛ يراكم من أحد من المؤمنين.

{ثُمَّ انصَرَفُوا} : ثم: للترتيب الذّكري، أو ترتيب الأحداث، ثمّ انصرفوا من مجلس، أو مكان نزول السّورة من دون الاستماع إليها، أو بيانها؛ فهم قد دخلوا بالكفر، وهم قد خرجوا به.

{صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} : عن الهدى، والإيمان، والرّشد؛ فهذا دعاء عليهم بالخذلان.

{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} : الباء: للتعليل، والإلصاق؛ لا: النّافية؛ يفقهون: الفقه لغةً: الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها؛ أي: لا يفهمون ما يسمعونه، ولا يتدبرونه، ولا يفهمون قيمة الإيمان، ولا يريدون أن يتعلموا بأنفسهم، أو من غيرهم.

ص: 41

سورة التوبة [9: 128]

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد، والإثبات.

{جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} : من أنفسكم؛ أيْ: من المؤمنين، أو من قريش، أو من جنسكم، وليس من الجن، ولا الملائكة، بينما قوله: رسول منهم؛ تعني: من العرب من الأميين.

{جَاءَكُمْ} : المجيء فيه صعوبة؛ قد تعني بتكاليف قد تشق عليكم، أو أوامر ونواهي يجب الأخذ بها، أو مجيء في وقت، أو زمن انتشر فيه الشّرك، والجهل، والظّلم.

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} : عزيز: من عز عليه؛ أيْ: صعب وشق؛ أيْ: يصعب عليه ما يشق عليكم، العزيز: الممتنع لا يقدر عليه أحد، أو الأمر الّذي يعز (يصعب) على النّاس تداوله، أو يصعب عليه؛ أيْ: يألم ويحزن ما تعانونه من مشقة (مثل الهجرة، والفاقة، والحرب، والاضطهاد، وغيرها من الشّدائد).

{مَا عَنِتُّمْ} : ما: مصدرية، أو اسم موصول؛ بمعنى: الّذي؛ أيْ: يصعب عليه عنتكم، أو الشّيء الّذي أعنتكم، أو ما يشق عليكم.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} : الحرص: هو بذل الجهد؛ لإدراك أمر مقصود، والمعنى: يبذل غاية جهده لمصلحتكم؛ أيْ: هدايتكم، وإيمانكم، وإنقاذكم من النّار؛ أيْ: حريص على دفع المكروه عنكم، وحصول المحبوب لكم.

{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : الباء: للإلصاق، والتّمسك، رؤوف رحيم: قال ابن عباس رضي الله عنهما سمَّى الله تعالى نبيَّه باسمين من أسمائه، أو وصف الله سبحانه نبيه بصفتين من صفاته: الرّأفة، والرّحمة، وقدَّم بالمؤمنين على رؤوف رحيم، ولم يقل: رؤوف يرحم المؤمنين: للتوكيد، والحصر. الرّأفة: أشدُّ الرّحمةِ، وأرقُّها: لم يحمِّلهم ما لا يطيقون.

الرّحمة: هي جلب الخير، أو ما ينفع، ودفع الضّر.

ص: 42

سورة التوبة [9: 129]

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} :

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : الفاء: عاطفة، إن: شرطية، تولوا: ابتعدوا عنك، أو أعرضوا عن الإيمان؛ فلا يهمَّنَّك إعراضهم.

{فَقُلْ} : الفاء: للتوكيد؛ الخطاب للنبي.

{حَسْبِىَ اللَّهُ} : أيْ: يكفيني الله سبحانه، والحسب: اسم بمعنى: كاف؛ فهو كافيك، وناصرك. قلْ ذلك بالقلب واللسان، وكلمة الحسب تقال في الشّدائد (حسبي الله ونعم الوكيل).

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا: النّافية؛ إله معبود (أثبتت العبودية لله)؛ إلا: أداة حصر. هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد (نفت عنه الشّريك أثبتت له الوحدانية). ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ لمزيد من البيان.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : عليه جار ومجرور تقدَّم توكلت؛ للدلالة على الحصر، والقصر؛ أيْ: أتوكل عليه وحده.

التوكل: هو الاعتماد على الله، وطلب المساعدة منه بجلب المنافع، ودفع المضار بعد تقديم الأسباب كاملة {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لبيان معنى التوكل.

{وَهُوَ} : هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، والحصر.

{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : رب العرش: خالق العرش، ورب الكون، والعرش؛ تعني: الحكم، والملك، أو الحاكم، والمالك.

{الْعَظِيمِ} : قد تعود على الله سبحانه العظيم (رب العرش) القادر على كل شيء، ولمعرفة معنى العظيم؛ ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)، أو قد تعود على العرش العظيم؛ لأنه أعظم المخلوقات على الإطلاق؛ أعظم من السموات، والأرض؛ فالسموات والأرض بالنسبة للعرش؛ كحلقة في فلاة، وأعظم من خلق الإنسان؛ فهو خالق العرش، والكون، والإنسان، وكل شيء سبحانه، وهو الحاكم، والمالك لكل شيء، لا يشاركه أحد.

ووصف العرش بأنه: عظيم، وكريم، ومجيد؛ فقال تعالى:{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التّوبة: 129]، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15]، {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، وربط التوكل برب العرش العظيم؛ لأن مَنْ خلق العرش العظيم جديرٌ بأن يُتوكَّلَ عليه. ارجع إلى سورة هود آية (7) لمزيد من البيان.

ص: 43

سورة يونس [10: 1]

سورة يونس

ترتيبها في القرآن (10)، وترتيبها في النزول (51).

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} :

{الر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة؛ للبيان.

{تِلْكَ} : اسم إشارة للبعد يدل على بعد منزلة آيات الكتاب (القرآن)، والكاف: للخطاب، والمخاطب: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتلك: تشير إلى الكثرة، وتشير إلى الآيات الآتية، والتي سبقتها، والآيات بشكل عام.

{آيَاتُ الْكِتَابِ} : آيات القرآن، والإضافة؛ للتفخيم لها، والتعظيم.

{الْحَكِيمِ} : وصف للقرآن، والحكيم: صفة مشتقة من حكم يحكم؛ أي: حاكم يحكم بين النّاس بالحق، ويحكم بين الأفعال؛ هذا فعل حسن، وهذا فعل قبيح، وحاكماً يفصل بين الحقّ والباطل، وبين النّاس فيما اختلفوا فيه، وحاكم في الأخلاق، وحكيم: مشتقة من الحكمة؛ أي: مليء بالحكمة، أو محكم لا تعارض فيه، ذو حكمة؛ لأنّه صادر من الله الحكيم. وحكيم: تعني: المهيمن على الكتب السماوية الأخرى.

ص: 44

سورة يونس [10: 2]

{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} :

أسباب النزول: كما ذكر الواحدي والطبري عن ابن عباس قال: لما بعث الله تعالى محمّداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمّد؟ فأنزل الله هذه الآية.

كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94].

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41].

{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2].

{أَكَانَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب.

{لِلنَّاسِ} : اللام: لام الاختصاص، والنّاس في هذه الآية: أهل مكة، وكلمة النّاس: مشتقة من النوس. ارجع إلى سورة البقرة، آية (21).

{عَجَبًا} : موضع العجب أو التعجب كونه رجل أولاً، ومنهم ثانياً؛ أيْ: من قريش العرب ومن الأميين.

{أَنْ} : المفسرة المخففة (للتوكيد).

{أَوْحَيْنَا} : الوحي لغة: هو الإعلام بالخفاء. وشرعاً: هو ما يلقي الله سبحانه على رسله من تكاليف، وتعاليم، وآيات

وغيرها.

ويكون بأن يكلم الله أحد رسله وحياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان.

{إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} : إلى محمد صلى الله عليه وسلم. منهم: من قريش يعرفونه.

{أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} : أن: للتوكيد. أنذر النّاس: أنذر من الإنذار: وهو الإعلام مع التحذير، أو التّخويف، أو الزّجر، والإنذار: يكون بعدم فعل شيء ما، أو تركه، أو الحثِّ على ألا يُقدِمَ على ما يضره.

{النَّاسَ} : تشمل: الإنس، والجن.

الإنذار إذن لكلّ النّاس بما فيهم المؤمن والكافر. ارجع إلى الآية (21) من سورة البقرة.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} : البشارة تكون فقط لمن آمن. الّذين آمنوا، ولا تكون إلا بالخير عادة (البشارة المطلقة)، أما البشارة المقيدة: فقد تكون بالشّر؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تكون على سبيل التهكم، والسّخرية. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

{أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} : أنّ: للتوكيد (حرف مشبه بالفعل). لهم: اللام: لام الاختصاص. لهم: خاصَّة، قدم صدق: سابقة خير؛ أيْ: ما قدَّموه من الأعمال الصّالحة في دنياهم قد وصل. قدَم: هو العضو المعروف الّذي نمشي عليه، وهو وسيلة للسعي، والسّبق؛ لأنّ السّعي والسّبق إلى الأعمال الصالحة غالباً ما يكون بالقدم؛ فعبر عن الإيمان، والاستماع، واتِّباع المنهج الرّباني بالقدم على سبيل المجاز، أو أنّهم قد قدَّموا أعمالاً صالحة في دنياهم فجزاء ذلك أن يكون لهم مقعد صدق عند ربهم.

{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} : وعندما أبلغهم الرّسول صلى الله عليه وسلم الإنذار، أو أنذرهم باتباع منهج الله تعالى، قال الكافرون:{إِنَّ} : للتوكيد.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة؛ يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} : أي: اتهم الكافرون الرّسول صلى الله عليه وسلم بكونه: ساحراً مبيناً: اللام في كلمة لساحر: تفيد التوكيد. مبين: واضح، وبيِّن لكل من يعرفه: أنّه ساحر، وما جاء به السِّحر الواضح الّذي لا يحتاج إلى برهان، أو دليل، وفي آيات أخرى: اتَّهموا القرآن بأنّه سحر؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43].

والسّاحر: هو الّذي يقوم بأعمال توهم أنها حقيقة، وهي حيل، وتخيلات، ولو كان ساحراً كما زعموا لماذا لم يسحرهم حتّى يؤمنوا، وينتهي الأمر، واتَّهموه بالسّاحر، أو ما جاء به السحر حين رأوا من تأثيره القوي في النفوس، والقلوب، وكونه خارقاً للعادات، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقوم به، أو جاء به هو نوع من الحيل والشعوذة، أو كيف يُوحَى إليه. ارجع إلى سورة طه، آية (58)، وسورة البقرة، آية (102).

كلمة صدق جاءت في القرآن في عدَّة آيات منها:

ـ قدم: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2]؛ أيْ: سابقة فضل، ومنزلة رفيعة.

ـ لسان {لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84]؛ أيْ: ثناءً حسناً، وذكراً جميلاً.

ـ مخرج ومدخل: {أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80]؛ أيْ: أدخلني مُدخلاً مرضياً، وأخرجني مخرجاً مرضياً.

ـ مقعد: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55]؛ أيْ: مكاناً مرضياً في الآخرة.

ـ {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]؛ أيْ: منزلاً مباركاً في الدّنيا.

والمدخل، والمخرج، والمقعد، والمبوأ: كل ذلك جزاء لمن استجاب لربه، وعمل صالحاً.

ص: 45

سورة يونس [10: 3]

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

بدلاً من العجب كيف أنزل الوحي إلى محمّد صلى الله عليه وسلم كان عليكم أن تعجبوا من خلق السّموات والأرض في ستة أيام.

فقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} : إنّ: للتوكيد، ربكم الله: ربكم: الرّب في اللغة: المالك، والمدبر، والمربي، والقيم، والرّازق، والمنعم. الله: سبحانه تشير أنّه المعبود الحقّ، والإله الحقّ الّذي يستحق العبادة؛ لأنّه سبحانه {الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} . ارجع إلى سورة الأعراف، آية (54)، وسورة البقرة، آية (22، 29)، وسورة الأنبياء، آية (30)؛ للبيان.

{سِتَّةِ أَيَّامٍ} : قد تعني: ستَّ مراحل، وكلّ مرحلة تمثل بيوم، واليوم طوله بلايين السنين، ويُعينُ على تفسير ذلك قوله تعالى:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ثمّ: هنا تفيد التفاوت بالمرتبة بين الاستواء على العرش: هو أكبر وأعظم المخلوقات، وأعظم من خلق السّموات والأرض الذي هو بدوره أكبر من خلق الناس، كما أشارت إلى ذلك الآية (57) من سورة غافر.

{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : استواءً يليق بذاته، وصفاته، وفي إطار ليس كمثله شيء، والاستواء: لا يدلُّ على مكان محدَّد؛ لأنّه سبحانه مُنزَّه أن يكون محدداً بمكان، أو زمان، والعرش فسره بعض العلماء بالملك، والسّلطان، والقدرة، والتّدبير، والعرش: لا يُقدر بقدر، وهو من الأمور الغيبية.

والكرسي فسِّر بالعلم، والسّموات السّبع، والأرض بالنّسبة للعرش كحلقة في فلاة. ارجع إلى سورة هود آية (7) للبيان.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} : الأمر: يضم كلّ شيء وزيادة، يدبِّر أيَّ أمر حسب مشيئته، وحكمته، وعلمه، وإرادته تدبير محكم، يدبر: يعني: ينظم، يقدِّر ويقضي، يدبر الأمر جاء لينفي التّعجب؛ فالّذي خلق هو الّذي يدبر الأمر، أمر الكون، وأمر الخلق.

{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} : ما: النّافية. من: الاستغراقية، وتشمل المفرد، والمثنى، والجمع. شفيع: صيغة مبالغة من شافع، وهو الّذي يطلب العفو لشخص آخر، وتكون في ذنب، أو تقصير في حق الله، والشفاعة لا بُدَّ لها من شروط، هي: إذن من الله، ورضا، والمشفوع له مؤهَّل للشفاعة، وكذلك الشّافع مؤهَّل للشفاعة؛ كقوله سبحانه:{لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلًا} ، والشّفاعة الباطلة المزعومة شفاعة الأصنام، والأوثان

وغيرها من الآلهة المعبودة، واللات، والعزى: فليس لهذه شفاعة أصلاً عند الله سبحانه.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} ذلكم: اسم إشارة؛ يفيد البعد؛ أي: التعظيم، والعلو، والتّوكيد، ولم يقل: ذلك، وإنما ذلكم؛ أيْ: ذلكم العظيم الّذي خلق السّموات والأرض، ثم استوى على العرش، والّذي يدبِّر الأمر: هو الله الّذي يستحق العبادة وحده، ويستحق التّعظيم، والشّكر، والحمد.

{فَاعْبُدُوهُ} : وحده، والفاء: تفيد التّوكيد، والتّعليل.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} : الهمزة: للاستفهام، الفاء: للتوكيد. ألّا: أداة حضٍّ، وحثٍّ، وطلب، وتنبيه للسامع الّذي قد يكون غافلاً.

{تَذَكَّرُونَ} : ولم يقل: تتذكرون؛ أيْ: لستم بحاجة إلى وقت طويل لتذكروا عظمة الخالق؛ لأن أدنى تذكُّر بخلق هذه السموات والأرض كافٍ للدلالة على عظمة الخالق المدبِّر.

ص: 46

سورة يونس [10: 4]

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} :

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} : بعد الحديث عن دلائل وحدانية الألوهية، والرّبوبية ينتقل سبحانه إلى ذكر البعث، والجزاء.

{إِلَيْهِ} : جار ومجرور، وتقديم ذلك يدل على الحصر إليه وحده لا إلى غيره.

{مَرْجِعُكُمْ} : جميعاً يوم القيامة (البعث والحشر).

{جَمِيعًا} : توكيد.

{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} : وعد الله صدقاً؛ أيْ: إرجاعه إياكم إليه وعدٌ منه صادق، وكلُّ وعدٍ من الله هو حقٌّ، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير.

{حَقًّا} : يفيد التّوكيد؛ لأنّ الباطل قد يسود، ويطغو ويعمُّ، ثم يزول، وينمحي.

{إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} : إنّ: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.

{يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} : يخلق الخلق ابتداءً بتقدير، ومن غير مثال سابق.

{ثُمَّ يُعِيدُهُ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي يعيده بالبعث، والحشر، وهو أهون عليه.

والغاية والحكمة من الإعادة: هي الجزاء، والحساب.

{لِيَجْزِىَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} : ليجزي: اللام: لام التّعليل.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} : أيْ: يرفع الجور، ويحقق العدل؛ فالقسط يعني: الحكم بالعدل، وتنفيذ الحكم، والجزاء لا زيادة، ولا نقصان، وهذا لا يمنع الفضل من الله سبحانه، والحسنة بعشر أمثالها، أو أضعافٌ، والسّيئة بمثلها.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} : وبالمقابل الّذين كفروا بالله، ورسله، واليوم الآخر، والبعث، والجزاء:

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص.

{شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} : الحميم الماء الشّديد المتناهي في الحرارة، والسّخونة.

{وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام بما كانوا يكفرون.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو السّببية؛ أيْ: بسبب كفرهم.

ص: 47

سورة يونس [10: 5]

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} : هو: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر؛ هو وحده لا غيره.

{الَّذِى} : اسم موصول.

{جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} : والجعل يكون بعد الخلق، وهو التّصيير؛ أيْ: خلق الشّمس، وهي نجم؛ أيْ: فرن نووي عملاق؛ مركب من غاز الهيدروجين بنسبة (75%)، والهليوم بنسبة (24%)، وتبعد الشّمس عن الأرض (150 مليون كم)، وهي أهم مصدر للحياة على كوب الأرض.

{ضِيَاءً} : أيْ: مصدراً للضوء، والدفء للكائنات الحية كلها: الإنسان، والحيوان، والنبات، ولولا الشّمس لما استقامت الحياة على الأرض، وفي كلّ شهر شمسي نجد أن الشّمس تقع في برج من البروج؛ فهي وسيلة لتحديد الزّمن أيضاً.

{وَالْقَمَرَ نُورًا} : القمر: هو الجرم السماوي الوحيد الّذي يدور حول كوكب الأرض دورة كاملة في كلّ (27، 3 يوم) تقريباً، ويأخذ (29 يوماً) ليدور حول نفسه ويظهر لنا كهلال، ويعتبر القمر خامس أكبر الأقمار الطبيعة الموجودة في المجموعة الشمسية، ويبعد عن الأرض حوالي (384، 000كم)، ويستمد ضوءُه من الشّمس، ونسبة قليلة من أشعة الأجرام الأخرى، وقطر القمر يساوي ربع قطر الأرض، والقمر ليس مضيئاً بحد ذاته، وإنما يعكس الضّوء الواقع عليه من أشعة الشّمس، ويسمَّى ذلك نوراً، فهناك فرق بين الضوء والنور.

وأما الضياء، أو الضوء الذي تصاحبه حرارة مقارنة بالنور الذي ليس فيه حرارة فهي إضاءة صادرة عن مصدر مشتعل بحد ذاته، أو مضيء بذاته؛ كالشمس، والنجوم، والنّور أوسع، أو أعم من الضّياء، والضّياء: حالة جزئية من حالات النّور، والنور حين يشتد يسمى ضياءً (أو فرط الإنارة).

والضّياء: هو حالة من حالات اشتداد النّور.

فالنّور حين يشتد يسمَّى ضياءً، وفرط الإنارة يسمَّى ضياءً.

{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} : منازل القمر هي: مواضع تحركه في مداره حول الأرض بين الشّمس والأرض، ومنازل القمر هي: المحاق، والهلال المتزايد، والتربيع الأوّل، والأحدب المتزايد، والبدر، والأحدب المتناقص، والتربيع الثّاني، والهلال المتناقص. ارجع إلى سورة ياسين آية (39).

{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} : وتبعاً لتغير هذه المواقع تتغيَّر صورته الّتي نراه عليها خلال الشهر (أوله، وسطه، آخره)، والتقدير الشهري يكون بالقمر، والتقدير اليومي يكون بالشمس.

{لِتَعْلَمُوا} : اللام: لام التّعليل.

{عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} : فدورة القمر حول الأرض دورة كاملة يحدد لنا الشهر، وكلّ (12 دورة) قمرية تحدد لنا السنة القمرية، وكلّ سنة قمرية أقل من السنة الشمسية بـ (11 يوماً)، ودورة الأرض حول محورها (نفسها) يحدد لنا اليوم، وسنة المسلمين سنة شمسية قمرية معاً، ويحدد وقوع الشّمس في برج من الأبراج الاثني عشر الشهر الشمسي، وهناك أبراج للزينة، وأبراج تساعد على معرفة الاتجاهات. ارجع إلى سورة الإسراء آية (12)، وسورة الحجر آية (16)، وسورة الرحمن آية (5)، وسورة إبراهيم آية (33) للبيان المفصل في السنة الشمسية والسنة القمرية.

{مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} : ما: النّافية.

{خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} : أي: الشّمس، والقمر، والسّماء، والأرض، والليل، والنّهار، والضّياء، والنّور؛ إلا بالحق.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{بِالْحَقِّ} : الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر (لا خلاف فيه)؛ بالصّدق.

{يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : يفصل الآيات؛ مثل: كروية الأرض يبيِّنها في آيات أخرى؛ مثل: الليل، والنهار، والضياء، والنور. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (55)؛ للبيان.

{لِقَوْمٍ} : اللام: لام الاختصاص.

{يَعْلَمُونَ} : العلم عملية نهائية تسبقها عملية الفقه، والتفكر، والتدبر، والعقل، ثمّ العلم. العلم بالحقائق الكونية الدّالة على وجود الخالق الحقّ الواحد، واجب الوجود.

ص: 48

سورة يونس [10: 6]

{إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر في الآية السّابقة هو الّذي جعل الشّمس ضياءً، والقمر نوراً أتبع ذلك؛ قوله تعالى:{إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : في التّعاقب، والطّول والقصر، والمجيء والذّهاب؛ هذا الاختلاف الدّال على كروية الأرض، ودورانها حول محورها، وحول الشّمس الّذي يؤدِّي إلى تبادل اللّيل، والنّهار الضروريين لاستقامة الحياة على هذه الأرض.

{وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : من المجرات، والكواكب، والنّجوم، والشّموس، والأقمار، وفي الأرض من الجبال، والحيوانات، والبحار، والنّباتات، والجمادات، والسّحاب، والأمطار، والرّعد، والبرق، والمد، والجزر

وغيرها.

{لَآيَاتٍ} : اللام: لام التّوكيد؛ آيات: كونية، ودلائل على وجوده، ووحدانيَّته، وقدرته، وحكمته، وعظمته، وكمال علمه، وهذا يوجب طاعة الله وتقواه.

{لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} : اللام: لام الاختصاص؛ يتقون الله في أوامره بطاعتها، ويتقون الله في نواهيه بتجنُّبها.

وفي الآية السّابقة قال تعالى: {الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : أيْ: يعلمون، وهذا العلم يهديهم إلى التقوى.

ص: 49

سورة يونس [10: 7]

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} :

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} : إنّ: لتوكيد الّذين؛ لا: النّافية؛ لا يرجون: لا يودون، أو لا يتوقَّعون لقاءَنا؛ أيْ: لقاء الله سبحانه، والعرض عليه يوم القيامة، والرّجاء هنا؛ يعني: الشّك، والظّن، والخشية، والخوف؛ أيْ: يشكون، أو لا يتوقَّعون، وربما يخشون، ويخافون لقاءَنا.

{لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} : أيْ: أمثال هؤلاء الّذين لا يؤمنون بالبعث، والحشر، والقيامة، والدّار الآخرة، والجنة والنّار، ولا يؤمنون بثواب، ولا بعقاب؛ بما أنّهم لا يؤمنون بالبعث، والجزاء، والحساب؛ فهم لا يستعدون لذلك، أو يهيِّئون أنفسهم بالإيمان، وبالعمل الصّالح؛ فهم لا يخافون العاقبة، وسوء اللقاء، وقال سبحانه:(لقاءَنا)، ولم يقل: لقاء الآخرة؛ للتنبيه، والتّحذير لهؤلاء. ارجع إلى سورة الفرقان، آية (21)؛ لمزيد من البيان في معنى: لا يرجون.

{وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي: اكتفوا بالحياة الدّنيا، ولم يرغبوا بالآخرة، أو يفكروا بآخرتهم، أو هم آثروا الدّنيا على الآخرة.

{وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} : ارتاحوا، وأخلدوا إلى دنياهم، وفرحوا بها.

وقصروا همهم، وغايتهم على لذائذ الدّنيا وزخارفها، فكان ذلك مبلغهم من العلم. والرضا: هو اطمئنان القلب إلى أمر فيه نفع.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} : الغفلة: هي ترك الشّيء، وذهابه عن فكر الإنسان، ولم يعد يخطر على باله، أو يتذكره رغم رؤيتهم لآيات الله سبحانه الكونية، أو القرآنية، وسماع تلك الآيات؛ فهي تمر عليهم كأن لم تكن لا يتيقَّظون بها، وكأنهم خشب مسندة لا يتعظون بها، فهؤلاء الّذين فرحوا بالحياة الدّنيا، واطمأنوا بها؛ أصبحوا في منزلة الغافلين عن الآخرة، أو عما هو مطلوب منهم.

{هُمْ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

وكان يكفي القول: والذّين عن آياتنا غافلون. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى: غافلون.

ص: 50

سورة يونس [10: 8]

{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد بُعد انحطاطهم، وغفلتهم.

{مَأْوَاهُمُ النَّارُ} : المأوى: اسم مكان من أوى يأوي، والمأوى: المنزل، والمكان؛ مكان استقرارهم، وخلودهم.

{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : الباء: للإلصاق، وتفيد السببية، أو البدلية؛ أيْ: بدل، أو بسبب ما كسبوا من الذّنوب، والآثام، وقال سبحانه: يكسبون، ولم يقل: يكتسبون. ارجع إلى الآية (27) من سورة يونس، وسورة البقرة، آية (286)؛ لبيان تفسير كلمة كسبوا، واكتسبوا.

