المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة يوسف [12: 53] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ١٣

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة يوسف [12: 53]

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

من المفسرين من قال: هذا قول امرأة العزيز، ومنهم من قال: هذا قول يوسف عليه السلام ، ومنهم من قال: إنّه قول العزيز.

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى} : تعني: من سوء الظن بيوسف، أو سجنه بضع سنين من دون ذنب.

{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى} : وما: الواو: عاطفة؛ ما: النّافية.

{أُبَرِّئُ نَفْسِى} : أزكي نفسي من الزلل، أو السّوء.

{إِنَّ النَّفْسَ} : إنّ: للتوكيد.

{النَّفْسَ} : لأمارة بالسّوء؛ أيْ: ميالة للهوى، والشّهوات، أو ذات نزعة؛ أل التّعريف تدل على استغراق الجنس في كلّ النّفوس بالميل إلى الشّهوات.

{لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} : اللام: لام التّوكيد، وأمارة صيغة مبالغة للفعل أمر. لأمارة بالسّوء؛ أيْ: كثيرة الأمر، كثيرة الشّهوات.

{إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى} : إلّا: أداة حصر.

{مَا} : بمعنى: من.

إلا من رحم ربي من النّفوس؛ أيْ: من عصمها فصرفها عن السّوء، والفحشاء.

{إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ} : وما قالته امرأة العزيز يمكن تلخيصه بما يلي:

1 -

قالت: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه، وإنّه لمن الصّادقين.

2 -

ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب، وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين: لم أخن يوسف في غيبه، وهو في السّجن، أو ليعلم زوجي أنّي لم أخنه بيوسف، وما حدث هو مراودة فقط فامتنع.

3 -

وما أبرِّئ نفسي إنّ النّفس لأمارة بالسّوء.

والله أعلم بمن قال؛ فالله سبحانه لا يريد أن يفضح من هو القائل، والمهم المقولة، والعبرة، ونكتفي بذلك.

ص: 1

سورة يوسف [12: 54]

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} :

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} : وقال الملك: ائتوني بيوسف.

{ائْتُونِى} : من الإتيان الّذي فيه معنى السّهولة بعكس المجيء فيه الصّعوبة؛ أي: ائتوني بيوسف من السّجن.

{أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} : أيْ: أجعله من أهل مشورتي، وخاصَّتي.

{فَلَمَّا كَلَّمَهُ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة بعد الإتيان؛ أيْ: كلَّمه مباشرة من دون تأخير.

{قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} : قال الملك ليوسف: إنّك اليوم لدينا مكين: ذو مكانة رفيعة، ومنزلة عالية ثابتة، ومكن مكانة؛ فهو مكين؛ أيْ: ثبت، واستقر؛ أيْ: مكين: ثابت، ومستقر.

{أَمِينٌ} : مؤتمن على كلّ شيء، وحفيظ.

ص: 2

سورة يوسف [12: 55]

{قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} :

{قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} : قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض (خزائن مصر) جمع خِزانة: المكان الّذي تحفظ فيه الأشياء الثّمينة، والأموال، والحبوب، والثّمار في ذلك الزّمن؛ يمثل وزير المالية في زمننا الحاضر.

{إِنِّى حَفِيظٌ} : كاتب حاسب، أو حفيظ على الأمانة، وأحافظ على ما تسنده إليَّ؛ صيغة مبالغة كثير الحفظ.

{عَلِيمٌ} : بتدبير الشّؤون المالية، وإدارة الأموال وتصريفها؛ صيغة مبالغة كثير العلم، وقد يسأل سائلٌ: كيف يطلب يوسف أن يتولَّى منصباً كهذا، وهل هو كفؤٌ له، وهناك قاعدة شرعية تقول: طالب الولاية لا يولَّى المستندة إلى الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الرحمن بن سمرة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الإمارة» ، وربما طلب ذلك؛ لأنّه يعلم أكثر من غيره أهمية الـ (15) سنة القادمة، وما سيحدث فيها من تأويله لحديث الملك، أو هو علمه وشعوره بعون الله تعالى له، وكونه يوحى إليه، وفي نيَّته إقامة العدل، والقسط؛ فذلك يكفي.

ص: 3

سورة يوسف [12: 56]

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: بمثل هذا التّوفيق، والتّيسير، وإخراجه من السّجن؛ ليصبح وزيراً لخزانة الملك.

{مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ} : أصبح قادراً على تحقيق غاياته، ومطالبه، وأصبح مالكاً، وآمراً، وناهياً بعد أن كان سجيناً.

{لِيُوسُفَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{فِى الْأَرْضِ} : أرض مصر.

{يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} : أيْ: ينزل منها أيَّ منزل، أو مكان يشاء، ويعمِّر، ويُنشئ كما يشاء كنايةً عن اتِّساع جاهه.

{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} : الرّحمة هنا قد تعني النّبوَّة، وغيرها مثل: الغنى، والسّعة، والملك.

{بِرَحْمَتِنَا} : الباء: للإلصاق، والاهتمام في الدّنيا والآخرة.

{مَنْ نَشَاءُ} : من: ابتدائية، وللعاقل من نشاء من عبادنا حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية.

{وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : لا: النّافية.

{نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : أمثال يوسف عليه السلام حين صبر على البلاء، وتجنب الفاحشة، وراح يدعو إلى الله وتوحيده، وما فعله في السّجن من خدمة الفقراء، وإعانتهم، كلّ ذلك من أعمال المحسنين الّتي تقسم إلى إحسان الكم، وإحسان الكيف، والأجر هو الجزاء على العمل الّذي يشمل القول، والفعل.

ص: 4

سورة يوسف [12: 57]

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ} : الواو: تفيد الاهتمام، والأجر: الجزاء على العمل.

{خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} : خير: أفضل وأحسن من أجر الدّنيا.

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص.

{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : كانوا لا تختص بالماضي فقط، بل تعني الحاضر، والمستمر، والمستقبل.

{يَتَّقُونَ} : بصيغة المضارع؛ تفيد الاستمرار، والدّوام، يتقون من الشّرك، والمعاصي، والفواحش.

ص: 5

سورة يوسف [12: 58]

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} :

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} : وكانوا عشرة بدون أخوهم بنيامين (الحادي عشر) الّذي تركوه وراءَهم مع أبيه في أرض كنعان جاؤوا إلى مصر؛ ليشتروا القمح، أو للميرة.

{فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب بعد أن أصابهم القحط، والفاقة، بعد أن أرسلهم أبوهم؛ فدخلوا على يوسف.

{فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} : عرفهم يوسف أنّهم إخوته؛ لأنّه حين ألقوه في الجب تركهم، وهم كبار في السّن، وتحدَّدت ملامحهم والكبير لا تتغيَّر ملامحه كثيراً، أمّا يوسف فقد تغيَّرت ملامحه.

{وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} : أيْ: لم يعرفوه أنّه أخوهم يوسف؛ لأنّه قد شب وتغيَّرت ملامحه، ولأنهم ظنوا أنه قد هلك، أو كونه وزيراً للملك يلبس ثياب الملوك.

ص: 6

سورة يوسف [12: 59]

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: عاطفة؛ لما: ظرف بمعنى حين متضمِّن معنى الشّرط.

{جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} : أيْ: أوفى لهم الكيل؛ أيْ: جعله تامّاً، وافياً؛ كيلهم من القمح الّذي جاؤوا لطلبه، وما يحتاجون إليه في سفرهم، والجهاز هو ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع.

{بِجَهَازِهِمْ} : الباء: تدخل على ما هو مدار الكلام؛ أي: الجهاز في هذه الآية.

{قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} : أيْ: بنيامين؛ لأنّهم لم يحضروه معهم هذه المرة، وبنيامين هو أخو يوسف من أمّه وأبيه، وبقية الإخوة إخوةٌ من الأب؛ فيبدو أنّ يوسف بحث معهم حالتهم الاقتصادية، والاجتماعية، وتعرَّف على أحوالهم، وسألهم عن بقية إخوتهم، وعرف أنهم لم يحضروا أخاهم بنيامين، وهم لا يعرفون أنّه يوسف؛ فطلب منهم أن يحضروه معهم في المرة القادمة، وقال لهم:

{أَلَا تَرَوْنَ} : ألا: أداة تنبيه، وحضٍّ، وحثٍّ.

{تَرَوْنَ} : تشاهدون، أو ترون بأعينكم.

{أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ} : أيْ: أتمه.

{الْكَيْلَ} : من القمح، ولكلّ واحد كيل، أو حمل بعير؛ أيْ: جهزهم بعشرة أحمال، وزادهم حِملين آخرين واحداً لأبيهم، وواحداً لأخيهم الّذي لم يحضر.

{وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} : منزلين: مشتقة من النُّزل: ما يُهيَّأ للضيف من سكن، وطعام، وشراب، والمنزلين: المضيفين.

ص: 7

سورة يوسف [12: 60]

{فَإِنْ لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلَا تَقْرَبُونِ} :

{فَإِنْ} : الفاء: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال، والشّك.

{لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ} : لم: نافية.

{تَأْتُونِى بِهِ} : أيْ: بأخيكم من أبيكم (بنيامين)؛ أيْ: تحضروه معكم في المرة القادمة.

{فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} : الفاء: للتوكيد؛ لا: النّافية للجنس.

{كَيْلَ} : الّذي يساوي حمل بعير لكلّ واحد.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص لكم خاصة.

{عِندِى} : هذه العندية مقصودة؛ فهي وصية لي عندكم، وإنذار للمرة القادمة بإحضار أخيكم معكم.

{وَلَا تَقْرَبُونِ} : تكرار (لا) يفيد زيادة النّفي، ولا ناهية أو نافية.

{تَقْرَبُونِ} : لا ترجعوا إليَّ، أو لا تدخلوا بلادي.

ص: 8

سورة يوسف [12: 61]

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} :

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ} : قال إخوة يوسف: سنراود: السّين للاستقبال القريب؛ نراود: نطالب برفق ولين، ونكرِّر ذلك، ونحاول كلّ ما باستطاعتنا، وكل حيلة؛ لكي يستجيب أبانا لطلبنا، أو يأذن لنا بإحضاره معنا.

{عَنْهُ أَبَاهُ} : عن: تفيد المجاوزة، والابتعاد.

{أَبَاهُ} : ولم يقولوا: أبينا مما يدل على ضعف الرّابطة بينهم، وبين أبيهم، واضطراب العلاقة منذ غياب يوسف.

{وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} : لفاعلون: اللام: تدل على التّوكيد؛ أيْ: لفاعلون بكلّ توكيد حتّى يتركه يأتي معنا.

ص: 9

سورة يوسف [12: 62]

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ} : قال يوسف لفتيانه، جمع: فتى، جمعها: فتيان، والفتى، أو الفتيان: تطلق في القرآن على الفئة غير المؤمنة، أو العبيد، والفتى: كان اسماً للعبد في عرفهم صغيراً كان أو كبيراً، ويستعمل لقب الفتية للفئة المؤمنة؛ كفتية أصحاب الكهف. ارجع إلى الآية (36) من نفس السورة.

{اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ} : البضاعة: العملة مثل الفضة، أو العملة المالية، أو الدّنانير، أو ما جاؤوا به من ثمن للميرة.

{فِى} : ظرفية.

{رِحَالِهِمْ} : جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير من أمتعة، أو أوعية (جمع وعاء)؛ أيْ: أمر يوسف العاملين في الميرة (فتيانه) أن يعيدوا البضائع الّتي أحضرها إخوته لشراء القمح، ويضعوها في رحالهم، من دون أن يخبرهم بهذا حتّى تكون مفاجأة لهم بعد أن ينقلبوا إلى أبيهم.

{لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} : لعلهم: للتعليل؛ أيْ: لكي يعرفونها: أكد بالنّون بدلاً من يعرفوها أنها بضاعتهم أعيدت إليهم.

{إِذَا} : ظرفية زمانية متضمِّنة معنى الشّرط؛ تفيد الحتمية، حتمية الحدوث.

{انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ} : أيْ: رجعوا إلى أهلهم، وانقلبوا تختلف عن رجعوا؛ الانقلاب؛ يعني: الرّجوع مع التّحول إلى وضع غير وضعه الأوّل، أو الحالة الّتي خرجوا فيها؛ أيْ: عادوا ومعهم الميرة، والطّعام بعد أن جاؤوا محتاجين.

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعلَّ: أداة رجاء، وتستعمل في الأمور المتوقع حدوثها.

{يَرْجِعُونَ} : بأخيهم بنيامين إلى يوسف، أو إلى أرض مصر مرة أخرى.

ص: 10

سورة يوسف [12: 63]

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرفية زمانية بمعنى: حين.

{رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} : عادوا إلى ديارهم، واجتمعوا بأبيهم.

{قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} : قالوا: يا أبانا أُنذرنا بمنع الكيل منا في المرات القادمة إذا لم نحضر معنا أخانا لأرض مصر.

وجاء بصيغة الماضي بدلاً من قوله: سيمنع منا الكيل إن لم نأتِ بأخينا معنا في المستقبل؛ للدلالة على وقوع المنع بكلّ تأكيد.

{فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} : فأرسل: الفاء: للتوكيد.

{نَكْتَلْ} : تعني: فأرسل معنا أخانا نكتل في المستقبل، ولأنّ كيله سيكون من نصيب الكلّ (العائلة بكاملها) قال: نكتل؛ أيْ: كيله يضاف إلى بقية الأكيال الّتي تخصُّ العائلة معاً؛ أيْ: كيل بنيامين وكيل بقية الإخوة كلّها تجمع معاً، وتستخدم، وتسخر لكلّ أفراد العائلة، والأب معاً؛ أيْ: إذ اكتال الواحد منهم كأنّ الكلّ اكتالوا.

وأما بالنّسبة للناحية اللغوية: فنكتل أصلها نكتال؛ فلما التقى ساكنان حذفت الألف، والألف منقلبة عن ياء، وأصل اللفظ نكتيل بفتح التّاء، وكسر الياء؛ فحدث إعلال بالتّسكين (سكنت)، ثمّ قلبت الياء ألفاً؛ لانفتاح ما قبلها، وتحركها في الأصل فأصبحت نكتل.

{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} : وإنا: للتوكيد.

{لَهُ} : اللام: لام الاختصاص له خاصة.

{لَحَافِظُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ حافظون: من كلّ مكروه، أو أذى، وعلى حياته حافظون له في سفره معنا ولن نفرط به مهما حدث.

ص: 11

سورة يوسف [12: 64]

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} :

{قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} : قال يعقوب.

{هَلْ} : استفهام فيه معنى النّفي؛ أيْ: ما آمنكم عليه، وهل: أشد استفهاماً من الهمزة، كما لو قال: أأمنكم عليه.

{إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} : أيْ: ستفرطون به؛ أيْ: تضيعونه كما فرطتم: ضيعتم يوسف من قبل.

{آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} : للقرآن خصائص، ومن خصائصه استعمال آمنكم عليه؛ تعني: للأشخاص، وعلى: تفيد الاستعلاء، والتّسلط، والعدوان؛ مثل قوله تعالى:{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النور: 50].

وأما للأموال فيستعمل به؛ مثال قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [المائدة: 75].

{إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} : إلا: أداة حصر.

{كَمَا} : الكاف: للتشبيه؛ ما: مصدرية.

{أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} : يوسف من قبل سابقاً في الماضي، ومعنى الآية: إنكم لم تستطيعوا حفظ يوسف من قبل؛ فكيف ستستطيعون حفظ بنيامين.

{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : فالله خير حافظاً: فالله خير حافظاً منكم، وقُرئت: فالله خيرٌ حِفظاً؛ أيْ: منكم، وجاءت بالتّنوين؛ لتدل على الحال، والمستقبل، ولا تعني الآية المقارنة بينهم، وبين الله؛ فهي لا تجوز، ولا تستقيم، ومن المعلوم أنّ الله سبحانه يرسل حفظة (ملائكة) موكلون بحفظ العبد، كما في قوله:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].

وقول يعقوب: فالله خير حافظاً؛ تعني: أنّي أتوكل على الله، وأفوض أمري إليه؛ لأنّه هو خير حافظاً، ويبدو أنّه سيفكر في الأمر، ويضع لهم بعض الشّروط لإرساله معهم.

{وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد؛ أيْ: خير الحافظين.

{أَرْحَمُ} : على وزن أفعل أفضل اسم تفضيل.

{الرَّاحِمِينَ} : جمع راحم، اسم فاعل من رحم، أرحم الرّاحمين بي، وبكلّ خلقه؛ فعسى أن يرحمني برحمته، ويرد يوسف إليَّ، جرى هذا الحديث قبل فتح متاعهم.

ص: 12

سورة يوسف [12: 65]

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِى هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} :

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} : لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.

{فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} : أي: الميرة، والطّعام الّذي أعطاهم إياه يوسف؛ أي: الأوعية الّتي تحمل الحبوب والمؤونة.

{وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ} : أيْ: ثمن الطّعام الّذي دفعوه إلى يوسف مثل النّقود، أو الدّراهم، أو الفضة (ما كان يمثل العملة المالية آنذاك ويشترى بها).

{رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} : أُعيدت إليهم، ولم تقبض؛ عندها:

{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِى} : ما: استفهام فيها تعجُّب، أو نافية، أو اسم موصول؛ بمعنى الذي: أي: الّذي نطلب.

{مَا نَبْغِى} : بمعنى: الاستفهام؛ أيْ: كلّ شيء نبغيه نطلبه هنا، وما نبغي بمعنى: النّفي؛ ما نبغي منك شيئاً من المال، أو الدراهم حين نعود إلى العزيز مرة ثانية، وما نبغي بمعنى: اسم موصول؛ أيْ: هذا المال الّذي نبغيه ونطلبه ونحتاجه. وفي سورة الكهف آية (64) قال موسى عليه السلام : {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} ولمعرفة الفرق بين نبغي، ونبغ؛ ارجع إلى سورة الكهف آية (64) للبيان.

{هَذِهِ بِضَاعَتُنَا} : هذه: الهاء: للتنبيه، ذه: اسم إشارة للقرب؛ تعني: البضاعة.

{رُدَّتْ إِلَيْنَا} : أُعيدت إلينا، وتكرار ردَّت إلينا مرتين للتوكيد، وفرحهم بإعادة البضاعة إليهم؛ لأنّهم كانوا بأشد الحاجة إليها.

{وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} : ونمير: من مار أهله بميرهم؛ أيْ: حمل إليهم الميرة، وهي الطّعام، أو الّذي يُخزن من الطّعام للعام القادم، وتسمّى المؤونة. ونمير أهلنا: نأتي لهم بالميرة بالرّجوع مرة أخرى إلى العزيز؛ فيكون السّياق: هذه بضاعتنا ردت إلينا نحافظ عليها، أو نستعين فيها، ونمير أهلنا بها؛ أيْ: نشتري لهم الطّعام مرة ثانية.

{وَنَحْفَظُ أَخَانَا} : بنيامين؛ فلا تخف عليه، فهم يشجعون أباهم على إرسال بنيامين معهم.

{وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} : لأنّ العزيز يعطي كلّ رجل حمل بعير، وبذلك نحصل على زيادة كيل واحد.

{ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} : ذلك: اسم إشارة للبعد؛ أيْ: يشير إلى الكيل أنّه كيل يسير؛ أيْ: سهل الحصول عليه؛ لأنّ العزيز أوصى بإحضاره.

ص: 13

سورة يوسف [12: 66]

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} :

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} : قال يعقوب لبنيه: لن: حرف نفي تنفي المستقبل القريب، والبعيد معاً، أرسل أخاكم معكم.

{حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية، وهي إتمام الموثق، والموثق هو العهد المؤكَّد باليمين؛ أي: القسم؛ أيْ: أقسموا بالله.

{تُؤْتُونِ} : ولم يقل تؤتوني: لأنه موثق ينتهي بعودة أخيهم بنيامين بعد أن يرسله معهم فهو غير مستمر أو أبدي وغير دائم طلبه لكي يأمن مكرهم وأن يفعلوا به كما فعلوا بيوسف.

{لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} : لتأتنني: اللام: لام التّوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد؛ أيْ: لترجعُنَّه إليَّ سالماً.

{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} : إلا: أداة حصر؛ لتأتنني به حصراً.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ للتّعليل، والتّوكيد.

{يُحَاطَ بِكُمْ} : من الإحاطة بالشّيء من كلّ الجوانب؛ أيْ: تحاصروا من عدوكم، أو تمنعوا من النّجاة بشتى السّبل، أو تغلبوا، وتهلكوا جميعاً بقضاء وقدر من الله تعالى.

{فَلَمَّا} : فلما: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرفية بمعنى: حين.

{آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} : أعطوه عهدهم المؤكَّد بالقسم على ردِّ أخيهم، وعدم التّفريط به.

{قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} : قال أبوهم: الله على ما نقول وكيل (شهيد، ورقيب)؛ أي: الله سبحانه شهيدٌ عليَّ، وعليكم؛ فأشهدَ يعقوبُ الله على عهدهم.

ص: 14

سورة يوسف [12: 67]

{وَقَالَ يَابَنِىَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} :

{وَقَالَ يَابَنِىَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} : قال يعقوب لبنيه: يا بَنيَّ لا تدخلوا من باب واحد؛ قيل: كان للمدينة أربعة أبواب، وكانوا أحد عشر رجلاً، لا تدخلوا من باب واحد حين تعودون إلى مصر للمرة الثّانية.

{وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} : خوفاً من الحسد، والتّحرز من العين، وحتّى لا يرون جماعة واحدة، أو يحاط بهم إذا كانوا جميعاً، وكونهم ذوي جمال وأولاد يعقوب عليه السلام .

{وَمَا أُغْنِى عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} : ما: النّافية؛ أيْ: ما كان رأي يعقوب في دخولهم من أبواب متفرقة يُفيدهم شيئاً.

{مِنَ اللَّهِ} : من: ابتدائية.

{وَمَا أُغْنِى} : أيْ: ما أدفع، أو ما ينفعكم نصحي شيئاً إن أراد الله بكم ضرّاً، أو نفعاً.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية تشمل أيَّ شيء مهما كان حسداً، أو غير حسد إذا قضى الله ذلك.

{شَىْءٍ} : نكرة؛ أيِّ شيء مهما كان نوعه، وشكله، وهذا الاحتراز في الحقيقة لا يردُّ قدر الله وقضائه.

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} : إن: حرف نفي أقوى نفياً من ما؛ أيْ: وما الحكم إلا: أداة حصر.

{لِلَّهِ} : اللام: لام الاختصاص، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : تقديم الجار والمجرور، عليه: يفيد الحصر بدلاً من توكلت عليه؛ أيْ: عليه وحده توكلت.

{وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} : وعليه وحده فليتوكل: الفاء: للتوكيد، يتوكل المتوكلون: يطلبون منه العون بعد تقديم الأسباب، أو يفوضون أمرهم إلى الله وحده بعد أن يقدِّموا الأسباب. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (12) لمعرفة الفرق بين: وعلى الله فليتوكل المتوكلون، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.

ص: 15

سورة يوسف [12: 68]

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} : ولما: الواو: عاطفة؛ لما: ظرف زماني بمعنى: حين، متضمن معنى الشّرط.

{دَخَلُوا} : مصر.

{مِنْ} : ابتدائية.

{حَيْثُ} : ظرف مكاني.

{أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} : أيْ: دخلوا من أبواب متفرقة.

{مَا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} : ما: النّافية.

{يُغْنِى} : يدفع عنهم، أو ينفعهم ذلك من شيء؛ فالحذر، أو الحيطة، أو الاحتراز لا يرد قضاء، ولا قدر إذا أراده الله سبحانه أن يقع.

{إِلَّا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ} : وما كان ذلك إلا: أداة حصر.

{حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ} : هي مجرَّد شعور، وخوف، أو شيء في نفس يعقوب مثل الشّفقة، أو الحنان والخوف على أولاده من الحسد، أو يحاط بهم كما بين ذلك في الآية (66) من نفس السورة؛ أي: يتعرضوا للقتل والأذى والمكيدة.

{قَضَاهَا} : أنفذها، ووصَّى بها بنيه، أو تكلم بها.

{وَإِنَّهُ لَذُو} : وإنّه: للتوكيد.

{لَذُو} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ ذو: صاحب.

{عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} : صاحب علم.

{لِمَا} : اللام: حرف جر؛ ما: مصدرية، أو اسم موصول؛ لذو علم لما علمناه: لذو علم أنّ دخولهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من الله من شيء؛ لذو علم لما علمناه: أنّه لا يصيب بَنيهِ إلا ما قضى الله، وقدّر؛ لذو علم: صاحب علم لتعليمنا إياه أمور دينه؛ يعلم أنَّ العين حق، كما ورد في الحديث الّذي أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العينُ حقٌّ» .

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : إنّ: الحذر من القضاء والقدر لا يفيد، والحسد، والعين حقٌّ، ولكن بإذن الله تعالى، وأنّ الأخذ بالأسباب لا ينفي التّوكل.

{لَا يَعْلَمُونَ} : علوم الآخرة؛ فهم عن الآخرة غافلون، أو جاهلون.

ص: 16

سورة يوسف [12: 69]

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} : لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين، متضمِّن معنى الشّرط.

{دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} : ومعهم أخوهم بنيامين الّذي كان أخاه لأبيه وأمّه.

{آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} : كيف حصل هذا التّعارف، والإيواء؟ لم يصرِّح به القرآن، وإنما أخبرنا بالنّتيجة الّتي تكشف لنا أنّ يوسف عليه السلام تصرَّف بحكمة حتّى لا ينكشف أمره عليهم، ويعلموا أنّه يوسف في نفس الوقت أطلع أخاه بنيامين على نفسه، وزالت الرّيبة من بينهم، ثمّ أخبر يوسف أخاه بنيامين عن حيلة وضعت ليتاح له أخذ أخيه بنيامين؛ أي: إبقائه معه في مصر، واتَّفقا معاً، ووافق بنيامين، كما سنرى في الآيات القادمة.

{فَلَا تَبْتَئِسْ} : من البؤس، وهو الضّر، والشّدة؛ أيْ: لا تحزن، أو لا تيْئَس: من اليأس، ولا: النّاهية. هذا قول يوسف لأخيه: فلا تبتئس.

{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : بما: الباء: للإلصاق؛ ما: بمعنى: الّذي.

{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : تضم الأقوال، والأفعال، أو الكيد، أو العدوان الّذي فعلوه بي في الماضي.

ص: 17

سورة يوسف [12: 70]

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} : هيأ، وأعد لهم الميرة، أو الطّعام، وما طلبوا.

{جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ} : وضع، أو جعل، أو دس السّقاية في رحل أخيه، والرّحل: ما يوضع على البعير؛ مثل الخُرج، ويوضع فيه متاع المسافر من طعام، وأدوات يحتاج إليها، والسّقاية، قيل: إناء كان الملك يشرب به ثمين جداً من الفضة، والذّهب، والجواهر، وسمّي صواع الملك، ثمّ حُولت أو جعلت صاعاً يكال به؛ أيْ: مع طول الزّمن لم يعد يستعمل الملك ذلك الوعاء للشرب؛ فجعل مثل الصّاع يكال به الطّعام؛ مثل: القمح، أو الشعير، أو الرز، أو التمر

وغيرها، ويطلق عليه السّقاية.

فقد أمر يوسف بعض أعوانه أن يدسُّوا السّقاية في رحل أخيه بنيامين، وكانت هذه هي الوسيلة، أو الحيلة الّتي خططها مع أخيه؛ لكي يُبقي أخاه عنده، كما سنرى بعد قليل، وبعد أن استعدوا للعودة إلى ديارهم، وركبوا جمالهم:

{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} : ثمّ: للترتيب التّسلسلي في الأحداث؛ أيْ: ترتيب الأخبار.

