المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة هود [11: 6] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ١٢

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة هود [11: 6]

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} :

{وَمَا مِنْ} : الواو: استئنافية؛ ما: النّافية؛ من: استغراقية تشمل كلّ دابة بلا استثناء؛ من: للمفرد، والجمع.

{دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ} : وقيل: دابّة: هو كلّ ما دبّ على الأرض (شيء) من إنسان، وحيوان، وقيل: دابة اسم فاعل، ويغلب على غير العاقل. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (60) لبيان معنى دابة، وهل تشمل الإنسان أم لا.

{فِى الْأَرْضِ} : ولم يقل: على الأرض؛ لأنّ الغلاف الجوي حول الأرض يعتبر من الأرض، فكلمة في الأرض تشمل على الأرض، وفي باطن الأرض.

{إِلَّا عَلَى اللَّهِ} : إلّا: أداة حصر.

{عَلَى اللَّهِ} : تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة: يدلّ على الحصر من دون استثناء؛ أيْ: أنّ الله هو الرّزاق لا غيره.

{رِزْقُهَا} : من طعام، وشراب.

{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} : المستقر: اسم مفعول يدلّ على اسم مكان، واسم زمان يعلم زمن استقرارها، ومكانها، وقيل: يعلم مستقرَّها قبل أن تأتي الأرض، أو أين تستقر في الأرض، أين تعيش، وتسكن، وقيل: المستقر؛ يعني: في الأصلاب، أو في الأرحام قبل أن تولد.

{وَمُسْتَوْدَعَهَا} : مكان موتها، وفنائها، أين ستموت، وتهلك، وتتحلل أجزائها (أيْ: أين تدفن)، أو بالعكس.

مستودعها: قد يعني: قبل مجيئها إلى الأرض، والزمن، ومستقرها: بعد أن تستقر على الأرض؛ أين، ومتى إلى أن تموت، وبعد موتها مكاناً وزماناً.

{كُلٌّ} : تشمل كلّ دابّة، والرّزق، والمستودع، والمستقر.

{فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} : الكتاب المبين: هو اللوح المحفوظ؛ مدوَّن في اللوح المحفوظ، ومدوَّن في السّطور. المبين: الواضح، ظاهر لكلّ ملك من الملائكة، ولكلّ من يقرؤه بفهم وتدبُّر، والمبين: المظهر لنفسه، ولكلّ شيء يحتاج معرفته.

ص: 1

سورة هود [11: 7]

{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

{وَهُوَ الَّذِى} : هو: ضمير فصل تفيد التّوكيد، والحصر، الّذي: اسم موصول؛ يفيد التّعظيم.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} : وقد بيَّن كيفية هذا الخلق في سورة الأنبياء، آية (30)، وفي سورة فصلت، الآية (9-12)، وسورة الأعراف، آية (54)، وسورة البقرة، آية (22، 29).

ولماذا لم يتم الخلق بكلمة (كن)؟

لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.

قد تكون للدّلالة على عظمة وطلاقة قدرته سبحانه، ولكي يُمكن الإنسان من اكتشاف الحقائق العلمية، واستخدامها كآيات دالة على وجود، وعظمة الخالق، والقدرة على إعمار الأرض، والعيش عليها.

{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} : قبل خلق السّموات، والأرض.

{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} : يندرج تحت الإيمان بالغيب، والخوض في كيف كان عرشه على الماء، لا يأتي بثمرة، بل نؤمن به، كما أخبرنا سبحانه وتعالى، وعلّمنا سبحانه: أنّ العرش أعظم من خلق السّموات، والأرض، وخلق السّموات، والأرض أعظم من خلق النّاس، وما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة. رواه أبو ذر الغفاري. أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة.

فهو صاحب العرش؛ أي: المالك، والحاكم.

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} : اللام: لام التّعليل، خلق السّموات والأرض لكم؛ لكي تتمكنوا من العيش في الأرض، وبالتّالي ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ولكي يبلوكم لا بُدَّ من إيجاد كوكب تستطيعوا العيش فيه، و {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، والله سبحانه ليس بحاجة أن يختبر، أو يبتلي عباده؛ فهو سبحانه يعلم منذ الأزل نتيجة الابتلاء، وهذا الابتلاء ليبيِّن لهم أنفسهم نتيجة ابتلائهم.

{وَلَئِنْ} : الواو: استئنافية؛ لئن: اللام: لام التّوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال، والنّدرة.

{قُلْتَ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم لأولئك الكافرين المنكرين للبعث والحساب أنكم:

{مَّبْعُوثُونَ} : أيْ: ستبعثون من بعد الموت، وستحاسبون على أعمالكم.

{لَيَقُولَنَّ} : اللام: لام التّوكيد، وكذلك نون النّسوة زيادة في التّوكيد.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (6)؛ لبيان معنى الكفر.

{إِنْ} : حرف نفي أشد نفياً من: ما؛ أيْ: ما هذا.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب، وتعني: هذا الّذي تقوله.

{إِلَّا} : حصراً.

{سِحْرٌ مُبِينٌ} : سحر: مجرَّد تخيُّل وحيل، وليس حقيقة.

{مُبِينٌ} : سحر ظاهر لكلّ إنسان، وسحر مظهر لنفسه لا يحتاج إلى أحد أن يبرهن، أو يدلل أنّه سحر.

ووصفوه بالسّحر؛ لأنّهم رأوا تأثيره القوي في الأنفس، أو كونه غريباً خارقاً للعادة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (102)، وطه، آية (58)؛ للبيان.

ص: 2

سورة هود [11: 8]

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَلَئِنْ} : ارجع إلى الآية السّابقة (7).

{أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} : أجلنا عنهم العذاب، ولم نعاقبهم، ولم نستأصلهم مباشرة، ونُهلكهم، وأخّرنا عنهم العذاب.

{إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} : الأمة تعني: الحين، أو فترة من الزّمن.

{مَّعْدُودَةٍ} : تفيد القلّة، وتعني: محدَّدة معلومة؛ أيْ: إلى أجل معلوم.

{لَيَقُولُنَّ} : اللام: للتوكيد. يقولن: والنّون في يقولن؛ لزيادة التّوكيد.

{مَا يَحْبِسُهُ} : ما: اسم استفهام؛ يحبسه؛ أيْ: ما يمنع نزوله كأنهم يكذِّبونه، ويستبعدون نزوله بهم، أو يستهزئون به.

{أَلَا} : أداة تنبيه، وتوكيد.

{يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} : أيْ: ليس منصرفاً عنهم؛ أيْ: لا ينقطع، أو يهدأ، أو يتوقف، أو يخفُّ.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : أيْ: نزل وأحاط بهم من كلّ جانب، حاق: فعل ماض؛ أي: اعتبره وقع، وحصل رغم أنّه قادم في المستقبل؛ لأنّ الزّمن الماضي، والحاضر، والمستقبل كلّها متساوية عند الله؛ لأنّه هو خالق الزّمن. ارجع إلى سورة غافر آية (45) لمزيد من البيان والفرق بين حاق ونزل.

{مَا} : اسم موصول، أو مصدرية.

{كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : الباء: للإلصاق، وتفيد السّببية؛ أيْ: بسبب، أو بدل ما كانوا به يستهزئون؛ بسبب استهزائهم بالعذاب، وعدم تصديقهم بوقوعه.

ص: 3

سورة هود [11: 9]

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَـئُوسٌ كَفُورٌ} :

{وَلَئِنْ} : ارجع إلى الآية (7).

{أَذَقْنَا} : من ذاق؛ أيْ: شعر بطعم الطّعام؛ أيْ: مجرد الشّعور بالطّعم، وليس الأكل، ويستعمل الذوق مجازاً في إدراك غيره من الأشياء المعنوية؛ كالرّحمة، والنّعمة، والعذاب، وذوق الرّحمة يدلّ على لذة التّمتع بها بأقلّ حالاتها، فما بالك إذا تجاوز ذلك.

وكلمة ذاق: تستعمل في الشّيء المحبوب، أو المكروه؛ مثل: الرّحمة، أو العذاب، أو الخير، أو الشّر، وتصح للكثير، والقليل، والشّديد، والخفيف، واللسان أداة الذّوق، ويقسم إلى مناطق خاصة بالطّعم الحامض، والحلو، والمالح، والمر، وشبه الرّحمة هنا بالطّعام الّذي يذاق.

{مِنَّا رَحْمَةً} : الرّحمة بشكل عام تعني: كلّ ما يجلب ما يَسرُّ، ويدفع ما يَضرُّ.

أي: الإنعام على العبد مثل: سعة العيش، والصّحة، والأمن، والغنى. نحن هنا أمام سؤالين:

الأوّل: لماذا قدَّم منا على رحمة، ولم يقل رحمة منا؛ أي: التّأخير، أو التّقديم

والثّاني: قال: منا، ولم يقل: من عندنا، أو من لدنا.

الجواب على السّؤال الأوّل: إنّ السّياق في هذه الآية، وغيرها على قدرة الله سبحانه في خلق السّموات والأرض، والبعث، والإذاقة، وكلّ دابة على الله رزقها، فقدَّم (منا)، ولو كان السّياق في الرّحمة؛ كما ورد في سورة فصلت الآية (50){وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} ؛ لقدَّم الرّحمة.

الجواب على السّؤال الثّاني: منا، وليس من عندنا؛ (منا): يستعملها القرآن للمؤمن والكافر، وكلّ الخلائق؛ (من عندنا): هي أخص يستعملها عندما تخص المؤمن غالباً، أمّا من لدنا: فهي أخصُّ، وأقرب مقارنة من عندنا، وتستعمل للمحسن، أو أولياء الله، وأنبيائه.

{ثُمَّ} : للترتيب، والتّراخي الزّمني؛ نزعناها بعد فترة طويلة.

{نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} : سلبناها إياه، أو حرمناه إياها، أو أخذناها منه، ونزعناها: تدل على شدة الأخذ؛ أي: الأخذ بقوَّة، وشدة وإكراه؛ لأنّه يتمسك بها بشدة، ولا يريد التّخلي عنها، ويحرص عليها؛ فلا بُدَّ من استعمال النّزع بدل الأخذ.

{إِنَّهُ لَيَـئُوسٌ كَفُورٌ} : إنّه: إنّ: للتوكيد.

{لَيَـئُوسٌ} : اللام: لزيادة التّوكيد، يؤوس: صيغة مبالغة من اليأس؛ أيْ: يظل يائساً، واليأس: هو انقطاع الأمل في الشّيء، والإنسان لا يقطع الأمل في الله إلا إذا كان كافراً، والمؤمن لا ييْئَس من رحمة الله.

{كَفُورٌ} : من كفر، ويكفر: صيغة مبالغة من الكفر؛ أيْ: كثير الكفر؛ أيْ: كثير الجحد، والسّتر؛ لأنّ الكفر: هو أصلاً السّتر، وكفور: قد تعني: قليل الشّكر.

وفي سورة فصلت، الآية (49) قال سبحانه:{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَـئُوسٌ قَنُوطٌ} : والقنوط: أشد حالات اليأس، وهو حالة خاصة من حالات اليأس.

وأمّا الفرق بين أنعمنا، وأذقنا:

فأذقنا: قد تكون في الخير، أو الشّر.

أمّا إذا أنعمنا: فالإنعام فقط يكون في الخير.

وكلمة أذقنا، أو أذقناه: يصاحبها دائماً كلمة رحمة، أو نعماء في كلّ القرآن، وقد تخص الإنسان، أو النّاس.

أما كلمة ذوقوا: فيصاحبها ذكر العذاب، أو تعملون، أو تكسبون، أو تمكرون

ص: 4

سورة هود [11: 10]

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّى إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} :

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} : ارجع إلى الآية (9).

{نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} : النّعماء: وردت هذه الكلمة فقط في هذه الآية، وهي هنا مقابل الضراء؛ فالإنسان إما في نعماء، أو في ضراء؛ النّعماء: مأخوذة من النّعمة: بفتح النّون، والنّعمة هي اسم مرة، والنّعماء لا يراد بها هنا ذكر النّعم الكثيرة، بل يراد بها الإشارة إلى جنس النّعم، وصفتها.

ولماذا اختار كلمة النّعماء بدلاً من النّعمة؛ لأنّ النّعماء تظهر على صاحبها، أمّا النّعمة فقد تظهر، وقد لا تظهر، سواء بالبصر، أم الكلام.

نعماء بعد ضراء: الضّراء، والمضرة الّتي تكون ظاهرة على الشّخص؛ من الضّر: وهو الشّيء الّذي يؤلم النّفس، ويضر بها؛ أيْ: أذقناه نعماء بدلاً من الضّراء.

{مَسَّتْهُ} : والمس: أقل اللّمس، أو الإدراك، أو الدّرجة في الإصابة.

{لَيَقُولَنَّ} : اللام: لام التّوكيد؛ يقولن: مضارع فيه توكيد بالنّون.

{ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّى} : ولم يقل: ذهبت السيئات عني في اللغة يجوز التذكير والتأنيث، وجاء بالتذكير هنا يعني أثر السيئات؛ أي: العذاب؛ أي: ذهب أثر السيئات (العذاب) عني ولم يحمد ويشكر الله؛ ليقولنّ: ذهب السّيئات: جمع سيئة، وهي كلّ ما يسيء إلى النّفس؛ أيْ: زال وذهب عني البؤس، أو الفقر، والضّر، والخوف، وعدم الأمن، والمرض؛ اكتفى بذكر النّعماء، ولم يذكر المنعِم.

{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} : إنّه: إنّ: للتوكيد؛ لفرح: اللام: لزيادة التّوكيد، فرح: كثير الفرح، وهذا الفرح من الفرح المذموم، ويعني البطر. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لمزيد من البيان في معنى الفرح وأنواعه.

{فَخُورٌ} : صيغة مبالغة من الفخر؛ كثير الفخر، والفخر: نوع من التّكبر على النّاس بالقول؛ أيْ: يُزكي الإنسان نفسه، ويمدح نفسه، ويثني عليها، ويأتي في مقام الذّم.

انتبه إلى كلمة نِعمة: وردت بالإفراد، وكسر النّون في (47) آية في القرآن، وتعني: الرّحمة، ومضافة إلى الله، وهي شيء حسن، وخير، ووردت كلمة نَعمة: بالإفراد، وفتح النّون في آيتين فقط، وجاءت في سياق النّعمة، والرّفاهية المذمومة، أو الرّخاء المذموم.

فهي تدل على شيء مذموم، أو ترد في سياق الذّم؛ كقوله تعالى في سورة المزمل، آية (11):{أُولِى النَّعْمَةِ} ، وسورة الدخان، آية (27):{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} .

ص: 5

سورة هود [11: 11]

{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} :

{إِلَّا الَّذِينَ} : إلا: أداة استثناء. الّذين: اسم موصول.

{صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : صبروا على الابتلاءات الّتي ذكرها الله في الآية (9)، ولم ييْئَسوا من رحمة الله تعالى، وكذلك الصّبر على تجنب المعاصي، والصّبر على الطّاعات.

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفروض، والنّوافل، وأطاعوا الله، ورسوله في: افعل، ولا تفعل.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب، وتشير إلى منزلتهم العالية.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق، هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{مَّغْفِرَةٌ} : من الغفر: وهو ستر الذّنب، ومحيه؛ أي: العفو، وكذلك إثابتهم على أعمالهم الصّالحة.

{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : هناك الأجر العظيم، والكريم، والكبير، وغير ممنون.

أجر كبير: على الصّبر، وعمل الصّالحات من الله العلي الكبير.

وحذف كلمة الّذين آمنوا في هذه الآية؛ لأنّ العمل الصّالح لا يقبل إلا مع الإيمان؛ فاكتفى بذكر عملوا الصّالحات، والصّبر نصف الإيمان أيضاً.

ص: 6

سورة هود [11: 12]

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} :

{فَلَعَلَّكَ} : الفاء: استئنافية؛ لعلك: استفهام فيه معنى التّحذير، والنّهي والأصل في لعل: للترجي المتوقع.

{تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} : أيْ: تتردَّد، ولا ترغب في تلاوة بعض الآيات على أهل مكة من المشركين، أو تبليغهم إياها؛ مخافة إعراضهم، وإنكارهم، واستهزائهم بالآيات الّتي تتعلَّق بأمر الآلهة، والتنديد بها، وبعبادتهم إياها.

{وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} : ضائق: اسم فاعل يدل على ضيق عارض أو عابر، ويعني: الشعور بالحرج، وانقباض في الصدر لعدم سماعهم لآيات القرآن والإعراض عنه، أو أن يقولوا منكراً من القول وزوراً.

{بِهِ} : تعود على القرآن.

مخافةَ {أَنْ يَقُولُوا} : أن: للتّعليل، والتّوكيد؛ لئلا يقولوا، أو كراهة أن يقولوا.

{يَقُولُوا} : جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار في أسئلتهم الّتي لن تنتهي.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ، وتمنٍّ، وحثٍّ.

{أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} : الكنز: هو المال المجمع، والمدخر، والكنز: يعني: الذّهب، أو الفضة، والكنز: يعني: المال المخفي.

{أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} : أو: للتخيير، جاء معه ملك: من الملائكة، ولم يحدِّدوا شكله، ملك ينزل على صورة بشر، أو ملك يأتي بأجنحته، وعلى صورة ملك من الملائكة، وإذا نزل بصورة بشر كيف سيعرفون أنّه ملك، وعندها يشكُّون في أمره، وماذا لو أنزلنا معك ملك، أو أنزلنا عليك كنز، ولم يؤمنوا ماذا سيحدث لهم، وقد ردّ الله سبحانه على سؤالهم هذا في سورة الأنعام، آية (8-9). {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8].

فلا تدعْ ذلك يجرك إلى ترك بعض ما يوحى إليك من ربك، أو تركن إليهم شيئاً قليلاً طمعاً في إيمانهم، بل اصبر على دعوتك، وما أرسلت به، ولا يضيق صدرك بما يقولون، والأصل في التّقدير: أن يحدث ضيق الصّدر أوّلاً، ثمّ التّرك ثانياً؛ أيْ: ضائق به صدرك: تارك بعض ما يوحَى إليك؛ فقدَّم التّرك على ضيق الصّدر؛ لأنّ أمر التّبليغ والدّعوة بشكل كامل أهم من ضيق الصّدر، ولذلك جاء بكلمة ضائق به صدرك، وضائق اسم فاعل يدل على ضيق مؤقت، وعارض.

إذا حدث وضاق صدرك بما يقولون فهذا أمر مؤقَّت، أو أمر عارض سيزول سريعاً.

ولو قال بدلاً من ضائق به صدرك: ضيِّق به صدرك؛ لدلَّ ذلك على أنّ ضيق الصّدر صفة ثابتة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس صحيح.

وانتبه إلى قوله: ضائق به صدرك أن يقولوا، ولم يقل: وضائق بما يقولون صدرك؛ فقد قدَّم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوالهم؛ لأن صدر الرّسول صلى الله عليه وسلم هو أهم مما يقولون.

وكذلك جاء بكلمة (تاركٌ): بالتّنوين، وليس (تاركُ) بالضّم؛ لأنّ (تاركٌ) بالتّنوين: يدل على اسم الفاعل، وتعني: في الحال، والمستقبل؛ بينما تاركُ: تدل على أنّ التّرك حدث، وانتهى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً لم يبلِّغه، فجاء بصيغة الحال، والمستقبل؛ أي: احذر أن تترك بعض ما يوحَى إليك من ربك في الحال، والمستقبل؛ كقوله:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].

{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} : إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد. نذير: من الإنذار، وهو الإعلام مع التّحذير، والتّرهيب. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ للبيان.

وليس عليك واجب الرّد على أسئلتهم، أو اقتراحاتهم، ولم يقل: إنما أنت نذير، وبشير، أو بشير، ونذير؛ لأنّهم ليسوا من أهل البشارة؛ حين يقولون تلك الأقوال الدّالة على تكبُّرهم وعنادهم، فلا يهمك إذا استجابوا، أم لم يستجيبوا إنما أنت نذير.

{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} : والله سبحانه المتولي، والمدبر لكلّ أمر، وشيء، والحافظ، والمعين، والقائم بأمور العباد، وتقديم على كلّ: تفيد الحصر، والقصر؛ فهو الوكيل على كلّ شيء، ولا أحد غيره.

الفرق بين كلمة ضائق، ويضيق صدرك، ولا تك في ضيق مما يمكرون:

أوّلاً: كلمة ضائق به صدرك: ضائق اسم فاعل (قاعدة: وإذا أردت الأمر العارض استعملت اسم الفاعل)، إذن: ضائق تعني: ضيق عارض، بسبب موقف ما عارض، أو موقف معين، أو مرحلة معينة.

ثانياً: كلمة ضيق: صفة مشبهة تدل على الثّبوت، والدّوام وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ضيق الصّدر؛ فقد شرح الله صدره؛ فقال:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].

ثالثاً: واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن ولا تك في ضيق مما يمكرون؛ أيْ: لا يضيق صدرك بأدنى الضّيق، وهنا تدل على درجة الضّيق؛ بسبب ما يمكرون.

ص: 7

سورة هود [11: 13]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{أَمْ} : المنقطعة: للإضراب الانتقالي، الهمزة: للاستفهام.

{يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} : بصيغة المضارع؛ أيْ: يقولون بتكرار واستمرار أنّ محمّداً افترى القرآن، والافتراء: هو اختلاق الكذب المتعمد.

قل: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} : أي: فأتوا بعشر سور مثله، وتعني من الفاتحة إلى سورة هود؛ أي: إشارة إلى ما تقدم سورة هود، وهن عشر سورة؛ فالله سبحانه تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم تحداهم بأن يأتوا من مثله، ثم تحداهم بعشر سور، ثم تحداهم بسورة واحدة، وفي سورة يونس، الآية (38): تحداهم بأن يأتوا بسورة مثله، وكذلك في سورة البقرة، الآية (23):{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؛ لمعرفة الاختلاف بين هذه الآيات: ارجع إلى آية البقرة (23).

{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : ارجع إلى الآية (38) من سورة يونس، والآية (23) من سورة البقرة للبيان، والفرق بين من استطعتم وشهداءكم.

ص: 8

سورة هود [11: 14]

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} :

{فَإِلَّمْ} : الفاء: عاطفة؛ إن: شرطية؛ لم: نافية. وانظر كيف لم يفصل بين (فإن) و (لم) في هذه الآية أن جمع بين فإن+ لم= فإلم، بينما في الآية (50) من سورة القصص فصل بين (فإن)، و (لم)، ولبيان الفرق بينهما؛ ارجع إلى سورة القصص آية (50).

{يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} : إلى ما تدعوهم إليه من الإتيان بعشر سور مثله مفتريات.

{لَكُمْ} : بدلاً من لك؛ جاءت بصيغة الجمع؛ تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الخطاب موجَّه لكلّ النّاس. وانتبه إلى الجمع بين فإن، وبين لم، فقال: فإلم في هذه الآية، بينما في سورة القصص آية (50) فصل بين فإن ولم. ارجع إلى سورة القصص آية (50) للبيان ومعرفة سبب الجمع والفصل.

{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} : يأمرهم بالعلم حتّى يكون إيمانهم على علم.

{أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} : أنزل جملة واحدة، وبعلم الله؛ أيْ: لا يمكن أن يكون فيه أيُّ خطأ مهما كان نوعه.

{وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا إله معبود؛ إلا الله وحده. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ للبيان.

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} : هل استفهام، فيه معنى الأمر، ومعناه: لا يكفي العلم، بل لا بُدَّ من الدّخول في الإسلام، وأن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: لا بُدَّ من التّوحيد، والإخلاص لله تعالى.

ص: 9

سورة هود [11: 15]

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} :

المناسبة: هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: لولا أنزل عليه كنز، وقوله: يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمَّى.

{مَنْ} : شرطية.

{كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} : هذه الآية عامة يقصد بها كلّ إنسان يريد الحياة الدّنيا، وزينتها (سواء أكان مؤمناً، أم كافراً؛ لأنّ ذلك من عطاء الرّبوبية).

{يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} : يطلب ويبتغي ويركض وراء الحياة الدّنيا. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (152) من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فهذه الآية خاصة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيها كلمة (الحياة)؛ لأن الموقف كان في معركة أحد، وموقف قتال فناسب ذلك حذف كلمة الحياة من كلمة الدنيا.

{وَزِينَتَهَا} الزّينة: قيل: هي تحسين الشّيء بغيره، والزّينة: قيل: هي الأمر الزّائد عن ضروريات الحياة، ومقوماتها، وتشمل الذّهب، والفضة، والأثاث، والملابس، والخيل المسومة، والمنازل، والقصور، والمراكب.

وجاء بفعل يريد: كفعل مضارع؛ ليدل على التّكرار، والتّجديد، والاستمرار على الإرادة، ولم يقل: من أراد الحياة الدّنيا، وانتهى.

{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} : الوفاء: يعني: إعطائه أجره كاملاً دون نقص في حقه، كما يحصل بين العامل ورب العمل؛ فإذا أتقن المهنة، والعمل سواء كان مؤمناً، أو كافراً؛ فلا بُدَّ من أن يأخذ أجره كاملاً، والوفاء يتم في الدّنيا والآخرة، ومنهم من قال: في الدّنيا كقوله تعالى في سورة فاطر، الآية (30):{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} .

{وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} : وهم: تفيد التّوكيد، وتعود على كلّ من يريد الحياة الدّنيا.

{فِيهَا} : في الدّنيا.

{لَا يُبْخَسُونَ} : لا: النّافية؛ نافية للجنس. يبخسون: من البخس: وهو الإنقاص، بخسه حقه بخساً: نقصه حقه، ولم يوفه؛ أيْ: لا ينقصون شيئاً من أجورهم في الدّنيا والآخرة.

ص: 10

سورة هود [11: 16]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد

{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يعني: الذين يريدون الحياة الدّنيا وزينتها.

{لَيْسَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} : إلا: أداة حصر، ليس لهم في الآخرة إلا حصراً النّار.

{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا} : أعمالهم حبطت بسبب كفرهم، وشركهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)؛ للبيان.

وباطل ما كانوا يصنعون: أيْ: غير حقٍّ ما صنعوا فيها؛ أيْ: لم يطبقوا ويلتزموا بالقرآن والسنة.

وردت في هذه الآية أربع كلمات كلمة حبط، وما صنعوا فيها، كلمة (الصّنع)، وباطلٌ (كلمة باطل) ما كانوا يعملون، كلمة (العمل).

ما هي الفروق بين هذه الكلمات، وبالتّالي معانيها.

ما هو الفرق بين الصّنع، والعمل:

العمل: يشمل القول، والفعل (الأقوال، والأفعال)، والعمل قد يكون جيداً، أو رديئاً، أو عادياً، والعمل: قد يتم بإجادة، أو عدم إجادة؛ فعندما يتم بإجادة: نطلق عليه الصّنع، فالعمل: أعم من الصّنع.

الصّنع: هو إجادة العمل؛ أيْ: يتم بجهد، وجودة، وهذا يسمَّى الصّنع، والصّنع يكون في الدّنيا؛ أيْ: خاص بالدّنيا.

أمّا الفرق بين الحبوط، والبطلان:

فالحبوط: (حبطت أعمالهم): حبط، الحبط: أصله مشتق إصابة الماشية بمرض الحبط، أو الحبن؛ حين تنتفخ الماشية بالسّوائل، أو الماء؛ بسبب مرض الكبد، ويظنها الجاهل بها سمينة، ولحمها كثير، ولكنه حين يذبحها ليأكل منها يجدها مليئة بالمرض؛ فلا يُستفاد منها بشيء.

الحبط: خاص بالأعمال فقط، ولم ترد كلمة حبط إلا مقرونة بالعمل، وسبب حبوط أعمالهم، وذهاب ثوابها: هي كفرهم، وشركهم، ومعاصيهم، أو ذنوبهم، وعدم توبتهم، والحبوط: يكون في الآخرة، وهو خاص بالآخرة، بينما كان الصّنع خاصاً بالدّنيا.

البطلان (باطل): يكون في العمل، وغير العمل؛ مثل: الاعتقاد، والقضاء. والباطل: ضد الحق، وهو ما لم يشرع بالكلية، والبطلان عام، والعمل كذلك عام.

وإذا عدنا إلى الآية: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : نجده قَرَنَ أمراً خاصاً: هو حبط، مع أمر خاص: هو الصّنع (ما صنعوا فيها)، وقرن باطلاً: وهو أمر عام، مع أمر عام: هو العمل (ما كانوا يعملون).

{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} : فيها حبط في الآخرة ما صنعوا في الدّنيا (فيها: تعود على الآخرة، والدنيا معاً)؛ أيْ: حبط في الآخرة ما صنعوه في الدّنيا؛ فهي تعود على الصّنع. الصّنع: لا يكون إلا في الدّنيا، والحبوط: يكون في الآخرة.

{مَا صَنَعُوا} : ما: مصدرية؛ حبط صنعهم، أو ما: اسم موصول؛ حبط: الّذي صنعوا، ولم يقل الحقُّ: ما صنعوه، وإنما قال: ما صنعوا، ما صنعوا: عامة تشمل كلّ ما صنعوه، ولو قال: ما صنعوه؛ تعني: جزءاً، أو قسماً مما صنعوا.

حبط: (فعل ماض): ما صنعوا فيها: صنعوا فعل ماض، إذن جاء بفعل ماض+ فعل ماض.

{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : وباطل: اسم فاعل؛ يدلّ على الثّبوت.

{مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : فعل مضارع يدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار، إذن ثبوت مع تجدُّد، وتكرار.

ص: 11

سورة هود [11: 17]

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} : أفمن: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، أو التّقرير، والفاء: للتّوكيد، ومن: اسم موصول، وتشمل المفرد، أو الجمع.

{مِنْ} : مبتدأ، والخبر محذوف تقديره كمن لا يريد الحياة الدّنيا وزينتها، أو أفمن كان على بيّنة من ربه، كمن لم يكن، أو أفمن كان على بينة من ربه كالأعمى، والأصم، أو الضال الكفور، والمراد بهذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذي هو على بينة من ربه)، أو هل يستوي أيُّ مؤمن هو على بينة من ربه، مع من يريد الحياة الدّنيا وزينتها؟

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} : البينة بشكل عام: قد تعني: القرآن، أو الرّسول، أو الدِّين، أو الحُجَّة، والدّليل القاطع.

{مِنْ رَبِّهِ} : وتعني: الرّسولَ صلى الله عليه وسلم، أو أيَّ مؤمن.

{وَيَتْلُوهُ} : يقرؤه، أو يتبعه، وتعني: القرآن، أو النّبي صلى الله عليه وسلم.

{شَاهِدٌ} : جبريل عليه السلام ، أو الرّسول صلى الله عليه وسلم.

{مِّنْهُ} : من الله سبحانه وتعالى ، أو النّبي صلى الله عليه وسلم.

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} : هذه الآية تبيِّن لنا نحن أمام بينة وشاهدان. البيّنة كما سبق الحجة والدّليل القاطع، وكلّ ما يحتاج إليه لإقامة الحكم، وقيل: هي القرآن، أو الرّسول صلى الله عليه وسلم، أو الدّين، أمّا الشّاهدان: فهما: ويتلوه شاهد منه، ومن قبل كتاب موسى إماماً ورحمة.

{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} : أيْ: يتبعه القرآن شاهد منه آيات القرآن الّتي تشهد على صدقه، ووحدانية الله وعظيم قدرته؛ آيات القرآن الّتي تدل على الإعجاز العلمي في الآفاق، وفي أنفسهم كما قال الحق سبحانه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]؛ ففي كلّ زمان يظهر شاهد جديد على صدق القرآن، وعظمته، وأنّه منزل بالحق من الله سبحانه.

{وَيَتْلُوهُ} : جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار إلى يوم القيامة، وأنّ القرآن: هو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة.

{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} : ومن قبله: الهاء: تعود على القرآن العظيم، أو على محمّد صلى الله عليه وسلم، أو كلاهما، ومن قبله كتاب موسى؛ أي: التّوراة، ومن قبله: قد تعود على الإنجيل، ومن قبل الإنجيل كتاب موسى التّوراة شاهد على القرآن، أو على نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِمَامًا} : يُهتدى به؛ أيْ: مصدر هداية، وإماماً: ليبشر بقدوم الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم.

{وَرَحْمَةً} : ذا رحمة؛ لأنّه يجلب النّفع، ويدفع الضّرر، ووقاية من السّيئات.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب.

{يُؤْمِنُونَ} : أصحاب موسى عليه السلام ، أو محمّد صلى الله عليه وسلم، أو أهل الحق من أمة موسى، وعيسى، ومحمّد عليهم الصّلاة والسلام، يؤمنون به: يصدقون بالقرآن العظيم.

{بِهِ} : تعود على القرآن، وعلى محمّد صلى الله عليه وسلم.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ} : بالقرآن، ومحمّد صلى الله عليه وسلم، والكفر: هو السّتر؛ فالإيمان موجود قبل الكفر؛ لقوله: ومن يكفر به؛ أي: المكفور به الإيمان سابق على الكفر.

{مِنَ الْأَحْزَابِ} : جمع حزب، والحزب: جماعة ملتفة على مبدأ، أو مبادئ واحدة، وتعني: جميع الملل من اليهود، والنّصارى، وقريش، أو القبائل من الأعراب.

{فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} : أيْ: إليها مصيره.

{فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ} : من القرآن؛ لا تك، ولم يقل: ولا تكن؛ أيْ: حذف النّون.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد. لا: النّاهية.

{تَكُ} : في أدنى شك، أو في أيِّ لحظة، أو طرفة عين في مرية منه.

{فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ} : في: ظرفية. مرية: هي الجدال بعد ظهور الحق؛ أيْ: لا تجادلهم بعد ظهور الحق، أو في شك منه بعد ظهور الحق.

{إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : إنّ: للتوكيد؛ أي: القرآن.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : الحق: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر أبداً.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك، وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} : لا: النّافية؛ لا يؤمنون: تكبراً، وعناداً، وكفراً، وتقليداً لآبائهم، وليس من قلة الآيات، والأدلة الشّاهدة عليهم.

ص: 12

سورة هود [11: 18]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} :

{وَمَنْ أَظْلَمُ} : الواو: استئنافية. من: اسم استفهام، وتقرير (يأتي بشكل السّؤال حتّى يُجيب المخاطب، ويقول: لا أحد؛ فتقام عليه الحجة)، والإقرار: هو سيد الأدلة؛ ليس هناك من أظلم ممن افترى على الله كذباً، وأظلم: على وزن أفعل. والظلم: هو نقصان الحق، والخرج عن منهج الله تعالى، ويشمل ظلم النفس، وظلم الآخرين.

{مِمَّنِ} : أدغمت من الأولى بمن الثّانية؛ من الأولى: ابتدائية، ومن الثّانية: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : افترى: اختلق متعمداً الكذب.

{كَذِبًا} : نكرة يشمل كلّ أنواع الكذب، والقليل، والكثير، ولم يقل: الكذب (المعرف بأل؛ ويعني: كذباً معيناً).

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد.

{يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} : يعرضون من العرض: وهو إظهار الشّيء الخفي؛ أيْ: يُظهر ما كانوا يخفون في الدّنيا. يقفون صفوفاً أمام ربهم للحساب.

{عَلَى رَبِّهِمْ} : الرّب: اشتقت من المربي: وهو القائم بتدبير أمورهم، وتصريفها، وهو خالقهم، ورازقهم.

{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ} : جمع شاهد، أو شهيد؛ أي: الشّهداء بالحق، والأشهاد: قد يكونون من الملائكة الحفظة، أو الرّسل، والأنبياء، أو أهل العلم من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم.

{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} : حين قالوا: اتخذ الله ولداً؛ أيْ: نسبوا له الولد، أو الشّريك في الملك، أو الولي، أو حرم هذا ولم يحرمه، وأحل ذلك ولم يحله، وقالوا: هو من عند الله، وما هو من عند الله.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة يشار إليهم يوم العرض يوم القيامة؛ ليفضحهم، ويخزيهم؛ الّذين كذبوا على ربهم.

{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} : ألا: أداة تنبيه، واللعنة: تعني: الطّرد من رحمة الله، والإبعاد، والقائل هنا قد يكون الحق سبحانه، أو الأشهاد، أو الملائكة، ولم يقل: ألا لعنة الله على الكاذبين؛ لأنّ الكذب جزء من الظّلم فجاء بالّذي هو أعم، فالكافرون أعم من الظّالمين، والظّالم تشمل كذلك المشرك، والظّالم لغيره، والظّالم لنفسه بالخروج عن منهج الله تعالى.

ص: 13

سورة هود [11: 19]

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} :

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : اسم موصول؛ يفيد الذم.

لم يكتفوا بالكذب على ربهم؛ فهم كذلك يصدون عن سبيل الله، وسبيل الله دينه: وهو الإسلام؛ يحاربون، ويهاجمون؛ يمنعون النّاس من الدّخول في دينه، أو يشوهون سمعته، ويتهمون الإسلام بالتّطرف، والعنف.