ص: 51

سورة يونس [10: 9]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ} :

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} : إنّ: للتوكيد؛ الهداية تكون لهم في الدّنيا، وفي الآخرة، والهداية تعني: أخذوا بالمنهج، والتزموا به، وطلبوا العون من الله؛ فدلهم على الصّراط المستقيم، وأرشدهم إليه في الدّنيا، ويوم القيامة سوف يوصلهم ذلك الصّراط المستقيم إلى جنات النّعيم.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : أيْ: تنبع الأنهار من تحت تلك الجنات. في جنات النعيم: ارجع إلى سورة الزخرف آية (71-72) للبيان.

{جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : النعيم: هو مشتق من النعمة، ويعني: النعمة الكثيرة الدائمة التي لا تزول، فالنعيم: يطلق على نعم الآخرة، وهو النعيم الدائم الكثير والمتجدد والخالد الخاص بأهل الجنة.

وأما النعمة: تطلق على نِعَم الدنيا الظاهرة والباطنة، وهي نعم زائلة، وإذا كان هناك نعيم في الدنيا فهو ناقص زائل غير كامل تشوبه الأكدار. ارجع إلى سورة الزخرف آية (71-72) لمزيد من البيان.

ص: 52

سورة يونس [10: 10]

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا} : أيْ: دعاؤهم فيها؛ أيْ: في جنات النعيم، رغم كون دار الآخرة ليست دار تكليف، وعبادة؛ فهم يدعون ربهم فرحاً، وتلذذاً؛ كما كانوا يدعون في الدّنيا؛ لكثرة ما يفاجؤون به من النّعيم تنطلق ألسنتهم بالتّسبيح؛ فيقولون: سبحانك اللهم، ومعناها: يا الله، أو يا الله ائتنا بالخير من شدة الإعجاب يبدؤون بالتّسبيح، والتّنزيه؛ إجلالاً، وتعظيماً للمنعم.

{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} :

1 -

سلام من الله سبحانه كقوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58].

2 -

وسلام من الملائكة كقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24].

3 -

وهم يسلِّمون على بعضهم بعضاً.

كلمة السّلام: رمز الرّضا، والاستقرار، والاطمئنان؛ سلام شامل يشمل النّفس من كلّ مكروه، ويشمل الأهل، والمكان.

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : وآخر دعواهم أن: للتوكيد.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : أيْ: حمد بيقين، وتوكيد على فضل الله عليهم؛ حمد على نعم الله تعالى الّتي لا تزول، والحمد لله رب العالمين على نعمة الإيجاد، والحمد لله على نعمة الإمداد، والحمد لله على نعمة البقاء في دار الخلد حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه.

ص: 53

سورة يونس [10: 11]

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: استئنافية، لو: شرطية؛ تفيد النّفي، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

{يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} : لو يعجِّل الله إجابة دعائهم حين يدعون بالشّر كما يعجِّل لهم الإجابة بالخير.

{لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} : الأجل: الموت؛ لقضي إليهم أجلُهُم؛ أيْ: أهلكهم، أو أماتهم، أو أصابهم السّوء، ولكن من رحمته لم يستجب لهم؛ لأنّه رؤوف رحيم، واللام: في ليقضي: للتوكيد، والتّعليل.

ووضع استعجالهم بالخير بدلاً من تعجيله لهم بالخير؛ ليدل على سرعة إجابته لهم، ولنعلم: أنّ إجابة الدّعاء، أو عدمه مفوض إلى مشيئة الله وحده، وإلى حكمته سبحانه، والله سبحانه منزَّه أن يظن أيُّ عبد أنّ الله سبحانه يجب أن يستجيبَ لدعائه؛ فالله سبحانه بحكمه، وحكمته يقرِّر ما يشاء، ويختار، ما كان لهم الخيرة.

{فَنَذَرُ} : الفاء: للمباشرة. نذر: نترك، ونهمل.

{الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} : ارجع إلى الآية السّابقة (7).

{فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} : طغيانهم: مجاوزتهم الحد في الظّلم، والكفر، والعصيان.

{يَعْمَهُونَ} : يتحيَّرون؛ يتردَّدون في الضّلال، والكفر، والعصيان؛ يتقلَّبون، ويدل قوله: يعمهون: على التّجدد، والتّكرار. ويعمهون: مشتقة من عمى البصيرة من عمه؛ إذا تردَّد، وتحيَّر، وأما العمى: فيكون في البصر، أو العين، وعمى البصيرة أشد من عمى العين.

ص: 54

سورة يونس [10: 12]

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَإِذَا} : إذا: ظرف زماني؛ يدل على كثرة الحدوث، وحتمية الوقوع.

{مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ} : مس: المس: هو الإصابة الخفيفة (الطّفيفة) مجرد المس الّذي هو دون اللمس.

{الضُّرُّ} : هنا معرف بأل التّعريف، يعني: سوء الحال والمرض. والضُّرُّ: أشد من الأذى، ويكون في النفس وغيرها، وهناك فرق بين الضُّر بضم الضاد، والضَّر بفتح الضاد الذي ضد النفع.

{دَعَانَا لِجَنْبِهِ} : لجنبه؛ أيْ: مضطجعاً على جنبه؛ أيْ: دعانا وهو مضطجع، وهو ملازم لجنبه، أو نائماً على جنبه. دعانا لجنبه: اللام: لام الاختصاص (لجنبه الدّالة على حالة ضره)، وقدَّم الجنب؛ لأنّ الإنسان في حالة المرض أكثر ما يلازم جنبه (أيْ: حالة الاضطجاع).

{أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} : ثمّ قاعداً (أو قاعداً)؛ أيْ: جالساً، ثمّ القيام، والقيام يدلّ على تحسن حاله، ونرى عكس هذه الآية في الترتيب الآية (1919) من سورة آل عمران وهي قوله تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} .

{دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} : تشمل جميع أحواله حين المرض، فحين يصاب بالمرض الشديد يلزم جنبه، ثم إذا تحسن حاله يقعد ويصلي وهو قاعد، ثم إذا تحسن يقوم ويصلي.

ولم يذكر حالة المشي؛ لأنّ الماشي عادة ليس به ضر.

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} : فلما: الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب. لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.

{كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} : رفعنا، وأزلنا عنه ضُره، وهنا يشبَّه الضّر؛ كأنّه غطاء يغطي الإنسان، والكشف: هو رفع الغطاء، وإزالته، وهذا يشير إلى أنّ الضُّر أصاب الجسم كلّه، وليس عضواً واحداً.

{مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} : مر: كلمة تشير إلى أنّه حين لم يجد له معيناً غير الله لهم سبحانه راح يدعو الله سبحانه؛ حتّى يرفع عنه الضّر؛ فلما رفع عنه ضُره لم يعد يتذكر ما أصابه، وما دعا به، وعاد إلى ما كان عليه من عدم الإيمان، والكفر، ولم يتعظ، ولم يداوم على شكر الله، ويرجع عن ضلاله.

الكافر يدعو الله ساعة الضّر فقط، أما المؤمن: فهو يدعو ربَّه دائماً.

وقد وردت آيات الضّر بمعانٍ مختلفة:

في سورة الزّمر، الآية (8):{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} .

في سورة النّحل، الآية (53، 54): {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .

فالضّر قد يمس الإنسان لوحده من دون الآخرين.

أو الضّر يمس الكلّ من دون استثناء.

{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أيْ: هذه صفة وعادة المسرفين سابقاً ولاحقاً؛ إذا أصابهم الضّر دعوا ربهم منيبين إليه، ثمّ إذا كشف عنهم الضّر؛ عادوا إلى فعل المعاصي، والكفر، والشّرك؛ أيْ: مروا كأن لم يدعوا إلى ضر مسهم، وزيِّن: هنا مبني للمجهول، وهو الشّيطان: بالوسوسة، والضّلال، والعودة إلى الكفر، ما كانوا يعملون العمل يشمل الفعل، والقول؛ أيْ: ما كانوا يقولون ويفعلون، والمسرف تعم الكافر، والمشرك وغيره، وسمِّي الكافر مسرفاً؛ لأنّه أسرف في حق نفسه؛ فجعلها عبداً للأوثان، والأصنام، أو أسرف في كفره، واستمر على ذلك، أو استمر على فعل المعاصي، والكبائر.

ص: 55

سورة يونس [10: 13]

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} :

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} : ولقد: الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، وزيادة التّوكيد.

{أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ} : جمع قرن، والقرن (أهل كلّ زمان)، والقرن من الزّمان هو (100 سنة)، ولقد أهلكنا القرون من قبلكم، وأبوا أن يؤمنوا، ويقولوا: لا إله إلا الله، وأشركوا بالله سبحانه، أو كذبوا بآياته، ورسله، أو ظلموا أنفسهم باتباع الشّهوات، وخروجهم عن منهج الله تعالى، أو ظلموا غيرهم بالصّد عن سبيل الله، أو الشرك. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد في معنى: الظّلم.

{لَمَّا ظَلَمُوا} : لما: ظرف زماني.

{وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزات الدّالة على صدق نبوتهم، والدّالة على وحدانية الله، وعلى وجوب الإيمان، والبينات تشمل كذلك الحجج، والأدلة، والبراهين.

{وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} : ما: للنفي.

{كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} : اللام: لام التّأكيد؛ تأكيداً للنفي (نفي الإيمان)، وأصروا على الكفر، والشّرك، والمعاصي.

{كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} : كذلك؛ أيْ: بمثل هذا الهلاك؛ نجزي كلّ مجرم يكذب بما جاء به الرّسل، والمجرم: هو الكافر، والمشرك، والظالم، والمنكر للبعث، والحساب، والمستهزئ بآيات الله، وبرسله، وإذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.

انتبه وردت كلمة المجرمين خمس مرات في هذه السّورة:

الآية (13): {كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} .

الآية (17): {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} .

الآية (50): {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} .

الآية (75): {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} .

الآية (82): {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .

ص: 56

سورة يونس [10: 14]

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب، والتّراخي في الزّمن.

{جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الْأَرْضِ} : خلائف: جمع خليفة، والخطاب في هذه الآية موجَّه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

{مِنْ بَعْدِهِمْ} : من بعد الّذين أهلكناهم؛ أي: كفار مكة القوم المجرمين. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (165)؛ للبيان المفصل في خلائق الأرض، خلائق في الأرض، خلفاء في الأرض.

{لِنَنْظُرَ} : اللام: لام التّوكيد، والتّعليل.

{كَيْفَ تَعْمَلُونَ} : كيف: استفهامية وللتحذير، تعملون: تشمل الأقوال والأفعال، هل تعملون بعمل المجرمين الّذين أهلكناهم، أم تخالفونهم، وتكونوا أفضل منهم.

ص: 57

سورة يونس [10: 15]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَائِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

{وَإِذَا} : الواو: استئنافية؛ إذا: ظرفية زمانية تتضمن معنى الشّرط، وإذا تستعمل للشيء المحقق حدوثه.

{تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} : التّلاوة؛ تعني: القراءة؛ أيْ: آيات القرآن الحكيم. ارجع إلى الآية (71) من نفس السورة.

{تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} : تتلى: فعل مضارع؛ يدل على التّجدد، والتّكرار، بينما في قوله تعالى:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} : تليت: فعل ماض؛ أيْ: قرئت عليهم آياتنا؛ تدل على الحدوث في الماضي مرة، أو مرتين وانتهى الأمر؛ بينما تتلى: تدل على التّجدد، والتّكرار.

{بَيِّنَاتٍ} : الآيات الواضحات الدّالات على وحدانية الله تعالى، وعلى الإيمان، وترك الشّرك، ومحاربة الكفر، والأصنام.

{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} : ارجع إلى الآية (7)؛ لمعرفة معنى الّذين لا يرجون لقاءنا.

وقيل: كانوا خمسة نفر؛ أمثال: عبد الله بن أمية، والوليد بن المغيرة، ومُكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر. هذا ما قاله مقاتل (انظر في أسباب النزول للواحدي).

وقيل: نزلت في المستهزئين بالقرآن؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما .

{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} : هم يطلبون طلبين:

1 -

الأوّل أن يأتي لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرآن غير هذا؛ أيْ: يطلبون قرآناً جديداً كاملاً.

2 -

والثّاني: إذا لم تأتِ بقرآن جديد إذن بدل بعضه (أيْ: بعض آياته، أو كلماته)؛ بحيث لا تسيء إليهم، أو إلى آلهتهم؛ أيْ: هم يطلبون قرآناً لا يذم شركهم، وظلمهم، ولا يَعيبُ على آلهتهم، قرآناً خالياً من الإنذار، والوعيد، والبعث، والنّشور؛ فقد كانت صدورهم تضيق لسماعه، وفي الحقيقة هم لا يريدون سماع أيِّ شيء قليلاً كان أو كثيراً يقلق مضاجعهم.

{قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَائِ نَفْسِى} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: ما: النّافية؛ لا يحق لي أو يحل لي: أن: مصدرية؛ تفيد التّوكيد. أبدِّله: انتبه جاء الرّد بالرّفض على التّبديل، ولم يرد على طلبهم بالتّغيير:{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} ؛ لأنّ هذا السّؤال الأوّل سخيف؛ أي: الإيتاء بغير هذا القرآن، وأما التبديل فنفى ذلك أيضاً؛ أيْ: نفى الأسهل؛ ليدل على نفي الأصعب، هو التغيُّر وهو أمر مستحيل.

وقوله: {قُلْ مَا} : تنفي الحال، والمستقبل، وتحمل معنى التّوكيد.

{مِنْ تِلْقَائِ نَفْسِى} : أيْ: لا يمكن أن أبدِّله من قبل نفسي.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ} : إنّ: حرف نفي. إلا: أداة حصر. ما يُوحى إلي؛ أيْ: ما ينزل به الرّوح الأمين فقط. ما يوحي إليَّ ربي من الآيات، والأحكام، ولمعرفة (ما يوحى إليَّ): ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : إنّ: للتوكيد؛ أخاف إن: شرطية، وجملة إني أخاف إن عصيت ربي: جملة تعليلية؛ لكوني أتبع فقط ما يوحى إليَّ.

{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : أيْ: يوم القيامة.

ص: 58

سورة يونس [10: 16]

{قُلْ لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

{قُلْ لَّوْ} : شرطية.

{شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} : ما تلوته: ما: نافية. تلوته؛ أي: القرآن قرأته عليكم.

{وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ} : ولا أبلَغَكُم الله إياه؛ أيْ: ما تلوته عليكم، ولا أطلعكم الله عليه، أو نزَّله إليكم، وقرأته عليكم.

{فَقَدْ} : الفاء: للتأكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد أيضاً.

{لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} : أيْ: أقمت بينكم (40 سنة) من قبل نزول القرآن لا أحدثكم، أو أبلغكم شيئاً من القرآن، وإني أُمي لا أكتب، ولا أستطيع قراءة الكتب الأخرى، ولم يُعلِّمني بشر.

{أَفَلَا} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي الإنكاري؛ أيْ: للحثِّ، والتحريض، والتّنبيه.

{تَعْقِلُونَ} : أنّ هذا القرآن ليس من عندي، ولا أستطيع أن أغيره، ولا أبدله؛ أيْ: لو استعملتم عقولكم، وفكرتم لوصلتم إلى الحقيقة: أنكم لا تحتاجون إلى قرآن غيره، وتعقلون: من عقل الشّيء عرفه بدليله، وفهمه بأسبابه، وتوصل إلى الحقيقة: أنّه من عند الله وحده.

ص: 59

سورة يونس [10: 17]

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} :

{فَمَنْ أَظْلَمُ} : الفاء: استئنافية. من: اسم استفهام إنكاري معناه: النّفي؛ أيْ: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً: نكرة تشمل كل أنواع الكذب، ولو قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [الصف: 7]؛ الكذب في هذه الآية معرفة؛ أي: محدد بنوع واحد من الكذب. ارجع إلى سورة الصف لمزيد من البيان. أو كذّب بآياته؛ أيْ: هو أظلم من أيِّ ظالم آخر (لا أظلم منه).

ففي هذه الآية: يبيِّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بدل كلمة، أو آية من تلقاء نفسه، ومن دون وحي؛ لكان من هؤلاء الّذين افتروا على الله كذباً، (وجاءت نكرة)؛ لتدل على أيِّ نوع مهما كان صغيراً، أو كبيراً. والافتراء: هو الكذب المتعمَّد المختلق؛ مثال: نسبة الشّريك، أو الولد، أو البنت إلى الله سبحانه.

{أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ} : بآياته القرآنية، أو الكونية، أو المعجزات؛ أيْ: جحد بها، وأنكرها.

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} : تفيد التّوكيد.

{لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} : لا: النّافية. يفلح المجرمون؛ أيْ: لن ينجوا، ولن يفوزوا بالآخرة.

{الْمُجْرِمُونَ} : المشركون، والكافرون كفار مكة، أو كفار قريش، وهم لم يحرفوا القرآن كما فعل أهل الكتاب حرفوا التوراة والإنجيل، وإنما مجرمون بسبب إشراكهم وتكذيبهم القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والمفترون على الله كذباً، أو المكذبون بآياته. ارجع إلى سورة هود، آية (116)، والجاثية، آية (31)؛ لمعنى: المجرمين.

ص: 60

سورة يونس [10: 18]

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تشير إلى المشركين، وتدل على التّجدد، والتّكرار. من دون الله: من غير الله.

{مَا لَا يَضُرُّهُمْ} : ما: اسم موصول؛ تدل على ذوات ما لا يعقل؛ كالأصنام، والأوثان، والنّجوم، والكواكب، وتدل على صفات العقلاء: الأولياء عيسى، وعزير، والملائكة؛ أيْ: لا يضرهم إن لم يعبدوهم.

{وَلَا يَنفَعُهُمْ} : أيْ: لا (النّافية): ينفعهم إن عبدوهم، وتكرار لا: يفيد التّوكيد، ولفصل الضّر عن النّفع، أو كلاهما معاً.

{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة؛ يشير إلى الآلهة، والأولياء.

{شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} : جمع شفيع، وشفيع: صيغة مبالغة من شافع، والشّافع: هو الّذي يطلب العفو لشخص آخر، ولكي يشفع لا بُدَّ له من إذن من الله سبحانه أوّلاً، ورضا من الله، وأن يكون أهلاً للشفاعة، وبعض المفسرين قالوا: لا تكون الشّفاعة في حد من حدود الله؛ فهم يبررون عبادتهم للأصنام وغيرها بكونها تشفع لهم عند الله، أو تقربهم إلى الله زلفى. ارجع إلى الآية (3) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.

{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: أتنبئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض: الهمزة: همزة استفهام إنكاري.

{أَتُنَبِّئُونَ} : من النّبأ: وهو الخبر العظيم؛ أتخبرون الله سبحانه بأنّ له شركاء، أو شفعاء في السّموات، أو في الأرض؛ وهو لا يعلم ذلك، أو على غير علم بذلك، وهذا يدل على جهلكم؛ سبحانه وتعالى أن يكون له شريك، أو ولي؛ فهو منزَّه تنزيهاً كاملاً من كلّ هذه الافتراءات، والأكاذيب.

ص: 61

سورة يونس [10: 19]

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} : وما: الواو: عاطفة، أو استئنافية؛ ما: نافية للتوكيد؛ إلا: أداة حصر، وما كان النّاس إلا أمة واحدة.

{أُمَّةً وَاحِدَةً} : أيْ: على دين واحد: وهو دين الإسلام، على فطرة التّوحيد من لدن آدم إلى نوح، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما عشرة قرون.

{فَاخْتَلَفُوا} : الفاء: للتأكيد؛ اختلفوا: فمنهم بقي على إيمانه، وتوحيده، ومنهم من كفر، وأشرك بالله؛ فحين اختلفوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} :

{لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : اللام: لام التَّعليل. قضي بينهم؛ أيْ: بين النّاس عاجلاً في الحياة الدّنيا، ومن دون انتظار؛ إما بإقامة السّاعة، أو بإنزال العذاب على المكذبين، والمشركين.

{فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : ولم يقل: فيما كانوا فيه يختلفون؛ فيما فيه يختلفون؛ تعني: لقضي بينهم حالاً في الدّنيا من دون التّأخير، والانتظار ليوم القيامة، ولو قال: فيما كانوا فيه يختلفون؛ تعني: يوم القيامة؛ أيْ: يؤخر القضاء لهم حتّى يوم القيامة، وعندها يقضي بينهم فيما كانوا يختلفون فيه في الدّنيا؛ فالله سبحانه قادر على أن يفعل القضاء الآن حالاً، أو يؤخِّره حتّى يوم القيامة.

ص: 62

سورة يونس [10: 20]

{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} :

{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : ويقولون؛ أيْ: كفار مكة، أو المشركون.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ، وطلب.

{أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : الآية هنا؛ تعني: المعجزة؛ مثل: العصا، واليد، وآيات أخرى؛ مثل: النّاقة، وتجاهلوا أنّ القرآن الكريم: هو الآية الكبرى والمعجزة الخالدة على مرِّ الأيام، والدّهور، ومع ذلك: فهو لا يكفيهم، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، وغيرها من الآيات الكثيرة الّتي رآها الصّحابة.

{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} : فقل: الفاء: للتوكيد.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ للتوكيد، والحصر. قل: إنزال الآية، أو عدم إنزالها هذا في علم الغيب أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه، أو لِمَ لم تنزل الآية، أو متى ستنزل؟ غيب لا يعلمه إلا الله؛ يخص الله سبحانه إن شاء أنزل، أو إن شاء لم ينزل.

{فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} : فانتظروا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ فما عليكم إلا الانتظار، وأنا معكم من المنتظرين؛ فانتظروا قضاء الله في الإنزال، أو عدمه، وإظهار من هو على حق، ومن هو على باطل، ويؤكِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاره باستعمال: وإني بدلاً: وأنا معكم من المنتظرين.

ص: 63

سورة يونس [10: 21]

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني؛ تستعمل في الأمور الحتمية الحدوث، أو الكثيرة الحدوث.

{أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} : الرّحمة: هي جلب ما يسر، ودفع ما يضر؛ مثل: المطر، والخصب، وسعة العيش، والرّزق، والصّحة

وغيرها.

{مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى آيَاتِنَا} : الضّراء: مثل: الفقر، والبلاء، والجدب، والمرض، وانقطاع المطر؛ أيْ: إذا أنزلنا على النّاس المطر بعد القحط، والسّعة، والغنى بعد الفقر، والرّخاء بعد الشّدة تراهم ينكرون نعمة الله، وينسبوها إلى غيره، أو يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، أو يكذبون بآيات ربهم، أو يستهزئون بها، وسمِّي ذلك مكراً في آياتنا. ارجع إلى سورة هود، آية (9-10)؛ لمزيد من البيان في: أذقنا الإنسان رحمة، أو نعماء.

{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} : حاشا لله أن يكون ماكراً، وهو سبحانه ليس بحاجة أن يمكر، وإنما قال الله: أسرع مكراً؛ فقط للمشاكلة في اللفظ في المصطلح البلاغي، والله أسرع مكراً؛ أيْ: أسرع جزاء على المكر؛ قادر على أن يجازيهم على مكرهم قبل أن يقوموا به، ويبطله، ويدحضه؛ لأنّه سبحانه يعلم بمكرهم، ويعلم ما توسوس به نفوسهم، وأقرب إليهم من حبل الوريد، والمكر: هو التّدبير الخفي. ارجع إلى سورة الرعد، آية (33)؛ لمزيد من البيان.

{إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} : رسلنا؛ أي: الملائكة الحفظة الموكلون بالعبد.

انتبه، لم يقل: ما يمكرون، وإنما قال: ما تمكرون؛ الانتقال من الغيبة إلى الخطاب؛ للتنبيه، وإيقاظ السّامع، والتحذير القوي.

{يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} : يحفظون ذلك، ويكتبونه؛ لمجازاتكم عليه.

ص: 64

سورة يونس [10: 22]

{هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

المناسبة: هو الّذي يكشف الضرَّ، والسوء، والقادر على أن يبتليكم مرة ثانية.

{هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : هو الّذي: هو وحده سبحانه.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد الحصر، والتّوكيد.

{الَّذِى} : اسم إشارة؛ يفيد التّعظيم.

{يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ} : أي: الله سبحانه هو المسير الحقيقي، وإن كانت وسائل النّقل هي المستخدمة؛ مثل: السّيارات، أو الدّواب

وغيرها في البر.

{وَالْبَحْرِ} : أيْ: بالسّفن (الفلك).

{حَتَّى إِذَا} : حرف غاية يشير إلى منتهى الغاية؛ إذا: ظرفية زمانية للمستقبل، وتدل على حتمية الحدوث؛ إذا: ظرف زماني.

{كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ} : الفلك: تطلق على المفرد، والجمع؛ أي: السفن، والفلك: قد تعني الفلك الفضائية أيضاً.

{وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} : ولم يقلْ: وجرين بكم؛ فالانتقال من الخطاب إلى الغيبة سببه أنّهم عندما ركبوا في الفلك، وجرين بهم أصبحوا غائبين لا مخاطبين، فالكلام يوافقه الحال الّذي هم عليه، وقد يكون سببه عدم شكرهم المنعم، والمسير الحقيقي، وهو الله سبحانه؛ فهم لا يستحقون المخاطبة؛ فاستعمل صيغة الغيبة.

وصف الرّيح في هذه الآية: بأنّها طيبة لينة، والقرآن عادة يأتي بكلمة ريح في سياق الدّمار، والشّر، وكلمة رياح في سياق الرّحمة، والخير، فكيف نفسر ذلك؟

الجواب: هو أن ننظر إلى ساعة إبحار الفلك، هل كانت الرّيح فعلاً عاصفة، أو هادئة طيبة؟ فلو كانت عاصفة لما أبحروا، وتركوا الشّاطئ؛ أي: فرحوا بالرّيح الطّيبة اللينة عند بدء رحلتهم في البحر؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان نوع الفرح. ولما ابتعدوا عن السّاحل سرعان ما تحولت الرّيح الطّيبة اللينة إلى ريح عاصف؛ سريعة الهبوب، والجريان.

{جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} : جاءتها؛ أي: الفلك؛ ريح عاصف: لا تحمل في طياتها إلا الدّمار، والهلاك، والغرق، واستعمل كلمة جاءتها بدلاً من أتاها؛ لأنّ المجيء هذا فيه صعوبة، ومشقة، ودمار؛ فالريح الطيبة لم تدم طويلاً.

{وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} : والموج يبدأ من الأسفل، وهنا جاءهم من الأسفل، ومن كلّ جانب: الأمام، والخلف، واليمين، والشّمال.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} : وظنوا؛ أيْ: أيقنوا، والظّن هنا وصل إلى درجة اليقين، وأدركوا أنّهم أحيط بهم؛ وأحيط به تحمل معنيين:

ـ أحيط بهم مشتقة من إحاطة العدو بالبلد المُهاجم، وحين يحدث ذلك يعني: الهلاك، والدّمار للبلدة.

ـ وأحيط بهم: مشتقة من الإحاطة، وهي عدم وجود منفذ، أو ملجأ، أو منقذ، أو مخرج للنجاة، وهم في وسط البحر الهائج.

{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} : لم يجدوا أحداً يدعونه؛ لينقذهم إلا إياه سبحانه، وعندها دعوا الله مخلصين له الدِّين: أقروا بوحدانية الله، وربوبيته، وأخلصوا بدعائهم، وتضرعهم، وتوسلهم.

{لَئِنْ} : اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.

{أَنجَيْتَنَا} : من هذه الريح، والغرق، والهلاك، وقالوا: أنجيتنا، ولم يقولوا لئن نجانا؛ أنجيتنا: تدل على السرعة؛ فهم يريدون النجاة بسرعة، وبقوة، ونجانا: تدل على البطء في النجاة، وأقل شدة.

{لَنَكُونَنَّ} : اللام: لام التّوكيد، والنون: نون النّسوة؛ لزيادة التّوكيد.

{مِنَ الشَّاكِرِينَ} : من: ابتدائية بعضية؛ على نعمك، أو الموحِّدين الشاكرين على إنقاذنا من الموت، والغرق.

ص: 65

سورة يونس [10: 23]

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة؛ لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.

{أَنجَاهُمْ} : من الغرق، والرّيح العاصفة بسرعة، وبقوة.

{إِذَا هُمْ} : إذا: الفجائية. هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{يَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : يبغون من البغي: وهو الظّلم، والفساد، والشّرك، وفعل المعاصي؛ أيْ: سارعوا إلى ما كانوا عليه من قبل.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : نداء بياء النّداء؛ الّتي تدل على البعد، والهاء: للتّنبيه.

{النَّاسُ} : من الإنس، والجن، والنّاس: مشتقة من النّوس؛ كثرة الحركة. ارجع إلى الآية (21) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} : سوء العاقبة، أو وبال ظلمكم للناس، وشرككم، وفسادكم مردُّه على أنفسكم يوم القيامة، وفي الدّنيا.

{مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : التّمتع بهذا الظّلم، والشّرك، والفساد، والمعاصي زائل، أو مقتصر على هذه الحياة الدّنيا؛ فلن يدوم طويلاً.

{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} : ثمّ: تفيد التّرتيب، والتّراخي في الزّمن بعد البعث، والبرزخ.

{إِلَيْنَا} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر؛ أيْ: إلينا وحدنا عودتكم حتماً.

{فَنُنَبِّئُكُمْ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة بعد البعث مباشرة؛ فننبئكم، ونخبركم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّعليل؛ ما: بمعنى الّذي، أو مصدرية.

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : كنتم في الدّنيا تعملون تشمل الأقوال، والأفعال من الشّرك، والبغي، والظلم، والفساد.

ص: 66

سورة يونس [10: 24]

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

المناسبة: بعد قوله تعالى في الآية السّابقة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أيْ: لما كان سبب البغي على النّاس هو حرصكم على التمتع بنعيم الدّنيا الزائل، والفاني، وأكل أموال النّاس، والفساد في الأرض.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} : أيْ: حال هذه الحياة الدّنيا، ونعيمها؛ كماء: الكاف: للتشبيه، يشبه الماء، كماء أنزلناه من السّماء يشبه المطر النّازل من السّماء (أيْ: من السّحاب).

{فَاخْتَلَطَ بِهِ} : (أيْ: بماء المطر): نبات الأرض، والباء: للإلصاق، والاختلاط: هو تداخل الشّيء في الشّيء، مع عدم إمكانية فصلهما بعد الخلط، وبعد اختلاط الماء بالنّبات؛ تصبح الأرض مخضرة، والزّرع يغطي سطح الأرض.

{مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} : مما: من + ما؛ من: البعضية؛ ما: اسم موصول؛ يعني: الّذي يأكلّ النّاس من الحبوب، والقمح، والبقول، والثّمار

وغيرها، والأنعام من الكلأ، والحشيش.

{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية.

{إِذَا} : ظرف زماني للمستقبل، ويدل على حتمية الوقوع.

{أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} : بالورود، والأزهار، والنّباتات المختلفة، وزينت بالألوان المختلفة من ألوان الزّهور، والثّمار، والفواكه، والنّخيل. والزّخرف: هو الشّيء الجميل المنظر تُسر به النفس، وأصل الزّخرف: الذّهب، والفضة.

{وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} : أيقن، وشعر أهلها أنهم قادرون عليها؛ أيْ: متمكِّنون من قطف ثمارها، ومحاصيلها الزّراعية من القمح، والحب.

{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} : أتاها قضاؤنا، وحكمنا بالهلاك، والتدّمير؛ أيْ: عذابنا.

{لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} : أيْ: حين ينزل عذابنا على الكرة الأرضية قسم منها يكون في ليل ظلام، وقسم منها يكون في نهار؛ أي: حين يحل العذاب بأهل الأرض أو يأتيهم يأتي في وقت قسم من أهل الأرض نائم، وقسم غير نائم في حالة يقظة، وهذا يثبت كروية الأرض.

{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} : فجعلناها: الفاء: للترتيب، والتّعقيب. حصيداً: كالزّرع المحصود المقتلع، أو المستأصل.

{كَأَنْ لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} : أيْ: كأن لم تنعم بالأمس، أو تكون عامرة بالخيرات والحرث وبالمنازل وأهلها.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : كذلك؛ أيْ: كهذا المثل الّذي يوضح حال الدّنيا، وغرورها، وسرعة زوالها، وتغيرها من الاخضرار إلى الاصفرار، ثمّ الحطام.

{نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} : ارجع إلى سورة الأنعام، آية (55)؛ للبيان.

{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص. يتفكرون: ينظرون في الآيات، أو المعطيات؛ لكي يصلوا إلى الغاية، وهي التقوى، والنجاة من النّار.

ص: 67

سورة يونس [10: 25]

{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

بعد أن ذكر أنّ الدّنيا متاع زائل وفانية، ها هو سبحانه يدعونا إلى ما هو أفضل من ذلك:

{دَارِ السَّلَامِ} : وهي الجنة ذات النّعيم الدّائم، ويرشدنا إلى كيفية الوصول إليها: بالإيمان الخالص، والعمل الصّالح.

وسمَّاها دار السّلام، والسّلام: هو اسم من أسماء الله الحسنى. ارجع إلى سورة الحشر، آية (23)؛ للبيان.

وهي دار السّلامة من كلّ سوء، ودار الأمان، والاطمئنان.

{وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : فالله سبحانه يهدي الهداية الخاصَّة لهؤلاء الّذين استجابوا لربهم.

وأرادوا لأنفسهم الهداية؛ فهداهم الله إلى الجنة، وإلى الصّراط المستقيم: دين الإسلام؛ صراط الّذين أنعمت عليهم من الأنبياء، والصالحين.

ص: 68

سورة يونس [10: 26]

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} : اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد. الّذين أحسنوا: إيمانهم: إحسان الكم، وإحسان الكيف؛ إحسان الكم: الزيادة في العدد؛ إحسان الكيف: يعبدوا الله سبحانه كأنهم يرونه، وإن لم يكن يرونه؛ فهو يراهم. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ولهم ميزات تتجلَّى بقيام الليل، والعفو، والصّبر، والصّدق، والإنابة، والخوف، والخشية. والإحسان يشمل: العبادات، والمعاملات، والأخلاق، والإخبات، والإخلاص، والتّوكل، والرّضا، والحياء، والتّواضع.

{الْحُسْنَى} : على وزن فُعلَى، ومثلها: أفضل فُضلى، وأكبر: كبرى، ويسمَّى أفعل التفضيل، ويدل غالباً على شيئين اشتركا في المعنى، وزاد أحدهما على الآخر. والحسنى: قيل: هي الجنة، أو الجزاء في الآخرة، وقيل: هي الحسنة بعشر أمثالها.

{وَزِيَادَةٌ} : قيل: الزّيادة هي المغفرة والرّضوان، ورضوان من الله أكبر.

وقيل: الزّيادة لذة النّظر إلى وجه الله الكريم؛ كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].

{وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} : لا: النّافية، وجاءت لتأكيد النّفي؛ لأنّ لهم الحسنى؛ فكيف يرهق وجوههم قتر، ولا ذلة؟ جاءت للتأكيد؛ تأكيد ابتعادهم، ونجاتهم من النّار، وتذكير لهم بتلك الحسنى.

{وَلَا يَرْهَقُ} : لا يغشي، ولا يغطي وجوهَهَم قتر ولا ذلة. القتر: أصله من الدّخان الأسود الخارج من الشّواء، أو الفحم، والحطب

ونحوهما، وهو كذلك الهواء الّذي يمتلئ بدخان الدّهن المحترق من اللحم يصيب الوجه، فيؤدِّي إلى طبقة سوداء تسمَّى قترة، أو غبرة، وكلمة يرهق من رهقه يَرْهَقه؛ إذا غشيه بقهر؛ أيْ: لا خيار لهم بتجنُّب ذلك.

{وَلَا ذِلَّةٌ} : وتكرار لا: لتأكيد النفي، وفصل كلّاً من القتر عن الذّلة؛ أيْ: لا هذه، ولا تلك، ولا كلاهما، والذّلة: المذلة، والهوان، والصّغار؛ الّتي تبدو على وجوههم بمظهر الكآبة واليأس.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : أولئك: اسم إشارة، واللام: للبعد؛ ليدل على بعد منزلتهم العظيمة.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} : أي: الملازمون للجنة؛ المقيمون فيها ملازمة الصّاحب لصاحبه، أو الإنسان لمنزله، والمالكون لجناتهم؛ فلا أحد يخرجهم منها.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{خَالِدُونَ} : الخلود: هو استمرار البقاء، وعدم الفناء، والزّوال، ويبدأ من وقت دخولهم الجنة.

ص: 69

سورة يونس [10: 27]

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

للذين أحسنوا الحسنى، وماذا للذين كسبوا السّيئات، أو مقابل الّذين أحسنوا هناك الّذين كسبوا السّيئات؛ ماذا عن حالهم؟

{وَالَّذِينَ} : الواو: عاطفة؛ الّذين: اسم موصول.

{كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} : ولم يقل: اكتسبوا السّيئات: الكسب تستعمل في الحلال، واكتسب على وزن افتعل؛ تستعمل في الحرام.

استعمل كسبوا بدلاً من اكتسبوا؛ لأنّهم استمروا، وألِفوا القيام بالسّيئات، واعتادوا عليها؛ فأصبح ارتكابها سهل، وأمر هيِّن عندهم، كما هو الحال في كسب الحلال عند غيرهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (286)؛ لمزيد من البيان.

والسّيئات: جمع سيئة، وهنا تعني: الكفر، والشّرك، والظّلم، وقد تعني: الصّغائر.

{جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} : أيْ: من يكسب سيئة تكتب له سيئة واحدة، ويعاقب عليها بمثلها، ولا تضاعف له، الباء: للإلصاق.

{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} : ما: النّافية؛ لهم: اللام: لام الاختصاص؛ من الله: من: ابتدائية استغراقية.

{مِنْ عَاصِمٍ} : من: للتوكيد؛ عاصم: مانع، أو مُجير، أو منقذ من العذاب، أو سخط الله.

{كَأَنَّمَا} : الكاف: للتشبيه؛ أنما: تفيد التّوكيد.

{أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا} : أغشيت: غُطيت، وألبست؛ قِطْعاً: بكسر القاف، وتسكين الطّاء: هو اسم ما قُطع، أو قِطَعاً: بكسر القاف، وفتح الطّاء؛ وتعني: جمع قطعة، قِطعاً: نكرة تدل على التّهويل، والتّعظيم، من الليل مظلماً: قِطعاً من الليل الحالك السّواد، ولم يقل مظلمة؛ لأنّ في لفظ الذّكورة الشّدة، والقوة في السّواد.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب.

{أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : ارجع إلى الآية (39) من سورة البقرة.

ص: 70

سورة يونس [10: 28]

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} :

{نَحْشُرُهُمْ} : الحشر: هو السّوق إلى أرض المحشر للحساب، والجزاء، والجمع (جمع الخلائق في أرض المحشر)، ويتم بعد النّشر: وهو إحياء الموتى، ثمّ البعث من القبور: الإيقاظ، والتّهيج، والتّحريض على الخروج من الأجداث، إذن يحدث النّشر، ثمّ البعث، ثمّ الحشر.

{جَمِيعًا} : جمع الخلائق: العابد، والمعبود؛ الّذين أشركوا ورؤساؤهم وسادتهم، والذّين اتَّبَعوا، والّذين اتُّبِعوا، وأولاهم، وأخراهم، وجميعاً: تفيد التّوكيد؛ توكيد الحشر جميعاً، فكلّ معبود سيواجه، أو يحشر مع الّذي عبده؛ فالأصنام مثل: اللات، والعزى، ومناة الثّالثة: تحشر مع عبدتها المشركين، والملائكة مع الّذين عبدوهم (عبدة الملائكة)، الكواكب (الشّمس والقمر) مع الّذين عبدوها مثل الصابئة؛ عيسى عليه السلام مع الّذين عبدوه، أو أشركوه كإله، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، والأولياء، والزّعماء، والرّؤساء مع الّذين اتَّبعهم من الضعفاء.

{ثُمَّ} : للتوكيد، والتّرتيب الذّكري، أو ترتيب الحوادث.

{نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} : أي: الزموا مكانكم، ولا تتحركوا منه أنتم وشركاؤكم الّذين اتخذتموهم آلهة مع الله.

{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} : الفاء: تدل على التّعقيب، والمباشرة. زيلنا بينهم: فرقنا بينهم بين التّابعين، والمتبوعين، وبين العابدين، والمعبودين، وبذلك نقطع الصّلات بينهم.

{وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} : شركاؤهم: جمع شريك، والشّركاء: هم من الملائكة، وعيسى، وعزير الأنبياء؛ فكلّ هؤلاء يتبرَّؤون ممن عبدوهم؛ لأنّهم لم يأمروهم، ولا علم لهم بهذا الشّرك، ولم يدعوهم إليه.

فالأصنام، والكواكب أصلاً لا تتكلم، ولا تأمر، ولا تنهى، والّذي وسوس وزين لعبادتها هم الشّياطين، وتقول الملائكة، وعيسى، وعزير: ما كنتم تعبدوننا بعلمنا، فالملائكة، والأنبياء، والكواكب، والأوثان، والأصنام الّتي عُبدت من دون الله تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها، ويبقى إبليس وذريته شياطين الجن وأولياؤهم من الإنس والسّادة والكبراء، والضّعفاء؛ فهؤلاء سنرى كيف يتحاجُّون في النّار في آيات أخرى.

ص: 71

سورة يونس [10: 29]

{فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} :

{فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} : الفاء: للتوكيد، كفى بالله: الباء: للتوكيد أيضاً. شهيداً: وحكماً بيننا وبينكم؛ أيْ: إنّا لم نأمركم بعبادتنا، هذا هو قول الشركاء، أو ندعوكم إلى ذلك، والشّهيد: صيغة مبالغة من شاهد. ارجع إلى الآية (133) من سورة البقرة؛ لبيان معنى الشّهيد. وتقديم شهيداً على بيننا وبينكم جاء على الأصل، ولكن أحياناً قد يؤخر شهيداً على بيني وبينكم كما جاء في سورة العنكبوت آية (52) ارجع إلى سورة العنكبوت للبيان.

{إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} : إن: تفيد التّوكيد؛ عن عبادتكم لغافلين؛ أيْ: ما كنَّا نعلم بعبادتكم لنا، واللام في لغافلين: لام الاختصاص؛ للتوكيد. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمعرفة معنى: غافلين.

ص: 72

سورة يونس [10: 30]

{هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{هُنَالِكَ} : ظرف زمان، أو ظرف مكان، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب، في ذلك الوقت، أو ذلك المكان؛ موقف الحشر، أو زمن الحشر.

{تَبْلُوا} : تُخبر، أو تُعْلَمُ كلُّ نفس، أو ترى كلُّ نفس جزاء أعمالها.

{مَا أَسْلَفَتْ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي. أسلفت: ما قدَّمت من عمل صالح، أو سيِّئ، أو عمل قبيح، أو حسن مقبول، أو مردود.

والبَلْو: هو الاختبار؛ بَلْوته؛ أي: اختبرته، وأصله من بَلِيَ الثّوب بلاءً؛ إذا خَلَق من كثرة اختباره؛ أيْ: لبسه وغسله، وهناك قراءة أخرى تستبدل الباء بالتاء؛ فبدلاً من قراءة تبلوا تقرأ تتلوا؛ فيكون المعنى: هنالك تتلوا كلُّ نفس ما أسلفت؛ أيْ: تقرأ كلُّ نفس كتاب أعمالها.

{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ} : الرّد: العودة إلى مكان، وأنت مجبر على ذلك، وذلك في الآخرة؛ أي: أُرجعوا إلى الله مولاهم الحقّ من دون خيار للحكم، والقصاص.

{مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} : المولى ربهم المتولي أمورهم حقاً، والحق الثّابت الدّائم الّذي لا يتغيَّر.

{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} : وهذا يعني: أنّه كان لهم مولى في الدّنيا (غير الحقّ)؛ مولى باطل.

المولى الباطل، أو غيرّ الحقّ في الدّنيا: هم الشّركاء الّذين اتخذوهم أولياء، وعبدوهم، واتخذوهم آلهة، وهذا يؤيِّده قوله: وأنّ الكافرين لا مولى لهم؛ (في الدّنيا)، ولا مولى لهم (لا معين ولا نصير في الآخرة)، ويوم القيامة يردُّون إلى المولى الحقّ.

{وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : ضل: تاه وغاب، ولم يعودوا يجدون هؤلاء الشّركاء، والشّفعاء، والأولياء الّذين سيقرِّبوهم إلى الله زلفى، أو يشفعوا لهم.

{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي.

{كَانُوا يَفْتَرُونَ} : الافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق من شفاعة هذه الآلهة لهم، أو يمنعوهم من العذاب، أو يقربوهم من الله زلفى؛ فكلّ ذلك كان كذباً مفترى.

ص: 73

سورة يونس [10: 31]

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} :

المناسبة: بعد ذكر الشّركاء والرّد إلى مولاهم الحقّ في الآخرة؛ يأتي بعدد كبير من الأدلة، والبراهين؛ الدالة على أن الله هو الإله الحقّ، واجب الوجود؛ الّذي يستحق أن يُعبد، وأنه لا شريك له.

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم، أو اسألهم: من يرزقكم من السّماء والأرض؟

{مَنْ} : ابتدائية.

{السَّمَاءِ} : تضم السّموات، وكلّ ما علاك، والرزق من السّماء؛ يعني: الغيث، أو الماء الّذي ينبت به الزّرع، والزّيتون، والنّخيل، والأعناب، ومن كلّ الثمرات، ومنه الشّراب، ومنه الشّجر، والرزق من السماء؛ يعني: الحديد

وغيرها من المعادن الّتي تنزل على الأرض من تفجر النيازك، والأجرام.

ومن الأرض: من حبوب، وثمار، وفاكهة، وخضروات، ومعادن، وبترول، وذهب، وفضة

وغيرها.

{أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} : أم + من. أم: للإضراب الانتقالي، والاستفهام. من: اسم موصول.

{يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} : أيْ: يملكها حقاً؛ لأنّه قادر على تعطيلها بمرض، أو غير مرض بحيث لا تعد تسمع، ولا تبصر؛ كالعمى، والصّمم، وهو قادر على تشغيلها، وهدايتها، والقيام بما سخِّرت له؛ فالسّمع، والبصر

وغيرها هي كلّها ودائع عند الإنسان؛ حتّى يموت، ويبعث، وهو ليس بمالكها الحقيقي، وإنّما سخِّرت له.

{وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} : ارجع إلى الآية (27) من سورة آل عمران، والآية (95) من سورة الأنعام؛ للبيان.

فاللهُ سبحانه قادر على أن يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والحي من الحي؛ لا يعجزه شيء، والحقيقة ليس هناك شيء ميت؛ أيْ: لا حياة فيه؛ لأنّ النّبات، والجماد، وكلّ ما خلق الله له حياة، وإنّما يقصد بالميت الّذي لا يتحرَّك بالعين المجرَّدة، وهذا تقريب لما تعارف عليه النّاس.

{وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} : ومن يدبِّر: كلّ شيء، وكلّ أمر بالخلق، والجعل، والملك للتسخير، والعمل، والتّحريك، والتّعطيل، أو التّصريف، والتّحويل

وغيرها.

وقدَّم السّمع على البصر، وأفرد السّمع وجمع البصر (الأبصار): ارجع إلى سورة البقرة، آية (7)، وسورة الملك، آية (23)؛ للبيان.

وخصّ هاتين الحاستين بالذِّكر؛ لأنّهما أهم حواس الإدراك، والعلم المؤدِّية إلى الإيمان، أو الكفر، والهداية، أو الضّلال.

{فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} : فسيقولون الله: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والتّوكيد؛ سيقولون: السّين: للاستقبال، والتّرتيب؛ أي: الإجابة مباشرة.

{فَقُلْ} : الفاء: للتوكيد.

{أَفَلَا تَتَّقُونَ} : الهمزة استفهامية، ألا: أداة حضٍّ، وتحريض، وتنبيه، أفلا تتقون: تطيعون أوامره، وتتجنَّبوا نواهيه، وتكفوا، وتتجنَّبوا الشّرك بالله، أو أفلا تحذرون عقابه، وتتقون سخطه، وغضبه.

ص: 74

سورة يونس [10: 32]

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} :

{فَذَلِكُمُ} : الفاء: للتوكيد، ذلكم: اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف للخطاب؛ ذلكم: اسم إشارة يشير إلى القائم بالأفعال الكثيرة؛ كالرّزق، وملكية السّمع، والأبصار، والقدرة على إخراج الحي من الميت، والميت من الحي، وتدبير الأمر هو الله ربكم الحقّ: جمع الألوهية والرّبوبية معاً؛ إشارة إلى أنّ من يفعل كلّ ذلك هو إله واحد، ورب واحد هو الحقّ، وما سواه هو الضّلال، أو الباطل.

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} : فماذا: الفاء: للتوكيد، ماذا: اسم استفهام فيه معنى النّفي، وأقوى في النّفي من ما، أو ماذا= ما+ ذا. ما: اسم استفهام، وذا اسم موصول.

{بَعْدَ} : ظرف زمان ومكان.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{الضَّلَالُ} : أي: الباطل، أو الهلاك.

{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} : فأنى: الفاء: عاطفة؛ أنى: كيف، أو من أين، وفيها معنى التّعجب، والاستفهام.

{تُصْرَفُونَ} : أيْ: كيف انصرفتم عن الحقّ إلى الضّلال؟ كيف تركتم الحق واتبعتم الباطل، وعن التّوحيد إلى الشّرك؟

ص: 75

سورة يونس [10: 33]

{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{كَذَلِكَ} : أيْ: كما حقت الألوهية، والرّبوبية لله وحده؛ حقت كلمته (وعده) للذين فسقوا أنّهم لا يؤمنون، وكما انصرفوا عن الحقّ إلى الضّلال، وعن التّوحيد إلى الشّرك حقت كلمة ربك (أيْ: وجبت وسبقت).

{كَلِمَتُ رَبِّكَ} : وعده، وقضائه، وعذابه؛ حق على الّذين فسقوا؛ خرجوا عن طاعة الله والإيمان.

{أَنَّهُمْ} : أنَّ: للتوكيد، هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{لَا} : النّافية.

{يُؤْمِنُونَ} : أيْ: يموتون، وهم كافرون، وهذا ما اختاروه لأنفسهم، واستمرُّوا عليه، ولم يتوبوا.

ص: 76

سورة يونس [10: 34]

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :

{قُلْ} : أي: اسألهم، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل المشركين.

{هَلْ} : استفهام يحمل معنى التّقرير، والتّوبيخ.

{مِنْ شُرَكَائِكُمْ} : من: استغراقية تشمل كلَّ الشّركاء: الآلهة، والأصنام، والأوثان، والملائكة، والكواكب أيِّ شريك.

{مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} : من: ابتدائية.

{يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} : يخلق، والخلق: هو التّقدير، والإيجاد، خلق ابتداء من العدم، أو من شيء. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (1)؛ لبيان معنى الخلق.

{ثُمَّ يُعِيدُهُ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي في الزّمن.

{ثُمَّ يُعِيدُهُ} : بالبعث من جديد.

{قُلِ اللَّهُ} : هذا هو الجواب؛ أيْ: قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله الّذي يبدأ الخلق، ثمّ يعيده؛ إذا كانوا لا يعرفون الإجابة على هذا السّؤال؛ عندها قل لهم: إنّه الله وحده، أمّا إذا عرفوا الإجابة، وهذا هو المفروض، وقالوا لك: الله، فلماذا إذن لا يؤمنون بالله وحده، وأمّا إذا أرادوا أن يكذبوا على أنفسهم، ويفتروا على الله الكذب، ويقولون: غير الله؛ فقل لهم: أنّى تؤفكون.