{أَيَّتُهَا الْعِيرُ} : أيتها: أيَّ: أداة للاستفهام للعاقل، وغير العاقل، والزّمان، والمكان، والهاء: للتنبيه.

{الْعِيرُ} : الإبل، والبغال، والحمير الّتي تحمل الميرة، والطّعام؛ أي: القافلة (الرجال مع العير)، والنّداء موجَّه إلى أصحاب العير.

{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} : أيْ: يا أصحاب العير إنّكم: إنّ: للتوكيد.

{لَسَارِقُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ كان يكفي أن يقول: إنّكم سارقون؛ فهو قد أكَّد بأن، واللام، وسارقون: جملة اسمية تفيد الثّبوت؛ أيْ: صفة السّرقة.

ص: 18

سورة يوسف [12: 71]

{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ} :

{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم} : أيْ: وأقبل إخوة يوسف إلى المؤذن، وأعوانه، أو من حوله يسألونهم ماذا: استفهام حقيقي، وماذا: أقوى في الاستفهام من: ما، ولم يقولوا: ما تفقدون، قالوا: ماذا تفقدون.

{مَاذَا تَفْقِدُونَ} : أيُّ شيء تفقدون؟ أيْ: ما هو الشّيء الضائع المفقود الّذي لا تجدونه؛ أيْ: حين سمعوا النّداء من بعيد بدؤوا بالسّؤال، وهم يسيرون متجهين نحو المؤذن.

ص: 19

سورة يوسف [12: 72]

{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} :

{قَالُوا} : أيْ: فتيان يوسف، والمؤذن.

{نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} : أيْ: لمن وجد لنا صواع الملك (السّقاية) له حمل بعير من الميرة، والطّعام مكافأة له.

{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} : وقال المؤذن: وأنا بحمل البعير كفيل أعطيه لمن جاء به.

{زَعِيمٌ} : من الزّعامة الّتي تعني: القوة، والقدرة على الشّيء، وزعيم القوم: رئيسهم.

ص: 20

سورة يوسف [12: 73]

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} :

{قَالُوا تَاللَّهِ} : أيْ: قال إخوة يوسف: تالله: التّاء: تاء القسم، وهي أقوى أدوات القسم، وفيها معنى التّعجب؛ أيْ: أقسموا، وهم بدهشة لاتهامهم بأنّهم من السّارقين. وهذا القسم (تالله) تكرر ثلاث مرات في سورة يوسف في هذه الآية، والآية (85)، والآية (91)، وهذا القسم ليس خاصاً بإخوة يوسف فقط؛ فقد ورد في آيات أخرى مثل قوله تعالى:{تَاللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]، وقوله تعالى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63].

{لَقَدْ} : لقد: اللام: للتوكيد، وقد: للتحقيق، والتّوكيد أيضاً.

{عَلِمْتُم} : من العلم، والعلم: يفيد اليقين، والعلم: يتعلق بالصّفات بينما المعرفة تتعلق بالذّوات؛ أيْ: لم يقل: لقد عرفتم.

{مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ} : ما: النّافية.

{جِئْنَا} : قدِمنا.

{لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ نفسد في الأرض: تعني: السرقة؛ فالفساد من معانيه: السّرقة الّتي تؤدِّي إلى الخوف، والقتل

وغيره.

{وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} : وما: النّافية، وتكرار ما: لزيادة، وتوكيد النّفي؛ نفي الفساد، ونفي السّرقة.

ص: 21

سورة يوسف [12: 74]

{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} :

{قَالُوا} : أي: المؤذن، وأعوانه قالوا لإخوة يوسف:

{فَمَا} : الفاء: للتوكيد؛ ما: استفهامية.

{جَزَاؤُهُ} : وهاء الضّمير في (جزاؤه) تعود على جزاء، أو عقاب سرقة الصّواع، أو تعود على السّارق.

{إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.

{كُنتُمْ كَاذِبِينَ} : أنّكم لم تسرقوا الصّواع، أو أنّكم أخذتموه.

ص: 22

سورة يوسف [12: 75]

{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} :

{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} : قال إخوة يوسف: من وجد الصّواع في رحله فهو جزاؤه؛ أيْ: من سرق شيئاً يصبح السّارق عبداً مملوكاً للذي سرق منه، وهكذا كان حكم السّارق في بني يعقوب أن يصبح السّارق عبداً مسترقاً للمسروق له مدَّة سنة كاملة.

{كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} : أيْ: مثل هذا الجزاء؛ أي: استرقاق السّارق مدَّة سنة نجزي الظّالمين (أي: السّارقين المفسدين في الأرض).

ص: 23

سورة يوسف [12: 76]

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} :

{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} : فبدأ: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ أيْ: أمر يوسف فتيانه بتفتيش أوعيتهم، وكانوا عشرة إخوة قبل أن يفتش وعاء أخيه (بنيامين)؛ كي ينفي عنه الشّبهات بأنّه يكيد لهم شيئاً ما.

{ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} : ثمّ: للاستبعاد، والتّرتيب الكلامي، أو التّسلسلي في الأحداث، وليس يعني التّرتيب، والتّراخي في الزّمن؛ فتش وعاء أخيه أخيراً؛ فاستخرج الصّواع.

{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} : اللام: لام الاختصاص.

{كِدْنَا} : من الكيد: وهو التّدبير الخفي، والحيلة، أوحينا إليه بالإلهام، أو الوحي كيف يسترد أخاه بهذه الطّريقة، أو الحيلة، وشبه ذلك بالكيد. ارجع إلى الآية (5) من نفس السورة.

{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ} : ما: النّافية.

{كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ} : أيْ: لو اتبعوا، أو طبقوا قانون السّرقة في دِين الملك (في مصرَ)؛ أيْ: في حكم الملِك ما كان يحق له، أو يسمح له أن يأخذ أخيه، أو يُبقيه عنده سنة؛ لأنّ قانون الملك أو دِينه ينصُّ على أنّ السّارق يغرَّم ضعفي ما سرق، ويضرب، وهو قانون مغاير لحكم بني إسرائيل.

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : إلا: أداة حصر.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد؛ أيْ: لولا مشيئة الله سبحانه ما تمكَّن يوسف من أخذ أخيه، وإبقائه عنده.

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} : نرفع درجات.

{مَنْ} : ابتدائية.

{نَشَاءُ} : بالعلم، والحكمة، والنّبوة، والإيمان.

{وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} : ذي علم: صاحب علم؛ هناك من أعلم منه، وهكذا يتسلسل الأمر حتّى ينتهي أخيراً إلى الله؛ فهو علام الغيوب، وأعلم العالمين، وعالم الغيب، والشّهادة، عليم بكلّ شيء، ولا يخفى عليه شيء في السّموات، ولا في الأرض.

ص: 24

سورة يوسف [12: 77]

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} :

{قَالُوا} : أيْ: إخوة يوسف؛ قالوا: يا عزيز مصر لا تعجب.

{إِنْ يَسْرِقْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك؛ إن يسرق بنيامين.

{فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ} : فقد: الفاء: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد؛ أيْ: له أخ من قبله كان يسرق، ولم يسمّوا أخاهم الّذي كان يسرق (هو يوسف).

{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} : ولم يرد على اتهامهم له بالسّرقة؛ فقد كظم غيظه، وغضبه، وأخفى يوسف ذلك في نفسه، وقيل في تفسير هذا: عندما كان يوسف يُربَّى عند عمته بعد وفاة أمّه، وعندما كبر، أراد يعقوب أخذه من عمته، وأرادت عمته أن تستبقيه عندها، وكانت تعلم أنّها إذا اتهمته بسرقة شيء ما عندها حسب شريعة يعقوب يبقى عندها (السّارق يُسْتَرقُّ سنة)؛ فلذلك قامت عمداً، ووضعت نطاقاً لها من أبيها إسحاق في متاع يوسف، وادّعت أنّها فقدت نطاقها؛ فبحثوا عنه فوجدوه في متاع يوسف، وهكذا أبقته عندها سنة أخرى في حضانتها.

{قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} : قال يوسف في نفسه: لأنتم شرٌّ مكاناً أشرُّ منزلة عند الله مني لما فعلتم بي وبأبيكم.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} : والله: تقديم الله للحصر.

{أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} : تكذبون، أو تفترون عليّ الكذب بالسّرقة.

ص: 25

سورة يوسف [12: 78]

{قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

{قَالُوا} : أيْ: إخوة يوسف.

{يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ} : يا: النّداء؛ الهاء: للتنبيه؛ يا أيُّ: للتّعظيم.

{إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} : إنّ: للتوكيد.

{إِنَّ لَهُ} : أيْ: بنيامين.

{أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} : توكيد، لا يتحمل الصّدمة، أو الفاجعة بفقد ابنٍ آخَر له بعد أن فقد يوسف من قبل.

{فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} : استبق أحدنا بدلاً منه، وأتم إحسانك علينا، وخلِّ سبيله حتّى يرجع إلى أبيه.

{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : إنا: للتوكيد.

{نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : في أفعالك لنا؛ بالتّصدق علينا، والصفح، والعفو، ومعاملتنا بالحسنى.

ص: 26

سورة يوسف [12: 79]

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَّأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} :

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} : قال يوسف: معاذ الله؛ أيْ: أعوذ بالله أن نأخذ بريئاً بدلاً من سارق؛ فهذا ظلم.

{أَنْ نَّأْخُذَ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّوكيد، والتّعليل.

{إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} : إلا: أداة حصر، فقط نأخذ من وجدنا متاعنا؛ أي: الصّواع عنده.

{إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} : إذن: حرف جواب، وجزاء.

{لَظَالِمُونَ} : اللام: للتأكيد؛ ظالمون: جمع ظالم، والظلم: الخروج عن حكم، أو منهج الله؛ لمعرفة معنى الظلم: ارجع إلى سورة البقرة، آية (54).

ص: 27

سورة يوسف [12: 80]

{فَلَمَّا اسْتَيْـئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للتوكيد؛ لما: ظرف زماني بمعنى: حين.

{اسْتَيْـئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} : استيْئَسوا: استيْئَس: بلغ أعلى درجات اليأس. ونجياً: تعني تناجوا كفاية (مبالغة في نجواهم).

استيئسوا: على وزن استفعلوا؛ للمبالغة من يئس، ييْئَس، وزيادة السين: للمبالغة؛ أيْ: استيئسوا من إقناع العزيز بعد أن حاولوا كلَّ المحاولات لإعادة أخيهم معهم، وبعد جهد ومشقة فشلت كلُّ المحاولات، ولم تعد هناك بارقة أمل، وانقطع أملهم ورجاؤهم من أن يخلِّي سبيل أخيهم.

{مِنْهُ} : تعود على العزيز (يوسف)، أو تعود إلى أخيهم.

{خَلَصُوا نَجِيًّا} : انتهوا من النّجوى، أو مناجاة بعضهم بعضاً؛ يعني: أنّهم بعد أن يئسوا من إقناع العزيز انفردوا بأنفسهم ليتناجوا، وما سيفعلون، وما سيقولون لأبيهم، وانتهوا من النّجوى.

{قَالَ كَبِيرُهُمْ} : سناً، أو قدراً، أو رأياً، قيل: كبيرهم هو الّذي أشار عليهم بإلقاء يوسف في البئر بدلاً من قتله.

{أَلَمْ تَعْلَمُوا} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، ونفيٍّ. ارجع إلى سورة التوبة، آية (63)؛ للبيان.

{أَنَّ أَبَاكُمْ} : أن: للتوكيد، أباكم.

{قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} : قد: حرف تحقيق.

{أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا} : عهداً مؤكَّداً بالقسم بحفظ أخيكم بنيامين، وإعادته إلى أبيه، موثقاً من الله.

{وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} : ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف، أو تعني: ومن قبل فرَّطتم في يوسف، والتفريط: يعني: التقصير في إتمام الموثق، أو العهد.

{فَلَنْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ لن: حرف نفي، نفي الاستقبال القريب، والبعيد.

{أَبْرَحَ الْأَرْضَ} : أغادر أرض مصر، أو أتنحَّى عن مكاني هذا.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{يَأْذَنَ لِى أَبِى} : بالعودة، والرّجوع إليه.

{أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى} : أو: للتخيير؛ أيْ: يقضي لي بخلاص أخي بنيامين، ويُفرج عنه؛ أيْ: يطلق سراحه، أو يحكم في أمري بحكمٍ ما، وهو خير الحاكمين.

{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} : ارجع إلى الآية (109) من سورة يونس؛ للبيان.

حينئذٍ يبدو أنهم سألوه ماذا نفعل؛ فقال كبيرهم:

ص: 28

سورة يوسف [12: 81]

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} :

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} : الرجوع: هو العودة إلى المكان الذي بدأ، أو انطلق منه.

{فَقُولُوا} : الفاء: للتوكيد؛ ارجعوا إلى أبيكم؛ فقولوا:

{يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} : إنّ: للتوكيد.

{ابْنَكَ} : بنيامين سرق.

{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} : ما: النّافية.

{شَهِدْنَا} : عليه بالسّرقة؛ أيْ: ما رأيناه يسرق؛ إلا حصراً بما علمنا.

{بِمَا} : الباء: للتوكيد؛ أيْ: لم نره يسرق، وإنما علمنا ذلك بما جاءنا من العلم، أو سمعناه من النّاس، أو وصلنا أنه سرق صواع الملك.

{وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} : ما: النّافية؛ ما كنا نعلم الغيب، وأنّ هذا سيحدث له عندما أخذنا بنيامين معنا في سفرنا، أو ما كنا نعلم الغيب حين أعطيناك موثقاً من الله لنأتيك به، وإلا ما أعطيناك، أو ما كنا نعلم أنّ ابنك سيسرق، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، وإلا لمنعناه من فعل ذلك، أو ما كنا نعلم الغيب لعلهم اتهموه بالسّرقة (حيث الوقت ليلاً)، ويعلم كبيرهم أنّ أباهم قد لا يصدِّق هذه الأقوال كلَّها، كما فعل سابقاً عندما أخبروه بأنّ يوسف أكله الذئب؛ لذلك قال لهم: إن كذَّبكم أبوكم؛ قولوا له:

ص: 29

سورة يوسف [12: 82]

{وَسْـئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} :

{وَسْـئَلِ الْقَرْيَةَ} : القرية أهل القرية.

{الَّتِى كُنَّا فِيهَا} : أيْ: مصر الّتي نزلنا فيها للميرة.

{وَالْعِيرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا} : العير: القافلة إذا كانت فيها دواب (جمال، وحمير)، وتحمل الطّعام (الميرة) تسمَّى العيرَ.

{الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا} : قدِمت معنا إلى مصر للميرة أيضاً. قيل: كانوا قوماً من الكنعانيين فهم شهدوا ما حدث؛ أيْ: أصحاب العير الّتي قدِمت إلى مصر معنا.

{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} : لصادقون: اللام: للتوكيد؛ أيْ: سواء صدقتنا أم لم تصدقنا، نحن صادقون بريئون من التّهمة، وهم على حقٍّ في هذه المرة أنهم كانوا صادقين.

ص: 30

سورة يوسف [12: 83]

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} :

وبعد أن رجعوا إلى أبيهم إلا كبيرهم الّذي بقي في مصر، وبقي بنيامين مع أخيه يوسف الّذي أخذه أجيراً في دين الملك، وأخبروا أباهم بما حدث.

{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} : قال يعقوب.

{بَلْ} : للإضراب الإبطالي؛ أيْ: أشك في كل ما أخبرتموني به، ولن أصدقكم.

{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} : أيْ: زينت لكم أنفسكم أمراً غير محمود سيِّئٍ لكم خاصَّة، وهذه هي المرة الثّانية الّتي يردِّد نفس الكلام؛ فقد قال حين لم يرجع يوسف: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، آية (18)، وحين لم يرجع بنيامين اتَّهمهم بنفس التّهمة.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} : فصبر: الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ صبر جميل: الصّبر الّذي لا يصاحبه شكوى لأحد من البشر، ويمكن الشّكوى إلى الله وحده، وهذا لا ينافي الصّبر الجميل. ارجع إلى الآية (18) ممن نفس السورة.

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} : عسى: أداة رجاء، وتستعمل في الأمور المرجوة الّتي تتحقق غالباً.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{يَأْتِيَنِى بِهِمْ} : ولم يقل: بهما؛ لأنّهم أصبحوا ثلاثة يوسف وبنيامين وكبيرهم الّذي قال: لا أبرح الأرض.

{جَمِيعًا} : للتوكيد.

{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} : إنّه: للتوكيد.

{الْعَلِيمُ} : بحالي، وبحال يوسف، وبنيامين، وبإخوة يوسف، وبما هو صدق، وما هو كذب، ولا تخفى عليه خافية في السّموات، ولا في الأرض، والعليم الحكيم فيما قضى، وقدر على خلقه؛ فهو أحكم الحاكمين، وهو أحكم الحكماء.

ص: 31

سورة يوسف [12: 84]

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} :

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} : أي: انصرف عنهم، وابتعد، وانفرد لوحده بحزنه؛ أيْ: خلا بنفسه.

{وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} : الأسف: هو أشد الحسرة، أو يا مصيبتاه، وزيادة الألف فيه دلالة على شدة الحزن، والألم، وأبلغ من قوله: يا أسفِ، يا أسفي، وفيه تعجُّب أيضاً، وهذا الأسف لا يتعارض مع الصّبر الجميل ما دام يعقوب لوحده.

{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} : الحُزن بضم الحاء: هو الألم النّفسي، وضيق في الصّدر على شيء مضى، وله زمن معين قد يطول، أو يقصر، ثمّ ينتهي، أما الحَزن بفتح الحاء: فهو لا ينتهي أبداً؛ إلا بموت الفرد؛ فهو الحُزن الشّديد منذ فقدان يوسف إلى فقدان أخيه، هذه السّنين الطّويلة، سبَّب له ابيضاضاً في العين، وضعفاً، أو فقدان البصر، وسببه كما نسمِّيه (كتاركت).

{فَهُوَ كَظِيمٌ} : حزين ساكت ممتلئٌ غيظاً، وحزناً، وغماً، ولا يظهر غيظه، ولا كربته لأحد من النّاس، ولكنه من شدة الغيظ يريد أن ينفجر، ويشتكي ويخبر بحاله. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (134)؛ لمزيد من البيان.

ص: 32

سورة يوسف [12: 85]

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} :

{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} : قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب:

{تَاللَّهِ} : تاء القسم، وتحمل معنى التّعجب من تدهور حالته الصّحية بسبب غياب يوسف.

{تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} : حذفت منها لا النّافية من جواب القسم، وأصلها تالله لا تفتأ تذكر يوسف؛ أيْ: لا تنسى تذكر يوسف، أو لا تزال تذكر يوسف، أو لا تنطفئ نارك، أو تسكن عن ذكر يوسف، أو نقسم بالله أنّك لا تنسى تذكر يوسف، أو تسكن؛ أيْ: تتوقف، أو تكفُّ عن ذكره ليلاً، ونهاراً، ونار يوسف في جوانحك لا تنطفئ، ولا تهدأ. إذن تفتؤا من معانيها: لا تنسى، أو لا تسكن، أو تهدأ نارك على فراق يوسف، وحذف حرف النفي (لا)؛ لأن أمر الحرص أو الهلاك غير مؤكد مقارنة بقوله:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]؛ ارجع إلى تلك الآية للمقارنة.

وكذلك من معانيها: {تَفْتَؤُا} : من فتأ، وفتئ؛ أيْ: زال وتحول؛ أيْ: ما زالت تداوم على ذكر يوسف.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{تَكُونَ حَرَضًا} : أي: الّذي لا يفعل ما يقول؛ أي: الفاسد عقله كالمجنون، والمخبول، والمشرف على الهلاك (الحرض؛ أي: المرحلة قبل الموت)، وأعراضها اختلال في العقل، أو الحرض: عدم القدرة على النهوض، وقيل: أصل الحرض الفساد في الجسم، أو العقل.

{أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} : أو: للتخيير.

{تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} : تموت، وتبلى فعلاً؛ فهم أقسموا على أمر ظنوا أو تصوروا سيحدث وهو أن أباهم حرضاً أو من الهالكين ولم يحدث.

ص: 33

سورة يوسف [12: 86]

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّى} : قال يعقوب:

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة.

{بَثِّى} : البث: هو الحُزن العظيم، والألم النّفسي الشّديد الّذي يصيب المبتلى؛ فلا يصبر عليه حتّى يبثَّه للناس، أو لله تعالى؛ أيْ: يخبر النّاس به، وما هو فيه، أو لا يستطيع كتمه أكثر من ذلك، والبثُّ أصله النّشر.

لنعلم أن الحُزن شيء مؤقَّت وسوف يزول عاجلاً، أو آجلاً.

أما الحَزن: فشيء دائم سيستمر حتّى الموت.

فالأسى يتحول إلى حُزن، والحُزن يتحول إلى البث، وهو أعلى درجات الحُزن الّذي لا يطاق؛ مما يدعو صاحبه إلى أن يبثَّه للنّاس ليعلموا بحالته.

وأما الأسف: فهو حُزن مع غضب.

{وَحُزْنِى} : ارجع إلى الآية (84) من نفس السّورة.

{إِلَى اللَّهِ} : وحده.

{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : أنّ الله قادر على كشف الضّر، وقادر على ردّ يوسف وبنيامين إليَّ، وإنّ رؤيا يوسف صدق ولم تتحقق بعد.

ص: 34

سورة يوسف [12: 87]

{يَابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَايْـئَسُوا مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} :

{يَابَنِىَّ اذْهَبُوا} : نداء من يعقوب إلى أولاده فيه حنان، واستعطاف.

{اذْهَبُوا} : ارجعوا إلى مصر.

{فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} : أيْ: تتبعوا، والتمسوا أخبار يوسف، وأخيه، والتّحسس: طلب الخبر بالحاسة، أو طلب معرفة الشّيء بالبحث الدّقيق؛ أيْ: تتبَّعوا أخبارهما، وابحثوا عنهما بشكل دقيق بالسّؤال، والبصر، والسّمع، وبكلّ حاسة.

{مِنْ يُوسُفَ} : من: بعضية؛ أيْ: بعض أخبار يوسف.

{وَأَخِيهِ} : بنيامين، التمسوا أيَّ خبر عنهم.

{وَلَا تَايْـئَسُوا مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ} : ولا: النّاهية.

{تَايْـئَسُوا} : لا تقنطوا، واليأس: هو انقطاع الأمل من العثور على شيء، أو حدوث شيء ما.

{مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ} : من فرج الله، أو رحمته، وأصل الرّوح النّفس؛ يقال: أراح الإنسان تنفس بارتياح بعد انفراج الغم، وزوال الكربة.

{إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ} : إنّه: للتوكيد؛ لا يقنط من فرج الله.

{إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} : إلا: للحصر.

{الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} : الجاحدون بِنِعَمِ اللهِ، وقدرته، ورحمته، والجاهلون، وغير الصابرين، أو القوم الضّالون.

وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (56) من سورة الحجر: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} : الرّحمة هنا: في سياق الولد (الإنجاب)، وجاءت هذه الآية في سياق عقم سارة (امرأة إبراهيم)، وقول الملائكة لإبراهيم:{بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 55-56]؛ فالقنوط: هو أشدّ من اليأس، والقنوط: أخصُّ من اليأس؛ اليأس: أعم يشمل القنوط.

ص: 35

سورة يوسف [12: 88]

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ} :

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} : فلما: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زمان بمعنى: حين دخلوا على العزيز؛ أيْ: أخوهم يوسف للمرة الثّالثة.

{قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ} : يا: أداة نداء، والهاء: للتنبيه.

{مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} : أصابنا الضّر؛ أي: الفقر الشّديد، والجوع، والحاجة، وأصاب أهلنا الضُّرُّ: هو الأذى الّذي تكون له آثار بعيدة، والأذى يتحول إلى ضُرٍّ.

الضُّر: هو أشد من الأذى، ويكون في النّفس، والبدن.

{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} : مزجاة من فعل أزجى الرّباعي؛ بمعنى: مردود لفساده، مُزجاة: اسم مفعول، وزجاه؛ بمعنى: دفع؛ أيْ: جئنا ببضاعة كاسدة لا تصلح للبيع، أو الشّراء لرداءتها، وهذه البضاعة مثل الصّوف، والسّمن، أو دراهم رديئة مزيفة قديمة، فكل تاجر يحاول التّخلُّص منها، ودفعها لغيره.

{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} : أيْ: أتم لنا الكيل، أو زِدْ لنا الكيل، ولا تعاملنا بما تساوي بضاعتنا من قيمة، وسامحنا على رداءتها، وتصدَّق علينا؛ أيْ: وتفضَّلْ علينا.

{إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ} : إنّ: للتوكيد.

{يَجْزِى} : من الجزاء: وهو أعم من الأجر، والجزاء: يكون وفقاً للعمل مقابل العمل الصّالح، أو السيِّئ، ويستخدم في النّفع، والضّرر.

{الْمُتَصَدِّقِينَ} : مقارنة بالمصدقين: المصدقون: فيها مبالغة أكثر في إعطاء الصّدقات؛ فهم قالوا: المتصدقين: أيْ: لم يطلبوا الكثير من الصّدقة؛ أيْ: هم يقبلون أيَّ شيء يعطيهم.

ص: 36

سورة يوسف [12: 89]

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} :

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} : قال يوسف: هل علمتم.

{هَلْ} : استفهام فيه معنى التّوبيخ، والتّقريع، والتّهويل. اختلف المفسرون في السّبب الّذي دفع يوسف عليه السلام لهذا القول، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما حين سألهم يوسف: هل علمتم ما فعلتم بيوسف، وأخيه إذ أنتم جاهلون: رفع التّاج عن رأسه، فعرفوه من الشّامة الّتي كانت على صدغه، وكان ليعقوب مثلها، وهناك من قال: ابتسم يوسف، ولما ابتسم ظهرت ثناياه، وكانت علامة فارقة له؛ مما دفع إخوة يوسف إلى تذكُّره، وقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف: أيْ: ما أعظم ما ارتكبتم بحقِّ يوسف وأخيه.

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.

{أَنتُمْ جَاهِلُونَ} : بسبب طيشكم، وسفهكم، وجاهلون بعاقبة أمركم، وآثار ما قمتم به، ومجيء هذا القول في صيغة سؤال قد يدفع المسؤول في التّحقق من هوية وشخصية المتحدث، وقيل: ما أحلم يوسف عليه السلام ؛ إذ التمس العذر لهم بما فعلوه فيه، وسمّاه بالجهل. ارجع إلى سورة الزمر آية (64) لبيان معنى الجهل.

ص: 37

سورة يوسف [12: 90]

{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} :

{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} : أيْ: قال إخوة يوسف ليوسف: أإنك لأنت يوسف: استفهام تقريري أكَّدوه بـ (أإنك): بأن، وكذلك باللام في (لأنت): استفهام تقريري مشرب بالتّعجُّب، والفرح بنجاحهم في العثور على يوسف؛ فردَّ عليهم يوسف:

{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى} : قال أنا: للتأكيد، وأضاف كلمة يوسف، وهذا أخي أخرج لهم بنيامين، ولم يقل: أنا هو، وهذا أخي؛ لأنّ القاعدة: الاسم الظّاهر أقوى من الضّمير؛ إذن سؤالهم جاء بالتّوكيد؛ فكان الرّدُّ عليه كذلك بالتّوكيد.

{وَهَذَا أَخِى} : وهذا: الهاء: للتنبيه، وذا اسم إشارة للقرب، وفيه معنى التّعظيم، أو هذا أخي عرفته كما عرفتكم، وأنتم لم تعرفوني حين دخلوا {عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [آية: 58] من نفس السورة.

{قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} : قد: للتحقيق، والتّوكيد، وأدخل أخاه في النّعمة، والمنِّ، من ناحية التّقوى، والأمان، والصّبر.

{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} : إنّه: للتوكيد.

{مَنْ} : استغراقية تشمل كلَّ من يَتَّقِ، ويصبرْ (جمع بين التّقوى والصّبر) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2].

{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : فإن: الفاء: للتوكيد.

{لَا يُضِيعُ} : لا: النّافية.

{أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} : جزاء، أو ثواب المحسنين. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة.

وقدَّم التّقوى على الصّبر؛ لأنّ التّقوى أهم من الصّبر؛ فالصّبر من دون تقوى لا جدوى له، والصّبر يعين على التّقوى.

ص: 38

سورة يوسف [12: 91]

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} :

{قَالُوا تَاللَّهِ} قال إخوة يوسف:

{تَاللَّهِ} : تاء: القسم، وفيها معنى التّعجُّب مما حصل له من علو المنزلة والرّفعة.

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: لزيادة التّوكيد، والتّحقيق.

{آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} : فضّلك، واختارك الله علينا بالنّبوَّة، والملك، والتّمكين، والجمال.

{وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} : وإن المخففة تفيد التّوكيد.

{لَخَاطِئِينَ} : اللام: تزيد التّوكيد في الخطأ فيما قاموا به، ولم يقل: من المخطئين؛ الخاطئ: هو الّذي يعلم الصّواب، ويتعدّاه، والخاطئ: من يرتكب الذّنب عمداً، أمّا المخطئ: هو من لا يعلم الصّواب أصلاً، لا طريقه، ولا مكانه؛ فهو يرتكب الخطأ من دون عمد، أو قصد.

إذن: هم يعترفون بذنبهم، وأنهم ارتكبوه عمداً؛ حيث ألقَوا يوسف في غيابة الجبِّ.

ص: 39

سورة يوسف [12: 92]

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} :

{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} : قال يوسف لإخوته:

{لَا} : النّافية للجنس.

{تَثْرِيبَ} : عتاب، أو لوم.

{عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} : أيْ: بعد اليوم، والتّثريب: اللوم العنيف مأخوذ من الثّرب: وهو الدّهن الكثيف، وهو الغطاء الشحمي الواقع تحت جدار البطن يغطي الأمعاء؛ أيْ: مع أنّكم تستحقون أن تلاموا على ما فعلتم بي لوماً عنيفاً يذيب الشّحم الشّديد شحم بطونكم، ولكني أسأل الله أن يغفر لكم.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : أرحم على وزن أفعل، أو أفضل الرّاحمين على الإطلاق؛ أيْ: إن وُجِدَ راحمون؛ فهو أرحمهم؛ فهو من فضله أطلق عليهم راحمين، ولكنه سبحانه هو وحده أرحم الراحمين؛ لأن رحمته لا تزول ودائمة، ومتعلِّقة بذاته بينما رحمة غيره زائلة، وفانية بموت صاحبها.

ص: 40

سورة يوسف [12: 93]

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} :

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا} : طلب من إخوته أن يذهبوا؛ أيْ: يعودوا إلى ديارهم، ويأخذوا معهم قميصه: ثوبه، ولم يقل: ارجعوا بقميصي هذا؛ لأنّ معنى ارجعوا بقميصي: أنّ القميص كان معهم حين قدِموا إلى مصر، ولكي يتجنَّب ذلك الظّن قال اذهبوا.

{فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى} : ولم يقل أبيكم؛ فكأنهم لا يستحقون أن يكون أباً لهم لما فعلوه بأبيهم منذ فقدان يوسف؛ فقد ابيضَّت عيناه من الحزن، وهو كظيم، وأصبح حرضاً، أو من الهالكين، ولذلك قال: وجه أبي.

{يَأْتِ بَصِيرًا} : وعلم ذلك من الوحي الّذي أخبره بالقيام بذلك من باب المعجزة، أو الكرامة ليعقوب، وابنه يوسف عليه السلام ، وأنّ الله أرحم الرّاحمين.

{وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} : أجمعين: تفيد التّوكيد؛ أي: ائْتوني بجميع الأهل من دون استثناء.

ص: 41

سورة يوسف [12: 94]

{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} :

{وَلَمَّا} : الواو: استئنافية؛ لما: ظرف بمعنى: حين؛ متضمِّن معنى: الشّرط.

{فَصَلَتِ الْعِيرُ} : القافلة (الإبل والدّواب المحملة بالطّعام، والزّاد مع أهلها)، وفصلت: تدل على شيء كان ملتصقاً بشيء، ثمّ انفصل، وفصلت العير: خرجت من مصر متجهةً إلى مكان إقامة يعقوب.

{قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} : قال يعقوب: إنّي: للتوكيد.

{لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} : أيْ: أشعر بريح تحمل رائحة يوسف؛ أيْ: هو لا يزال حياً يرزق، وأشم رائحته، الرّائحة المنبعثة من قميص يوسف.

{لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} : لو: حرف شرط.

{أَنْ تُفَنِّدُونِ} : أن: مصدرية تفيد التّعليل، والتّوكيد؛ خاطب يعقوب من حوله من الأهل؛ لأنّ أولاده لا زالوا في طريق العودة. التّفنيد: مرض الخرف، وضعف العقل، وضعف الرّأي بسبب الهرم، وتقدُّم العمر.

{لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} : لولا اتِّهامكم لي بالخرف، والهرم لصدقتموني، والسؤال لماذا لم يشم رائحة يوسف عندما كان يوسف في مصر؟ قيل: لأنّ الرّوائح في المدينة كثيرة، وتختلط مع بعضها، أو لبعد المسافة أيضاً.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّه كانت المسافة مسيرة ثماني ليال بين القميص، ويعقوب ما يعادل (80 فرسخاً).

ص: 42

سورة يوسف [12: 95]

{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} :

{قَالُوا تَاللَّهِ} : ارجع إلى الآية (73).

أيْ: قال الّذين كانوا مع يعقوب من بقية الأهل:

{إِنَّكَ لَفِى} : لفي: اللام: للتوكيد.

{ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} : ليس ضلال الدّين، والعقيدة، وإنما الضّلال هو الخطأ، وعدم الاهتداء إلى الصواب؛ أيْ: في خطئك القديم في إفراطك في حب يوسف، وكثرة ذكره، والانشغال به، وتوقُّع العثور عليه، والبحث عنه بشكل دائم، والّذين قالوا ذلك ظنوا أنّ يوسف قد مات.

ص: 43

سورة يوسف [12: 96]

{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زماني؛ أيْ: حين متضمِّن معنى الشّرط ألقاه.

{أَنْ} : تشير إلى طول انتظار يعقوب لهذا البشير، وعلمه أنّ يوسف لا زال حياً، ولذلك باعد بين لما وجاء بإدخال أن إشارة إلى استطالة الوقت؛ أيْ: طول الانتظار فمعناها التّراخي في الزّمن؛ كقوله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [العنكبوت: 33]، وكقوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص: 19].

{جَاءَ الْبَشِيرُ} : جاء: تفيد المجيء بمشقة، وصعوبة، بينما أتى: تدل على السّهولة، واليسر.

{الْبَشِيرُ} : قيل: هو الأخ الأكبر؛ أيْ: كبيرهم الّذي قال: لن أبرح الأرض حتّى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي، وقيل: اسمه يهوذا، جاء ومعه قميص يوسف عليه السلام .

{أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ} : ألقاه: الهاء تعود إلى القميص؛ ألقى القميص على وجه أبيه.

{فَارْتَدَّ بَصِيرًا} : الرّدة: العودة إلى الحال الأولى؛ أيْ: رجع يعقوب يبصر، ويرى كما كان قبل فقدان بصره.

فكان قميص يوسف معجزة أولاً بسبب رائحته الّتي سبقت القميص بثماني ليال، وثانياً: حين ألقي القميص على وجه يعقوب ارتد بصيراً.

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : قال يعقوب لأهله، ومن حوله عندها: ألم أقل لكم: إنّي أعلم من الله ما لا تعلمون؛ لأنّه نبي، ويوحى إليه.

الفرق بين يأتي بصيراً، فارتد بصيراً:

يأتي بصيراً: كما ورد في الآية (93) من نفس السّورة.

يأتي إليَّ مع كلِّ أهله إلى مصر وهو مبصر.

أما فارتد بصيراً: رجع يعقوب ذا بصر بعد أن كان أعمى فرجع بصيراً؛ أيْ: رجع إلى ما كان عليه من الإبصار؛ كأن لم يصب بابيضاض العينين.

ففي الآية (93) قال: {فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} ، وفي الآية (96):{فَارْتَدَّ بَصِيرًا} ؛ أي: ارتد بصيراً أولاً، ثمّ يأتي إليَّ بصيراً ثانياً، أو بعد ذلك.

ص: 44

سورة يوسف [12: 97]

{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} :

{قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} : هنا يقرُّ الإخوة بالذّنب، ويعترفون لأبيهم، ويطلبون منه الاستغفار لذنوبهم.

{إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} : استعمل النّون المشددة في إنّا مع أبيهم؛ للتوكيد، بينما مع أخيهم قالوا: وإن كنا لخاطئين. إن: المخففة (التّوكيد أخف).

والّذي يتبادر إلى الذّهن: أنّه كان ينبغي أن يكون التّوكيد أشد لأخيهم؛ لأنّهم أساؤوا إليه، وألقوه في غيابة الجب، وليس لأبيهم، والحقيقة ما قالوه لأبيهم بعد فقدان يوسف، وما حدث له من جرّاء ذلك الحُزن، والأسف، وفقدان بصره، أهم مما حدث ليوسف، وذلك مما دعاهم إلى الاعتذار، والاعتراف بالخطيئة لأبيهم، والتّوكيد الشّديد له، مقارنة بالتّوكيد الخفيف لأخيهم.

ص: 45

سورة يوسف [12: 98]

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} : قال أبوهم يعقوب: سوف، ولم يقل سأستغفر لكم ربي؛ لأن السين تدل على الزّمن القريب، ولأن سوف: حرف استقبال تدل على البعد، والتّراخي في الزّمن؛ أيْ: بعد زمن، أو في المستقبل سوف أستغفر لكم ربي، ولكن ليس الآن، ولكن في المستقبل؛ تعني: أن يعقوب يريد أن يؤجِّل مسألة الاستغفار لهم؛ لكي يسأل ربَّه أن يغفر لهم على ما فعلوه من ذنب فيما بعد، وليس حين سألوه، والحكمة في ذلك: كي يندموا على ما فعلوا، ويشعروا بالذّنب، ويتوبوا توبة نصوحاً، وتدل على عمق الأثر الّذي في نفسه مما فعلوا به وبيوسف.

{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : إنّه: للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد زيادة التّوكيد أيضاً.

{الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : كلاهما صيغة مبالغة تدلان على كثرة المغفرة، والرحمة. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (129)؛ للبيان.

لنقارن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [آية: 91]، مع قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [آية: 97]:

قالوا ليوسف: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} : استعمل إن: المخففة؛ تدل على توكيد خفيف.

وقالوا لأبيهم: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} : استعمل: إنّا: المشددة؛ لأنّ إساءتهم إلى أبيهم كانت أشد؛ حيث أصيب بالحُزن، والعمى، واللوعة على فقدان يوسف، وأخيه لسنين طويلة؛ أما إساءتهم مع يوسف كانت لا تقارن مع إساءتهم لأبيهم؛ نعم فعلوا ما فعلوا بيوسف، ولكن أصبح عزيزاً، وعلى خزائن الأرض، ولذلك قال لهم أبوهم: سوف أستغفر لكم ربي. وقال لهم يوسف: لا تثريب عليكم اليوم.

ص: 46

سورة يوسف [12: 99]

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} : أيْ: أباه، وخالته؛ لأنّ أمّه قد ماتت من قبل، ولم يقل: والديه، وفي هذا إكرام لخالته التي هي بمنزل أمه، رغم أن والده هو يعقوب فهو غلب خالته على أبيه بالذكر.

{آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} : قد تعني: لما خرج لاستقبال أبويه خارج المدينة أركب معه أبواه في عربته، أو مركبته، أو أنزل أبواه عنده في بيته، وقدَّم كلمة إليه: للدلالة على الحصر؛ أيْ: لا يريد منهما إلا أن ينزلا عنده في بيته، ولم يقل: آوى أبويه إليه.

أوى إليه أبويه:

1 -

ضمَّهما إلى موكبه حين خرج إلى استقبالهما.

2 -

أو أنزلهما في مسكنه وبيته.

{وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ} : بعد أن قال: دخلوا على يوسف، إذن هناك دخولان: دخول الاستقبال، وكان الأول خارج المدينة، والدّخول الثّاني عند دخول بيته، أو دخول واحد، وقال ذلك للتّرحيب بهم مرة أخرى، والخطاب موجَّه إلى أبويه، والعائلة معاً.

{إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} : إن: للتوكيد.

{شَاءَ} : المشيئة تسبق الإرادة، وقدَّم المشيئة على آمنين؛ للاهتمام؛ لأنّ مشيئة الله أهم من الأمن، ولا يتحقَّق الأمن إلا بمشيئة الله تعالى.

ص: 47

سورة يوسف [12: 100]

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} :

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} : أجلسهما على العرش.

{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} : له: هاء الضمير، قيل: تعود إلى يوسف؛ أيْ: خروا ليوسف (أيْ: أبواه وإخوته) سجَّداً؛ سجود تحية، أو شكر، لا سجود عبادة؛ كالانحناء، وكان ذلك جائزاً في شرعهم.

وقيل: هاء الضمير تعود إلى الله سبحانه؛ أي: الكل خرُّوا لله سجَّداً؛ سجود شكر، سجود عبادة.

{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا} : وقال يوسف لأبيه:

{يَاأَبَتِ} : يا: أداة نداء، والتّصغير في (يا أبت): فيها شعور بالحنان، والعطف.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة يشير إلى ما يحدث الآن من سجود هو:

{تَأْوِيلُ} : تفسير، أو تعبير رؤياه من قبل حين كان طفلاً، وحين رأى أحد عشر كوكباً، والشّمس والقمر رأيتهم لي ساجدين.

{مِنْ قَبْلُ} : وضم قبلُ يدل على زمن معلوم، ومقصود؛ أيْ: حين رأى أحد عشر كوكباً، ولو كسر قبل، وقال: من قبلِ: تدل على زمن غير محدد، أو واضح، ومعلوم.

{قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا} : قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{جَعَلَهَا} : أي: الرّؤيا.

{حَقًّا} : رؤيا صادقة، وحقاً من الحق، وهو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير.

{وَقَدْ أَحْسَنَ بِى} : قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{بِى} : الباء: للإلصاق؛ أيْ: بي خاصة؛ أيْ: إحسانٌ خاصٌّ بي؛ إذ أخرجني من البئر، ومن السّجن، وجعلني على خزائن الأرض.

وهناك فرق بين أحسن بي، وأحسن إليَّ:

أحسن إليَّ: تعني: إحسان عام يصيب كلَّ عبد، أو يشترك به كلُّ عبد.

أمّا قوله: أحسن بي: أيْ: إحسان خاص.

{أَحْسَنَ} : أيْ: أنعم وفضَّل عليَّ.

{إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ} : إذ: ظرف للزمن الماضي.

{أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ} : ولم يذكر إخراجه من الجب؛ لئلا يُشعر إخوته بالخجل، والنّدم، ويذكرهم بإساءتهم إليه؛ لأنّه خرج من الجب إلى الرّق، والعبودية، والبيع، فلم يذكر ذلك، بينما خرج من السّجن، وأصبح العزيز، والحفيظ على خزائن الأرض (مصر).

أو قيل: لم يذكر الجب؛ لأنّ السّجن والجب يمثلان مكان غير مستحب، أو الجب كان يمثل السّجن، فذكر أحدهما يكفي عن الآخر.

{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} : جاء: كلمة جاء تحمل معن الجهد، والمشقة، والصّعوبة؛ أيْ: جاء بكم بصعوبة.

{مِنَ الْبَدْوِ} : يعني: البادية، والاسم البدو: مشتق من البُدوِّ: وهو الظّهور، ويرى أنّهم كان ينتقلون في أرض كنعان، وكانوا أهل وأصحاب مواشٍ ينتقلون حيث الماء، والمرعى.

{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} : من: ابتدائية.

{بَعْدِ} : ظرفية زمانية، ومكانية.

{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{نَزَغَ} : أفسد الشّيطان بيني وبين إخوتي، وأصل النّزغ هو النّخس نخس الدّابة؛ لحثِّها على الجري، والسّرعة، وجاءت هنا بمعنى الإفساد والخصومة بينه وبين إخوته؛ فقد حاولوا قتله وهم قد أغروا به، ولم يقل بعد أن وسوس الشيطان؛ الوسوسة: أعم من النزع، والنزع: حالة خاصة من الوسوسة، والوسوسة في الأصل تكون بالصوت الخفي، وقد تكون أحياناً بالصوت المسموع.

{إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} : إنّ ربي: إنّ: للتوكيد.

{رَبِّى} : الخالق، المدبر، الرّزاق، اللطيف: أحاط علمه بالأسرار، والبواطن، والخفايا.

{لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} : لا يوجد شيء مستور عنه مهما لطف، ودق، وصغر، ولا تخفى عليه خافية، ولا يعوقه شيء؛ فهو خبير بمواقع الأشياء، والشّيء حين يرق ويصغر؛ أيْ: يلطف.

لطيف لما يشاء بعباده: يُحسن إليهم، ويكرمهم، ويعطيهم، ورؤوف رحيم بهم.

{لِمَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي؛ أيْ: لطيف للذي يشاء.

{إِنَّهُ} : إن: للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} : ارجع إلى الآية (6) من نفس السّورة.

ص: 48

سورة يوسف [12: 101]

{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِىِّ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} :

{رَبِّ} : نداء من دون ياء، ولم يقل: يا رب؛ لأنّ الرّب أقرب إلى عبده من حبل الوريد.

{قَدْ آتَيْتَنِى} : قد: للتوكيد، والتّحقيق.

{آتَيْتَنِى} : من الإيتاء: وهو العطاء مع إمكانية استرداد الشّيء المعطى. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ لمعرفة الفرق بينهما زيادة الياء تدل على العطاء الوافر من النسوة والملك وتأويل الأحاديث.

{مِنَ الْمُلْكِ} : من: ابتدائية بعضية؛ أيْ: بعض الملك، وهو مُلك مصر؛ أي: الحكم.

{وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} : من: للتبعيض أيضاً من بعض تأويل الأحاديث، وليس كلَّ الأحاديث، وهي تعبير الرّؤيا، وقد تشمل بعض الآيات، والأحكام الربانية. والتأويل تعريفه: هو نقل ظاهر اللفظ إلى معنى آخر، أو دلالة أخرى لسبب من الأسباب، ولم يقل علمتني من تفسير الأحاديث؛ التفسير تعريفه بشكل عام: هو كشف المراد؛ أي: المعنى، أو كشف المفردات الغير واضحة.

{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فيها معنى الخلق؛ أي: الشّق؛ أيْ: شق عنه فظهر، أو الفتق كانتا رتقاً ففتقناهما؛ أي: إظهار الخلق للوجود، أو الإظهار بالإخراج إلى الوجود، والشق: التّفطر؛ مثل: تفطُّر الشّجر إذا تشقق بالورق، وفطر الله الخلق؛ أيْ: أظهرهم بإيجاده إياهم.

{أَنْتَ وَلِىِّ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} : الولي: المعين، والنّاصر، والحفيظ، والمتولِّي أمري؛ أي: المنعم عليَّ فلا أحتاج إلى أحد غيرك في الدّنيا والآخرة.

{تَوَفَّنِى مُسْلِمًا} : مسلماً موحِّداً، ومخلِصاً على دِين الإسلام؛ بعيداً عن الشرك، وعلى أعلى درجات الإيمان.

{وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} : من الأنبياء، وغيرهم من الصّالحين، الصّديقين، والشّهداء؛ أي: اجعلني في زمرة الصّالحين. ارجع إلى سورة البقرة، آية (130)؛ لمزيد من البيان.

ص: 49

سورة يوسف [12: 102]

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} :

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد، وذلك هنا تفيد القلة، وتستعمل تلك لكثرة الأنباء أو تعدد القصص، وذلك لقلة الأنباء، أو القصص، ففي سورة يوسف ذكرت قصة يوسف فقط، وأما في سورة هود مثلاً ذكرت قصص كثيرة: قصة نوح، وعاد، وثمود، وإبراهيم، ولوط، وفرعون، ولذلك قال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [هود: 49].

{مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} : من: ابتدائية؛ تفيد التّبعيض؛ أيْ: بعض أنباء الغيب (أنباء) الأخبار المهمة العظيمة المتعلِّقة بيوسف، ويعقوب.

{الْغَيْبِ} : ما غاب عن العباد، واستتر.

{نُوحِيهِ إِلَيْكَ} : نخبرك به عن طريق الوحي، والوحي: هو إعلام بالخفاء؛ أيْ: ذلك من أنباء الغيب؛ لأنّك لم تحضر بني يعقوب. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لمعرفة معنى الوحي.

{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} : أيْ: حاضراً معهم؛ أيْ: مع إخوة يوسف.

{إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} : إذ: ظرفية للزمن الماضي؛ بمعنى: حين.

{أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} : اتفقوا على أن يُلقوا يوسف في غيابة الجب.

{وَهُمْ يَمْكُرُونَ} : هم: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{يَمْكُرُونَ} : يدبِّرون بالخفاء حيلة التّخلص منه، والمكر به. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (99)؛ لمعرفة معنى المكر.

ص: 50

سورة يوسف [12: 103]

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} :

{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} : ما: النّافية.

{أَكْثَرُ} : أيْ: غالبية النّاس.

{وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} : لو: شرطية.

{حَرَصْتَ} : على هدايتهم، أو رغبت، أو طمعت. وقيل: الحرص: أشد الطمع؛ الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{بِمُؤْمِنِينَ} : الباء: للإلصاق؛ بمؤمنين بالله؛ إيمان عقيدة، وتوحيد.

ص: 51

سورة يوسف [12: 104]

{وَمَا تَسْـئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة؛ ما: النّافية.

{تَسْـئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} : من أجر: من: استغراقية؛ تفيد التّوكيد؛ استغراق النّفي لأخذ أيِّ أجر.

{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} : إن: حرف نفي أشد نفياً من: ما؛ أيْ: ما هو إلا ذكرٌ للعالمين.

{إِلَّا} : أداة استثناء بعد النّفي؛ تعني الحصر؛ أيْ: حصراً، وقصراً هو ذكرٌ للعالمين؛ أي: القرآن هو ذكر؛ لأنّه يُذكِّر كلَّ مؤمن بالله تعالى، ويمنع من الغفلة، والعزوب؛ أي: النسيان.

وإذا قارنا هذه الآية مع آية الأنعام (90): {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

ذكر: فيه معنى الشّرف، والرّفعة.

وذكرى: من تذكر.

ذكرٌ: أقوى من ذكرى؛ فذكرٌ: جاء في سياق آيات يوسف الّتي جاءت في سياق الدّعوة، والتّبليغ، والهداية؛ حيث يقول الحق:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} .

وإذا قارنا هذه الآية (104): {وَمَا تَسْـئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ، والآية (90) من سورة الأنعام:{قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} : نجد أنّ قوله تعالى: {عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} : آكد وأبلغ في النّفي من قوله: {عَلَيْهِ أَجْرًا} .

ص: 52

سورة يوسف [12: 105]

{وَكَأَيِّنْ مِّنْ آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} :

{وَكَأَيِّنْ} : مركبة من كاف التّشبيه، وأيٍّ المنونة، وصارت كلمة واحدة؛ بمعنى: كم: الخبرية المفيدة للتكثير، ولمقارنة كأين، ويكأن: ارجع إلى سورة الحج، آية (45).

{مِّنْ آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : من: ابتدائية، أو التّبعيض، آية كونية تدل على وحدانية الله، وأنّه هو الخالق؛ كالجبال، والأنهار، والبحار، والشّمس، والقمر، والكواكب، والنّجوم.

{يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} : يشاهدونها.

{وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} : صيغة المضارع؛ لتدل على التّجدُّد، والتّكرار؛ للمرور. هم: ضمير منفصل يفيد التّوكيد.

{مُعْرِضُونَ} : صفة اسمية تدل على ثبوت إعراضهم، واستمرارهم عليه.

{مُعْرِضُونَ} : لا يتعظون بها، ولا يفكرون بها، ولا ينتفعون بها، ولا تهديهم إلى الخالق، وكيف يمرون على آية في السّموات والأرض قد يكون بوسائل النّقل الحديثة؛ مثل: المركبات الفضائية، والطّائرات، والسّيارات

وغيرها؛ يمرُّون عليها في أسفارهم، وتنقُّلهم من مكان إلى آخر أو يشاهدونها.

ص: 53

سورة يوسف [12: 106]

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة؛ ما: حرف نفي.

{يُؤْمِنُ} : أيْ: ما يقرُّ، ويصدِّق بعبادة الله إلا هو مشرك في نفس الوقت.

{أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ} : أكثرهم: أهل مكة، وغيرهم.

{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق.

{إِلَّا وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} : إلا: تفيد الحصر.

{وَهُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.

{مُّشْرِكُونَ} : جمع مشرك: مشركون جملة اسمية تدل على ثبوت الشّرك فيهم؛ سواء أكان باتخاذ الآلهة، أو الولد، أو البنت، أو الشّريك، أو النّد، والمثيل، والطاغوت.

ص: 54

سورة يوسف [12: 107]

{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :

{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ} : الهمزة: للاستفهام، والإنكار، والتّعجب.

{أَنْ} : مصدرية؛ للتعليل، والتّوكيد؛ تأتيهم.

{غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ} : عقوبة، صاعقة، قارعة، صيحة، زلزلة؛ سمِّيت غاشية: لأنّها تعمُّ، وتغطِّي الجميع؛ تغشاهم: تصيبهم، تشملهم جميعاً من عذاب الله.

{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : أو: للتخيير، هذه أو تلك تأتيهم السّاعة بغتة؛ أيْ: فجأة، والسّاعة تعني: ساعة تهدم النّظام الكوني الحالي.

{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : توكيد لبغتة بوقت إتيانها، أو قيامها.

ص: 55

سورة يوسف [12: 108]

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

{قُلْ هَذِهِ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: هذه: الهاء للتنبيه؛ ذه: اسم إشارة للقرب.

{سَبِيلِى} : سنتي، وشريعتي، صراطي، منهجي.

{أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} : أدعو إلى الإيمان بالله، والإسلام، والتّوحيد، ولا إله إلا الله.

{عَلَى بَصِيرَةٍ} : على: تفيد العلو، والمشقة.

{بَصِيرَةٍ} : حُجَّة بالغة واضحة، ويقين.

{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} : أنا: للتوكيد.

{وَمَنِ} : ابتدائية استغراقية.

{اتَّبَعَنِى} : آمن بالله، وصدَّق بي، وبرسالتي، أو سنتي؛ أيْ: أنا ومن اتبعني على حُجَّة بالغة واضحة ندعو بها إلى دين الله.

في هذه الآية (108) من سورة يوسف: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} ، وفي الآية (20) من سورة آل عمران:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} .

ما هو الفرق بين اتبعن، واتبعني؟

اتبعن: هؤلاء قلة من الاتباع الذين أسلموا وجوهُهُم لله من المسلمين.