{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} : يلتمسون لسبيل الله (دينه) الزّيغ والتّحريف، ويريدون لأهل دين الله الضّلال، ويتهمون الدّين، وأهل العلم بالغلو، والانحراف، ويصفونه بالمعوج المنحرف المتطرف.

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} : هم: ضمير الفصل؛ تفيد التّوكيد، والباء: تفيد للإلصاق، والتّوكيد؛ لأنّهم افتروا على الله الكذب، وقاموا بالصّد عن السبيل، ويبغونها عوجاً؛ فزاد توكيدهم بالكفر بالآخرة باستعمال هم: ضمير الفصل مرتين، وهم: الثانية تفيد زيادة التّوكيد.

{كَافِرُونَ} : لا يؤمنون، لا يصدقون بالحساب، ولا بالبعث، أو بالجنة، أو النّار.

ص: 14

سورة هود [11: 20]

{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعيد يشير إلى الّذين كذبوا على ربهم، وصدوا عن سبيل الله، وكفروا بالآخرة.

{لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} : لم: حرف نفي، معجزين: جمع مُعْجز في الأرض، والمُعجز: من لا تقدر عليه، ويستطيع الهرب؛ أيْ: يفلت منك، ولا تلحق به.

{لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ} : نفى عنهم صفة الإعجاز أصلاً؛ أيْ: لن يفلتوا من عذاب الله وعقابه.

{مُعْجِزِينَ} : جاء بالاسم الّذي هو أثبت وآكد من الفعل.

{فِى الْأَرْضِ} : حيث كانوا يعيشون، ولم يذكر السماء كما في سورة العنكبوت آية (22)؛ لأن السياق في الآخرة، والموقف موقف محاسبة، أو إذا كانوا غير معجزين في الأرض؛ فكيف يكونون معجزين في السّماء، وأمّا حين يذكر السّماء كما في قوله تعالى:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22]؛ لأن سورة العنكبوت تدعوا إلى النظر والتدبر حيث قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [آية: 20]، والتحدي أكبر، وأوسع، ويشمل السّموات السبع حتّى لا يظن أحد أنه إذا لم يستطع أن ينجو في الأرض يمكن أن ينجو في السّماء، ومنهم من قال: أن هذه الآية قد تشير إلى غزو الفضاء الّذي بدأ ينتشر.

{وَمَا} : الواو: عاطفة؛ ما: نافية.

{كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} : بالإضافة إلى عجزهم في الأرض ما كان لهم من غير الله من أولياء: جمع ولي: وهو المعين، والمحب، والنّاصر.

{مِنْ} : استغراقية؛ استغرقت النّفي المطلق، وتفيد التّوكيد، لا ولي، ولا اثنان، ولا أكثر من ذلك.

وعبارة من دون الله من أولياء؛ أيْ: في الدّنيا.

{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} : لعظم كفرهم، وإضلالهم غيرهم، وصدهم عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً.

{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} : قدَّم السّمع على البصر؛ لأهمية السّمع على البصر، وكذلك من ناحية التّشكل الجنيني؛ فتشكل السّمع يكون قبل البصر، وكذلك من الناحية التشريحية: فموقع السّمع أمام موقع البصر. ارجع إلى سورة المُلك، آية (23)، وإلى سورة البقرة، آية (7)؛ لمزيد من البيان.

{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} : رغم وجود آلة السّمع؛ فهم لم يستفيدوا منها بالاستماع إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن؛ لكونهم يكرهون الاستماع للحق، وما أنزل الله.

{وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} : أيْ: نفى عنهم السّمع أوّلاً، ونفى عنه البصر ثانياً، لا هذه، ولا هذه، ولا كلاهما؛ منهم لم يستفيدوا من سمعهم، ولا أبصارهم؛ فيؤمنون بالله ورسوله.

ولكن في الآخرة يتغير ذلك فيصبح سمعهم وأبصارهم كالحديد من شدتها، وحدَّتها؛ كقوله تعالى:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].

ص: 15

سورة هود [11: 21]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} : ارجع إلى الآية السّابقة (20).

{أُولَئِكَ} : للتأكيد.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} : بأن أوردوها النّار.

{وَضَلَّ عَنْهُم} : أيْ: غاب عنهم، أو غابت عنهم أصنامهم، وأولياؤهم، ولم يهتدوا إلى أصنامهم، وكذلك أصنامهم لم تهتدِ إليهم.

{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : على الله من الكذب المتعمد بأنّ له شريكاً، وولداً، وأن الأصنام ستشفع لهم، وتقربهم عند الله زلفى، وغيره من الأكاذيب.

ص: 16

سورة هود [11: 22]

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} :

{لَا جَرَمَ} : حقاً، أو لا بُدَّ، أو لا محالة، وقد تحمل معنى القسم، وجَرَم معناها قطع، جرم يده: قطع يده، وجَرَم أذنب، وجنى جناية.

{أَنَّهُمْ} : أنّ للتوكيد.

{فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} : جمع أخسر على وزن أفعل، وخاسر: اسم فاعل مأخوذ من الخسارة.

{هُمُ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْأَخْسَرُونَ} : هم أشد خسارة من الخاسرين، وعذابهم أشد ومضاعف، والأخسرون؛ لأنّهم كذبوا، وصدوا عن سبيل الله غيرهم، وابتغوها عوجاً. أمّا الخاسرون: فهم لم يصدوا غيرهم واكتفوا بعدم الإيمان بالآخرة، واستحبوا الحياة الدّنيا على الآخرة، وأفسدوا في الأرض. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، والآية (63) من نفس السورة للمقارنة.

ص: 17

سورة هود [11: 23]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

مقابل الظّالمين الّذين صدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجاً الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : قرنوا الإيمان بالعمل الصّالح، صدقوا بالله، واتبعوا ما أنزل الله ورسوله، وعملوا الصّالحات.

{وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : أطاعوا أوامر الله تعالى في السر والعلن، وأخلصوا في توحيدهم؛ خافوا ربهم، والخبت: التواضع، والسكون (السكينة)، أو الطمأنينة إلى حكم الله وقضائه.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} : الملازمون لها. ارجع إلى الآية (42) من سورة الأعراف.

{هُمْ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{فِيهَا خَالِدُونَ} : الخلود: هو استمرار البقاء ابتداءً من زمن دخول الجنّة.

ص: 18

سورة هود [11: 24]

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} :

الفريق الأوّل: الظّالمون، والّذين يبغونها عوجاً، وهم بالآخرة هم كافرون؛ حالهم يشبه حال الأعمى، وحال الأصم.

والفريق الثّاني: الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات؛ حالهم يشبه حال البصير، وحال السّميع.

فعندنا أربعة تشبيهات؛ لكلّ فريق تشبيهان، ولو كان تشبيهاً واحداً لقال: مثل الفريقين كالأعمى الأصم، والبصير السّميع من دون الواو، والتّقديم والتّأخير في السّميع على البصير ليس له علاقة بالأفضل.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب، ألا: أداة حضٍّ على التّذكر.

{تَذَكَّرُونَ} : لم يقل: تتذكرون؛ أي: المسألة لا تحتاج إلى زمن طويل للتذكر، والتّفكير؛ لأنّ أيَّ إنسان ذي لبٍّ، أو عقل لا يحتاج إلى طول تذكر، أو تفكر؛ ليدرك أنّ الأعمى، والأصم لا يستوي مع البصير والسّميع، والإنسان مطلوب منه أن يتذكر مسائل العقيدة بسرعة، وليس هو بحاجة إلى وقت طويل؛ لأنّ مسائل العقيدة مستقرة في القلب، ولا تحتاج إلى طول تذكير، أو تفكير.

ص: 19

سورة هود [11: 25]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

{وَلَقَدْ} : اللام: لام التّوكيد. قد: حرف تحقيق. وإذا قارنا (ولقد) مع قوله تعالى في سورة الأعراف آية (59)(لقد) بدون الواو: نجد أن آية الأعراف لم يتقدمها ذكر رسول، أو نبوة؛ فهو كلام ابتداء، أما في سورة هود، وسورة المؤمنون، والعنكبوت، والحديد: فقد تقدمها ذكر رسول، والواو عاطفة، أو استئنافية.

{أَرْسَلْنَا نُوحًا} : أرسلنا، ولم يقل: بعثنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

{نُوحًا} : من سلالة إدريس، وإدريس: هو أبو جد نوح، وجاء في صحيح البخاري عن ابن عبّاس: كان بين آدم ونوح ما يقارب عشرة قرون؛ أيْ: (1000سنة)، ونوح كان أول الرّسل من أولي العزم، وذكر اسمه في (43) آية.

{إِلَى قَوْمِهِ} : الّذين سكنوا شمال العراق ما بين دجلة والفرات، وهم من بقايا ذرية آدم الّذين سكنوا مكّة، ثمّ رحلوا إلى شمال العراق.

القوم هنا: تعني الرّجال والنّساء، والقبيلة، والعشيرة، وهنا ملاحظة يجب العلم بها: أنّ كلمة قوم دائماً يرد معها عقوبة في نهاية الآيات.

{إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} : لكم نذير من الله؛ الإنذار: هو الإعلام، والتّحذير؛ أيْ: لأنذركم خاصة، أو أقول لكم منذراً بالإيمان بالله، والاستجابة له، وامتثال أوامره، وعلى تجنب ما حرم عليكم.

{مُبِينٌ} : يعني: كلّ واحد يعلم أنّه إنذار واضح، ولا يحتاج إلى بينة، وهو ألا تعبدوا إلا الله.

ص: 20

سورة هود [11: 26]

{أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} :

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} : لا: النّاهية؛ تعبدوا إلا: أداة حصر؛ الله حيث كانوا يعبدون أصناماً كثيرة؛ مثل: ودٍّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر

وغيرها، ولمعرفة معنى العبادة: ارجع إلى الآية (2) من نفس السورة.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : أليم تعود على العذاب، وليس اليوم.

{عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : عذاب أليم يوم الطّوفان، أو أحذركم يوم الطّوفان، وأحداثه.

ص: 21

سورة هود [11: 27]

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} :

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} : الفاء: تدل على التّعقيب، والمباشرة مجرَّد ما دعاهم إلى عبادة الله وحده مباشرة، قال الملأ الّذين كفروا من قومه: الملأ: أشراف القوم، وزعماء القوم وأعيانهم الّذين يملؤون أعين النّاس مهابة واحتراماً. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (75، 88)؛ للبيان.

{مَا نَرَاكَ} : ما: النّافية؛ نراك: رؤية بصرية.

{إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا} : البشر: يعني الإنسان، وسمي بشراً لكونه ظاهر على الأرض بعكس الجن الذي يمتاز بالخفاء؛ إلا: أداة حصر؛ أيْ: حصراً أنت بشر مثلنا لا مزية لك علينا، ولا فضل يعطيك حق النّبوة، أو تكون رسولاً علينا.

{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} : الرّؤية هنا قد لا تدل على الصّواب والحقيقة؛ فالرّؤية تحيط بظواهر الأمور؛ فهم حكموا بظواهر الأمور.

{إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} : إلا: أداة حصر.

{الَّذِينَ} : اسم موصول تشير إلى الأراذل.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{أَرَاذِلُنَا} : مفردها رذل: الدّون من كلّ شيء، وتعني: السّفلة، أو أحقر النّاس في أعينهم، والحقيقة هم أفضل الناس، وأفضل منهم خاصة.

{بَادِىَ الرَّأْىِ} : الّذين لا رؤية لهم؛ أيْ: سطحيو النّظر، لا يفكرون، ولو أمعنوا النّظر لما اتبعوك.

{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} : من فضل: من: ابتدائية.

{فَضْلٍ} : أيْ: زيادة تؤهلكم للنّبوة؛ مثل: المال، أو فضل في الخلق، أو الملك، أو الجاه.

{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} : بل: حرف إضراب إبطالي.

{نَظُنُّكُمْ} : الظّن: هو أنا نحسبكم، أو نرجِّح أنكم كاذبون.

ص: 22

سورة هود [11: 28]

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} :

{قَالَ يَاقَوْمِ} : يا: النّداء، كلمة قومي فيها بعض الحنان على قومه، والاستعطاف.

{أَرَءَيْتُمْ} : الهمزة استفهام، وتعجب، وتقرير، والرّؤية رؤية قلبية، أو فكرية؛ بمعنى: العلم، وبشكل مؤكد.

{إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى} : إن: شرطية. البينة: الحجة الدّامغة، والبرهان الّذي يثبت صحة ما أقول، وقال: بينة من ربي، ولم يقل: بينة من ربكم؛ لأنّ البينة جاءت إليه، ولم تجئ إليهم، وهم لم يؤمنوا بعد ليقول: ربكم.

{وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ} : وآتاني: من الإيتاء: وهو عطاء بدون تمليك، ويشمل الإيتاء الحسي والمعنوي، وهو أشمل من العطاء؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان، والفرق بين العطاء والإيتاء. وبما أنّ الكلام عن الرّحمة؛ فقد قدَّمها على من عنده، ولم يقل: وآتاني من عنده رحمة، ورحمة من عنده، ولم يقل: رحمة منه؛ لأنّ رحمة من عنده أخص بالمؤمنين من خصوصيات القرآن، أمّا رحمة منه: فهي رحمة عامة للمؤمن، والكافر، ورحمة من عنده؛ تعني: النّبوة، والرّحمة: هي كلّ ما يجلب ما يَسرُّ ويدفع ما يَضرُّ.

{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} : أيْ: أُخفيت وأُبهمت ولم تعلموها، والتبست عليكم؛ وعُميت من العمى عمى البصيرة؛ أيْ: لم تفهموها؛ عمِّيت بالتضعيف، ولم يقل: عَمِيَت.

{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} : أيْ: أنلزمكم قبولها، والهمزة: همزة استفهام إنكاري؛ أيْ: لا نقدر أن نُلزمكم أنفسنا، وأنتم غير راغبين في قبولها، أو كيف أوصلها إليكم، وأنتم لها كارهون، وهي عبادة الله وحده، أو لا إله إلا الله.

{وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} : كارهون: جملة اسمية؛ تدل على أنّ (كارهون) صفة ثابتة: تدلّ على التّجدُّد، والتّكرار، فربما في المستقبل أوصلها لكم، أو تقبلوا بها.

أنلزمكموها: جاءت هذه الكلمة بعد أن رفض قوم نوح الاستجابة لدعوته؛ فأحسَّ نوح بالصّعوبة الشّديدة في إبلاغهم الدعوة؛ فأصبحت كأنّها مستحيلة؛ لأنك ترغم إنساناً على شيء، وهو كاره له، كافر به.

فجاءت هذه الكلمة لتعبر عن هذه الحالة الّتي تمتاز بالإكراه، ومحاولة إبلاغ الشّيء إلى من لا يؤمن به، ويرفضه؛ فبدأت بهمزة الاستفهام الإنكاري، وفيها ضميران: الكاف، والهاء، وأشبعت الميم المضمومة؛ فأصبحت واواً، وفيها فعل وفاعل، ومفعول به أوّل، ومفعول به ثان.

ص: 23

سورة هود [11: 29]

{وَيَاقَوْمِ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} :

{وَيَاقَوْمِ} : نداء فيه رقة، وحنان لقومه.

{لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} : لا: النّافية.

{أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} : على تبليغ الرّسالة، أو الدّعوة للإيمان.

{مَالًا} : ولم يقل تعالى: ولا أسألكم عليه أجراً هنا حدَّد نوع الأجر، ولو قال: لا أسألكم عليه أجراً (لم يحدِّد قد يكون مالاً، أو غير المال)، والأجر أعمّ من المال.

{إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} : إن: نافية، وأقوى في النّفي من (ما)؛ أجري: والأجر يعقب العمل، وقد يكون في الدنيا، أو في الآخرة، ولا يأتي الأجر إلا في سياق الخير، ولذلك جاء بها ليؤكد لهم أنّه لن يطالبهم بأيِّ أجر.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ جاءت بعد نفي تؤكد الحصر؛ فقط أجري على الله وحده، والأجر يكون مقابل عمل، والأجر: هو ثواب عن عمل دنيوي، والأجر؛ يعني: النّفع دائماً، وأمّا الجزاء: فقد يستخدم في النّفع، والضّر، وهو أعم من الأجر، والجزاء: يكون على عمل سيِّئ، أو صالح.

{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} : ردٌّ على قولهم: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ وما: الواو استئنافية؛ ما: النّافية.

{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} : ولو بشكل عارض، أو مؤقت؛ أيْ: لا يمكن أن أطردهم مهما كان السّبب، لا في الماضي، ولا في المستقبل، ولو قال: بطاردٍ؛ لكان يعني: في المستقبل، ويحتمل أن يكون قد طردهم في الماضي.

{إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : إنّهم: إنّ: للتوكيد.

{مُلَاقُو رَبِّهِمْ} : أيْ: كيف أطردهم، وهم سيلقون ربهم، ويخبرونه بما فعلت بهم، ويحاسبني على طردهم، وظلمهم، ومن ينصرني من الله إن طردتهم؛ فهو يدرك أنّه سيحاسب، ولو كان رسولاً.

{وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} : تجهلون حين تسألوني أن أطردهم. ارجع إلى آية الأعراف، آية (138)؛ لمقارنة قول موسى عليه السلام :{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، وقول لوط عليه السلام :{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]. ارجع إلى سورة الزمر آية (64) لبيان تجهلون، ومعنى الجهل.

ص: 24

سورة هود [11: 30]

{وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

{وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ} : من: استفهامية، يا قوم: ارجع إلى الآية السّابقة.

{مَنْ يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ} : أي: من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم؛ هذا هو السّبب الثّاني، والسّبب الأوّل: أنّهم ملاقو ربهم، والأمر ليس بيدي.

{إِنْ طَرَدتُّهُمْ} : إن: شرطية؛ تعني، ولو مرة واحدة، وتفيد الشّك في حصول ذلك. ولو قال: من ينصرني من الله إذا طردتهم؛ لكانت تعني: مرات عديدة، أو حتمية الحدوث.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} : الهمزة: استفهام إنكاري تذكرون؛ ألا: أداة حثٍّ، وتحريض على اليقظة، والتّذكر؛ لأنّ هذا الأمر واضح، ولا يحتاج إلى طول تفكير، فلا تنسوا ذلك، واتعظوا إنّ طردهم ليس بأمر حكيم، وله عواقبه.

في سورة هود هذه قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، وفي سورة الشّعراء آية (114) قال تعالى:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ المؤمنين: تدلّ على ثبوت صفة الإيمان عندهم.

في سورة هود: {الَّذِينَ آمَنُوا} : أي: الّذين إيمانهم يتجدَّد، ويتكرَّر؛ فهم أقل درجة من المؤمنين؛ فهو يعلن لهم لن يطرد أحداً مهما كان نوع إيمانه.

ص: 25

سورة هود [11: 31]

{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} :

{وَلَا} : الواو: استئنافية؛ لا: النّافية تنفي كلّ الأزمنة وتنفي الجنس، وتفيد الإطلاق، والعموم، وأوسع حروف النّفي؛ أي: لا أقول لكم على وجه الاستمرار (الآن وفي المستقبل).

{أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ} : أي: لا أقول لكم خاصة فيها تودُّد وحنان.

{عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ} : أي: كلّ أنواع النعم، والخيرات، والرّزق، أو خزائن الذّهب، والفضة لكي تحثكم إلى اتباعي، أو تدعو الفقير منكم إلى الاستجابة لدعوتي. وخزائن الله كما بيّن الإعجاز العلمي: أن هذه الخزائن موجودة في النّجوم. ارجع إلى سورة الحجر، آية (21)، وسورة الأنعام، آية (50)؛ لمزيد من البيان.

{وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} : أي: أنا بشر رسول، ورغم ذلك لا أعلم الغيب؛ حتّى تتبعوني كي أدلكم عليه، وأعلم ماذا سيحصل لكم، ويحل بكم.

{وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ} : أي: من الملائكة إنما أنا بشر، وقد يظن السّامع لهذه الآية: أنّ الملائكة أفضل من الرّسل، والأنبياء، وهذا ليس بضروري، وإنما قال نوح ذلك حين قالوا له ما نراك إلا بشراً، ولأنّ قومه ظنوا أنّ الرّسل لا يكونون من البشر إنما من الملائكة، أو لا أدَّعي أني من الملائكة، وجئتكم على صورة بشر، وتكرار لا ثلاث مرات: للتوكيد، ونفي كلّ واحدة من هذه الأمور على حِدَةٍ، وكلّها معاً.

وقول: يا قوم لا أقول لكم: فيها رقة، وحنان، وتلطف؛ كأسلوب يجب اتِّباعه في الدّعوة إلى الله، ونشر دينه من قبل الدّعاة.

{ّوَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} : ولا: الواو: استئنافية؛ لا: النّافية.

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص.

{تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} : أي: تحتقر أعينكم؛ لفقرهم، أو مكانتهم، والازدراء من زرى عليه؛ أيْ: عابه، وتزدري أعينكم جاءت بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار في الازدراء؛ أي: ازدراؤهم لم يتوقف بعد، ولم يقل: ازدرت أعينكم وانتهى الأمر، ولم يقل: للذين تزدرونهم؛ إكراماً لهم.

{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} : لن: حرف نفي للمستقبل القريب، أو البعيد؛ أي: لن يؤتيهم الله خيراً قريباً، أو في المستقبل القريب؛ أي: في الدّنيا، أو في المستقبل البعيد؛ أي: الآخرة، والخير: هو الحلال الطيب، الحسن، النّافع.

{اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} : أنفسهم: جمع قلة؛ لأنّه يتحدث عن الّذين آمنوا من قومه؛ نفوسهم: جمع كثرة، تعني: كلّ النّفوس على الإطلاق.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق.

{فِى} : ظرفية، وجاء بكلمة الله، ولم يقل: ربهم أعلم بما في أنفسهم؛ لأنّ السّياق، والمقام: هو سياق الدّعوة إلى الله.

{إِنِّى} : إنّي: للتوكيد.

{إِذًا} : حرف جواب.

{لَمِنَ} : اللام: للتوكيد؛ من الظّالمين: أي: إن قلت لهم لن يؤتيهم الله خيراً.

{الظَّالِمِينَ} : جمع ظالم؛ الظّلم هنا: يعني نقصان حقهم، ويعني: الجور، والعدول عن الحقّ.

ص: 26

سورة هود [11: 32]

{قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَادَلْتَنَا} : من الجَدلْ، وهو الحوار الّذي يحدث بين طرفين أو أكثر؛ لإظهار حُجة، أو لدفع شبهة، أو إثبات حق، وقد يحدث فيه مشادة كلامية؛ فهو حوار غير هادئ.

والمراء: هو الجدال بعد ظهور الحق، وقد يستعمل للوصول إلى الحقّ؛ كقوله:{وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

أمّا الحجاج: هو إظهار حُجَّة الخصم على الخصم.

{قَدْ جَادَلْتَنَا} : لم يقل: لما تجادلنا؛ ليدل على أنّ نوح هو الّذي كان يلاحقهم، ويجادلهم، وهم لا يريدون الكلام إليه.

{فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} : يعني: أنّ نوحاً هو الّذي كان يجادلهم، ويكثر جدالهم، وهم كانوا يهربون منه، ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم كي لا يسمعوا دعوته.

{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : هنا تبدأ مرحلة التّحدي؛ فقد انتهت مرحلة التّكذيب، وعدم التّصديق، وبما أنّ نوحاً عاش بينهم (950 عاماً) يدعوهم؛ فأصبحوا غير مكترثين به، وبدعوته، وبوعيده.

{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} : ولم يقل: وعدتنا، بل قال: تعدنا: فعل مضارع يدلّ على التّجدُّد، والتّكرار؛ لأنّه كان يكرر، ويكرر، ويحذرهم المرات العديدة، أمّا وعدتنا فتعني: مرة، أو مرتين.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد. ما: اسم موصول؛ تعني: الّذي تعدنا، وهو العذاب.

{إِنْ كُنْتَ} : إن: شرطية؛ تحتمل الشّك، والاحتمال أن تكون من بين الصّادقين في إنذارك، ووعيدك، وكلامك.

ص: 27

سورة هود [11: 33]

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

{قَالَ إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر، والتّوكيد؛ أي: هو الله حصراً يأتيكم به؛ أي: العذاب؛ أي: بيده الأمر، وليس بيدي، ولا بيد غيري.

{يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ} : كما تشاؤون بناءً على طلبكم؛ تقديم (به).

{بِهِ} : تعني: العذاب؛ به: جار ومجرور، وتقديمه يدل حصراً، وقصراً الله وحده يأتيكم به، ولو قال: يأتيكم الله به؛ فهذا يعني: الله سبحانه يأتيكم به، وهناك آخرون غير الله يأتون به، وهذا غير صحيح.

{إِنْ شَاءَ} : إن: شرطية. شاء: إذن، أو أراد.

{وَمَا أَنْتُمْ} : الواو: واو الحال: للتأكيد. ما: النّافية للحال، والاستقبال.

{بِمُعْجِزِينَ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد. معجزين: الآن، ولا في المستقبل. ارجع إلى سورة يونس، الآية (53)؛ للبيان.

ص: 28

سورة هود [11: 34]

{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

{وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} : ولا: الواو: عاطفة، لا: النّافية.

{يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} : النّصح: الإرشاد، والدّلالة على الخير.

{إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} : إن أردت أن: حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد.

{أَنْصَحَ لَكُمْ} : أنصح: فعل مضارع؛ يدلّ على التّجدُّد، والاستمرار؛ نصح له، ونصحه نصحاً، ونصيحة: تحري ما يصلح له، وأراد له الخير، والنّفع، ودله عليه.

{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} : هل يغوي الله سبحانه عباده؟ حاشا لله.

والغواية: هي الضّلال، والبعد عن الصّراط المستقيم؛ أي: الهلاك، والفساد. ارجع إلى سورة الحجر، آية (42)؛ لبيان معنى: الغواية.

{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} : يضلكم، أو يهلككم، وهذا غير صحيح، وغوى: بمعنى: خاب، وضل، وانهمك في الجهل، وغابت عنه الحجة، وضاع ونسي.

الجواب: إنّ الله سبحانه لا يغوي أحداً من البشر، وإنما يترك له الخيار ليختار: إما طريق الهداية، وإما طريق الضّلال؛ فإن سار في طريق الضّلال، واختار ذلك لنفسه، واستمر هذا الإنسان العاصي الكافر في طريقه، وأصر على ذلك؛ فالله سبحانه يتركه وشأنه، ويخلي بينه وبين ما يريد من الضّلال، والإغواء، وحين يصبح، أو يصل درجة عالية من الضّلال، والإغواء؛ حينئذٍ لا تنفعه نصيحة النّاصحين، سواء من رسول، ولا نبي، ولا أحد.

ومعنى الآية الإجمالي: لا ينفعكم نصحي مهما حاولت من النّصيحة، والنصح لكم إن كان الله سبحانه يريد أن يترككم في ضلالكم، وغوايتكم الّتي أنتم مصرون عليها.

{هُوَ رَبُّكُمْ} : هو: ضمير فصل للحصر.

{رَبُّكُمْ} : أولى بكم إن يشأ يعذبكم، أو إن يشأ يرحمكم؛ أي: المربي، والمدبر، والحاكم.

{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : إليه وحده؛ تقديم الجار والمجرور: يفيد الحصر، والقصر إليه وحده مرجعكم؛ إليه ترجعون رغماً عن إرادتكم.

ص: 29

سورة هود [11: 35]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَا بَرِاءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} :

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، أم منقطعة، والهمزة: للاستفهام.

جاءت هذه الآية في وسط قصة نوح، أو خلال قصة نوح؛ لأنّ كفار قريش لم يصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يخبرهم عن قصة نوح، وقالوا: إنّ محمّداً افترى هذه القصة؛ فجاء الرّد على ذلك من الحق سبحانه.

{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِنِ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.

{إِنِ افْتَرَيْتُهُ} : أي: اختلقت هذه القصة، وهي كذب؛ فعليَّ إجرامي، والافتراء: هو الكذب المتعمَّد المختلق.

{فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} : عليَّ عقوبة ذنبي، وعقوبة افترائي؛ لأن من يفتري على الله تعالى هو مجرم.

{وَأَنَا بَرِاءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} : وإن لم أفترِ عليكم؛ فعليكم عقوبة إجرامكم، وأنا بريء مما تجرمون (تشركون، تكفرون).

{تُجْرِمُونَ} : جاءت بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدُّد، والتّكرار، واستمرارهم في إجرامهم، وهو ليس إجرام واحد، بل إجرام في كثير من الأمور، ولو كان إجرام واحد لقال: أنا بريء مما أجرمتم. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (25) من سورة سبأ وهي قوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْـئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْـئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، ولم يقل عما تجرمون؛ لأن هذه الآية في سورة سبأ جاءت في سياق الدعوة إلى الله والتبليغ لكي يحبب قلوبهم للإيمان، وآية هود تخص نوح، وآية سبأ تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 30

سورة هود [11: 36]

{وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :

{وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ} : الوحي: إعلام خفي بطريقة الوحي من عالم الغيب سبحانه من علمه الأزلي أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، ولمعرفة معنى الوحي: ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{أَنَّهُ لَنْ} : للتوكيد؛ حرف مشبه بالفعل؛ لن: نافية تنفي المستقبل القريب، والبعيد.

{يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} : إلا: أداة حصر.

{مَنْ قَدْ} : تحقيق للتوكيد.

{آمَنَ} : وقيل: كانوا حوالي (80) فرداً، كما قال ابن عبّاس، ومنهم أولاده الثّلاثة: سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم.

{فَلَا تَبْتَئِسْ} : الفاء: رابطة لجواب شرط مقدر تفيد التّوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَبْتَئِسْ} : تحزن؛ يقال: ابتأس الرّجل إذا بلغه خبر يكرهه، والابتئاس: هو الحزن المحبط.

{بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} : من الشّرك، وعدم الإيمان، ولم يقل بما كانوا يعملون؛ لأنّ من خصائص القرآن لا يستعمل مع العقوبات، أو في سياق العقوبات، وإهلاك الأمم السّابقة؛ إلا كلمة (فعل) مثل قوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ، كذلك نفعل بالمجرمين.

عندها دعا نوح على قومه؛ فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} .

ص: 31

سورة هود [11: 37]

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} :

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} : والفلك: تطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، وللمذكر والمؤنث، واصنع: الصّنع: هو الإحداث، والإنشاء، والصّنع: هو إجادة العمل والإتقان والمهارة.

{بِأَعْيُنِنَا} : تحت رعايتنا، ومراقبتنا، وحفظنا، وجاء بصيغة الجمع؛ للدلالة على كثرة العناية، والاهتمام، وكمال الحفظ، والرّعاية الإلهية.

{وَوَحْيِنَا} : إليك كيف تصنعها.

{وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا} : لا: النّاهية؛ أي: أنهاك؛ أي: لا تطلب المغفرة، أو تدعوني لرفع العذاب عن هؤلاء الّذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والشّرك، والمعاصي، أو تأخيره، أو إمهالهم، أو أيّ شيء آخر.

{إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} : إنّ: للتوكيد.

{مُّغْرَقُونَ} : محكوم عليهم بالإغراق، والموت؛ مغرقون: صفة ثابتة تدل كأنّه حصل الإغراق، وانتهى الأمر، انتبه إلى قوله: واصنع الفلك: فعل أمر، ولم يحدِّد متى يصنع الفلك.

ص: 32

سورة هود [11: 38]

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} :

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} : فعل مضارع؛ يعني: يصنع الفلك الآن، ويدل على أنّ الصّنع بدأ منذ حين ومستمر، وأمّا في سورة المؤمنون، الآية (27):{أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} ؛ أي: في المستقبل، وأتى بصيغة المضارع، ولم يقل: وصنع الفلك (يسمَّى حكاية الحال)؛ ليتصور المستمع عملية الصّنع؛ كأنها تجري أمامه، ونوح الّذي ليس له خبرة في صناعة الفلك، وكأنّه مهندس مختص رغم أنّه لم يصنع أيَّ فلك من قبل.

{وَكُلَّمَا} : الواو: حالية؛ كلما: ظرف زمان.

{مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ} : ولم يقل: مر به؛ لأنّه كان يصنع الفلك في مكان منخفض من الطّريق الّذي يمرون به.

{سَخِرُوا مِنْهُ} : استخفوا به، ضحكوا منه، أو استهانوا به، والسخرية: خاصة بالأشخاص، وأما الاستهزاء عام في الأشخاص وغير الأشخاص بالله، وآياته، ورسوله، وبالجنة، والنار، والزقوم

وغيره؛ ارجع إلى الآية (79) من سورة التّوبة؛ لمزيد من البيان.

ولأنه كان يبني سفينة في البر بعيدة عن البحر، أو أيِّ ماء، وأخبرهم أنها ستجري على الماء، وهم لم يروا سفينة قط.

{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} : إن: شرطية؛ تفيد الشّك، أو الاحتمال، ولم يقل: إن تسخروا مني؛ لأنّه شمل نفسه والمؤمنين الّذين آمنوا معه؛ لأنّهم كانوا يسخرون من الكل، تسخروا: فعل مضارع؛ يدل على التّجدُّد، والتّكرار؛ فالسّخرية مستمرة، ولم تنتهِ، ولم يقل: سخرتم.

{فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} : أي: يوم القيامة، أو عندما يأتي الطّوفان.

{كَمَا تَسْخَرُونَ} : الآن، كانوا يقولون: رسول تحول إلى نجار، أو كيف ستسير هذه الفلك، أو السّفينة على الماء، الكاف: كاف التّشبيه.

ص: 33

سورة هود [11: 39]

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} :

{فَسَوْفَ} : الفاء: للتوكيد؛ سوف: ظرف للاستقبال البعيد، والتّراخي. وإذا أردنا مقارنة (فسوف تعلمون) مع (سوف تعلمون) في الآية (93) من نفس السورة، وكذلك مع الآية (39) من سورة الزمر؛ ارجع إلى سورة الزمر آية (39) للبيان.

{تَعْلَمُونَ} : بعد فترة من الزّمن، وهذا يدل على نوح عليه السلام يعلم أنّ العذاب الطّوفان قادم.

{مَنْ يَأْتِيهِ} : من: اسم استفهام، أو اسم موصول، وتفيد الابتداء.

{عَذَابٌ يُخْزِيهِ} : يفضحه، ويذله في الدّنيا، ولا يستلزم الثّبات؛ فقد يأتي ويذهب.

{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} : في الآخرة، لا يتحول، ودائم، ويحل ضد الرّحيل، وتفيد النّزول من أعلى، حل بالمكان: نزل ليقيم فيه؛ أي: هناك عذابان، وليس عذاباً واحداً. ارجع إلى سورة الزمر آية (40) لمعرفة الفرق بين يحل عليه عذاب مقيم، ويأتيه عذاب مقيم.

ص: 34

سورة هود [11: 40]

{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} :

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية؛ أي: يصنع الفلك حتّى جاء موعد الطّوفان.

{إِذَا} : ظرفية زمانية متضمنة معنى الشّرط، وتدل على حتمية الحدوث.

{جَاءَ أَمْرُنَا} : الأمر هنا المقصود به العقوبة (الطوفان)، أو العذاب إهلاكهم بالطّوفان، وجاء: تحمل معنى الصعوبة، والمشقة مقارنة بكلمة أتى الّتي تحمل معنى المجيء بسهولة، والطّوفان أمر ليس سهل فهو مخيف، ومرعب، وفيه الهلاك، والغرق.

{وَفَارَ التَّنُّورُ} : التفسير القديم: التّنور تنور الخبز، فار التّنور: نبع الماء منه، وكانت هذه علامة على بدء الطّوفان، وعلامة لنوح، والّذين آمنوا أن يتجهوا إلى الفلك حالاً؛ فقد جاء موعد الإبحار، وتصور كيف ينبع الماء من تنور الخبز؛ فهذه معجزة تذكرنا بكيفية نبع الماء من بين أصابع الحبيب محمّد صلى الله عليه وسلم، وتدل على عظمة الله تعالى وقدرته.

أمّا التفسير العلمي، وفار التنور: أيْ: يثور البركان، وتخرج الحمم منه، وبخار الماء الشّديد، ويتحول إلى مطر غزير، يصحب ذلك هزة أرضية تشبه (التسونامي) ترفع السّفينة كالموج الّذي يشبه الجبال عشرات الأمتار.

{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} : قلنا، ولم يقل: قيل؛ تدل على العناية، والرّحمة بنوح، والّذين آمنوا معه؛ حيث أسند القول إليه سبحانه، وبصيغة الجمع؛ للتعظيم.

{احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} : احمل فيها: في الفلك. وفي سورة المؤمنون آية (27) قال تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} ، السلوك: الدخول بسهولة، والحمل يكون بعد الدخول، فآية هود جاءت في سياق الحمل، وآية المؤمنون جاءت في سياق الدخول والاستواء والنزول.

{مِنْ} : ابتدائية.