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : أنّى: تحمل معنى الاستفهام، وتحمل معنى كيف، ومن أين، وتحمل التّعجب.

{تُؤْفَكُونَ} : تصرفون عن الحقّ إلى الباطل، أو الكذب؛ تقلبون الحقيقة باطلاً، أو تكذبون كذباً عمداً، ومختلقاً، أو كيف تصرفون عن التّوحيد إلى الكذب، والباطل (وهو الشّرك)، وفيه معنى التّعجب؛ يقال: أفكه عن الشّيء: صرفه عنه وقلبه.

ص: 77

سورة يونس [10: 35]

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّى إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} :

{قُلْ} : اسألهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: هل: استفهام إنكاري.

{مِنْ شُرَكَائِكُمْ} : من هنا: استغراقية؛ تشمل كلّ الشّركاء: الملائكة، والإنس أمثال: عيسى، وعزير، والأصنام، والكواكب.

{مِنْ} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} : الحقّ: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر (ضد الباطل)، والحقّ هنا يعني: الصّراط المستقيم، وهو دين الله (الإسلام)، يهدي إلى الحقّ: التّعدِّي هنا بإلى؛ أيْ: من يستطيع أن يهدي إنساناً سائراً في طريق الضّلال، والباطل، يهديه للعودة والسّير على طريق الحقّ، أو هو خارج عن الصّراط المستقيم يستطيع أن يعيده للسير عليه.

{قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ} : إذا أجابوك، وقالوا: الله؛ فذلك المطلوب، إذا لم يجيبوك على سؤالك عندها قل لهم: الله سبحانه يهدي إلى الحق؛ أيْ: قادر على أن يهدي الضّال الخارج عن الحقّ، وعن الصّراط المستقيم إلى الحقّ، وإلى الصّراط المستقيم، وليس فقط ذلك، بل هو قادر على أن يهدي للحقّ؛ أيْ: يهدي الإنسان، ويوصله إلى غايته، ونهاية الغاية (خاتمة الهداية)، وقيل: هي الجنّة؛ فالهداية إلى الصّراط المستقيم تكون على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: الهداية إلى الصّراط المستقيم: اهدنا إلى الصّراط المستقيم؛ أي: الإنسان خارج عن الحقّ، والصّراط المستقيم، وسائر في طريق الضّلال، والغي، ويدعو الله أن يهديه إلى الصّراط المستقيم.

المرحلة الثّانية: أي: اهدنا الصّراط المستقيم؛ أي: الإنسان سائر على الصّراط المستقيم الآن، ويطلب من الله أن يثبته على الصّراط المستقيم حتّى يصل إلى النّهاية والغاية.

المرحلة الثّالثة: الهداية للصّراط المستقيم: اهدنا للصراط المستقيم؛ أيْ: وصلوا إلى النهاية؛ نهاية الصّراط؛ أي: الغاية.

فالله يهدي إلى الحقّ، وكذلك يهدي للحقّ للوصول للغاية القصوى.

{أَفَمَنْ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّى إِلَّا أَنْ يُهْدَى} : أفمن: الهمزة: للاستفهام التّقريري، والإلزام، والتّوبيخ.

{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} : سبق تفسيره.

{أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} : فيما يأمر به، وينهى عنه، أو يُتبع منهجه، وما يدعو إليه.

{أَمَّنْ لَا يَهِدِّى} : كالأصنام، والأوثان، والآلهة.

{إِلَّا أَنْ يُهْدَى} : كلمة {لَا يَهِدِّى} : فيها تضعيف؛ يفيد المبالغة، والتّكثير؛ أصلها: لا تهتدي؛ فالأصنام، أو الأوثان الّتي هي حجارة لا تستطيع أن تهدي نفسها؛ لأنّها لا تفهم، ولا تعقل، فكيف تهدي غيرها ممن يعبدونها، وغيرها لا يستطيع أن يهديها، ولو أراد ذلك.

{فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} : أيْ: ماذا أصاب عقولكم؛ لتحكموا بهذا الحكم الباطل.

{فَمَا} : الفاء: استئنافية. ما: اسم استفهام للتوبيخ، والإنكار.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: أنتم خاصَّة.

{كَيْفَ} : للاستفهام، والتّعجب من هذا الأمر العجيب، العاقل يطلب من غير العاقل أن يهديه، فهذا من منتهى الضلال.

{تَحْكُمُونَ} : فأيُّ حكم هذا، ساء ما تحكمون: وهو اتِّباع من لا يهدي، وترك عبادة من يهدي إلى الحقّ.

ص: 78

سورة يونس [10: 36]

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية. ما: النّافية للحال؛ أيْ: تنفي الحال، ولو استعمل لا؛ أيْ: ولا يتبع أكثرهم إلا ظناً؛ لنفي المستقبل.

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} : أيْ: إنّ الأكثرية تتبع مجرَّد الظّن، والأقلية الباقية لا يفعلون ذلك، والظّن: هو التردد الرّاجح، فهم حين يقولون: إن هذه الآلهة تشفع لهم، أو تقرِّبهم عند الله زلفى، أو تمنعهم من عذاب الله هذا اعتقاد مرجّح عندهم؛ رغم أنه باطل.

{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـئًا} : والشيء: هو أقل القليل. وشيئاً: نكرة تعني: أي شيء مهما كان.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{إِنَّ الظَّنَّ} : لا يُكتفى به في العقائد، والعبادات، فهي تُبنى على اليقين، والعلم، والصّواب.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من عالم؛ أيْ: كثير العلم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد.

{يَفْعَلُونَ} : يقومون به من شرك، وتكذيب.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} : فيها تهديد ووعيد، وأنّه سيجازيهم على ذلك.

ص: 79

سورة يونس [10: 37]

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} : هذا جزء من الرّد على سؤالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} .

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة؛ للقرب.

{هَذَا الْقُرْآنُ} : كلمة القرآن مشتق من القراءة، ولنتمكن من قراءته يجب أن يكون قريباً.

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى} : ما: النافية، ما يصح، وما يحق.

{أَنْ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد.

{يُفْتَرَى} : الافتراء: هو الكذب المتعمَّد المختلق.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك؛ يفيد التّوكيد.

{تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} : أيْ: مصدقاً، ومؤيِّداً لما سبقه من الكتب السّماوية: كالتّوراة، والإنجيل.

{وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} : بيان للأحكام، والشّرائع، والفرائض.

{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا: النّافية للجنس. الرّيب: هو الشّك+ التّهمة؛ فالمشركون مع شكِّهم بالقرآن بأنه منزل من رب العالمين كانوا يتَّهمون النّبي صلى الله عليه وسلم بأنّه هو الّذي افتراه، أو أعانه عليه قوم آخرون.

{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : أيْ: منزل من ربّ العالمين وحدَه سبحانه لا غير.

ص: 80

سورة يونس [10: 38]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} : أم: بمعنى: بل؛ أيْ: يقولون افتراه، وجاء بصيغة المضارع في قوله: يقولون، بدلاً من قالوا؛ لأنّ قولهم لم ينقطع، وهو يتكرَّر ويتجدَّد؛ فجاء الرد والتحدي على الإتيان بسورة مثله في سورة يونس وكان ذلك في مكة؛ أي: سورة واحدة، واشتد التحدي بعد ذلك في المدينة فجاء الرد والتحدي بسورة من مثله كما في سورة البقرة آية (23)؛ أي: الإتيان بأي سورة تشبه سورة القرآن من البقرة إلى سورة الناس. ارجع إلى الآية (23) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : ادعوا من استطعتم من الإنس، أو الجن؛ ليشهد أنّه اختلقه، أو افتراه، وفي آية البقرة (23) قال سبحانه:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، شهداءَكم: خاصَّة بالشّهداء؛ أي: الّذين رأوا بأم أعينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلقه: افتراه.

بينما قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَعْتُم} : عامة تشمل الشّهداء، وغيرهم، والتّحدي أكبر، ومطلق في قوله: من استطعتم.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد النّدرة، أو الاحتمال.

{كُنتُمْ صَادِقِينَ} : أنّه افتراه، واختلقه.

ص: 81

سورة يونس [10: 39]

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} :

{بَلْ} : حرف إضراب انتقالي.

{كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} : بما لم يحيطوا بعلمه: لها تفسيرات عدَّة:

1 -

أي: كذبوا بالقرآن قبل أن يتدبَّروه، أو يفهموا معانيه، أو يدركوا ما جاء فيه من أمر، أو نهي، كذبوا به بمجرد سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بذلك، بل اتَّهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّه افتراه.

2 -

كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه بالجنة، والنّار، والبعث، والجزاء.

{بِمَا لَمْ} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول؛ كذبوا بالّذي لم يحيطوا بعلمه.

{وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} : لما: نافية تنفي الحدث إلى ساعة الكلام، أو الحاضر.

{يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} : كذبوا بالقرآن، ولم يكن عندهم علم تأويله.

{تَأْوِيلُهُ} : قيل: تفسيره؛ أيْ: كذبوا بالقرآن، ولم يأتهم تفسيره بعد (لم ينتظروا تفسيره)، كذبوا به قبل أن يتبيَّن لهم أهو كذب أم صدق، أو كذبوا به قبل أن يخبروا أخباره، والمغيبات الّتي ذكرت لهم في القرآن، ولما يأتهم ما وعدوا به من الوعيد.

{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : كذلك: أيْ: كما كذَّب مشركو مكّة بالرّسول صلى الله عليه وسلم كذَّب الّذين من قبلهم برسلهم، وبما جاؤوا به، والتّكذيب بالرّسل؛ أيْ: بالمعجزات الدّالة على صدق رسالتهم.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} : الفاء: للتّعقيب، والتّرتيب؛ أيْ: لا تتأخر بالتّفكر والنّظر في عاقبة الظّالمين.

{كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} : عذاب الظالمين، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، أو أخذته الرّجفة، أو خسفنا به الأرض، أو أهلكنا بالغرق

وغيره. ارجع إلى سورة الأعراف آية (86) لبيان معنى العاقبة.

{عَاقِبَةُ} : من التّعقب؛ أي: المباشرة، ومن دون تأخر.

{الظَّالِمِينَ} : قمة الظّلم: الشّرك بالله، وإعطاء الألوهية لغير الله، وظلم النّاس، وظلم النّفس: وهي حين تخرج عن منهج الله تعالى، وتصبح ضالة جائرة، وتورد الهلاك.

ص: 82

سورة يونس [10: 40]

{وَمِنْهُم مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} :

{وَمِنْهُم مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} : ومنهم؛ أيْ: من المكذبين الظّالمين المشركين.

{مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} : أيْ: بالقرآن، وقد تعود إلى محمّد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، أو محمّد صلى الله عليه وسلم شيء واحد. السّؤال هنا: كيف يؤمن به، وهو مكذب، أو ظالم، أو مشرك.

{مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} : من: للتوكيد، وتشمل المفرد، والمثنى، والجمع.

{يُؤْمِنُ بِهِ} : أيْ: يكذب بلسانه، ويخفي الإيمان في قلبه (بأن القرآن من عند الله، وأنّه صدق أو أنّ محمّداً رسول الله)، ولكن العناد، والحقد، والحسد والمكابرة تمنعه من إعلان إيمانه، تفسير ثانٍ: أنه سيؤمن به في المستقبل.

{وَمِنْهُم مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} : يستمر في الشّك، والتّكذيب بلسانه وبقلبه.

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} : المفسدين؛ أي: المكذبين المصرون على العناد، والتّكذيب، وعدم الإيمان.

ص: 83

سورة يونس [10: 41]

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِاءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} :

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} : الواو: عاطفة؛ إن: شرطية تفيد الشك أو الاحتمال، ولم يقل: وإذا كذبوك تفيد الحتمية.

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} : كذبوك: بصيغة الماضي؛ لأنّ التّكذيب هنا يدل على حادثة معينة واحدة (وهي قولهم: افتراه)، ولم يقل: وإن يكذبوك بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد، والتّكرار، والاستمرار.

{فَقُلْ} : الفاء: للتوكيد.

{لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} : أيْ: أبلغهم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، ولمقارنة قوله سبحانه:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} بقوله: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} : ارجع إلى الآية (184) من سورة آل عمران، وسورة الأنعام، آية (33)؛ لمزيد من البيان، والمقارنة.

ص: 84

سورة يونس [10: 42]

{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} :

{وَمِنْهُم} : تعود على المكذبين، والّذين قالوا: افتراه، ومن الّذين لا يؤمنون.

{مَنْ} : للتوكيد، وتشمل المفرد، والمثنى، والجمع.

{يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} : يستمعون إليك: إذا قرأت القرآن، ويستمعون، ولم يقل: يسمعون؛ يستمع: هو الّذي يسمع عمداً؛ أيْ: يقصد الاستماع، أو السّمع؛ أما يسمعون: من يسمع: هو الّذي يسمع عرضاً من دون نية، أو قصد.

{يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} : لا لغرض الهداية، وإنما للطعن في القرآن، والاستهزاء به، أو التّكذيب، واللغو فيه.

{يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} : تدل على كثرة المستمعون، ولم يقل: ومنهم من يستمع إليك: تدل على قلة المستمعون كما قال تعالى في الآية (43) القادمة، ومنهم من ينظر إليك التي تدل على الإفراد الذي يدل على القلة مقارنة بالجمع الذي يدل على الكثرة كما في هذه الآية (42)، كما ورد في سورة الأنعام، الآية (25)؛ حيث كان المستمعون (5-7) نفر كما قال ابن عباس.

{أَفَأَنْتَ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري؛ تفيد النّفي، والتّعجب.

{تُسْمِعُ الصُّمَّ} : والأصم هنا يعني: الّذي يصل الكلام إلى أذنيه، ويسمعه، ولكنه لا ينتفع بما يسمع؛ فكأنه مصاب بالصّمم.

{وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} : الواو: العاطفة، لو: شرطية، لا: النّافية.

{يَعْقِلُونَ} : أضاف عدم الفهم، أو العقل إلى مرض الصّمم.

ص: 85

سورة يونس [10: 43]

{وَمِنْهُم مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} :

{وَمِنْهُم مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} : ومنهم: تعود على المشركين.

{يَنْظُرُ إِلَيْكَ} : نظرة تعجب أأنت النّبي المختار، والنّظر هنا يعني: التأمل، والتفكر، ولا يصدقونك.

{أَفَأَنْتَ} : الهمزة: همزة استفهام؛ تفيد النّفي المشوب بالتّعجب.

{تَهْدِى الْعُمْىَ} : أيْ: أأنت يا رسول الله تستطيع أن تهدي من عُمي على بصيرته.

{تَهْدِى الْعُمْىَ} : العُمي: جمع أعمى، والأعمى: هو المصاب بعمى البصيرة (عمى القلب).

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة؛ لو: شرطية.

{كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} : لا: النّافية؛ يبصرون: من البصر: وهو الرؤيا بالعين، ويعني: البصيرة، والبصيرة: منطقة بالدّماغ هي منطقة الإدراك، والوعي؛ فهم رغم كونهم يرون بأعينهم الأشياء الحسية؛ فهم فقدوا بصرهم الحقيقي، والبصيرة حين لم يؤمنوا، واتبعوا الباطل.

وقوله سبحانه: فمنهم من ينظر إليك، ولم يقل: ينظرون إليك؛ ينظر إليك: تدل على قلة الفئة النّاضرة مقارنة بالفئة المستمعة الّتي مرّ ذكرها في الآية (42).

ص: 86

سورة يونس [10: 44]

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْـئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{اللَّهَ} : اسم علم على واجب الوجود المتصف بكلّ صفات الكمال، واسم الجامع لكلّ صفاته، وأسمائه الحسنى.

{لَا} : النّافية للجنس؛ تنفي كلّ الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

{يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْـئًا} : شيئاً: نكرة قد تعني ظلماً؛ أي: أن الله لا يظلم الناس ظلماً مهما كان نوعه، وإن قل، أو تعني شيئاً من الأشياء مادياً أو معنوياً؛ تعني: أيَّ شيء مهما كان نوعه، وحجمه صغيراً، أو كبيراً؛ في الدّنيا، أو الآخرة؛ فكلّ مصيبة، وكلّ بأساء، وضراء تصيبهم: فهي بما قدَّمت أيديهم، أو هي ابتلاء لهم، ولرفع درجاتهم، ولمحو خطاياهم؛ وتعني: أنّ الله لا يظلم الإنسان في الآخرة بزيادة سيئة في ميزانه، أو نقصان حسنة من حسناته والمعنيان واردان.

{وَلَكِنَّ النَّاسَ} : ولكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : بكسب المعاصي، والشّرك، وجحد نعم الله، وفعل ذلك منسوب إليهم.

{يَظْلِمُونَ} : يشركون، ومجيئها كفعل مضارع؛ تدلّ على التّكرار، والتّجدد، أو الاستمرار. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 87

سورة يونس [10: 45]

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} :

{وَيَوْمَ} : القيامة: الواو: استئنافية.

{يَحْشُرُهُمْ} : الحشر: هو السّوق من قبورهم بعد النّشر، والبعث إلى أرض الحشر، والجمع هناك.

{كَأَنْ} : للتشبيه، والتّشبيه بكأن أبلغ من التّشبيه بكاف التّشبيه.

{كَأَنْ} : مؤلفة من كاف التّشبيه، وإن المخففة، وأصلها: كأنّهم، وخففت كأن؛ دلالة على قلّة مكثهم في الدّنيا.

{لَّمْ} : حرف نفي.

{يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} : أيْ: في الدّنيا، أو في قبورهم، أو كلاهما معاً.

والأغلب هو التّفسير الأوّل؛ أي: الدّنيا، والغرض من هذه الآية هو مقارنة زمن الدّنيا بزمن الآخرة؛ أيْ: زمن عمر الإنسان، وبقائه في الدّنيا بزمن الآخرة؛ كأنّه ساعة، أو أقل.

{يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} : يحاول أن يعرف بعضهم بعضاً في أرض المحشر، ولا يدوم ذلك طويلاً، ثمّ تنقطع المعرفة، وقيل: قد يكون الغرض من التّعارف التّوبيخ، ولكي يعلم الضّال من المضل، وتقوم عليهم الحُجَّة، وليس المقام مقام إيناس، ومحبة، واجتماع.

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} : أيْ: لم يؤمنوا بالبعث، والحشر، والحساب.

{خَسِرَ} : ماذا خسر؟ نفسه؛ لأنّه أهلكها بالضّلال في الدّنيا، وقد يخسر أهله، أو خسر؛ تعني: ضلَّ، أو خسر ثواب الجنة.

{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : الواو: عاطفة، ما: حرف نفي، كانوا مهتدين إلى منهج الله تعالى في الدّنيا، وسائرين على الصّراط المستقيم، وجملة: مهتدين: جملة اسمية؛ تدل على ثبوتهم على الضلال.

ص: 88

سورة يونس [10: 46]

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} :

{وَإِمَّا} : الواو: عاطفة. إما: مكونة من إن + ما. إن: شرطية؛ ما: للتوكيد، وإن: تفيد الاحتمال، أو القلة.

{نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : النّون في نرينَّك: للتوكيد، في الدّنيا بعض الّذي نعدهم (أي: الّذين كذبوا بلقاء الله، والمشركين) من الخذلان، والهزيمة، والقتل، والبأساء، والضّراء.

{أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} : أو: للاختيار؛ نتوفينك: قبل أن نعذبهم، والنّون في نتوفينك: للتأكيد.

{فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} : إلينا تقديم الجار، والمجرور، ويدل على الحصر إلينا حصراً مرجعهُم في الآخرة للحساب والجزاء.

{ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} : ثمّ: للترتيب الذّكري.

{شَهِيدٌ} : صيغة مبالغة من شهد، يشهد. ارجع إلى الآية (133) من سورة البقرة؛ لبيان معنى شهيد.

{عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} : ما: بمعنى: الّذي: مصدرية.

{يَفْعَلُونَ} : في الدّنيا من تكذيب، وشرك، وكفر.

ص: 89

سورة يونس [10: 47]

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} : ولكلّ أمة من الأمم رسول، وكلّ رسول هو نبي، وليس كلّ نبي رسولاً، وقيل: الرّسول: من بعثه الله بشريعة جديدة. ارجع إلى سورة النساء، آية (164)؛ لمزيد من البيان.

{فَإِذَا} : الفاء: تدل على التّوكيد، والمباشرة.

{جَاءَ رَسُولُهُمْ} : إلى أرض المحشر؛ كقوله: {وَجِااءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزّمر: 69].

{قُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} : بالعدل بين الرّسول، وقومه، أو أمته، وبين الّذين آمنوا، والذّين كذبوا.

{بِالْقِسْطِ} : الباء: تفيد الإلصاق، والتّوكيد.

{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : وهم: ضمير منفصل؛ تفيد التّوكيد.

{لَا يُظْلَمُونَ} : لا: النّافية؛ يظلمون: شيئاً. ارجع إلى الآية (44) من نفس السّورة.

ص: 90

سورة يونس [10: 48]

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{وَيَقُولُونَ} : أي: المشركون، والمكذبون بالرّسل، والبعث، يقولون: وهم في الدّنيا، ويتكرر قولهم، ويتجدد السّؤال عن متى سيكون هذا الوعد؟

{مَتَى} : اسم استفهام؛ تفيد معنى الاستبطاء، والاستبعاد.

{هَذَا} : اسم إشارة؛ يفيد القرب.

{الْوَعْدُ} : الوعد بالعذاب؛ لقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} ، أو الوعد: متى يوم القيامة، أو يوم الحساب، أو متى هذا الوعد الّذي يعدنا به محمّد صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الرّسل.

{إِنْ} : شرطية؛ فيها معنى الشّك، الشّك في كونكم صادقين.

{كُنتُمْ صَادِقِينَ} : في دعواكم، وإنذاركم، وصادقين فيما جئتمونا به من رسالة.

ص: 91

سورة يونس [10: 49]

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} :

{قُلْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم ردّاً على سؤالهم: متى هذا الوعد؟ (أي: متى العذاب، أو يوم القيامة

) ويعني: الضّر:

{لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} : لا: النّافية للجنس.

{أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا} : اللام: لام الاختصاص، والملكية؛ أيْ: غير قادر على دفع الضّر عن نفسي، أو جلب المنفعة لنفسي. والضّر: مصدر خلاف النفع، أو الشّر، والنّفع: هو مثل الغنى، والصّحة، والخير

وغيرها، ويجب تفريق الضَّر عن الضُّر (بضم الضاد) الذي يحصل في البدن من مرض أو مصيبة.

{وَلَا نَفْعًا} : ولا: لزيادة توكيد النّفي، وتكرار النّفي بلا: يفيد الفصل بين النّفع، والضّر؛ فهو لا يملك أياً منهما على حدة، أو كلاهما معاً، فكيف أملك، أو أقدر على المجيء بيوم القيامة، أو إنزال العذاب بكم، وقدم الضَّر على النفع؛ لأن سياق الآيات في الوعيد والتحذير لهؤلاء الذين كذبوا بلقاء الله تعالى، وكذبوا بالبعث والحساب.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مَا شَاءَ اللَّهُ} : أن أملكه، أو يقدرني عليه من الحول، والقوة، والنفع، والضّر، وقدَّم الضّر على النّفع؛ لأنّ سياق الآيات يدعو إلى تقديم الضّر على النّفع؛ حيث ذكر الله سبحانه:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ} [يونس: 11].

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} [يونس: 12].

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 50].

{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} : هذا قد يكون الرّد الثّاني، أو الجواب الثّاني على سؤالهم متى هذا الوعد (العذاب، أو الضّر

).

{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} : وقت محدد، أو عمر محدد، وحين يشاء الله سبحانه ينزل بالّذين كفروا العذاب، أو قد يؤخِّره إلى أجل مسمَّى هو يوم القيامة، أو حياة البرزخ (عذاب القبر).

{إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} : أيْ: وقت إهلاكهم، أو موتهم، أو عذابهم؛ إذا: ظرف زماني متضمن معنى الشّرط، ويحمل معنى حتمية الوقوع؛ أيْ: هو حتماً قادم لا محالة، ولا شك.

{إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} : انتبه إلى قوله سبحانه: إذا: شرطية؛ جواب الشّرط: هو جاء أجلهم لا يستأخرون، وينتهي الكلام، ولا يستقدمون، ليست تتمة لجواب الشّرط.

أيْ: إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة، ولا دقيقة، ولا ثانية، وإذا لم يجئْ أجلهم لا يستقدمون ساعة، ولا دقيقة، ولا ثانية.

ص: 92

سورة يونس [10: 50]

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} :

هذا هو الجواب، أو الرّد الثّالث على سؤالهم متى هذا الوعد؛ فقد كان الرّد الأوّل:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} ، وكان الرّد الثّاني:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ، والرّد الثّالث:{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} ما ستفعلون عندها.

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: أرأيتم: الهمزة: همزة استفهام، وتقرير، والرّؤية هنا رؤية قلبية، وبصرية، وتعني: أخبروني بشكلّ مؤكد؛ أخبروني إخبار من له علم ودراية بالأمر: عما سيحدث لكم إن أتاكم عذابه.

{إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} : إن: شرطية؛ تدلّ على الاحتمال (احتمال حدوث العذاب).

{أَتَاكُمْ} : استعمل أتاكم؛ لأنّه لم يجئْ بعد، وسيأتي في المستقبل، ولو جاء الآن لقال: لجاءَكم العذاب، ونسب العذاب إليه؛ للتّهديد، والوعيد الشّديد؛ فهو عذاب الله الجبار؛ القهار؛ القوي؛ العزيز، وليس عذاب أحدٍ من النّاس.

{بَيَاتًا} : أيْ: ليلاً، وأنتم نائمون، أو غير نائمين؛ غير مستعدين؛ غير حاذرين، وبات: لا تعني: النّوم؛ فهو سواء نام، أو لم ينم؛ بات: أظله المبيت.

{أَوْ نَهَارًا} : في وضح النّهار، وأنتم في تقلُّبكم وشغلكم، أو على استعداد، أو غير استعداد له.