اتبعني: هؤلاء الدّعاة إلى الإسلام، والتّوحيد، وهم كثرة يدعون على بصيرة، وعلم، مقارنة بالذين أسلموا وجوههم لله، ولذلك أضاف لهم الياء زيادة المبنى تدلُّ على زيادة المعنى.

في سورة الأنعام، الآية (153):{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

في سورة يوسف الآية (108): {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

في سورة النّساء، الآية (115):{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .

فقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا} : أيْ: دين الله الإسلام هو ديني.

وقوله تعالى: {هَذِهِ سَبِيلِى} : أيْ: سنتي، سنة الله؛ هذه سنتي.

وقوله تعالى: {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} : سنة الإجماع؛ هذا سبيل المؤمنين.

{وَسُبْحَانَ اللَّهِ} : وأنزِّه الله تعالى من كلِّ عيب، ونقص، وشريك، وندٍّ، ومثيل، وولد، وبنت في ذاته، وأسمائه، وصفاته. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (1)؛ لمزيد من البيان.

{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : ما: النّافية.

{أَنَا} : ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.

{مِنَ} : ابتدائية.

{الْمُشْرِكِينَ} : وأنا بريء من جميع المشركين.

ص: 56

سورة يوسف [12: 109]

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

هذا ردٌّ على قولهم؛ لأنّهم كانوا يقولون: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14].

{وَمَا أَرْسَلْنَا} : ما: النّافية.

{أَرْسَلْنَا} : ولم يقل: بعثنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة.

{مِنْ قَبْلِكَ} : من: ابتدائية؛ أيْ: ابتداء الغاية في الزّمن الّذي سبق قدومك؛ أي: قبلك مباشرة بدون فاصل زمني مقارنة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء: 7]؛ قبلك: تحتمل الزمن القريب أو البعيد.

{إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِم} : إلا: حصراً.

{رِجَالًا} : وليس فيهم امرأة.

{نُّوحِى إِلَيْهِم} : بالوحي، وهو الإعلام بالخفاء بإرسال رسول، أو الإلهام، أو التّكليم من وراء حجاب. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان.

{مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} : أيْ: ليس من أهل البوادي، والأعراب.

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : أفلم: الهمزة: للاستفهام، والفاء: للتوكيد، لم: النّافية، وفاء السببية مقارنة بالواو كقوله أولم يسيروا الواو: لمطلق الجمع.

{فَيَنظُرُوا} : الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب.

{كَيْفَ كَانَ} : كيف: للاستفهام، والتّحذير.

{كَانَ عَاقِبَةُ} : حين يذكَّر العاقبة ويقول كان عاقبة؛ يعني: العذاب؛ أيْ: كيف كان عذاب الّذين من قبلهم، وحين يؤنِّث العاقبة فيقول كيف كانت عاقبة؛ تعني: الجنة؛ من خصائص القرآن.

{عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من: ابتدائية.

{عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من زمن قريب، وفيها تهديد، ووعيد أكبر مقارنة بقوله: قبلهم؛ أيْ: تعني إهلاك الأقوام التي جاءت قبلهم منذ زمن قريب؛ فيه تهديد أكبر من إهلاك البعيد، ويأتي بحرف من.

{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} : الجنة، واللام: لام الاختصاص.

{خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} : خير من الدّنيا.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} : أدّوا أوامر الله، وتجنَّبوا نواهيه، واللام: لام الاختصاص.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتوبيخ على عدم التّعقل (الفهم)، وتعجُّب من ترك التّفكير، وألا: أداة تنبيه، وحضٍّ، وتحمل معنى الأمر.

{تَعْقِلُونَ} : أن تفهمون ما يتلى عليكم، وما توعظون به، والخطاب موجَّه إلى المشركين، والمكذبين بآيات الله.

ص: 57

سورة يوسف [12: 110]

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} :

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ} : حتّى: حرف غاية نهاية الغاية.

{إِذَا} : ظرف زمان للمستقبل.

{اسْتَيْـئَسَ الرُّسُلُ} : من يأس، واستيئس: فيها مبالغة وشدة في اليأس على وزن استفعل، ولكن لم يصل إلى درجة انقطاع الأمل كاملاً من عدم إيمان أقوامهم، وتصديقهم لهم، وتسرب اليأس إليهم، ولكن الأمل لم ينقطع، ولا زالوا عندهم أمل؛ فالمؤمن سواء أكان رسولاً، أم غيره لا ينقطع أمله أبداً، وما يتسرب إليهم من اليأس أمر عارض مؤقَّت؛ لقوله تعالى:{إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

أما لو قال: حتّى إذا يئس الرّسل: فهذا يدلُّ على انقطاع الأمل كاملاً، وهذا غير معقول أن يحدث من أيِّ رسول بعثه الله، أو اختاره لرسالة.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} : لأنّ نصر الله لم يأتهم بالسّرعة الّتي أرادوها؛ مما أدى إلى تسرب اليأس إلى قلوبهم وظنوا لن يؤمن بهم أحد، أو خافوا أن يكذبهم الغير، أو ظنَّ الأتباع، والقوم أنّ الله ليس مع هذا الرّسول، ولم يؤيِّده، وفرحوا بذلك.

{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَنْ نَشَاءُ} : فنجي: الفاء: تدلُّ على التّرتيب، والمباشرة.

{مَنْ} : استغراقية؛ تشمل كلَّ الرّسل الّذين آمنوا.

{فَنُجِّىَ مَنْ نَشَاءُ} : عند نزول العذاب؛ فنجي من نشاء؛ أيْ: كلّ الرّسل، والّذين آمنوا.

{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} : لا: النّافية.

{يُرَدُّ بَأْسُنَا} : عذابنا لا يردُّ: لا يستطيع أحد أن يمنع وقوع عذابنا، أو دفعه، أو تحويله، أو تغييره.

{عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} : المجرمين: الكافرين، المشركين، والعاصين الّذين لم يتوبوا، وأصبحت صفة الإجرام عندهم ثابتة. ارجع إلى سورة هود، آية (116)؛ لمزيد في معنى: المجرمين، وسورة الجاثية آية (31).

ص: 58

سورة يوسف [12: 111]

{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} : اللام: لام التّوكيد؛ قد: للتحقيق.

{كَانَ فِى} : ظرفية.

{قَصَصِهِمْ} : من القصص: قصَّ تتبَّع الأثر بلا زيادة، أو نقصان. ارجع إلى الآية (3) من نفس السّورة.

{عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ} : عبرة: مشتقة من عبور النّهر، الانتقال من شاطئ إلى شاطئ؛ أيْ: تذكرة وعظة، أو الدلالة التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم.

{لِّأُولِى الْأَلْبَابِ} : الصّفوة من المؤمنين ذوي العقول النيّرة.

{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} : ما: النّافية لكلّ الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ ما كان القرآن حديثاً يُفترى: الحديث هو الخبر قليله وكثيره؛ القرآن ليس أخبار كاذبة مختلَقة.

{وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} : ولكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{تَصْدِيقَ} : تصديقاً مؤيداً مطابقاً لكلِّ ما جاء في الكتب السّماوية السّابقة من الأصول الصحيحة.

{وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} : تفصيلاً لكلّ ما يحتاجه البشر من الشّرائع، والأحكام، وأمور الدِّين، والحلال، والحرام، والأمر، والنّهي في حياتهم الدنيا ومعيشتهم.

{وَهُدًى} : مصدر هداية، أو هو الهدى، والهادي للحق، والصّراط المستقيم.

{وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : رحمةً يجلب لهم ما يسرُّ، ويدفع عنهم ما يضرُّ، وعلاجاً لمن وقع في المعصية، والوقاية من الشّرِّ، أو الوقوع في المعصية.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : اللام: لام الاختصاص؛ يستفيد منه القوم المؤمنون خاصَّة.

ص: 59

سورة الرعد [13: 1]

سورة الرعد

ترتيبها في القرآن (13)، وفي النّزول (96).

{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{المر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

{تِلْكَ آيَاتُ} : تلك: اسم إشارة؛ يشير إلى علو منزلة الكتاب، والآيات الآتية، أو الّتي سبقتها، أو الكل، وتفيد الكثرة.

{الْكِتَابِ} : أي: القرآن، وسمّي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في الأسطر. ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة، وأل التعريف: تفيد التّعظيم، وتعني: الكتاب التّام.

{وَالَّذِى} : اسم موصول، ويعني: الكتاب.

{أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : أنزل إليك دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلةَ القدر.

{إِلَيْكَ} : ولم يقل عليك، ارجع إلى سورة البقرة، الآية (4)؛ للبيان.

{مِنْ} : من: ابتدائية.

{رَبِّكَ الْحَقُّ} : أي: الخالق، المربي، المدبر، المحيي، المميت، الرزاق؛ أي: القرآن، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل؛ أي: القرآن المحفوظ من التحريف، والتبديل.

وقوله تعالى: {وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : هو عطف العام على الخاص (وهو الآيات).

ولا ننسى نهاية سورة يوسف آية (111) كيف وصف القرآن بقوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

خمس صفات للقرآن، وبدأ سورة الرعد بقوله تعالى:{وَالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} أضاف إلى الخمس صفات صفة أخرى: أنه الحق.

{وَلَكِنَّ} : لكن: حرف استدراك.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} : لا يؤمنون بالله تعالى، ولا بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ كقوله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

ولو نظرنا إلى ترتيب النّزول؛ فقد نزلت سورة يوسف قبل سورة الرعد (انظر في ترتيب النّزول)؛ ففي نهاية سورة يوسف قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وبداية سورة الرعد:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} ؛ انظر التشابه بين نهاية سورة يوسف مع بداية سورة الرعد.

ص: 60

سورة الرعد [13: 2]

{اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} :

وكيف لا يؤمنون بالّذي أنزل إليك الحق؟! والّذي رفع السّموات بغير عمد، والّذي سخر الشّمس، والقمر، والّذي يدبر الأمر، والّذي مد الأرض، وجعل فيها رواسي، وأنهاراً، ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، ويغشي اللّيل النّهار، {فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6].

{اللَّهُ الَّذِى} : الله: اسم علم على واجب الوجود، يتضمن كلّ أسمائه الحسنى، وصفاته العلى.

{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} : أي: مرفوعة بأعمدة؛ حقيقة قوية جداً؛ نحن لا نراها؛ أي: رفع السّموات بعمد، نحن لا نراها بالعيون؛ لكونها خفية. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (10) من سورة لقمان وهي قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ؛ أي: سبحانه خلقها أولاً، ثم رفعها بعد أن خلقها.

{عَمَدٍ} : جمع: عماد، ومفردها: عامود، وهذه الآية كأنّها تتمة للآية (105) من سورة يوسف:{وَكَأَيِّنْ مِّنْ آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ، وفي هذه الآية: رفع السّموات بغير عمد ترونها.

{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} : كلام إخباري.

{تَرَوْنَهَا} : الهاء: تعود إلى العمد؛ فهو سبحانه رفع السّموات بعمد، وهذه العمد مختفية لا نراها، وتمثل القوى الأربع، وهي:

1 -

القوة النّووية الشّديدة أقوى القوى.

2 -

القوة النّووية الضّعيفة.

3 -

القوة الكهربائية المغناطيسية (الكهرومغناطيسية).

4 -

قوة الجاذبية، وهي أضعف القوى المعروفة.

ويجب أن نفرق بين قوة الجاذبية (قوة الجذب للمادة الدّاخلة في تركيب جسم ما (موجات الجاذبية الداخلية) الّتي تتبادل الجذب مع جسم آخر (موجات الجاذبية الخارجية).

فهناك قانونان كقانون الجاذبية: الّذي يشد، أو يربط النّجم الأصغر إلى الأكبر، وقانون الطرد المركزي: الّذي يدفع الجرم الأصغر من الأكبر، وعندما تتساوى قوى الطرد المركزي مع قوى الجاذبية: تتحدد المسافة بينهما، وتظل ثابتة إلا بأمر من الله تعالى.

{السَّمَاوَاتِ} : تعني: السّموات السّبع، وكلمة السّماء: اسم جنس يشمل السّموات السّبع؛ تضم السّموات، وهذه القوى الجاذبية المختلفة بين المجرات، والكواكب، والنّجوم، والشّموس تبقى ثابتة لا تتغير رغم كونها مختلفة؛ فالكون يبقى مستقراً بفضل هذه القوى، ولا ينحرف، وهو بناء دقيق متماسك، وليس فراغاً، كما كان يُظن قديماً.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ارجع إلى الآية (3) من سورة يونس.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : سخر الله الشّمس، والقمر سخرها حين خلقها، ودائماً في القرآن يقول: سخر بالفعل الماضي؛ لأنّ التّسخير، تمَّ سابقاً في مرة واحدة.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : تعني: ذلل الشّمس والقمر؛ ليؤديا مهمتهما، ولا اختيار لهما؛ فالشّمس، والقمر كلٌ في فلك يسبحون في المجرة الشّمسية، فهذه المخلوقات خُيرت من قبل فاختارت أن تكون مسخرة، وعندما يقول: سخر لكم، يأتي ذلك في سياق تعداد النّعم، وعندما لا يذكر: لكم، تكون في سياق الكلام عن مطلق قدرة الله تعالى.

{كُلٌّ يَجْرِى} : كلّ: من الشّمس، والقمر. فالشمس تجري حول مركز المجرة، وتجري بحركة مدارية، وتجري في الفضاء نحو نجم النسر، والقمر يجري حول الأرض وحول محوره.

{يَجْرِى} : مشتقة من جري الحصان، أو تجري كجري الأمواج صعوداً، وهبوطاً؛ أي: بشكل متعرج؛ تجري لمستقر لها: فسره العلماء قديماً: هو تحت عرش الرّحمن.

والتّفسير العلمي: تجري إلى ما يسمّى نقطة القمة الشّمسية؛ تجري بزاوية تميل (10 درجات) جنوب غرب نجم النّسر، والشّمس، والقمر، والأرض، والكواكب، والنّجوم: الكلّ يجري في المجرة، فالشمس تتم دورة كاملة حول مركز المجرة في (250 مليون سنة)، وتتم هزة كاملة من الأعلى إلى الأسفل في (60 مليون سنة).

{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : لأجلٍ: اللام: تفيد الانتهاء والاختصاص، أو بيان العلة (التعليل) يجري لبلوغ النهاية، والأجل المضروب للشمس والقمر وهو يوم القيامة هذا يدل على أنّ التّسخير سوف ينتهي، وينقطع، والتّسخير الحاصل من النّعم الدّائمة علينا، والأجل: هو يوم القيامة، عندها تكون الشّمس قد استنفدت وقودها، ولم تعد مشتعلة، وتسكن، وتخمد، وتنطفئ؛ أي: تفقد إشعاعها، وتصبح بلا ضوء، وعندها ينطبق عليها قوله تعالى:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} .

أمّا قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : أي: تجري الآن إلى يوم القيامة؛ حتّى تنقضي مدة أجلها، والأجل: الوقت المضروب لانقضاء الشّيء الّذي حدده لها ربنا، وعندها تُبدل الأرض غير الأرض والسّموات. ارجع إلى سورة لقمان، الآية (29)؛ لمزيد من البيان.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} : أي: يصرف أمر ملكوته، وكونه، وخلقه كيف يشاء.

{يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} : أي: يأتي بالآيات بأساليب متعددة، ومواضيع مختلفة.

{لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} : لعلكم: لعل: للتعليل؛ بالنظر في هذه الآيات الكونية الدّالة على عظمة الخالق، وقدرته، وكونها مسخرة من أجلكم.

{بِلِقَاءِ} : الباء: للإلصاق، والاهتمام.

{تُوقِنُونَ} : اليقين: هو العلم بالحق، والعلم بأن ليس هناك غيره؛ توقنون بكمال قدرته على البعث، والحساب يوم القيامة؛ توقنون: من اليقين ومحله في القلب، واليقين درجات:

1 -

علم اليقين.

2 -

عين اليقين.

3 -

حق اليقين؛ أعلاها حق اليقين. ارجع إلى سورة التكاثر، آية (5).

ص: 61

سورة الرعد [13: 3]

{وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر؛ تعود على الله سبحانه.

{الَّذِى مَدَّ الْأَرْضَ} : مد: بسط طولاً وعرضاً؛ أي: مد قشرة الأرض؛ فالأرض كانت مغمورة بالماء كاملاً، ولم تكن هناك يابسة، ثم فجر الله قاع هذه الأرض بالبراكين الّتي ألقت بحممها تدريجياً حتّى ظهرت فوق الماء بشكل جزر تسمى الحافة في وسط المحيط، وبدأت هذه الجزر تتمدد لتشكل القارة الأم الّتي تفتتت بشبكة من الصدوع إلى قارات، ثم بدأت القارات تتباعد حتّى وصلت إلى أماكنها الحالية.

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} : أي: أرسى الجبال في الأرض.

{رَوَاسِىَ} : لا تعني فقط الجبال، بل الصّفائح القارية تحت المحيطات، والطبقات المركزية المكونة للأرض، والمركبة من الحديد، والنّحاس؛ فالرّواسي: تشمل الجبال البارزة فوق سطح الأرض، وتحت سطح الأرض المنغمسة في القشرة الأرضية الصّلبة، وما تحت البحار، والمحيطات، هذا التّوزيع للرواسي على الأرض؛ حتّى لا تميد؛ أي: لا تضطرب، أو تميل، وتبقى في حركة ثابتة ودائمة حول نفسها، وحول الشّمس. ارجع إلى سورة النحل، آية (15).

{وَأَنْهَارًا} : يرتبط تكوُّن الجبال بتكوُّن الأنهار عادة؛ لأنّ الجبال تصد الرياح الحاملة لبخار الماء؛ مما يؤدي إلى تشكل السحب الركامية، ونزول المطر الّذي يسيل إلى أسفل الجبال، ويساعد على تشكل الأنهار. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (32).

{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} : كلمة "زوج" مفرد، والزوجان هما الذّكر والأنثى، والزّوج؛ أي: المثيل، وجعل أي خلق من كل شيء من النبات، والثمرات، والإنسان، والحيوان، وكل مخلوق زوجين؛ ليبقى وحده سبحانه منفرداً بالوحدانية.

{اثْنَيْنِ} : للتوكيد.

{يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ} : يغطي الليل النّهار؛ أي: طبقة الظّلام تغطي طبقة النّهار (الطّبقة الغازية) الّتي تضيء حين تصل إليها أشعة الشّمس حين تدور الأرض حول نفسها في كلّ (24 ساعة) مرة. ارجع إلى سورة يونس، آية (67)؛ لمزيد من البيان.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إنّ: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد.

{لَآيَاتٍ} : اللام: للتوكيد؛ آيات: كونية عظيمة لقوم يتفكرون.

{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص.

{يَتَفَكَّرُونَ} : من التّفكر، وهو النّظر في الدّلائل الدالة على وجود الخالق، والدالة على عظمته، وقدرته، ووحدانيته، وأنّه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد، ويقدس.

ص: 62

سورة الرعد [13: 4]

{وَفِى الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

{وَفِى الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} : أي: في قشرة الأرض.

{قِطَعٌ} : بقاع مختلفة من التّربة. متجاورة: متلاصقة؛ تركيب هذه التُّرب مختلفة؛ منها: ما يصلح للزراعة، ومنها: ما لا يصلح (أجدب)، والخصوبة تختلف من موقع إلى آخر، ومن أرض إلى أرض؛ فهناك تربة حمراء، وتربة سوداء، وتربة رملية.

فقد بدأت قشرة الأرض بصخور تسمى الصخور النارية الّتي تكونت عن طريق تبرد صهارة مندفعة من داخل الأرض بدرجات حرارة عالية جداً، ثم تعرضت هذه الصخور لعوامل التعرية كالمطر، والرياح، واختلاف درجات الحرارة، وعمل الكائنات الحية كلّ ذلك أدّى إلى تفتت الصخور النّارية، وتشكلت منها الصخور الرّسوبية عن طريق ترسب التربة، ثم بعض الصخور النارية والرسوبية انطمرت في أعماق الأرض؛ فكونت صخوراً متحولة ملتحمة بقوة شديدة؛ فهذه الأنواع الثلاثة كونت قشرة الأرض؛ فكلمة قطع متجاورات إشارة إلى تباين القشرة الأرضية المكونة من صخور متباينة في صفاتها المعدنية، والطبيعية، والكيميائية.

{وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ} : جمع جنة، والجنة: هي كالبستان الكثيف بالشجر، والثمر.

{وَزَرْعٌ} : الحب، القمح، والرّز، والشّعير.

{وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} : صنوان: صفة للنخيل؛ صنوان تشير إلى المثنى، والجمع. الصّنو: الفرع الّذي يجمعه مع فرع آخر أصل واحد؛ أي: تخرج نخلتان، أو ثلاث من أصل واحد، أو نخلة لها رأسان، أو أكثر، وقد نرى أربعاً أو خمساً من أصل واحد.

وصنو الشّيء؛ أي: نظيره، أو مثيله، أو شجرة لها فرعان كل فرع صنو للفرع الآخر، ومن شجرة واحدة تخرج ثمار مختلفة الألوان، والطعوم الّتي تشير إلى تباين تربة، وصخور الأرض من مكان إلى مكان آخر.

{وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} : أي: من أصول مختلفة، وصنوان: من أصل واحد.

{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} : أي: رغم أنه يسقى بماء واحد نجدها مختلفة في الثّمر، واللون، والطعم.

{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الْأُكُلِ} : مثل: أنواع التّمر المختلفة في الجودة، والطّعم.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (3).

{يَعْقِلُونَ} : من: عقل الشّيء؛ عرفه بدليله، وفهمه بأسبابه، ونتائجه؛ أي: لا يفهم هذه الآيات إلا من درس وفهم هذه الحقائق بأن الله سبحانه وتعالى أعطى لكلّ بذرة نباتية القدرة على أن تختار أثناء نموها ما يناسبها من عناصر، ومركبات الأرض؛ لتخرج ثمار مختلفة اللون، والطعم.

ص: 63

سورة الرعد [13: 5]

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

{وَإِنْ} : الواو: استئنافية؛ إن: شرطية تفيد الشّك، والنّدرة بالعجب من تكذيب هؤلاء.

{تَعْجَبْ} : الخطاب موجه إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي إلى أمته، تعجب من تكذيب هؤلاء المشركين، أو القول بأنّك ساحر، أو كذاب، أو مجنون، أو غيرها.

{فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} : أي: فأعجب من ذلك قولهم: أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد؟! أي: هم لا ينكرون أن يموتوا، ويتحولوا إلى تراب، وإنما العجب إنكارهم للبعث، والحساب.

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} : والرسول صلى الله عليه وسلم شرح لنا ذلك في حديث؛ قال صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم يبلى إلا عظماً واحداً هو عجب الذَّنَب منه خلق، ومنه يركب يوم القيامة» ؛ فقد تبين من الطب: أن الأكتودرم في الجنين تشكل كثيراً من الأجهزة، وبعد ذلك تنسحب إلى نهاية العمود الفقري بعد أن تشكل العمود الفقري، وتلتحم آخر (3) فقرات، وتشكل عظم عجب الذنب (العصعص)؛ فهو لا يبلى أبداً، وقبل النفخة ـ نفخة البعث ـ ينزل الله سبحانه ماءً من السّماء؛ فينبتون كما ينبت البقل. ارجع إلى سورة الروم، آية (19).

ولمعرفة الفرق بين عجب، عجيب، عُجاب: ارجع إلى سورة ق، آية (2).

{أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب، واستعمال إذا ظرفية زمانية للمستقبل، وتدل على حتمية حدوث الموت، وانقلابهم إلى تراب.

{أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أإنا: استفهام إنكاري مشوب بالتّعجب، والنّفي.

{لَفِى} : اللام: لام التّوكيد.

{خَلْقٍ جَدِيدٍ} : بعد البعث، والموت، والجديد: يدل على أنه كان موجوداً قديماً، ثم تجدد؛ أي: خلقوا من جديد بعد موتهم، بينما الشيء المحدث: هو الشيء الذي لم يكن سابقاً؛ أي: موجوداً ثم وجد.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} : اسم إشارة، واللام: لام البعد. يشير إلى بعد انحطاطهم.

{الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} : جحدوا بربهم وأنكروا وجوده ونعمه، والباء: للإلصاق.

{وَأُولَئِكَ} : انظر في "أولئك" الأولى، وتكرار أولئك؛ للتوكيد اللفظي، وفصل الأغلال عن النّار.

{الْأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ} : الأغلال: جمع غل، وهو القيد من حديد تشد به اليدان إلى العنق؛ فلا يستطيعون الالتفات يمنة، أو يسرة في النّار.

{وَأُولَئِكَ} : انظر: في "أولئك" السّابقة.

{أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : انظر: في الآية (36) من سورة الأعراف؛ للبيان.

ص: 64

سورة الرعد [13: 6]

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} :

المناسبة: بعد أن ذكر إنكارهم للبعث، وتكذيبهم للحساب، والجزاء؛ يذكر صفة أخرى لهم هي: استعجالهم بالعذاب؛ فيقول:

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} : الاستعجال: أن تطلب الشّيء قبل حلول، أو مجيء زمنه، ولكلّ غاية زمن فإذا حاولت أن تصل إليها قبل زمنها؛ فهذا استعجال.

{بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد، والسّيئة هنا: العقوبة، والعذاب، وتعريفها: كلّ ما يسيء للنّفس بشكل عام؛ فهم يستعجلون بالعذاب؛ أي: أن يُنزل عليهم؛ لأنّهم ينكرون وقوعه، ولا يؤمنون بالبعث، ولا بالعذاب في الآخرة، ولا بالرّسل، ولا بجنة، ولا بنار، أو أي: إنذار.

{قَبْلَ الْحَسَنَةِ} : إنّ أي إنسان عاقل يستعجل للحصول على الحسنة أوّلاً؛ فهم؛ لفساد عقولهم، وعدم إيمانهم عكسوا الآية؛ فطلبوا السّيئة قبل الحسنة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمزيد من البيان في معنى الحسنة.

{وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} : قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} : خلت: مضت وسبقت.

{الْمَثُلَاتُ} : العقوبات، جمع مَثُلة: وهي العقوبة الفاضحة الّتي تنزل بالإنسان بسبب جريمته؛ سميت مَثُلة: لكون العقاب يماثل الجريمة، أو العقاب على قدر الجريمة، أو سميت مَثُلة؛ لأنّ صاحب الجريمة بعد عقوبته يصبح عبرة لغيره، فيرتدع الغير به؛ أي: مضت عقوبات أمثالهم من المكذبين، فلماذا لم يرتدعوا ويعتبروا، ويخافوا؟

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} : وإنّ: للتوكيد.

{رَبَّكَ لَذُو} : لذو: اللام: للتوكيد، والتّعليل.

{مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ} : أي: مالك المغفرة، أو القادر على أن يغفر أو لا يغفر؛ أي: يستر ذنوبهم، ولا يعاقبهم عليها؛ يغفر لهم، ويثيبهم على حسناتهم رغم ظلمهم إذا تابوا وأنابوا إليه. وإذا قارنا لذو مغفرة مع قوله تعالى {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] تعني: المستحق لأن يكون صاحب المغفرة.

{عَلَى ظُلْمِهِمْ} : جاء بعلى: للاستعلاء؛ أي: أن ظلمهم يقتضي العقوبة، ولكن رحمة الله ومغفرته بهم أنه يؤخر عنهم العذاب؛ لعلهم يتوبوا وينيبوا إليه.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} : إنّ: للتوكيد.

{لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} : لشديد: اللام: للتوكيد؛ لشديد العقاب: كما هو لذو مغفرة. ولمعرفة معنى العقاب: ارجع إلى سورة البقرة، آية (196).