{كُلٍّ زَوْجَيْنِ} : ذكر وأنثى، واحمل فيها ما تحتاجه من طعام، وشراب، ومتاع، ولا تعني: احمل فيها من كلّ أنواع الحيوانات، والنباتات؛ فهذا أمر مستحيل؛ لكون الفلك كان لا يزيد طولها عن (150 ذراعاً)، وعرضها (50 ذراعاً)، وتعني: احمل فيها الزوج والزوجة (ذكر وأنثى).

وقيل: كانوا قلة عددهم (30-80).

وأما من فسر ذلك: احمل فيها من جميع أصناف الحيوانات، والنباتات؛ فقد قدر العلماء: أن هناك أكثر من (12) ألف مليون كائن حي، وهذا من المستحيلات، وكيف يجلب معه الحيوانات المفترسة ويضعها مع الحيوانات الأهلية.

{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} : القول: العذاب، والهلاك بالغرق؛ مثل: كنعان، وزوجة نوح.

{وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} : أي: احمل فيها من كلّ زوجين اثنين، وأهلك.

{وَمَنْ آمَنَ} : ما: النّافية.

{وَمَا آمَنَ مَعَهُ} : مع نوح.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{قَلِيلٌ} : قيل: (72) رجلاً وامرأةً، ونوح وعائلته وأولاده يصبح العدد حوالي (80) كما قال ابن عباس رضي الله عنهما .

ص: 35

سورة هود [11: 41]

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} : القائل: نوح عليه السلام ؛ لمن آمن معه.

{ارْكَبُوا فِيهَا} : ولم يقل: عليها؛ فيها: لأنّ الفلك كانت مركبة من عدة طبقات (أدوار)؛ فهي كالظّرف لهم.

{بِسْمِ اللَّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا} : مَجْريها: تقرأ قراءات مختلفة؛ منها: بفتح الميم، وكسر الرّاء، ومُجرها: بضم الميم، ومُجريها، ومَجرها، ومَرساها، مَجْرها: مصدر (من فعل جرى): اسم زمان، واسم مكان، زمان الجري، ومكان الجري، ومنهم من قرأها مُجرِيها، ومُرسِيها: بضم الميم، وبياءين.

{وَمُرْسَاهَا} : ولها قراءات مختلفة؛ باسم الله مجريها ومرساها؛ قد تعني:

باسم الله جريانها، وإرساؤها.

باسم الله جريها، وأرساها.

بسم الله تجري، وباسم الله ترسو.

{إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{لَغَفُورٌ} : اللام: تفيد التّوكيد.

{إِنَّ رَبِّى} : أيْ: هو الرّبان الحقيقي؛ فهو يُزجي السّفينة إلى مسارها الصّحيح، ولولا رحمته؛ لما نجا أحد.

ص: 36

سورة هود [11: 42]

{وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَابُنَىَّ ارْكَب مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} :

{وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} : أي: السّفينة (الفلك).

{تَجْرِى بِهِمْ} : بنوح، ومن آمن معه، جاء بصيغة المضارع بدلاً من جرت؛ ليصور لنا جريان السّفينة أمام أعيننا في وسط هذه الأمواج العالية.

{فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} : للدلالة على شدة ارتفاع الموج، وشدة الرياح، وشدة الطّوفان.

{فِى} : ظرفية.

{مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} : هذا ما نراه عند حدوث هزة أرضية شديدة تشبه (التسونامي) الّذي يرفع الموج عشرات الأمتار.

{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} : نادى: تدل على أنّ الابن كنعان كان بعيداً؛ لأنّ النّداء: هو رفع الصّوت.

{وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} : المعزل: اسم مكان منقطع؛ عزل نفسه فيه، وابتعد عن أبيه، وإخوته.

{يَابُنَىَّ ارْكَب مَعَنَا} : يا بني: نداء فيه عطف وحنان، والواجب: أن ينادي الابن أباه، وإذا نادى الأب ابنه؛ كان على الابن أن يستجيب لنداء أبيه، ولكنه عَمِيَ على بصيرته، فلم يستجبْ.

{ارْكَب مَعَنَا} : تعال، واركب معنا في الفلك.

{وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} : ولم يقل: ولا تكن من الكافرين، هذا النّداء تودُّد، وعطف من أب لابنه الّذي سيغرق عن قريب إن لم يركب في الفلك مع أبيه وأهله، ولم يطلق على ابنه كافر؛ فقال مع الكافرين؛ أيْ: في صحبة الكافرين؛ أيْ: لم يتهم ابنه بالكفر، أو يصفه بذلك؛ مما يؤدِّي بالابن إلى الإصرار على عدم الرّكوب، ورغم جريان السّفينة لا زال هناك إمكانية للركوب، والوقت وقت نجاة؛ النّجاة أوّلاً، ثمّ الإيمان إذا شاء الله، وأذن بعد ذلك.

لنقارن بين هذه الآية (42) من سورة هود: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} .

والآية (31) من سورة لقمان: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} .

الآية في سورة هود: الرّاكبون في الفلك غير خائفين من الغرق؛ أيْ: نوح ومن آمن معه، وهم ركبوا الفلك بأمر من الله تعالى، والفلك تمخر الأمواج، وما يحدث يدل على عظمة، وقدرة الله تعالى.

أمّا في آية لقمان: الرّاكبون في الفلك خائفون من الغرق، وهم من المشركين، والأمواج؛ كالظّلل؛ أيْ: أصبحت فوق رؤوسهم، وهم في مقام خوف، ورهبة يدعو إلى التّضرع إلى الله؛ لإنقاذهم وهو مقام تحذير.

ص: 37

سورة هود [11: 43]

{قَالَ سَـئَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} :

{قَالَ سَـئَاوِى} : قال الابن كنعان لأبيه: سآوي: السّين: أداة للاستقبال القريب؛ أيْ: سألجأ إلى جبل بعد قليل.

{إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ} : يعصمني: يحميني من الماء من الغرق، والعصمة: هي المنع، والحفظ ظاناً أنّ الموج، أو الماء لن يبلغ الجبل لارتفاعه، وقال نوح راداً على ابنه:

{قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ} : لا: النّافية للحال، والاستقبال.

{عَاصِمَ} : قد تكون اسم مفعول، وتعني: لا مخلوق، ولا مانع، ولا حافظ، أو لا معصوم اليوم؛ أي: الناجي، ولا يُغني، ولا يفيد جبل، ولا دعاء، ولا إيمان، ولا فرار. وعاصم: قد تكون اسم فاعل؛ أي: لا عاصم إلا الراحم (إلا الله وحده).

{مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} : من عذاب الله؛ أي: الطّوفان، والغرق.

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ} : إلا: أداة حصر.

{مَنْ} : اسم موصول؛ تفيد الاستغراق. كلّ من رحم الله؛ أيْ: بالنجاة.

{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} : وبدأ الموج يرتفع، ويرتفع حتّى لم يعد يرى الأب ابنه؛ أي: فصل، وحجز الموج بين نوح وابنه.

{فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} : الفاء: للتوكيد.

{مِنَ الْمُغْرَقِينَ} : أيْ: ليس وحده من غرق، وإنما غرق معه الكثير. مُغرقين: بضم الميم؛ أيْ: لم يغرق بنفسه بسبب السّباحة، أو غيرها، وإنما أغرقه الله رغم حذره، وحيطته، وأغرق معه كلّ كافر ومشرك.

ص: 38

سورة هود [11: 44]

{وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

{وَقِيلَ} : القائل مبني للمجهول، والمهم هنا المقولة؛ أيْ: ما قيل، وهو:

{يَاأَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ} : يا: أداة نداء للبعد. أرض ابلعي ماءك: ولم يستعمل يا أيتها الأرض؛ أيْ: يستعمل هاء التّنبيه؛ لأنّ الأرض لم تكن غافلة عما يحدث، ولا تحتاج إلى تنبيه بينما الإنسان هو الّذي يحتاج إلى تنبيه، أرض: اسم جنس.

{ابْلَعِى مَاءَكِ} : ابلعي: فعل أمر يدل على قوَّة الأمر، وفيها إيجاز؛ لأنّ الموقف جداً صعب، ابلعي بسرعة من دون تأخير، ومن دون جهد؛ كبلع الإنسان الماء من الفم إلى المعدة، أو مرور الطّعام من الفم إلى المعدة وبسرعة، ولم يقل: ابتلعي ماءك؛ مما يدل على تأخر في البلغ، وجهد، ومشقة؛ أيْ: دَعِي الماء يغور في أعماقك.

وقوله تعالى: {يَاأَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ} : يدل على أن الماء كله منبعه من الأرض، ونسبة الماء في الأرض نسبة شبه ثابتة، وهكذا عاد الماء إلى مخزنه.

والطوفان لم يغمر كلّ اليابسة كما يظن البعض، وإنما غمر جزءاً من الأرض، ولم يكن على الأرض آنذاك إلا قوم نوح.

{وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِى} : أي: كفي عن المطر، أو أمسكي، والسّحاب: يسمّى السّماء، والإقلاع هو الإمساك، ويدل هذا على أنّ الماء؛ أي: ماء الفيضان ماء حلو، وليس مالح.

{وَغِيضَ الْمَاءُ} : ذهب، وغار في الأرض؛ أي: نقص، والغيض: هو الابتلاع السريع.

{وَقُضِىَ الْأَمْرُ} : تم بسرعة نجا من نجا، وهلك من هلك، تم هلاك الكافرين من قوم نوح، ونجاة من آمن مع نوح، ثمّ ذهبوا إلى مكة في نهاية الطوفان، ومات نوح، وقيل: دفن في الحرم.

{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ} : استوت: استقرت، أو رست على الجودي. قيل: هو جبل في شرق تركيا، وليس هو جبل أرارات كما قال البعض؛ لأن جبل أرارات: جبل بركاني، لو استوت عليه السّفينة لاحترقت، واسمه جبل الجودي، وجدت عليه سفينة نوح، وتم هذا الاكتشاف عام (1948م).

{وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : قيل: ارجع إلى مطلع الآية، والقائل هنا غير معلوم، قد يكون الله، أو الملائكة، أو الصّالحين من العباد.

{بُعْدًا} : هلاكاً، والمصدر يدل على الثّبوت، وبعداً لا تحتاج إلى فاعل، أو زمن. والقول بعداً للقوم الظالمين هو دعاء على القوم الظالمين بالهلاك غير مقيد بزمن ولا بفاعل؛ أي: دعاء عام.

{لِّلْقَوْمِ} : اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.

{الظَّالِمِينَ} : جمع: ظالم، والظّلم: هو الشرك، وظالم لنفسه، وظالم للآخرين. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{الظَّالِمِينَ} : جملة اسمية؛ تدل على الثّبوت؛ أي: أصبح الظّلم صفة ثابتة لن تتغير عندهم، والظالم: هو كلّ من يخرج عن منهج ربه يُعتبر ظالم لنفسه. ارجع إلى الآية (60) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان في كلمة (بُعداً).

ص: 39

سورة هود [11: 45]

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} :

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} : لما حال بينهما الموج.

{فَقَالَ} : الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب، أو تفيد التّرتيب التّسلسلي في الحوادث، أو لعطف مفصل على مجمل.

{رَبِّ} : ولم يقل: يا رب؛ باستعمال ياء النّداء؛ لأنّ نوحاً يعلم أنّ الله سبحانه قريب منه، أو ليس هناك زمن؛ لأنّ نوحاً يريد إنقاذ ابنه، وعدم إطالة النّداء؛ لأنّ ابنه يغرق، وكلّ حرف، وكلّ ثانية مهمة.

{إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} : إنّ: حرف مشبه بالفعل؛ تفيد توكيد ما يقوله نوح إنّ كنعان من أهلي.

{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} : وإنّ: تفيد التّوكيد.

{وَعْدَكَ الْحَقُّ} : حتّى يشمل ابنه، وكلّ ما تعد به هو الحق، أو: ما وعدتني به هو الحق، ولم يقل: رب إنّ ابني من أهلي، وأنت وعدتني بنجاة أهلي، وإنّ وعدك الحق يشمل كلّ وعد وعده الله له ولعباده الآخرين، والحق هو الشّيء الثّابت الكامل الّذي لا يتغير.

وقوله: {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} : فيه تفصيل: فالله سبحانه يعلم ذلك: أنّ ابنه من أهله، وما وعده الله جاء في قوله تعالى:{وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]؛ فنوح كان لا يعلم من سبق عليه القول، ومنهم زوجته، وابنه كنعان.

{وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} : أنت: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{أَحْكَمُ} : اسم تفضيل؛ يفيد المبالغة.

{أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} : أحكم من حكم؛ أيْ: لك الحكم، والأمر، والقول الفصل، ولا تحكم إلا بالحق بين العباد، والأمم، وأحكم من الحكمة؛ أيْ: أنت أحكم الحكماء، وأفضل، وأقسط، وأعدل، وخير من حكم.

ص: 40

سورة هود [11: 46]

{قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْـئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} :

{قَالَ يَانُوحُ} : قال سبحانه رداً على قول نوح: رب إنّ ابني من أهلي:

{يَانُوحُ} : يا: النّداء: للبعد.

{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} : إنّ: للتوكيد.

{لَيْسَ} : للنفي.

{مِنْ أَهْلِكَ} : من: ابتدائية، استغراقية؛ ليس من أهلك: قد تعني: من أهل دينك؛ بسبب عمله غير الصّالح؛ لأنّ الكفر يقطع قرابة النّسب، والدّم، وقالوا: أخوَّة الدِّين أهم من أخوَّة النّسب، أو ليس من أهلك: الّذين وعدتك بنجاتهم.

فنوح عليه السلام لم يعلم، أو نسي هذا الحكم الشّرعي: إنّ الكفر يقطع صلة القرابة، والنّسب، أو لم يظن أنّه عمل غير صالح (ما قام به ابنه كنعان)، أو نسي نوح قول الله سبحانه وتعالى :{وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} ، أو نسي قوله:{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} ؛ أيْ: زوجته، وكنعان.

{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} : إنّ: للتوكيد.

{عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} : قد تعني: ما تسألني عمل غير صالح إنه ابن غير صالح، أو ما قام به، أو عمله كنعان عمل غير صالح، أو إنه ذو عمل غير صالح، أو إن كنعان كله تحول إلى عمل غير صالح؛ مبالغة في الذم، ولم يُعد يرجى منه خيراً.

{فَلَا تَسْـئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : الفاء: للتوكيد. لا: النّاهية.

{تَسْـئَلْنِ} : النّون: لزيادة التّوكيد؛ تسألن: من دون ياء المتكلم، وأشار إليها بكسرة؛ لأن الرّد فيه نهي، وإيجاز، واختصار، ونوح سأل سؤالاً واحداً.

بينما في سورة الكهف، الآية (70) قال تعالى على لسان الخضر:{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسْـئَلْنِى عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ؛ لأنّ موسى سأل الخضر ثلاثة أسئلة: عن السّفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار؛ طبقاً للقاعدة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. تسألن: سؤال واحد، تسألني: عدة أسئلة.

{مَا} : النّافية للحال، والاستقبال.

{لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : أيْ: فكر جيداً قبل أن تسأل أيَّ سؤال ليس لك به علم. والسؤال كان: {إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} ولم يكن من أهله الذين وعده بنجاتهم.

{إِنِّى أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} : إنّي: إنّ: للتوكيد، أعظك: الوعظ: النّصح بالطّاعة، والعمل الصّالح، والإرشاد إلى الخير، والتّحذير، والنّهي.

{أَعِظُكَ} : أيْ: أنهاك، وأحذرك، أو أنصحك.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} : الجاهلين: الّذين لا يعلمون بأنّه ليس من أهلك، أو الّذين يعلمون، ولا يعملون بما يعلمون، أو من الجاهلين حين قلت لك:{وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]. ارجع إلى سورة الزمر آية (64)، وسورة الفرقان آية (63) لبيان معنى الجاهلين.

ص: 41

سورة هود [11: 47]

{قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْـئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ} : إنّي: للتأكيد، كان بإمكانه أن يقول: قال: رب أعوذ بك أن أسألك، ولكن جاء بإنّي: للتوكيد؛ توكيد الاستعاذة.

{أَنْ أَسْـئَلَكَ} : أن: حرف مصدري؛ تفيد التّوكيد، وتقدير الكلام: أعوذ بك من أن أسألك ما ليس لي به علم.

{مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} : ما: النّافية، ما ليس لي به علم: يشمل هذا الطلب، وغيره، وكلّ أمر ليس له به علم، وأدرك نوح أنّه أخطأ، وارتكب ذنباً فقال:

{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : وإلا تغفر لي: وإلّا: مركبة من: إنّ: حرف شرط، لا: نافية، والسّؤال هنا: هل ارتكب نوحاً ذنباً بطلبه إنقاذ ابنه، وهو لا يعلم أنّه سبق عليه القول؟ والرّد على ذلك: أن طلب المغفرة؛ ليس مقتصراً على الذّنوب، بل هناك توبة إنابة، واستغفار، ومن دون وقوع المعصية، والله سبحانه أمر رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم أن يستغفر، ويصبر؛ فقال:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذنباً؛ فهذه توبة إنابة.

ولو نظرنا إلى قول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ونقارنه بقول آدم وزوجته في سورة الأعراف، الآية (23):{وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : فيه توكيد أكبر بالنّون الثّقيلة، وأمّا قول نوح فليس فيه تأكيد. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (23)؛ للمقارنة، والبيان.

ص: 42

سورة هود [11: 48]

{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ} : أيْ: انزل من السّفينة، والهبوط: نزول من أعلى إلى أسفل، وقيل: تعود إلى الله سبحانه؛ لقوله:

{بِسَلَامٍ مِنَّا} : هكذا يتلقى نوح هذه الكلمات الّتي تطمئن قلبه بالمغفرة، والرّحمة من الله، والسّلامة، والأمن، والاطمئنان من المكاره بعد (950 عاماً) من الدّعوة، والصّبر.

{وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} : أي: الخيرات، وقدَّم السّلام على البركات؛ لأنّ السّلام مهم، ويحتاج إليه حين الهبوط، والاستقرار، وبعد النّجاة تأتي البركات، والنِّعم، ونوح، والّذين نجوا معه لجأوا إلى مكة، وعاشوا هناك، ولما تكاثروا هاجروا إلى جنوب الجزيرة (الأحقاف)، وأطلق عليهم قوم عاد.

{وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} : أيْ: من أولادك: سام: ومنه جاء السّاميون، وحام: ومنه جاء الأفارقة، ويافث: ومنه جاء الصّين، واليابان.

{وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أيْ: أمم أخرى أمثال: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب.

{سَنُمَتِّعُهُمْ} : بمتاع الدّنيا، والمتاع: كلّ ما ينتفع به، أو ما يُتمتع به؛ كالطّعام، والشّراب، وأثاث البيت، والأداة، والمال.

{ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي.

{يَمَسُّهُمْ} : يصيبهم منا عذاب.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : في الدّنيا، وفي الآخرة؛ بسبب كفرهم، وتكذيبهم لرسلهم.

ص: 43

سورة هود [11: 49]

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} :

{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} : تلك: اسم إشارة للبعد؛ إشارة إلى قصة نوح تلك من مجموعة القصص التي ذكرت في سورة هود، أو قصة السّفينة، وإذا قارنا هذه مع قوله تعالى في سورة يوسف آية (102):{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ؛ لأنها قصة واحدة فقط.

{نُوحِيهَا إِلَيْكَ} : المخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي هو: إعلام بخفاء؛ أيْ: نخبرها إياك، أو نقصها عليك. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان.

{مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ} : ما: النّافية أقوى نفياً من لم.

{أَنْتَ} : تفيد التّوكيد.

{وَلَا قَوْمُكَ} : إضافة لا تفيد زيادة التّوكيد بدلاً من قوله: ما كنت تعلمها أنت وقومك، وتكرار لا؛ أيْ: لفصل كلاهما؛ أيْ: ما كنت تعلمها أنت وحدك، ولا قومك أيضاً، ولا كلاكما، ما كنت تعلمها؛ لأنّك لم تكن معاصراً لها؛ لتعلمها، ولم يخبرك بها أحد من قبل هذا.

{مِنْ قَبْلِ هَذَا} : من: ابتدائية.

{قَبْلِ هَذَا} : أيْ: من قبل هذا القرآن، وهناك فرق بين: من قبلِ هذا، ومن قبلُ هذا.

من قبلِ: الزّمن غير محدَّد، وغير معروف كم.

من قبلُ: الزّمن محدَّد، ومعروف كم هو.

{فَاصْبِرْ} : الفاء: للتوكيد. اصبر: يا محمّد صلى الله عليه وسلم، كما صبر نوح الّذي استمر ألف سنة إلا خمسين عاماً في دعوته.

{إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} : إنّ: للتوكيد.

{الْعَاقِبَةَ} : الجنّة.

{لِلْمُتَّقِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق. الّذين أطاعوا أوامر الله سبحانه، وتجنّبوا نواهيه.

ص: 44

سورة هود [11: 50]

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} :

{وَإِلَى} : الواو: أيْ: وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم هوداً بعد نوح.

{عَادٍ} : أيْ: عاداً الأولى الّتي سكنت الأحقاف، والأحقاف: جبال من الرّمل تقع بين عُمان، وحضرموت، وأرضهم كانت مطلة على البحر (بحر العرب)، وهي الّتي ذكرها الله سبحانه بقوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ} [الفجر: 6-8]، وهناك عاداً الثّانية (الأخرى): وهم قوم ثمود، ونبيهم صالح عليه السلام .

{أَخَاهُمْ هُودًا} : هوداً: هو ابن عبد الله بن رباح، ابن عاد، ابن إرم، ابن سام، ابن نوح، وهو من العرب، (وصالح، وشعيب، ومحمّد، وهود: هم الأنبياء الأربع من العرب).

{قَالَ يَاقَوْمِ} : يا: أداة نداء، وقوله: يا قومي: نداء فيه نوع من التّودُّد، والاستعطاف، وهو من أساليب الدّعوة؛ الدّعوة بالرّفق، واللّين؛ لفتح القلوب بكلمة طيبة.

{اعْبُدُوا اللَّهَ} : وحده، أخلصوا له بالطّاعة، والتّوحيد.

{مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : ما: النّافية.

{لَكُمْ مِّنْ} : استغراقية.

{إِلَهٍ غَيْرُهُ} : تعبدونه.

{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} : إن: نافية، وأقوى في النّفي من حرف: ما.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ أيْ: أداة استثناء؛ جاءت بعد أداة نفي؛ فهي تفيد الحصر؛ أيْ: حصراً ما أنتم إلا مفترون.

{مُفْتَرُونَ} : جمع مفتر، والافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق؛ حيث جعلوا الأوثان، والأصنام شركاء لله في عبادتهم.

لم يتهم هود قومه بالافتراء في بداية الدّعوة، بل حضهم على التّقوى؛ فقال لهم:{أَفَلَا تَتَّقُونَ} ، كما جاء في سورة الأعراف، الآية (65)، ولم يقل لهم هود:{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} إلا بعد أن استمروا في تكذيبهم له، وشركهم بالله، ورفضهم الاستجابة لدعوته.

ص: 45

سورة هود [11: 51]

{يَاقَوْمِ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

{يَاقَوْمِ} : تكرار النّداء إلى قومه، هو لكسب قلوبهم، وعطفهم، وبالتّالي إيمانهم برسالته.

{لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ} : لا: النّافية لكلّ الأزمنة.

{أَسْـئَلُكُمْ} : أطلب منكم.

{أَجْرًا} : على تبليغ الرّسالة، أو النّصح لكم، والأجر: هو الجزاء مقابل العمل، والأجر: يضم المال، وغيره، ولم يقل: مالاً، كما جاء في الآية (29) من نفس السورة على لسان نوح عليه السلام .

{إِنْ} : نافية؛ أقوى في النّفي من: ما.

{أَجْرِىَ إِلَّا} : إلا: أداة حصر. إن أجري؛ أيْ: ثوابي، ثواب عملي.

{عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى} : أيْ: خلقني، وفطرني: من الفطر؛ فطر الله الخلق: خلقهم، وأظهرهم، وأخرجهم للوجود، وفطر الشّيء: شقه، وأخرجه للوجود.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري؛ يحمل معنى الحث، وأداة حضٍّ.

{تَعْقِلُونَ} : تنظروا في الدّلائل، وتفهموا الحقائق؛ لتدركوا ما لكم من إله غيره.

ص: 46

سورة هود [11: 52]

{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} :

{وَيَاقَوْمِ} : نداء جديد، أو طلب جديد لقومه.

{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : لأنكم أشركتم به، والاستغفار: يدل على أنّ الإنسان ارتكب ذنباً، ويطلب من الله أن يغفره يستره، ويمحوه، ويعفو عنه، والتّوبة: الرّجوع إلى الله، وعدم ارتكاب الذّنب مرة أخرى، ولها شروط أخرى؛ مثل: النّدم، والإكثار من الأعمال الصّالحة.

{ثُمَّ} : تفيد التّرتيب، والتّراخي الزّمني؛ لأن الإسراع في التّوبة من أهم الأمور، وإنّما هي للترتيب التّسلسلي في الحوادث.

استغفروا ربكم، ثمّ توبوا إليه؛ لأنكم عبدتم غيره من الأصنام، والأوثان؛ فإذا تبتم واستغفرتم ربكم:

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} : السّبب في ورود هذه الآية بعد الاستغفار، والتّوبة: أنّ الله -جل وعلا- حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، واشتدت حاجتهم للمطر؛ لأنّهم كانوا أصحاب زروع.

{مِّدْرَارًا} : صيغة مبالغة؛ تعني: المطر الغزير المتتابع أوقات الحاجة، ولا يحصل منه ضرر، وأصل الدّر: سيلان اللبن، وكثرته، ثمّ استعير للمطر الغزير.

{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} : بالمال، والولد، وقيل: الولد، وولد الولد، والعدة، والسلاح؛ فالاستغفار يجلب الرزق (الغيث)، والذرية.

{وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} : ولا تعرضوا عن التّوحيد، ولا تستمروا على الشرك، والإجرام. ارجع إلى الآية (3) من نفس السورة لبيان معنى استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لبيان معنى مجرمين.

ص: 47

سورة هود [11: 53]

{قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} :

{مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} : ما: النّافية.

{بِبَيِّنَةٍ} : الباء: للإلصاق، والتّعليل، والبينة: المعجزة، أو الأمارة الدّالة على صدق نبوتك.

{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} : وما نحن بتاركي عبادة آلهتنا.

{عَنْ قَوْلِكَ} : عن: تفيد المجاوزة، والبُعد، ونستغفر ونتوب طمعاً في إرسال السّماء علينا مدراراً، أو الزيادة في القوَّة.

{وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} : أيْ: بمصدقين؛ الباء: للتوكيد.

{لَكَ} : قدَّم الجار والمجرور؛ للحصر؛ أيْ: لن نؤمن لك خاصة. ولم يقل: ما نحن بمؤمنين لك؛ أيْ: لن نؤمن لك، وقد نؤمن بغيرك.

وهناك فرق بين آمن به، وآمن له:

آمن به: إيمان عقيدة.

وآمن له؛ أيْ: صدقه وخضع له، وأذعن.

ص: 48

سورة هود [11: 54]

{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} :

{إِنْ نَقُولُ} : إن: نافية، وأقوى في النّفي من حرف: ما؛ أيْ: ما نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} : أصابتك بعض آلهتنا بسوء: بجنون، أو مس، أو خبل، وهذيان، خلط الكلام؛ لأنّك تعيب على آلهتنا، وجئت بإله جديد واحد، وقلت: إنها ليست آلهة، ولا تستحق العبادة.

{قَالَ إِنِّى} : إنّي: للتوكيد؛ يؤكِّد ما سيقوله.

{أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} : أشهد الله: من الشّهادة؛ تعني: الإقرار، والاعتراف بأنّي بريء مما تشركون.

{وَاشْهَدُوا} : هنا تعني: الإعلام؛ أيْ: واعلموا، ولم يقل: إني أشهد الله وأشهدكم؛ لأنّهم ليسوا أهلاً للشهادة، وإنما قال: اشهدوا؛ أي: اعلموا: أنّي بريء مما تشركون؛ أيْ: لا أعبد الّذي تعبدون. ارجع إلى سورة الأنعام آية (19) للبيان.

ص: 49

سورة هود [11: 55]

{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} :

{مِنْ دُونِهِ} : من سواه، أو من غير الله؛ أيْ: لا أعبد إلا الله.

{فَكِيدُونِى} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ فهو يتحدَّى قومه مباشرة من دون إمهال، وأكَّد التّحدي بزيادة ياء المتكلم، ولم يقل: فكيدون، كما جاء في سورة الأعراف، الآية (195).

{جَمِيعًا} : أي: اجمعوا كيدكم، وهم كثرة، وهو فرد واحد؛ فهو يتحداهم جميعاً معاً، ويتحدَّى كلّ منهم بمفرده، ويتحدَّى قومه إضافة إلى الآلهة؛ لأنّه واثق بنصر الله له، وحفظه من أعدائه.

والكيد: هو التّدبير الخفي؛ لإيقاع المكروه بالغير قهراً؛ سواء أعلم، أم لم يعلمه الخصم، وهو أقوى من المكر، ولا يكون إلا بعد تدبُّر، وتفكير، ونظر؛ والكيد: قد يصل إلى درجة القتل، أو إلحاق أيِّ ضرر به.

{ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} : ثم: هنا للإمهال، والتّراخي في الزّمن، وطول التّحدي؛ أي: التّحدي لا ينتهي مهما طال الزّمن. ارجع إلى سورة الأعراف، الآية (195)؛ للبيان، والمقارنة.

ص: 50

سورة هود [11: 56]

{إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

في هذه الآية يعلن هود توكله على الله ربه، الرّب المعين، والمتولِّي أموره، ومصرفها، والنّاصر.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} : على أن يحرسني، ويحفظني، ويكلؤني من كيدكم بعد أن قدمت الأسباب.

{رَبِّى وَرَبِّكُمْ} : ولم يقل: ربنا؛ لأنّهم لا يؤمنوا بأنّه الرّب، وربي وربكم؛ أي: هو ربكم رغم إنكاركم له؛ فهو رازقكم، ومتولِّي أموركم.

{مَا مِنْ دَابَّةٍ} : ما: النّافية.

{مِنْ} : استغراقية للمفرد، والجمع، والمثنى؛ تستغرق كلّ دابة، والدّابة: تشمل كلّ من يدب على الأرض من إنس، وجن، وحيوان، وطير. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (60) لمزيد من البيان.

{إِلَّا هُوَ} : إلا: أداة حصر؛ هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} : النّاصية: منبت الشّعر في مقدَّم الرّأس فوق الجبهة؛ كناية عن القهر، والغلبة؛ أيْ: في قبضته، وملكه؛ أيْ: مسيطر عليها، ومتصرف بأمرها، وقادر على إحيائها، وإهلاكها؛ فهي خاضعة له إما اختياراً، أو قسراً.

النّاصية في الإعجاز العلمي: هي مقدَّم الفص الجبهي من الدماغ؛ الّذي هو يحوي مركز الإدراك، والفهم، والذاكرة، والإرادة، والأمور العاطفية، والحكم.

{إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : إنّ: للتوكيد.

{رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : أي: على طريق الحق، والعدل، أو يهدي إلى طريق الحق، والعدل، ويبين لهم ويدلهم على الصّراط المستقيم: الإسلام، أو لا يفوته ظالم، وينصر المظلوم، ولا يخفى عليه أحد من خلقه إذا أراد العبد الهرب، والضّلال، أو تعني: على صراط مستقيم لا يريد إلا العدل لكل عبد، وأن يدلَّه على طريق النّجاة، بل يُري كل دابة طريق النجاة.

ص: 51

سورة هود [11: 57]

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْـئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} :

{فَإِنْ} : الفاء: عاطفة للتوكيد؛ إن: شرطية.

{تَوَلَّوْا} : تستمروا على الإعراض، وعدم الإيمان، وأصل تولوا: تتولوا، وحذف إحدى التاءين. تولوا: ولو كان قليلاً، وتولَّى: انصرف، أو ابتعد، أو أعرض؛ أي: ابتعدتم عني، ولم تسمعوا لما أقوله.

{فَقَدْ} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط (للتوكيد). قد: حرف تحقيق.

{أَبْلَغْتُكُم} : من البلاغ؛ أيْ: إيصال ما أرسلت به إليكم بأحسن صورة مع البيان.

{مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} : ما: اسم موصول؛ تعني: الّذي، أو مصدرية؛ أيْ: فإن تولوا لا أبالي؛ لأني أبلغتكم كلّ ما أرسلت به إليكم.

{وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} : يستخلف؛ أيْ: يأتي بقوم بعدكم خلفاء مباشرة من دون انقطاع، أو يأتي بجيل جديد غيركم، ولا يكونوا أمثالكم في الكفر، والشّرك، بل أفضل منكم طاعة، واستجابة.

ولم يقل: يستبدلكم؛ فالاستبدال: هو المجيء بجيل بعد جيل، أو قوم بعد قوم، ولو كان بعد انقطاع طويل، أو مرور قرون طويلة، أو سنين، والاستخلاف أفضل من الاستبدال.

{وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْـئًا} : ولم يقل: ولا تضروه شيئاً، بل أضاف النّون: للتوكيد؛ لأنّه الموقف، أو السّياق في الكفر، والإعراض.

{شَيْـئًا} : الشّيء: هو أقل القليل، وشيئاً: جاء نكرة؛ لتشمل كلّ شيء قليلاً، أو كثيراً، أو مهما كان نوعه.

وأمّا لا تضرُّوه شيئاً؛ كقوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـئًا} [التوبة: 39]؛ فقد جاءت في سياق عدم الخروج للجهاد، والإعراض عنه؛ رفض الجهاد: وهو أقل درجة من الكفر، والشّرك، ولذلك استعمل معها: ولا تضروه من دون توكيد بدلاً من: ولا تضرونه؛ أيْ: فلا تضرونه شيئاً إن كفرتم، أو آمنتم، ولا تضرونه شيئاً إن جاهدتم، أو كنتم مع الخالفين، أو القاعدين؛ لأنّ الله سبحانه غني عن عباده، وغني عن عبادتهم.

{إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} : رقيب، ويحفظ خلقه، ويحفظ على الخلق أعمالهم من خير، وشر، وطاعة، ومعصية يكتبها لهم في سجلات أعمالهم ليثيبهم عليها، أو ليجزيهم عليها، ويحصي عليهم أقوالهم، وأفعالهم، ويعلم ما تكن صدورهم، ونياتهم، ويحفظ عباده من السّوء، والشّياطين، والذّنوب إذا شاء، كما يحفظ السّموات والأرض أن تزولا، أو تقعا.

ص: 52

سورة هود [11: 58]

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} :

{وَلَمَّا} : لما: ظرفية زمانية، حان نزول العذاب بهم، ولأنه لم يحدد لهم وقت العذاب جاء بـ (لما) كما في قصة عاد ومدين، وجاء بـ (فلما) حين حدد لهم وقت العذاب كما في قصة ثمود ولوط، فصالح قال لهم:{تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} ، ولوط قال لهم:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} .

{جَاءَ أَمْرُنَا} : الأمر بهلاكهم، أو عذابهم؛ الأمر: العذاب: الرّيح العقيم.

{نَجَّيْنَا} : تدل على طول مدة النّجاة، ولم يقل: أنجينا الّتي تدل على سرعة النّجاة.

{هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} : رحمة منا، ولم يقل: من عندنا، أو من لدنا رحمة منا رحمة عامة تشمل كلّ مؤمن.

من عندنا، من لدنا: تدل على أنّها رحمة خاصة بالأنبياء، أو المقربين.

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول؛ يعني: عدداً كبيراً من الّذين آمنوا معه؛ مقارنة بقوله: ومن معه الّتي تعني: القلة.

{وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} : تكرار نجينا؛ تفيد التّوكيد.

{مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} : شديد شاق ثقيل، لا يقدر عليه أحد.

ص: 53

سورة هود [11: 59]

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} :

{وَتِلْكَ} : تلك: اسم إشارة للبعد؛ يشير إلى قبيلة عاد.

{عَادٌ} : أي: عادٌ الأولى.

{جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : الجحود: إنكار الشّيء الظّاهر مع العلم به، كالآيات الظاهرة والمعلومة لهم، ولذلك قال: جحدوا بآيات ربهم، والجحود: أخص من الإنكار؛ أمّا الإنكار: فيكون للشيء الظّاهر، والشّيء الخفي معاً، وقد يكون مع العلم، أو غير العلم.

{بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : الباء: للإلصاق؛ أي: المعجزات.

{وَعَصَوْا رُسُلَهُ} : جاء بصيغة الجمع مع أنّ الّذي أرسل إلى عاد هو هود فقط، وذلك؛ لأنّ من عصى رسولاً؛ فقد عصى كلّ الرّسل؛ لأن كلّ رسول يتبع من قبله، ويؤمن به، ورسالتهم واحدة.

{وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} : الجبار: الذي يتعاظم بالقهر، أو المتسلط، أو القتَّال. وتجبر أبلغ من تكبر، العنيد: الذي لا يقبل الحق، ولا يذعن له، أو المخالف للحق وهو عارف به.

و {عَنِيدٍ} : صفة مشبهة من فعل عنِدَ؛ صيغة مبالغة في العناد على وزن فعيل.

{وَاتَّبَعُوا} : صيغة مبالغة في الاتباع؛ اتَّبع: على وزن افتعل؛ أيْ: أشد اتباعاً.

{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : مرحلة أولى: مرحلة الجحود، {وَعَصَوْا رُسُلَهُ}: مرحلة ثانية: مرحلة العصيان، {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: مرحلة ثالثة: مرحلة التّحدي.

ص: 54

سورة هود [11: 60]

{وَأُتْبِعُوا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} :

فكان عاقبة جحودهم، وعصيانهم، واتباعهم أمر كلّ جبار عنيد: هي اللعنة.

واللعنة: تعني الإبعاد عن رحمة الله تعالى، والطّرد، وأُتْبعوا في هذه الدّنيا لعنة: لعنة أولى تمثلت بالرّيح العقيم، ويوم القيامة: اللعنة الثانية سوف تتمثل بعذاب النّار.

{أَلَا} : أداة تنبيه؛ لما بعدها من الكلام.

{إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} : كفروا ربهم: تجمع كلّ أنواع الكفر؛ أنكروا وجوده، ونعمه، وهو أشد أنواع الكفر، لو قال: كفروا ربهم: لكان كفر مقتصر على الإيمان.

{أَلَا} : أداة تنبيه أخرى؛ لما بعدها من الكلام، والتّوكيد.

{بُعْدًا} : هلاكاً؛ يقال: بَعُدَ بُعْداً؛ بمعنى: هلك، أو بُعداً: أبعدهم الله، أو طردهم من رحمته؛ فلن تنالهم رحمة الله تعالى بعد ذلك. هناك بُعد بعَدهُ لقاء، وهناك: بُعد ليس بعده لقاء، وهي هنا تدل على أنّه بُعداً لا لقاء بعده؛ إلا يوم القيامة؛ بُعداً منصوبة على معنى أبعدهم الله فبعدوا بُعداً؛ أيْ: عن رحمته.

{أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} : أيْ: هلاكاً لعادٍ (قوم هود): توكيد؛ لأن قوم هود هم عاد، وهل هناك فرق بين بعُد: بضم العين، وبَعِدَ بكسر العين؟

العرب تستعمل بعُد: بضم العين في المكان. وبَعِدَ: بالكسر في الهلاك، ثمّ استعملوا بعُد: بالضم في الهلاك.

ص: 55

سورة هود [11: 61]

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} :

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} : أيْ: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً.

{أَخَاهُمْ} : من القبيلة؛ أيْ: واحداً منهم ليس غريباً عنهم.

{صَالِحًا} : صالح هو الرّسول الثّاني من العرب من أحفاد ثمود.

وثمود: قبيلة سكنت مكان يسمّى الحجر، أو مدائن صالح شمال غرب المدينة المنورة بـ (380كم)، وسمّوا أصحاب الحجر، أو قوم صالح، أو قوم ثمود؛ لهم ثلاثة أسماء، وهم ممن تبقى من قوم عاد.

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : قال: يا قوم: نداء فيه حنان، وعطف، وتودُّد من أساليب الدّعوة. والقوم: الرّجال والنّساء.

{اعْبُدُوا اللَّهَ} : العبادة تشمل الطّاعة فيما أمر به، أو نهى عنه، وتشمل كلّ قول طيب، وعمل صالح، اعبدوا الله وحده. ارجع إلى الآية (2) من نفس السورة.

{مَا} : النّافية.

{لَكُمْ مِّنْ} : من: استغراقية.

{إِلَهٍ غَيْرُهُ} : سواه؛ أيْ: لا إله إلا الله، وجاءهم بدليلين على التّوحيد هما:

{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} : هو: ضمير فصل يدل على التّوكيد، والحصر.

{أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} : ابتدأ خلقكم من تراب. ارجع إلى سورة الروم، آية (20)؛ لبيان معنى أنشأكم من الأرض.

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} : جعلكم عماراً فيها تعمرونها تبنون بيوتكم وتسكنونها، وتعمرونها بالزّراعة، والصّناعة

وغيرها؛ فالإنشاء يسبق الاستعمار، واستعمركم فيها: لا تعني فقط: تبنون بيوتكم فيها، بل تعني: كذلك حين يرث الابن دار أبيه؛ فكأنما أعمره إياها، واستعمركم: قد تعني: استبقاكم فيها (من البقاء)؛ يسكنها مدة بقائه حياً، ثمّ يتركها لغيره.

{فَاسْتَغْفِرُوهُ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة، والسّرعة؛ أي: استغفروه حالاً، وبسرعة، استغفروه من الشّرك، ومن الذّنوب، والمعاصي.

{ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : ثم: لا تعني التّرتيب، والتّراخي في الزّمن؛ لأنّ التّوبة يجب الإسراع بها، وإنّما التّباين في الصّفات؛ فالتّوبة أفضل من فعل الذّنب، توبة الإنابة من دون ارتكاب ذنب، أو ثمّ: تفيد في التّسلسل في الحوادث، والتّعاقب، استغفروه، ثمّ توبوا إليه.

والتّوبة تعني: الإقلاع عن الذّنب، والنّدم، والإكثار من النوافل، والأعمال الصالحة. ارجع إلى الآية (3) من نفس السورة.

{إِنَّ رَبِّى} : إنّ: للتوكيد.

{قَرِيبٌ} : يسمع استغفاركم وتوبتكم، أقرب إليكم بعلمه من حبل الوريد.

{مُّجِيبٌ} : يجيب دعاء الخلق، ويقبل التّوبة، يجيب دعوة الدَّاع إذا دعاه.

فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:

ص: 56

سورة هود [11: 62]

{قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} :

{قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا} : أيْ: إنساناً نأمل فيه الخير، والأمانة، وسداد الرّأي، ونرجع إليك للاستشارة، ونأخذ برأيك، وقدَّم فينا على (مرجواً)، وكان بالإمكان أن يقول: قد كنت مرجواً فينا، قدَّم؛ لأنّ الكلام يتعلَّق بهم أولاً بأنفسهم فهم قدَّموا أنفسهم للاهتمام.

{قَبْلَ هَذَا} : الإنذار؛ أيْ: ترك عبادة الأصنام.

{أَتَنْهَانَا} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد.

{نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} : ولم يقل: أن نعبد ما عبد آباؤنا، ولكنه جاء بصيغة المضارع للاستمرار في عبادتهم. ما: اسم موصول؛ بمعنى الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} : إننا: إضافة النّون: للتوكيد.

{لَفِى شَكٍّ} : اللام: للتوكيد، والتّعليل، والشّك: هو استواء طرفي الإثبات، والنّفي؛ لفي شك مما تدعونا إليه مريب: وإننا بكلّ توكيد في شك من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان، والأصنام الّتي عبدها آباؤنا.

{مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} : من الرّيبة: وهي الشّك، والاتهام.

لنقارن هذه الآية (62) من سورة هود: {وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .

مع الآية (9) من سورة إبراهيم: {وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} .

إننا: في آية سورة هود فيها توكيد، وتفصيل؛ لأنّ تكذيب قوم صالح أشد من تكذيب الأقوام في سورة إبراهيم. تدعونا:(الّذي يدعوهم هو نبي واحد)، أما تدعوننا: فـ (الأنبياء أو الرّسل الّذين يدعوهم كثرة).

ص: 57

سورة هود [11: 63]

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَآتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ} :

{قَالَ يَاقَوْمِ} : قال صالح: يا قوم: نداء فيه تودُّد وحنان.

{أَرَءَيْتُمْ} : الهمزة همزة استفهام، تعجُّب، وتقرير، والرّؤية رؤية قلبية، أو فكرية؛ بمعنى: العلم، وبشكل مؤكَّد.

{إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى} : إن: شرطية.

{كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى} : البيِّنة: الحُجَّة الواضحة، والبرهان القاطع الدّال على وجوب عبادة الله وحده (ناقة الله لكم آية).

{وَآتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً} : قدَّم منه على الرّحمة؛ لأنّ الكلام جاء في سياق قدرة الله، وعظمته، وليس في سياق الرّحمة؛ فقدَّم منه.

{مِنْهُ رَحْمَةً} : النّبوَّة، وقيل: الهداية إلى الله، وقيل: الإيمان والإسلام، وقد تشمل الكلّ؛ رحمة: جاء بصيغة النّكرة؛ لتشمل أكثر من معنى.

{فَمَنْ يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ} : الفاء: للتوكيد، من: استفهامية للعاقل، وتعني: المفرد، أو الجمع.

{يَنصُرُنِى} : ينجيني من عذاب الله.

{إِنْ عَصَيْتُهُ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشّك في عصيانه؛ أيْ: عدم طاعته.

{فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ} : ما: النّافية.

{تَزِيدُونَنِى} : مضارع، وزيدت فيه نون الوقاية؛ للتوكيد على الزّيادة، أو المبالغة فيها.

{تَخْسِيرٍ} : تدلّ على الزّيادة في الخسارة، أو الخسران؛ أي: هو أشد الخسارة، ووردت هذه الكلمة تخسير في هذه الآية فقط في كل القرآن.

فما تزيدونني غير تخسير. التخسير: يدل على أمرين: أولاً: لم يربح في تجارته، ولم يحافظ على رأس ماله، بل خسر أيضاً رأس ماله.

أمّا الفرق بين الخسارة والخسران: فالخسران أقوى وأشد من الخسارة؛ كقوله: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الكهف: 82]، {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، والآية (22) من نفس السورة للمقارنة، ومعرفة معنى الأخسرون، والخسارة، والخسران.

ص: 58

سورة هود [11: 64]

{وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} ؟

{وَيَاقَوْمِ هَذِهِ} : نداء فيه استعطاف وتودُّد.

{هَذِهِ} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة يدل على القرب.

{نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} : سمَّاها صالح ناقة الله تشريفاً للناقة الّتي هي معجزة من عند الله؛ فقد طلبوا منه معجزة، أو آية تثبت لهم نبوته فطلبوا أن يخرج لهم من إحدى صخور الجبل الصّماء ناقة، وسنرى ذلك في آيات وسور أخرى، قال: ناقة الله لكم آية: لكم خاصة، وليس لكلّ البشر، ولم يقل: ناقة الله آية لكم؛ لدل ذلك على أنّ الآية لهم ولغيرهم.

{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ} : وقوله: ناقة الله، أو أرض الله؛ لأنّ كلّ ما في الكون من كائنات، ومملوكات هي لله سبحانه.

{فَذَرُوهَا} : اتركوها تأكل مما تشاء، وأين تشاء، وكيف تشاء، وليس عليكم رزقها، أو تدبيرها.

{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} : ولم يقل: لا تقتلوها، بل نهى عن مجرد مس النّاقة بأيِّ سوء، أو أذى، بسوء نكرة مهما كان شكله، ونوعه، ولو كان أدنى القليل، وغيره من أنواع الأذى. والسّوء أعم من القتل؛ أيْ: يشمل القتل.

{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} : قال لهم صالح هذا بعد أن عقروا الناقة قال: {تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} ، ولذلك قال تعالى {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} ، وفي بداية الدّعوة حذرهم، وقال لهم:{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} كما ورد في سورة الأعراف آية (73)، وفي سورة الشعراء آية (156):{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} كان هذا في نهاية الدعوة والتحدي والإعراض. ارجع إلى سورة الأعراف آية (73) للمقارنة، وإلى الشعراء آية (156).

ص: 59

سورة هود [11: 65]

{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} :

{فَعَقَرُوهَا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ عقروها: من العقر، والعقر: هو القطع، ويأتي بمعنى الذّبح، ولو قطعَ أيِّ عضو من أعضاء النّاقة يسمى عقراً؛ فهم لم يكتفوا بقطع، أو بتر عضو، بل ذبحوا النّاقة.

{فَعَقَرُوهَا} : تدل على الجمع قال: عقروها؛ لأنّهم اشتركوا في المؤامرة على عقرها (تسعة رهط)، كما ورد في سورة النمل، الآية (48)؛ أمّا في سورة القمر، آية (29)؛ فتعاطى (أيْ: سيفه)؛ فعقر تدل على الّذي قتل النّاقة هو كما قيل قدار بن سالف.

{تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} : أيْ: عيشوا فيها ثلاثة أيّام، وكلوا واشربوا.

{فِى دَارِكُمْ} : الدّار تعني: البلدة، أو القرية، أما دياركم تعني: المنازل، أو المساكن.

{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} : مكذوب: صيغة مبالغة من كذب؛ أيْ: وعد صادق لا ريب فيه. والوعد عادة يأتي في الخير، واستعماله هنا للتهكم، وهو من قبيل تأكيد الشيء بنفي نقيضه.

ص: 60

سورة هود [11: 66]

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب، والسّرعة (ثلاثة أيّام).

{جَاءَ أَمْرُنَا} : جاء، ولم يقل: أتى؛ لأنّ في المجيء صعوبة ومشقة والإتيان فيه سهولة، وخفة.

{أَمْرُنَا} : العذاب: هو الصّيحة.

{نَجَّيْنَا} : ارجع إلى الآية (58) من نفس السّورة.

{صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} : الّذين تدل على كثرة الّذين آمنوا معه؛ أيْ: اتبعوه.

{بِرَحْمَةٍ مِنَّا} : قدَّم الرّحمة هنا لتتسع لمن آمن، ولم يكن تقياً؛ لأنّه في آية أخرى ذكر نجينا الّذين آمنوا، وكانوا يتقون، فذكر الرّحمة هنا أغنى عن ذكرى التّقوى.

{وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} : الإذلال، والقهر يوم القيامة. انظر إلى كلمة (يومئذٍ): هذه فقد وردت في سورة المعارج آية (11) وهي قوله تعالى: {لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} ، وإعرابها يكون كالتالي: يوم: مضاف إليه مجرور؛ إذ: ظرف (زماني أو مكاني) مبني على السكون في محل جر مضاف إليه، والتنوين: هو تنوين العوض عن جملة محذوفة مقدرة نجينا، ويومئذٍ: تختلف عن يومئذ كما في الآية (42) من سورة النساء وهي قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} يومَ: ظرف زمان منصوب.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} : إنّ تفيد التّوكيد.

{رَبَّكَ هُوَ} : ضمير فصل للحصر، والتّوكيد.

{الْقَوِىُّ} : القادر على كلّ شيء كامل القوَّة عظيم القدرة.

{الْعَزِيزُ} : الغالب لا يُغلب، ولا يُقهر، والممتنع، ولا يكون ذلك إلا بكونه قوياً، ولذلك دائماً يقدِّم القوي على العزيز؛ لأنّ العزة مبنيَّة على القوَّة.

ص: 61

سورة هود [11: 67]

{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :

{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} : الصيحة: صيحة من السماء؛ ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (41)؛ للبيان، وأخذ: ولم يقل: وأخذت كما ورد في قوم شعيب في الآية (94) من سورة هود: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} ، جاء بصيغة التّذكير الّتي تدل على الشّدة، والقوَّة من أخذت بصيغة التأنيث (يستعمل صيغة المذكر مع الأشد)؛ أيْ: أخذ أشد من أخذت.

فالصّيحة الّتي حلت بقوم صالح أشد كثيراً من الصّيحة الّتي حلت بقوم شعيب؛ إذن: الموقف مختلف من حيث العذاب وشدته، ونوعه، وسمّى الله سبحانه هذا العذاب بالصّيحة وسمّاه بالرجفة، والطّاغية، والصّاعقة، كما ورد في سورة الأعراف، آية (78):{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} ، وفي سورة الحاقة، الآية (5):{فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ، وفي سورة فصلت، آية (13):{فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} .

{فَأَصْبَحُوا} : الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب.

{فِى دِيَارِهِمْ} : وقيل: في ديارهم، مساكنهم أو بيوتهم، ولو قال دارهم كما ورد في سورة الأعراف آية (78) تعني: بدلم أو وطنهم؛ فأصابتهم الصّيحة أينما كانوا وأحلوا. وجاءت كلمة الصيحة مصاحبة ديارهم في آيتين في سورة هود (آية: 67، 94)، وجاءت كلمة الرجفة مصاحبة دارهم في ثلاث آيات، وقيل الصيحة أشد من الرجفة في الهلاك والبُعد.

{جَاثِمِينَ} : الجاثم: من لزم مكانه، ولم يبرح، أو لصق بالأرض بعد انتزاع روحه.

ص: 62

سورة هود [11: 68]

{كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} :

{كَأَنْ لَّمْ} : الكاف: للتشبيه، وإنّ: للتوكيد، والتّشبيه بكأن أبلغ من التّشبيه بالكاف؛ تفيد التّقريب.

{لَّمْ} : حرف نفي.

{يَغْنَوْا فِيهَا} : أيْ: يعمروها، أو يطول مقامهم فيها، ويغنوا من الغناء؛ أي: الوجود، أو الإقامة؛ أيْ: كأن لم يكونوا موجودين، أو أحياءً، أو يغنوا من الغنى، وكثرة المال؛ أيْ: كأنّهم لم يكونوا أغنياءَ، وفي سعة من العيش. فيها: تعود إلى الديار.

{أَلَا} : أداة تنبيه لما يرد بعدها من الكلام.

{إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} : ارجع إلى الآية (60)؛ للبيان.

{بُعْدًا} : ارجع إلى الآية (60) من نفس السورة؛ للبيان.

{لِثَمُودَ} : اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد.

ص: 63

سورة هود [11: 69]

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، اللام: للتوكيد، قد: تزيد التّوكيد.

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} : جبريل عليه السلام ، ومعه ملكان؛ كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .

{بِالْبُشْرَى} : البشارة بالولد، وهو المرجَّح، وقيل: بهلاك قوم لوط، والبشرى عادة هي الإخبار بشيء يَسرُّ قبل أوان وقوعه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ للبيان.

{قَالُوا سَلَامًا} : أيْ: نسلم سلاماً (جملة فعلية تدل على التّجدُّد والتّكرار).

{قَالَ سَلَامٌ} : قال إبراهيم رداً عليهم: سلام؛ أيْ: سلام عليكم؛ جملة اسمية تدل على الثّبوت، والجملة الاسمية: أقوى من الفعلية؛ فيكون إبراهيم قد رد التّحية بأحسن منها، كما قال سبحانه في القرآن:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].

{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والسّرعة.

{لَبِثَ} : أسرع بإعداد الطّعام، وإحضاره للضيوف، وهذا دلالة على جوده وكرمه.

{أَنْ} : حرف مصدري يدل على التّوكيد، أو التّعليل.

{بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} : العجل هو ولد البقرة.

{حَنِيذٍ} : مشوي على الحجارة المحماة، وقيل: حنيذ يقطر دسماً، وحنذ الشّاة شواها، وفي الذّاريات، الآية (26):{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} : دلالة على كرمه، وحبه للضيف.

وحنيذ: لا تعني سمين، سمين تصف العجل، وحنيذ كيف أعده وشواه.

ص: 64

سورة هود [11: 70]

{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، لما: ظرف زماني بمعنى: حين.

{رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} : رأى إبراهيم أيديَ الملائكة (وهو لمَّا يعرفهم بعد أنّهم ملائكة) لا تمتد إلى الطّعام لتأكل؛ لأنّ الملائكة لا يأكلون.

{نَكِرَهُمْ} : شعر بشيء على غير ما تعهد أنكر عليهم ذلك، لم يصدق ذلك، أو شعر بشيء غير مألوف؛ لأنّ العرف إذا نزل بهم ضيف يأكل ويشرب، ولا يمتنع عن ذلك إلا إذا جاء طالباً شيئاً؛ فلا يأكل حتّى يستجاب لطلبه، ثمّ يأكل، أو إذا جاء ينوي الشّر؛ فإذا أكل أمنوه.

{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} : أوجس: أضمر، أو أحس، وشعر بالخوف، حاول أن يضمر، ويخفي شعوره بالخوف منهم، وأن لا يظهر خائفاً، ولكن سرعان ما ظهر الخوف على وجهه، ولم يستطع أن يخفيه؛ فلما رأى الملائكة ذلك قالوا له:{لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} ، وفي آية أخرى:{قَالُوا لَا تَوْجَلْ} [الحجر: 53].

أوجس من الإيجاس: من الوجس؛ إضمار الخوف والفزع الّذي يقع في القلب.

لنقارن هذه الآية: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} الآية تتحدث عن إبراهيم عليه السلام .

مع الآية (67) من سورة طه: {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} الآية تتحدث عن موسى عليه السلام .

ما هو الفرق بين الآيتين: أوجس منهم خيفة؛ أيْ: إبراهيم عليه السلام شعر بالخوف من الملائكة، وحاول إخفاءَه في نفسه، وعدم إظهاره للملائكة، ولكن سرعان ما ظهر الخوف على وجهه؛ فعلموا: أنّه خائف؛ فقالوا له: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وتقديم كلمة منهم يدل على أنّ الخوف كان منهم وحدهم لا من غيرهم.

بينما في سورة طه: أوجس موسى عليه السلام في نفسه خيفة؛ أيْ: شعر بالخوف، وأضمره، وحاول إخفاءَه في نفسه، وعدم إظهاره للسحرة، وبعون الله استطاع موسى إخفاءَه، وعدم إظهاره للسحرة، ولو ظهر على وجه موسى لدلَّ ذلك على ضعف موسى أمام السّحرة، وفرعون، والملأ، والموقف لا يسمح بذلك؛ فهو موقف تحدٍّ وإعجاز.

إذن الفرق بينهما: إبراهيم عليه السلام لم يستطع كتمان خوفه؛ فظهر عليه أنه خائف؛ بينما موسى عليه السلام استطاع أن يكتم خوفه عن السّحرة بعون الله.

ص: 65

سورة هود [11: 71]

{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} :

{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} : امرأة إبراهيم سارة بنت هاران.

{قَائِمَةٌ} : وراء الستار، أو الحجاب؛ تسمع كلامهم، أو قائمة تخدمهم، أو قائمة بخدمة الرّسل، وإبراهيم جالس معهم. وقيل: قائمة تصلي.

{فَضَحِكَتْ} : الفاء: للترتيب والتّعقيب، ضحكت: هو الضّحك المعروف، وهو المرجح. وقيل: الضحك: التعجب.

وسبب ضحكها: هو البشارة بالولد، وهي عجوز عقيم، وقيل: إنّ في الآية تقديماً، وتأخيراً؛ أيْ: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب؛ فضحكت من شدة الفرح بالولد، وابن الولد، وقيل: سبب ضحكها؛ لما علمت ما سيحل بقوم لوط من الهلاك والدّمار، ومن التّفاسير النّادرة ضحكت؛ أيْ: حاضت شعرت بدم الحيض.

{فَبَشَّرْنَاهَا} : الفاء: تدل على التّعقيب، والتّرتيب، والبشارة: هي الخبر السّار الّذي يُسمع لأوّل مرة، ويؤدِّي إلى ظهور علامات السّرور على بشرة الوجه ارجع إلى سورة البقرة، آية (119).

{بِإِسْحَاقَ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد، والقرب.

{وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} : أيْ: من بعد إسحاق عليه السلام يعقوب، الوراء: تعني: هنا ولد الولد (يعقوب).

ص: 66

سورة هود [11: 72]

{قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} :

{قَالَتْ} : سارة زوجة إبراهيم.

{يَاوَيْلَتَى} : يا: النّداء، ويله: وأبدلت الياء في ويلتي بالألف لمد الصّوت في التّعجب، وكلمة يا ويلتى تقال عند وقوع الأمر العظيم خيراً كان أم شراً، وعند الجزع ووقع الدّاهية العظيمة، يقال للتعجب مما حل به، وقد تعني: يا فضيحتاه، وقد تعني الهلاك؛ أيْ: يا هلاكي (يا أيها الموت) أقبل وخلصني مما أنا فيه، وهو دعاء على النّفس بالويل، والويل من معانيه الهلاك.

إذنْ يا ويلتي: للتعجب، أو: يا فضيحتاه، أو: يا هلاكي، والأغلب أنّها قالتها للتعجب.

{أَأَلِدُ} : الهمزة: للتعجب، والاستبعاد، أألد وأنا عجوز عقيم، أألد وقد بلغني الكبر. قيل: كان عمرها يتجاوز (90 عاماً).

{وَأَنَا عَجُوزٌ} : أنا: ضمير فصل. عجوز: مشتقة من العجز، والعجز يعني: عدم القيام، والقدرة على الحركة بسهولة.

ومن تقدَّم به العمر يصبح عجوزاً، ومن الصعب تحديد عمر ٍمحدَّدٍ يطلق فيه على المرأة عجوز.

{وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا} : وهذا اسم إشارة للقرب؛ لكون إبراهيم قريباً منها.

{بَعْلِى} : زوجي، ويسمَّى زوج المرأة بعلاً؛ لأنّه القائم على أمر زوجته، فلا يحوجها إلى شيء من الأشياء، ويقال للنخل، أو بعض الزّرع: بالبعل؛ لكونه لا يحتاج إلى مطر، أو سقي، ويكتفي بما يمتصه من الأرض، وقيل: البعال: النّكاح، والمباعلة حسن المعاشرة، وامرأة حسنة التبعل؛ أيْ: مطاوعة لزوجها، وفي كلمة البعال: معنى المعاشرة الجنسية الّتي تؤدِّي إلى الإخصاب.

{شَيْخًا} : الشّيخ: لقب يطلق على الإنسان الّذي تقدَّم في السّن، أو تطلق عليه لمكانته، ولمنزلته بين النّاس.

{إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ} : إنّ: للتوكيد، هذا: اسم إشارة للقرب، والهاء: للتنبيه.

{لَشَىْءٌ} : اللام: لام التّوكيد، شيء: أمر عجيب.

{عَجِيبٌ} : صيغة مبالغة من عجب، وعجيب وعُجاب؛ أيْ: شيء يخالف السّنن الكونية، أو خارقاً للعادة. ارجع إلى سورة ق، آية (2)؛ للبيان، وسورة (ص) آية (5) لمعرفة الفرق بين عجيب وعجاب وعجباً.

ص: 67

سورة هود [11: 73]

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} :

{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} : قالوا؛ أي: الرّسل. الهمزة: للاستفهام، فيه معنى النّفي؛ أيْ: لا تعجبين من أمر الله، وقضائه، وقدره.

{رَحْمَتُ اللَّهِ} : الرّحمة عامة، وتعني: الإنعام، وجلب ما يَسرُّ، ودفع ما يَضرُّ (الوقاية من الضّرر).

{وَبَرَكَاتُهُ} : والبركة جزء من الرّحمة، والبركات النّمو، والزّيادة.

{عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} : أهل البيت: إبراهيم، وزوجته.

{إِنَّهُ حَمِيدٌ} : إنّه: إن: للتوكيد، والهاء: تعود على الله سبحانه، المحمود في أفعاله، يستحق الحمد على الدّوام، على وزن فعيل صيغة مبالغة؛ لأن جميع المخلوقات من أهل السّموات، والأرض تنطق بحمده، ويُحمد على ما له من الأسماء، والصّفات فيحمد لذاته، ويحمد لصفاته، ولأفعاله، وقد تردَّد هذا الاسم حميد سبع عشرة مرة في القرآن المجيد.

{مَّجِيدٌ} : أصل المجد الرّفعة، ذو المجد، والرّفعة، والشّرف التام، والكرم، والعظمة، ومجده: عظمته، والثناء عليه.

وقيل: المجيد هو الّذي عظم كرمه، وهذه الآية الوحيدة الّتي ذكر فيها هذا الاسم المجيد.

ص: 68

سورة هود [11: 74]

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب. لما: ظرف زماني يعني: حين، ومتضمِّن معنى الشّرط.

{ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} : انقباض في النفس منبعه القلق والاضطراب والإنكار الّذي أصاب قلبه، وذهب الغم عنه فرغ للمجادلة؛ راح يجادلنا في قوم لوط.

{وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} : تذكر، أو خطر على قلبه الخبر السّار الّذي أخبر به الملائكة بأنّ الله سيرزقه الغلام، وأن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط؛ ليرسلوا عليهم حجارة من طين.

{يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ} : لم يبيِّن في هذه الآية نوع الجدال، ولكن بيَّنه في آية أخرى في سورة العنكبوت، الآية (31-32):{قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} .

والجدال: هو الحوار الّذي يحدث بين طرفين أو أكثر؛ لإثبات حق، أو إظهار حُجة، أو دفع شبهة.

ص: 69

سورة هود [11: 75]

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} :

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} : لحليم: اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد؛ حليم: صفة مبالغة من الحلم لا يتسرع يصبر، ولا يتعجل، ولا يغضب بسرعة صبور على الأذى، ولا يستعجل في الانتقام؛ صفوح.

{أَوَّاهٌ} : كثير التّأوه؛ أي: الخوف، والتّضرع إلى الله، والنّدم على الذنب.

{مُّنِيبٌ} : سريع التوبة بعد الذّنب، وكثير الرّجوع إلى الله والتّوبة، وفي سورة التوبة آية (114) قال تعالى عن إبراهيم:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ذكر صفتين من أصل ثلاث صفات لإبراهيم؛ لأن سورة التوبة تتحدث فقط عن استغفار إبراهيم لأبيه (عمه).

ص: 70

سورة هود [11: 76]

{يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} :

{يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} : أعرض عن الجدال في قوم لوط؛ أيْ: قالت له الملائكة: يا إبراهيم كف عن الجدال في أمر قوم لوط إنّه قد جاء أمر ربك حيث قيل: إنّ إبراهيم لما سمع قولهم إنا مهلكو أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين.

قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا؛ قال: فأربعون؟ قالوا: لا؛ وهكذا عشرون؟ عشرة؟ خمسة؟ قال: فواحد؟ قالوا: لا؛ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]. هذا قول ابن إسحاق وغيره.

{إِنَّهُ قَدْ} : إنّ: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، وزيادة التّوكيد.

{جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} : عذاب ربك، وقضائه، وقدره على قوم لوط.

{وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} : إنّ: للتوكيد.

{آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} : أي: العذاب نازل بهم لا محالة، وغير مصروف عنهم لا بجدال، ولا بدعاء، أو تحويل، أو تبديل.

ص: 71

سورة هود [11: 77]

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِاءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} :

{وَلَمَّا} : لما: ظرف زماني بمعنى: وحين، وفي سورة الحجر آية (61) قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} الفاء: تدل على التعقيب والمباشرة؛ أي: بعد أن تركوا إبراهيم عليه السلام .

{جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِاءَ بِهِمْ} : أيْ: ساءَه مجيئهم (أحزنه مجيئهم لعنده)، أو استاء من حضورهم، وأصابه غم؛ لاعتقاده أنّهم بشر، وليس ملائكة، وفي سورة العنكبوت آية (33) قال تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِاءَ بِهِمْ} زاد (أن)؛ ارجع إلى سورة العنكبوت آية (33) للبيان.

{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} : لم يعد يُطيق، أو يتحمل وجودهم عنده، ضاق بهم صبره ووسْعُه، خوفاً من عدم استطاعته على تخليصهم من أيدي قومه، أو أذى قومه، ورغبتهم في فعل الفاحشة في هؤلاء الضّيوف. والذّرع: يعني: الطاقة والقدرة؛ لأنّ الذّراع واليد عنوان الطّاقة والقدرة، ووجودهم عنده، ومحاولة حمايتهم من قومه أمر فوق طاقته وقوته.

{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} : يوم شرُّه عظيم، وعصيب اشتقت من العصابة الّتي يربطها الإنسان على رأسه حين يعاني من شدة الصّداع، وغيره، أو عصيب مشتقة من العصب، وجمعها الأعصاب، ويعني: يوم مليء بالصداع؛ أي: هذا يوم شديد شره وبلاؤه.

ص: 72

سورة هود [11: 78]

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} :

{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} : يُسرعون إليه (يهرولون)، ويحث بعضهم بعضاً مندفعين إلى دار لوط بدافع الشّهوة، أو بجرأة، ونشاط، وقيل: الأصل في كلمة يُهرعون: جاءت من مشي الأسير الّذي يُسرع به.

{وَمِنْ قَبْلُ} : أيْ: من قبل مجيء هؤلاء الملائكة، أو من قبل مجيء قوم لوط مسرعين إلى منزله وضيوفه.

{كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} : يعملون: يقولون، ويفعلون. السّيئات: فعل الفاحشة، والمنكرات في ناديهم.

{قَالَ يَاقَوْمِ} : قال لوط لهم عندما وصلوا إلى منزله:

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للقرب.

{بَنَاتِى} : قيل: نساء قومه، أو بناته من صلبه. بناتي جمع بنت، فتزوَّجوهن؛ لأنّ كلّ نبي يعتبر أبو أمته، وكان تزويج المسلم من الكافر جائزاً آنذاك، ولم يكن تشريع التّحريم قد نزل بعد؛ قاله الحسن، أو كان هذا بشرط إسلامهم؛ قاله الزجاج.

{هُنَّ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتّوكيد.

{أَطْهَرُ لَكُمْ} : بالزّواج، وأطهر من اللواط.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ} : خافوا الله، خافوا نقمته وعقابه، وأطيعوا أوامره، واجتنبوا الفاحشة.

{وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} : لا: النّاهية، تخزوني: من الخزي، وهو الفضيحة أمام النّاس، والهوان، والذّل، والعار؛ أيْ: لا تفضحوني أمام النّاس، وتجعلوا عليَّ العار.

{ضَيْفِى} : تطلق على المفرد، والمثنى، والجمع.

{أَلَيْسَ} : استفهام فيه معنى التّعجب، والتّوبيخ.

{مِنكُمْ} : أيْ: من القوم، من قوم لوط أنفسهم منكم خاصة.

ولم يقل: أليس فيكم؛ فيكم: قد تعني: رجل زائر، أو قادم إليهم، أو كائن بينهم، وليس من قوم لوط. فيكم: ولأن فيهم لوطاً، أو أهله.

{رَجُلٌ رَّشِيدٌ} : رجل صالح مستقيم؛ أيْ: ذو صلاح، واستقامة، ورشيد من الرّشد، والرّشد: هو الصّلاح، والاستقامة في الدّين، وتعني: المرشد الدّال على الخير، والمعروف.

ص: 73

سورة هود [11: 79]

{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} :

{قَالُوا لَقَدْ} : قال: قوم لوط للوط: لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق (زيادة التّوكيد).

{عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} : من حق: من حاجة؛ أيْ: أنت تعلم أننا لا نريد بناتك؛ لأننا ليس لنا رغبة فيهنَّ، أو الزواج بهنَّ.

{وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} : إنّك: إنّ: للتوكيد؛ لتعلم: اللام: للتوكيد؛ تعلم ما نريد: أيْ: ضيوفك الرّجال للقيام بالفاحشة.

ص: 74

سورة هود [11: 80]

{قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} :

{قَالَ لَوْ} : قال لوط؛ لو: شرطية للتمني حرف امتناع لامتناع {أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ، والجواب: محذوف، تقديره: لمنعتكم من ارتكاب هذه الفاحشة.

{أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} : أنّ: تفيد التّوكيد.

{لِى بِكُمْ قُوَّةً} : أيْ: قوَّة تنصرني عليكم، أو أدافع بها.

{أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} : أو: للاختيار؛ آوي إلى ركن شديد: ألجأ، أو لي عشيرة قوية تنصرني عليكم، أو تحمني، وتحمي ضيوفي. وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول لوط، فقال:«رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» . رواه البخاري، والإمام أحمد في مسنده.

ص: 75

سورة هود [11: 81]

{قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} :

{قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} : قالوا؛ أي: الملائكة.

{يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} : وهكذا أخبر الملائكة لوطاً عليه السلام لأوّل مرة بأنّهم رسل من الله.

{رُسُلُ رَبِّكَ} : رُسُل: جمع رسول، أو مرسل من ربه، ويدل على أنّهم ثلاثة، أو أكثر.

{لَنْ} : حرف نفي للمستقبل القريب، والبعيد.

{يَصِلُوا إِلَيْكَ} : بأيِّ سوء بسببنا، ثمّ أخبرته الملائكة أيضاً.

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} : من أسرى: السّير ليلاً، والباء: معناها المصاحبة، فأسر بأهلك؛ أي: اخرج ليلاً، وهناك فرق بين أسرى: سار أول الليل، وسَرَى: سار آخر الليل.

{بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ} : قطعٍ: جمع قطعة؛ أي: جزءاً؛ أي: أسر بأهلك في جزءٍ من الليل، أو من آخر الليل.

{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} : لا: النّاهية؛ لا يلتفت ورائه التفات حسي.

{إِلَّا امْرَأَتَكَ} : أيْ: لا تَسْرِ بها، ولا تخرج معكم؛ إنها من الغابرين؛ أي: الهالكين، فهذا الاحتمال هو الأقوى.