{مَاذَا} : للاستفهام، وتفيد المبالغة في الاستفهام.

{يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} : منه: تعود على العذاب.

{الْمُجْرِمُونَ} : المشركون الكافرون العاصون المستهزئون. ارجع إلى سورة هود آية (116)، والجاثية آية (31) لبيان معنى مجرمون.

وجواب إن أتاكم: محذوف، وحذفه ليدل على التّفخيم، والتّعظيم، ويذهب الفكر إلى كلّ أنواع العذاب، والتّصورات، والأجوبة؛ فلا يكون محدداً بنوع واحد، وقد لا تطيقونه، وقد يهلككم عن بكرة أبيكم.

ص: 93

سورة يونس [10: 51]

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْـئَانَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} :

{أَثُمَّ} : الهمزة: همزة استفهام، وتوبيخ، وإنكار التّأخير، وقدِّمت الهمزة على حرف العطف، وهو ثمّ؛ تنبيهاً على أصالتها في الصّدارة، والتّقدير.

{إِذَا} : ظرف زماني للمستقبل، وتدل على حتمية الحدوث.

{مَا وَقَعَ} : ما: للتوكيد، وقع: حل ونزل بكم.

{آمَنْتُمْ بِهِ} : صدقتم به، وبه قد تعود إلى العذاب، أو تعود إلى الله، وتعني: آمنتم بالله تعالى.

{آلْـئَانَ} : الهمزة: همزة استفهام، وتعجب، وإنكار، كلمة آلآن: الهمزة همزة الاستفهام فيها أدغمت بهمزة الوصل في أل التّعريف، وأدغمت الألفان، وأصبحتا ألفاً واحدة فوقها علامة المد، وحذفت همزة الوصل، وأبقيت همزة الاستفهام، وكلمة آلآن: ذكرت في ست آيات في القرآن.

{وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{كُنْتُمْ بِهِ} : بالعذاب.

{تَسْتَعْجِلُونَ} : أيْ: قيل لهم بعد أن يحل بهم، أو قبيل وقوعه: آلآن الإيمان لا يفيد، ولا يُجدي.

ص: 94

سورة يونس [10: 52]

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} :

{ثُمَّ} : حرف عطف؛ يفيد التّرتيب، والتّراخي.

{قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} : أي: المشركين المكذبين في الآخرة عند دخولهم النّار، وعند وقوع العذاب:

{ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} : العذاب الدّائم المستمر بلا انقطاع.

{هَلْ تُجْزَوْنَ} : استفهام إنكاري، وتوبيخ.

{تُجْزَوْنَ} : من الجزاء المقابل للعمل.

{إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} : إلا: أداة حصر.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية.

{تَكْسِبُونَ} : من الشّرك، والكفر، والمعاصي؛ تكسبون، ولم يقل: تكتسبون. ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 95

سورة يونس [10: 53]

{وَيَسْتَنبِـئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

{وَيَسْتَنبِـئُونَكَ} : يطلبون أن تخبرهم؛ من استنبأه؛ أيْ: طلب أن ينبئه؛ أيْ: يسألونك، ويبدو أنهم عادوا مرة أخرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه سؤالاً جديداً بدلاً من: متى هذا الوعد، أحق هو.

{أَحَقٌّ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري؛ أيْ: أصحيح هذا العذاب، أو الحساب، أو البعث، وفيه معنى الاستهزاء.

{هُوَ} : قد تعود على البعث، والحساب، أو العذاب، أو القيامة.

قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم:

{إِى} : إي: بالكسر، والسّكون، وإي: حرف جواب بمعنى: نعم؛ تفيد تصديق المخبر، ولإعلام المستخبر، وتقع قبل القسم.

{وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ} : الواو: واو القسم؛ أيْ: نعم، وأقسم بربي إنه لحقٌّ، والقسم هنا: يفيد التّوكيد.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} : الواو: عاطفة، ما: النّافية.

{أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} : الباء: للإلصاق، والتّأكيد. معجزين: بفائتين من العذاب، أو نحن غير قادرين عليكم، ما أنتم بمعجزين؛ لا في أيِّ مكان، ولا في أيِّ زمان، ولا تعجزون في أيِّ شيء مهما كان.

ومن الجدير بالذّكر: أنّ الله سبحانه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقسم بربه في ثلاث آيات في القرآن:

هذه الآية (53) من سورة يونس: {وَيَسْتَنبِـئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ} .

والآية (3) من سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

والآية (7) من سورة التّغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ} .

وإذا نظرنا في سياق هذه الآيات نجدها كلَّها تؤكِّد قيام السّاعة، والبعث، والعذاب، أو الجزاء.

ص: 96

سورة يونس [10: 54]

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

المناسبة: جاءت هذه الآية بعد قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} ؛ أي: ناجين من العذاب، وكذلك: لا شفاعة لكم، ولن يُقبل منكم فداء.

{وَلَوْ أَنَّ} : الواو: استئنافية؛ لو: شرطية؛ تفيد النّدم والحسرة؛ أن: للتوكيد.

{لِكُلِّ} : اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد.

{نَفْسٍ ظَلَمَتْ} : ظلمت بالشّرك، أو الكفر، أو المعاصي، أو تعدَّت على غيرها، ولم تتبْ.

{مَا} : بمعنى: الّذي، وما: أوسع شمولاً من: الّذي.

{الْأَرْضِ} : من ذهب، أو فضة، أو كنوز.

{لَافْتَدَتْ بِهِ} : اللام: لام التّوكيد؛ افتدت به: قدَّمته فدية لها من العذاب يوم القيامة، والفداء: هو ما يُقدَّم من مال، وغيره من البدائل؛ لتخليص المفدى؛ مثل: فداء الأسرى، كقوله تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].

ولو أمعنَّا في النّظر في هذه الآية: نجد أنّ الله سبحانه لم يقل: جميعاً، ومثله معه، واكتفى بقوله: ما في الأرض؛ بينما في آيات أخرى ذكر جميعاً، ومثله معه، كما هو الحال في الآية (49) من سورة الزّمر:{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} ، لم يذكر في آية يونس جميعاً، ومثله؛ لأنّها جاءت في سياق النّفس الواحدة؛ فقال: لكلّ نفس، ولم يقل: للذين ظلموا (كجمع)، والنّفس الواحدة مستحيل أن تملك ما في الأرض جميعاً، ومثله معه، ولذلك حذف جميعاً، ومثله ومعه، بينما في آية الزّمر وغيرها من الآيات المشابهة ذكر الّذين ظلموا؛ فهؤلاء ثرواتهم وفدائهم سيكون أكثر من النّفس الواحدة، وأعظم، ومع ذلك لا يقبل منهم فداء، ولا شفاعة.

وهناك نقطة أخرى: وهي قوله: لافتدوا به في سورة الرّعد، الآية (38)، والزّمر، الآية (47)؛ بينما في سورة المائدة، الآية (36) قال تعالى: ليفتدوا به، السّبب في تغيير صيغة الفعل: هو أنّ قوله: لافتدوا به: الآيات تتحدث عنهم، وهم في الآخرة، وبعد أن تم حسابهم، ولقاء الله سبحانه.

أما قوله: ليفتدوا به: فالآية تتحدث عنهم، وهم ما زالوا في الدّنيا، وقبل لقاء الله سبحانه في المستقبل.

والخلاصة: لافتدوا به: تأتي في سياق الآخرة، وليفتدوا به: تأتي في سياق الدّنيا.

{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} : وأسروا: الواو: عاطفة، أسروا النّدامة؛ أيْ: أخفوا النّدامة، والنّدامة: من النّدم، وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الأسف، والحسرة، والحزن إذا فاته فعل شيء فيه خير، أو فعل فعلاً ضاراً به، ومن المفسرين من قال: أسروا النّدامة؛ أيْ: أظهروها حين رأوا العذاب؛ فأسررت الشّيء قد تعني: أخفيته، وقد تعني: أظهرته من أفعال الأضداد.

{لَمَّا} : ظرف زماني بمعنى: حين.

{رَأَوُا الْعَذَابَ} : لأنهم حين يرون العذاب يبهتوا؛ أيْ: ينقطعوا عن الكلام من هول، وشدة الموقف.

{وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : وقضي بينهم بالقسط؛ أيْ: حكم الله بين الظّالمين، وفصل بينهم بالعدل، والحقّ، وقيل: القسط: هو القضاء، والعدل + تنفيذه (إقامته)، نحكم ونقضي بالقسط لكلّ نفس، وقد تعني: القضاء بين الأتباع، والمتبوعين، وقد تعني: القضاء بين الظّالمين أنفسهم، أو المشركين، أو الكفرة، أو الكل.

ولو نظرنا إلى هذه الآية (54)، والآية (47) من نفس السورة: نجد كلاهما انتهى بقوله سبحانه: {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : وليس هذا تكرار؛ لأنّ الآية (47): جاءت في سياق القضاء بين الأنبياء، ومكذبيهم، والآية (54): جاءت في سياق القضاء بين الظّالمين أنفسهم، أو الظّالمين والمظلومين.

ص: 97

سورة يونس [10: 55]

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

المناسبة: ذكر هذه الآية بعد ذكر: ولو أنّ لكلّ نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به؛ لتخبر ليس للظالم من شيء يفتدي به؛ لأنّ كلّ ما في السّموات، والأرض هو لله سبحانه.

{أَلَا} : أداة استفتاح، وتفيد التّنبيه؛ تنبيه الغافل: أنّ لله ما في السّموات والأرض.

{إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : إن: للتوكيد.

{لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ارجع إلى الآية (284) من سورة البقرة.

{ّأَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : فليس فقط لله ما في السّموات والأرض؛ كذلك.

{أَلَا} : أداة تنبيه، كما ورد سابقاً.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{وَعْدَ اللَّهِ} : البعث، والحساب، والجزاء (من ثواب وعقاب)، وكلّ ما أعدَّه الله سبحانه لعباده المؤمنين، وعباده الكافرين حق، وصدق، وكلّ شيء نطق به حق لا يتغيَّر، ولا يتبدَّل.

والوعد: إذا جاء في سياق الخير فهو بشارة سارة، وإذا جاء في سياق الشّر؛ فهو إنذار، والوعد عادة يأتي في سياق الخير، والوعيد يأتي في سياق الشّر.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{أَكْثَرَهُمْ} : تعود على المشركين؛ الكافرين؛ العاصين.

{لَا} : النّافية.

{لَا يَعْلَمُونَ} : عن البعث، والحساب، والجزاء شيئاً، والدّليل على ذلك الآية الّتي تليها؛ أيْ:{هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

ص: 98

سورة يونس [10: 56]

{هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد يعود على الله (وعد الله حق).

{يُحْىِ وَيُمِيتُ} : القادر على أن يحيي ويميت، وجاء بصيغة المضارع؛ ليدل على تجدُّد الإحياء والإماتة.

{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : إليه: جار ومجرور، وتقديمها يفيد الحصر؛ أيْ: إليه وحده ترجعون.

وتُرجَعون، ولم يقل: تَرْجِعون؛ تُرجَعون؛ أيْ: رجوعاً قسرياً، لا إرادة لكم فيه؛ فمن لا يكفيه دليل الإحياء، والموت على قدرة الله؛ فعليه أن يرتدع بخوف الرّجوع إلى الله سبحانه.

ص: 99

سورة يونس [10: 57]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} :

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : نداء إلى النّاس كافة، والهاء: للتنبيه إلى أمر مهمٍّ عظيم.

{النَّاسُ} : من الإنس، والجن، والنّاس: مشتقة من النّوس: الحركة؛ أي: الّتي يتصف بها الخلق، ومن الإنس الألفة، ولمعرفة معنى النّاس: ارجع إلى سورة البقرة، آية (21).

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} الموعظة؛ أي: القرآن الكريم، والموعظة: تذكرة بالثّواب، والعقاب، وبالطّاعة، والعمل الصّالح، والإرشاد إلى الخير، ونهي، وتحذير. ارجع إلى سورة النساء، آية (34) والنحل، آية (125)؛ لمزيد في معنى موعظة.

{وَشِفَاءٌ لِمَا فِى الصُّدُورِ} : من الشّك، والنّفاق، والحيرة، والشّبه، والحقد، والحسد، والمكر، والظّن، والغيبة

وغيرها من الأمراض.

{وَهُدًى} : مصدر هداية، أو هو الهدى يهدي للحق، والغاية والصّراط المستقيم، وسعادة الدّارين.

{وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} : مصدر لجلب الخير، والنِّعم، ودفع ما يضر (وقاية لكم من الضّرر والوقوع في الذّنب).

{لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام: لام الاختصاص.

وانتبه إلى المجيء بكلمة موعظة، وشفاء، وهدى، ورحمة: كلها جاءت بصيغة النّكرة؛ للتعظيم، والشمول.

ص: 100

سورة يونس [10: 58]

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم:

{بِفَضْلِ اللَّهِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد، والفضل: هو الزّيادة عما يستحق من الأجر، أو الثواب.

فضل الله: الجنة، ورضوان الله تعالى، وفضل الله قد يشمل عدم الشّرك بالله، والتّوحيد؛ لقوله تعالى:{مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَىْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} [يوسف: 38].

{وَبِرَحْمَتِهِ} : قيل: هي القرآن، أو محمّد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} أو كلاهما.

وتكرار الباء بفضل الله وبرحمته: دليل على أنّ كلّ منهما سبب للفرح على حِدَةٍ، أو كلاهما معاً.

{فَبِذَلِكَ} : الفاء: للتوكيد، الباء: للإلصاق، ذلك: اسم إشارة للبعيد، والتّعظيم، (وشمل الواحد، أو الاثنين، أو الجمع)، وتشير إلى فضل الله ورحمته.

{فَلْيَفْرَحُوا} : الفاء: للتوكيد، واللام: لزيادة التّوكيد، وهو نوع من الفرح المحمود. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه.

{هُوَ خَيْرٌ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، والحصر، خير: أفضل.

{مِمَّا} : من + ما؛ من: البعضية، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{يَجْمَعُونَ} : من المال، والذّهب، والفضة، والمتاع.

ص: 101

سورة يونس [10: 59]

{قُلْ أَرَءَيْتُم مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{أَرَءَيْتُم} : أيْ: أخبروني بعلم، وتوكيد؛ رؤية قلبية، الخطاب موجَّه إلى مشركي قريش، وغيرهم من البشر.

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، وقد تكون اسم استفهام.

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِّزْقٍ} : أيْ: من الحرث، والأنعام، كما في قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ، وقد يعني: الغيث، والمطر الّذي هو السّبب في إنتاج الحبوب، والثّمار، والأنعام، أو تعني: الإيجاد، أو إنزال حقيقي، كما أنزل الحديد.

{فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} : مثل: البحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام، {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ

وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا

مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 138-139].

والجعل: يتم بعد الخلق، والجعل هو حق للخالق وحده، فهل أعطاكم الله سبحانه تصريحاً، أو تفويضاً، أو سمح لكم بذلك، والفاء في فجعلتم: للتوكيد، وقدَّم الحرام على الحلال؛ لأن سياق الآيات في الظلم، والتحذير منه، وتحريم ما أحل الله.

{قُلْ آللَّهُ} : ارجع إلى كلمة الآن في الآية (51). الهمزة: للاستفهام الإنكاري.

{أَذِنَ لَكُمْ} : أعلمكم بهذا التّحليل، والتّحريم، وسمح لكم.

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، والهمزة: للاستفهام.

{عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} : الافتراء: هو الكذب المتعمَّد المختلق، وتفترون: تدل على التّجدُّد، والتّكرار المستمر.

ص: 102

سورة يونس [10: 60]

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} :

{وَمَا ظَنُّ} : الواو: استئنافية؛ ما: اسم استفهام.

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : وفي هذه الآية كلام محذوف تقديره:

1 -

ما ظنهم أنّ الله فاعل بهم يوم القيامة؛ بافترائهم الكذب عليه.

2 -

أو هل ظنوا أنّه لا توجد آخرة، ولا حساب، ولا ويل، ولا نار.

وفي إبهام الوعيد، وما سيكون حسابهم عند ربهم، تهديد عظيم لهم، ولتبقى عقولهم في حيرة في نوع العذاب الّذي ينتظرهم.

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} : إن: للتوكيد؛ لذو: اللام: لام التّوكيد.

{فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} :

1 -

بأن بيّن لهم الحلال، والحرام، وهداهم بإرسال الرّسل، وإنزال الكتب، وإنعامه عليهم بالعقل، والنِّعم الكثيرة الّتي لا تعد، ولا تحصى.

2 -

أو لذو فضل على النّاس بأن أخَّر عنهم العذاب.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} : لأنّهم منشغلون بالنِّعم، وغافلون عن المنعم، ولو قارنا (أكثرهم لا يشركون) مع قوله تعالى:(كثيراً لا يشركون): نجد أن أكثرهم أكثر من كثير في العدد.

{لَا} : النّافية.

{يَشْكُرُونَ} : الله على ما هداهم وبيَّن لهم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10) لبيان معنى الشكر.

ص: 103

سورة يونس [10: 61]

{وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: النّافية، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{تَكُونُ فِى شَأْنٍ} : شأن: هو إبلاغ الرّسالة، والمنهج؛ أي: الدعوة إلى الله تعالى.

{وَمَا} : مثل السّابقة، وتفيد التّوكيد.

{تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} : وما تتلو من القرآن، أو الآيات على النّاس، أو لأجل تبليغ النّاس ما نُزل عليهم.

{مِنْهُ} : الأولى تعليلية.

{مِنْ قُرْآنٍ} : للتأكيد، أو للتبعيض؛ أي: بعض السور أو الآيات.

{وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} : ينتقل إلى الله سبحانه من مخاطبة رسول الله إلى مخاطبة النّاس.

{وَلَا} : النّافية.

{تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} : العمل يشمل القول، والفعل؛ فإذا صدر الحدث من اللسان كان قولاً، وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلاً.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} : كنا عليكم شاهدين؛ أيْ: رقباء مطلعين عليه حيث الملائكة الكرام الكاتبين، شاهدين على ما تعملونه (من قول، وفعل).

{إِذْ} : ظرف زماني.

{تُفِيضُونَ فِيهِ} : من الإفاضة، كما يفيض الإناء إذا امتلأ، وأصل الإفاضة: الاندفاع بشدة، أو بكثرة؛ تفيضون: تشرعون فيه؛ لتأديته بنشاط وإقبال؛ مما يدل على حسن الاستجابة، والإقبال على العمل بشوق.

{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} : وما: ما: للنفي، ما يعزب عن ربك: ما يغيب عن علمه، وعزب الشّيء؛ أي: اختفى، وغاب، وما هو الفرق بين: وما يعزب عن ربك، ولا يعزب عن ربك؟ أولاً: ما: رد على قول أو ما يشابه ذلك، بينما لا: جواب لسؤال حصل أو مقدر، وما: مختصة بنفي الحال، ولا: تختص بنفي المستقبل.

{مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} : من: استغراقية، وتفيد التّوكيد. ارجع إلى سورة سبأ، آية (3)؛ لمزيد من البيان.

{وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} : وانتبه إلى قوله: ولا أصغر من ذلك؛ فعندما يكون هناك أصغر يكون هناك كذلك صغير، وأصغر من الذّرة هي الإلكترونات، والبروتونات، والنترونات الّتي تشكل النّواة.

وأصغر على وزن أفعل؛ هو ما اكتشفه العلم الحديث، وهو ما يقال له:(كوارك)؛ أيْ: أصغر من الذرة.

{إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} : وهو اللوح المحفوظ.

ولنقارن بين هذه الآية من سورة يونس، والآية (3) من سورة سبأ.

آية (61) يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} .

آية (3) سبأ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} .

بين الآيتين ستة فروق:

الأوّل: السّياق في آية يونس، في علم إحاطة الله بالأشياء، أمّا السّياق في آية سبأ ففي الساعة (ساعة تهدم النظام الكوني).

الثّاني: في يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} ؛ ما: مختصة بنفي الحال، وفي سبأ:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ} ؛ لا: نافية للجنس مختصة بنفي المستقبل غالباً، وقد تنفي كلّ الأزمنة بما فيها الحال؛ فالنفي في آية يونس: أوسع، وأشمل.

الثّالث: في آية يونس قال: {عَنْ رَبِّكَ} ، وفي آية سبأ قال:{عَنْهُ} ، ولم يقل: عن ربك؛ لأنّه سبق ذكر كلمة الرّب في قوله: {بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

الرّابع: في آية يونس قال: {ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} : بدأ بالأرض؛ لأنّ الآية تتكلم عن أهل الأرض؛ لقوله: {وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} ، وفي آية سبأ قال:{ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ} : بدأت بالسموات؛ لأنّ السّياق عن السّاعة، والسّاعة أمرها يبدأ من السّموات.

الخامس: في يونس قال: {مِنْ مِّثْقَالِ} ؛ من: هنا الاستغراقية؛ لأنّ الكلام عن علم الله، وإحاطة علمه بكلّ الأشياء يستغرق كلّ شيء، أما في سبأ:{مِّثْقَالِ} : من دون (من)؛ فلأنّ السّاعة شيء واحد، أو أمر واحد.

السّادس: النّفي في آية يونس أقوى، وآكد من النّفي من آية سبأ؛ لأنّه جاء بـ (لا): النّافية للجنس، وكذلك استعمل:(من): الاستغراقية، وجاء بصيغة النّصب في يونس بدلاً من صيغة الرّفع؛ فقال:{وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} ؛ بينما في سبأ: {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} .

ص: 104

سورة يونس [10: 62]

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} :

{أَلَا} : أداة استفتاح، وتنبيه للمستمع حتّى لا تفوته كلمة واحدة في الآية، وللاهتمام بما يستمع إليه.

{إِنَّ} : تفيد التّوكيد.

{أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} جمع ولي، والولي: هو التابع المحب أو القريب المحب المعين، والولاء: هو الحب والنّصرة، أولياء الله بالطّاعة والعبادة؛ أيْ: أحباؤه، والمقربون إليه، وقد وصفهم بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . ارجع إلى سورة المائدة، آية (51)؛ للمزيد في معنى الولاية.

{لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (38)؛ للبيان.

ص: 105

سورة يونس [10: 63]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :

هذا تفسير لأولياء الله، وكأن سائلاً سأل: مَنْ هم أولياء الله؟ فجاء الرّدُّ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{آمَنُوا} : بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتعني: الإخلاص، والتوحيد.

{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، كانوا في الدّنيا يتقون الله تعالى؛ يخافونه، ويتقون: تدل على الاستمرار، والتّجدُّد، والتّكرار مدَّة حياتهم حتّى ماتوا وهم في تلك الحالة. وهذا يعني أن الولاية، أو لتكون من أولياء الله يجب الإنابة والمجاهدة فهي ولاية كسبية، وكذلك يهدي إليه من يريد أو يجتبي إليه من يشاء هي ولاية خاصة، أو ولاية هبة، أو اجتباء من الله تعالى.

ص: 106

سورة يونس [10: 64]

{لَهُمُ الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

{لَهُمُ} : اللام: لام التّعليل، والاختصاص.

{الْبُشْرَى} : على وزن فعلى، هي الخبر السّار تسمعه لأوّل مرة، وسمِّيت بشارة؛ لأنّه يظهر أثرها على الوجه بالسّرور، والفرح، وغالباً تستعمل في الخير، ولكن قد تكون في الشّر، ويُراد بها التهكُّم، والاستهزاء؛ كقوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].

{الْبُشْرَى فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : تتمثل بثلاثة أفعال:

1 -

الرّؤيا الصّالحة.

2 -

بشارة الملائكة للمؤمنين المتقين عند الموت (الوفاة){الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32].

3 -

البشرى بالجنة: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].

لهم البشرى في الدّارين: الدّنيا، والآخرة، وإعادة ذكر (في) مرتين في الحياة الدّنيا، وفي الآخرة بدلاً من قوله: في الحياة الدّنيا والآخرة؛ للتوكيد، ولفصل كلٍّ على حدة، أو كلاهما معاً.

{لَا} : النّافية للجنس، ولكلّ الأزمنة.

{تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} : لا تغيير، ولا تبديل لما وعد الله سبحانه وتعالى عباده؛ كلماتُ الله أقوالُه، وما بشَّر به.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ويشير إلى البشارة في الدّارين.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : أعظم أنواع الفوز هو الفوز العظيم؛ الّذي هو أفضل من الفوز المبين، والفوز الكبير. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في معنى الفوز وأنواعه أو درجاته.

ص: 107

سورة يونس [10: 65]

{وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

{وَلَا} : الواو: استئنافية؛ لا: النّاهية.

{يَحْزُنكَ} : الحزُن: بضم الزاي: هو ضيق في الصّدر مؤقت (له وقت محدَّد، وينتهي، ولو طال سنة، أو سنتين، أو أكثر).

أما الحَزَن: بفتح الزاي: فلا ينتهي أبداً إلا بالموت؛ إذن الحَزَن لا ينقضي، ولا يزول، حَزَنٌ دائم.

{قَوْلُهُمْ} : أنك ساحر، مجنون، مُفتر، كاذب، لست مرسلاً.

ويجب الوقوف في القراءة على: {وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} ؛ أما إذا لم يقف القارئ؛ فيكون معنى: {وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} : أيْ: قولهم: إن العزة لله جميعاً، وهو يُحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير صحيح، وباطل؛ لأنّهم هم لم يقولوا: إنّ العزة لله جميعاً أولاً، وثانياً: أن القول أن العزة لله جميعاً لا يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الْعِزَّةَ} : القوة، والغلبة، والمنعة، والقهر؛ فهو لله سبحانه لا يُغلب، ولا يُقهر، والقوي الّذي لا يُحال بينه وبين مراده.

{لِلَّهِ جَمِيعًا} : اللام: لام الاختصاص، والملكية.

{جَمِيعًا} : للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : لكلّ ما يقال؛ صيغة مبالغة، كثير السّمع، يسمع كلّ ما يقوله عباده في السّر والعلن، وما يقولون جميعاً في آن واحد.