ص: 65

سورة الرعد [13: 7]

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} :

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا} : لولا: أداة حض، وجاء بالفعل المضارع بدلاً من قالوا؛ ليدل على تكرار قولهم، وتجدده؛ فهم لم يكفُّوا عن مثل هذا السّؤال بعد.

{أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَّبِّهِ} : أي: معجزة للدلالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وصدق ما يُخبر به. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (27) من نفس السورة وقالوا:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : لا يعني هذا تكرار للآية، وإنما هناك اختلاف فالآية (7) يطلبون آية تدل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الآية (27) هم يطلبون؛ أي: آية تهديهم وتدلهم إلى الهداية الخاصة؛ هداية قلوبهم، ولذلك جاء الرد:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} .

{إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} : ليكن هذا هو الرّد على طلبهم.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر، والتّوكيد. أنت فقط منذر، والإنذار: هو الإعلام مع التحذير، وهو الإخبار بشيء يجب القيام به، أو الابتعاد عنه؛ أي: أنت منذر، وليس المسؤول عن الإتيان بالآيات، ولم يقل منذر، ومبشر؛ لأنّ سياق الآيات في الّذين كفروا بالبعث، واستعجلوا العذاب؛ فليس هناك ما يبشرهم به.

{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} : نبيٌّ يهديهم إلى الحق، وإلى ربهم، أو لكلّ قوم هاد، وأنت منذر، وهاد لكلّ قوم؛ يهدي إلى دين الله، والصّراط المستقيم.

{وَلِكُلِّ قَوْمٍ} : اللام: لام الاختصاص، والقوم: الجماعة، أو الأمة، وطلبهم أن يُنزل عليك آية إنما هو للتعجيز، ولو جاءتهم كلّ آية ما كانوا ليؤمنوا بها، ولطلبوا غيرها.

ص: 66

سورة الرعد [13: 8]

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} :

بعد أن ذكر سبحانه إنكار الّذين كفروا للبعث، واستعجالهم بالعذاب، وطلبهم إنزال آية على رسوله صلى الله عليه وسلم، يورد سبحانه الأدلة على أنّ علمه محيط بكلّ شيء؛ فهو يعلم ما يخفون في أنفسهم مثل إنكار البعث، ويعلم بحالهم، وبما طلبوا من استعجال العذاب، وإنزال آية وغيرها؛ فهو يعلم كلّ ذلك، ويعلم كذلك:

{مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي تحمل كلّ أنثى، أو مصدرية: ما تحمل كلّ أنثى ذكراً، أو أنثى، جنيناً واحداً، أو أكثر، وهل الجنين تام النّمو، أو مشوه، والأنثى من كلّ جنس الإنس، والجن، والحيوان، والنبات.

{وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} : بالوضع، والإسقاط، والولادة قبل تسعة أشهر، ونقص وزن الجنين.

{تَغِيضُ} : من غاض؛ أي: نقص؛ أي: تنقص وتحمل سبعة، أو ثمانية أشهر بدلاً من تسعة، أو تسقط، وتشمل كلّ الأرحام.

{وَمَا تَزْدَادُ} : بعدد الأجنة، وزيادة وزن الجنين، وما تزداد بالوضع بعد (تسعة أشهر)، وما تحملُ كلُّ: بالضم، ولم يقل: كلَّ بالفتح؛ لأنّ هناك من الإناث غير حامل؛ أي: متزوجة، أو متزوجة وغير حامل، أو في سن اليأس، أو لم تبلغ سن البلوغ، ولو قال: كلَّ: لكان يعني: كلّ الإناث حوامل.

{وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} : ولم يقل: كلَّ: لو قال: كلَّ: لكان يعني ذلك: أنّ كلّ شيء خلقه في الكون كان بمقدار، مع العلم أنّ هناك أشياء خلقها بغير مقدار، والمقدار يعني: الكم؛ مثل: الوزن، والحجم.

ص: 67

سورة الرعد [13: 9]

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} :

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم: اسم فاعل من علم، لا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السّماء، لا العالم الظّاهر المشهود يغيب عن علمه، ولا العالم الخفي المستتر عن العيون، والحواس، والمدركات؛ فهو أيضاً علام الغيوب؛ يعلم ما يعمله كلّ مخلوق، وما يجري في كونه.

{الْكَبِيرُ} : العظيم الشّأن؛ أكبر من كلّ شيء، وأعظم، وأجَلُّ من كلّ شيء، الّذي يصغر كلّ شيء أمام عظمته وكبريائه، وكلّ شيء بالنّسبة له صغير، وأكبر من أن تدركه العقول، والحواس.

{الْمُتَعَالِ} : علو الذّات، والصّفات؛ المتعالي على عرشه؛ المستعلي على كلّ شيء بقدرته، وسلطانه، وعظمته، وكبريائه؛ المتعالي عن الولد، والشّريك، والنّد، والنّظير؛ علو المكانة، والقدر، والقهر.

ص: 68

سورة الرعد [13: 10]

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} :

{سَوَاءٌ مِنْكُمْ} : أي: عالم الغيب والشهادة؛ يستوي عنده سبحانه من يسرُّ بقوله، أو يجهر، أو يختفي من الناس، أو يظهر.

{مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} : ابتدائية استغراقية تشمل كلّ واحد؛ سواء أسر قوله، وأخفاه، أو جهر به وأعلنه.

{وَمَنْ} : تكرار للتوكيد.

{مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ} : وراء جدر، أو في ظلام، أو متوار عن أعين النّاس.

{مُسْتَخْفٍ} : اسم فاعل من: استخفى على وزن مستفعل؛ أي: مبالغ في الاختفاء.

{وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} : أي: ذاهبٌ في سربه؛ أي: في طريقه، ويراه كلّ واحد، أو ظاهر ماشي في ضوء النّهار، والباء: ظرفية؛ تعني: في النّهار. وتكرار من ثلاث مرات يفيد التّوكيد، وفصل كلّ حالة عن الأخرى.

ص: 69

سورة الرعد [13: 11]

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} :

{لَهُ} : للإنسان؛ اللام: لام الاختصاص، والهاء: تعود للإنسان.

{مُعَقِّبَاتٌ} : ملائكة يتعاقبون عليه بالليل، والنّهار؛ لحراستة، وكتابة أعماله، وحفظه من المضار، ومراقبة أحواله، والتّعقيب: العود بعد البدء، وسميت الملائكة معقبات؛ لأنّهم يعودون عليه المرة بعد الأخرى؛ ملائكة في الليل تعقب ملائكة النّهار، ويسمون الحفظة، وقيل: اثنان بالنّهار، واثنان بالليل. ومعقبات: هذه التّاء ليست تاء التّأنيث، ولكنها تاء المبالغة، وأصلها: مَلَك معقِب.

{مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} : من أمامه، ومن خلفه؛ أي: يحرسونه من أمامه، ومن خلفه.

{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} : يحفظونه: يحرسونه، وقيل: يحفظونه من السّوء، ومن كلّ ما يضر به؛ أي: يحفظونه بأمر صادر من الله سبحانه، وبإذنه.

{مِنْ} : للابتداء، وليس كما يظن البعض يحفظونه من قدر الله، وقضائه، حتّى إذا جاء أمر الله، أو قدر الله وقضاؤه، خلَّوا بينه وبين أمر الله؛ فهم لا يعارضون أمر الله وقدره.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} : إنّ: للتوكيد؛ لا: النّافية للجنس تشمل كلّ الأزمنة.

{لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} : من نعمة، وصحة، وأمن، أو من فقر، ومجاعة، وضنك العيش.

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} : من الكفر، والجحود، والمعاصي، والفساد، أو الإيمان.

{وَإِذَا} : ظرف للزمن المستقبل متضمن معنى الشّرط.

{أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} : مثل العذاب، أو البلاء، أو الهلاك، أو صيحة، أو زلزلة، أو خسف.

{فَلَا} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ لا: نافية للجنس.

{مَرَدَّ لَهُ} : أي: لا يرده، أو يمنع وقوعه أيُّ شيء حتّى الملائكة المعقبات وغيرها.

{وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} : وما: للنّفي، وما لهم من دون الله؛ أي: غير الله.

{مِنْ} : استغراقية تستغرق كلّ وال (ناصر معين حافظ مانع)، وتفيد التّوكيد، ونظير هذه الآية هي قوله تعالى في سورة الأنبياء، الآية (42):{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ؟ الجواب: لا أحد.

ص: 70

سورة الرعد [13: 12]

{هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} :

{هُوَ الَّذِى} : هو: ضمير يفيد التّوكيد؛ الّذي: اسم موصول.

{يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} : يريكم: رؤية بصرية.

{الْبَرْقَ} : الّذي ينشأ عن اصطدام السّحب الرّكامية المشحونة بالشّحنات الكهربائية الموجبة، والسّلبية، وبسبب اختلاف أحجام هذه السّحب، وبالتّالي محتواها من الشّحنات الكهربائية يحدث التّفريغ الكهربائي الّذي يؤدي إلى تمدد الغلاف الغازي في منطقة التّفريغ؛ فتحدث الأصوات الرهيبة للرعد نتيجة تغيرات الضغط، والتّمدد، ودرجات الحرارة العالية، وهذا البرق الّذي يدوم بين جزء من (100) جزء من الثّانية، أو جزء من (1000) جزء من الثّانية، ويحمل ما بين (12، 000) إلى (200، 000) أمبير، وتؤثر الصّدمة الكهربائية النّاتجة عن البرق إلى إصابة الجهاز العصبي، والقلبي، واحتراق الجلد، وصعوبة في التّنفس؛ وقد يؤدي إلى صعق المصاب، والموت، إذا لم يسعف.

أمّا ما يدفع إلى الخوف من البرق؛ مثل: حصول الحرائق، وإتلاف الحرث، والزرع، وحدوث الصدمات الكهربائية التي تزهق أرواح بعض الناس، وأمّا ما يدفع إلى الطّمع الشّديد عند رؤية البرق هو الغيث، وبالتّالي الحرث، والزّراعة، والفواكه، والثّمرات.

وكذلك البرق حين يحدث يؤدي إلى أكسدة كثير من عناصر الغلاف الغازي للأرض؛ فالنتروجين يتحول إلى أكسيد النتروجين، وإلى أكسيد الكربون، وأكسيد الكبريت؛ هذه الأكاسيد تذوب في الماء النازل؛ فتزيد خصوبة الأرض، وما يصاحب ذلك من خير في الزرع، والثمار.

{وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} : أي: السّحب الرّكامية المملوءة بالمطر الشّديد. وهناك السحب الطباقية القريبة من سطح الأرض ويكون سمكها قليلاً، ولا تؤدي إلى المطر، وأما السحب الركامية الّتي كالجبال، ووزنها بالأطنان، ومع ذلك تحملها الرياح، وتتشكل من اصطدام السحب المختلفة في شحناتها الكهربائية؛ مما يؤدي إلى ارتفاعها إلى أعلى مما يؤدي إلى تبردها، وتزداد الرطوبة فيها، وبخار الماء، وحينما تصل إلى حد ما تتراكم على الجانبين؛ حيث تقل قوة الدفع من أسفل، ولا تعود قادرة على رفعها أكثر من ذلك؛ فتتكون السحب الركامية الّتي تشبه تضاريس سطح الأرض. ارجع إلى سورة النور، آية (43).

والرعد، والبرق يصاحب السحاب الثِّقال فقط؛ أي: السحب الركامية.

ص: 71

سورة الرعد [13: 13]

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} :

{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ} : التّسبيح: هو تنزيه الله سبحانه عن بقية الذّوات، وصفاته عن باقي الصّفات، وهو منزه عن الأغيار، وعن الولد، والشريك، والنّد، والمثيل، وعن كلّ نقص، وعيب.

{بِحَمْدِهِ} : تسبيحاً مصحوباً بالحمد، الباء: للإلصاق، والمصاحبة.

{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]؛ بما في ذلك النباتات، والجمادات، والحيوانات، وبعض النّاس؛ فكل هذه النباتات، والجمادات، والحيوانات تسبح بحمد ربها، ولها لغة خاصة تتكلم مع بعضها البعض.

{وَالْمَلَائِكَةُ} : يسبحون كذلك.

{مِنْ خِيفَتِهِ} : من: تعليلية.

{خِيفَتِهِ} : الملائكة يخافون الله من الرّعد المصحوب بالصّواعق، والخوف ليس على أنفسهم، ولكن يخافون على النّاس؛ لأنّ الملائكة حفظة للناس، ومن وظائفهم أيضاً أنهم يستغفرون للذين آمنوا؛ سورة غافر، الآية (7)، ويخافون ربهم مخافة إجلال، ومهابة.

{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} : نار تحدث من كهربة السّماء، وكهربة الأرض، عندما تتقارب السّحب من الأرض تنشأ هذه الصّواعق؛ جمع: صاعقة؛ الناتجة من تفريغ الشّحنة الكهربائية السّماوية في الأرض؛ مما يؤدي ـ أحياناً ـ إلى صاعقة تحرق كلّ ما تقع عليه بما فيها الغابات، والمنازل

وغيرها.

{فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} : من: ابتدائية استغراقية؛ تشمل كلّ من يشاء.

{مَنْ} : اسم موصول؛ بمعنى: الذي.

أسباب النّزول: كما ذكر الواحدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والطّبري قيل: نزلت هذه الآية في أربد بن قيس، وعامر بن الطّفيل حين حاولا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمّا أربد: فأرسل الله عليه صاعقة (ناراً من السّماء)؛ كالبرق فصعقته، وأحرقته، وأمّا عامر بن الطّفيل: فأصيب بالغدة: التهاب غدة في عنقه فهلك، ومات بسرعة.

وقيل: نزلت في رجل من طواغيت العرب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً يدعوه إلى الإسلام، والإيمان؛ فقال: أخبروني ما الله؟ أمن ذهب، أم من فضة، ونحاس؟ وعاد الرّسول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما قال ذلك الطّاغوت؛ فأرسل إليه ثانية، وثالثة، فرفض، فأرسل الله عليه ناراً فهلك؛ هذا ما رواه الطّبري، عن علي، وقاله مجاهد.

{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ} : في شأن التّوحيد، والبعث، والملائكة، والولد، والبنت، والشّريك، وشأن الله تعالى؛ هل هو من ذهب، أو فضة، أو ينكرون القرآن، ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} : المحال: مشتقة من الحول، والحول يعني: القدرة على التّصرف، أو المحال مشتقة من الحيلة (المحال؛ أي: الكيد)؛ شديد الكيد، وهو التّدبير الخفي بالمكايدة، وشديد المحال: شديد الأخذ، أو شديد العقوبة؛ شديد القوة، والانتقام، وشديد المحال: يضم كلّ تلك المعاني؛ أي: يخبر الله سبحانه أنّه أقوى منهم، وأشد حيلة، وقوة، وتصرفاً؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا حائل عن المعاصي إلا الله، ومن رحم، ولا قوة على الطّاعات إلا بالله، والاستعانة به، والتّوكل عليه سبحانه العليّ الكبير.

ص: 72

سورة الرعد [13: 14]

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَىْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ} :

{لَهُ} : له خاصة دعوة الحق، وهي: لا إله إلا الله، أو:

{دَعْوَةُ الْحَقِّ} : الحق: هو الله، وكلّ دعاء إليه وحده بدون إشراك هو دعاء الحق، ومن يدعو غير الله؛ فقد دعا غير الحق، أو دعا باطلاً، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير؛ أي: هو وحده تعالى الّذي يُدعى الحق، والقادر على الاستجابة.

{وَالَّذِينَ} : الّذين: اسم موصول.

{يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} : من دون الله؛ من غير الله، أو سوى الله؛ مثل: الآلهة، والأولياء، والملائكة، والأنبياء.

{لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَىْءٍ} : لا: النّافية.

{بِشَىْءٍ} : الباء: للإلصاق، وشيء: نكرة تعني: أي شيء مهما كان صغيراً، أو كبيراً؛ أي: لن تساعدهم بشيء مهما كان نوعه، بل تخيِّب من يدعوها.

{إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} : إلا: أداة حصر؛ الكاف: للتشبيه؛ أي: كمن هو عطشان فيرفع يديه، ويبسطهما إلى الماء، وهو بعيد عن الماء، أو واقف أمام الماء طالباً وصول الماء إلى فمه، فالماء سائل لا يحس بدعاء العطشان، وبحاجته إلى الماء، سواء بسط كفيه، أم لم يبسطهما، ولا يبلغ فاه، وهذا هو حال الّذين يدعون من دون الله؛ كالأصنام، أو الاحتمال الثّاني: أنّ العطشان يحاول أن يغرف الماء بيديه ليشربه، وهو باسط كفيه في الماء؛ فيرفعهما من الماء، ولا يعلق بيديه أي ماء، وهذا مستحيل؛ لأنّ الماء يزول بعد رفع الكفين إلى الفم.

{لِيَبْلُغَ فَاهُ} : ليبلغ فمه، اللام: لام التّعليل.

{وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} : ما: النّافية.

{هُوَ} : تعود على الباسط كفيه إلى الماء، أو "هو" تعود على الماء؛ أي: لا الماء يبلغ فاه، ولا هو ببالغه.

{بِبَالِغِهِ} : الباء: للتوكيد؛ ببالغه: بالغ فاه ليشربه، أو هو شاربه.

{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} : الواو: واو الحال، أو التّوكيد؛ ما: النّافية.

{دُعَاءُ} : الدعاء: هو الطلب والسؤال والحث على الاستجابة وقد يعني العبادة، وما دعاء الكافرين المشركين الضّالين إلا في ضلال.

{إِلَّا} : تفيد الحصر.

{فِى ضَلَالٍ} : في: ظرفية.

{ضَلَالٍ} : ضياع، وخسران؛ أي: وما دعاء، أو عبادة الكافرين لهذه الأصنام وكل شيء من دون الله في الحقيقة إلا باطل، وضياع.

ص: 73

سورة الرعد [13: 15]

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} :

{وَلِلَّهِ} : تقديم الجار والمجرور: لفظ الجلالة يفيد الحصر.

{يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} : السجود: إما أن يكون سجوداً حقيقياً، وإما يعني الخضوع، والانقياد.

{مَنْ} : هي للعاقل؛ أي: تشمل كلّ عاقل في السّموات، والأرض من الملائكة، والإنس، والجن؛ فهؤلاء يسجدون طوعاً؛ أي: بإرادتهم، وهذا يسمّى سجود الطوع؛ أي: الاختيار، أو كَرهاً: بفتح الكاف؛ أي: عدم القبول والرضا، وقد تعني: الإجبار، ولو قال كُرهاً: بضم الكاف تعني: الرضا والقبول، ولو كان فيه تعب ومشقة كما هو الحال في حالة الحمل فالمرأة رغم مشاق الحمل هي راضية، بل فرحة بالحمل، أما كَرهاً: مثل ترك الديار والهجرة بسبب الاضطهاد والتعذيب، وإذا كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد؛ مثل: إصابتهم بالأمراض العديدة، والكوارث، والمصائب؛ فهم خاضعون لحكم الله تعالى؛ فالكافرون، والمشركون: يسجدون سجود الخضوع، والانقياد؛ أي: سجود الكره.

{وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} : الواو: واو العطف عطف الظلال (غير العاقل) على العقلاء فسقوط ظلالهم على الأرض رغم امتناعهم عن السجود يعتبر من عظمة قدرة الله تعالى فظلالهم تسجد بالغدو: أوّل النّهار، والآصال: ما بين العصر، والمغرب. وأما عطف غير عاقل على العاقل، أو بالعكس نجده في بعض الآيات ربما للتغليب أو ربما للجمع.

{وَظِلَالُهُمْ} : الظّل: هو الخيال المقابل للشمس الّذي يظهر للشيء المادي القائم، وظلالهم تسجد طوعاً، وكرهاً، أو تخضع لمشيئة الله بالامتداد، والتّقلص، والفيء، والزّوال.

فأشعة الشّمس أغلبها لا يُرى كالأشعة السينية، وغاما، وما فوق الحمراء، وتحت الحمراء، وأشعة الراديوم

وغيرها.

ومن أشعة الشّمس حزمة صغيرة تسمّى حزمة الضوء المرئي الغير قادرة على اختراق الأجسام الصلبة، ولذلك بسببها تتكون الظلال، أما الأشعة الأخرى: فهي قادرة على اختراق الأجسام الصلبة، وهذه الحزمة حزمة الضوء المرئي: هي سبب تشكل النهار، وتشكل الظلال، والظل: يتحرك فحين تشرق الشّمس من المشرق، يتحرك مع حركة الأرض؛ فحركة الظل يخبرنا ربنا أنها صورة من صور العبادة، والسجود لله؛ أي: من مظاهر الخضوع.

ص: 74

سورة الرعد [13: 16]

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : اسأل يا محمّد صلى الله عليه وسلم المشركين، أو الكافرين: من رب السّموات، والأرض.

{مَنْ} : استغراقية استفهامية؛ تفيد الإلزام. الرّب: هو الخالق، المدبر المتولي، الرّزاق.

{قُلِ اللَّهُ} : جاءت الإجابة من الله، ولم يترك الإجابة؛ لتأتي منهم، ومجيء الإجابة من الله أشد وأقوى، ولتكون حجة عليهم، والسّؤال هنا يتضمن معنى التّوحيد.

وفي سورة الزّخرف: جاءت الإجابة منهم؛ فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .

{قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} : أفاتخذتم: الهمزة للاستفهام، والتوبيخ، والإقرار؛ فإذا كان هو الله سبحانه وتعالى الّذي خلق السّموات والأرض، فكيف تتخذون من دونه أولياء؛ أي: شركاء، أو آلهة، وأصناماً، وأوثاناً تعبدونهم، وتدعونهم من دون الله!

{لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} : لا يملكون لكم، ولا حتى لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، وقدم النّفع على الضّر؛ لأنّه تقدمها قوله: ولله يسجد من في السّموات والأرض طوعاً وكرهاً، طوعاً: من الطّاعة الّتي تؤدي إلى النفع، وكرهاً: من الكره الّذي يؤدي إلى الضّر، وربما لكون النفس تحب النفع أولاً، وتكرار (لا): للتوكيد، وفصل كلاً من النفع عن الضر أو كلاهما معاً لا يملكون.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِى} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: هل: استفهام تحمل معنى النّفي؛ أي: لا يستوي.

{يَسْتَوِى} : يتساوى: يتعادل.

{الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : الأعمى: الكافر المشرك، والبصير: المؤمن الموحد.

{أَمْ هَلْ تَسْتَوِى} : أم: حرف للإضراب الانتقالي، والهمزة فيها: للاستفهام، والإنكار، والتّوبيخ؛ (هل تستوي) مثل السّابقة.

{الظُّلُمَاتُ} : الشّرك، والكفر، والضّلال.

{وَالنُّورُ} : الإيمان.

{تَسْتَوِى} : ولم يقل: يستوي؛ لأنّه تأنيث غير حقيقي.

{أَمْ} : أم: للإضراب الانتقالي، والهمزة: للاستفهام الإنكاري.

{جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} : خلقوا كخلق الله؛ فتشابه عليهم خلق الله بخلق الآلهة، أو الشركاء؛ أي: اختلط الأمر، ولم يقدروا على التّفريق بين الخلقين، ولاحتجوا على ذلك، ولكنهم؛ أي: الشّركاء لم يخلقوا شيئاً، والله خالق كلّ شيء؛ فإن أقروا بذلك كان بها، وإذا لم يقروا بذلك:

{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ} : وهو: ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد، والحصر. خالق كل شيء: والخلق لغةً: هو التقدير، ويعني: الإيجاد من العدم أو من شيء.

{الْوَاحِدُ} : المتفرد والمتوحد بالألوهية، والرّبوبية، والصّفات، والأسماء الحسنى.

الواحد: الّذي لا يتجزأ؛ أي: لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولا شريك له، ولا ند، ولا نظير. الأحد: الّذي لا مثيل له، ولا ند، ولا شبيه. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{الْقَهَّارُ} : القوي، الغالب الّذي قهر كلّ شيء، وذلّ، واستسلم له كلّ مخلوق؛ بالابتلاء، وبالموت، فكيف يكون له مساوياً، وهو القهار الّذي خضعت له الرقاب طوعاً، أو كرهاً. ارجع إلى سورة ص، آية (65)؛ لمزيد من البيان في معنى: القهار.

لنقارن هذه الآية (16) من سورة الرعد: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} ، مع الآية (84) من سورة المؤمنون:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} .

السّؤال في آية الرّعد عن التّوحيد، أو في سياق آيات التّوحيد، فجاء الجواب: قل الله الواحد القهار.

السّؤال في آية المؤمنون عن المُلك، وليس التّوحيد، بل عن الملكية، والمالك، سؤال من يملك السّموات السّبع، والعرش؟

الجواب: سيقولون لله.

{لِلَّهِ} : اللام: لام الملكية؛ فكلّ استفهام له غرض معين.

ص: 75

سورة الرعد [13: 17]

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} :

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} : أنزل سبحانه من السّحاب: المتشكل من بخار الماء المتصاعد من الأرض، والبحار، والمحيطات ماء (أي: مطراً).

فحين ينزل الماء من السّماء بشدة يشق قشرة الأرض؛ ليكون الأنهار، والجداول، وحين نزوله يفتت صخور الأرض، وأثناء هبوطه نجد أن المعادن الثقيلة تترسب أولاً، والأشياء الخفيفة تبقى على السطح؛ فبذلك نستطيع التنقيب عن الذهب، والفضة، والنحاس

وغيرها، وما يبقى على السطح هو الغثاء؛ أي: الأشياء الّتي لا قيمة لها، وبذلك يتمكن الإنسان من الاستفادة من معادن الأرض مثل: الذهب الّذي يدخل في أفران ذات حرارة عالية تؤدي إلى انفصال الشوائب المختلطة بالذهب، ويترسب الذهب الخالص، وتطفو على السطح الشوائب.

{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ سالت: جرت أودية جمع وادٍ، وهو المنخفض بين مرتفعين، وكلّ وادٍ يستوعب من المياه على قدر اتساعه، وهذا من رحمة الله.

{بِقَدَرِهَا} : قد تعني بما قدره الله أيضاً من قلة، أو كثرة في الماء، وبحسب حجم الوادي، وبما ينفع النّاس، وإلا لحدثت الفيضانات في كلّ مرة، وغرقت الأرض، والقرى، والنّباتات، والحيوانات، وهدمت البيوت.

{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا} : فاحتمل: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أي: وما أن ينزل المطر نلاحظ أن السّيل: وهو الماء المتجمع من ماء المطر المندفع الّذي يشكل سيلاً يجرف معه الفضلات، والأشياء مثل الأوساخ الّتي علقت بوجه الأرض، فكأنه يكنس الأرض، ويطهرها من الأسباب المؤدية إلى انتشار الأمراض والأوبئة.

{زَبَدًا رَّابِيًا} : الزّبد: هو الرغوة، والغثاء الطافي على وجه الماء من قاذورات الأرض.

{رَّابِيًا} : عالياً مرتفعاً يطفو على وجه الماء.

{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ} : ومما: الواو: عاطفة؛ مما: مركبة: من وما؛ من: للابتداء؛ تعني: البعضية؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ} : يوقدون: الفاعل هنا النّاس؛ يوقدون عليه: لتطهيرها، وتخليصها من الشّوائب المختلطة بها.

{عَلَيْهِ فِى النَّارِ} : من المعادن، وفلزات الحديد، والذّهب، والفضة، والنّحاس، وغيرها.

{ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} : طلباً لاستخراج الذهب، والفضة المستعملة كحلية، والحلية تعني الزينة الخارجية، والحلية جزء خاص من الزينة، والزينة تشمل الخارجية والداخلية، والزينة أعم من الحلية، وتشمل الحلية واللباس الخارجي، ولباس التقوى، والزهور زينة والألوان والنجوم

وغيرها.