أو أسر بأهلك إلا امرأتك: الاستثناء متعلِّق بالإسراء، وقد يحتمل الاستثناء أن يكون متعلِّقاً بكلمة يلتفت؛ فيكون المعنى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، وعلى هذا تكون قد سرت معهم، ولكنها التفتت فأصابها العذاب، وهذا احتمال ضئيل. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (65) من سورة الحجر وهي قوله تعالى:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} ففي هذ الآية لم يذكر إلا امرأته؛ لأن ذكرها جاء في الآية (59-60) من سورة الحجر حيث قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} ، وأيضاً في سورة الحجر أضاف قوله تعالى:{وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} فهذا يدل على أن لوطاً يمشي ورائهم ويعلم أن امرأته ليست معهم.

{إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} : إنّه: للتوكيد.

{مَا} : بمعنى: الّذي.

{أَصَابَهُمْ} : رغم كونه لم يحدث بعد جاء به بالفعل الماضي، وكأنّه حدث وانتهى.

{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} : ردّاً على سؤال لوط للملائكة عن وقت إهلاكهم، موعدهم الصّبح، واختار الصّبح؛ لأنّه وقت النّوم العميق، والهدوء، وعلى غير استعداد؛ فيكون العذاب أشد فيوقظهم من نومهم.

{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} : الهمزة: استفهام تقريري.

{الصُّبْحُ} : هو الزّمن الّذي يلي الفجر، ويطلق على أول النّهار، وفي سورة الحجر آية (73) قال تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} فإذا جمعنا بين الاثنين نجد أن عذابهم ابتدأ الصبح، واستمر حتى شروق الشمس، فآية هود تدل على زمن بدء العذاب، وآية الحجر تدل على زمن انتهاء العذاب.

ص: 76

سورة هود [11: 82]

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للمباشرة، والتّعقيب؛ لما: ظرفية بمعنى: حين.

{جَاءَ أَمْرُنَا} : عذابنا.

{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} : جعلنا: قرى قوم لوط عاليها سافلها؛ أيْ: قلبناها انقلاباً تاماً بعد رفعها إلى أعالي السّماء، ثمّ قلبها، وتركها تهوي على الأرض، ولذلك سميت المؤتفكات في سورة براءة آية (70)

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} : وأمطرنا على هذه القرى بعد تدميرها حجارة، والحجارة كانت من سجيل منضود، وقوله تعالى:(عليها): تعني على قرى قوم لوط، والقرية: تعني أهلها ومنازلها؛ أي: المطر أصاب الكل، وفي سورة الحجر آية (74) قال تعالى:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} ففي هذه الآية عاد وذكر أهلها للاهتمام والتوكيد، وإذا علمنا أن سورة هود نزلت (ترتيب النزول) قبل سورة الحجر (أي: ذكر الخاص بعد ذكر العام). ارجع إلى سورة الأعراف آية (84) لمزيد من البيان.

{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} : حجارة من طين طبخت بالنّار بدليل الآية الأخرى في سورة الذّاريات، الآية (33):{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} : طين قد تحجَّر، ولعلها تُشبه الأستروئيد الّتي هي أجزاء من الكواكب المتناثرة الّتي تسقط على الأرض.

{مَّنضُودٍ} : متتابع في النّزول، من النّضد: وهو وضع الشّيء بعضه على بعض؛ نضده: فهو منضود. ارجع إلى سورة الحجر، آية (74)؛ لمزيد من البيان، وسورة النحل آية (58).

وقد أثبتت الدراسات العلمية على هذه الحجارة الّتي لا زال بعضها موجود إلى يومنا هذا في مناطق قرى لوط أنها حجارة مركبة من كيماوية خاصة لا تخص الأرض.

ص: 77

سورة هود [11: 83]

{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} :

{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} : معلَّمة لها علامة خاصة مميزة، أو مسوَّمة معروفة من أيِّ الكواكب انفجرت، أو مركبة من معادن خاصة مميزة.

{وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} : أيْ: ليس قرى لوط من كفار قريش.

{الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} : ولم يقل: ببعيدة، وفي هذا تحذير وتنبيه لكفار مكة بأن يأخذوا ما وقع لقوم لوط بحذر وعبرة، وما هي من الظالمين ببعيد، قد يعني: كلّ ظالم، ويعني: اليهود، أو قوم لوط أنفسهم.

ص: 78

سورة هود [11: 84]

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} :

{وَإِلَى مَدْيَنَ} : وأرسلنا إلى مدين: اسم قبيلة؛ قبيلة مدين بن إبراهيم عليه السلام ، أو اسم لمدينة مدين نسبة إلى مدين بن إبراهيم عليه السلام ، ثمّ انتقل اسمه فأطلق على اسم قبيلته، أو اسم مكان إقامتهم؛ كقوله: ولما ورد ماء مدين، فصارت مدين علماً على المكان، أو القبيلة، ومدين نبع قرب البحر الأحمر.

{أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} : شعيب: هو النّبي العربي الّذي أرسل إلى قبيلة مدين، أو أرسل إلى مدينة مدين كلاهما صحيح، وسُمِّي أخاهم؛ لأنّه نشأ بينهم، وتحلَّى بعادتهم؛ فهم يعرفونه بأخلاقه وسيرته، بينما في سورة الشعراء آية (176-177):{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْـئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} ولم يقل أخوهم شعيب كما قال في آية هود؛ لأن شعيب ليس من أصحاب الأيكة؛ أي: ليس له نسب فيهم، وإنما أرسل إليهم كما أرسل إلى أصحاب مدين.

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : وبدأ دعوته لقومه كما بدأ غيره من الرّسل بدعوتهم إلى عبادة الله وحده (لا إله إلا الله)، كما فعل كلّ رسول حيث كان أهل مدين يعبدون الأصنام، ويمتازون بالغش في الأسواق، والتّجارة، وكانوا يقطعون الطّرق، ويفسدون في الأرض بالقتل والسرقة، والتّطفيف في الميزان، والمكيال.

فشعيب أرسل ليصلح الحالة الاقتصادية السيئة، والفساد في الأرض الّذي يقوم به قومه؛ بينما لوط أرسل ليصلح حالة اجتماعية فاسدة، وهي اللواطة، والمنكر، إضافة إلى الدّعوة إلى الله.

{وَلَا} : الواو: عاطفة؛ لا: النّاهية.

{تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} : الخطاب موجَّه إلى كلّ من البائع، والمشتري معاً؛ بعدم التّلاعب بالمكيال، والميزان بالزّيادة، أو النّقص؛ سواء حين البيع، أو حين الشّراء.

{الْمِكْيَالَ} : هو كلّ شيء يكال به من قمح، أو زبيب، أو تمر، أو حليب، أو غيره يسمَّى المكيال.

{وَالْمِيزَانَ} : كلّ شيء يوزن به سُمِّي الميزان؛ لوزن السّلع، والبضائع، والذّهب، والفضة

وغيرها.

فقد كان بعضهم إذا باع أنقص من الوزن، أو المكيال للمشتري، وإذا أراد أن يشتري البضاعة زاد في الوزن، أو المكيال؛ كي يأخذ أكثر من حقه من البائع، فجاءت هذه الآية تأمر كلّ إنسان أن يأخذ حقَّه فقط.

{إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} : إنّي: توكيد.

{أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} : في سعة من الرّزق، والنّعمة، والبركات؛ يُغنيكم عن التّطفيف في المكيال والميزان.

{وَإِنِّى} : توكيد.

{أَخَافُ عَلَيْكُمْ} : إذا لم تؤمنوا، وتنتهوا عن البخس، والنّقص.

{عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} : صفة لليوم؛ أيْ: يوم مهلك لكل شيء، وقيل: هو صفة للعذاب، وهذا أبلغ عذاب محيط بكلّ فرد لا ينجو منه أحد.

ص: 79

سورة هود [11: 85]

{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} :

{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} : ويكرِّر شعيب عليهم الأمر نفسه؛ لأنّ النّهي عن النّقصان يعني: الإيفاء بالوزن والمكيال؛ للتوكيد، وزيادة التّرغيب في القيام بذلك.

وإيفاء المكيال والميزان بالقسط أمر واجب، وبالقسط يعني: إقامة العدل، وتطبيقه.

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} : لا: النّاهية؛ البخس: النّقصان؛ أي: ولا تنقصوا النّاس بالظّلم بالغش، والخداع، أو الغصب، وأشياء مفردها شيء، وتعني: جنس تمر قمح، أو ثمر، أو مال، أو أجر يشمل كلّ شيء، ومهما كان نوعه، وقليلاً، أو كثيراً.

{وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} : لا: النّاهية؛ تعثوا: من عثا يعثو؛ يعني: أفسد أشد الفساد؛ أيْ: ولا تفسدوا في الأرض بالسّرقة، أو القتل، أو الاغتصاب، والرّشوة، وأكل أموال النّاس بالباطل.

{مُفْسِدِينَ} : خارجين عن ضوابط الشّرع، والاستقامة، والتّوحيد، والسّلوك. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) للبيان.

{أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، بينما في سورة الأنعام، والإسراء:

الأنعام: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [آية: 152].

الإسراء: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [آية: 35].

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} ؛ أيْ: وقت كيلكم، على سبيل التّأكيد، وعدم تأخيره.

ص: 80

سورة هود [11: 86]

{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} :

{بَقِيَّتُ اللَّهِ} : اسم مصدر من بقي، ما بقي لكم بعد إيفاء المكيال، والميزان بالقسط، كثيراً كان أو قليلاً خير لكم؛ لأنّه من الحلال، وهو أفضل مما تأخذونه من الحرام؛ فأيُّ سحت، أو حرام لا يبارك الله فيه، أو تعني: ما يبقى لكم عند الله من الصّالحات. وانظر إلى كيفية كتابة (بقيت) في هذه الآية بالتاء المفتوحة، وانظر إلى كيفية كتابة (بقية) في الآية (116) من نفس السورة {أُولُو بَقِيَّةٍ} بالتاء المربوطة، وكذلك في آية (248) من سورة البقرة وهي قوله تعالى:{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} ؛ فهذا يدل على قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وإذا نظرنا إلى السياق نجد (بقيت) بالتاء المفتوحة: جاءت في سياق كثرة البقية أو (المعنوية)، و (بقية) بالتاء المربوطة: جاءت في سياق القلة: قلة البقية، أو في سياق الأمور المحسوسة أو المادية.

{خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : إن: شرطية.

{كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ؛ أيْ: بشرط أن تؤمنوا؛ أيْ: تصدقوا بما أقول لكم وأدلكم عليه، وتؤمنوا بالله وحدَه.

{وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} : وما بعثت رقيباً على أعمالكم، أو محصيها لكم، ولا لأحفظها عليكم، وأحاسبكم عليها إنما أنا مبلغ، ومنذر، وما أنا قادر على حفظكم من عذاب الله إن حلَّ، أو نزل بكم.

ص: 81

سورة هود [11: 87]

{قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} :

{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَاؤُا} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتهكُّم؛ تعني: الصّلاة العادية؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]؛ حيث كان شعيب كثير الصّلاة قالوا ذلك من قبيل الاستهزاء والسّخرية.

وقيل: الصّلاة: الدِّين؛ لأنّ الصّلاة هي عماد الدّين؛ أيْ: أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو الصّلاة العادية.

{أَنْ} : حرف مصدري تفيد التّوكيد.

{مَا} : اسم موصول؛ أي: الّذي يعبدُ آباؤنا؛ أيْ: نترك عبادة آبائنا، أو معبود آبائنا، أو نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من تطفيف، وبخس، أو ما نشاء من الأشياء الحلال، أو الحرام.

{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} : قول تهكُّم وسخرية، فهم لا يؤمنون به أصلاً، وبأنّه الحليم الرّشيد.

{إِنَّكَ} : إن: للتوكيد.

{لَأَنْتَ} : اللام: لام الاختصاص، وظاهر الآية الكريمة وحقيقتها الاستهزاء؛ أيْ: قالوا ذلك استهزاء به.

{الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} : الحليم: من الحلم، وهو الأناة، والتّريث، وضبط النّفس، وعدم الغضب، وبعيد عن الحمق، والسّفه.

{الرَّشِيدُ} : الرّجل الصّالح المستقيم، أو ذو الصّلاح، والاستقامة، أو المرشد الدّال على الخير، والحلال، والطّيب؛ الرّشد: ضد السّفه.

ص: 82

سورة هود [11: 88]

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} :

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى} : ارجع إلى الآية (63) من نفس السورة؛ للبيان.

{وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} : رزقني منه النّبوَّة، والعلم، والمعرفة.

{رِزْقًا} : نكرة تشمل كلّ أنواع الرّزق بما فيه المال، والطّعام، والملبس، والأهل.

{حَسَنًا} : الرّزق الحلال الطّيب الواسع، وتعني: كذلك المال وغيرها.

{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} : أيْ: ما النّافية؛ أيْ: ليس في نيتي.

{إِنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد؛ أن أنهاكم عن أمر، أو شيء، وأفعله، وإنما أنهى نفسي أوّلاً عن فعله، ثمّ أنهاكم عنه، أو كيف آمركم بالبرّ وأنا لا أفعله، كما جاء في قوله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44].

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} : إن: حرف نفي أقوى في النّفي من حرف ما؛ أيْ: ما أريد إلا الإصلاح.

{أُرِيدُ إِلَّا} : إلا: أداة حصر.

{الْإِصْلَاحَ} : ما أريد إلا محاربة الفساد، وأكل أموال النّاس بالباطل، والبخس، والتّطفيف والدّعوة إلى الله وحدَه، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.

{مَا اسْتَطَعْتُ} : ما: حرف مصدري؛ استطعت: أيْ: سأحاول بقُصارى جهدي، واستطاعتي.

{وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ} : الواو عاطفة؛ ما: النّافية. وما توفيقي: للقيام بالإصلاح، ومحاربة الفساد، وقدرتي على إتمام ذلك يتوقف على تيسير الله، وعونه لي.

{إِلَّا} : أداة حصر، وقصر.

{بِاللَّهِ} : الباء: باء: الإلصاق، والتّوكيد.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : عليه أعتمد، وأفوض جميع أموري إليه؛ أيْ: أطلب منه العون في كلّ عمل بعد أن أقدِّم الأسباب الضّرورية.

{وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} : إليه تقديم الجار، والمجرور؛ يفيد الحصر. الإنابة: سرعة الرّجوع إلى الله، وتفيد الكثرة والإنابة، سواء أكانت بسبب ذنب، أم بدون ذنب؛ أي: الرجوع إلى الله بعد كل قول أو فعل، وأما التوبة: الرجوع إلى الله بعد صدور الذنب من العبد، والندم وعدم الرجوع إلى الذنب، والإكثار من العمل الصالح.

ص: 83

سورة هود [11: 89]

{وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} :

{وَيَاقَوْمِ} : نداء فيه تودُّد، واستعطاف، والقوم: هنا تشمل الرّجال، والنساء.

{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ} : لا: النّاهية.

{يَجْرِمَنَّكُمْ} : مشتقة من أجرمه؛ أيْ: دفعه، وحمله على فعل الجرم، أو الذّنب، والظّلم.

{شِقَاقِى} : لا يجرمنكم شقاقي: لا تدفعنَّكم، أو تحملنَّكم عداوتي، أو خلافي معكم، أو بغضكم لي على ارتكاب ما حرم الله تعالى من الشرك، وعدم القسط في الميزان والمكيال، والفساد، فخاف شعيب أن تكون دعوته للإصلاح سبباً؛ لإصرارهم على الكفر، والفساد، والمعصية؛ فيصيبهم مثل ما أصاب الأقوام الأخرى.

{أَنْ يُصِيبَكُمْ مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{مِّثْلُ مَا} : ما: اسم موصول؛ أيْ: كالّذي أصاب قوم نوح من الغرق.

{أَوْ قَوْمَ هُودٍ} : من الرّيح الصّرصر العاتية، أو قوم صالح من الرّجفة.

{وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} : الواو: استئنافية؛ تفيد الاهتمام. ما: النّافية؛ أيْ: وما حدث لقوم لوط من الهلاك، والدّمار ليس ببعيد زماناً، ولا مكاناً؛ أيْ: منذ زمن قريب، ولا يبعدون عنكم كثيراً.

ص: 84

سورة هود [11: 90]

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} :

{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} : ارجع إلى الآية (3 و 61) من سورة هود.

{إِنَّ رَبِّى} : للتوكيد. ربي: الخالق المدبر الرَّزَّاق.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ كثير الرّحمة؛ رحيم لمن تاب، وآمن؛ أيْ: بالمؤمنين.

{وَدُودٌ} : صيغة مبالغة لفعل ودَّ يودُّ؛ أيْ: كثير الود، والود هو المحبة كثير الحب لعباده المؤمنين، والصّابرين، والصّادقين، والمحسنين، والوداد: هو صفو المحبة، وخالصها، ولبها، ولا ينشئ الود إلا من المحبة. الودود: ذكر هذا الاسم مرتين فقط في القرآن فقرنه بالمغفرة، والرّحمة، فقال:{إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].

ص: 85

سورة هود [11: 91]

{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} :

{قَالُوا يَاشُعَيْبُ} : قال: الّذين استكبروا وكفروا من قومه.

{يَاشُعَيْبُ} : ياء النّداء؛ للبعيد.

{مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} : ما: النّافية للحال، ما نفقه؛ أيْ: ما نفهم؛ أي: ما نعلم معنى ما تقول، والفقه هو الفهم الدّقيق الذي يحتاج إلى التأمل والنظر، ومن ثم الاستنباط والوصول إلى الحكم؛ أيْ: ما نعرف صحَّة ما تقول عن التّوحيد، والتّطفيف في الميزان، والاستغفار والتوبة والإنذار والرزق الحسن؛ أي:{كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} .

وقالوا ذلك استهانة به، ولأنّهم لم يعبؤوا بوعظه لهم.

{وَإِنَّا لَنَرَاكَ} : وإنا للتوكيد؛ لنراك: اللام: لزيادة التّوكيد.

{فِينَا ضَعِيفًا} : أيْ: لا قوَّة لك إن أردنا إيقاع الأذى بك، وقيل: كان أعمى ضريراً.

{وَلَوْلَا رَهْطُكَ} : لولا: شرطية.

{رَهْطُكَ} : الرّهط: جماعة ما بين (3-10)، أفراد، وقلة الرهط تدل على القلة مقارنة بالقوم؛ قالوا ذلك لا خوفاً من هؤلاء الرّهط، وإنما رأفة بهم؛ لأنّهم من الأقارب، أو أبناء القبيلة، والعشيرة، وقالوا ذلك لكي يقلِّلوا عدد من اتَّبعه.

{لَرَجَمْنَاكَ} : لقتلناك.

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} : وما: النّافية.

{أَنْتَ} : ممتنع علينا، أو ما أنت بغالٍ علينا، أو مكرم، وأرادوا القول، لكن رهطك هم من يعزون علينا، وهذا ما يدل عليه قوله رداً عليهم أرهطي أعزُّ عليكم من الله.

ص: 86

سورة هود [11: 92]

{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} :

{قَالَ يَاقَوْمِ} : نداء فيه نوع من الحنان، والعطف.

{أَرَهْطِى} : الهمزة: استفهام إنكاري؛ أيْ: عشيرتي، أو أتباعي.

{أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ} : أرهطي أهم؛ وأعزُّ عندكم، وأكرم منزلة، ودرجة من الله.

{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} : واتخذتموه؛ أيْ: جعلتموه.

{وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} : أيْ: رميتم الإيمان بالله وراء ظهوركم، وعصيتموه، ولم تعبدوه.

{إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} : إنّ: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} : تعملون: تقولون، وتفعلون؛ محيط: عالم بأعمالكم، ومحيط بها، وسيجازيكم عليها.

ص: 87

سورة هود [11: 93]

{وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} :

{وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : ثمّ يناديهم شعيب بعد أن رأى إصرارهم على الكفر، وعدم جدوى الموعظة لهم.

{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : المكانة قد تعني المنزلة، أو تعني المكان مثل مقام ومقامه؛ فيكون معنى الآية: استمروا على حالكم من الشّرك، والكفر، والشّنآن لي، أو اعملوا ما في وسعكم، أو استطاعتكم من الشّرك والكفر.

{إِنِّى عَامِلٌ} : وأنا سأعمل جهدي، واستطاعتي على الإصلاح، والتّبليغ، والدّعوة إلى الله.

{سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ} : سوف للاستقبال البعيد، وفي الآية (39) من نفس السورة قال تعالى:{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، والآية (39) من سورة الزمر؛ ارجع إلى سورة الزمر آية (39).

{تَعْلَمُونَ مَنْ} : مَنْ: اسم موصول، أو استفهامية.

{يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} : أيْ: يُذله، ويفضحه؛ يذله في الدّنيا، ويأتي وقد يذهب، وليس بالضّرورة الحلول والبقاء، والحلول يعني: الاستمرار، والدّوام، والثّبات؛ لأنّه لم يقل: ويحل عليه عذاب مقيم؛ أيْ: مستمر الثّبوت والدّوام، فهذا يحدث في الآخرة. أما عذاب الدّنيا: فيه خزي، ذل، وإهانة، ويزول، وغير مقيم، ثمّ يأتي عذاب الآخرة بعد ذلك الّذي هو عذاب مقيم لا يزول، ولا يتغيَّر، أو ينقص.

{وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} : أيْ: من هو على حقٍّ، ومن هو كاذب، أو على ضلال.

{وَارْتَقِبُوا} : انتظروا العاقبة، والمآل، والمصير لكم ولنا.

{إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} : الرّقيب: المراقب الّذي يرقب الآخر؛ لئلا يخفى عليه فعل من أفعال الّذي يراقبه.

لنقارن هذه الآية (93) من سورة هود: {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

مع الآية (39) من سورة الزّمر: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

للمقارنة ارجع إلى سورة الزّمر، الآية (39).

ولنلاحظ: أنّه دائماً يأتي بذكر إحدى العاقبتين دون ذكر الثّانية، ويقال لهذا تعريض أبلغ من التّصريح؛ مثال: سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ولم يقل: ومن تكون له عاقبة الدّار (حذف ذلك).

ص: 88

سورة هود [11: 94]

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: استئنافية؛ لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين متضمنة معنى الشّرط، ولم يقل: فلما؛ لأنّ لما: فيها ترتيب، وتراخٍ في الزّمن. أما (فلما) الفاء: للتعقيب والمباشرة ليس فيها تراخي في الزمن.

{جَاءَ أَمْرُنَا} : ارجع إلى الآية (66) من نفس السّورة.

{أَمْرُنَا} : أي: الصيحة.

{نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} : ارجع إلى الآية (58) من نفس السّورة.

{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : الصيحة: من السماء. ارجع إلى الآية (67) من نفس السّورة؛ للبيان، والآية (91) من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .

{فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : ملقون على الأرض لا يتحركون هامدين ميتين؛ في ديارهم: أي: في مساكنهم، ولم يقل في دارهم؛ أي: بلدهم، أو موطنهم؛ فالرجفة (الزلزلة الشديدة) ذكرها مع دارهم، والصيحة ذكرها مع ديارهم؛ لأن الصيحة أعم وأقوى من الرجفة.

ص: 89

سورة هود [11: 95]

{كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} :

{كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ} : ارجع إلى الآية (68) من نفس السّورة؛ للبيان.

{كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} : البُعد: يعني الهلاك؛ أيْ: هلاكاً لمدين، كما هلكت ثمود، أو طرداً من رحمة الله. ارجع إلى الآية (60) من نفس السّورة؛ لمزيد في معنى (بُعداً).

ص: 90

سورة هود [11: 96]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد، وقد: للتحقيق، وزيادة التّوكيد.

{أَرْسَلْنَا} : ولم يقل: بعثنا؛ الإرسال: ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

{مُوسَى} : موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل.

{بِآيَاتِنَا} : الآيات التّسع: العصا، واليد، والطّوفان، والجراد، والقمل، والضّفادع، والدّم، والسّنين، ونقص من الثّمرات، وقدم موسى على الآيات للاهتمام، ولم يقل بالآيات، وإنما أضافها إليه؛ للدلالة على عظمتها، وهذه الآيات: هي المعجزات، وهناك آيات كونية، وآيات التّوراة.

{وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : السّلطان: هو الحُجَّة القوية، أو الدّليل القاطع على صدق رسالة موسى ونبوته، ووحدانية الله، وربوبيته وبطلان ألوهية فرعون، والسّلطان يقسم إلى: سلطان الحُجَّة، والدّليل والبرهان، وسلطان القوَّة، والقهر.

{مُبِينٍ} : المبين الظّاهر الجلي؛ لكلّ فرد، والّذي تأكد بالحس، ولا يحتاج إلى من يثبته، أو يحتاج إلى دليل آخر.

ص: 91

سورة هود [11: 97]

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} :

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : وملئه: الملأ هم أشراف القوم القادة والرّؤساء واشتقت الكلمة الملأ؛ لأنّ هؤلاء النّاس يملؤون عيون النّاس، ويتصدرون مجالسهم وتنظر إليهم العيون مثل (النّواب وممثلي الشّعب)، وأعضاء الحكومة والوزراء؛ الّذين يظهرون على وسائل الإعلام كلّ يوم.

{فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} : أطاعوا ما أمرهم به فرعون، واتخذوه إلهاً، ولم يتبعوا ما أمرهم به موسى.

{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} : ما: النّافية، أمر فرعون ما يدعو إليه باتخاذه إلهاً، أو أنا ربكم الأعلى، أو ما علمت لكم من إله غيري؛ أيْ: ما كان منهج فرعون {بِرَشِيدٍ} : الباء: للإلصاق، بسديد، أو ذي رشد وهدى، وإنما هو منهج ضلالٍ، وغيٍّ وباطلٍ، وجهلٍ، وفسادٍ.

ص: 92

سورة هود [11: 98]

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} :

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : يتقدَّم قومه، أو يقود قومه يوم القيامة فرعون أولاً، ومن ورائه قومه الكل يساقون إلى جهنم.

{فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة يدخلون النّار مباشرة من دون تأخير، وأوردهم: فعل ماض يدل على أنّه قد حدث وانتهى دخولهم فيها.

{وَبِئْسَ الْوِرْدُ} : بئس: فعل ذم (ساء وقبح). الورد: النّار؛ شبه النّار يوم القيامة بماء يورد للشرب من منبعه؛ أيْ: بئس الورد: الماء (أي: النّار).

{الْمَوْرُودُ} : المكان النّبع؛ أيْ: بئس الماء ومنبعه الّذي وردوه؛ فيكون المعنى: بئس النّار، وبئس مكانها، ودركاتها؛ فلو كان أمر فرعون برشيد؛ لما دخلوها.

ص: 93

سورة هود [11: 99]

{وَأُتْبِعُوا فِى هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} :

{وَأُتْبِعُوا فِى هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} : طاردتهم، أو صاحبتهم لعنة الله في هذه الحياة الدّنيا؛ لعنة: أيْ: طُردوا وأُبعدوا عن رحمة الله في الحياة الدّنيا، وكذلك يوم القيامة تصاحبهم، وتطاردهم لعنة الله.

{لَعْنَةً} : نكرة من الله، ومن الملائكة، ومن النّاس أجمعين.

{بِئْسَ الرِّفْدُ} : بئس: فعل ذم؛ أيْ: ساء. الرّفد: العطاء؛ أيْ: بئس الجزاء الّذي هُيِّئ وأُعد لهم.

{الْمَرْفُودُ} : المعطى لهم؛ أيْ: بئس الجزاء الّذي سيجزون به، أو العطاء المعطى لهم.

وهو اللعنة في الدّنيا، وفي الآخرة، وسمِّيت النّار، أو اللعنة عطاء (رفداً): تهكماً بهم، واستهزاء على ما فرطوا في جنب الله.

الخلاصة: بئس المكان الّذي وردوه، وبئس العطاء، أو الجزاء الّذي أعطوه، أو هيِّئ لهم.

ص: 94

سورة هود [11: 100]

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} :

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ} : ذلك: اسم إشارة يفيد البعد، من أنباء القرى. من: بعضية؛ أيْ: بعض أنباء القرى، والنّبأ: هو الخبر العظيم المهم؛ أي: من أنباء أهل القرى.

{الْقُرَى} : جمع قرية، وقد تعني المدينة إذا اتسعت وزاد عدد أهلها.

{نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} : نخبرك بأنبائها كما حدثت.

{مِنْهَا قَائِمٌ} : بعضها لا زال باقٍ؛ كالآثار، والأعمدة والسقف والجدران؛ مثل: مدائن، وقرى قوم لوط، والأهرامات.

{وَحَصِيدٌ} : محصود لا ترى لها أثر (انمحت وزالت) كالزّرع المحصود.

ص: 95

سورة هود [11: 101]

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} :

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} : الواو: عاطفة، ما: النّافية.

{ظَلَمْنَاهُمْ} : من الظّلم: وهو نقصان الحق، وما ظلمناهم: بالعذاب (حين عذبناهم، أو أهلكناهم) بذنوبهم؛ لأنّ الله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، وحرَّم الظّلم على نفسه، ولا يظلم النّاس شيئاً.

{وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} : لكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} : بالكفر، والشّرك، والمعاصي، وتكذيب الرّسل، والبينات، والظلم: هو الخروج عن منهج الله تعالى.

{فَمَا} : الفاء: للتوكيد.

{أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} : أيْ: ما نفعتهم، ولا دفعت عنهم آلهتهم مثل الأصنام، والملائكة، أو الكواكب، وعيسى، وعزير.

{الَّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : الّتي: اسم موصول.

{يَدْعُونَ} يعبدونها بشتى العبادات من دعاء وتعظيم وذبح وشعائر وذكر.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية.

{شَىْءٍ} : من العذاب، أو الهلاك، والشّيء: هو أقل القليل، وشيء نكرة تعني أيَّ شيء مهما كان نوعه، وقدره من العون، أو النّصر، أو رفع العذاب، أو تخفيفه.

{لَمَّا} : ظرفية زمانية بمعنى حين ومتضمِّنة معنى الشّرط.

{جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} : عذاب ربك، أو أمر ربك بإنزال العذاب عليهم.

{وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} : ما: النّافية.

{تَتْبِيبٍ} : مصدر لفعل تبَّب الرّباعي، والتتبيب: النّقص والخسارة والهلاك؛ أيْ: التّخسير، والتّدمير، والهلاك.

{غَيْرَ} : تفيد الاستثناء، والقصر، وإن قيل: الآلهة هي جماد، أو ملائكة، أو كواكب، فكيف زادوهم؟ أيْ: زادتهم عبادتها إضافة إلى معاصيهم خسارة فوق الخسارة، أو عذاباً فوق العذاب.

ص: 96

سورة هود [11: 102]

{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: ومثل ذلك الأخذ يأخذ ربك القرى الظّالمة الكافرة؛ فتكون نهايتها. منها قائم أو حصيد؛ لأنّ أخذه لها أليم شديد.

{أَخْذُ رَبِّكَ} : الأخذ: هو الحوز على الشّيء سواء بالتّناول، أو القهر، أو الأخذ يوحي بالشدة، والعنف؛ بحيث لا يستطيع المأخوذ بالإفلات مهما حاول.

والأخذ: هنا في هذه الآية بمعنى الانتقام، والعقاب، والعذاب.

{إِذَا} : ظرف لما يستقبل من الزّمان للأمور الواقعة لا محالة، والكثيرة الحدوث، أخذ: جاء بالفعل الماضي؛ أي: اعتبره حدث ووقع.

{وَهِىَ} : وهي: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتّوكيد.

{ظَالِمَةٌ} : كافرة، أو طاغية، أو عتت عن أمر ربها.

{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} : إنّ: يفيد التّوكيد.

{أَخْذَهُ أَلِيمٌ} : عذابه عقابه أليم شديد الإيلام، والألم الوجع الشّديد؛ موجع شديد الوجع.

{شَدِيدٌ} : من الشدة: وهي تعني جمع الشّيء إلى الشّيء بحيث يصعب انفكاكه.

ص: 97

سورة هود [11: 103]

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} :

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن: حرف توكيد.

{فِى ذَلِكَ} : في: ظرفية.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، والذّم، ويشير إلى ما ذكر من أخذ الأمم، أو القرى الظالمة بالعذاب الشديد الإيلام.

{لَآيَةً} : لعبرة، أو لعظة.

{لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} : اللام: لام الاختصاص؛ من: اسم موصول تشمل المفرد، والجمع؛ استغراقية؛ أيْ: عبرة وعظة لمن يخاف عذاب الآخرة، أما من لا يخاف عذاب الآخرة؛ فلا يعتبر، ولا يتعظ.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة إلى يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه.

{يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} : اللام: لام الاختصاص، يوم مجموع لأجله النّاس، أو تعني فيه مجموع النّاس، ومجموع: اسم مفعول؛ يدل على الثّبوت؛ ثبات معنى الجمع؛ أي: الكلّ بلا استثناء، أيُّ واحد، أو فرد الكلُّ مجتمعون في مكان واحد.

{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} : مشهود اسم مفعول؛ تدل على الثّبوت صيغة مبالغة، الكلّ يشهدهُ من أهل السّماء والأرض، كلّ الخلق سيشهدون هوله، وأحداثه بلا استثناء.

ص: 98

سورة هود [11: 104]

{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} :

{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} : ما: النّافية.

{نُؤَخِّرُهُ} : نؤجله، والفاعل نحن: للتعظيم، نؤخره؛ أيْ: يوم القيامة.

{إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} : إلا: أداة حصر.

{لِأَجَلٍ} : اللام: لام الاختصاص، والأجل.

{مَّعْدُودٍ} : إلى مدَّة انتهاء المدَّة المعدودة له، أو المضروبة لحدوثه.

ص: 99

سورة هود [11: 105]

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} :

{يَوْمَ يَأْتِ} : يوم: ظرف زمان.

{يَأْتِ} : حذفت الياء: للدلالة على قرب مجيئه، ويأتِ؛ تعني: اليوم، أو تقديره ينتهي الأجل المضروب له يوم يأتِ، وفاعل يأتِ قد تعود إلى الله، أو ربك، أو تعود إلى اليوم.

{لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} : أصلها: لا تتكلَّم نفس إلا بإذن الله.

{نَفْسٌ} : أيُّ نفس نكرة، لتشمل كلّ نفس مهما كانت.

{لَا تَكَلَّمُ} : ولم يقل: لا تتكلم؛ إشعاراً بقلة الكلام في ذلك اليوم قلة الحروف في كلمة {لَا تَكَلَّمُ} : تدل على قلة الكلام في يوم القيامة؛ لأهواله، وشدائده؛ كقوله تعالى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36].

{فَمِنْهُمْ} : الفاء: للتوكيد؛ منهم: من: التبعيضية، أو للتعليل.

{شَقِىٌّ} : من باب شقى شقاءً، أو شقاوة. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (106) للبيان، والشقي يشعر بضيق في الصّدر مستمر، وضنك في المعيشة بسبب البعد عن الدين والإيمان، شقي اسم يدل على الثّبوت؛ ثبوت الشّقاء عليه؛ لأنّه سيصبح من أصحاب السّعير.

{وَسَعِيدٌ} : من سَعَدَ سعادةً؛ لأنّه من أصحاب النّعيم الخالد، وسعيد: اسم يدل على الثّبوت.

ص: 100

سورة هود [11: 106]

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} :

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} : أما: حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{شَقُوا} : ارجع إلى سورة المؤمنون آية (106) للبيان؛ أي: الكفار، والمشركين الّذين ماتوا على الكفر، والشّرك، والضلال، والمعاصي، وانتهاك حرمات الله.

{فَفِى النَّارِ} : ففي: تتضمن فاء: أولى، وفاء ثانية؛ الفاء الأولى: تفيد التّوكيد، والتّعليل، والثّانية: ظرفية مكانية.

{لَهُمْ فِيهَا} : اللام: لام الاختصاص فقط؛ لهم: وحدهم. فيها: في النّار.

{زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} : الزّفير: هو خروج الهواء من الرّئتين، والشّهيق: هو دخول، أو ابتلاع الهواء إلى الرّئتين.

ففي الحالات الطّبيعية: ما يحدث شهيق أوّلاً، ثمّ زفير ثانياً، أمّا في النّار فيتبدل ذلك يصبح الزّفير أوّلاً، والشّهيق ثانياً، وسماع الزّفير والشّهيق دلالة على أنّهم يعانون من صعوبة التّنفس في النّار. ارجع إلى الآية (100) من سورة الأنبياء.

ص: 101

سورة هود [11: 107]

{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} :

{خَالِدِينَ فِيهَا} : خالدين: الخلود يعني: المكث الطّويل، ولا يعني التّأبيد له بداية، وله نهاية، البداية: ساعة دخول النّار، بينما خالدين فيها أبداً؛ تعني: المكث الأبدي بلا نهاية؛ له بداية، وليس له نهاية، وهو الخروج من النار؛ فالّذين سيدخلون جهنم قسمان: القسم الأوّل: خالدين فيها، والقسم الثّاني: خالدين فيها أبداً.

{مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} : أيْ: هؤلاء يدخلون النّار ما دامت السّموات، والأرض الجديدتين؛ لقوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].

وبما أن السّموات والأرض الجديدتين لن تتبدلا بعد ذلك؛ مما يدل على الخلود فيهما.

{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} : إلا: أداة استثناء؛ ما شاء ربك: المشيئة ملزمة واقعة لا محالة، وهذا الاستثناء اختلف فيه؛ اختلف في تفسير هذا الجزء من الآية؛ فمنهم من قال: تعني أن كل شيء خاضع لمشيئة الله تعالى المطلقة يدخل الجنة أو النار من يشاء؛ لأنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا حق لأحدٍ عليه سبحانه وتعالى، ومنهم من قال: إلا ما شاء ربك تعني: من تأخير أو تقديم قوم على الدخول في الجنة أو النار لكون يوم القيامة قد يطول خمسين ألف سنة، والاستثناء يرجع إلى قبل الدخول في الجنة أو النار، ومنهم من قال: أن قسم من هؤلاء الداخلين في النار يبقى خالدين في النار أبداً، وقسم يخرج منها بعد تطهيرهم من ذنوبهم، وبقائهم فيها حسب ما يقدِّره الله سبحانه، ويشاء، وهناك من قال هذا الاستثناء يعني من يوم الحساب (يوم القيامة) الذي مدته خمسين ألف سنة، أو حتى يقضي الله بين الخلائق، وهناك من قال هذا الاستثناء يعني حياة البرزخ (القبر)، ومنهم من قال: أن الاستثناء في الآية يرجع إلى بعض أنواع العذاب غير الزفير والشهيق، والله أعلم.

{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ} : إن: للتوكيد.

{رَبَّكَ فَعَّالٌ} : صيغة مبالغة اسم فاعل.

{لِمَا يُرِيدُ} : من الإرادة الّتي تعقب المشيئة؛ فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

ص: 102

سورة هود [11: 108]

{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} :

{وَأَمَّا الَّذِينَ} : حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{سُعِدُوا} : الفائزون المصلحون.

{فَفِى الْجَنَّةِ} : الفاء الأولى: للتوكيد، والتّعليل، والثّانية: ظرفية مكانية.

{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} : الّذين يدخلون الجنة يدخلونها مباشرة بعد الحساب، أو يدخلونها بعد أن يطهروا من ذنوبهم في النّار، ومتى دخلوها لن يخرجوا منها أبداً.

{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (107).

{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} : عطاء غير مقطوع؛ نعيم دائم، ومستمر.

ص: 103

سورة هود [11: 109]

{فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} :

{فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ} : اللام: لام النّاهية.

{تَكُ فِى مِرْيَةٍ} : في أدنى المراء بعد أن تبيَّن الحق، المراء هو الجدال بالباطل بعد ظهور الحق.

{مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} : ما: مصدرية، أو اسم موصول.

{يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} : هؤلاء: الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للقرب؛ يشير لمشركي قريش.

{مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا} : ما: النّافية؛ إلا: أداة حصر.

{كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} : الكاف: كاف التّشبيه؛ ما: حرف مصدري، أو اسم موصول.

{يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} : عبادة تقليدية، كما يعبد آباؤهم من الأصنام، أو الآلهة.

{مِنْ قَبْلُ} : أن يُنزل عليهم القرآن، أو يبعث إليهم برسوله صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: هم وآباؤهم سواء في الشّرك.

{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : النّصيب: هو الجزاء، والأجر، أو الثّواب الكامل على أعمالهم، ويكون في الخير، والشّر، أو المحبوب، أو المكروه، أما الفرق بين النصيب، والحظ:

فالحظ: لا يكون عادة إلا في الخير، ولا يستعمل في العذاب، أو المكروه.

وأما النصيب: فيستعمل في الخير، والشّر.

{غَيْرَ مَنقُوصٍ} : أيْ: نعطيهم نصيبهم تاماً.

ما هو الفرق بين عطاء غير مجذوذ، ونصيبهم غير منقوص؟

عطاء غير مجذوذ: عطاء للذين سعدوا عطاء دائم لا ينقطع، ولا يتوقف، والعطاء فيه تملك، ولا يُسترد، والعطاء هو الجزاء إضافة إلى الزّيادة الّتي هي من الفضل.

نصيبهم غير منقوص: جزاء تام للمشركين لا زيادة فيه.

ص: 104

سورة هود [11: 110]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} :

جاءت هذه الآية في سياق الآيات لتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّ ما يحدث لك حدث لموسى عليه السلام .

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : ولقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : التّوراة، والإيتاء يختلف عن العطاء؛ ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.

{فَاخْتُلِفَ فِيهِ} : فمنهم آمن به قوم (من بني إسرائيل)، ومنهم من كفر به، أو منهم من صدَّق به، ومنهم من كذَّب به، كما اختلف أهل مكة في القرآن.

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} : لولا: شرطية.

{كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} : بتأخير، أو تأجيل الحساب إلى يوم القيامة.

{لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : في الدّنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال العذاب عليهم، وعدم إمهالهم حتّى يوم القيامة بإنزال العذاب عليهم.

{وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} : وإنّ: للتوكيد.

{لَفِى} : اللام: للتوكيد.

{شَكٍّ} : تساوي نسبتي النّفي، والإثبات.

{مِّنْهُ} : من: التّوراة.

{مُرِيبٍ} : من الرّيبة، وهي الشّك+ الاتهام، وقيل: إنّهم: قد تعود إلى كفار مكة؛ لفي شك منه: أيْ: بالقرآن فيما إذا كان منزلٌ من ربك بالحق، ويتهمون الرّسول بأنه افتراه، أو يعلمه بشر.

ص: 105

سورة هود [11: 111]

{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :

{وَإِنَّ كُلًّا} : إنّ: للتوكيد؛ كلّاً: كلّ واحد، أو المختلفين فيه؛ سواء أكان القرآن، أم التوراة، أم غيرها من الكتب السماوية من المؤمنين، والكافرين.

{لَمَّا} : لها عدَّة معانٍ:

1 -

لما: نافية، ونفيها مستمر إلى وقت الكلام.

2 -

لما: قد تكون بمعنى: إلا، وتكون الآية: وإنّ كلاً إلا ليوفينهم ربك أعمالهم.

3 -

لما: قد تكون للتوكيد.

{لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} : ليوفينهم: اللام: لام التّوكيد؛ أيْ: سيوفينهم ربك أعمالهم ثواباً، أو عقاباً، والنّون: للتوكيد، ولا ينقص منها حسنة، أو يزيد سيئة.

{إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} : إنه: إنّ: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق.

{يَعْمَلُونَ} : يقولون، ويفعلون.

{خَبِيرٌ} : عليم ببواطن أعمالهم؛ خبير بنواياهم.

وقدم يعملون على خبير؛ لأن سياق الآيات في العمل.

ص: 106

سورة هود [11: 112]

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} : فاستقم: الفاء: للتوكيد؛ استقم كما أمرت: لا تميل، ولا تنحرف عن الحق في عبادتك، وتوحيدك، وابتغائك وجه ربك، والاستقامة تتطلَّب عدم الغفلة، والجد، والاجتهاد، والالتزام بمنهج القرآن والسنة، والدوام على تقوى الله، وطاعة أوامره، وتجنب نواهيه؛ لا إفراط ولا تفريط.

{كَمَا أُمِرْتَ} : في الكتاب (القرآن)، وبالوحي، كما أمرك ربك تعالى.

{وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} : أي: وليستقم كذلك من تاب معك من المؤمنين من الشّرك، والكفر، ومن المعاصي.

{وَمَنْ} : اسم موصول؛ مَنْ: للمفرد، والجمع.

{وَلَا تَطْغَوْا} : لا: النّاهية.

{تَطْغَوْا} : من الطّغيان: وهو مجاوزة الحدود، حدود الله بالإفراط، أو التّفريط في العبادات، أو المعاملات.

{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : إنّه: إنّ: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّعليل.

{تَعْمَلُونَ} : تقولون، وتفعلون.

{بَصِيرٌ} : بظواهر الأمور.

وقدم تعملون على بصير؛ لأن السياق في الأعمال.

ص: 107

سورة هود [11: 113]

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} :

{وَلَا تَرْكَنُوا} : ولا: الواو عاطفة؛ لا: النّاهية.

{تَرْكَنُوا} : من الرّكون؛ ركن، يركن؛ أيْ: مال إليه وسكن؛ أيْ: ولا تميلوا إليهم، أو تعتمدوا عليهم، ولو شيئاً يسيراً؛ هذا الخطاب، وإن كان موجَّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً، ولكنه في الحقيقة موجه إلى أمة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يركن أحدهم؛ أيْ: يميل إلى الكفار، أو المشركين في شيء من الأحكام، أو تقليدهم في أيِّ أمر من أمور الدِّين، أو المودة، والمداهنة على حساب الدِّين، والرّضا عن أعمالهم المخالفة لشرع الله، أو السّكوت عليها، ومصاحبتهم.

{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : المشركين. الظّلم: الشّرك، وكذلك ظلم العباد، والفساد في الأرض، والقتل، والتّخريب، أو المشاركة في تلك الأعمال العدوانية.

{فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} : فتمسكم: الفاء: للتوكيد؛ تمسكم: تصيبكم النّار.

{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} : وما: النّافية.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص (خاصَّة بكم).

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله، أو سوى الله (من: استغراقية): للنفي المطلق، والكلام، أو السّياق عن الدّنيا.

{مِنْ أَوْلِيَاءَ} : من: للتوكيد، واستغراقية؛ تشمل كلّ الأولياء.

{أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي: أعوان، أو أنصار يمنعون عنكم، أو يدفعون عنكم العذاب، أو يشفعون لكم. أولياء: ولم يقل: ما لكم من ولي ولا نصير؛ لأنّ هذه ترد في سياق الآخرة، وإذا أراد السّياق في الدّنيا يقول سبحانه: من دون الله من ولي ولا نصير؛ ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (22)؛ للبيان.

{ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} : ثم: للاستبعاد؛ استبعاد نصر الله لهم.

{لَا} : النّافية.

{تُنْصَرُونَ} : من النّصر: وهو النّجاة من النّار، والفوز بالجنة؛ لأنّ الله لا ينصر الظّالمين، وكذلك:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71]، فليس لهم أولياء، ولا أنصار، ولا شفعاء، لا واحد، ولا أكثر من واحد.

ص: 108

سورة هود [11: 114]

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} :

المناسبة: بعد أن أمر سبحانه بالاستقامة، وعدم تجاوز حدود الله، أو الرّكون إلى الّذين ظلموا في الآية السّابقة يأمر في هذه الآية بأمر آخر هو إقامة الصّلاة.

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} : أي؛: أداها تامَّة بأركانها، وبشروطها، وخشوعها، وإقامتها.

{طَرَفَىِ النَّهَارِ} : الطرف الأوّل: هو الفجر، والطرف الثّاني: هو الظهر، والعصر، أو الطرف الأوّل: هو الفجر، والظهر، والثاني: هو العصر، والمغرب، أو العصر فقط.

{وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ} : المغرب، والعشاء، أو العشاء والوتر، وزلفاً من الزّلفى: وهي القُربى، وأزلفه: قربه، وزلفاً من الليل: في ساعات الليل القريبة من النّهار؛ أي: المغرب والعشاء.

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} :

سبب نزول هذه الآية: أنّ رجلاً خلا بامرأة فقبلها؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فسكت النّبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ نزل عليه جبريل عليه السلام بهذه الآية:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} ؛ فقال رجل آخر: أهذا له خاصَّة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا بل للناس كافة، أو للمسلمين عامة؛ قال التّرمذي: حديث حسن صحيح، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ} : إن: للتوكيد.

{الْحَسَنَاتِ} : الصّلوات الخمس، كما ورد في حديث مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الصّلوات الخمس كفارة لما بينهنَّ إذا اجتنبت الكبائر» ، والحسنات: جمع حسنة، والحسنة سواء أكانت فرضاً، أم نفلاً قد تمحو؛ أي: تذهب السّيئة؛ أيْ: تمحوها، والسّيئة: هي كلّ عمل توعَّد الله سبحانه صاحبها بالعقوبة (من قول، أو فعل)، والحسنات: جميع الأعمال الصّالحة تكفر السّيئات؛ أي: الصّغائر؛ أمّا الكبائر: فلا يكفرها إلا التّوبة.

وشروط التّوبة أربعة: الإقلاع عن الذّنب، وعدم العودة إليه، والنّدم عليه، والإكثار من الأعمال الصّالحة (النّوافل)، وردُّ الحقوق إلى أصحابها.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة للبعد؛ يشير إلى الصّلاة، وإقامتها، والاستقامة عليها، والحسنات يذهبن السّيئات.

{ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} : في إقامة الصّلاة خمس مرات في اليوم ذكرى للذاكرين؛ أيْ: تنبيه للنّفس بعدم الغفلة، ولذلك الصّلاة لا تسقط عن العبد، ولو كان مريضاً، أو على فراش الموت.

فبمجرَّد ما يغفل الإنسان عن ذكر ربه تأتي الصّلاة خمس مرات؛ لتذكر الإنسان بربه.

{لِلذَّاكِرِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ الذّاكرين: الله سبحانه، وتشمل الذّاكرات، والصّلاة كذلك تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. والصلاة تجمع أركان الإسلام الخمسة.

ص: 109

سورة هود [11: 115]

{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} :

{وَاصْبِرْ} : بعد الأمر بإقامة الصّلاة؛ يأمر بالصّبر؛ الصّبر على العبادات، والطّاعات، والمكاره، والابتلاءات، والصّبر عن الشّهوات، والمعاصي.

{فَإِنَّ اللَّهَ} : فإن: الفاء: للتوكيد؛ إنّ: لزيادة التّوكيد.

{لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : لا: النّافية.

{لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : ولم يقل: لا يضيع أجر الصّابرين؛ لأنّ إقامة الصّلاة، والاستقامة، وعدم الطّغيان، والتّوبة، والصّبر، وكلّ ما أمر الله به في هذه الآيات يرتقي إلى درجة الإحسان، والصّابرين من المحسنين.

{الْمُحْسِنِينَ} : جملة اسمية تدلّ على ثبوت صفة الإحسان؛ إحسان الكم، وإحسان الكيف؛ لمعرفة الصّبر، وأنواعه، ودرجاته؛ ارجع إلى الآية (200) من سورة آل عمران، وللإحسان؛ ارجع إلى سورة البقرة، آية (112)؛ للبيان.

ص: 110

سورة هود [11: 116]

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} :

{فَلَوْلَا} : أداة حضٍّ، وحثٍّ.

{كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} : من الأمم الماضية، والقرون: جمع قرن، وهم أهل زمان واحد، أو الجيل الواحد المقترن بزمان واحد، والقرن (100 عام).

{أُولُو بَقِيَّةٍ} : ذوو إيمان، وصلاح، ورشد، وبصيرة، والبقية: ما يبقى من الشّيء بعد ذهاب أكثره، أولو بقية قلَّة قليلة من ذوي الإيمان، والصّلاح، والرّشد. ارجع إلى الآية (86) في نفس السورة لمعرفة الفرق بين بقية (بالتاء المربوطة)، وبقيت (بالتاء المفتوحة أو المبسوطة).

{يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ} : يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. والفساد: يشمل الكفر، والشّرك، وإثارة الفتن، والقتل، والصّد عن سبيل الله، وغيره.

{إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} : إلا: أداة استثناء.

{مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} : تعود على القرون من قبلكم؛ أيْ: قد أنجى الله سبحانه قليلاً منهم؛ لينهوا عن الفساد في الأرض، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيموا دين الله تعالى حتى تظهر أشراط الساعة.

{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} : وانشغل الّذين ظلموا؛ أي: الآمرون بالمنكر، والنّاهون عن المعروف بالشّهوات، ونعيم الدّنيا، والسّلطان، والجاه، والمعاصي، والمنكرات، واستمرّوا على ترفهم، وطغيانهم الّذي حقَّقوه بظلم الغير، ولم يستمعوا أو يلتفتوا إلى الأقلية الّذين ينهون عن الفساد، وآثروا الدّنيا على الآخرة، وكانوا مجرمين. ارجع إلى سورة الزخرف آية (23) لبيان معنى الترف، والمترف.

{وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} : كافرين مشركين، ومجرمين: مشتقة من جرم؛ وجرم الشّيء: أيْ: قطعه جرماً أذنب، وجنى جناية، وعدم اتباعهم منهج الله سبحانه، وكونهم كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل.

ص: 111

سورة هود [11: 117]

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} :

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ} : وما: الواو: استئنافية؛ ما: النّافية ينفي ربك الظلم عن نفسه، ويستعمل (ما)، ولام الجحود (التوكيد) في كلمة (يهلك).

{كَانَ رَبُّكَ} : أيْ: ليس من شأن ربك، أو أنّ ربك مُنَّزه عن أن يهلك القرى. وكان: تعني الماضي والحاضر والمستقبل، وتعني: ما كان ربك في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ليهلك القرى.

{لِيُهْلِكَ الْقُرَى} : ليهلك: اللام: لام التّوكيد؛ يهلك: بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدُّد، والتّكرار؛ لأنّ الحديث أو السّياق في الدّنيا، وفي الآية (59) من سورة القصص قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا} ، وفي الآية (131) من سورة الأنعام قال تعالى:{ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ؛ إذن ما كان ربك مهلك القرى، أو ليهلك القرى وأهلها مصلحون، أو وأهلها غافلون؛ ارجع إلى سورة القصص آية (59) لمزيد من البيان.

{الْقُرَى} : جمع قرية، والقرية؛ تعني: أهل القرية، والبنيان؛ أيْ: يهلك أهل القرى، ويدمِّر بنيانها.

{بِظُلْمٍ} : الباء: باء: الإلصاق، والتّعليل؛ ظلم: من دون ذنب، أو إثم.

{وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} : مصلحون: جمع بصيغة الجملة الاسمية؛ الّتي تدل على أنّ صفة الإصلاح عندهم ثابتة، ومستمرة؛ فالله سبحانه لن يهلكها حتّى ولو كانت كافرة، وأهلها يقيمون العدل، ولا يفسدون في الأرض، ولا يظلمون النّاس بقتل وإهلاك الحرث، والنّسل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (130)؛ لمزيد من البيان في معنى: الصالحين.

ولمقارنة هذه الآية مع الآية (59) من سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} .

والآية (131) من سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} . ارجع إلى سورة القصص آية (59) للبيان المفصل.

ص: 112

سورة هود [11: 118]

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} :

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} : لو: شرطية؛ حرف امتناع لامتناع.

{شَاءَ رَبُّكَ} : المشيئة تسبق الإرادة، والمشيئة لا رادَّ لها، ولا تتغيَّر.

{لَجَعَلَ} : اللام: للتوكيد.

{النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} : أيْ: على دين واحد، وهو الإسلام، أو ملَّة واحدة، كما حدث بعد آدم عليه السلام لمدَّة حوالي (10 قرون).

{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} : لا داعي هنا للتطرق إلى أنواع الاختلافات، وأسبابها، والجدال في الاختلافات المذمومة، أو اختلافات الرّحمة، أو الاختلافات الطبيعية، ولكن المقصود في الآية: أن الله سبحانه أرسل كلّ الرّسل برسالة واحدة، وهي: رسالة التوحيد، وأن لا إله إلا الله، وحرم قتل النّفس إلّا بالحق، وحرم الفساد في الأرض، والفواحش

وغيرها؛ مما تشمله أمور العقيدة، والأصول، ولم يجبر أيَّ إنسان أن يكون موحِّداً، أو تقيّاً، أو مصلحاً، أو على دين واحد، بل ترك لهم حرية الاختيار؛ فهذا موحِّد، وهذا مشرك، وهذا لا دِين له إطلاقاً.

إذن: بحكم خاصية الاختيار الّتي منحها الله لهم؛ هم الّذين اختلفوا، ولم يفرض الله عليهم الاختلاف.

ولا يزالون مختلفين من بعد آدم، كانوا، وما زالوا، وسيظلُّوا إلى يوم القيامة؛ مختلفين: صفة ثابتة مستمرة فيهم.

ص: 113

سورة هود [11: 119]

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} :

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} : إلا: أداة استثناء. خلقهم: كما نعلم للعبادة، كما قال تعالى في سورة الذاريات آية (56):{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ؛ أي: خلقهم مختلفين في العبادة؛ لأنه سبحانه ترك لهم الخيار، وقال سبحانه في الآية (118) السابقة:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، ولكنه لم يشاء، ولذلك سيكونون مختلفين منهم الضال ومنهم المهتدي، ومنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات، والكل سيحاسب على عمله يوم القيامة.

{مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} : أيْ: الّذين لا يختلفون في دينهم، وهم على عقيدة واحدة، وهديٍ واحد؛ هؤلاء عسى أن يرحمهم ربك.

{وَتَمَّتْ} : ثبتت، وجبت، ولن تتغيَّر، أو تُبدَّل.

{كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ} : قيل: هي لأملأن جهنم من الجنة والنّاس أجمعين.

{لَأَمْلَأَنَّ} : اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد.

{جَهَنَّمَ} : مشتقة من بُعد القعر؛ أيْ: بعيدة القعر، أو كريهة المنظر؛ جهنم: دركة من دركات النّار، أو وصف من أوصاف جهنم؛ مثل: السّعير، ولظى، والحطمة.

{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} : من: ابتدائية؛ استغراقية.

{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} : أي: الجن، والإنس، وهما الثّقلان.

{وَالنَّاسِ} : مشتقة من النّوس؛ أي: الحركة.

{أَجْمَعِينَ} : توكيد؛ أيْ: من دون استثناء.

ص: 114

سورة هود [11: 120]

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} :

{وَكُلًّا} : كلّ + التنوين، ونصب كُلّاً؛ لأنّ التّقدير هو كما يلي: نقصُّ عليك كلّاً من أنباء الرّسل، وقيل: التّنوين: جاء عوضاً عن كلمة محذوفة تقديرها: كلّ ما تحتاج إليه من أنباء الرّسل نقصُّه عليك.

{نَقُصُّ عَلَيْكَ} : القاصُّ: الرّاوي هو الله -جل وعلا- ، وجاء بصيغة الجمع؛ للتعظيم، وقصَّ الأنباء تتبَّعها، ورواها وحكاها بالحق.

{مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} : من: ابتدائية بعضية.

{أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} : أخبار الرّسل، والأنباء: هي الأخبار المهمة، والأنباء: جمع نبأ؛ أي: الخبر المهم الذي فيه فائدة لمن يعنيه الأمر؛ أي: الخبر.

{مَا} : اسم موصول، أو مصدرية.

{نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} : التّثبيت: التّطمين، والتّمكين، ورفع أسباب الضّعف؛ أي: التّقوية؛ الفؤاد: القلب. ارجع إلى سورة الحج، آية (46).

{وَجَاءَكَ} : ولم يقل: أتاك؛ أي: المجيء فيه صعوبة، ومشقة.

{فِى هَذِهِ} : في: ظرفية؛ هذه: الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة للقرب يشير على الأنباء، أو الآيات.

{الْحَقُّ} : جاءت في هذه الآيات أو القصص أو السورة الحق، والقرآن: هو الحق، والنّبوة: هي الحق، أو البراهين الدّالة على صدق رسالتك؛ فكلّ ما أوحي به إليك هو الحق الكامل التّام، والحق؛ يعني: الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر، والمنزل من الله سبحانه.

{وَمَوْعِظَةٌ} : أيْ: وجاءك فيها موعظة: ما يوعظ به من قول، أو فعل، أو نصح، أو إرشاد إلى الطّاعة، وفعل الخير، والنّهي، والتّحذير.

{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} : تنبيه، وإيقاظ للنفس بعدم الغفلة، وذكرى يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق، ويصبرون على الطّاعة، والبلاء، واللام في كلمة للمؤمنين لام الاختصاص. خصَّ المؤمنين بالذكرى؛ لأنّهم وحدهم الّذين ينتفعون بالذكرى، أو تنفعهم الذّكرى؛ لقوله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ} [الزخرف: 44]، ومن خواصِّ القرآن: أنّه يُستعمل ذكرى في سياق الدّعوة والتّبليغ، وذكرى للشرف، والرّفعة، ويُستعمل ذكرى في سياق الهداية الفردية.

ص: 115

سورة هود [11: 121]

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} :

{وَقُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} : للذين: اللام: لام الاختصاص؛ الّذين لا يؤمنون؛ أي: الكافرين الّذين لا يصدِّقون بما أنزل إليك من ربك على وجه الوعيد.

{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : المكانة: من التّمكن؛ أي: القدرة؛ اعملوا قدر إمكانكم، واستطاعتكم، أو استمرُّوا على طريقتكم، ومنهجكم، أو ما أنتم عليه من الكفر.

{إِنَّا عَامِلُونَ} : ونحن سنعمل قدر استطاعتنا، وعلى طريقتنا، وما أنزل الله إلينا، وعاملون: جملة اسمية؛ تفيد الثبات.

ص: 116

سورة هود [11: 122]

{وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} :

وانتظروا عاقبة أمركم، أو انظروا ماذا سيحل بكم، أو بنا، ونحن ننتظر عاقبة أمرنا من خير، أو شرٍّ، أو ما سيحلُّ بنا، وبكم: فيها من الوعيد، والتّهديد.

ص: 117

سورة هود [11: 123]

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} :

{وَلِلَّهِ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أيْ: لله وحدَه غيب السّموات، والأرض.

{غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الغيب: هو ما غاب عن العباد، واستتر عن العيون؛ مثل: الجنّة، والنّار، والملائكة، والجن؛ غيب: جمعه غيوب؛ غيب السّموات والأرض؛ أيْ: علم الغيب، والغيب المطلق لا يعلمه إلا الله؛ أمّا الغيب النّسبي فقد يطلعه الله سبحانه على رسوله؛ مثل: إخبار الله سبحانه عن علامات السّاعة الصغرى، والكبرى.

{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} : إليه: تفيد الحصر؛ أيْ: إليه وحدَه يرجع الأمر.

{الْأَمْرُ كُلُّهُ} : الأمر: ال في كلمة الأمر: هي استغراقية تستغرق كلّ أمر؛ أيْ: إليه يرجع كلّ أمر، ثمّ جاءت بعدها كلّه: للتوكيد؛ يرجع إليه الأمر؛ ليجازي عليه.

{فَاعْبُدْهُ} : الفاء: للتأكيد؛ فاعبده وحدَه، والعبادة تعريفها؛ ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (106)، وهود، آية (2).

{وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} : استعن به، وفوِّض أمرك إليه بعد تقديم الأسباب؛ فهو يكفيك.

{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : ما: النّافية؛ لا يغفل سبحانه عما يعمل خلقه.

{رَبُّكَ} : الخالق، المدبر، الرّزاق.

{بِغَافِلٍ} : الباء: للإلصاق؛ غافل: ساهٍ، أو تارك، أو غير حافظ، أو غير عالم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى: الغفلة.

{عَمَّا تَعْمَلُونَ} : عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد.

{تَعْمَلُونَ} : تضم الأقوال، والأفعال من خير، وشرٍّ.

ص: 118

سورة يوسف [12: 1]

سورة يوسف

ترتيبها في القرآن (12)، وفي النزول (53).

نزلت بعد سورة هود، وبعد عام الحزن الّذي فقد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته خديجة، وعمه أبا طالب؛ كأنها مواسية له، وهي سورة مكية.

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} :

{الر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

{تِلْكَ آيَاتُ} : تلك: اسم إشارة؛ للبعد؛ يشير إلى علو منزلة الآيات، وتلك: تشير إلى الآيات التالية، أو الّتي سبقتها، أو الآيات بشكل عام، وتشير إلى الكثرة. ارجع إلى سورة يونس، آية (1)؛ لمزيد من البيان.

{الْكِتَابِ} : أي: القرآن، وسمِّي الكتاب؛ لكونه مكتوباً في السّطور، وفي اللوح المحفوظ؛ ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة؛ لبيان معنى الكتاب.

{الْمُبِينِ} : الظاهر، والواضح لكلّ فرد يقرؤه، والمبين لنفسه، ولكلّ شيء يحتاجه الإنسان في حياته من افعل، أو لا تفعل، أو حلال، أو حرام، والحق من الباطل.

ص: 119

سورة يوسف [12: 2]

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} : إنا: ضمير الشأن للتعظيم والتفخيم، ويفيد التوكيد.

{أَنزَلْنَاهُ} : ولم يقل: نزلناه، بل أنزلناه؛ أي: جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا، والنّزول من مكان عالٍ إلى مكان أقل علواً؛ أيْ: من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، وكان ذلك في ليلة القدر، ثمَّ نزل بعد ذلك منجَّماً، وأنزلناه، والمنزول هنا منسوب إلى الله تعالى، وبصيغة الجمع؛ للتّعظيم، ولأهمية نزوله، ونزل به الرّوح الأمين، وفي الآية (3) من سورة الزخرف قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الجعل كان أو تم قبل الإنزال؛ أي: جعله سبحانه وتعالى قرآناً عربياً، ثم أنزله كما هو قرآناً عربياً. ارجع إلى آية الزخرف لمزيد من البيان.

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} : قرآناً: من كونه مقروءاً بلسان عربي مبين، ولكونه أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو من العرب، وهناك من يدعي أن في القرآن كلمات أعجمية، أو أعجمي، أو غير عربي، فهذه الكلمات دخلت قبل الإسلام في العربية، وأصبحت عربية الاستعمال قطعاً، ولم يأت القرآن بكلمة أعجمية، فهو قرآناً عربياً بكامله.

{لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : لعلَّ: للتعليل، لعلَّكم تفهمون معانيه، وتدركون الغاية، والحكمة من نزوله، وما يدعوكم إليه.

ص: 120

سورة يوسف [12: 3]

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} :

{نَحْنُ} : ضمير منفصل، والفاعل نحن للتعظيم تعود على الله سبحانه.

{نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} : أحسن القَصَص بفتح القاف، وليس بكسر القاف؛ أيْ: أصدق القصص، أفضل القصص، والقَصَص بمعنى: السرد، ولا تعني جمع قِصة، وكلمة قَصَّ: تعني تتبع الخبر أو الأثر، وما حدث خطوة خطوة، وما يرويه الله سبحانه، أو يقصه علينا لا لبس فيه، ولا خيال وإنما بصدق، ويسمَّى القَصَص بخلاف، وأما ما يرويه الناس بعضهم لبعض يُسمَّى القِصص، أو الأساطير ففيها الكثير من الخيال والكذب.

{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} : بما: الباء: للإلصاق.

{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : من الإيحاء، وهو الإعلام بخفاء. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لبيان معنى أوحينا، ونسب الإحياء إليه تعالى للتعظيم.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب؛ لأنّ القراءة تحتاج إلى قرب القرآن من عيني القارئ.

{الْقُرْآنَ} : اسم جنس يقع على كلّ القرآن، أو بعضه.

{وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} : إن: للتوكيد.

{كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} : من قبل نزول هذا القرآن.

{لَمِنَ الْغَافِلِينَ} : اللام: للتأكيد؛ أيْ: كنت غافلاً {مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، أو غير منتبه لا تعرف من يوسف، وما قصته، ولم يخطر على بالك مطلقاً يوسف وشأنه، وما حدث له وليعقوب عليه السلام .

أسباب النّزول: روى الضّحّاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت اليهودُ النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: حدثنا عن أمر يعقوب، وولده وشأن يوسف؛ فأنزل الله هذه السّورة.

وروى ابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السّورة.

ص: 121

سورة يوسف [12: 4]

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} :

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} : إذ: ظرف زماني، واذكر إذ قال يوسف لأبيه، أو حين قال يوسف.

يوسف: بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم؛ فهو أحد أولاد يعقوب الاثني عشر ذكراً.

{لِأَبِيهِ} : يعقوب عليه السلام .

{يَاأَبَتِ} : نداء استعمل فيه ياء النّداء: للبعد؛ أبت: بدلاً يا أبي فيها استعطاف، وحنان أكثر من قوله: يا أبي، وقيل: كان عمره حوالي (12 عاماً).

{إِنِّى} : إنّي: للتوكيد.

{رَأَيْتُ} : فعل ماض يدل على أنّه رأى ذلك مرة واحدة، رأى رؤيا واحدة فقصها على أبيه، ولم يقل: إني أرى، كما قال إبراهيم لابنه إسماعيل: إني أرى في المنام أني أذبحك؛ أرى: فعل مضارع، وأرى: تدل على كثرة الرّؤيا (أكثر من مرة)؛ فقد رأى إبراهيم تلك الرّؤيا ثلاث مرات خلال ثلاث ليال، إذن رأيت تدل على رؤية واحدة، وأرى على عدة رؤى.

{أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} : الكوكب: جسم بارد يستمد نوره من غيره من الشّمس مثل كوكب الأرض.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} : والشّمس والقمر رأيتهم؛ أي: رآهما معاً، مع العلم أنّ لكلّ منهما وقتاً للظهور يختلف عن الآخر، ولكن رؤيا يوسف رآهما معاً.

{لِى} : خاصة.

{سَاجِدِينَ} : معنى ذلك أنّه أنزل الشّمس والقمر منزلة العاقلين، ويجوز في اللغة العربية تنزيل غير العاقل منزلة العاقل، وتكرار رأيت للتوكيد، والرّؤيا بالألف: تدل على الرّؤيا المنامية، والرّؤية بالتّاء المربوطة: تدل على الرّؤية في اليقظة، أو الرّؤية البصرية العادية، وتأويل أحد عشر كوكباً كما سنرى في نهاية القصة؛ يعني: إخوته الأحد عشر، والشّمس والقمر (أمّه وأبوه).

{رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} : سجود تحية، وتكريم، وليس سجود عبادة، وهذا ما سنراه في نهاية القصة، أو السّورة.

وقد وصف النّبي صلى الله عليه وسلم يوسف في الحديث الّذي رواه ابن عمر، وأخرجه البخاري، والإمام أحمد، بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ أي: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

ص: 122

سورة يوسف [12: 5]

{قَالَ يَابُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} :

{قَالَ يَابُنَىَّ} : قال يعقوب ليوسف: يا بني: نداء فيه حنان، وعطف، وتصغير؛ لأنّ يوسف عليه السلام كان صغيراً في السن.

{لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} : لا: النّاهية.

{تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} : لأنّ إخوته كانوا على علم بتأويل الرّؤيا، وإخوة يوسف هم الأسباط.

{فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} : الكيد: هو التّدبير الخفي؛ لإيقاع الضّرر، أو المكروه بالغير؛ سواء علم الخصم، أو لم يعلم، والكيد أقوى من المكر.

{لَكَ} : اللام: لام الاختصاص، وكيدهم سيكون لمصلحتك، ولو قال: فيكيدوك كيداً؛ أيْ: سيكون الكيد شراً لك.

{إِنَّ الشَّيْطَانَ} : إنّ: للتوكيد.

{الشَّيْطَانَ} : ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة؛ للبيان.

الشّيطان: هو إبليس، أو ذريته، وهم كفرة الجن.

{لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} : للإنسان: اللام: لام الاختصاص.

{عَدُوٌّ مُبِينٌ} : عداوته لا تخفى على أحد من النّاس؛ أيْ: بينة ومعروفة لكلّ فرد، وعداوته كاملة تامة تشمل كلَّ النّواحي، ولا تحتاج إلى برهان، أو دليل.

ص: 123

سورة يوسف [12: 6]

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} : أيْ: كما أراك الله هذه الرّؤيا الصّالحة؛ فسوف يجتبيك ربك؛ أيْ: يصطفيك، ويختارك لنبوته. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (144)؛ لمزيد من البيان.

{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} : من: ابتدائية بعضية.

{تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} : الإخبار عن حقيقة الرّؤيا؛ أي: استخراج معنى الرؤيا، أو تفسير الأحلام.

{الْأَحَادِيثِ} : جمع حديث، والحديث قد يطلق على الرّؤى، والأحلام (أحاديث النّفس)؛ أيْ: يعلمك تعبير الرّؤيا، أو بيان ما يؤول إليه الحلم، أو المنام.

{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} : بالنّبوة، والملك، وعلى آل يعقوب، ويتم نعمته أيضاً على أولاد يعقوب؛ أيْ: سينالهم من الجاه، وعدم الفقر، والغنى.

{كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} : على إبراهيم أتم نعمته عليه بالنّبوة، والخلة (واتخذ إبراهيم خليلاً)، وأنجاه من النّار، وعلى إسحاق: بالنّبوة.

فيوسف عليه السلام بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

{عَلَى أَبَوَيْكَ} : إذا اعتبر الجد (إسحاق) بمنزلة الأب، واعتبر أبا الجد (إبراهيم) بمنزلة الأب أيضاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (133) لمزيد من البيان.

{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من عالم؛ كثير العلم.

{حَكِيمٌ} : ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة.

وقدَّم العليم على الحكيم؛ لأنّ سياق الآيات في علم تأويل الأحاديث.