{الْعَلِيمُ} : صيغة مبالغة، عليم بكلّ ما يجري في كونه، وما يفعله خلقه، وما تخفي الصّدور، ولا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء.

ص: 108

سورة يونس [10: 66]

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} :

وبما أنّ قانون العزة لله جميعاً؛ لأنّ كلّ من في السّموات، ومن في الأرض من كائن مملوكاً لله؛ فلا كائن يخرج عن إرادته سبحانه.

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ} : ألا: أداة استفتاح، وتنبيه.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{لِلَّهِ} : اللام: لام الاختصاص، والملكية، وتقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة: يدل على الحصر؛ أيْ: حصراً لله وحده؛ أيْ: كلّ كائن في السّموات، وفي الأرض خاضع لله سبحانه طوعاً، أو كرهاً.

{مَنْ} : تختص بالعقلاء فقط، وقد تستعمل لغير العقلاء إذا أنزلوا منزلة العقلاء؛ مثل: الأصنام إذا عبدوها، ومن: استغراقية تشمل المفرد، والمثنى، والجمع، وتشمل كلّ عاقل.

{فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ} : إعادة (مَنْ) مرة ثانية؛ يفيد التّوكيد، وفصل كلّ من السّموات عن الأرض.

{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} : ما: النّافية، وقد تكون اسم موصول، أو تكون اسم استفهام؛ مثل، وأيُّ شيء يتبع أولئك الّذين يدعون مع الله إلهاً آخر، إنهم لا يتبعون شيئاً.

{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} : أيْ: يعبدون.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{شُرَكَاءَ} : أيْ: هم لا يتبعون شيء إلا الظن.

{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : إن: نافية؛ أقوى في النفي من: ما.

{إِلَّا} : حصراً.

{الظَّنَّ} : التردد الراجح؛ أي: الشّك، مع رجحان كفة الإثبات.

{وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} : وإن: نافية.

{هُمْ} : ضمير فصل للتوكيد.

{إِلَّا} : للحصر.

{يَخْرُصُونَ} : الخرص: هو القول من دون علم؛ فهو التّخمين، والحزر؛ فهو كذب، وتخمين، وقيل: الخرص: هو الحَزْر، والتّقدير الباطل، والكذب.

ص: 109

سورة يونس [10: 67]

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} :

المناسبة: بعد قوله تعالى: {لِلَّهِ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ} : يأتي بدليل آخر على عظمة الله وقدرته، وأنّه هو الّذي يستحق العبادة، وهذا الدّليل هو ما ذكر في الآية الآتية.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد الحصر؛ أي: الله وحده هو الّذي جعل.

{جَعَلَ} : أيْ: هو الّذي خلق الزّمن، ثمّ جاء لهذا الزّمن؛ ليجعل منه ليلاً، ونهاراً، والجعل يكون بعد الخلق، والجعل هو توجيه الشّيء المخلوق بعد خلقه لمهمة معينة، وهو الّذي صيَّر لكم اللّيل.

{لَكُمُ} : خاصَّة، اللام: لام الاختصاص.

{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} : اللام: لام التّوكيد، السّكون الرّاحة، والحد من الحركة، وهذه رحمة، ونعمة من الله على الإنسان؛ لكي يرتاح، ويعود النشاط إلى قواه؛ لكي يزاول عمله في اليوم التالي، وتتداخل هنا الظلمة مع التعب إلى حثِّ الغدد على إفراز بعض العوامل، أو الهرمونات الّتي تؤدِّي إلى النوم.

{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} : مبصراً: اسم فاعل من أبصر؛ أسند الإبصار إلى النّهار، وهذا هو أمر حقيقي اكتشفه العلم حديثاً، وتفسير ذلك: كلّ الكواكب بما فيها الأرض يسبح في الظّلام، ولكن وجدت حول الأرض طبقة من الغازات (طبقة غازية) مشكلة من غازات الهيدروجين، والنّتروجين، والهليوم، وبخار الماء

وغيرها من الغازات.

وهذه الطّبقة الغازية يسمِّيها العلماء طبقة النهار، وهي الطّبقة السفلى من الغلاف الغازي للأرض الّتي أعطاها ربنا من الصّفات الطبيعية، والكيماوية ما يمكننا أن نرى نور الشّمس الأبيض، ويقدر سمكها بـ (200كم)، وأغلب أشعة الشّمس لا ترى مثل أشعة غاما، والأشعة السينية، وفوق البنفسجية، وتحت الحمراء

وغيرها، وما يصل إلى الأرض هو جزء من الطاقة المسمَّى الضوء المرئي، وهي عبارة عن ألوان الطيف: الأحمر، والبنفسجي، والأخضر، والأزرق، والأصفر، والنيلي، والبرتقالي، وكلّ طيف من هذه الطيوف لا يرى لوحده إلا بصورة ضعيفة، ولكنه لما يدخل هذه الطّبقة تبدأ ألوان الطيف تتحد، وتعطينا النور الأبيض الجميل الّذي نراه في وضح النهار.

وبما أنّ الأرض كروية فأشعة الشّمس سوف تشرق على الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض، والمقابلة للشّمس؛ أمّا القسم من الطّبقة الغازية غير المقابل للشّمس فلا تضيء، ولا تنير؛ فتكون مظلمة، وما تحتها من الأرض مظلم (أيْ: ليل).

وأمّا الطّبقة المقابلة للشمس فتضيء، وتنير، وبالتّالي النّصف من الأرض الّذي تحتها في نهار، وبما أن الأرض تدور حول نفسها؛ لذلك سرعان ما يتبدل النّهار بالليل، ثمّ اللّيل بالنّهار

وهكذا؛ مما يدل على كروية الأرض.

وبعد أن تضيء وتنير تلك الطّبقة الغازية تنعكس أشعتها على الأرض، ثمّ إلى عيون النّاس؛ فيرى النّاس ما حولهم من المبصرات، والكائنات، ولولا هذه الطّبقة الغازية؛ لما رأينا أيَّ شيء؛ فهذه الطّبقة الغازية هي الّتي تبصر، ولذلك سمَّى النّهار مبصراً، وأما عيوننا فلا تبصر شيئاً، والدليل على ذلك حين نكون في ظلمة، فلا نرى شيئاً رغم وجود العيون.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} : إنّ: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للمخاطب؛ أيْ: يشير إلى الآيات الكونية؛ مثل: هذه الآية، آية النّهار، وآية اللّيل.

{لِّقَوْمٍ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد، والاختصاص.

{يَسْمَعُونَ} : سماع تدبر، واعتبار، واختار يسمعون، ولم يقل: يبصرون؛ لأن الآية تتحدث عن الليل؛ لتسكنوا فيه، فالعين في الليل لا ترى؛ أيْ: معطلة، والسّمع يبقى دائماً لا يتعطل، ولذلك قال: لقوم يسمعون.

ص: 110

سورة يونس [10: 68]

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِىُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

المناسبة: بعد ذكر أفعال المشركين باتخاذ الأصنام، والأوثان شركاء؛ يذكر في هذه الآية نوعاً آخر من الشّرك، والباطل: وهو اتخاذ الولد.

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} : قالوا؛ أي: المشركون، واليهود، والنّصارى.

{اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} : يعني: ادعوا، أو ظنوا، أو حكموا؛ زعموا أنّ لله ولداً: عيسى ابن الله، عزير ابن الله، أو الملائكة بنات الله، وفعل اتخذ: على وزن افتعل، واتخذ: من أخذ، ولكن لما كثر استعمال أخذ أصبح اتخاذ، والاتخاذ فيه معنى الاستمرار.

{سُبْحَانَهُ} : تنزيهاً لله؛ أيْ: أسبح الله سبحانه من هذا الافتراء؛ أيْ: هذا لا يمكن أن يكون، والله منزَّه عن ذلك، ومنزَّه؛ أيْ: مُبعد، والنّزاهة البُعد.

{هُوَ الْغَنِىُّ} : هو: ضمير فصل؛ للحصر، والتّوكيد.

{الْغَنِىُّ} : أيْ: غير المحتاج لأحد، لا لولد، ولا لبنت، أو ذرية؛ لأنّ:

{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : له: اللام: لام الاختصاص، والملكية. ما: هي أوسع استعمالاً من: (من)، وأكثر إبهاماً؛ لتشمل كلّ ما في السّموات، وما في الأرض، وأصل الكلام: ما في السّموات وما في الأرض له، ولكنّه قدَّم له، أو أحياناً يقدِّم لله: للحصر، والقصر؛ له: تفيد الملكية، فهو مالك السّموات، ومالك الأرض، وما فيهنَّ؛ فهو الخالق، والمالك، والحاكم.

{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} : إن: نافية أقوى أدوات النّفي؛ أيْ: ما عندكم من سلطان، والسّلطان: هو الحُجَّة القوية الّتي لا تدحض؛ لقوتها، وقد يعني سلطان القهر، والقوة.

{مِنْ} : استغراقية؛ تستغرق كلّ شيء.

{بِهَذَا} : الباء: للإلصاق، وهذا اسم إشارة للقرب، والهاء: للتنبيه، بهذا الّذي تقولونه: اتخذ الله ولداً؛ أيْ: ليس عندكم لا دليل، ولا برهان، ولا قوة للقول بهذا الباطل، والبهتان.

{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : أتقولون: الهمزة: للاستفهام، للتّوبيخ، والتّقريع. تقولون: تفترون على الله الكذب، والباطل، وما عندكم من أيِّ سلطان؛ أيْ: دليل وحُجَّةٌ.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{لَا تَعْلَمُونَ} : لا: النّافية للجنس. تعلمون: لأنّ كلّ قول لا برهان عليه، ولا حُجَّة، ولا دليل: هو جهل، وليس علماً.

ص: 111

سورة يونس [10: 69]

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} :

{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يشير لهؤلاء الّذين قالوا اتخذ الله ولداً.

{يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : الافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق، الكذب: هنا معرفة مُعرف بأل التّعريف، ويشير إلى قولهم: اتخذ الله ولداً؛ فالكذب محدَّد، ولم يقل: يفترون على الله كذباً.

{لَا يُفْلِحُونَ} : لا: النّافية للجنس. الفلاح: هو الفوز، والنّفع الباقي أثره، ويعني: النجاة من النّار، والفوز بالجنّة.

ص: 112

سورة يونس [10: 70]

{مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} :

{مَتَاعٌ} : المتاع: هو كلّ ما ينتفع به، أو يتمتع به، ويرغب في اقتنائه الطّعام، والشّراب، وأثاث البيت، والسّلعة الأداة والمال، والمتاع: يطلق على القليل، أو الكثير، وهو متاع زائل.

{فِى الدُّنْيَا} : في: ظرفية، زمانية، ومكانية.

{الدُّنْيَا} : مشتقة من الدّنو؛ أيْ: متاع زائل، وفانٍ، وقليل جداً بالنّسبة لمتاع الآخرة.

{ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي الزّمني؛ أيْ: يوم القيامة.

{إِلَيْنَا} : جار ومجرور، وتقديمها للحصر، والقصر؛ أيْ: إلينا وحدنا مرجعُهُم.

{مَرْجِعُهُمْ} : لكي يتم حسابهم، والحكم، والقضاء فيهم.

{ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} : ثمّ: للتوكيد، والتّرتيب الذِّكري.

{الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} : الشّديد: صيغة مبالغة شديد الإيلام لا أحد يطيقه.

{بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} : الباء: للإلصاق، أو السّببية، أو البدل. ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{يَكْفُرُونَ} : يجحدون، وينكرون الله، ويشركون بالله، ويكفرون: تدل على أنّهم لم يتوبوا، وماتوا وهم على الكفر؛ لأنّ يكفرون بصيغة المضارع؛ تدلّ على التّجدد، والاستمرار.

ص: 113

سورة يونس [10: 71]

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} :

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} : الواو: استئنافية، اتلُ عليهم، أو أخبرهم، أو اقرأ عليهم، والخطاب موجَّه إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، أو أفراد أمته. والتّلاوة: هي في الأصل موالاة الكلمات الكلمة بعد الكلمة، واتلُ؛ أي: اقرأ: والتّلاوة أخص من القراءة؛ فكلّ تلاوة قراءة، وليست كلّ قراءة تلاوة. والتّلاوة لا تكون عادة إلّا من كتاب الله تعالى، ولها أجر؛ الحرف بعشر حسنات.

{نَبَأَ نُوحٍ} : النّبأ: هو الخبر العظيم؛ أيْ: أخبر قومك خبر نوح العظيم.

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ} : إذ: ظرف زماني للزمن الماضي، وتعني: حين.

{قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ} : يا: أداة نداء للبعد، يا قوم: نداء فيه معنى اللِّين، والعطف على قومه.

{إِنْ} : شرطية، وفيها معنى الاحتمال أن يكون مقامه قد كَبُرَ على قومه.

{كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم} : كان: للتوكيد.

{كَبُرَ عَلَيْكُم} : كبر؛ أيْ: عظم، وشق عليكم، أو صعب عليكم ما أدعوكم إليه.

{مَّقَامِى} : مقامي؛ أيْ: طول إقامتي، أو مكثي بينكم، أو طالت دعوتي إليكم (950 سنة)، انتبه إلى تشديد الميم، وفتحها مَقامي؛ لأنّ هناك مُقاماً بضم الميم، وهنا مَقامٌ بفتح الميم من دون تشديد، وأمّا الفرق بين هذه الثّلاث فهو:

مَّقام: تعني: المُقام المؤقت؛ سواء أكان الوقوف على الحجر لبناء الكعبة، أم الدّعوة؛ دعوة قومه المؤقتة، ثمّ تنتهي {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ} [النمل: 39]، {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125].

بينما مُقام: مكان إقامة دائمة، وسكن؛ مثل:{يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13]، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66].

أما مَقام: فهو المنزلة الرّفيعة، أو الدّرجة الرّفيعة، وقد تعني: الخيرات كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].

{وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ} : وتذكيري لكم بآيات الله، وتشمل الآيات الكونية، أو التنزيلية، أو المعجزات الدّالة على وحدانية الله، وعظمته. والباء: للإلصاق، والاستمرار.

{فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} : فعلى: الفاء: للتوكيد؛ على الله: تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة تشير إلى الحصر، أو فقط على الله وحده توكلت: أعتمد عليه وأطلب منه المساعدة والعون في دعوتي إياكم لتبعدوه وتوحدوه.

{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} : أجمعوا: أي: اتفقوا على رأي واحد؛ اتفقوا معاً. أجمعوا: فيها معنيين: الإجماع، والجمع؛ الجميع اجتمعوا على رأي واحد؛ أي: اتفقوا.

{وَشُرَكَاءَكُمْ} : الواو: تعني: مع؛ شركاءَكم: رؤساءَكم، أو ذوي الأمر؛ اجتمعوا واتفقوا على رأي واحد، ثمّ ينصح أعدائه بقوله؛ لأنّه واثق من عون الله له.

{ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} : ثمّ: للتدرج في التّحدي (الدّرجة الثّانية).

{لَا} : النّاهية.

{يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} : غمة: معناها السّتر، والتّغطية؛ أيْ: لا يكن أمركم مكتوماً، أو مستوراً مخفياً، بل أظهروه، واكشفوا ما اتفقتم عليه، أو حكمتم به للملأ.

{ثُمَّ} : الدّرجة الثّالثة.

{اقْضُوا إِلَىَّ} : اشرعوا في تنفيذ ما قضيتم (حكمتم به).

{وَلَا تُنْظِرُونِ} : لا تمهلون (لا تعطوني وقتاً طويلاً، أو مهلة طويلة) نفِّذوا الحكم مباشرة ضدي، ومن دون تأخير، وهذا أقصى التّحدي؛ فإني لست مبالياً بكم، ولم يقل: ولا تنظروني؛ أيْ: تمهلوني، وإنما تنظرون: حذف الياء؛ ليدل على قصر زمن الإمهال.

ولنعلم: أنّ ما ورد في سورة يونس من قصة نوح هو جاء ليظهر موقف التحدي والصراع بينه وبين قومه، ولم يتطرق إلى كيفية كانت دعوته، وطريقته؛ فهذا تراه في سور أخرى؛ مثل: سورة هود، والأعراف، وسورة نوح

وغيرها.

ص: 114

سورة يونس [10: 72]

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} : فإن: الفاء: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{تَوَلَّيْتُمْ} : التولي: الابتعاد، أو أعرضتم عما جئتكم به، ولم تقبلوا دعوتي؛ فلن أسألكم عليه من أجر.

{فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} : فما: الفاء: للتوكيد.

{سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ} : من أجر: من: استغراقية؛ للنّفي المطلق، وتفيد التّوكيد، من أيِّ أجر مهما كان نوعه، والأجر: الجزاء على العمل وهو المال، والجمع: أجور، والأجر الّذي يطلبه هو الثّواب من الله، ولا يعني: المال، أو المتاع.

{إِنْ أَجْرِىَ} : إن: نافية، وتعني: ما أجري، وإن: أكثر توكيداً للنفي من: ما.

وفي سورة هود قال: {لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} ، الأجر: أعم من المال؛ فهو يشمل المال، وغير المال؛ مثل: التّمر، والزّرع، والحب، أمّا المال: فهو نوع من الأجر، والذي يطمع به نوح، وغيره من الأنبياء: هو الثّواب؛ الّذي هو أفضل من الأجر، والمال.

{إِلَّا عَلَى اللَّهِ} : إلا أداة حصر. على الله: وحده.

{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : وأمرت: من ربي أن أكون من المسلمين، ولم يقل: أوّل المسلمين؛ لأنّ هناك من أسلم قبله لله؛ من المسلمين الموحدين المطيعين المنقادين لأوامر الله، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (163) من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} فقد تعني: أول المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تعني: أول المسلمين درجة، والآية (104) من سورة يونس، وهي قوله تعالى:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} والإيمان أعلى درجة من الإسلام.

ص: 115

سورة يونس [10: 73]

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} :

{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء: عاطفة، وهاء الضّمير تعود على قوم نوح الّذين كفروا، ولم يؤمنوا له.

{فَنَجَّيْنَاهُ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، نجيناه: تعني: عملية النّجاة تمت ببطء (استغرق زمن طويل)، كي يصنع الفلك، ولو قال: فأنجيناه: هذا يدل على أنّ النّجاة تمت بسرعة.

{وَمَنْ مَعَهُ} : مَنْ: استغراقية؛ تشمل كلّ واحد آمن معه، وتشمل الاثنين، أو أكثر، ومن معه، ولم يقل: والذّين معه؛ لأنّ من معه: تدل على قلّة عدد الّذين آمنوا معه، أمّا الّذين معه فتدل على الكثرة، وقيل: كانوا حوالي (70).

{فِى الْفُلْكِ} : الفلك: السّفن، وتطلق على المفرد، والمثنى، والجمع.

{وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} : ارجع إلى الآية (14) من سورة يونس، والأنعام، آية (165)؛ للبيان.

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : أغرقنا بالطّوفان.

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : الكونية، والتّنزيلية، والمعجزات، والتّكذيب: نوع من الكفر، ويعني: عدم الإيمان بها، والتّصديق.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} : فانظر: الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي إلى أمته؛ أيْ: فانظروا كيف كان مصير المنذرين، وهو الهلاك، والدّمار بأشكاله المختلفة.

{كَيْفَ} : استفهام يحمل معنى التّعجب.

{كَانَ عَاقِبَةُ} : من خصائص القرآن الكريم حين يذكر العاقبة فيقول: كان، وليست كانت العاقبة؛ تعني: العذاب.

وحين يؤنث فيقول: كانت عاقبة تعني: الجنّة وهذا من خصائص القرآن الكريم.

ص: 116

سورة يونس [10: 74]

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} :

{ثُمَّ} : تفيد التّرتيب، والتّراخي.

{بَعَثْنَا} : البعث؛ يعني: هناك منهج كان موجوداً، ثمّ اندثر؛ فيبعث الله سبحانه من يجدِّده على لسان رسول جديد، والبعث مقارنة بالإرسال فيه إثارة، وتهيج، وأقوى من الإرسال. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} : من بعد نوح، واستعمال من: بدلاً من قوله: ثمّ بعثنا بعده. من تعني: مباشرة، أو بوقت قليل بعثنا من بعد نوح.

{رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} : أمثال: هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ولوط.

{فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : فجاؤوا أقوامهم بالبينات؛ الفاء: تدل على التّوكيد.

{بِالْبَيِّنَاتِ} : جمع: بينة؛ وتعني: البرهان، والدّليل، وتعني: الآيات، وفيها المعجزات الدّالة على صدق دعواهم، ورسالاتهم.

{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} : الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب. ما: النّافية.

{كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} : اللام: للتوكيد؛ ليؤمنوا: ليصدقوا.

{بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} : الباء: للإلصاق، وما: اسم موصول، أو مصدرية؛ أيْ: فما كانت تلك الأقوام أقوام الأنبياء الّذين أرسلوا بعد نوح ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، بل كذبوا كتكذيب قوم نوح، وكأنّه سبحانه لم يبعث إليهم أحد، أو ما كانت أقوام الرّسل تؤمن بما كذبت به قبل بعثة الرّسل، بل استمروا على تكذيبهم، وعنادهم، ورفضهم لرسلهم.

{كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} : أيْ: بالبينات، والآيات.

{كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} : أيْ: كما طبعنا على قلوب هؤلاء الّذين كذبوا رسلهم من قبل نطبع على قلوب المعتدين، فلا يؤمنون، والطّبع أشد من الختم، ويعني: لا يدخل قلوبهم أيُّ إيمان، ولا يخرج من قلوبهم؛ أيُّ كفر؛ لأنّهم هم الّذين اختاروا ذلك لأنفسهم.

لنقارن هذه الآية (74) من سورة يونس: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} .

مع الآية (101) من سورة الأعراف: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} .

في آية يونس: حدَّد ما كذبوا؛ فقال: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ} ، وتعني: آياتنا (خصص).

أمّا في آية الأعراف: فأطلق، ولم يحدِّد ما نوع ما كذبوا تركها لتشمل كلّ شيء، الآيات وغيرها.

وفي آية يونس قال: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} مبني للمجهول.

وفي آية الأعراف: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} : الفاعل معلوم: هو الله، والطّبع في هذه الآية (آية الأعراف) أشد من الطّبع في آية يونس، والكافرين أسوأ من المعتدين.

ص: 117

سورة يونس [10: 75]

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب، والتّراخي في الزّمن.

{بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم} : من بعد هؤلاء الرّسل. انظر إلى الآية السّابقة.

{إِلَى فِرْعَوْنَ} : ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) للبيان.

{مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : الملأ: هو أشراف القوم، ورؤساؤهم، وسموا بالملأ؛ لأنّهم الّذين يملؤون عيون النّاس؛ أيْ: لا ترى العيون غيرهم دائماً على التلفزيون، والإذاعة، أو ممثلين للقوم في مجلس النّواب، أو الشّعب، رؤساء العشائر، والقبائل.

{بِآيَاتِنَا} : بالمعجزات الدّالة على نبوَّة موسى، وهارون، وصدق رسالتهم، والدّالة على عظمة الله، ووحدانيته، ومنها: العصا، واليد، ومنها: الجدب، والطّوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدّم

{فَاسْتَكْبَرُوا} : الفاء: تدل على التّوكيد، والتّرتيب، والتّعقيب. استكبروا بغير حق؛ استكبروا أن يؤمنوا بالله، ويصدقوا بموسى، وبالغوا في الاستكبار؛ السين والتاء: تدل على المبالغة. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} : كافرين، ومشركين ومجرمين: بالقتل، وسفك الدّماء، واستحياء النّساء. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.

في هذه الآية (75) من سورة يونس: نرى أنّه سبحانه أخر ذكر الآيات فقال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ بِآيَاتِنَا} ، بينما في الآية (103) من سورة الأعراف: قدَّم كلمة آياتنا؛ فقال: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} ، وتعليل ذلك: في سورة يونس لم يذكر أيَّ شيء عن الآيات، ونوعها، ما هي، فلم تكن هي موضع الاهتمام، بينما في سورة الأعراف: قدَّم ذكر الآيات؛ لأنّ السّياق كان الاهتمام بالآيات؛ لدعوة فرعون، وملئه إلى الإيمان.

ص: 118

سورة يونس [10: 76]

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} : الحقّ: ما جاء به موسى من الآيات.

{قَالُوا إِنَّ هَذَا} : إنّ: للتوكيد، هذا: الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب؛ تشير إلى الآيات العصا، واليد

وغيرها.

{لَسِحْرٌ مُبِينٌ} : اللام: لام التّوكيد، سحر مبين: سحر ظاهر لا يخفى على كلّ إنسان، وسحر مبين: سحر ظاهر، وتام، وكامل يشمل كلّ أنواع السّحر، ولا يحتاج إلى دليل، أو برهان: أنه سحر. ارجع إلى سورة طه، آية (58) وسورة البقرة، آية (102)؛ لبيان معنى السّحر.

ص: 119

سورة يونس [10: 77]

{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} :

{أَتَقُولُونَ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتوبيخي؛ أيْ: قال موسى منكراً، وموبخاً لهم: أتقولون.

{لِلْحَقِّ} : اللام: للاختصاص، والتّعليل. الحقّ: هنا الآيات: العصا، واليد

وغيرها.

{لَمَّا} : ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} : أيْ: قال موسى: أتقولون للحق: إنّه لسحر، أو هو سحر، ثمّ قال: أسحر هذا؛ فهو يدعوهم إلى ضرورة النّظر إلى الحقّ بغض النّظر من أين جاء، ومن جاء به.

{لَمَّا جَاءَكُمْ} : شبه الحقّ برجل كأنّه يمشي على قدميه.

{أَسِحْرٌ هَذَا} : الهمزة استفهام إنكاري. هذا: الهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب.

{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} : الواو: حالية؛ تفيد التّوكيد، ولا: النّافية للجنس؛ يفلح: من الفلاح هو الفوز والنجاة والظفر بالمرغوب.

{السَّاحِرُونَ} : جمع ساحر؛ أيْ: لا يفوز السّاحر، ولا ينال الخير، أو يدرك ما يتمنَّاه.