{أَوْ مَتَاعٍ} : أو لصنع متاع؛ أي: أواني، وأدوات، وسيارات

وغيرها مما ينتفع به من الآلات، والصّناعات

وغيرها.

{زَبَدٌ مِّثْلُهُ} : أي: ينتج عن صناعتها، وتنقيتها زبد مثل زبد السّيل. والسؤال هنا: لماذا ضرب الله تعالى المثل الثاني، أو لماذا أعقب المثل الأول بالمثل الثاني، أليس المثل الأول كافياً؟ ذلك لأن السؤول والفيضانات ليست مشاهدة أو معروفة لكل الناس الذين يعيشون في ناحية من الأرض ويضرب المثل الثاني يكون معظم الناس قد علم معنى المثل الأول الثاني وبالتالي الحق والباطل.

{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} : فالسّيل، والحلية، والمتاع تمثل الحق الّذي لا غنى عنه، والزبد الرابي فوق السيل، أو الناتج عن تنقية المعادن؛ مثل: الذهب، والفضة، والنحاس، والصناعة: هو يمثل الباطل الّذي لا قيمة له، ويجب التّخلص منه.

{فَأَمَّا} : الفاء: تدل على مراحل لم تذكر؛ فأعقبها بالفاء؛ أما: شرطية، وتفصيلية.

{الزَّبَدُ} : أو الباطل.

{فَيَذْهَبُ جُفَاءً} : أي: يزول بعد الاحتكاك بجوانب الوادي، ويضمحل، ويزول، وأمّا الزّبد النّاتج عما يوقدون عليه في النّار: يُرمى، ويُطرح، ويتخلص منه كذلك، ولا يستفاد منه بعد عملية التّصفية، والتّطهير.

{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} : أمّا: تفصيلية، وشرطية.

{مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{يَنْفَعُ النَّاسَ} : من الماء (السّيل)، والمعادن المصفاة.

{فَيَمْكُثُ} : يبقى في الأرض، وينتفع به أهل الأرض؛ مثل: الحديد، والذّهب، والفضة، والنّحاس

وغيرها من المعادن.

{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} : كذلك يضرب: ليس بتكرار للأولى، فالأولى للحق والباطل، والثانية: لبقية الأمثال، وأيضاً سببه جملة الاعتراض عاد للتذكير؛ أي: أنّه سبحانه كما بين لكم الأمثال السّابقة بين الحق، والباطل؛ كذلك يبين الله الأمثال الأخرى الّتي تحتاج إلى بيان. والأمثال: جمع مثل، والمثل: هو تشبيه حال بحال أخرى، أو شيء حسي بشيء معنوي؛ لإيضاح الأمور المشتبهات، ولإزالة غموض الإجمال.

ص: 76

سورة الرعد [13: 18]

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} :

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق؛ أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الّذين استجابوا لربهم، وللكافرين الّذين لم يستجيبوا له.

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} : الّذين: اسم موصول يفيد المدح، والتّعظيم، استجابوا لربهم بالطّاعة، والإيمان، وتجنب المعاصي.

{الْحُسْنَى} : الجنة؛ مؤنث: الأحسن إشارة إلى حسن الثواب، والحسنى: اسم من أسماء الجنة، أو صفة للجنة، وكقوله:{دَارُ السَّلَامِ} [الأنعام: 127].

{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} : الّذين: اسم موصول؛ يفيد الذم.

{لَمْ} : حرف نفي.

{يَسْتَجِيبُوا لَهُ} : لم يستجيبوا لدعوة الله، والإيمان، وهم الكفار، والمشركون.

{لَوْ أَنَّ لَهُمْ} : لو: شرطية.

{أَنَّ} : للتوكيد.

{لَهُمْ} : اللام: لام التّملك (الملكية)، والاختصاص.

{مَا فِى الْأَرْضِ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي في الأرض من مال، وكنوز، وخيرات.

{جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} : جميعاً: للتوكيد، ومثله معه؛ أي: ضعف ذلك، ولا يوجد إنسان يملك ما في الأرض، ولا نصفها، أو ربعها.

{لَافْتَدَوْا بِهِ} : اللام: لام البدل، أو التّعليل؛ افتدوا به: لقدموه فداءً لأنفسهم من العذاب، ولو حدث ذلك ـ وهو من المستحيل ـ فلن يقبل منهم دلالة على بؤس حالهم في الآخرة، أو مصيرهم البائس. ولو قارنا هذه الآية مع الآية (36) من سورة المائدة هي قوله تعالى:{لِيَفْتَدُوا بِهِ} لوجدنا: لافتدوا به (فعل ماض) ليفتدوا به (مضارع)؛ المهم هنا لو الشرطية؛ أي: آية الرعد جوابها: افتدوا به، ولو الشريطة في آية المائدة جوابها: ما تُقبل منهم؛ فيكون النسق على التالي: آية الرعد أولاً (لو افتدوا به)، ثانياً: آية المائدة (ما تقبل منهم)، وأما (ليفتدوا به) في آية المائدة هي للتعليل.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، تشير إلى سوء المنزلة، والمكانة، والمصير.

{لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} : لهم: اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.

{سُوءُ الْحِسَابِ} : لا يغفر لهم، ولا تقبل لهم شفاعة، ولا فداء، ولا يتجاوز لهم عن سيئة، وما قدموه من عمل صالح يصبح هباء منبثاً.

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : الواو: عاطفة مقارنة بـ (ثم مأواهم)، ثم: التي تدل على التراخي في الزمن، كما ورد في سورة آل عمران آية (197)(ثم في هذه الأحاديث في سياق الحياة الدنيا)، وأما آية الرعد: فجاءت في سياق الآخرة وليس هناك فاصل زمني؛ المأوى: اسم مكان من: أوى يأوي، والمأوى: المنزل، أو المكان الّذي يأوي إليه للراحة والإقامة، وفيها معنى: الضّم، ووردت في سياق الجنة، أو النّار.

{جَهَنَّمُ} : جهنم: اسم من أسماء النار، وللنار أسماء كثيرة ورد ذكرها في القرآن؛ منها: جهنم (ورد ذكرها 77 مرة).

الجحيم (25) مرة.

لظى (1) مرة.

والسعير (8 مرات، وسعيراً 8 مرات).

وسقر (4 مرات منها 3 في سورة المدثر).

والحطمة.

والهاوية.

وكل واحد من هذه الأسماء هو اسم علم للنار كلها.

والنار: درجات، وقيل: دركات كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

ولها سبع أبواب {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44].

وجهنم: تعني: بعيدة القعر، شديدة الغضب، منظرها مستنكر وكريه.

وأما الجحيم: تعني: النار المتأججة، شديدة التأجج والاضطراب لا يمكن السيطرة عليها.

{وَبِئْسَ الْمِهَادُ} : بئس: فعل من أفعال الذّم؛ مثل: ساء وقبح.

{الْمِهَادُ} : الفراش؛ شبه ما تحتهم من النّار بالمهد المريح الّذي يُعد للطفل الوليد؛ للتهكم، والتقريع بهم.

ص: 77

سورة الرعد [13: 19]

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} :

{أَفَمَنْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري.

{أَنَّمَا} : أن: حرف توكيد، ما: اسم موصول؛ أي: الّذي، فتكون الآية: أفمن يعلم أنّ الّذي أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى؟

{أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} : هو القرآن العظيم؛ أي: المؤمن يعلم أنّ القرآن الّذي أنزل الله على رسوله هو الحق، بينما الكافر الأعمى لا يعلم (والعمى هو عمى البصيرة، وليس عمى العين).

{كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} : كمن: الكاف للتشبيه؛ من: للعاقل، وتشمل المفرد والمثنى والعاقل؛ هو: ضمير فصل يفيد التوكيد؛ أعمى: قد تعني عمى البصر، أو عمى البصيرة، وتسمى العمه، وكلاهما يعني: عدم الاهتداء للحق، وما أنزل الله، ولم يقل كمن لا يعلم، وإنما أبدل الذي لا يعلم بالأعمى؛ لأن الأعمى لا يرى ما يجري حوله فقد انتفى علمه عن إدراك الحقائق، ونفى عنه العلم بشكل عام، فكلمة أعمى تشمل من لا يعلم، وأشد وأبلغ من الذي لا يعلم، وهذا هو حال الكافر والمشرك والجاهل.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} : إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} : يتذكر من الذّكر، وهو العلم الحادث بعد النّسيان، أو الغفلة، وهو حضور المعنى في النّفس، فالحاجة إلى العلم ثم المحاكمة العقلية تحتاج إلى نظر وزمن طويل فيما أنزل إليك من ربك، والتذكر يضاد السهو، إنما ينتفع بالتّذكر، وضرب الأمثال، أولو الألباب الّذين وصفهم الله بالصّفات الثّمانية التّالية الّتي ذكرت في الآيات (20-22).

{الْأَلْبَابِ} : جمع: لب، وهو منطقة في الدّماغ موكل إليها بالتّفكير، والنّظر في الأمور والإدراك، والبصيرة، وتسمّى جهاز لمبيك.

{أُولُو الْأَلْبَابِ} : تعني: الصّفوة من المؤمنين ذوي العقول المنيرة، ومنهم: الرّسل، والأنبياء، والصّديقون، والشّهداء، والصّالحون، والصّحابة، وبعض الحكماء، والعلماء؛ فهم فئة خاصة اختاروا طريق الهداية؛ فهداهم الله، واستجابوا لله، ويفهمون ما يخاطبهم به الله. ارجع إلى الآية (197)، والآية (179) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 78

سورة الرعد [13: 20]

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} :

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} : الّذين: اسم موصول يفيد المدح، وتكرار كلمة الّذين: للتوكيد، والتعظيم، والمدح.

{يُوفُونَ} : من الوفاء، وهو الإتمام، والالتزام بالعهد، وتطبيق بنوده. العهد: الوعد المقرون بشرط، والعهد يقتضي الوفاء، والوعد يقتضي الإنجاز. والعهد: اسم للجنس.

{بِعَهْدِ اللَّهِ} : العهد: هو التزام، أو تكليف يلتزم به الإنسان مع الله سبحانه، أو مع إنسان آخر، أو مع نفسه؛ أي: يوفون بما أمرهم الله من التّكاليف، وما أوجبه الله على لسان الرّسل من الفروض، وتجنب جميع المعاصي، والعهد: يضم العقود، والوعود، والمعاهدات.

{يُوفُونَ} : بصيغة المضارع الّتي تدل على التّكرار، والتّجدد، والاستمرار.

{وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} : الميثاق: هو العهد الموثق، أو المؤكد بالأيمان؛ أي: القسم، وما أوجبه العبد على نفسه كالنّذر. لا: النّافية. لا يخلون بعهدهم مع ربهم، أو المؤمنين. النّقض: التّخلي عن العهد، ورفض الالتزام به، وعدم نقض الميثاق يقرب في المعنى من الوفاء بالعهد. ويمكن القول: عدم النّقض هو تأكيد للوفاء بالعهد، أو يمكن اعتبار ذلك من ذكر العام بعد الخاص. ارجع إلى سورة البقرة، آية (27)؛ لمزيد من البيان في معنى العهد، والميثاق، ولم يكرر ذكر الله فيقول: ولا ينقضون ميثاق الله؛ لأن الميثاق يشمل عهد الله وغيره.

ص: 79

سورة الرعد [13: 21]

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} :

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول، وتكرار "الّذين" يفيد التّوكيد، والمدح.

{يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : مثل: صلة الرّحم، والجار، والفقير.

{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} : الخشية: الخوف مع التّعظيم للخالق، ومهابته مع العلم، أو الخشية: خوف، وحذر مبني؛ أي: مقرون، بعلم، وتعظيم للذي تخشاه، وفيها معنى الأمل.

{وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} : الخوف: يكون من أمر لم يقع بعد؛ أي: الخوف من العقاب المشكوك في وقوعه بسبب ارتكابهم المعاصي، والتّقصير في الطّاعات، الحساب يكون على كلّ صغيرة، وكبيرة، ووزن الأعمال.

{سُوءَ الْحِسَابِ} : بأن لا يغفر لهم من ذنوبهم شيئاً، أو لا تقبل منهم حسناتهم، أو أعمالهم الصّالحة؛ لأنّهم أحبطوا أعمالهم، ولم يتجاوز عن سيئاتهم، ويشمل كلّ أنواع العذاب المهين، والأليم، والمقيم، والعظيم.

ما هو الفرق بين {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، وبين {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]؟

يخشون ربهم، أعم من: يخشون ربهم بالغيب؛ تشمل الخشية في العلن (أمام النّاس)، وفي السّر (إذا خلى بنفسه؛ أي: وحده)، وتشمل الخشية من عقابه يوم القيامة.

يخشون ربهم بالغيب؛ تعني: بالسّر فقط إذا خلى وحده، وغاب عن أعين النّاس، وكذلك تعني: يخشون عقابه القادم يوم القيامة، والعقاب أمر غيبي.

ص: 80

سورة الرعد [13: 22]

{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} :

{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} : والذين: ارجع إلى الآيات السابقة.

{صَبَرُوا} : على الطاعات، وتجنب المحرمات، وعلى الابتلاءات، والباعث على الصبر: هو محبة الله، والتّقرب منه، وليس الرّياء، والسّمعة. ارجع إلى الآية (200) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان في معنى: الصبر.

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : أتموها بأركانها، وشروطها، وخشوعها، وأوقاتها.

{وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} : تضم الصّدقات، والزّكاة، والعلم

وغيره من أنواع الرزق في السّر، والعلانية.

{مِمَّا} : من: البعضية؛ أي: بعض ما رزقناهم؛ ما: بمعنى: الذي.

{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} : الدّرء: هو الدّفع بسرعة؛ أي: بدون تأخير، والدّفع يكون بقوة، وشدة، (والدّرء يكون بسرعة)، أو يتبعون السّيئة بالحسنة بسرعة، والذّنب بالتّوبة، وكما قال سبحانه:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم:«وأتبع السّيئة بالحسنة تمحها» . رواه أحمد، والترمذي، والحاكم عن أبي ذر. والحسنة شرعاً: كلّ ما يستحسنه الشّرع، ويورث ثواباً بامتثال أوامر الله، وتجنب نواهيه.

{أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} : أولئك: اسم إشارة، واللام: للبعد؛ لعلو منزلتهم؛ يشير إلى أولي الألباب الّذين اجتمعت لهم تلك الصّفات الثّمانية، والمتأمل لهذه الصّفات يجد أنّ بعضها جاء بصيغة المضارع، وبعضها جاء بصيغة الماضي؛ مثل: يوفون، لا ينقضون، يصلون، يخشون، يخافون، يدرؤون بالحسنة السّيئة: جاءت بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد، والاستمرار.

وفيها متسع من الوقت، وتؤدى في زمن غير محدد.

أمّا صبروا، وأقاموا الصّلاة، وأنفقوا بصيغة الماضي فيجب تأديتها في زمن معين، محدد.

والإنفاق؛ كالزّكاة في كلّ عام، فالكلّ يعلم أنّ الصّبر: هو القاسم المشترك لكلّ تلك الصّفات الثّمانية.

وخلاصة القول: ما كان له وقت محدد عبر عنه بالماضي، وما كان مستمراً، وليس له وقت محدد، ومتكرراً، أو متجدداً: جاء بصيغة المضارع.

{لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} : عقبى: مأخوذة من العَقِب؛ فالقدم له مقدم، وله عقب، وعقب: هو ما يعقب الشّيء، وعقبى: على وزن فعلى، وعقبى: اسم بمعنى: الجزاء، أو آخر كلّ أمر، والّذي يعقب الدّار الدّنيا: هي الدّار الأخرى.

{عُقْبَى الدَّارِ} : وما هي عقبى الدّار؟ هي: جناتُ عدن يدخلونها؛ كما تشير الآية (23) التالية هذه هي عقبى الدّار، وكلمة عقبى: وردت في خمس آيات في سورة الرّعد، ولم ترد هذه الكلمة في القرآن إلّا في هذه السّورة، أمّا كلمة العاقبة؛ فقد وردت (31) مرة في بقية السّور.

ص: 81

سورة الرعد [13: 23]

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ} :

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : العَدْن: هو الإقامة الدّائمة؛ أي: جنات الإقامة الدّائمة، دار القرار، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أخرجه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده.

بينما الدّنيا، دار الزوال، الدّار السفلى.

{يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} : يدخلونها: بعد الحساب.

{وَمَنْ} : ابتدائية.

{صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} : تعني: الآباء، والأمهات.

{صَلَحَ} : أي: آمن، وعمل صالحاً.

{وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} : والأزواج تعني: الزوج، أو الزوجة، أو: الذرية؛ أي: الأولاد من الذكور والإناث ما داموا اتّصفوا بصفة الصّلاح، والإيمان.

كلّ حسب طاقته، وبفضل الله سبحانه وتكرمه عليهم يلحقهم بآبائهم.

وكقوله تعالى في سورة الطور، آية (22):{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَىْءٍ} ؛ فالإيمان، والعمل الصّالح شرط أولي للحوق بالآباء.

{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ} : بالهدايا، وللسلام عليهم.

ص: 82

سورة الرعد [13: 24]

{سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} :

{سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} : الباء: يمكن أن تكون باء السّببية، أو البدلية؛ أي: بسبب صبركم في الدّنيا، أو بدل صبركم في الدّنيا، وجاء الصّبر بصيغة الماضي؛ أي: انتهى زمن الصّبر بانتهاء التّكاليف يوم القيامة.

{سَلَامٌ عَلَيْكُم} : وتقديره يقولون: سلام عليكم، وسلام عليكم: جملة اسمية تدل على الثّبات، والدّوام، وأقوى، وأبلغ من القول: قالوا سلاماً (جملة فعلية تدل على التّجدد، والتّكرار.

وقالوا: سلام بصيغة نكرة، ولم يقولوا السّلام عليكم معرفة؛ لأنّ النّكرة: تدل على العموم، والشّمول، وتعني: التّحية، والأمان، والطمأنينة، ودوام السلامة من الموت، ومن كلّ مكروه، أو أمر غير مستحب.

أمّا السّلام عليكم بأل التّعريف: تدل على أمر معين محدد، وهو التّحية فقط مثلاً، وقد جاء بتنكير السّلام في كلّ القرآن إلا آية واحدة هي قول عيسى:{وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33].

{فَنِعْمَ} : الفاء: للتوكيد؛ نعم: من أفعال المدح.

{عُقْبَى الدَّارِ} : أي: الجنّة، كما قلنا سابقاً. ارجع إلى الآية (22).

ص: 83

سورة الرعد [13: 25]

{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} :

المناسبة: ومقابل أولي الألباب الّذين استحقوا عقبى الدّار (جنات عدن)، يذكر الّذين استحقوا اللعنة، ولهم سوء الدّار؛ فيذكر من صفاتهم ثلاث صفات:

أولاً: نقض العهد: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} : ارجع إلى الآية (27) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : وقطع صلة الرّحم. ارجع إلى الآية (27) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ} : بالكفر، وبالظلم، والبغي، والعدوان، ويهلكون الحرث، والنسل. ارجع إلى الآية (27) من سورة البقرة؛ لبيان معنى: الفساد.

ولم يذكر شيئاً عن الخشية؛ لأنّهم لا يؤمنون بالله، وعن الخوف؛ لأنّهم لا يؤمنون بالبعث، ولا شيئاً عن الصّبر، ولا الصّلاة، ولا الإنفاق؛ ما داموا قد كفروا بالله، ولم يقدموا لأنفسهم خيراً.

{أُولَئِكَ} : اسم: إشارة، واللام: للبعد، ودنوّ منزلتهم.

{لَهُمُ اللَّعْنَةُ} : لهم: اللام: لام الاستحقاق، أو الاختصاص؛ أي: لهم خاصة؛ أي: كأنّ اللعنة ما خُلقت إلا لهؤلاء الّذين قاموا بنقض الميثاق، والقطع، والفساد في الأرض، واللعنة: هي الطّرد، والبعد عن رحمة الله، ونيل سخطه، وغضبه عليهم، واللعنة: اسم يدل على الثّبوت.

{وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} : تكرار "لهم"؛ يفيد التّوكيد، وفصل كلاً من عقاب اللعنة عن عقاب سوء الدّار.

{سُوءُ الدَّارِ} : سوء العاقبة، وهي: جهنم.

أمّا الفرق بين عليهم اللعنة، ولهم اللعنة:

عليهم اللعنة: تنزل عليهم اللعنة، وتحل عليهم، وعلى: تفيد الاستعلاء.

ولهم اللعنة: تفيد الاستحقاق، والاختصاص خاصة بهم؛ أي: استحقوا اللعنة.

وعليهم اللعنة؛ أي: يحل عليهم وبالها، أو عاقبتها، وهي: الطّرد، والبعد عن رحمة الله.

ص: 84

سورة الرعد [13: 26]

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِى الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} :

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} : الله وحده، وتقديم الفاعل: يفيد الحصر.

{يَبْسُطُ} : يوسع الرّزق، والرزق: يشمل المال، والمتاع، والعلم، والذرية، والأخلاق

وغيرها.

{لِمَنْ يَشَاءُ} : لمن: اللام: لام الاختصاص؛ من: اسم موصول بمعنى: هو الّذي يبسط الرّزق لأي عبد من عباده، وبسط الرّزق: هو ابتلاءٌ للعبد.

{وَيَقْدِرُ} : يُضيق، ويُفقر من يشاء، أو يعطي الكفاية، أو الشّيء القليل لأي عبد من عباده، والتضييق أيضاً ابتلاءٌ للعبد.

{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : وفرحوا: تعود على النّاس بما بسط الله لهم في الدّنيا من الخيرات، والنّعيم، والمال، والمُلك، وباء بالحياة: للإلصاق، والاهتمام. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه.

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِى الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} : وما: الواو: الحالية؛ تفيد التّوكيد؛ ما: النّافية.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ أي: إذا قارنا وقدرنا الحياة الدّنيا بالآخرة تكون الحياة الدّنيا حصراً، وقصراً عبارة عن متاع زائل شيء يُتمتع به، ثمّ يفنى، أو يزول، أو يضمحل.

لنقارن هذه الآية من سورة الرّعد: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، ووردت هذه الآية كذلك في سورة الإسراء، الآية (30)، وسورة الرّوم، الآية (37)، وسورة سبأ، الآية (36).

مع الآية (49) من سورة سبأ: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} ، وردت هذه الآية في العنكبوت، الآية (62).

ومع الآية (82) من سورة القصص: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} .

فآية الرّعد، والإسراء، والرّوم، وسبأ؛ تعني: هناك إنسان ما يرزقه الله، ويوسع عليه طوال حياته، وهناك إنسان آخر يُضيق عليه، وفقير طوال حياته، وهو في الوضع نفسه.

أمّا آية سبأ، والعنكبوت؛ تعني: هناك إنسان ما يرزقه الله، ويوسع عليه، ثمّ هذا الإنسان نفسه تتغير حاله، ويصبح فقيراً معدماً بعد أن كان غنياً.

أمّا آية القصص: فهي آية خاصة بقارون الّذي بسط الله له الرّزق، ثمّ خسف به وبداره الأرض فجأة؛ فمات، ولم يضيق له.

ص: 85

سورة الرعد [13: 27]

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} :

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : ارجع إلى الآية (7) من السّورة نفسها؛ للبيان، وفي سورة العنكبوت، آية (50):{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} : إذن هم لم يكتفوا بآية واحدة، بل طلبوا إنزال أكثر من آية، وردَّ الله سبحانه عليهم:{قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50].

{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59].

{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50].

{وَمَا تُغْنِى الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

{إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].

فالقرآن وحده يكفي لهم كآية، والله قادر على أن ينزل آية، أو آيات، ولكن كذب بها الأولون، وإذا أنزل آية، ولم يؤمنوا بها، استأصلهم الهلاك عن بكرة أبيهم.

{قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} : أي: إنزال آية لن يُغير مجرى من ضل بنفسه، واستمر في ضلاله، وعناده، وجحد بآيات ربه؛ فالله سبحانه يتركه لضلاله، وعناده؛ ليزداد ضلالاً، وكفراً، وكذلك إنزال آية على من اهتدى، وآمن؛ فلن يؤثر، ويُغير مجرى إيمانه، ولكنه سبحانه يُعين هذا إذا استعان بالله، ويزيده هداية.

{وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} : بدلاً من: ويهدي من أناب إليه، وتقديم الجار والمجرور: يفيد الحصر؛ أي: إليه وحده يهدي من أناب.

{أَنَابَ} : الإسراع والرّجوع إلى الله سبحانه، والإقبال عليه، وليس ضرورياً أن تكون نتيجة ذنب، أما التوبة تكون صادرة عن ذنب والعزم على تركه، وعدم الرجوع إليه، والندم والإكثار من الأعمال الصالحة.

وقدم: يُضل من يشاء، على: يهدي إليه من أناب؛ لأنّ الضّالين في الأرض أكثر من المهتدين.

ص: 86

سورة الرعد [13: 28]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} :

تقدير هذه الآية، وعلاقتها بالآية السّابقة؛ يهدي إليه من أناب (من: للمفرد المثنى، والجمع) من الّذين آمنوا.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} : أي: من أناب، هو من الّذين آمنوا، أو يهدي إليه من أناب، ويهدي الّذين آمنوا؛ أي: صدقوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} : تطمئن: تسكن، وتهدأ، وتأنس، وتستقر قلوبهم.

{بِذِكْرِ اللَّهِ} : وهو القرآن الكريم، وذكر الله العادي، ويشمل التّحميد، والتّسبيح، والتّهليل، والتّكبير، ويشمل الصّلاة

وغيرها؛ أي: الذّكر المطلق، أو الذّكر الخاص.

{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} : ألا: أداة استفتاح، وتنبيه.

{بِذِكْرِ اللَّهِ} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر؛ أي: ذكر الله سبحانه: هو سبب، أو مصدر الاطمئنان، والسّكون للقلوب، وبغير ذكر الله لا تطمئن القلوب مهما كانت الأسباب.

{تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} : أي: تأنس وترتاح وتهيأ، والاطمئنان ينتهي أو يؤدي إلى السكينة والاطمئنان، والسكينة مصدرها الأمن، فالأمن يؤدي إلى الاطمئنان، والاطمئنان يؤدي إلى السكينة والراحة المتجددة المتكررة.

{تَطْمَئِنُّ} : فعل مضارع يفيد التّجدد، والاستمرار.

{الْقُلُوبُ} : قلوب المؤمنين، قلوب الذّاكرين والذاكرات.

وهذا يعد من الإعجاز التأثيري لسماع كتاب الله (القرآن الكريم) بفضل التّردد الصوتي للقرآن الكريم الّذي يؤثر في منطقة الشعور، وبالتّالي القلب.

ص: 87

سورة الرعد [13: 29]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـئَابٍ} :

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{طُوبَى لَهُمْ} : مصدر من الطيب من: طاب يطيب، وطوبى: قيل: اسم شجرة في الجنة مسيرة مئة سنة، أو يسير الرّاكب في ظلها (مائة عام)، كما في حديث رواه الإمام البخاري، وطوبى قد تعني:

ـ العيش الطيب لهم.

ـ الخير الطيب لهم.

ـ اسم للجنة؛ أي: الجنة لهم.

ـ أطيب عاقبة لهم.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{وَحُسْنُ مَـئَابٍ} : المآب: المرجع والمآل؛ أي: الجنة لهم طوبى، ولهم حسن مآب، أو: لهم خاصة طوبى، و: لهم خاصة حسن المآب.