ص: 124

سورة يوسف [12: 7]

{لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} :

{لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} : لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد؛ لقد كان في يوسف وإخوته؛ أيْ: في أحداث قصة يوسف وإخوته (الأحد عشر)، وفي: ظرفية مكانية وزمانية.

{آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} : آيات: دلائل، وبراهين على قدرة الله، وعلمه، وعلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

{لِلسَّائِلِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ السّائلين: وهم كفار مكة، أو اليهود الّذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، وخبر يعقوب آيات كافية لهم؛ لكي يتبينوا صدق نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم.

ص: 125

سورة يوسف [12: 8]

{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{إِذْ} : ظرف زماني، واذكر إذ: أو حين قال إخوة يوسف بعضهم لبعض.

{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} : ليوسف: اللام: لام التّوكيد، وأخوه: بنيامين (أخوه من أبيه وأمّه).

{أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} : أي: إنّ أبانا يحب يوسف وبنيامين أكثر من حبه لنا.

{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} : العصبة فوق العشرة (10-40)؛ أيْ: متعصبون لبعضهم بعضاً؛ يحمي بعضهم بعضاً.

{إِنَّ} : إنّ: للتوكيد.

{أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : لفي: اللام: للتوكيد؛ في ظلال مبين: أيْ: مخطئ، وليس له حق في إيثار يوسف وأخيه عليهم، ولعلَّ السبب في إيثار يوسف وأخيه؛ لأن أم يوسف وبنيامين ماتت؛ الأمر الّذي جعل أباهما أكثر حناناً وعطفاً لهما.

ص: 126

سورة يوسف [12: 9]

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} :

بعد أن بدأت المشاورات بينهم كان من بين المقترحات قتل يوسف.

{اقْتُلُوا يُوسُفَ} : ولكن عدلوا عنه بإلهام من الله تعالى، ولأنّهم يعلمون عاقبة القاتل في دين يعقوب، وكيف يقتلون أخاهم وهم أولاد نبي.

{أَوِ} : أو: للتخيير.

{اطْرَحُوهُ أَرْضًا} : أيْ: ألقوه في أرض بعيدة.

{يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} : يخلص لكم وجه أبيكم، ولا يشارككم فيه أحد، ويصبح حبه مقصوراً عليكم، ولن يعد مشغولاً بيوسف وأخيه.

{وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} : من بعد قتل يوسف، أو طرحه بعيداً.

{قَوْمًا صَالِحِينَ} : لتوقف كيدهم، وحسدهم، وعدائهم لأخيهم أو ظانين إن تابوا بعدها أن الله سيغفر لهم ذنبهم، ويتوب عليهم، أو قوماً صالحين؛ لأن اهتمام أبوكم ورعايته سيوجه إليكم، ولا يشارككم فيه أحد، أو يصلح حالكم مع أبيكم.

ص: 127

سورة يوسف [12: 10]

{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} :

{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} : لم يُعرف من القائل؛ قيل: هو يهوذا، وهو أكبر أولاد يعقوب سناً، ويبدو أنّ اقتراحه هو إلهام من الله سبحانه له؛ لكي يتم قضاؤه سبحانه وقدره، ويبقى يوسف حياً.

{لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ} : وبدلاً من قتله ألقوه في غيابات الجب، وقوله: لا تقتلوا يوسف بدلاً من قوله: لا تقتلوه فيها نوع من العاطفة الأخوية الباقية في نفسه حيث ذكر اسم يوسف.

{الْجُبِّ} : قيل: هو البئر الّتي لم تبنَ بالحجارة، وهي بئر غير عميقة وفيه ماء، ومجوف ووسطها، وغيابة: ما غاب من جوانبه عن النّظر، ويستتر ما يختبئ فيه.

إذن: غيابت الجب: هي المنطقة المخفية عن العيون، أو هو قعره، (وغيابة كلّ شيء قعره).

{يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} : جمع سيار: وهو كثير السّير؛ أي: المسافر، فالسّيارة؛ أي: المسافرين، أو الجماعات المسافرة.

{إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} : إن: شرطية تدل على الافتراض، أو الاحتمال، والشّك.

{فَاعِلِينَ} : قوله: فاعلين جملة اسمية تدل على الثبوت؛ ثبوت أن اقتراحه سيعمل به، ولن يرفض.

وفي هذه الآية أمران: الأوّل: إلقاؤه في غيابة الجب؛ بحيث يلتقطه بعض السّيارة، إذن: ليس في نيتهم قتل يوسف، وإنما التّخلص منه بدفعه في البئر، والالتقاط عادة يكون لشيء نافع؛ أي: يلتقطه بعض السّيارة لينتفعوا به في أمرٍ ما فهذه الجريمة أقل من جريمة القتل، والجب كما قلنا بئر غير عميقة من تراب مجوف وسطها لا يكون فيها حجارة تؤذي يوسف.

ص: 128

سورة يوسف [12: 11]

{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَ نَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} :

بعد أن تم الاتفاق بين الإخوة على إلقاء يوسف في غيابة الجب؛ جاؤوا إلى أبيهم، وقال أحدهم، وأمَّن الباقون على قوله:

{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَ نَّا عَلَى يُوسُفَ} : نداء فيه استعطاف؛ لنيل المراد، واستعملوا يا النّداء للبعد؛ فقد ينادى القريب بما هو للبعيد، وقولهم:

{مَا لَكَ} : ما: استفهامية؛ فيها معنى الحث، ويبدو من قولهم: أنّ أباهم يعقوب عليه السلام كان يحرص على يوسف، ولا يتركه يلعب، أو يخرج معهم، أو كان يرفض الاستجابة لطلبهم بما يتعلق بشأن يوسف.

{لَا تَأْمَ نَّا} : لا: النّافية.

{تَأْمَ نَّا} : فترسله معنا، أو لما تخاف على يوسف منا.

{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} : وإنا: تفيد التّوكيد؛ له: خاصة.

{لَنَاصِحُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد على المحافظة على يوسف، وناصحون: أيْ: حذرون عليه، ولن يصاب بأذى، وسنحافظ عليه، ونهتم به.

ص: 129

سورة يوسف [12: 12]

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} :

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} : أي: اتركه يخرج معنا غداً في اليوم القادم، وإخوة يوسف يخرجون للرعي، والعمل، ويوسف لا زال طفلاً يخرج معهم لكي يرتع ويلعب، الرّتع: يعني الأكل والشّرب كما يشاء؛ أي: يأكل ويشرب ويتنزه.

{وَيَلْعَبْ} : واللعب من الأمور المستحبة إلى الأطفال تحت سن التّكليف.

{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} : وإنا: للتوكيد؛ له: خاصة.

{لَحَافِظُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ لحافظون عليه من كلّ أذى، أو ضرر.

ص: 130

سورة يوسف [12: 13]

{قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} :

{قال} : يعقوب: إني: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.

{لَيَحْزُنُنِى} : اللام: للتوكيد أيضاً، والنّون: لزيادة التّوكيد على شدة خوف يعقوب على يوسف؛ فقد جاء بثلاث توكيدات:

يحزُنني: من الحُزن: هو ألم في النّفس لفقد محبوب، أو وقوع مكروه، بينما الخوف: هو ألم في النّفس مما يتوقع من مكروه، ولمعرفة الفرق بين الحزُن، والحزَن: ارجع إلى سورة فاطر، آية (34).

ليحزُنني: أيْ: يشق، أو يصعب عليَّ مفارقته، وغيابه.

{أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{تَذْهَبُوا بِهِ} : ليرتع ويلعب.

{وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} : يعني: حيوان مفترس مثل الضّبع، والذّئب، وذكر يعقوب للذئب؛ لكي ينتحل لهم عذراً؛ فلا يرسله معهم، ولأنّ أرضهم كانت كثيرة الذّئاب، وهذا ما كان شائعاً، ويخيف النّاس.

{وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} : بدلاً من وأنتم غافلون عنه؛ قدَّم الجار والمجرور؛ لتفيد الحصر، أو القصر، وأنتم عنه ساهون، أو لاهون، أو تلعبون. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى:(غافلون).

ص: 131

سورة يوسف [12: 14]

{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} :

{قَالُوا} : إخوة يوسف لأبيهم يعقوب.

{لَئِنْ} : اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} : ونحن بهذا العدد؛ عصبة: تعني عشرة، ولا ندافع عنه، أو نحميه.

{وَنَحْنُ} : الواو: حالية تفيد التّوكيد.

{إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} : إذن حرف جواب للتوكيد، كان بالإمكان القول: إنا لخاسرون.

{لَخَاسِرُونَ} : اللام: لام الاستحقاق، والتّوكيد، أو التّعليل، عاجزون، أو ضعفاء.

ص: 132

سورة يوسف [12: 15]

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ لما: ظرف زماني؛ أيْ: حين، خرجوا به، ويبدو أنّ أباهم استجاب لطلبهم بإرسال يوسف معهم.

{وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ} : وأجمعوا: عزموا جميعاً، أو اتفقوا، ويدل ذلك أنّهم كانوا لا زالوا مختلفين في أمره حتّى تلك اللحظة الّتي ألقوه فيها في غيابت الجب.

{أَنْ يَجْعَلُوهُ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّوكيد، والتّعليل.

{فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ} : ارجع إلى الآية (10) من نفس السّورة.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : وأوحينا: من الوحي، وهو الإعلام بالخفاء، وكيف تم ذلك وهو لا زال طفلاً. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان في معنى: أوحينا.

{لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} : اللام: لام التوكيد، وكذلك النون بدلاً من لتنبئهم؛ أي: لتخبرن هؤلاء إخوتك بأمرهم هذا؛ أيْ: بما صنعوا بك في المستقبل وفي هذا وعيد لهم.

{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : بأنّك يوسف أخوهم الذي أصبح عزيز مصر، ولا زلت حياً، كما سنرى في الآيات (88-90) من نفس السّورة. أو هم لا يشعرون: بالوحي بإنزال جبريل لمعونتك عند إلقائك في غيابة الجب، أو لا يشعرون بالقرابة، أو ما سيحدث لك بعد إلقائك، والآية تحتمل كل هذه المعاني.

ص: 133

سورة يوسف [12: 16]

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} :

أيْ: أخَّروا رجوعهم، أو مجيئهم حتّى وقت العشاء؛ كي يخبروا أباهم بأنّ يوسف أكله الذّئب؛ فقد اختاروا وقت العشاء وقت الليل، والظّلمة؛ كي لا تُرى على وجوههم علامات الكذب، أو لستر الجريمة التي قاموا بها، والمجيء على قميصه بدم كذب.

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً} : جاؤوا في عشاء ذلك اليوم الّذي خرجوا فيه، وألقوا فيه يوسف في غيابت الجب، واختار كلمة جاءوا بدلاً من رجعوا، أو أتوا؛ لأن المجيء فيه معنى المشقة والصعوبة، فهم قد ألقوا أخاهم في البئر، وأما الإتيان فيه معنى السهولة.

{يَبْكُونَ} : أيْ: متباكين؛ لأنّهم افتعلوا البكاء؛ فهم جاؤوا على قميصه بدم كذب، وجاؤوا يبكون، واختاروا ظلمة الليل وقت العشاء؛ لكي يخبروا أباهم بأنّ يوسف أكله الذّئب.

ص: 134

سورة يوسف [12: 17]

{قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} :

{قَالُوا يَاأَبَانَا} : حين جاؤوا أباهم عشاء يبكون قالوا: يا أبانا.

{إِنَّا} : إنا: للتوكيد.

{ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} : نتسابق في الجري، وهم لم يفعلوا ذلك، ولم يتسابقوا أصلاً. وقيل: ننتضل؛ أي: نستبق في رمي السهام.

{وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} : وهم لم يتركوا يوسف، وإنما ألقوه في غيابة الجب؛ أيْ: تركنا يوسف بجانب متاعنا، والمتاع: هو الطّعام، والشّراب، والأدوات الّتي أخذوها معهم.

{عِنْدَ} : ظرف مكان، وزمان.

{فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} : فأكله: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أكله الذّئب: نفس الكلام الّذي قاله أبوهم: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} ؛ فهم لم يفكروا بشيء آخر يقولونه، وكأنّ أباهم يعقوب هداهم لنفس العذر، أو الحيلة.

{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : الواو: عاطفة؛ ما: النّافية.

{أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} : بمؤمن: الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ أيْ: بمصدق لنا، ولم يقل: وما أنت بمؤمن بنا؛ بنا: تعني إيمان عقيدة.

{وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} : ولو: شرطية.

{كُنَّا صَادِقِينَ} : أيْ: ولو ثبت صدقنا ما صدقتنا أصلاً.

ص: 135

سورة يوسف [12: 18]

{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} :

{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} : القميص: هو الثّوب الّذي يحيط بالبدن.

{عَلَى} : تفيد المشقة والصعوبة للحصول على الدم، ثم لطخوا به قميص يوسف بدم كذب؛ أي: ليس دم يوسف.

{بِدَمٍ كَذِبٍ} : بدم: الباء: للإلصاق والتّوكيد؛ دم كذب: كذب: مصدر للمبالغة، وحين نصف الشيء بمصدره كأن الشيء إلى المصدر؛ أي: كأنّه نفس الكذب، أو الكذب بعينه؛ أيْ: بدم مكذوب؛ لأنّ الدّم لا يكذب، والّذي كذب هو من جاء بالدّم، ووضعه على القميص؛ فلما رأى يعقوب القميص، وعليه الدّم الكذب، ولم يجد فيه أيَّ خرق، أو عيب؛ أيَّ تمزق؛ فكأن الذّئب أكل لحم يوسف دون أن يمزق قميص يوسف؛ عندها شعر يعقوب بمكر أولاده بيوسف.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} : سولت: طوعت أو سهلت وزينت، والتّسويل: تحسين الشّيء، وتزيينه، وتحبيبه إلى الإنسان كي يفعله، ولنعلم أن التسويل (سولت) تحتاج إلى جهد أقل من طوعت؛ أي: طوعت تحتاج إلى جهد أشد من التسويل.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} : فصبر: الفاء: للتّوكيد؛ صبر جميل: صبر من دون شكوى إلى أحدٍ من الخلق إلا الله، ومن دون جزع، أو يأس، والرّضا بما قدر الله وقضى؛ فيجوز للعبد أن يشكو بثه وحزنه إلى الله سبحانه.

{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} : أيْ: أسأل الله العون على ما؛ أي: الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي؛ تصفون (من هلاك يوسف وأن الذّئب أكله، أو أسأل الله الصّبر، والاحتساب لهذا النّبأ المفجع.

ما هو الفرق بين صبر جميل في هذه الآية، وقوله تعالى:{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]؟

صبر جميل: جملة اسمية تدل على الثّبوت، والدّوام؛ أي: اصبر صبراً دائماً ومستمراً.

واصبر صبراً جميلاً: جملة فعلية تدل على التّجدد؛ أيْ: صبراً غيرَ دائم ومتواصل.

ص: 136

سورة يوسف [12: 19]

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} :

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} : أيْ: جماعة من المسافرين، جماعة مسافرة، لم يخبر سبحانه من أين جاؤوا، وإلى أين كانوا ذاهبين.

{فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} : فأرسلوا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب.

{وَارِدَهُمْ} : الّذي اختير ليذهب إلى البئر؛ ليأتي لهم بالماء، والدّلو: هو الوعاء الّذي يُخرجْ الماء من البئر.

{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} : أنزل دلوه إلى البئر؛ فإذا به يُبصر يوسف في البئر فصاح:

{قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} : نادى أصحابه، وبشرهم بأنّه وجد غلاماً، ويبدو أنّ يوسف قد تعلَّق بالدّلو، أو بالحبل؛ فشعر الوارد بوجود غلام في البئر؛ فنادى: يا بشرى هذا غلام، وأخبر واردهم بعض أصحابه المسافرين معه.

{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} : أيْ: أخفوه، وعاملوه؛ كأنّه بضاعة؛ أي: سلعة للتجارة، وقالوا لمن سألهم بشأنه: أنّه بضاعة أبضعها أهل الماء؛ لنبيعها لهم في مصر؛ أيْ: حاولوا إخفاءَه ليبيعوه في مصر كعبد (تجارة الأطفال)، والبضاعة: ما بُضِعَ؛ أيْ: قطع من المال للتجارة.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} : عليم: بما صنعوا بيوسف، ربما قالوا بعد أن عثروا عليه، وكيف أخفوه، وباعوه في مصر.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير العلم؛ عليم: يعلم سرهم، ونجواهم، وعليم بذات الصّدور، وما يخفونه، وهو بكلّ شيء عليم: لا تخفى عليه خافية في السموات، ولا في الأرض.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية، وأوسع شمولاً من الذي.

{يَعْمَلُونَ} : يقولون، ويفعلون؛ العمل: هو القول، والفعل.

ص: 137

سورة يوسف [12: 20]

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} :

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} : أي: باعوه بثمن زهيد؛ أيْ: أقل مما يستحق، ويقال: بخس حقه: نقص حقه، ولم يوفه، وفيه نوع من الظلم؛ أي: هم باعوه بأقل بكثير من قيمته الحقيقية.

{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} : دراهم قليلة، والمعدودة: أكثر من المعدودات؛ أي: ربما باعوه مثلاً بثلاثين درهم، وكان قدره أو قيمته أكثر من ذلك بكثير.

{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} : كانوا في يوسف.

{مِنَ} : استغراقية؛ التّوكيد.

{الزَّاهِدِينَ} : جمع زاهد، والزهد: هو عدم الطمع؛ أيْ: كانوا يريدون أن يتخلَّصوا منه بأيِّ ثمن.

ص: 138

سورة يوسف [12: 21]

{وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِّصْرَ} : الّذي اشتراه هو العزيز وزير الملك ملك مصرَ (غير منونة)، وتعني: مصر المدينة المعروفة، ولم يقل مصراً، كما جاء في قوله تعالى {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]؛ أي: أيّ مدينة.

{لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} : لامرأته ولم يقل لزوجته. ارجع إلى سورة القصص آية (9) لمعرفة الفرق بين الزوجة والمرأة في القرآن. أحسني إقامته عندنا بالطعام، والشّراب، واللباس، أو أحسني ضيافته، ونُزله، والمثوى فيها معنى: الإقامة الجبرية؛ لأنه طفل، واشتُري كعبد.

{عَسَى} : أداة رجاء، وتستعمل في الأمر الّذي يتحقق حدوثه فيما بعد.

{أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} : ببعض الأمور؛ أيْ: يساعدنا، أو نتخذه ولداً؛ حيث كان عزيز مصر لا ولد له، وإذا قيل: كيف يتخذه ولداً، وهو عبد له؛ فيه تناقض؛ أي: يعتقه أوّلاً، ثمّ يتبناه، ويتخذه ولداً؛ حيث كان التّبني معلوم آنذاك.

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ} : أيْ: كما أنجيناه من القتل، وأخرجناه من ظلمة الجب؛ مكَّنَّا له بالقدوم إلى بيت العزيز.

{لِيُوسُفَ} : اللام: لام الاختصاص.

{مَكَّنَّا} : والتّمكين يعني له القدرة على الوصول إلى ما يبغيه، ويطمح به من الحرية، والأمن، وممارسة شعائر ملته، والأمر والنّهي، ولا يعني التّسلط والظّلم.

{فِى الْأَرْضِ} : في: ظرفية؛ لأنّ الأرض تضم الأرض، وما يحيط بها من غلاف جوي.

{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} : تأويل الرّؤيا، والأحلام، تعبير الرّؤى، والأحلام، ولنعلم: الواو: للتوكيد.

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} : أيْ: لا يعجزه شيء، وكلّ أمر يقع، أو يحدث يقع حسب مشيئة الله وحده، ولا راد لقضائه فلا يُغلب، ولا يُقهر، أو الله غالب على أمر يوسف يدبره، ويصرفه كيف يشاء، ولا يكله إلى غيره.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أن الأمر كلّه بيد الله وحده، وهو فعال لما يريد، أو لا يعلمون حقائق الغيب، وحكمته، ويأخذون بظواهر الأمور.

ص: 139

سورة يوسف [12: 22]

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: استئنافية؛ لما: ظرف زمني بمعنى: حين، وتتضمن معنى الشّرط.

{بَلَغَ أَشُدَّهُ} : كمال قوته العقلية، وقيل: الأشد بين (18-33 سنة)، بينما في موسى قال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ارجع إلى سورة القصص آية (14) للبيان والفرق.

{آتَيْنَاهُ حُكْمًا} : النّبوة، وحكماً: الحكم والفصل والقضاء.

{وَعِلْمًا} : الفقه بأمور الدّين وتفسير الرّؤيا والأحلام.

والإيتاء: يختلف عن العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} : أيْ: آتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه، أو كما جزينا يوسف الحلم والعلم والصبر نجزي كذلك المحسنين أمثاله.

ص: 140

سورة يوسف [12: 23]

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَّفْسِهِ} : ولم يذكر اسمها كأن يقول امرأة العزيز، أو اسمها الحقيقي لتجنب إذاعة الفاحشة والستر عليها وعلى سيدها؛ المراودة: المطالبة برفق، ولين، والمراجعة؛ أيْ: إعادة الطّلب، وبأسلوب فيه نوع من الخداع، والحيلة لوقوع المطلوب، ومعنى ذلك حاولت إغراءَه جنسياً.

وأبدت له من القول، والحركة، والمحاسن ما يدل على أنّها تدعوه إلى الوقوع في الفاحشة بعد أن اتخذت كلّ الأسباب اللازمة للحيطة، والحذر من اكتشاف هذا الأمر، والمراودة مشتقة من الرّويد، وهو الرّفق، والمراودة مفاعلة؛ أيْ: تحتاج إلى مشاركة بين طرفين، وقد تنتهي إلى نتيجة، أو لا يستجاب لها.

{عَنْ نَّفْسِهِ} : عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد؛ أيْ: يتخلى عن نفسه لها؛ أيْ: يعطيها نفسه؛ فتحصل امرأة العزيز على ما تريد منه.

{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} : ولم يقل: وأغلقت الأبواب، غلقت الأبواب؛ أيْ: أحكمت إغلاقها؛ لتأمن من الدّاخلين؛ أي: استعملت المفاتيح، وغلقت الأبواب؛ تعني: أبواباً كثيرة بينما أغلقت الأبواب: تدل على أنها من دون إحكام، وأبوابٌ قلة.

{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} : انتهت مرحلة المراودة إلى مرحلة التّطبيق.

{هَيْتَ لَكَ} : أيْ: هلمَّ إلي؛ أقبل، وأسرع، أو جئت لك؛ أيْ: أعددت نفسي لك.

{لَكَ} : اللام: لام الاختصاص لك وحدك.

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} : قال يوسفُ: معاذ الله: مشتقة من أعوذ بالله؛ أيْ: ألتجأ وأعتصم بالله أن أفعل هذا، أو أعوذ بالله معاذاً مما تريدين مني.

{إِنَّهُ} : إنّه: للتوكيد، والهاء: تعود إلى العزيز.

{إِنَّهُ رَبِّى} : أيْ: سيدي (أيْ: عزيز مصر)، وقد تعني أيضاً: الله سبحانه، فالأسلوب يحتمل كلا المعنيين؛ فالله هو المربي الحقيقي، والعزيز هو الّذي وكل إليه للقيام بالتّربية.

{أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} : أيْ: أكرمني، وأحسن إقامتي عنده، وربّاني. ارجع إلى الآية السابقة (21) لمزيد من البيان.

{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : إنّه: للتوكيد؛ لا: النّافية.

{يُفْلِحُ} : أي: يفوز بالمرغوب وينجو من المرهوب، فالفلاح: هو الفوز والنجاة.

{الظَّالِمُونَ} : أي: الزّناة، أو الخائنون؛ أيْ: من يفعل ذلك يكن خائناً للأمانة، وظالماً لنفسه وغيره. والظالمون: جمع ظالم، والظالم: كلّ من خرج عن منهج الله، والظالمون: جملة اسمية تدل على ثبوت صفة الظلم عندهم.

ص: 141

سورة يوسف [12: 24]

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: عاطفة؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد أيضاً.

{هَمَّتْ بِهِ} : الهم: هو حديث النّفس بالشّيء بلا عزم بمقتضى النّظرة، وهو هم عارض، وهناك الهم الثّابت المصاحب للعزم، والتّصميم، والرّضا، وحين نقرأ، أو نتلو القرآن فمن الأفضل الوقوف على: ولقد همّت به.

{وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} : لولا: حرف امتناع لوجود؛ أيْ: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها، وبما أنّه رأى برهان ربه فهو لم يهمّ بها.

وكذلك انتبه إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} : ولو قال تعالى: ولقد همت به، ولم يهم بها لقيل: إنّ يوسف قد يكون عنِّيناً ليس عنده شهوة للنساء، أو غيره من الموانع، وأصل الكلام: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها؛ أيْ: فيه تقديم، وتأخير، وهناك من قال: وهمّ بها؛ تعني: همّ بدفعها عنه وإبعادها، ومحاولة الفرار.

{لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} : ما هو برهان ربه؟ لم يبيِّنه لنا الحق سبحانه؛ فقد قيل: البرهان برهان ربه تذكر شريعة ربه (حدود ربه) التي تحرم الفاحشة (الزنى) وعقوبة الزاني والزانية فحصنه ومنعه إيمانه القوي بالله، وشعوره بمراقبة الله له، وقيل: أنه رأى أباه يعقوب يحذره، أو رأى آية:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} ، أو رأى خيالاً، أو صورة العزيز زوج المرأة، والله أعلم.

{كَذَلِكَ} : تفيد التشبيه؛ أي: مثل ذلك، أو تعني أيضاً:

{لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} : لنصرف: اللام: لام التّوكيد، والتّعليل.

{السُّوءَ} : الخيانة، والإثم.

{وَالْفَحْشَاءَ} : الزّنى.

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} : إنّه: للتوكيد.

{مِنْ} : ابتدائية بعضية.

{عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} : المخلَصين: بفتح اللام، والمخلَص: هو من اصطفاه الله سبحانه من عباده؛ وأخلصه: جعله طاهراً تقياً؛ أيْ: من عبادنا الأصفياء الأتقياء الطّاهرين الّذين اختارهم الله لرسالته مثل الأنبياء، والصّديقين، وهؤلاء هم مخلِصون لله قبل أن يكونوا مخلَصين؛ أمّا المخلِصين: بكسر اللام: هو الّذي يجاهد نفسه ليكسب طاعة الله؛ أيْ: يُخلص نفسه لله.

ص: 142

سورة يوسف [12: 25]

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} : تسابقا كلّ واحد يحاول أن يسبق الآخر؛ ليفتح الباب.

{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} : قد الثّوب شقه طولاً؛ فهو يحاول الهرب أمامها، وهي تجري وراءه لتمنعه من الخروج؛ فشقت قميصه من دبر.

{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} : ألفى الشّيء وجده، وهناك فرق بين ألفى الشيء، ووجد الشيء؛ ألفى: لا تستعمل إلا فيما هو مشاهد أو محسوس؛ أي: مادية، وتستعمل في الأمور غير المستحبة كما في هذه الحال؛ أيْ: وجدا سيدها (في اللغة القبطية) الزوج؛ أي: زوجها لدى الباب، ومباشرة ألقت امرأة العزيز الاتهام على يوسف في شكل سؤال، وإذا قارنا {لَدَى} هذه (بالألف الممدودة) مع {لَدَى} (بالألف المقصورة) التي جاءت في سورة غافر آية (18) نجد {لَدَى} بالأف الممدودة جاءت في سياق الأمر الحسي المادي، وهو الباب، و {لَدَى} بالألف المقصورة جاءت في سيلق الأمر المعنوي، وهو: كون القلوب لدى الحناجر. ارجع إلى سورة غافر آية (18) لمزيد من البيان.

{قَالَتْ مَا جَزَاءُ} : ما: استفهامية.

{جَزَاءُ} : عقاب.

{مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} : من: اسم موصول ابتدائية.

{أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} : الخيانة، ثمّ حددت هي نفسها العقاب إلا أن يُسجن، أو عذاب أليم.

{إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : إلا: أداة حصر.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد، والتّعليل.

{إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ} : أيْ: ما جزاؤه إلا السّجن.

{أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : الجلد، والضّرب بالسّياط (100 جلدة)، أو (80 جلدة).

ص: 143

سورة يوسف [12: 26]

{قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَنْ نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} :

{قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَنْ نَّفْسِى} : عندها قال يوسف: هي راودتني عن نفسي؛ أيْ: طلبت مني، أو دعتني، أو أغرتني؛ فلما تعارض قول يوسف مع قول امرأة العزيز استدعى الخلاف إلى قاضٍ يقضي بينهما، أو خبير في القضايا الجنائية، وسماه شاهد يشهد بما يرى من الحقائق.

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} : قيل: كان الشّاهد رجلاً حكيماً صاحب رأي من أهلها؛ قيل: ابن عمها، وقيل: هو طفل في المهد، والأرجح: هو الأوّل؛ أيْ: كونه رجلاً حكيماً؛ لكون سياق القصة يتماشى مع هذا الافتراض.

{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} : يبدو أنّ الشّاهد القاضي تلا القانون الّذي سيبني عليه حكمه، وقبل رؤية القميص والتّدقيق فيه.

{إِنْ} : شرطية افتراضية، أو احتمال قميصه شق من الأمام؛ يعني: هو أقبل نحوها فدفعته؛ فهو حاول الهم بها، وهي تدفعه؛ فشقت قميصه من الأمام.

{فَصَدَقَتْ} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ تفيد التّوكيد، وهو من الكاذبين.

ص: 144

سورة يوسف [12: 27]

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} : وإن: شرطية للافتراض.

{كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} : من الخلف؛ أيْ: هي تَتْبعه، وتجري خلفه، وهو يحاول الهرب منها؛ فتمسك بقميصه فشق من الخلف.

ص: 145

سورة يوسف [12: 28]

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} :

{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} : قيل: هذا قول الشّاهد، وهو الأرجح.

وقيل: هذا قول العزيز، وليس قول ربنا، كما يظن بعض النّاس.

وقيل: كيد المرأة عظيم في أمر الفاحشة (الزّنى)، وكيدها عظيم؛ لأنّها هي التي تجر عادة إلى الفاحشة (الزّنى) بما تقوله، أو تفعله.

الكيد هو: ارجع إلى الآية (5) من نفس السّورة.

{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} : إنّه: للتوكيد.

{مِنْ} : ابتدائية.

{إِنَّ كَيْدَكُنَّ} : إنّ: للتوكيد، والكيد: هنا يعني إلصاق السّوء (الخيانة)، أو التّهمة بيوسف.

{عَظِيمٌ} : لأنّه قد يؤدي إلى حدِّ الرّجم.

ص: 146

سورة يوسف [12: 29]

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِـئِينَ} :

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} : هذا قول العزيز.

{أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} : أيْ: لا تذكره إلى أحد، واكتمه، ولم يقل: يا يوسف أعرض عن هذا: حذف ياء النّداء؛ بسبب العجلة حتّى لا يسمع أحد، والإيجاز، والتّستر، والخوض في هذه المسألة، وتنتشر الفضيحة، أو المقام مقام إيجاز واختصار.

{وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ} : هذا قول العزيز لزوجته: استغفري لذنبك.

{لِذَنبِكِ} : اللام: لام البدلية، أو التّعليل، والتّوكيد؛ أيْ: توبي من ذنبك.

{إِنَّكِ} : إنّ: للتوكيد.

{كُنْتِ مِنَ الْخَاطِـئِينَ} : أي: المذنبين الآثمين.

{الْخَاطِـئِينَ} : جمع خاطئ: وهو من تعمد الذّنب بسبب ما همت به، ولم يقل: كنت من الخاطئات؛ لأنّه أراد التستر، والنّهي عن إشاعة الفاحشة، وجاء بلفظ التذكير (الخاطئين)؛ لأن الخاطئين تشمل الذكور والإناث معاً.

ص: 147

سورة يوسف [12: 30]

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

فلمّا تسرب الخبر إلى عدد من النّسوة (4-5 نساء) اللاتي يعملن في القصر، أو بسبب إخبار أزواجهنَّ لهنَّ.

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ} : ولم يقل: قالت نسوة؛ قال بالتّذكير الذي يدل على جمع قلة، ولو قال: قالت، بالتّأنيث فهو يدل على الكثرة؛ كقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ} : بالتّأنيث جمع كثرة، {جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى}: تدل على القلة؛ {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} : يوم القيامة في الآخرة كلّ الرّسل بما فيهم الأنبياء؛ تدل على الكثرة.

{امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} : ولم يقل: زوجة العزيز؛ لأنّه هناك مرض في الزّوج هو عدم الإنجاب بذلك خالف زوجه الّتي هي صالحة للإنجاب؛ فبدل كلمة زوجة بكلمة امرأة، يستعمل القرآن زوجة للمرأة الّتي لا تخالف زوجها في الدّين (مثل الكفر)، وهي صحيحة البنية ليس فيها عيب أو مرض مثل العقم أو سوء الخُلق، وكتبت امرأت بالتاء المفتوحة أو المبسوطة بينما في الآية (12) في سورة النساء، والآية (50) في سورة الأحزاب بالتاء المربوطة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (35) لمعرفة الفرق؛ فنبأ امرأة العزيز ربما تسرب إلى أحد العاملين في القصر، ثمّ انتقل إلى بقية العاملين وأزواجهم.

وهؤلاء النّسوة قيل: كن خمس نسوة؛ فانتقل الخبر إلى إحداهنَّ، ثمّ شاع الخبر بينهنَّ، ثمّ وصل إلى امرأة العزيز.

{تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ} : ارجع إلى الآية (23).

{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} : الشّغاف: هو غلاف القلب؛ أيْ: أنّ حبها له وصل إلى قلبها (شغاف قلبها دلالة على شدة الحب)، وأن حبه قد جرى في دمها ووصل إلى قلبها.

{إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : لنراها: اللام: لام التّوكيد؛ نراها في ضلال مبين: بعيدة عن الصّواب (أخطأت وابتعدت عن التّحصن، ومنهج الله).

{مُبِينٍ} : ظاهر لكلّ فرد، وضلال ظاهر لا يحتاج إلى أحد ليظهره؛ أيْ: مظهر لنفسه لا يحتاج إلى دليل، أو برهان.

ص: 148

سورة يوسف [12: 31]

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـئًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أي: المباشرة؛ أيْ: مجرد ما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن من دون تأخير؛ لما: ظرف زماني بمعنى: حين.

{سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} : بمكرهن: الباء: للتوكيد؛ بمكرهن: أي: اغتيابهنَّ: من الغيبة لها، وقولهنَّ؛ أنّ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً؛ أي: امرأة العزيز عشقت فتاها، وسمّي الاغتياب مكراً؛ لأنّه حدث في الخُفية، ويسيء إليها وهو نوع من أنواع إشاعة الفاحشة.

{أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} : تدعوهنَّ إلى منزلها دعوة خاصة.

{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـئًا} : وأعتدت: ولم تقل أعدت؛ اعتدت: فيها حروف من الجهر والهمس تدل على الاسترخاء، والذي يناسب المتكأ، وفيه نوع من الرقة والخفوت مقارنة بـ (أعدت)؛ أيْ: أعدت مكان الاستقبال، والمتكأ: الشّيء الّذي يستند إليه الإنسان عند جلوسه مثل الوسائد وغيرها.

{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} : وآتت: من الإيتاء، وهو أعم من العطاء، ويستعمل للأمور المادية والمعنوية والإيتاء عطاء دون تملك؛ أي: يمكن استرداده. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان. وأخبرت يوسف سابقاً بأنّها ستدعوه ليخرج عليهنَّ في الوقت المناسب؛ أيْ: حين يبدأن يقطعن الفاكهة.

{اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} : ولم تقل: اخرج إليهن.

{عَلَيْهِنَّ} : على: تفيد الاستعلاء، والمشقة؛ لأنّ خروجه لم يكن سهلاً فيه المفاجأة والدهشة؛ قالت عليهن.

{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} : فلما: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ أيْ: فلما وقعت أعينهنَّ عليه أكبرنه: دُهشن بجماله، وبهتن به، أو ذهلن بجماله، ولم يكنَّ يتوقعن، أو يتخيلن أن يكون بهذا الجمال.

{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} : أيْ: جرحن أيديهنَّ.

{وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} : حاشا: كلمة تفيد التّنزيه، وأصلها الحشا، والحاشية: النّاحية؛ أيْ: بُعد مما رُمي به، أو اتهم به من سوء (الفاحشة)، أو نقص، فلم يصبه شيء مما رموه به، وحاشا لله: تنزيه لله من كلّ سوء، وعجز؛ فهن يبرئن الله أوّلاً، ثمّ يبرئن يوسف مما رُمي به، وحاش لله: قد تعني تبرئة الله من كلّ عجز، وتعجباً من كونه خلق بشراً كيوسف، وحاشا: من أدوات الاستثناء، وتعني: إذا أردنا تنزيه شخص من سوء نبدأ بتنزيه الله أولاً سبحانه من السّوء، ثمّ نبرِّئ ذلك الشّخص مما رُمي به، أو قذف به، أو اتهم به؛ فيكون ذلك أبلغ وآكد.