ص: 120

سورة يونس [10: 78]

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} :

{قَالُوا} : أي: الملأ من قوم فرعون.

{أَجِئْتَنَا} : استفهام التّهكم؛ أجئتنا؛ أيْ: نسبوا المجيء لموسى عليه السلام نفسه؛ أي: المجيء بالمعجزة العصا، واليد لموسى، وليس إلى الله سبحانه.

{لِتَلْفِتَنَا} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: تصرفنا، وتبعدنا عن تقليد آبائنا، أو تُثنينا، وأصل لتفلتنا: من الالتفات: وهو تحويل الوجه، وصرفه عن شيء ينظر إليه.

{عَمَّا} : عن: يفيد المجاوزة، والابتعاد، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} : أيْ: من التّقليد، وعبادة الأصنام، والفساد، والضّلال.

{وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِى الْأَرْضِ} : أي: السّيادة، والملك في أرض مصر، والكبرياء: العظمة، والملك، والتّجبر، والسّلطان، والسّيطرة: هم وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة كبرى الأولى: هي ترك عقيدة آبائهم، والثّانية خسارة السّلطة، والجاه، والمنصب.

{وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} : لذلك أعلن فرعون، وملؤه وقومه؛ لكما: خاصة؛ أي: موسى وهارون.

{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: النّافية.

{نَحْنُ} : فرعون وبطانة فرعون وملئه أو قومه.

{بِمُؤْمِنِينَ} : الباء: للتوكيد؛ توكيد النّفي بعدم الإيمان إيمان العقيدة الإيمان بالله تعالى، والتّصديق بما جاء به موسى وهارون.

ص: 121

سورة يونس [10: 79]

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} :

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} : لملئه: {ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} : ساحر عليم: صيغة مبالغة من علم؛ أي: كثير العلم بالسّحر. ارجع إلى سورة البقرة آية (49) للتعرف على من هو فرعون.

ص: 122

سورة يونس [10: 80]

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ لما: ظرف زماني بمعنى: حين، الفاء: تدل على مجيء السّحرة مباشرة من دون تباطؤ.

{جَاءَ السَّحَرَةُ} : إلى فرعون.

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا} : أي: اطرحوا، أو ألقوا ما أنتم ملقون، وكان هذا هو القرار بعد المشاورة بينهم: أن يستجيبوا لطلب موسى بأن يلقوا أولاً.

وفي هذه السّورة لم يذكر سبحانه ما جرى من حوار بين السّحرة، وفرعون قبل إلقاء الحبال، والعصي، وبين السّحرة وموسى من سيلقي أولاً، وذكر ذلك في سورة طه، آية (65-66).

ص: 123

سورة يونس [10: 81]

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} :

{فَلَمَّا أَلْقَوْا} : الفاء: تدل على المباشرة، والتّرتيب؛ ألقوا حبالهم وعصيهم كما ورد في سورة طه، آية (65-66)، والشعراء، آية (44).

{قَالَ مُوسَى} : للسحرة.

{مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ} : ما: اسم موصول، أو ما: اسم استفهام؛ أي: الّذي جئتم به نوع من السّحر.

{إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} : إن: للتوكيد، سيبطله: أمام النّاس، والسّين: للاستقبال القريب؛ أيْ: عما قريب الله سيبطله؛ أيْ: سيظهر بطلانه، أو سيزيله.

{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد.

{لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} : لا: النافية؛ لا يبارك ولا يديم عمل المفسدين.

سمَّى السّحرة مفسدين؛ لأنّ السّحر من أسباب الفساد في الأرض، وعملهم يعتبر فساداً؛ أيْ: تخريباً، وشراً في الأرض. المفسدين: جملة اسمية تدل على الثبوت؛ أي: ثبوت الفساد عندهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان في معنى الفساد.

ص: 124

سورة يونس [10: 82]

{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} :

{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} : أيْ: يظهر، ويبيِّن ويُمكِّن، وينشر الحقّ. والحق: هو الأمر الثابت الذي لا يتغير أو يتبدل.

{بِكَلِمَاتِهِ} : بأوامره؛ كأمره للعصا أن تتحول إلى حية تسعى تلقف ما يأفكون.

{وَلَوْ} : لو: شرطية.

{كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} : كره المفسدون، المشركون، الكافرون. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمون.

ص: 125

سورة يونس [10: 83]

{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} :

{فَمَا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب. ما: النّافية.

{آمَنَ لِمُوسَى} : أيْ: صدق موسى، أو اتبع موسى بعد الإلقاء، وفوز موسى على السّحرة.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} : الهاء في قومه: إما تعود إلى ذرية موسى؛ أي: أتباعه، أو تعود إلى ذرية فرعون، أو كلاهما، أما بالنّسبة لذرية فرعون. فالذّرية: تعني القليل من ذرية فرعون، وهي امرأته، ومؤمن آل فرعون، وماشطة فرعون، أو ذرية موسى: وهم أولاد بني إسرائيل الصّغار من آمن بموسى وكتم إيمانه.

{عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِمْ} : على خوف، ولم يقل: من خوف.

{عَلَى} : تفيد الاستعلاء والمشقة بسبب إيمانهم، والخوف: تعريفه هو توقع الضّرر المشكوك في وقوعه.

{مِنْ} : للابتداء. فرعون وملئهم.

{وَمَلَإِيهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد. أن يفتنهم بالعذاب، والبطش.

{وَمَلَإِيهِمْ} : أيْ: أن يأمر فرعون زبانيته بالقيام بتعذيب هؤلاء الّذين آمنوا بموسى {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِمْ} : جاء بصيغة الجمع (ملئهم)؛ لأنّهم خافوا من زبانية فرعون أن يفتنهم بصيغة المفرد؛ لأنّ فرعون هو الّذي يصدر الأوامر إلى زبانيته.

والتّفسير الثّاني: أنّ طائفة من بني إسرائيل، وهم أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم، وذريتهم من اتباع موسى؛ خوفاً من فرعون عليهم، وعلى أنفسهم أن يفتنهم؛ أيْ: يعذبهم فرعون وملؤُهُ.

{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ} : إنّ: للتوكيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (49) لمعرفة من هو فرعون.

{لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ} : اللام: لام الاختصاص، عال في الأرض: متكبر.

{وَإِنَّهُ} : لزيادة التّوكيد.

{لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} : لمن: اللام: للتوكيد، والاختصاص. المسرفين: جمع مسرف جملة اسمية تدل على الثبوت ثبوت الإسراف عنده.

{الْمُسْرِفِينَ} : لقد أسرف الّذي تجاوز حدوده، وادّعى الألوهية، وقال: أنا ربكم الأعلى، والمسرفين في الظلم، والعدوان، والفساد في الأرض، وقتل الأبرياء.

ص: 126

سورة يونس [10: 84]

{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُّسْلِمِينَ} :

{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ} : نداء فيه عطف، وحنان، ولين. قال موسى هذا القول بعد أن شكا بنو إسرائيل من سوء معاملة قوم فرعون لهم، ومتى يكون الفرج.

{إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الشك، والاحتمال.

{آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} : إيمان العقيدة، والتصديق.

{فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} : جواب الشّرط؛ فالتّوكل من متطلبات الإيمان، وهو الاستعانة بالله في كلّ الأمور بعد تقديم الأسباب. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لبيان معنى التّوكل.

{إِنْ كُنْتُمْ مُّسْلِمِينَ} : جاء بشرط آخر: هو الإسلام، والإسلام هنا؛ يعني: التّوحيد، والطّاعة، والإخلاص، والاستسلام لله وحده.

ملاحظة: إذا جاء جواب شرط بعد جواب شرط آخر، كما ورد في هذه الآية، وورد جوابان لشرط واحد؛ فجواب الشّرط الأخير: هو المقدَّم؛ لأنّ جواب الشّرط الأوّل متضمن في الشّرط الأخير، عادة، فالتّوكل هنا لا ينشأ إلا أن يكون الفرد مؤمناً، ومن البديهي أن يكون مسلماً، قبل أن يكون مؤمناً.

ص: 127

سورة يونس [10: 85]

{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

بعد أن حثَّهم موسى على الإيمان.

{فَقَالُوا} : الفاء: للمباشرة، والتّعقيب، واستجابة لموسى من دون تأخير.

{عَلَى اللَّهِ} : تقدَّم الجار والمجرور على الله يفيد الحصر، والقصر؛ أيْ: حصر وقصر التّوكل على الله وحده لا غيره؛ أيْ: لا نتوكل إلا على الله.

{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} : أي: اعتمدنا، أو استعنَّا بالله. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان.

{رَبَّنَا} : أيْ: يا ربنا؛ حذف أداة النّداء الياء؛ لشعورهم بأن الله قريب يسمع دعائهم.

{لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : لا: النّاهية.

{فِتْنَةً} : أيْ: لا تعذبنا على أيدي قوم فرعون، أو تنصرهم علينا، فيفتنوننا؛ أيْ: يردونا إلى الكفر، أو الفتنة، التّقصير في الدِّين، أو يضلونا عن الهدى. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)؛ لمزيد من البيان في معنى الفتنة.

{لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : اللام: لام الاختصاص، القوم الظّالمين؛ أيْ: قوم فرعون (الأقباط).

{الظَّالِمِينَ} : المشركين، الطّاغين.

ص: 128

سورة يونس [10: 86]

{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} :

{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} : نجنا: من نجّى، ولم يقل: أنجنا، نجنا: تدلّ على البطء، وطول الزّمن، وأنجنا: تدلّ على السّرعة، وقصر الزّمن، والشّدة.

{بِرَحْمَتِكَ} : الباء: باء السّببية. رحمتك: الرّحمة: هي الإنعام على المحتاج، وتعني: دفع الضّر، أو الوقاية منه.

{مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} : قوم فرعون، وغيرهم من الكافرين، وهم أشد عصياناً من القوم الظّالمين، الكافرين: تتضمن الظّالمين.

ص: 129

سورة يونس [10: 87]

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} :

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} : الوحي: هو إعلام بخفاء. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان في معنى الوحي.

وحدث الإيحاء بعد أن خُربت بيوت عبادتهم من قبل فرعون، وجنوده، ومنعوا من الصّلاة، وإقامة شعائر دينهم، وذلك في المرحلة السّابقة؛ لخروجهم من أرض مصر.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} : التّبوُّء: هو اتخاذ المكان مباءَةً؛ أيْ: مرجعاً يبوء؛ أيْ: يرجع إليه الإنسان في كلّ مرة، أو المكان الّذي ينزل به الإنسان، ويسكن فيه، والتّبوُّء: التّوطن في مكان واحد.

{لِقَوْمِكُمَا} : اللام: لام التّوكيد، قومكما: أيْ: بني إسرائيل.

{بِمِصْرَ بُيُوتًا} : الباء: للإلصاق، ومصر هنا تعني: مصر أرض مصر القديمة.

{وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} : أيْ: أمكنة للصلاة، والعبادة؛ أيْ: صلوا فيها خوفاً من فرعون وجنوده، أو اجعلوها مستقبلة القبلة؛ أيْ: متجهة إلى المسجد الأقصى، أو مقابلة بعضها بعضاً للحراسة، والأمن (أسهل للمراقبة).

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : وإقامة الصّلاة بأركانها، وشروطها، وفي أوقاتها، والمحافظة عليها، والصّلاة أهم الشّعائر.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} : بالنّصرة، والعون في الدّنيا، وبالجنّة في الآخرة، والبشارة؛ تعني: الخبر السّار لأوّل مرة. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 130

سورة يونس [10: 88]

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} :

كان هذا دعاء موسى على فرعون، وملئه بعد أن تبيَّن له أنّهم مصرون على الكفر، والجحود، وإنكار الرّسالة.

{رَبَّنَا إِنَّكَ} : إنك: إن: حرف مشبه بالفعل؛ للتوكيد.

{آتَيْتَ} : الإيتاء: هو العطاء الممكن أن يُستَردُّ من صاحبه؛ أيْ: إيتاء من دون تملك، أمّا العطاء فهو يعني تملك. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.

{زِينَةً} : الزّينة: هي ما يُتزيَّن به من الحلي؛ كالذهب، والفضة، واللباس، والأثاث، والزّخرف، والأموال.

{رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} : ليضلوا: اللام: لام التّعليل.

{عَنْ سَبِيلِكَ} : عن دينك، وكيف يقول موسى: آتيت فرعون وملأَه {زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} : حقيقة هل أعطاهم الله المال؛ ليضلوا؟! طبعاً لا، ولكن فتنة لهم، وهم الّذين اختاروا الضّلال، وجحدوا النِّعمة، وأضلوا غيرهم، وبذروا تبذيراً.

{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} : والطّمس: المحق، والإزالة، أو تغير الصّورة؛ لأنّها كانت وسيلة إضلال، والطّمس قد يعني: المسخ، والتّشويه؛ حتّى لا يصح لها قيمة ولا ينتفع بها. قيل: سبائك الذّهب تحولت إلى حجارة.

{وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : أيْ: أحكم الأربطة على قلوبهم؛ أي: اطبع، أو اختم على قلوبهم؛ فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر.

{فَلَا يُؤْمِنُوا} : الفاء: للتوكيد.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} : قيل: العذاب الأليم: هو الغرق؛ فقد استجاب له ربه، وكان غرق فرعون وجنوده في البحر، وقيل: كان موسى يدعو وهارون يؤمن؛ لقوله بعد ذلك: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89].

وقد يسأل البعض كيف يدعو موسى على قومه هذا الدّعاء بعدم الهداية، والإيمان، وهو نبيهم، والرّد على هذا: أنّ موسى عليه السلام لم يدعُ بهذا إلا بعد أن أُوحي إليه أنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، كما حدث لنوح عليه السلام أيضاً عندها قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].

ص: 131

سورة يونس [10: 89]

{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} :

قال تعالى استجابة لدعاء موسى:

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} : أجيبت دعوة موسى، وهارون؛ حيث كان موسى يدعو وهارون يؤمِّن على دعاء أخيه، أو يدعو هارون سراً.

{فَاسْتَقِيمَا} : الفاء: للتوكيد، استقيما: على منهج الدّعوة، والتّبليغ، أو استقيما على الحقّ، وقيل: كان بين الدّعاء والاستجابة بهلاك فرعون (40 سنة)، كما روى الطبري.

{وَلَا} : الواو: استئنافية، لا: النّاهية.

{تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : أيْ: تتعجلان الاستجابة، ومتى ستقع واتركا أمر التّدبير، ومتى سيتم لله وحده، وحكمته.

{الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : قد تعود على الّذين يستعجلون بالإجابة على الدّعاء، أو قد تعود على فرعون، وقومه.

ص: 132

سورة يونس [10: 90]

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :

{وَجَاوَزْنَا} : جاز المكان، أو جاوزه وتجاوزه، إذا عبر المكان، أو اجتازه حتّى تركه وراءه.

{بِبَنِى} : أيْ: عبرنا ببني إسرائيل البحر، ببني: الباء: للإلصاق.

{الْبَحْرَ} : الأحمر.

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب مباشرة؛ لحقهم فرعون وجنوده.

{بَغْيًا وَعَدْوًا} : البغي هو أخذ حق الغير بقهر، وقوة؛ أي: الظّلم والقهر، وعدواً عدواناً عليهم.

أيْ: لحقوا بهم للبغي عليهم، والعدوان، والفتك بموسى وهارون وبني إسرائيل الّذين خرجوا معهما، وإعادتهم إلى مصر؛ ليعذبوهم، ويستعبدوهم، كما كانوا يفعلون.

{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية، إذا ظرف زماني، أدركه الغرق: فكأن الغرق يجري وراء فرعون ليدركه.

{قَالَ} : فرعون، {آمَنْتُ}: صدقت (قاله بلسانه)، {أَنَّهُ}: أن: للتوكيد.

{لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى} : لا: النّافية للجنس تنفي كلّ الأزمنة.

{إِلَهَ} : لا معبود.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{الَّذِى} : اسم موصول يشير إلى الله تعالى، ويدلّ على التّعظيم.

{آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : رغم أنّ فرعون نطق وقال: آمنت بالّذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين.

لم يتقبَّل الله سبحانه توبته الّتي جاءت متأخرة؛ حيث أدركه الغرق؛ فهي توبة إكراه، وليست توبة خالصة، أو نصوحاً، قالها بسبب الغرق، وبعد نزول العذاب، ولو كان المطلوب هو إيمان إجبار لأجبر سبحانه كلّ الخلق على الإيمان، ولما كفر أحدٌ.

ص: 133

سورة يونس [10: 91]

{آلْـئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} :

{آلْـئَانَ} : استفهام إنكاري، وتعجُّب؛ أي: الآن تقول: آمنت حين أدركك الغرق، وبلغت روحك الحلقوم. ارجع إلى الآية (51) من نفس السورة؛ للبيان.

{وَقَدْ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{عَصَيْتَ قَبْلُ} : قبل الغرق، وطوال عمرك.

{وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} : الضّالين، الكافرين، المضلين، المتكبرين، المسرفين، المفسدين في الأرض بالقتل، والظلم، والطغيان.

ص: 134

سورة يونس [10: 92]

{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} :

{فَالْيَوْمَ} : وكان يوم عاشوراء؛ كما ذكر الإمام البخاري في صحيحه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون.

{نُنَجِّيكَ} : نخرجك من البحر حتّى لا يكون هناك شك في غرقك.

{بِبَدَنِكَ} : الباء: للإلصاق، والبدن: جسد بلا روح، ولا نفس.

{لِتَكُونَ} : اللام: لام التّعليل. لتكون: أنت.

{لِمَنْ خَلْفَكَ} : لمن بعدك.

{آيَةً} : عبرة، وموعظة، وعلامة على هلاكك، وحتّى لا يظن أحد أنّك نجوتَ من عذاب الله. قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعد غرقه وموته، طفت جثته على وجه الماء، وقيل: على نجوة من الأرض، وعليه ملابسه، ودرعه الّتي يعرفونها.

{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} : وإن: تفيد التّوكيد.

{كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} : كثيراً من الجن، والإنس.

{عَنْ آيَاتِنَا} : عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد. والآيات: البينات، والأدلّة، والآيات القرآنية، والكونية، والمعجزات.

{لَغَافِلُونَ} : اللام: للتوكيد، غافلون: جمع غافل: وهو ترك ذكر الشّيء عمداً، وعدم اليقظة، والتّفكير. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان.

ص: 135

سورة يونس [10: 93]

{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق.

{بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : أنزلناهم منزلاً كريماً. ارجع إلى الآية (87) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.

{مُبَوَّأَ صِدْقٍ} : قيل: هو بيت المقدس، أو فلسطين (الأرض المباركة).

{وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : الطيبات: جمع طيب: وهو الحلال الطاهر. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (69)؛ لمزيد من البيان.

{فَمَا اخْتَلَفُوا} : الفاء: استئنافية، ما: النّافية.

{اخْتَلَفُوا} : الاختلاف هنا في بني إسرائيل، كما قال ابن عباس: من كون بعضهم آمن بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم استمر في كفره، وأنكروا رسالته؛ فهم كانوا متفقين غير مختلفين الكلّ ينتظرون قدوم النّبي المنتظر.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : يحكم بينهم، وبين من آمن بمحمّد، وكفر به من أهل الكتاب.

{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، أو بأمور الدِّين، والسبت، وأخذهم الرّبا وقد نُهُوا عنه.

{فِيمَا} : ما: تستعمل للشيء غير المحدَّد؛ لتشمل كلّ اختلاف، وتستعمل للمفرد، والمثنى، والجمع، بعكس الّذي: الّتي تستعمل للشيء المحدد.

ص: 136

سورة يونس [10: 94]

{فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْـئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} :

أولاً: حاشا للنّبي أن يكون من الشّاكين، أو الممترين.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شك، ولم يسأل. قال صلى الله عليه وسلم:«لا أشك ولا أسأل» ، وإن كان الخطاب موجَّهاً للنّبي صلى الله عليه وسلم فهو موجَّه إلى كلّ من يشك في القرآن، وأنه الحقّ من ربك، سواء أكان من أتباع محمّد صلى الله عليه وسلم، أم غيره.

{فَإِنْ} : الفاء: استئنافية. إن: شرطية تستعمل للأمور الافتراضية، والّتي فيها شك في الحدوث.

{كُنْتَ فِى شَكٍّ} : الشّك: هو عندما تتساوى درجة الإثبات، ودرجة النّفي.

{مِمَّا} : مركبة من الاستغراقية، وما: تستعمل لذوات ما لا يعقل، وصفات من يعقل، وأوسع من حرف من، وأكثر إبهاماً، شيء مهما كان صغيراً، أو كبيراً.

{أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} : أنزلنا؛ تعني: جملة واحدة، أو دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر. الكتاب: القرآن.

{إِلَيْكَ} : إلى: تفيد عموم الغايات: البداية، الوسطى، النهاية؛ أيْ: لينتهي، أو يصل إلى أيدي النّاس، وعقولهم.

{فَسْـئَلِ} : الفاء: للتوكيد.

{الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} : التوراة، والإنجيل.

{مِنْ قَبْلِكَ} : هم اليهود، والنّصارى، أمثال: عبد الله بن سلام.

{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : لقد: اللام: لام التّوكيد، قد: للتحقيق.

{جَاءَكَ الْحَقُّ} : وهو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، والحق: يشمل القرآن، أو الوحي.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: النّاهية.

{تَكُونَنَّ} : النون: نون المخاطب، هنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي أمته، وحاشا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من الممترين.

{مِنَ الْمُمْتَرِينَ} : الممترين: من المراء: هو الجدال بالباطل بعد ظهور الحقّ، جمع ممترٍ: وهو الّذي يجادل بالباطل بعد أن تبيَّن له الحقّ.

ص: 137

سورة يونس [10: 95]

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{وَلَا} : الواو: عاطفة، ولا: النّاهية.

{تَكُونَنَّ} : ولم يقل: تكن، وإنما أكَّد بزيادة النّون في كلمة تكونن، والخطاب وإن كان موجَّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود به أمته، وكلّ من يكذب بآيات الله (القرآنية، أو الكونية، أو المعجزات، والبينات الدالة على عظمة الله ووحدانيته).

{كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : التّكذيب أقل درجة من الكفر، وحدد الكذب هنا بآيات الله، ولم يطلق الكذب ليشمل كلّ شيء.

{فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : في الدّنيا، والآخرة؛ الخاسرين لأنفسهم، وربما لأهليهم.

وفي هذه الآية حثٌّ على التّثبيت والعصمة، وعلى سبيل الإنذار.

ص: 138

سورة يونس [10: 96]

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} : وجبت وثبتت: حقت، جاءت بصيغة تدل على أنها وقعت رغم أنّها ستكون في المستقبل، والزّمن كله واحد عند الله: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لأنّه خالق الزّمن، والمكان.

{كَلِمَتُ رَبِّكَ} : قيل هي:

1 -

أنّهم أصحاب النّار.

2 -

وقد تكون: لأملأن جهنم من الجِنة، والنّاس أجمعين.

3 -

وقد تكون كلمة العذاب.

4 -

وقد تكون كلمة ربك: أنّهم لا يؤمنون.

{حَقَّتْ} : ثبتت، ووجبت على الّذين كفروا، وعلى الّذين سبقوا؛ لأنّهم هم اختاروا ذلك، وما حقت عليهم بقهر، وجبروت، أو بالظّلم.

{لَا يُؤْمِنُونَ} : لا: النّافية؛ تنفي كلّ الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

{لَا يُؤْمِنُونَ} : بالله، وآياته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.

وتقدير الحقّ سبحانه على أنّهم لا يؤمنون نابع من علمه الأزلي بحالهم، أنهم سيختارون طريق الكفر، ويموتون وهم على الكفر.

ص: 139

سورة يونس [10: 97]

{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.

{جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} : أيْ: مجيء الآيات، وتكرارها لن يفيدَهم، أو يهديهم إلى الإيمان.

{آيَةٍ} : بينة، أو دليل، أو برهان، أو آية قرآنية، أو كونية، أو معجزة؛ لأنّ الله سبحانه يعلم ذلك علماً أزلياً، ولم يفرض عليهم أن يؤمنوا.

فهم سيستمرون على كفرهم، وسيموتون وهم كافرون، ومن دون توبة.

{حَتَّى} : حرف غاية، ونهاية الغاية؛ أيْ: إلى حين يرون العذاب.

{يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} : عندها يؤمنون، ولكن إيمانهم هذا لن ينفعهم آنذاك، وفي ذلك المكان.

ص: 140

سورة يونس [10: 98]

{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} :

{فَلَوْلَا} : الفاء: عاطفة؛ لولا: أداة حضٍّ، وحثٍّ، وفيها معنى: النّفي، والتّوبيخ.

{كَانَتْ قَرْيَةٌ} : يعني: أهل قرية، والقرية تعني: الأهل، والمساكن، قرية ما: نكرة من القرى الّتي أُهلكت، واستؤصلت.

{آمَنَتْ} : قبل معاينة العذاب، أو مجيء بشائر العذاب، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينة، أو بدء وقوعه؛ لأنّه عندها لن ينفعها إيمانها لم تكن آمنت من قبل؛ أيْ: لن يقبل الله إيمانها، ولن يبدّل، أو يحوّل العذاب؛ فقد وقع القول عليهم؛ لأن القانون السّماوي، وهو سنة الله في أنَّ أيَّ قرية لا تؤمن إلّا حين نزول العذاب فلن تنتفع بإيمانها آنذاك.

واستثنى من كلّ القرى الّتي هلكت: قرية يونس عليه السلام ، قرية نينوى في شمال العراق، أو قوم يونس فهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب؛ فكشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدّنيا بعد أن تابوا بصدق، وندموا، وبعد أن تركهم يونس مغاضباً؛ أيْ: بعد أن أغضبوه، وقبل أن يؤمنوا؛ فتركهم من دون أمر إلهي، وأبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، وسنرى هذه القصة كاملة في سورة الأنبياء.