ص: 88

سورة الرعد [13: 30]

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} :

{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ} : أي: كما أرسلك الله سبحانه إلى أمتك الّتي هي آخر الأمم؛ فقد سبق أن أرسل سبحانه رسلاً إلى أممهم، أو أرسلك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة.

{قَدْ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{خَلَتْ} : مضت.

{مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} : كثيرة؛ مثل: أمة موسى، وعيسى، ونوح، وعاد، وثمود، ومدين. والأمة تعريفها: هي جماعة من النّاس تربطها عقيدة واحدة، أو ملة، أو شريعة، ولا يهم الكم البشري، ولا الحيز الجغرافي.

{لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : لتتلو: اللام: للتوكيد، أو للتعليل.

{لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ} : لتقرأ عليهم. ارجع إلى الآية (71) من سورة يونس لبيان معنى التلاوة.

{الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : أي: القرآن الكريم. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لبيان معنى: أوحينا.

{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} : وهم: الواو: للاهتمام، والتّوكيد. كفر جحود، أو كفر بنعمه، أو شرك، أو تكذيب، وإنكار. يكفرون جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد وتكرار كفرهم.

{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، ومثال على ذلك: لما أرادوا كتاب الصّلح يوم الحديبية، وكتب عليّ رضي الله عنه: بسم الله الرّحمن الرّحيم؛ قالوا: ما نعرف الرّحمن، أو حين قيل لهم:{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]. واختار اسم الرحمن في هذه الآية؛ لأنه هو الذي يبسط الرزق وهو المنعم وهو الرحمن رغم تجدد كفرهم واستمرارهم على الشرك.

{قُلْ هُوَ رَبِّى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} : قل: "هو": ضمير منفصل يفيد الحصر، والتّوكيد: ربي خالقي، ومتولي أمري، ورازقي.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا رب غيره، ولا معبود سواه. لا: النّافية؛ إله: معبود؛ إلا: أداة حصر؛ هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ لمزيد من البيان.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : عليه وحده؛ تقديم الجار والمجرور يفيد القصر، والحصر.

{تَوَكَّلْتُ} : فوضت أمري كلّه إليه وحده، أو أستعين به.

{وَإِلَيْهِ مَتَابِ} : أي: أتوب إليه، وأستغفره. ولمزيد من البيان عن التوبة: ارجع إلى سورة النساء، آية (16-17)، ولمزيد من البيان عن التّوكل: ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89).

ص: 89

سورة الرعد [13: 31]

{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَايْـئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} :

المناسبة: أنّ مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بما معناه: سيِّر؛ أي: حرك، أو أزل بقرآنك الجبال عن مكة؛ حتّى تتسع أرضنا للزراعة، وقطَّع لنا الأرض، فنزلت هذه الآية كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .

{وَلَوْ أَنَّ} : ولو: شرطية، وأنّ: للتوكيد، والجواب محذوف في هذه الآية، وقد جاء في سورة الأنعام، الآية (111) في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} .

{قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} : أزيحت عن أماكنها.

{أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} : شققت، وجعلت قطعاً قطعاً تفصل بينها الأنهار.

{أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} : أي: أُحيوا، وتكلموا، وجواب لو: أي لو حدث كلّ ذلك لما آمنوا، أو لكان هذا القرآن هو القادر على أن يفعل ذلك كله.

{بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} : بل: للإضراب؛ أي: لو شاء الله سبحانه لآمنوا جميعاً، ولكن لم يشأ، أو: بل لله القدرة على كلّ شيء، والإتيان بما طلبوه، ولكن لم يشأ، أو: أنّ علمه وإرادته لم تشأ ذلك؛ له الخلق والأمر سبحانه.

{أَفَلَمْ يَايْـئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} : أفلم: الهمزة للاستفهام، والفاء: للتوكيد (فاء السّببية)؛ ما قبلها سبب ما بعدها.

{يَايْـئَسِ} : يعلم، أو يقنط، أو يتبين.

1 -

أفلم يعلم الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً، ولكنّه لم يشأ، بل ترك لهم الخيار.

2 -

ألم ييأس (يقنط) هؤلاء المؤمنون من إيمان هؤلاء المشركين.

3 -

أفلم يتبين للذين آمنوا أن الله قادر أن يجعل النّاس أمة واحدة؛ أي: على دين واحد، وملة واحدة، ولكنه لم يشأ؛ فهم لم يستطيعوا أن يهدوا واحداً منهم، ولو شاء الله لهدى النّاس جميعاً.

{وَلَا} : الواو: استئنافية؛ لا: النّافية.

{يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الّذين كفروا بالرّحمن.

{تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} : القارعة لغة: هو أن تأتي بشيء صلب، وتضرب به شيئاً صلباً؛ فيحدث صوتاً. أو القارعة ما القارعة، وما أدراك ما القارعة، شيء مخيف مرعب غيبي، داهية، أو مصيبة، أو كارثة تقرع قلوبهم. ومن أسماء يوم القيامة: القارعة، والصاخة، والطامة، والقيامة، والواقعة، والأزفة، والحاقَّة.

{بِمَا صَنَعُوا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، أو حرف مصدري بما صنعوا من الكفر، والشّرك، والمعاصي.

{أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} : تحل على رؤوسهم مثل الكوارث، والصواعق، والمصائب الجوية، أو قريباً من منازلهم.

{حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ} : حتّى: حرف غاية، نهاية الغاية.

{يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ} : العذاب، أو موتهم، أو يوم القيامة.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} : إنّ: للتوكيد.

{لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} : فيه معنى المكان يعودون إلى الجنة، والزّمان يوم القيامة؛ ميعاد: مشتقة من الوعد: هو زمن التّواعد، أو مكان التّواعد، أمّا المعاد: من عاد يعود إلى بلده، معاد الرّجل: بلده الّتي يعود إليها؛ يذهب يسافر في البلاد، ثمّ يعود إلى بلده؛ فالله سبحانه لا يخلف الميعاد: ما وعد به؛ سواء أكان المكان، أم الزمان؛ فهناك فرق بين الميعاد والمعاد، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85].

ص: 90

سورة الرعد [13: 32]

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} :

{وَلَقَدِ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} : الخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء: يعني: التّحقير، والتّكذيب، والتّصغير من قدر الشخص الآخر، أو الشّيء، والاستخفاف به، والعيب عليه.

{بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} : برسل: الباء: للإلصاق.

{مِنْ قَبْلِكَ} : منذ زمن قريب؛ مثل: عيسى عليه السلام

وغيره من الرسل.

{فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : فأمليت: الفاء: للترتيب، والتّراخي في الزّمن، والإملاء: هو الإمهال لمدة طويلة، أو التّأخير في العقوبة.

{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} : ثمّ: للترتيب، والتّراخي في الزّمن، أو للترتيب الذّكري.

{أَخَذْتُهُمْ} : بالعقوبة، والقتل، والهزيمة، والبلاء، والأخذ يكون عادة أليماً شديداً.

{فَكَيْفَ} : الفاء: عاطفة، كيف: للاستفهام، والتّعجب.

{كَانَ عِقَابِ} : فانظر كيف كان عقابي.

{عِقَابِ} : نكرة ليدل على شدته، وهوله عقاباً شديداً مثيراً للعجب.

لنقارن قوله في هذه الآية: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} ، وقوله في سورة الحج، وسبأ، وغافر:{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : من الإنكار.

آية: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} : تأتي في سياق أعمال السّخرية، والاستهزاء، والتّكذيب؛ فيكون العقاب شديداً، وأليماً، بينما:{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : تأتي في سياق الأعمال الأقل من السّخرية، والاستهزاء، ولكن أعمال تستحق الإنكار، والإنكار قد لا يصاحبه عقاب بل مجرد تحذير، أو عدم الرّضا بما عملوا؛ فكلمة عقاب: أشد، وأقوى، وتعقب الاستهزاء بدين الله، ورسله

وغيرها.

ص: 91

سورة الرعد [13: 33]

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} :

{أَفَمَنْ هُوَ} : أفمن: الهمزة: للاستفهام الإنكاري؛ الفاء: للتوكيد، ومن: اسم موصول.

{هُوَ} : تعود على الله (ضمير منفصل)؛ تفيد التّوكيد، والحصر.

{قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} : القيام: تولي خلقه من رزق، وحفظ، وتدبير، ورقابة، وإحصاء، ورعاية.

{كُلِّ نَفْسٍ} : صالحة، أو طالحة مؤمنة، أو كافرة.

{بِمَا كَسَبَتْ} : بما: الباء: للإلصاق، والتّوكيد، بما كسبت من خير وشر. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) للبيان في معنى كسبت، ويعد لكلٍّ جزاءه. أين جواب الاستفهام؟ محذوف؛ ليترك للقارئ أن يجيب عليه كقوله: كمن ليس هو بقائم من الأصنام

وغيرها.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} : أي: كيف تشركون بالله، وتجعلون له شركاء، وهو الّذي يرزقكم، ويتولى أموركم، ويحفظكم، ويُحصي أعمالكم أو تجعلون لله شركاء عاجزين عن نفعكم، أو ضركم، ولا يعلمون بحالكم شيئاً، وغير قائمين بحالكم.

{قُلْ سَمُّوهُمْ} : سمّوا هؤلاء الشّركاء الّذين تزعمون. قل سموهم: على سبيل التهكم والسخرية منهم وليس على سبيل الأمر أو الواجب.

{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى الْأَرْضِ} : أم: حرف إضراب انتقالي؛ استفهام مصحوب بالإنكار، والتّوبيخ؛ أم تخبرونه بشركاء له تعبدونهم، وهو لا يعلمهم أو لا وجود لهم في الأرض؛ لأنّه يعلم ما في السّموات، وما في الأرض، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض، ولا في السّماء.

{أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} : أم: مجرد قول لا حقيقة له وعبث، أو مجرد قول بالأفواه لا معنى له، أو مجرد أسماء سميتموها أنتم، وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.

{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} : بل: للإضراب الانتقالي.

{زُيِّنَ} : المُزين هو الشّيطان.

{مَكْرُهُمْ} : والمكر: هو التّدبير الخفي الّذي يقوم به الماكر؛ للنيل من الممكور به، وهو احتيال في خُفية، وسببه عجز الماكر عن مقاومة الممكور به، وهو أوّل مراتب الجبن، ويتراوح بين الخفيف، والعظيم، ونتيجة المكر السّيئ هي:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

ومكرهم هنا يعني: جعل تلك الأصنام، والأوثان، والشركاء آلهة تعبد من دون الله.

{وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} : أي: أعرضوا هم أنفسهم عن الإيمان، واتباع الحق، ومنعوا الآخرين كذلك من اتباع الهدى، ودين الله.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} : ومن: الواو: استئنافية؛ من: شرطية تشمل الواحد، أو الجمع.

{يُضْلِلِ اللَّهُ} : من يختار طريق الضّلالة، ويعرض عن سبيل الله يُمد الله له في ضلاله، وإذا قارنا قوله تعالى في هذه الآية {يُضْلِلِ اللَّهُ} مع قوله تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} [غافر: 34]: يُضلل: أي: يمد الله له في ضلاله؛ يُضل: أي: هناك من يُضله.

{فَمَا لَهُ} : فما: الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ تفيد التّوكيد؛ ما: النّافية.

{لَهُ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{مِنْ هَادٍ} : من: استغراقية؛ أي: هادي يهديه إلى الحق، والصواب، والإيمان، ولن تجد له ولياً مرشداً.

ص: 92

سورة الرعد [13: 34]

{لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} :

ثمّ ذكر الله سبحانه جزاءهم على كفرهم، وشركهم؛ فقال:

{لَّهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : مثل: القتل، أو الأسر، أو ما يصيبهم من سائر المحن، والكوارث الكونية، والجوية، والأمراض، والقحط، والجوع، والخوف، والأوبئة.

{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} : ولعذاب: اللام: للتوكيد؛ بأنّ عذاب الآخرة:

{أَشَقُّ} : أشد، وأصعب.

{وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} : ما: النّافية.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص.

{مِنَ} : استغراقية.

{مِنْ وَاقٍ} : يقيهم عذابه؛ أي: يمنع عنهم، أو يصرف العذاب عنهم، أو يخففه.

ص: 93

سورة الرعد [13: 35]

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} :

بعد ذكر عذاب الكفار في الدّنيا (لهم عذاب في الحياة الدّنيا ولعذاب الآخرة أشق)، يذكر سبحانه ثواب المتقين، وما أعده لعباده المؤمنين فيقول:

{مَثَلُ الْجَنَّةِ} : لماذا قال سبحانه: مثل الجنة؟ والتّمثيل من معانيه: هو أن تلحق مجهولاً بمعلوم؛ لتأخذ منه الحكم، أو الصّورة؛ لأنّه لا توجد ألفاظ عندنا في الدّنيا تؤدي معنى ما في الجنة؛ لأنّ فيها أشياء لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على قلب بشر؛ إذن: لا يبقى لنا إلا المثل، وهو أن نأتي بأشياء نعلمها، ونقارنها بأشياء لا نعلمها؛ حتّى نحصل على صورة محتملة.

{وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} : وعد من الوعد، والوعد عادة إذا أطلق ولم يُقيد يدل على الخير، والوعيد: يدل على الشّر.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي: تنبع أنهار الجنة من تحت تلك الجنات، وأنهار الجنة من الماء الغدق، واللبن، والخمر، والعسل.

{أُكُلُهَا دَائِمٌ} : أي: لا ينقطع، ولا ينقص، وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين؛ دائم على مدار الزّمان، والأكل فيها ليس بسبب الجوع؛ لأنّه ليس فيها جوع، ولا ظمأ، وإنما للشهوة، والمتعة، واللّذة.

{وَظِلُّهَا} : وظلها دائم، لا تنسخه شمس، أو غيرها.

{تِلْكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ويفيد التّعظيم، ويشير إلى الجنة.

{عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} : عقبى: أي: العاقبة، عاقبة أمرهم الجنة، على وزن فُعلى: عقبى: اسم بمعنى: الجزاء، أو آخر كلّ أمر. ارجع إلى الآية (22) من نفس السّورة.

{وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} : ولم يقل: وعقبى الّذين كفروا؛ لأنّ الّذين كفروا قد يرجعوا عن كفرهم، ويعودوا للإيمان؛ أمّا الكافرين فهم الّذين أصبحت صفة الكفر عندهم ثابتة، وماتوا، وهم كفار، وذكر عقبى الّذين اتقوا، وإتباعه بذكر عقبى الكافرين فيه بشرى للمتقين، وإنذار للكافرين.

ص: 94

سورة الرعد [13: 36]

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ} :

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : الّذين: اسم موصول؛ يفيد المدح.

{آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : مؤمنو أهل الكتاب من اليهود، والنّصارى؛ مثل: عبد الله بن سلام، وأصحابه، وسلمان الفارسي من مؤمني أهل الكتاب أهل التّوراة، والإنجيل، وإذا قارنا (الذين آتيناهم الكتاب بالذين أوتوا الكتاب) في القرآن: نجد أن (الذين آتيناهم الكتاب): تأتي في سياق المدح والتفضيل والثناء، وأما (الذين أوتوا الكتاب) تأتي في سياق الذم والتوبيخ.

{يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : من الآيات، والذّكر الحكيم (القرآن)؛ لأنّه موافق لما جاء في كتبهم، وهذا الفرح من الفرح المحمود. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه. انظر كيف قال تعالى:(يفرحون) ولم يقل يؤمنون؛ فقد يكون مجرد فرح (سرور) لبعضهم، ثم ما لبثوا أن كفروا به؛ لأنك لم تتبع ملتهم.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو السّببية، بما أنزل عليك يا محمّد صلى الله عليه وسلم، والفرح عادة يكون عندما يحقق الإنسان أمراً طيباً جلب له النّفع، وهناك فرق بين: أنزل عليك، و: أنزل إليك. ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة.

{وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} : من: ابتدائية بعضية؛ أي: بعض الأحزاب. والأحزاب: جمع حزب؛ أي: طائفة متحزبة مجتمعة على هدف، أو أهداف من الّذين تحزبوا من المشركين من أهل مكة، ومن حولهم من الأعراب، أو أهل الكتاب: اليهود.

{مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} : من: للعاقل؛ تشمل: المفرد، والجمع.

{يُنْكِرُ بَعْضَهُ} : مثل: نبوة محمّد، أو ما جاء في وصف النّبي المرتقب، أو ينكر ما جاء في رجم المحصن، أو ما جاء به في البعث، والحساب. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (51)؛ لبيان معرفة معنى: الجحود، والإنكار، والفرق بينهما.

{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} : جواب للمنكرين، قل لهم يا محمّد:

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{أُمِرْتُ أَنْ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{أَعْبُدَ اللَّهَ} : وحده؛ أي: أطيع أوامره، وأجتنب نواهيه.

{وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} : لا: النّافية.

{أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ} : ولا أشرك: توكيد لـ: أمرت أن أعبد الله.

{إِلَيْهِ أَدْعُوا} : تقديم إليه: يفيد الحصر؛ أي: لا أدعو، ولا أعبد غيره.

{وَإِلَيْهِ مَآبِ} : تقديم إليه: يفيد الحصر؛ أي: إليه وحده مرجعي، ومصيري.

لنقارن هذه الآية: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} مع الآية (17) من سورة هود: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} .

آية سورة هود: جاءت في سياق الكفر بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أشد من الإنكار، وأشد من التّكذيب؛ فجاء التّحذير بالقول: فالنّار موعده.

أمّا آية سورة الرعد: جاءت في سياق الإنكار، وهو أقل من الكفر، والتّكذيب؛ فلم يذكر عاقبة الإنكار الّتي هي حتماً أقل من الكفر.

فآية هود: تحذر من الكفر به، وآية الرعد: تحذر من إنكار بعض الكتاب (التوراة).

ص: 95

سورة الرعد [13: 37]

{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا وَاقٍ} :

{وَكَذَلِكَ} : أي: كما أرسلنا، أو مثل ما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه، وأنزلنا عليهم الكتب بلغاتهم.

{أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} : أنزلنا عليك حكماً عربياً (قرآناً عربياً)، وسمي حكماً؛ لما فيه من الفرائض، والأحكام، أو حكماً عربياً يفصل بين الحق، والباطل، أو القرآن بحد ذاته حُكم، أو الحكم العدل.

{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم} : لئن: اللام: لام التّوكيد؛ إن: شرطية تفيد الشّك، أو النّدرة في اتباع أهوائهم.

{أَهْوَاءَهُم} : جمع هوى، والهوى تعريفه: هو ما تميل إليه النفس باطلاً وبعيداً عن الحق، ولا دليل له. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (56).

مثال الصّلاة إلى بيت المقدس، أو اتباع ملتهم.

{بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} : عن طريق الوحي، أو إنزال القرآن، وهذه الآية تذكرنا بآية أخرى وهي قوله تعالى:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِى جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] نجد: (الذي) أبلغ من (ما)؛ لأن (الذي) تستعمل في أمور محددة مثل القرآن، أما (ما) قد تستعمل في أمر تحويل القبلة، أو أهواء الذين آتيناهم الكتاب، والأحزاب

وغيرهم.

{مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ} : من: استغراقية؛ تستغرق كلّ ولي في الدّنيا، والخطاب إن كان موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد به أمته.

{وَلِىٍّ} : معين، مساعد؛ كالقريب.

{وَلَا وَاقٍ} : حافظ، أو حفيظ يمنعك من العذاب، من الوقاية: وهي الصّيانة، والحفظ؛ من عذاب الله، وغضبه، وسخطه، وعقابه، أو من الوقوع في السّيئات، أو المعاصي، أو الأخطاء.

ص: 96

سورة الرعد [13: 38]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: لام التّوكيد؛ قد: تحقيق، توكيد التّحقيق في إرسال رسلٍ من قبلك؛ نزلت هذه الآية رداً على طعن المشركين على النّبي بتعدد الزّوجات، والأولاد بدلاً من التّفرغ للطاعة، والدّعوة، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، وكما أرسلناك:

{أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} : بشراً لهم أزواج، وذرية وأولاد، وأيضاً:

{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} : وما كان لرسول أن يأتي بآية: بمعجزة مصاحبة لمجيئه، أو قادر في أي زمن من الأزمنة على الإتيان (كان تعني: كلّ الأزمنة: في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ولا يحق لأحد أن يقترح على الله أن يرسل مع أي رسول آية.

{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : إلا: أداة حصر.

{بِإِذْنِ اللَّهِ} : بإرادة الله. ارجع إلى سورة يونس آية (100) لبيان معنى الإذن.

{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} : لكلّ: اللام: لام التّوكيد؛ الأجل: هو الوقت، أو الزّمن المضروب لانقضاء الشّيء؛ أي: لكلّ أجل كتاب؛ أي: لكلّ زمن نهاية مكتوبة، أو مدونة في اللوح المحفوظ، وأجل الإنسان: هو الوقت، أو الزّمن، أو المدة الّتي سيعيشها حياً ثم يموت، مثلاً أجل الإنسان (ستون سنة) فكل أجل مكتوب في اللوح المحفوظ.

ص: 97

سورة الرعد [13: 39]

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} :

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} : المحو: هو إذهاب الأثر، أو ينسخ الله من الأحكام، والشّرائع ما يشاء؛ أي: الإزالة والاستئصال الكامل.

{وَيُثْبِتُ} : يُبقي، ولا يغير، أو يحول، أو يبدل الله ما يشاء.

{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} : أي: العلم الأزلي الّذي لا يطاله شيء من التّبديل، أو التّغيير، أو التّحويل، والمدون في أمّ الكتاب، وقيل: أمّ الكتاب: اللوح المحفوظ، وقيل: اللوح المحفوظ الّذي يقع فيه المحو، وأمّ الكتاب: لا يتغير فيه شيء أبداً؛ أي: أم الكتاب غير اللوح المحفوظ.

ص: 98

سورة الرعد [13: 40]

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} :

{وَإِنْ مَا} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك؛ ما: للتوكيد.

{نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : نرينك في الدّنيا؛ نرينك: النّون كذلك للتوكيد؛ أي: وأنت حي ترزق؛ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

{بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : من العذاب؛ مثل: القتل، والهزيمة، والبأساء، والضّراء؛ بعض، وليس كلّ الّذي نعدهم؛ لأنّ ما تبقى سيكون في الآخرة.

{أَوْ} : للاختيار.

{نَتَوَفَّيَنَّكَ} : قبل أن نريك عذابهم، والنّون: للتوكيد.

{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} : فإنما: الفاء: للتوكيد؛ إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر، والتّوكيد.

{عَلَيْكَ} : أن تبلِّغ ما أنزل إليك من ربك؛ هذه هي مهمتك، وعلينا الحساب. وتقديم علينا: يفيد الحصر؛ علينا حسابهم في الآخرة، والجزاء.

ص: 99

سورة الرعد [13: 41]

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :

{أَوَلَمْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، الواو: لمطلق الجمع، وتدل على شدة الإنكار، وتعني: الانتظار، والتّهدئة، والتّفكير، أو ترى شيئاً مرئياً بعينك، وتنكره؛ فالواو: تفيد: كيف تنكر ذلك، ولمعرفة الفرق بين (أولم يروا)، وقوله تعالى:(أفلم يروا)؛ ارجع إلى سورة سبأ آية (9) للبيان، ولمعرفة الفرق بين (أولم يروا)، وقوله تعالى:(ألم يروا)؛ ارجع إلى سورة الأنعام آية (6) للبيان.

{يَرَوْا} : رؤية بصرية، أو عينية، أو رؤية قلبية، أو رؤية علمية، من الدّراسات والأبحاث العلمية الكونية، واكتشافات العلم الحديث.

{أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} : لها عدة تفسيرات؛ نذكر منها:

التفسيرات القديمة: الأرض: إمّا تعني: بقعة، أو قطعة من الأرض، أو تعني: الأرض كلّها، وفي قوله:(نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) عدة تفسيرات؛ ذكرت في كتب التفسير؛ منها:

1 -

خرابها بموت أهلها، ونقصان في الأنفس، والثّمرات بالزّلازل، والهدم، والخراب بالفيضانات، والكوارث الجوية.

2 -

بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير.

3 -

بانتشار الإسلام، ونقصان ملل الكفر، والشّرك.

أمّا التّفسير العلمي: فقد ثبت علمياً: أنّ القسم اليابس من الأرض في نقصان مستمر، وأنّ أرضنا الابتدائية كانت مئة ضعف الأرض الحالية، والأرض تنكمش؛ لأنّها تفقد من ثوران البراكين ملايين الأطنان من المادة، والطاقة بشكل غازات، ونار، والتّراب البركاني، وما تفقده يعادل ما تفقده الشّمس، حتّى تبقى المسافة بين مركز الشّمس، ومركز الأرض ثابتة، وتقدر بـ (150 مليون كم)، ولولا ذلك لاحترقنا بقرب الشّمس منا، أو تجمدنا ببعد الشّمس عنا.

وهناك من فسر هذه الظاهرة بعوامل التعرية، أو غيرها من التّفسيرات الأخرى؛ فلا ينطبق عليها قوله تعالى:{مِنْ أَطْرَافِهَا} (من جميع أطرافها)، وهي تفسيرات جزئية. ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (44)؛ لمزيد من البيان.

{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} : أي: حين يحكم الله بحكم لا أحد يستطيع رد حكمه بعد إصداره، ولا يستطيع أحد أن يبطل حكمه، أو ينقضه، أو يعقّب على حكم الله بأي شيء.

{وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} : وهو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{سَرِيعُ الْحِسَابِ} : لأنّه سبحانه يعلم ما تكسب كلّ نفس، وجميع الخلق حسابهم كحساب الواحد منهم؛ فهو لا يحتاج إلّا للقول: كن فيكون، ولأنّه سبحانه لا يشغله فعل عن فعل، أو يحاسب هذا، والآخر عليه أن ينتظر في صف، كما نرى الواحد تلو الآخر. وأمّا الميزان: فهو لإقامة الحجة على العبد؛ فالله سبحانه قادر على أن يحاسبهم، كما يرزقهم كلّهم جميعاً في آن واحد، كما أجاب الإمام علي رضي الله عنه .

ص: 100

سورة الرعد [13: 42]

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} :

{وَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ قد: للتحقيق؛ أي: فعلاً مكر الّذين من قبلهم.

{مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : المكر: ارجع إلى الآية (33) من نفس السّورة.

مكر الّذين من قبلهم: بأنبيائهم، كما يمكر بك قومك؛ ليثبتوك أو يقتلوك، أو يخرجوك. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (30)؛ لمزيد من البيان.

{فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} : أي: لا يضر المكر إلا بإرادته، فلا يضر مكر الماكرين، ولا يخاف منه، ولا قيمة له، وهو زائل، والمهم: هو مكر الله سبحانه؛ يعني: الانتقام والأخذ، وهو الجبّار الدائم القادر على دحر أي مكر.

{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} : من خير، أو شر، وحسنة، أو سيئة، وسيجزي كلاً على عمله.

{وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} : السّين: للاستقبال القريب، لمن عقبى الدّار يوم القيامة.

{لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} : العاقبة المحمودة؛ أي: الجنة.

{لِمَنْ} : اللام: لام الاختصاص. ارجع إلى الآية (22) من السّورة نفسها.

ص: 101

سورة الرعد [13: 43]

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} :

يرد الله سبحانه في هذه الآية على منكري نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : جاء بصيغة المضارع بدلاً من قال: لتكرار قولهم، وتجدده؛ فهم استمروا على إنكارهم بقولهم:

{لَسْتَ} : ليس + التّاء؛ ليس: للنفي، والتّاء: للتأكيد.

{مُرْسَلًا} : من عند الله، أو رسولاً.