{مَا هَذَا بَشَرًا} : نفين عن يوسف أن يكون بشراً؛ لشدة جماله، وحسن صورته، أو مستحيل أن يكون هذا بشراً.

{إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} : أيْ: ما هذا.

{إِنْ} : للنفي، وأشد نفياً من: ما.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة للقرب؛ تشير إلى يوسف.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مَلَكٌ كَرِيمٌ} : أيْ: ملك من الملائكة كريم.

ص: 149

سورة يوسف [12: 32]

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} :

{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى} : قالت، امرأة العزيز.

{فَذَلِكُنَّ} : الفاء: للتأكيد؛ ذا: اسم إشارة يدل على يوسف، واللام: للبعد، مع أنّ يوسف حاضر أمامهنَّ؛ للدلالة على علوه، وبعد منزلته، والكاف: للخطاب، والنون: نون (النسوة) الجمع والخطاب من امرأة العزيز لجميع النسوة اللاتي حضرن المجلس.

{الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} : الّذي: اسم موصول.

{لُمْتُنَّنِى فِيهِ} : أيْ: في حبه؛ من لام يلوم ولامه؛ اللوم: خطاب يعبر فيه عن عدم الرّضا، عن عمل لم يكن متوقعاً من عامله (قول، أو فعل)، فكيف امرأة العزيز تعشق، أو تحب عبدها حقاً؛ فهي تلام على فعل ذلك.

{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَّفْسِهِ} : ارجع إلى الآية (23) من نفس السّورة.

{فَاسْتَعْصَمَ} : فيها مبالغة؛ أيْ: بالغ من الاستعصام في الامتناع، أو ضبط نفسه عن الشّهوة.

{وَلَئِنْ} : اللام: للتأكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} : لم: النّافية؛ أيْ: لم يطع أوامري، أو أمري إياه، وما: مصدرية، أو اسم موصول بمعنى: الّذي.

{لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} : ليسجنن: اللام: لام التّوكيد؛ يسجنن: فيها ثلاث نونات، ومنها: نون النّسوة الثّقيلة؛ لزيادة التّوكيد.

وأما كلمة ليكوناً من الصّاغرين: فيها لام التّوكيد، وفيها نونان: منها: نون النّسوة الخفيفة.

{وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} : أو للتخيير؛ ليكوناً من الصاغرين؛ أيْ: يُذل، ويُهان، ويحط من كرامته، ويُحقر.

والفرق بين ليسجننّ، وليكوناً: هي أنها أكدت بزيادة نون في كلمة (ليسجنن)، ولم تقل: ليكونن من الصاغرين، بل ليكوناً من الصاغرين.

زيادة التّوكيد في كلمة (ليسجنن) على كلمة (ليكوناً) تشير إلى امرأة العزيز تؤكد، وتميل، وترغب في أن يسجن، ولا يُهان، ويحط من كرامته؛ أيْ: يسجن بدلاً من أن يكوناً من الصاغرين.

عند ذلك قال النّسوة ليوسف: أطع مولاتك؛ فقال عندها يوسف: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} .

ص: 150

سورة يوسف [12: 33]

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} :

{قَالَ رَبِّ} : قال يوسف: رب، لم يستعمل الياء أداة النداء؛ لعلمه بقرب ربه منه، وياء النّداء تستعمل للبعيد.

{السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ} : أفضل إليَّ من ارتكاب الفاحشة والسّوء، والسجن: اسم مكان، ومعنى ذلك نزول السّجن.

{مِمَّا} : من + ما؛ من: ابتدائية؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي يدعونني.

{يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} : جاء بصيغة الجمع؛ يدعونني إليه على الرّغم من أنّ امرأة العزيز هي الّتي دعته، وبما أنّ رغبات النّساء تشبه رغبة الواحدة منهن؛ فسواء كانت امرأة العزيز، أو غيرها من النّساء دعوتهنَّ واحدة، وفتنة النّساء أمر كبير على الرجال.

{وَإِلَّا} : أصلها: وإن لا؛ إن: شرطية تفيد الشّك، والاحتمال. ولا: نافية.

{تَصْرِفْ عَنِّى} : وتصرف من الصّرف، وهو رد الشّيء من حال إلى حال؛ أيْ: تُبعدني، أو تعصمني من كيدهن.

{كَيْدَهُنَّ} : من الكيد: وهو التّدبير بالخفاء، ويعني هنا: الوقوع بالفاحشة الزّنى. ارجع إلى الآية (5) من نفس السورة لبيان معنى الكيد.

{أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} : أيْ: أمل إليه، وصبا: مال، والصّبوة: ميل النّفس للهوى، والشّهوة.

{وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} : الجهل: ضد العلم، وهو عدم المعرفة. جمع جاهل: الّذي لا ينظر في عواقب الأمور؛ أيْ: من الّذين لا يعلمون، أو من يعلم، ولا يعمل بما يعلم؛ فهو يساوي الجاهل، أو من العاصين، أو من يبيعون آخرتهم بدنياهم. ارجع إلى سورة الزمر آية (64)، وسورة الفرقان آية (63) لمزيد من البيان في معنى الجاهلين.

ص: 151

سورة يوسف [12: 34]

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} : فاستجاب: الفاء: للترتيب، والتّعقيب.

{لَهُ} : جار ومجرور، واللام: لام الاختصاص، والهاء: تعود على يوسف، وتقديم الجار والمجرور: يدل على الحصر له خاصة، وليس لغيره.

{فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} : الصّرف: لا يقدر عليه إلّا الله، والصرف يعني: الإبعاد والعصمة.

{كَيْدَهُنَّ} : ارجع إلى الآية السّابقة، والآية (5) من نفس السّورة.

{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : إنّه: للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ لزيادة التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : صيغة مبالغة في السّمع؛ السّميع لأقوال عباده، وما قاله يوسف، ودعاه، وما قال النّسوة؛ فلا يخفى عليه السّر، أو العلن.

{الْعَلِيمُ} : بخلقه، وكونه، والعليم بما يعمله كلّ مخلوق، والعليم بحال يوسف، وامرأة العزيز، والنّسوة، وكلّ إنس وجان، وملك، وشيء، وأمر لا تخفى عليه خافية في السّموات، ولا في الأرض.

ص: 152

سورة يوسف [12: 35]

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} :

{ثُمَّ} : للترتيب التّسلسلي في الأحداث، وليس التّراخي في الزّمن.

{بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} : الآيات: هي (قد القميص من الدّبر، وشهادة الشّاهد، قطعن أيديهنَّ، وتعظيم النّسوة ليوسف، والقول حاشا لله ما هذا بشر).

{بَدَا لَهُمْ} : ظهر لهم: أنّ من المصلحة، وأفضل شيء أن يسجنوه حتّى حين.

{حَتَّى} : حرف غاية (نهاية الغاية)؛ حتّى تهدأ الفضيحة، وينقطع كلام النّاس، وينسى النّاس هذه القصة.

ص: 153

سورة يوسف [12: 36]

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} : هذا يدل على أنّ يوسف أُدخل السّجن، وكان معه في السّجن فتيان.

{فَتَيَانِ} : مثنى فتى، وجمعه: فتية، أو فتْيان، ومن خصائص القرآن أنه يستعمل فتية في سياق الفئة الصّالحة المؤمنة؛ مثل: أصحاب الكهف {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13]، ويستعمل الفتيان كقوله تعالى:{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} [يوسف: 62] إلى الفئة المملوكة، والعرب قديماً كانت تسمّي المملوك فتى (شاباً كان أو شيخاً).

{قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} : إني: أراني: من الرّؤيا، وهي الحلم؛ رأى في المنام: أنّه يعصر العنب؛ ليصنع منه خمراً.

{وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} : واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة، أم لا؟ فمنهم من قال: كانت صادقة، ومنهم من قال غير ذلك.

{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} : أيْ: أخبرنا بتفسير هذه الرّؤيا، أو تعبيرها، والباء: للإلصاق، والتّوكيد. وقوله تعالى:{نَبِّئْنَا} (ولم يقل أنبئنا) نبئنا: أبلغ وآكد من أنبئنا.

{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : السّؤال: كيف علموا أنّه من المحسنين؟ لأنّهما كانا يشاهدانه يساعد المريض في السّجن، والضّعيف، ويجتهد في العبادة والصّلاة؛ أيْ: من مشاهدة أعماله الحسنة؛ علموا أنه من المحسنين؛ جمع محسن. ارجع إلى سورة البقرة، آية (112)؛ لمزيد من البيان.

ص: 154

سورة يوسف [12: 37]

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} :

انتبه في الآية السّابقة هما يسألانه عن تأويل رؤياهما، وقوله: لا يأتيكما طعام ترزقانه ليس بجواب لسؤالهما؛ فهو إما أراد تأخير الجواب لما بعد، أو الإعراض، وعدم الإجابة؛ فلما ألحا عليه أجابهما، أو أراد استغلال الموقف؛ لكي يدعوهما إلى الإيمان، والتّوحيد قبل الإجابة، والفتيان لا يسألانه عن مؤهلاته أيضاً، ولكن يوسف بدأ بالحديث عن شيء من الغيب مما علمه ربه بالإيحاء، وهو إعلام بخفاء، كما فعل بعض الأنبياء والرّسل؛ مثل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيسى عليه السلام ، والخضر، وهذا يعتبر من معجزات النّبوة.

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} : قبل أن يصل إليكما أيُّ نوع من أنواع الطّعام إلا أخبرتكما قبل وصوله إليكم؛ أيْ: ما نوعه، ومن أين (أي الجهة) جاء.

{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى} : ذلكما: ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب، وما: للتثنية؛ أي: التّأويل، أو الإخبار بالمغيبات؛ ذلكما مما أوحى إليَّ ربي يدل على أنّ يوسف بدأ يوحى إليه، وهو في السّجن.

{إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} : ملة: مذهب أو جملة الشرائع، أو شريعة قوم لا يؤمنون بالله؛ أيْ: ملة الملك، وأهل مصر (المصريون، والكنعانيون).

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} : هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد؛ أيْ: لا يؤمنون بالبعث، والحساب، ويوم القيامة.

{بِالْآخِرَةِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد.

{هُمْ} : للتوكيد على كفرهم بالآخرة.

{كَافِرُونَ} : جملة اسمية تدل على الثّبوت؛ ثبوت صفة الكفر فيهم؛ أي: إذا هناك كافرون فهم في طليعتهم وفي قمة الكفر، وتكرار هم لفصل عدم إيمانهم بالله عن عدم إيمانهم بالآخرة فهم لا يؤمنون لا بهذه ولا بتلك ولا بهما معاً.

ص: 155

سورة يوسف [12: 38]

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَاءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَىْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} :

يتابع يوسف قوله للفتيان: أنّه ترك ملة الكفر (ملة قوم لا يؤمنون بالله ولا بالآخرة).

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَاءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} : ملة: شريعة، والملة: تضاف إلى النّبي، ولذلك أضافها إلى إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ودائماً الملة في القرآن: تنسب إلى نبي، أو قوم، وهي جملة الشّرائع المتبعة في ذلك الزّمان، أمّا الدّين: فينسب إلى الله فقط، وهو الصّالح لكلّ زمان ومكان. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (19)؛ لمزيد من البيان، والفرق بين الدّين، والملّة.

{مَا كَانَ لَنَا} : ما: النّافية.

{كَانَ لَنَا} : يحق لنا، أو يجوز لنا.

{أَنْ نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{نُّشْرِكَ بِاللَّهِ} : بالله: الباء: للإلصاق.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية تشمل أيَّ شيء؛ أيْ: أن نجعل له شريكاً في الملك، أو ندّاً، أو مثيلاً، أو ولداً، أو وليّاً، أو صنماً، وثناً، مَلَكاً، كوكباً، بشراً، عيسى، عزيراً.

شيء نكرة؛ تعني: أيَّ شيء مهما كان نوعه، وتعني: أقل القليل.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة يفيد البعد، ويشير إلى التّوحيد، وعدم الشّرك بالله، وملة إبراهيم، والحنفية.

{مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} : من: ابتدائية بعضية؛ بعض فضل الله أن هدانا للتّوحيد، وعدم الضّلال، ومعرفة المعبود الحق.

{عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ} : معشر الأنبياء، وعلى النّاس كافة من الجن، والإنس، وعلى: تفيد العلو، والاستعلاء.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} : لكن: استدراك، وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ} : أيْ: هناك أقلية من النّاس تشكر المنعم، والمفضل وهو الله، وأمّا الأكثرية فتجحد نعمة الله وفضله.

{يَشْكُرُونَ} : تفيد التّكرار، والتّجدد، لا يشكرون فضل الله عليهم ونعمته. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان.

ص: 156

سورة يوسف [12: 39]

{يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :

{يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ} : يا: أداة نداء للبعيد والتنبيه، وقد يقصد بها القريب غير المنتبه، أو المتيقظ لما يحدث. صاحبي السّجن: مثنى؛ تعني: الفَتَيان؛ مثنى: فتى؛ نداء فيه حنان، وعطف عليهما؛ صاحبي السّجن: الصّاحب من الصّحبة، وجمعه أصحاب؛ مثل: أصحاب الجنّة، أو أصحاب النّار، وتطلق كلمة صاحب، أو أصحاب بعد المكث، والإقامة الطّويلة في مكان، ما، والصّاحب قد تعني: الملازم والمعاشر؛ أي: الصّديق، والصحبة؛ تعني: انتفاع أحد الصاحبين بالآخر عكس القرين الّذي يضر ولا ينفع.

{ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} : أأرباب: الهمزة: للاستفهام، والتّقرير، والتّعيين.

{مُتَفَرِّقُونَ} : في العدد، والذوات، والقدرات، والأمر، والنّهي.

{خَيْرٌ} : أفضل، أو أحسن.

{أَمِ} : للإضراب الانتقالي (أم المتصلة).

{اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} : الله: واجب الوجود؛ اسم الله الجامع لكلّ صفات الله العليا، وأسمائه الحسنى.

{الْوَاحِدُ} : الّذي لا يتجزأ، ولم يلد، ولم يولد. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{الْقَهَّارُ} : الغالب القوي الّذي لا يُقهر، والممتنع؛ أيْ: يا صاحبي السّجن أعبادة إله واحد خير، أم عبادة آلهة متعددة، ومتفرقة؟! على احتمال أنّ هناك مثل هذه الآلهة المزعومة.

ص: 157

سورة يوسف [12: 40]

{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{مَا تَعْبُدُونَ} : ما: النّافية. تعبدون: من العبادة، وتختلف عن الطاعة.

{تَعْبُدُونَ} : تعني الطاعة في القول، والفعل، والأمر، والنّهي؛ والعبادة لا تكون إلا للخالق وحده، وأمّا الطّاعة؛ فقد تكون لله، أو لغير الله سبحانه. ارجع إلى سورة هود، آية (2)، وسورة الأنبياء، آية (106)؛ لمزيد من البيان في معنى العبادة.

{مِنْ دُونِهِ} : من غير الله، أو من سواه؛ أي: الآلهة، والأصنام، والكواكب.

{إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} : إلا: أداة حصر؛ أيْ: مجرد أسماء لا معنى لها أسماء ورثتموها عن آبائكم.

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} : من حُجَّة قاطعة، أو دليل، أو برهان، أو آية، أو وحي لكي تُعبد؛ انتبه إلى قوله: ما أنزل، ولم يقل: ما نزَّل.

{مَا أَنْزَلَ} : على وزن أفعل بينما نزَّل على وزن فعَّل؛ نزَّل فيها مبالغة أكثر وتضعيف، وتستعمل في الحالات الّتي هي أشد، وأقوى، أو تحتاج إلى تأكيد، وتهديد، ووعيد، ورجس، وغضب كما هي الحال في آية الأعراف (71) وهي قوله تعالى:{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} : من: ابتدائية استغراقية؛ أيْ: سلطان مهما كان سواء أكان سلطان قوة، أو قهر، أو سلطان حُجَّة، ودليل.

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} : إن: حرف نفي أقوى في النّفي من ما؛ أيْ: ما الحكم إلا لله.

{الْحُكْمُ} : الفصل، والقضاء، والجزاء، والثّواب، والعقاب كلّه بيده.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ حصراً وقصراً ليس لأحد إلا لله (نفي تبعه استثناء تفيد الحصر). ارجع إلى سورة الأنعام، آية (62)؛ لبيان معنى الحكم.

{أَمَرَ} : أيْ: أمر الله سبحانه، أو فرض حكم.

{أَلَّا} : أنّ: المصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد؛ لا: النّافية، أو النّاهية.

{تَعْبُدُوا} : العبادة: لا تكون إلا للخالق، وتعني: طاعته فيما أمر، ونهى عنه في القول والفعل. ارجع إلى سورة هود، آية (2)، وسورة الأنبياء، آية (106)؛ لمزيد من البيان.

{إِلَّا إِيَّاهُ} : أداة حصر.

{إِيَّاهُ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ اللام: للبعد يشير لعلو هذا الدّين.

{الدِّينُ الْقَيِّمُ} : الحق؛ أي: الإسلام، والدّين المستقيم دين الحنيفية السّمحة الّذي لا عوج فيه، والقيم يعني: لا تقوم الحياة إلّا به.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك، وتوكيد.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أيْ: غالبية النّاس لا يعلمون أنّ الإسلام هو الدّين القيم، والحق ودين الفطرة، والتّوحيد، وهو الّذي أرسل إلى النّاس كافة.

{لَا يَعْلَمُونَ} : التّوحيد، والإخلاص في العبادة.

ص: 158

سورة يوسف [12: 41]

{يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَّأْسِهِ قُضِىَ الْأَمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} :

بعد دعوتهما إلى الإيمان، وعبادة الله وحده يعود إلى تفسير الرّؤيا الّتي طلبوا منه سابقاً.

{يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ} : نداء فيه حنان وعطف. ارجع إلى الآية (39) السّابقة.

{أَمَّا} : حرف شرط وتفصيل، وتوكيد.

{أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} : أمّا الّذي كانت رؤياه أنّه يسقي ربه خمراً؛ سيخرج من السّجن، ويفرج عنه، ويعمل كساقي للخمر عند الملك، وقيل: هو نفسه كان يسقي الخمر واتُّهم بمحاولة قتل الملك فسجن، وهو بريء.

{وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ} : الّذي كانت رؤياه (يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطّير منه) سيحكم عليه بالموت.

{فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَّأْسِهِ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، وقيل: إنّ هذا الآخر كان خباز الملك الّذي حاول قتل الملك بدسِّ السم للملك، وسجن بهذه التّهمة.

فعندما أخبرهما بالحكم، وتفسير الرّؤيا قالا له: كذبنا، وما رأينا شيئاً؛ عندها قال يوسف:

{قُضِىَ الْأَمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} : قضي الأمر: فرغ منه، انتهى الأمر صدقتما، أو كذبتما.

{الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} : تطلبان فيه الفتوى، ولعلك تسأل لماذا صلب الآخر، وكيف نجا الأوّل؛ فقد روي أنّ الخباز والسّاقي كانا يعملان في بلاط الملك، وطلب منهما وضع السّم للملك لقتله؛ فأجاب الخباز، وعزم على ذلك، وأبى السّاقي، وأخبر الملك بالمؤامرة؛ فأمر الملك بحبسهما في ذلك الوقت الّذي كان يوسف قد دخل السّجن.

ص: 159

سورة يوسف [12: 42]

{وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} :

{وَقَالَ لِلَّذِى} : وقال يوسف عليه السلام للذي؛ أيْ: للذي كانت رؤياه أنّي أراني أعصر خمراً.

{ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} : ظن هنا قد تأتي بمعنى اليقين أو أعلى درجات العلم، أو من باب الوحي، أو اجتهاد من باب تأويل الرّؤيا.

{اذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ} : اذكرني عند سيدك، أو الملك؛ أي: اذكر قصتي للملك، وأنّي حُبست ظلماً، وأنّي أستطيع تأويل الأحاديث؛ أيْ: تفسير الأحلام، أو اذكر ما رأيت مني عند ربك (أي: الملك).

{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} : فأنساه: الفاء: للتوكيد؛ فأنسى الشّيطان السّاقي الّذي نجا منها ذكر يوسف للملك حتّى لبث في السّجن بضع سنين، وقد تعود هاء الضّمير إلى يوسف؛ أيْ: فأنسى الشّيطان يوسف ذكر ربه الأمر الّذي أدّى بيوسف عليه السلام أن يستعين بالنّاجي، والملك، ولم يتوكل أو يطلب العون من ربه -جل وعلا- ، وهذا هو المرجَّح، وحدَه، ونسي يوسف قوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. كما حدث للنبي لوط عليه السلام حين قال: {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]. وكأن هذا النسيان لصالح يوسف، والحكمة قدرها الله تعالى أن يبقى في السجن إلى حين يرى الملك الرؤيا، ويبحث عنه، ويقوم بتأويل الرؤيا من ثم يصبح عزيز مصر.

{فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} : بضع ما بين (3-9 سنوات)، وقيل: 7 سنوات على الأغلب.

ولو تأملنا ما حدث نجد أنّ يوسف استعان بالّذي كان يدعوه للإيمان، والتّوحيد، ويطلب منه أن يذكره عند سيده الملك الّذي ليس على الدّين الحق، وهكذا استعان يوسف ببشرين من دون الله، وهما ليسا بمؤمنين، ونسي أن يستعين بالله، وما يدري أحد أنّ يوسف لو فعل ذلك، ولم يستعن بأحد إلا الله وحده، كم سيبقى في السّجن بضعة أيّام، أو أسابيع، أو شهور.

ص: 160

سورة يوسف [12: 43]

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِى فِى رُءْيَاىَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} :

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} : وقال الملك إنّي أرى: بصيغة المضارع بدلاً من رأيت، أو رأى الملك في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف.

{عِجَافٌ} : جمع عجفاء؛ أي: الهزيلة لا لحم عليها، ولا شحم، ولمعرفة معنى أرى؛ ارجع إلى الآية (4)، أو (36) من نفس السّورة.

{وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} : يابسات: أيْ: حان حصادهنَّ، وأما الخضر؛ أيْ: ما زالت تنمو، وما حدث هنا بالنّسبة للسنبلات لم يذكر من أن اليابسات أكلن السّبع الخضر.

{يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ} : الهاء: للتنبيه، يا: أداة نداء للبعد.

{الْمَلَأُ} : سادة القوم، وأشراف القوم، وممثلو القوم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (75، و88)؛ لمزيد من البيان.

{أَفْتُونِى فِى رُءْيَاىَ} : أيْ: بيِّنوا لي، أو أخبروني بحكم هذه الرّؤيا.

{إِنْ كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} : الرّؤيا: هي الحلم، أو ما يراه النّائم في منامه.

{تَعْبُرُونَ} : اشتُقَّت من عبور النّهر يقول: عبرت النّهر؛ أيْ: قطعه حتّى يبلغ آخر عرضه.

{إِنْ كُنتُمْ} : تعرفون تأويل الرّؤيا، أو الأحلام. ارجع إلى الآية (6) من نفس السّورة؛ لبيان معنى: تأويل.

ما الفرق بين: سبع سنبلات، وسبع سنابل؟

سبع سنبلات: تدل على جمع قلة؛ جاءت في سياق الرّؤيا، والرّؤيا ليس فيها مضاعفة، ولا حثٌّ على التصدق.

أمّا قوله: سبع سنابل: جمع كثرة {فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]؛ للمضاعفة، والتّكثير، والحث على الإنفاق.

ص: 161

سورة يوسف [12: 44]

{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} :

{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} : قالوا؛ أيْ: قال الملأ: أضغاث أحلام: أخلاط أحلام مختلفة ليس لها تأويل، أضغاث جمع ضغث، والضغث: حزمة من النّبات، أو مجموعة من الحشائش المختلفة الأجناس، مع العلم أن الرّؤيا الّتي رآها الملك هي رؤيا واحدة، أو حلم واحد أطلقوا عليها أضغاث أحلام؛ للمبالغة؛ أيْ: هذا الحلم ليس كغيره من الأحلام.

{وَمَا نَحْنُ} : ما: النّافية.

{نَحْنُ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ} : بتعبير، أو تفسير الأحلام، ومعرفة ما تؤول إليه.

{بِعَالِمِينَ} : الباء: للتوكيد؛ عالمين: أيْ: يعترفون بتقصيرهم في هذا العلم علم تأويل الأحاديث (الأحلام)؛ أيْ: ليس عندنا من هذا العلم شيء، ولم يُعلمنا أحد.

ص: 162

سورة يوسف [12: 45]

{وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} :

{وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا} : وقال ساقي الخمر الّذي نجا من السّجن، وعُفي عنه بعد أن تعذر على الملأ تعبير رؤيا الملك، ومرت فترة طويلة من الزّمن.

{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} : وادكر: بالدّال اشتُقَّت من واذْتَكر؛ حولت إلى واذْدَكر، ثمّ حولت إلى ادْدَكر، ادَّكر: حدثت عدة تبديلات، وإدغامات؛ لتقارب مخارج الحروف. ارجع إلى سورة القمر، آية (15)؛ للبيان.

{وَادَّكَرَ} : أيْ: تذكر بعد طول نسيان.

{بَعْدَ أُمَّةٍ} : بعد مدَّة من الزّمن، الأمة من معانيها المدَّة، والحين، والوقت، وكذلك تعني الجماعة من النّاس، أو الرجل الّذي يعتبر أمة؛ مثل: إبراهيم عليه السلام : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]. والدّين، والملّة؛ كقوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22].

{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} : أنا أخبركم بتأويله.

{بِتَأْوِيلِهِ} : الباء: للإلصاق؛ بتأويل رؤيا الملك.

{فَأَرْسِلُونِ} : أيْ: فابعثوني إلى يوسف. (قيل: كان السّجن خارج المدينة). والفاء: للتّعقيب؛ أيْ: مباشرة أرسلوني، أو أرسلوني الآن.

ص: 163

سورة يوسف [12: 46]

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} :

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} : أيها: الياء: للنّداء، والهاء: للتّنبيه.

{الصِّدِّيقُ} : صيغة مبالغة من صادق؛ أيْ: كثير الصّدق؛ لأنه علم ذلك منه حين كان في صحبته في السّجن؛ أيْ: صادق في أقواله، وأفعاله، وصادق في كلّ أحواله؛ فلا يمكن أن تطلق كلمة الصّديق على حال واحدة، بل لا بدّ من اجتماع كلّ الأحوال معاً فضلاً عن الطاعة، والخضوع لله سبحانه.

ودرجة الصّديقين تلي مرتبة الأنبياء؛ مثل: أبي بكر الصّديق رضي الله عنه .

{أَفْتِنَا} : ولم يقل: أفتني؛ لأنّه لا يسأله عن رؤيا تخصه، كما سبق، وسأله: إنّي أراني أعصر خمراً.

{سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} : ارجع إلى الآية (43) من نفس السّورة.

{لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} : لعل: أداة رجاء؛ راجياً أن أرجع إلى النّاس؛ لأنّه لا يجزم، أو غير متيقن بأنّ يوسف سوف يخبره بالفتوى، أم لا فيظهر عندها مظهر الكاذب أمام النّاس، أو سيقبل النّاس فتوى يوسف.

{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} : لعل للتعليل.

{يَعْلَمُونَ} : تأويل الرّؤيا، ويعلمون فضلك في تعبير الرّؤيا، وقدرتك فيخرجوك من السّجن.

ص: 164

سورة يوسف [12: 47]

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} :

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} : قال يوسف للذي سأله الفتيا.

{تَزْرَعُونَ} : خبر في معنى الأمر، وجاء بصيغة الخبر للمبالغة في أهمية الزّرع؛ أي: ازرعوا في كلّ سنة من هذه السّنين على عادتكم.

{دَأَبًا} : الدّأب قيل: هو العادة الّتي تتكرر باستمرار، والدّأب على الشّيء المداومة عليه، والملازمة والاستمرار، والدّأب: لا يكون إلا اختياراً، أمّا العادة فقد تكون اختياراً، أو اضطراراً؛ أي: ازرعوا من دون كلل، ولا ملل، واستمروا على ذلك.

{فَمَا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب.

{حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ} : وهذه معجزة علمية برهنت عليها العلوم الحديثة، والدّراسات العلمية: أن ترك الحبوب في سنبله أفضل من استخراج الحبوب؛ مثل القمح، وغيره؛ لأن ذلك يؤدي إلى المحافظة على البروتينات بنسبة قد تصل إلى (30%) مقارنة بالحبوب المعزولة من سنابلها، حيث تتعرض لضياع البروتينات إضافةً إلى الوقاية من الحشرات كحشرة السوس.

{إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} : إلا: أداة استثناء.

{قَلِيلًا} : أيْ: لكم أن تأكلوا القليل منه، وتتركوا الباقي محفوظاً في سنابله لمواجهة، واستعداداً للسنين السّبع الشّداد القادمة بعد سبع سنين البركة، والرّحمة؛ لتجنب المجاعة.

{مِمَّا} : من: ابتدائية بعضية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي.

ص: 165

سورة يوسف [12: 48]

{ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} :

{ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : ثم: للترتيب، والتّراخي؛ يأتي من بعد ذلك؛ أيْ: من بعد السّبع السنين الخصبة.

{سَبْعٌ شِدَادٌ} : سبع سنين جدباء، لا زرع، ولا مطر، وإنما جفاف وجدب.

{يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} : أيْ: يأكل أهلهنَّ ما ادخروا لأجلهنَّ؛ أيْ: هذه السّبع سنين العجاف (المجدبة) سيأكلن سبع سنوات الخصب السّابقة، والّتي تمثل السّبع بقرات السّمان في الرّؤيا اللاتي يأكلهن سبع عجاف.

{إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} : إلا: أداة استثناء.

{قَلِيلًا} : أي: القليل الّذي تدَّخرونه، أو تخبِّئونه للزراعة، وللبذار.

{مِمَّا تُحْصِنُونَ} : مما مركبة من حرفي من+ما؛ من: ابتدائية بعضية؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي. الإحصان: من أحصن الشّيء؛ أيْ: جعله في الحصن (الموضع، أو المكان الحصين) إذن: تأويل يوسف السّبع بقرات السّمان، أو السّنبلات الخضر بالسّنين الخصبة، سنين الخير والبركة، والسّبع بقرات العجاف، أو السّنبلات اليابسات بالسّنين المجدبة الّتي يقل فيها المطر، والخير والزّراعة.

ص: 166

سورة يوسف [12: 49]

{ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} :

{ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : ثمّ: للترتيب العددي، أو التّسلسلي.

{يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : من، أيْ: مباشرة بعد السّنين السّبع العجاف.

{عَامٌ} : ولم يقل: سنة؛ لأنّ من خصائص القرآن أن يستعمل عاماً لعام الخير، والبركة، ويستعمل سنةً إذا كانت سنةَ جدب ومجاعة، وشدة، وبلاء.

{يُغَاثُ النَّاسُ} : يغاث من الغيث، وهو المطر الّذي يستفاد منه للزرع، والرّي، والإغاثة: الإعانة.

وهذا الكلام ليس داخلاً في رؤيا الملك، ولكنه مما أُوحي إلى يوسف لحكمة أرادها الله تعالى.

{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} : مثل العنب، والزّيتون، وغيره، وتكرار فيه يدل على التّوكيد؛ أيْ: ففي ذلك (في ظرفية زمانية) العام يحدثُ الغوث، ويحدثُ العصر معاً.

ص: 167

سورة يوسف [12: 50]

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْـئَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} :

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ} : بعد أن نقل السّاقي تأويل الرّؤيا إلى الملك طلب الملك أن يأتوا له بيوسف، فأرسل الملك رسوله ليخرج يوسف من السّجن، ويأتي به، ولكن يوسف عليه السلام رفض الخروج من السّجن قبل أن يُبرَّأَ من التّهمة الّتي وجِّهت إليه، أو ألصقت به، وأدخل السّجن بسببها.

{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} : فلمَّا: الفاء: تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ لما: ظرفية زمانية بمعنى حين؛ جاء يوسفَ الرّسولُ المرسَلُ من الملك.

{قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْـئَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} : قال يوسف للرسول: ارجع إلى ربك (أيْ: إلى الملك)، واسأله: ما بال النّسوة اللاتي قطعن أيديهن؛ أي: اسأله أن يحقق في أمر النّسوة اللاتي قطعن أيديهنَّ، ولم يذكر امرأة العزيز على الإطلاق مع كونها كانت هي السّبب، وذلك من كرم خُلقه، وحلمه، ومن باب السّتر.

{بَالُ النِّسْوَةِ} : حال النّسوة.

{إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ} : الباء: للإلصاق.

{بِكَيْدِهِنَّ} : ارجع إلى الآية (5)، والآية (34) من نفس السّورة؛ لمعرفة معنى: الكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير العلم. ارجع إلى الآية (34)؛ عليم بما فعلن في إلصاق التّهمة بي، وأنا بريء منها.

ص: 168

سورة يوسف [12: 51]

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْـئَانَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} :

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} : قال الملك ما خطبكنَّ: أيْ: علم الملك بقصة النّسوة، وامرأة العزيز فاستدعاهنَّ للحضور؛ للتّحقيق في الأمر، قال: ما خطبكنَّ.

{مَا} : استفهامية؛ بمعنى: التّعجب.

{خَطْبُكُنَّ} : الخطب الحدث الجلل، والأمر العظيم، والخطب مشتق من المخاطبة؛ أيْ: أمرٌ يحقُّ أن يخاطب به صاحبه.

{إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَّفْسِهِ} : إذ بمعنى: حين. خاطب الملك النّسوة وسألهنَّ: هل يوسف هو من أراد الكيد، أو الغرر، أو السّوء بكنَّ خاطب جمع النّسوة، ولم يفرد امرأة العزيز الّتي راودته وحدها، فلماذا جمعهنَّ؛ لأنّ باقي النّسوة لم يُنكرن على امرأة العزيز ما فعلت، ورضين بذلك.

{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} : ارجع إلى الآية (31) من نفس السّورة؛ أيْ: حاشا لله أن نراود يوسف عن نفسه.

{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْـئَانَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} : قالت امرأت العزيز: ارجع إلى الآية (30) في نفس السورة للبيان. حصحص الحق؛ أي: انكشف الحق (الأمر الثّابت واليقين)، أو: لم يعد هناك مجال للستر، ولا بُدَّ من الاعتراف بالحق.

الحصُّ: هو استئصال شعر الرّأس بحلق، أو مرض؛ حتّى تتبيَّن جلدة الرّأس، أو بانت حصة الحق من حصة الباطل، فامرأة العزيز لما رأت النّسوة قلن: حاشا لله، علمتْ أنّه لم يبق إلا هي وحدها فأقرتْ بذلك، وانكشف أمرها وظهر الحق.

وقالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَّفْسِهِ} : ارجع إلى الآية (23) من نفس السّورة؛ قالت ذلك من دون أيِّ تأكيد؛ فهي تريد أن تنسى المسألة.

{وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} : وإنّه: للتوكيد.

{لَمِنَ} : اللام: لام لزيادة التّوكيد، إنّه لمن الصّادقين في قوله حين قال: هي راودتني عن نفسي، أو إنّه بُرِّئَ من كلّ شيء اتُّهم به.

ص: 169

سورة يوسف [12: 52]

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ} :

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} : اسم إشارة للبعد، وما حدث.

{لِيَعْلَمَ} : اللام: لام التّوكيد؛ يعلم العزيز (عزيز مصر).

{أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} : أنّي: للتوكيد.

{لَمْ} : النّافية.

{أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} : من الخيانة بالفاحشة، لا بالقول، ولا بالفعل.

واختلف المفسرون فيمن قال هذا القول: فمنهم من قال: هذا كلام يوسف عليه السلام ذلك ليعلم العزيز أنّي لم أخنه بالغيب (أيْ: وهو غائب)، أخنه في أهله، قال يوسف هذا حين أخبر، وهو في السّجن بما حدث في جلسة الملك مع النّسوة، ومنهم من قال: هذا كلام امرأة العزيز؛ لأنّ يوسف ما زال في السّجن، ولم يُدعَ إلى الحضور بعد، ولأنّه في الآيات القادمة قال الملك: ائتوني به استخلصه لنفسي.

{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ} : من القائل هنا؟ لا يهم المهم هو المقولة.

{وَأَنَّ اللَّهَ} : أنّ: للتوكيد.

{لَا يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ} : لا يرشد الخائن ويسدده إلى تحقيق غايته، بل يفضحه، وفي هذا إشارة، أو تعريض لما فعلته امرأة العزيز حين حاولت الخيانة بالمراودة (مراودة يوسف عن نفسه)، وكذلك تعريض في خطأ زوجها العزيز حين رمى يوسف في السّجن، وهو بريء، وكذلك توكيد لأمانة يوسف، وأنّه لو كان خائناً لما هداه الله سبحانه، وبرَّأه، ولا سدَّد خطاه.

ص: 170