وبعد أن نبذه الله بالعراء، وأنبت عليه شجرة من يقطين، ثمّ أرسله إلى قومه الّذين آمنوا، وكانوا يزيدون على مئة ألف؛ فآمنوا.

{وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} : إلى أن جاء أجلهم.

{إِلَى} : حرف غاية، عموم الغايات.

أما لو قال: حتّى حين؛ لكان يعني: نهاية الغاية موعد موتهم.

ص: 141

سورة يونس [10: 99]

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} :

{وَلَوْ} : الواو: استئنافية، لو: شرطية.

{شَاءَ رَبُّكَ} : المشيئة: هي تسبق الإرادة.

ولو شاء ربك: مشيئة قسر، وإكراه؛ لفعل ذلك، ولآمن كلّ من في الأرض جميعاً، ولكنه سبحانه لم يشأْ، ولم يجبر إنسان على الإيمان.

{لَآمَنَ مَنْ} : اللام: للتوكيد؛ مَنْ: للمفرد، والجمع. مَنْ هنا: استغراقية؛ تستغرق كلّ إنسان، أو تشمل الجنس كلَّه.

{فِى الْأَرْضِ} : في: ظرفية مكانية، ولم يقل: على الأرض؛ لأنّ الغلاف الجوي المحيط بالأرض يعتبر تابعاً إلى الأرض.

{كُلُّهُمْ} : توكيد.

{جَمِيعًا} : لزيادة التّوكيد. إذن كلهم جميعاً: تأكيدان؛ لا يبقى معه أيُّ ريب.

{أَفَأَنْتَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وفيه معنى النفي، والتعجب.

{تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} : وذلك لشدّة حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمان كلّ إنسان.

{أَفَأَنْتَ} : نكرة: تجبر، وتقديم ضمير أنت يدلّ على عدم حصول الإكراه، وتقدير الكلام الّذي يقدر على إكراه؛ هو الله لا أنت.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} : وقد قال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} ؛ لأن الله سبحانه يريد إيمان اختيار، ومحبة، وليس إيمان إكراه، وقسر.

ص: 142

سورة يونس [10: 100]

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} :

{وَمَا كَانَ} : الواو: عاطفة، ما: نافية. كان: ما كان لنفس القدرة، والاستطاعة أن تؤمن.

{لِنَفْسٍ} : اللام: لام التّعليل.

{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد الاستقبال.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{بِإِذْنِ اللَّهِ} : بمشيئة الله وإرادته. والإذن: اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول، وتكون للعمل الذي ليس لنا فيه أي تدخل أو يد.

{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} : الرّجس في اللغة: اسم لكلّ ما استقذر من عمل حسياً، أو معنوياً، ويطلق على ما يُستقبح في الشرع؛ فيها مبالغة في ذمّ بعض الأشياء، وسمّاها الله سبحانه: رجساً. وبما أن فعل الرجس يؤدي إلى الإثم والذنب والضلال، وهذا بدوره يؤدي إلى العذاب؛ فالرجس قد يعني: العذاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لمزيد من البيان في معنى الرجس.

{عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} : لا يعقلون: الحجج، والدلائل، ومن يعقل الشّيء يعرفه بدليله، ويفهمه بأسبابه، ونتائجه. أمثلة لا يعقلون: أن الهداية، والإيمان بيد الله، ولا شيء يحدث إلا بإذنه؛ {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أو الظالمين، أو الفاسقين.

ص: 143

سورة يونس [10: 101]

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} :

بعد أن بيَّن الله سبحانه: أن الإيمان الّذي يدعو إليه سبحانه هو الإيمان الاختياري، وليس القسري، ومع ذلك لا يحصل الإيمان الاختياري إلا بمشيئة الله، وبإذنه.

وما على البشر إلّا أن ينظروا إلى ما حولهم في هذا الكون، وما في السّموات، والأرض من الآيات، والدلائل الّتي تشير إلى وحدانية الله، وعظمته وقدرته، والتي تدعو إلى الإيمان بالخالق، وعبوديته؛ فيقول سبحانه:

{قُلِ انْظُرُوا} : نظرة تفكر، واعتبار، نظرة بصرية، وقلبية معاً.

{مَاذَا} : أداة استفهام؛ تفيد المبالغة في الاستفهام بدلاً من قوله: ما في السّموات والأرض، ماذا في السّموات والأرض.

و {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : من الآيات الكونية: من النّجوم، والمجرات، والأقمار، والشموس، ودورانها، وحركتها.

والأرض وما فيها: من الجبال الراسيات، والأنهار، والبحار، والنباتات، والأشجار، والحيوانات.

{وَمَا تُغْنِى الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ} : وما: استفهامية؛ تفيد النّفي.

{الْآيَاتُ} : الكونية، والقرآنية، والمعجزات، والدّلائل، والبراهين.

{وَالنُّذُرُ} : جمع نذير: الرُّسُل. والنذر: مصدر لفعل أنذر.

{عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} : الجواب: لا تغني شيئاً، ولا فائدة منها لهؤلاء القوم، أو نعم؛ ما تغني شيئاً، ولا فائدة منها.

ص: 144

سورة يونس [10: 102]

{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} :

الخطاب موجَّه إلى كل الذين لا يؤمنون، والضّالين المكذبين بآيات الله بما فيهم مشركو مكة.

{فَهَلْ} : الفاء: للتوكيد. هل: استفهام؛ بمعنى: النّفي المشرب بالتّعجب، والاستنكار.

{يَنْتَظِرُونَ} : أيْ: يتوقعون أن يحدث لهم أو يصبهم إلا مثل ما أصاب غيرهم.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مِثْلَ أَيَّامِ} : وقائع، أو مصائب.

{الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} : أيْ: سبقوهم، ومضوا؛ مثل: قوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وشعيب؛ أيْ: ننجي رسلنا والذّين آمنوا، ونهلك المكذبين.

{مِثْلَ أَيَّامِ} : العرب تسمِّي، أو تقصد باليوم: الحدث البارز الّذي حدث فيه؛ مثل: يوم حنين، ويوم بُعاث، ويوم الخندق، ورغم أنّ اليوم هو ظرف زمني، ولكن يقصد به الحدث الّذي كان في مثل هذا اليوم في السّنين الماضية.

{قُلْ فَانتَظِرُوا} : الفاء: للتوكيد. انتظروا: ما سيحل بكم، أو انتظروا عذاب الله وعقابه، وفيه تهديد، ووعيد.

{إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} : ولم يقل: وأنا؛ إني: آكد من أنا؛ أيْ: أنا بكلّ توكيد سأنتظر معكم.

{الْمُنتَظِرِينَ} : المنتظرين لذلك اليوم.

ص: 145

سورة يونس [10: 103]

{ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب، والتّراخي الزمني.

{نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} : والذّين آمنوا، ولم يقل: والذّين آمنوا معهم؛ لأنّ الرّسل قد ينقطع إرسالهم، والذّين آمنوا فيمتد إرسالهم إلى يوم القيامة.

{كَذَلِكَ} : أيْ: مثل ما أنجينا، أو نجينا رسلنا السّابقين، ومن آمن؛ ننجي من يأتي بعدهم من الّذين آمنوا.

{حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} : حقاً: من الحقّ، والحقّ: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير؛ أيْ: كتبنا، أو الأمر الثّابت.

وقوله: {ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا} : عبَّر بصيغة المضارع بدلاً من الماضي؛ لاستحضار صورة نجاتهم من العذاب كأنّها تحدث الآن (حكاية الحال) وننجي: من أنجى؛ تدل على القصر في الزمن.

ص: 146

سورة يونس [10: 104]

{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِنْ دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :

{قُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : يا: أداة نداء، والهاء: للتنبيه.

{النَّاسُ} : الثقلين: الإنس، والجن.

{إِنْ} : شرطية للأمور الافتراضية، والنّادرة؛ بعكس إذا: للأمور الحتمية، والكثيرة الحدوث.

{فِى شَكٍّ مِنْ دِينِى} : الإسلام؛ هل هو حق أم باطل؟ والشّك حين تتساوى كفتي النّفي والإثبات.

{مِنْ دِينِى} : من: ابتدائية.

{فَلَا} : الفاء: للتأكيد؛ لا: النّافية لكلّ الأزمنة، وللجنس.

{أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : الأصنام، أو الشّركاء.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{وَلَكِنْ} : للاستدراك، والتّوكيد.

{أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ} : الّذي: اسم موصول؛ يفيد التعظيم.

{يَتَوَفَّاكُمْ} : وصفه بالتوفي؛ لأنّ التوفي لا يشك فيه أحدٌ، وهو الأمر المخيف، والمرعب الّذي لا مراء فيه، ولا شك، وفيه تهديد بـ (يتوفاكم)؛ حيث يأمر ملك الموت بقبض أرواحكم؛ فهو الّذي يجب أن يخاف، ويُتَّقى.

{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : ولم يقل: وأمرت أن أكون من المسلمين؛ لأنّ السّياق في الآيات السّابقة في سياق الإيمان.

ص: 147

سورة يونس [10: 105]

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

{وَأَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} : الخطاب موجَّه إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، وإلى كلّ فرد من أمته.

وإقامة الوجه يعني: الذّات (مجاز مرسل)، وإقامة الوجه تعني: التّوحيد، والإنابة، وإقامة الصّلاة، والتّقوى، والاستقامة على الصّراط المستقيم، والإخلاص.

{لِلدِّينِ} : اللام: لام الاختصاص.

{حَنِيفًا} : مائلاً بعيداً عن كلّ الملل، والخرافات، والمذاهب، والبدع.

{وَلَا} : الناهية.

{تَكُونَنَّ} : النون: لزيادة التّوكيد.

{مِنَ} : ابتدائية، استغراقية.

{الْمُشْرِكِينَ} : جمع مشرك: من اتخذ مع الله إلهاً آخر، أو أكثر.

ص: 148

سورة يونس [10: 106]

{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} :

{وَلَا} : الواو: عاطفة. لا: النّاهية.

{تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تعبد، أو تطلب العون.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{مَا} : لغير العقلاء، ولصفات العقلاء، وما: أوسع من: الّذي، وتعني: الشركاء من الأصنام، والأوثان، أو الكواكب، أو الأولياء، وعيسى، وعزير، والملائكة.

{مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} : ما: النّافية.

{يَنْفَعُكَ} : إن أطعته، ولا يضُرُّك إن عصيته.

وتكرار لا: تفيد تأكيد النفي؛ نفي النفع، ونفي الضّر، ونفي كلاهما.

{فَإِنْ} : الفاء: استئنافية. إن: شرطية؛ أيْ: فإن عبدت، أو دعوت غير الله سبحانه.

{فَعَلْتَ فَإِنَّكَ} : إذن من الظالمين. إنك: تفيد التّوكيد.

{إِذًا} : حرف جواب.

{مِنَ} : ابتدائية.

{الظَّالِمِينَ} : لأنفسهم بالشّرك. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

وقدّم النّفع على الضّر في هذه الآية؛ لأن سياق الآيات في الإيمان، والإيمان نفع للعبد؛ لأنّه يوصله إلى الجنّة، ورضوان الله.

ص: 149

سورة يونس [10: 107]

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه النّهي عن عبادة الأوثان، وأنّها لا تنفع، ولا تضر يُذكر سبحانه أنّ الله عز وجل هو الضّار، وهو النّافع وحده.

{وَإِنْ} : شرطية؛ تستعمل للأمر المشكوك في حدوثه، أو النّادر الحدوث.

{يَمْسَسْكَ اللَّهُ} : من المسّ، وهو الاتصال الخفيف اليسير؛ مجرد تماس شيء بشيء من دون إحساس بالشّيء.

{بِضُرٍّ} : الباء: للإلصاق، ضر بكره؛ أيْ: ضر مثل ألم الفقر، والمرض، وعدم الأمن، والفاقة.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: النّافية للجنس.

{كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} : كاشف: مزيل له، أو رافع له.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد، وتعود على الله سبحانه.

{وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} : وإن مثل: وإن يمسسك.

{يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} : أيْ: في المستقبل يردك بخير؛ مثل: الغنى، والصحة، والأمن، والرخاء، والعافية، والسكينة.

{بِخَيْرٍ} : الخير تعريفه: هو الحلال، الطّيب، النّافع، الحسن.

{فَلَا} : مثل الأولى.

{رَادَّ لِفَضْلِهِ} : لا دافع لفضله، أو مانع لفضله أحدٌ، أو لا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه.

{يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ} : وهو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : الغفور: صيغة مبالغة من الغفر؛ كثير الغفر؛ أيْ: لمن تاب، ولو كان ذنباً عظيماً؛ مثل الشرك؛ فإنه يتوب عليه.

{الرَّحِيمُ} : على وزن فعيل؛ صيغة مبالغة من الرحمة؛ كثير الرحمة لعباده المؤمنين.

لمقارنة هذه الآية، مع الآية (17) من سورة الأنعام:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : ارجع إلى سورة الأنعام؛ لمعرفة الفرق بينهما.

ص: 150

سورة يونس [10: 108]

{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} :

{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : ارجع إلى الآية (104).

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.

{جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ} : أي: القرآن العظيم، وهو الحقّ؛ أي: الّذي لن يتغيَّر، أو يتبدَّل، أو الإسلام.

{فَمَنِ اهْتَدَى} : الفاء: عاطفة، من: شرطية؛ تفيد الابتداء.

{اهْتَدَى} : اختار طريق الإيمان، والإسلام، واتبع منهج الله، اهتدى إلى الحقّ.

{فَإِنَّمَا} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط، إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يَهْتَدِى} : فعل مضارع؛ يدلّ على التّجدد، والتّكرار، والاستمرار.

{لِنَفْسِهِ} : أيْ: ثواب الاهتداء، والنفع من جراء الاهتداء يعود به على نفسه بشكلّ مستمر. اللام: لام الاختصاص، أو الاستحقاق؛ فالاهتداء لصالح نفسه.

{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} : مثل: فمن اهتدى؛ فإنما يهتدي لنفسه.

وهناك فرق بين لنفسه، ويضل عليها؛ استعمل عليها (على تعني: الاستعلاء، والشدة)؛ أيْ: عاقبة الضّلال تقع على نفسه وليس لصالح نفسه.

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} : ما: النّافية؛ أيْ: ما أنا الموكل إلى أمركم، أو المتولي بتدبير شؤونكم، أو المحامي، أو المدافع عنكم الّذي يمنع عنكم العذاب، أو الهلاك.

{بِوَكِيلٍ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد.

ص: 151

سورة يونس [10: 109]

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} :

{وَاتَّبِعْ} : ما أنزل عليك، وأوحاه الله إليك، وتمسك به؛ بالامتثال، والتّبليغ. ولمعرفة معنى الوحي: ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{مَا} : تشمل كلّ ما أوحى الله إليك.

{وَاصْبِرْ} : على دعوتك، وعلى أذى قومك، وعلى ما أصابك. والأمر بالصبر: يدلّ على أن هناك عقباتٍ كثيرةً قادمةً، واصبر حتّى تكون قدوة لغيرك من الدعاة.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية؛ حتّى نهاية الدّعوة، أو حتّى يأتيك اليقين؛ أي: الموت.

أو {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} : يفصل الله بينك وبينهم بالنّصر، والظّفر، أو يُظهر دينه.

{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} : هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} : أحكم الحاكمين؛ أحكم من حكم؛ أيْ: له الحكم، والأمر، والقول، والفصل؛ يحكم، ويقضي، ويفصل بين العباد، والأمم، والحق، والباطل، وهو خير وأفضل من حكم؛ لأنّه سبحانه يعلم الظواهر، والسرائر، وما يفعله خلقه، وأحكم من الحكمة؛ أيْ: أنت أحكم الحكماء.

ص: 152

سورة هود [11: 1]

سورة هود

ترتيبها في القرآن (11)، وترتيبها في النّزول (52) نزلت بعد سورة يونس.

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} :

{الر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة؛ للبيان.

{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : كتاب: هو القرآن، كتاب: التنكير للتفخيم، والتعظيم.

{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : آياته محكمة، متقنة؛ أيْ: نظمت آياته بشكل محكم:

1 -

محكمة لا تناقض فيها، ولا خلل، ولا لبس.

2 -

ومحكمة غير متشابهة؛ فلا تحتاج إلى تأويل.

3 -

ومحكمة موجزة غير مفصلة.

4 -

محكمة في النّظم، والبلاغة.

5 -

محكمة غير منسوخة.

{ثُمَّ فُصِّلَتْ} : ثمّ: هنا ليست للترتيب، والتّراخي في الزّمن، وإنما تعني: الحال؛ فمعنى كتاب أحكمت آياته، ثمّ؛ أيْ: في الحال (في نفس الوقت) فصلت آياته على أحسن التفصيل، أو تعني: التّرتيب في الذّكر؛ أي: التّرتيب التّسلسلي؛ أيْ: بالتّعاقب، أحكمت، ثمّ فصلت. فصلت آياته أدق التّفاصيل في اللفظ، والمعنى، أو فصلت؛ تعني: فسرت، ووضحت، أو فصلت بالحلال، والحرام، والثّواب، والعقاب، والوعد، والوعيد.

{مِنْ لَّدُنْ} : من الابتدائية.

{لَّدُنْ} : ظرف مكان، أو زمان؛ بمعنى عند، ولم يقل: من عند؛ لأنّ لدن أبلغ من كلمة عند، وأقرب، ولدن: مشتقة، أو مأخوذة من اللدانة، أو اللدونة؛ أي: الليونة، أو التّلدن معناها التّمكث، أو التّريث الدّال على الحكمة في صياغة الآيات.

{حَكِيمٍ} : تعني: الحاكم، الحاكم لخلقه، وكَوْنِهِ؛ أيْ: أعدل، وأقسط الحكام، والقضاة، أو الحاكم من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء في خلقه، وشرعه، وكونه، والحكمة: من معانيها إحسان القول، والعمل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ لمزيد بيان في معنى حكيم.

{خَبِيرٍ} : الّذي يعلم بواطن الأمور، والأسرار، وما تخفي الصدور.

ص: 153

سورة هود [11: 2]

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} :

{أَلَّا} : أصلها: أن: المصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد، ولا: النّاهية، أو النّافية.

{تَعْبُدُوا} : من العبادة، والعبادة: لا تكون إلا للخالق، وهي الخضوع للمعبود، وطاعته فيما أمر، أو نهى عنه، ولا تكون إلّا مع العلم، والمعرفة بالمعبود، والعبادة تشمل كلّ قول طيب، وعمل صالح، ولها جزاء.

{إِلَّا اللَّهَ} : إلا: أداة حصر، وبهذا ننفي العبادة لغير الله سبحانه وتعالى .

وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} : فيها نفي: أن هناك إلهاً غير الله، وإثبات الألوهية لله وحده.

{إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ} : إنني: فيها توكيد بزيادة النّون، مقارنة بقوله: إني؛ ليؤكد قوله: إنني لكم.

{مِّنْهُ} : من الحكيم الخبير؛ مرسل إليكم نذير وبشير.

{نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} : نذير للعاصين، وبشير للطائعين. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ لبيان البشارة، والنذارة.

وقدَّم النّذير على البشير؛ لأنّ جوَّ السّورة، والسّمة فيها هي الإنذار؛ لأنّها تتحدَّث عن أقوام أُهلكوا مثل: قوم نوح، وعاد، وثمود، ولوط. وعن يوم القيامة، وقد يكون تقديم الإنذار لقوله تعالى:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} .

وهذه الآية تبيِّن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير وبشير، وفي سورة فصلت، آية (4) تبيِّن أن القرآن كذلك بشير ونذير:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} .

ص: 154

سورة هود [11: 3]

{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} :

{وَأَنِ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} : من الكفر، والشّرك، والمعاصي، او الذّنوب، استغفروا ربكم: اطلبوا منه المغفرة، والغفر: هو السّتر والعفو.

{ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : ثم: تفيد التّدرج التّسلسلي، أو التّعاقب، ولا تفيد التّرتيب، والتّراخي في الزّمن؛ لأنّ التّوبة مطلوبة مباشرة، والتّوبة تعني: الإقلاع عن الذّنب، وعدم الرّجوع إليه، والنّدم عليه، والإكثار من العمل الصّالح، والنّوافل، وإعادة الحق إلى صاحبه، وهناك توبة الإنابة من دون ارتكاب الذّنب، وهناك التّوبة من الذّنب.

وقدم الاستغفار على التوبة؛ لأن الاستغفار يعني: الاعتراف بالذنب أولاً.

{يُمَتِّعْكُم مَتَاعًا حَسَنًا} : المتاع: هو ما ينتفع به، وما يُتمتع به، ويطلق على القليل، والكثير؛ مثل: السّعة في العيش، والرّزق، والطّعام، والشّراب، والمسكن، والملبس، والأداة، والسّلعة. المتاع الحسن: الطّيب الحلال.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : هو الموت، مسمَّى محدَّد لا يتبدل، مسمَّى في اللوح المحفوظ، أو أم الكتاب، والأجل: هو الوقت المضروب لانقضاء الشّيء، وأجل الإنسان: هو الوقت المضروب لانتهاء حياته.

أمّا العمر: وهو الأجل، ولكن يمكن أن يزداد، أو ينقص إذا شاء الله، وهذا يدل عليه قوله:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِى كِتَابٍ} [فاطر: 11]. ارجع إلى سورة فاطر؛ لمزيد من البيان.

{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ} : ويؤتِ: من الإيتاء: وهو العطاء الّذي ليس فيه تملك؛ بينما العطاء فيه تملك، والإيتاء: أعمّ؛ يشمل: الأشياء الحسية، وغير الحسية. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ويؤت؛ أي: الله سبحانه كلّ ذي فضل فضله، يؤت: كلّ عامل، أو مؤمن، أو محسن ثواب، أو أجر عمله، أو إحسانه.

{ذِى فَضْلٍ} : صاحب فضل، والفضل: هو الزّيادة على الأجر المستحق. ارجع إلى الآية (268) من سورة البقرة؛ لبيان الفضل.

{وَإِنْ تَوَلَّوْا} : أصلها: وإن تتولوا؛ إن: شرطية؛ تستعمل في الأمر المحتمل حدوثه. وإن تولوا: تعرضوا عن الإيمان، أو تبتعدوا عنه، أو تتهاونوا في العبادة، وتقصروا في طاعة الله؛ فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير.

وهناك فرق بين تولوا، وتتولوا:

تولوا: تستعمل في قلة التّولي عن الإيمان، وطاعة الله، كما يحدث لبعض المؤمنين.

أما تتولوا: كما في قوله تعالى: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} الآية (52) من نفس السورة؛ فتدلّ على كثرة التّولي، والإعراض، كما يحدث في تولي الكفرة، أو شدة التّولي.

{فَإِنِّى} : الفاء: للتوكيد، إني: لزيادة التّوكيد.

{أَخَافُ عَلَيْكُمْ} : الخوف: وهو توقع الضّرر مع الشّك بوقوعه.

{عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} : كبير وصف لليوم، ويوم كبير: يوم القيامة، ونكَّرهُ؛ للتّهويل، والاستعداد له، كبير في أحداثه؛ حيث تضع كلّ ذات حمل حملها، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى

وغيرها من الأحداث الجسام.

ص: 155

سورة هود [11: 4]

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} : إلى: جار ومجرور، ولفظ الجلالة: تقديمه في الآية؛ ليدلّ على الحصر؛ فقط إلى الله وحده مرجعكم لا إلى غيره، بالموت، ثمّ بالبعث، والحشر.

ولم يقل جميعاً كما قال تعالى في الآية (105) من سورة المائدة، وهي قوله تعالى:{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} المخاطب في آية المائدة المؤمنين والكافرين؛ جميعاً: أيضاً تستعمل إذا كان السّياق، أو المخاطب طوائف مختلفة، أقوام مختلفة، يهود، نصارى، وقوله تعالى:{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} بدون جميعاً تعني: المخاطب جهة واحدة، أو فئة معينة من النّاس، أو طائفة واحدة هي طائفة المسلمين.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : شيء: نكرة؛ تعني: قدير على أيِّ شيء مهما كان نوعه، وحجمه، وصفته، ولا يعجزه أيُّ شيء في السّموات، ولا في الأرض.

{قَدِيرٌ} : صيغة مبالغة من قادر. ارجع إلى سورة التغابن، آية (1)؛ لمزيد من البيان.

ص: 156

سورة هود [11: 5]

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

{أَلَا} : أداة استفتاح، وتنبيه، وإيقاظ من هو غافل؛ لئلا يفوته ما سُيذكر من الآيات.

{يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} : يثنون: من ثنى الثّوب؛ أيْ: طواه عدَّة مرات ربما ليُخفي ما فيه من عيب؛ قد تعني: يخفون ما في صدورهم من العداوة، والحقد للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويظهرون له المحبة والمودة، أو ينحرفون، ويعرضون بصدورهم حين يمرون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحاولون أن يتواروا عنه خوفاً من أن يدعوهم للإيمان، أو الإسلام.

{لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} : اللام: للتّعليل؛ أيْ: يريدون الخفاء.

أيْ: من الله تعالى، أو تعود على الرّسول صلى الله عليه وسلم.

{أَلَا} : أداة للتّنبيه.

{حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} : الثياب: المتنوعة التي تغطي البدن كله، وهي الخارجية، أما ما يغطي العورة والجسم مباشرة تسمى اللباس؛ أي: حين يبالغون في الاستخفاء كالّذي يستغشي ثيابه؛ أيْ: يتغطَّى بها حتّى لا يظهر منه شيء.

{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : الإسرار يكون في النّفس، والإخفاء أشد من الإسرار (يعلم السّر وأخفى)، وتكرار ما يفيد التّوكيد؛ أيْ: يعلم كلَ ما يسرون على حِدَةٍ، وما يعلنون على حِدَةٍ، أو كلاهما.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من عالم كثير العلم.

{بِذَاتِ} : ذات تفيد الصّحبة.

{بِذَاتِ الصُّدُورِ} : الأمور المصاحبة للصدور، أو السّاكنة فيها. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (119)؛ لمزيد من البيان.

ص: 157