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: يكفي الله سبحانه أن يكون شهيداً بيني وبينكم على أنّي رسول الله إليكم، ولا تهم شهادتكم بأنّي رسول الله أم لا.

{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد.

{شَهِيدًا} : صيغة مبالغة من: شاهد. ارجع إلى الآية (133) من سورة البقرة؛ للبيان، وتقديم شهيداً على بيني وبينكم هو الأصل دائماً، ولكنه سبحانه قدم بيني وبينكم على كلمة شهيداً في آية واحدة فقط في سورة العنكبوت آية (52)؛ ارجع إلى سورة العنكبوت لمعرفة السبب.

{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} : من: للعاقل، وتشمل المفرد، والجمع.

{عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} : (القرآن)، ومن: قد تعود إلى الله سبحانه؛ فتكون توكيداً لقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} .

وقد تشمل جبريل عليه السلام، أو المؤمنين، أو أولي العلم، أو عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي.

ص: 102

سورة إبراهيم [14: 1]

سورة إبراهيم

ترتيبها في القرآن (14)، وفي النّزول (72)؛ نزلت بعد سورة نوح (71).

{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} :

{الر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

{كِتَابٌ} : كتابٌ: أي: القرآن؛ فهو يسمّى: كتاباً؛ لأنّه مكتوب في الأسطر، وفي اللوح المحفوظ، ويسمّى: قرآناً؛ لأنّه مقروء، وله أسماء أخرى كثيرة؛ ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة.

كتاب: بصيغة النكرة؛ للتّعظيم، والتّفخيم.

{أَنزَلْنَاهُ} : أي: جملة واحدة (دفعة واحدة)، من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر.

{إِلَيْكَ} : ولم يقل عليك.

{إِلَى} : تفيد عموم الغايات؛ أي: لتبلّغ النّاس ما أنزل إليهم من ربهم، ولمعرفة الفرق بين إليك، وعليك: ارجع إلى الآية (3) من سورة آل عمران، والآية (4) من سورة البقرة.

{لِتُخْرِجَ النَّاسَ} : لتخرج: اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ تخرج النّاس: بدعوتهم إلى الإيمان، وتبليغهم ما أنزل إليك.

{النَّاسَ} : مشتقة من النّوس؛ أي: الحركة الّتي هي صفتهم، وتشمل الجن، والإنس.

{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : من: ابتدائية.

{الظُّلُمَاتِ} : جمع: ظلمة، وتشمل: ظلمة الجهل، والضّلال، والتّقليد، والشّرك، والكفر.

{إِلَى النُّورِ} : الإيمان، والتّوحيد، والعلم، والنّور: مفرد، بينما الظّلمات: جمع، أو كثرة. دائماً في القرآن يجمع الظّلمات؛ لأن الظّلمات مختلفة، وأمّا النّور: فهو واحد، وذلك لأن النور سببه أو مصدره هو الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه واحد كقوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وأما الظلمات متعددة لتعدد أسبابها، أو مصادرها: الطاغوت، والأنفس، والأهواء، والشياطين، والأصنام.

{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} : بإذن: بأمر ربهم، وإرادته، وتوفيقه، وعونه، والباء: للإلصاق، والتّوكيد، وبإذن ربهم. الإذن: اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل، أو قول، وتستعمل للعمل الّذي ليس لنا تدخل فيه؛ أي: هو تدبير خارج عن إرادتنا، بينما القول:(إن شاء الله) تستعمل للأمر الّذي لنا شأن، أو تدخل به، أو نقوم به.

{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} : إلى: تفيد عموم الغاية.

{صِرَاطِ} : دين الله، وهو الإسلام، والصّراط: هو الطّريق المستقيم الواضح الموصل إلى الغاية بأقصر مسافة، وأقصر زمن، وبسهولة.

{الْعَزِيزِ} : القوي الّذي لا يُغلب، ولا يُقهر، والممتنع.

{الْحَمِيدِ} : صيغة مبالغة من الحمد؛ كثير الحمد من خلقه؛ فهو المحمود، سواء حمده خلقه، أم لم يحمدوه؛ فهو المحمود في ذاته، والّذي ثبتت له صفة الحمد من قبل أن يوجد من يحمده. ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (2) لمزيد من البيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (24) من سورة الحج، وهي قوله تعالى:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} نجده حذف اسم العزيز؛ ارجع إلى سورة الحج لمعرفة السبب.

ص: 103

سورة إبراهيم [14: 2]

{اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} :

هذه الآية يمكن وصلها بالآية السّابقة؛ فتقرأ: صراط العزيز الحميد الله الّذي له ما في السّموات، وما في الأرض، وتقرأ مرققة، أو تقرأ غير مرققة؛ أي: مفصولة عمّا قبلها.

اللهُ الّذي له ما في السّموات، وما في الأرض.

اللهِ: إذا قرئت بالكسر: هي بدل (العزيز الحميد)، وإذا قرأت بالضم (اللهُ): فهي مبتدأ، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: هو الله الّذي له ما في السّموات والأرض.

{اللَّهِ} : اسم الله العلم الدّال على واجب الوجود، وتعني: المعبود، ويشمل كلّ صفات الله العليا.

{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : السّموات (ظرف)، وما في السّموات (مظروف)؛ أي: له السّموات وما فيهن، وله الأرض وما فيها؛ أي: السّموات السّبع وما فيهن، والأرضين السّبع وما فيهن، الكل ملكه، لا يشاركه فيه أحد؛ كقوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].

وتكرار (ما في) لأنّ: هناك أجناس من المخلوقات موجودة في السّموات لا توجد على الأرض، أو بالعكس؛ مثل: حملة العرش، ومن حوله، وغيرهم من الملائكة، والكواكب، والأقمار، والشّموس، وهناك مخلوقات في الأرض تخص الأرض، وحدها واستعمال (ما) الّتي تشمل العاقل وغير العاقل.

{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ} : الويل: العذاب، أو الهلاك، وقيل: دعاء بالشّر، وإنذار بالعذاب، والويل يكون في الدّنيا والآخرة، وليس فقط في الآخرة.

{لِّلْكَافِرِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} : والعذاب الشّديد أحد أنواع العذاب؛ فهناك العظيم، والأليم، والمهين، والمقيم؛ عذاب شديد لا يطاق، أو يمكن تحمله.

ص: 104

سورة إبراهيم [14: 3]

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} :

{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} : وويل للكافرين الّذين يستحبون الحياة الدّنيا.

{يَسْتَحِبُّونَ} : على وزن استفعل؛ أي: أجهدوا أنفسهم، وأوغلوا في حب الدّنيا، وهناك فرق بين أحب واستحب. أحب: اكتفى بالحب العادي بدون تكلف، وجهد.

أمّا استحب: السّين، والتّاء: تدل على الطّلب؛ أي: طلب حب الدّنيا، وتوغل في حبه للدنيا، وأرهق نفسه في طلبها، والرّكض وراءها. ووصفها الله سبحانه بالدّنيا، أو السّفلى، أو الزّائلة؛ أي: يؤثرونها، ويفضلونها على الآخرة.

{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : يمنعون النّاس من الدّخول في دين الإسلام، أو يشوهون دين الله كي يبعدوا النّاس عن هذا الدّين؛ فهم ضالون لأنفسهم مضلون لغيرهم.

{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} : يبغون شريعة معوجّة منحرفة؛ كي تحقق رغباتهم، وأهوائهم. يصدون، ويبغونها: بصيغة المضارع الدالة على التكرار والتجديد؛ أي: الاستمرار في الصد والابتغاء.

{أُولَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} : أولئك: اسم إشارة، واللام: للبعد، تشير إلى دنو منزلتهم، في ضلال بعيد؛ لأنّهم جمعوا بين الضّلال، والإضلال، وبذلك أصبحوا في ضلال بعيد يصعب الرّجوع منه إلى طريق الهدى، والدّين.

ص: 105

سورة إبراهيم [14: 4]

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} : وما: الواو: استئنافية؛ ما: النّافية.

{أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} : من: ابتدائية استغراقية؛ أرسلنا، ولم يقل: بعثنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان.

{إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} : إلا: أداة حصر، حصراً وقصراً بلسان قومه؛ أي: يتكلم لغة قومه لماذا؟

{لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} : ليبين: اللام: لام التّعليل؛ يبين لهم: يوضح، ويشرح لهم ما أُنزل عليهم من ربهم.

{فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ} : فمنهم من يختار التّصديق، والإيمان، ويستجيب لما أمره الله، ويتبع رسوله فيهديه الله، ويشرح صدره، ويمدّه بيد العون، ومنهم من يختار طريق الضّلالة، والكفر، ويرفض الإيمان، والتّصديق بما أنزل الله، ويسير في طريق الضّلالة؛ فيمد له ربه في غيّه، وضلاله.

فالله هو الهادي؛ فلا يضل أحداً لأنّه: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]. إلا من أراد الضلال، وابتعد عن طريق الهداية، ولم يعد في قلبه ذرة إيمان، ولا أمل فيه فيتركه وشأنه.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : وهو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْعَزِيزُ} : القوي الغالب الّذي لا يُغلب، والقاهر الّذي لا يُقهر، والممتنع لا يضره أحد.

{الْحَكِيمُ} : في تدبير شؤون خلقه، وكونه، والحكيم: من الحكمة؛ فهو أحكم الحكماء، والحكيم: من الحكم؛ فهو أحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة (129) لمزيد من البيان.

ص: 106

سورة إبراهيم [14: 5]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} : ولقد: الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: لام التّوكيد؛ قد: حرف تحقيق.

{مُوسَى بِآيَاتِنَا} : التّسع إلى فرعون؛ منها: العصا، واليد، والسّنين، والطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع، والدّم، أو إلى بني إسرائيل

وغيرها من الآيات؛ ومنها: فلق البحر، وفتق الجبل، وإنزال التّوراة، والمن، والسّلوى، والغمام.

{أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} : أن: للتوكيد.

{أَخْرِجْ قَوْمَكَ} : بني إسرائيل.

{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : ظلمات الكفر، والشّرك، والضّلال، والجهالة إلى نور الإيمان والتّوحيد. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة، ولم يقل في هذه الآية بإذن ربهم كما في الآية (1) من نفس السورة؛ لأنه سبقها قوله تعالى:{فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ} ، أو ربما لأن دعوة موسى قومه قد تمت ومضت.

{وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} : حدثهم، أو عظهم؛ لأنهم نسوا ذلك.

{بِأَيَّامِ اللَّهِ} : أي: الأحداث الّتي وقعت لهم، وللأمم السّابقة.

ويقصد باليوم؛ أي: الحدث البارز الهام الّذي وقع في ذلك اليوم، وليس اليوم بذاته؛ أي: بالوقائع، والمحن، والشّدائد، والأحداث المؤلمة الّتي مرت عليهم مثل: قهر فرعون لهم وقتل أولادهم، واستحياء نسائهم، وبنعم الله عليهم مثل فلق البحر، وإنقاذهم من فرعون، وجنوده، والمن، والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وإنزال التّوراة، وضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب.

{لَآيَاتٍ} : اللام: لام التّوكيد؛ آيات: معجزات أو براهين، وأدلة لكلّ صبّار شكور.

{لِكُلِّ صَبَّارٍ} : لكلّ: اللام: لام الاختصاص، كثير الصّبر، مبالغ في الصّبر على وزن فعّال، وإذا قارنا صبَّار بصبور؛ صبور: تدل على الدوام (دوام الصبر)، أو باستمرار، وهذا من الصعب فعله والقيام به، أما كونه صبَّار؛ أي: كثير الصبر فهذا نراه عند بعض الناس، وليس الكل، ولم ترد كلمة صبور في كل القرآن الكريم.

{شَكُورٍ} : كثير الشّكر وتدل على الدوام، وهناك من الناس من هو كثير الشكر، أو دائم الشكر كما أخبرنا الله سبحانه عن نوح عليه السلام :{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، أو مبالغ في الشّكر في أيّام الله منها الّتي تجلت بأحداث مؤلمة تحتاج إلى صبر كثير، ومنها: ما تجلت بحوادث حسنة تستحق الشّكر؛ أي: كانت آيات تحتاج إلى كثير من الصّبر، أو كثير من الشّكر؛ أي: آيات ابتلاء لكل مؤمن كثير الصّبر، أو كثير الشّكر.

وهذا ما يؤيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي أخرجه مسلم في صحيحه: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا المؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له» .

وقد وردت آية: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} : في (4) سور من القرآن:

في سورة إبراهيم هذه الآية (5)، والآيات هنا تعني: المعجزات الّتي حدثت في زمن موسى عليه السلام .

وفي سورة لقمان، الآية (31): الآيات هنا تعني الآيات الكونية كقوله تعالى: يولج الليل في النّهار، والنّهار في الليل، والفلك الّتي تجري في البحر، وسخر الشّمس، والقمر كلّ يجري إلى أجل مسمّى؛ الدّالة على عظمة الله وقدرته.

في سورة سبأ، الآية (19): الآيات هنا الكفر بنعم الله، وعدم شكر المنعم؛ الأمر الّذي أدّى إلى تمزيقهم وجعلهم أحاديث.

في سورة الشّورى، الآية (33): مزيد من الآيات الكونية الدّالة على عظمة الله تعالى، وقدرته الّتي تدعو إلى التّفكر والشّكر.

ص: 107

سورة إبراهيم [14: 6]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} :

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : إذ: ظرف زماني؛ بمعنى: واذكر إذ قال موسى لقومه (بني إسرائيل)، أو واذكر حين قال موسى: اذكروا نعمة الله عليكم؛ أي: ذكروا دائماً وفي كل حين ووقت نعمة الله عليكم.

انتبه في هذه الآية لم يقل: يا قوم، كما في الآية (20) من سورة المائدة، وإذ قال موسى لقومه: يا قوم التي فيها معنى التودد والتحبب والدعوة بلطف وحنان، وفيها معنى تعظيم المخاطب به؛ لأنّ ما ذُكر في شأن موسى وقومه في سورة إبراهيم فيها اختصار، وعدم ذكر يا قوم بينما في السّور الأخرى الّتي ذكر فيها يا قوم فيها تفصيل أكثر في شأن موسى وقومه، أو لأن موقف موسى في سورة إبراهيم موقف تحذير وتذكير ببعض المحن، والمصائب، والعذاب، والنّجاة، وليس موقف دعوة وتبليغ حتى يقول يا قوم.

{إِذْ أَنْجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} : ولم يقل: إذ نجاكم من آل فرعون، نجاكم: تعني ببطء، وزمن طويل، بينما أنجاكم: تفيد السّرعة في النّجاة؛ أي: أنجاكم بسرعة، وتعني: عبور البحر (بفلق البحر لكم)؛ لتنجوا من فرعون وجنوده، وتم ذلك في زمن قصير، وعملية خارقة للعقل عظيمة لا يقدر عليها إلّا الله وحده.

{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} : ارجع إلى الآية (49) من سورة البقرة؛ فهذه الآية تكرار للآية في سورة البقرة، وسورة القصص آية (4) مع الاختلافات التالية:

في هذه الآية قال تعالى: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ، بينما في آية البقرة:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} بدون إضافة الواو، إضافة الواو في آية إبراهيم تدل على أنّ تذبيح الأبناء هو أمر آخر، أو ثان؛ بالإضافة إلى سوء العذاب؛ أي: هنا يعدد لهم بعض المحن منها: سوء العذاب، وتذبيح الأبناء، واستحياء النّساء؛ ففيها تفصيل لأنواع العذاب، وتعظيم لما حدث لهم؛ بينما في سورة البقرة: سوء العذاب تشمل يذبحون أبناءكم.

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : فآية إبراهيم فيها زيادة الواو تدل على الاهتمام الذي أدى إلى الإسراع في النجاة فاستعمل أنجيناكم حين بلغ السيل الزبى ونفذ الصبر ووصلت الأمور إلى أقصاها، ولم يقل بناتكم؛ لأنّ النّساء تدل على كثرة العدد أوّلاً، وثانياً: على تحمل المشقة، والخدمة أكثر من البنات. ويستحيون نساؤكم بدأت بحرف العطف (هو الواو) في كل السور التي وردت فيها هذه الآية؛ لأنها تختلف عن سوء العذاب الذي فيه إهانة وذلة وهتك للأعراض. ارجع إلى سورة القصص آية (4) لمزيد من البيان في سبب إضافة الواو لكلمة ويذبحون أبناءكم.

{وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (49).

ص: 108

سورة إبراهيم [14: 7]

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} :

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} : إذ: ظرف زماني؛ بمعنى: حين، أو: واذكر إذ.

{تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} : إذ وعد ربكم، أو أعلم بتوكيد (تأذن فيها مبالغة في الإعلام)، وقيل: حدث هذا الإعلام على جبل الطّور، وأعلم بهذه الآية، والله أعلم.

{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} : لئن: اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الشّك والاحتمال في شكرهم لله تعالى.

{لَأَزِيدَنَّكُمْ} : النّون: للتوكيد بدلاً من قوله: لأزيدكم. والشّكر؛ يعني: الاعتراف بالنّعمة للمنعم؛ أي: هو الّذي أنعمها، والشّكر عليها يكون باللسان، وعدم سترها، والسّجود سجود الشّكر مثلاً، وطاعة الله. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10) لمزيد من البيان في شكرتم.

{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} : مثل: لئن شكرتم، ولئن كفرتم: أي: جحدتم نعمة الله؛ أي: أنكرتموها، وكفرتم بالله و وحدانيته وربوبيته.

{إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} : إنّ: للتوكيد.

{عَذَابِى} : أضاف العذاب له سبحانه؛ للتحذير والإنذار، ولم يقل: إن عذاب الله لشديد، ولم يقل: لأعذبنكم (كما قال لأزيدنكم)، وإنما أطلق العذاب ليشملهم ويشمل غيرهم من الكفار.

{لَشَدِيدٌ} : اللام: لام التّوكيد، عذابي: في الدّنيا، أوفي الآخرة لشديد، ولذلك إياك أن تنشغل بالنّعمة، وتنسى المنعم؛ لأنّه سبحانه هو الّذي آتاك إياها.

ص: 109

سورة إبراهيم [14: 8]

{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} :

جاءت هذه الآية في عقب الآية (لئن شكرتم لأزيدنكم)؛ حتّى لا يظن أحد من قوم موسى (بني إسرائيل)، أو غيرهم أنّ الله سبحانه بحاجة إلى شكرهم، أو عبادتهم، فأراد الله سبحانه مسح هذا الاعتقاد من عقول خلقه على لسان موسى بقوله:

{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا} : إن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك. والكفر: هو إما كفر عقيدة، أو كفر لنعم الله تعالى؛ أي: جحود لها وسترها.

{أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} : أنتم: للتوكيد.

{وَمَنْ} : للمفرد، والمثنى، والجمع، وللعاقل؛ ومن: استغراقية تشمل كلّ من في الأرض.

{فِى الْأَرْضِ} : في ظرفية للمظروف؛ أي: من في الأرض، ولم يقل: على الأرض؛ لأن الطبقة الغازية المحيطة بالأرض تابعة للأرض فنحن نسير في الأرض.

{جَمِيعًا} : للتوكيد مرة أخرى.

{فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} : فإن: الفاء: للتوكيد؛ إنّ: للتوكيد أيضاً.

{لَغَنِىٌّ} : اللام: للتوكيد من غناه؛ غني عنكم، وعن إيمانكم وشكركم وطاعتكم.

{حَمِيدٌ} : ارجع إلى الآية (1) من نفس السّورة؛ للبيان.

ص: 110

سورة إبراهيم [14: 9]

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} :

قيل: هذا كلام مبتدأ من الله سبحانه يخاطب به الله قريش، أو كفار مكة، أو المسلمين، أو الكل، ومنهم من قال: أنّه تتمة من كلام موسى عليه السلام .

{أَلَمْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتقرير، ولم: للنفي، وتعني: أتاكم نبأ الّذين من قبلكم.

{يَأْتِكُمْ نَبَأُ} : المخاطب على الأرجح هو النبي صلى الله عليه وسلم وأمته؛ يصل إليكم، أو يجيئكم بسهولة. أتاكم تعني: المجيء بسهولة عن طريق القرآن.

{نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : النّبأ: الخبر العظيم المهم الذي له شأن؛ أي: ذو فائدة عظيمة يحصل به علم لأمر ما.

{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} : من قبلكم: أي: منذ زمن قصير، أمّا لو قال الّذين قبلكم بدون من؛ لكانت تعني: منذ زمن طويل، بدأ بقوم نوح؛ لأن ما قبل نوح كان النّاس أمة واحدة على دين واحد.

{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} : والّذين: تعني: الكثرة، ولم يقل: ومن بعدهم؛ أي: لم يقل قوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، وإنما أضاف والذين: التي تدل على الكثرة، ولو حذف الذين وقال: ومن بعدهم؛ تعني: القلة؛ لا يعلم عددهم ويحصيهم إلا الله. من بعدهم: هاء الضمير يعود على قوم نوح وعاد وثمود.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{اللَّهُ} : واجب الوجود، خالقهم ومحصيهم.

{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالبينات: الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ البينات: جمع بينة: البرهان، أو الدليل القاطع؛ (جاءتهم رسلهم): بالحجج الواضحة، والبراهين، والمعجزات الدّالة على صدق دعوتهم، وإلى عبادة الله وحده.

{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} : فردوا: الفاء: للمباشرة، والتّعقيب على مجيء الرّسل بالبينات؛ ردوا أيديهم في أفواههم؛ ردوا: فيها معنى التكرار؛ أي: وضعوا أيديهم على أفواههم ثم أزالوها، ثم وضعوها لها عدة تفسيرات:

1 -

الرّد كناية عن العض، والعض على الأصابع ناتج من الغيظ، والضّجر من أنبيائهم ورسلهم، ورد اليد في الفم؛ أي: وضع اليد في الفم، وتعني: العض.

2 -

أو الرّد يعني: أشاروا إلى رسلهم بالسّكوت، وعدم الكلام مشبهاً ذلك بوضع اليد على فم المتكلم؛ لإسكاته (استعارة تمثيلية).

3 -

أو ردوا مواعظ ونصائح الأنبياء والرّسل؛ أي: الشّرائع، والأحكام؛ فردوها؛ أي: كذبوها، ولم يقبلوها بأقوالهم، فكأنهم ردوها وأرجعوها، ولم يستمعوا إليها سماع انتفاع وفائدة؛ فالرد يحتمل أن يكون حقيقة أو استعارة.

4 -

قد تعني: الاستهزاء والسخرية من البينات يضعون أيديهم على أفواههم من الضحك، ثم يرفعونها ويشيرون إلى الواعظ أو المتحدث وهكذا.

هذه الآية تذكرنا بالآية (26) من سورة فصلت، وهي قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .

{وَقَالُوا} : أي: قالت الأقوام لرسلهم.

{إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ} : إنّا: للتوكيد.

{كَفَرْنَا} : أي: لا نؤمن، ولا نصدق.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والاهتمام؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي.

{أُرْسِلْتُم بِهِ} : من الآيات، أو الأوامر، أو النّواهي.

{وَإِنَّا لَفِى} : تكرار إنّا: للتوكيد.

{لَفِى} : اللام: للتوكيد أيضاً، ولم يقل وإننا؛ لأنّه ذكر إنّا مرتين يكفي للتوكيد.

{شَكٍّ مِمَّا} : الشّك: هو تساوي طرفي النّفي والإثبات، والشك: خلاف اليقين، ويعني: اضطراب النفس في التردد بين شيئين.

{مِمَّا} : من + ما؛ من: ابتدائية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي، وما: أوسع شمولاً.

{تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} : بدلاً من تدعونا بزيادة النّون الّتي تدل على مجموعة الرّسل، وكذلك تدعوننا فيها معنى التّوكيد بزيادة النّون مقارنة بالآية (62) من سورة هود وهي قوله تعالى قال القوم لصالح:{وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} .

{مُرِيبٍ} : من الرّيب: وهو الشّك مع التّهمة يشكون في صدق رسلهم ورسالاتهم، ويتهمون رسلهم بالكذب المتعمد.

ص: 111

سورة إبراهيم [14: 10]

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ} : قالت رُسُلُهُمْ لأقوامهم: أفي الله شك: الهمزة في أفي: همزة استفهام إنكاري.

{اللَّهِ} : اسم العلم؛ اسم واجب الوجود.

{شَكٌّ} : أي: الكلام لا يحتمل الشّك؛ لأنّ الأدلة والآيات واضحة على وحدانية الله، وأنّه هو المعبود وحده؛ لأنّه هو وحده فاطر السّموات والأرض.

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فاطر من فطر؛ أي: شق. وفطر الخلق: أخرجهم للوجود. فاطر السّموات والأرض: خالق ومخرج السّموات والأرض للوجود. ارجع إلى سورة يوسف، الآية (101)؛ لمزيد من البيان، وسورة الأنعام، الآية (14).

{يَدْعُوكُمْ} : يدعوكم إلى الإيمان، والتّوحيد من خلال الرّسل والكتب.

{لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} : اللام: لام التّعليل؛ يغفر لكم: من الغفر، وهو السّتر، وبالتّالي محو بعض ذنوبكم.

{مِنْ} : بعضية، ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم كما في قوله تعالى في الآية (31) من سورة آل عمران:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ؛ لأنّ الخطاب هنا للكفار، ولو كان الخطاب للمؤمنين كما في آية آل عمران لقال تعالى: يغفر لكم ذنوبكم؛ أي: كلّ الذّنوب.

{وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : يؤخركم من التّأخير وهو الإمهال؛ أي: لا يعجل لكم العقاب، أو العذاب بسبب كفركم وعدم شكركم ومعاصيكم؛ حتّى ينقضي أجلكم المضروب لكم، أو المحدد لكم في علم الله، ومن هنا نفهم: أنّ الإيمان بالله تعالى يفيد في مغفرة الذّنوب وعدم تعجيل العقاب.

{قَالُوا} : أي: قال الّذين كفروا لرسلهم.

{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ} : إن: نافية أشد نفياً من: ما؛ أي: ما أنتم، وهذه هي حُجتهم الباطلة دائماً لا يريدون رسلاً بشراً مثلهم.

{إِلَّا} : أداة استثناء تفيد الحصر؛ أي: حصراً وقصراً ما أنتم إلا بشر مثلنا، وليس ملائكة أو غير ذلك.

{تُرِيدُونَ} : بالمضارع؛ يفيد التّجدد، والتّكرار.

{أَنْ تَصُدُّونَا} : أن: للتوكيد، والصّد يعني: تصرفونا أو تمنعونا.

{عَمَّا} : عن+ ما؛ عن: تفيد المجاوزة والمباعدة؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} : أي: من الأصنام وغيرها من الآلهة.

{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : فأتوا لنا بسلطان؛ الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ أي: برهان، أو حجة ظاهرة يدل على صدقكم.

{مُبِينٍ} : أي: واضح لكل فرد، وظاهر لا يحتاج إلى دليل؛ أي: مُظهر لنفسه.

ص: 112

سورة إبراهيم [14: 11]

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} : قالت: التاء: تدل على الكثرة؛ كثرة الرّسل؛ قالت الرّسل للذين كفروا.

{إِنْ نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} : إن: حرف نفي أقوى نفياً من: ما؛ أي: ما نحن إلّا بشر مثلكم.

{إِلَّا} : تفيد الحصر؛ أي: نحن حصراً بشراً مثلكم؛ كما تقولون.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : يمُنُّ: يُنعم ويحسن بالنّبوة والعلم والحكمة.

{عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : أي: يختار ويصطفي، ويؤيد ذلك قوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

{وَمَا كَانَ لَنَا} : ما ينبغي لنا، وما يحق لنا؛ ما: النّافية.

{كَانَ} : تشمل كلّ الأزمنة: في الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل.

{لَنَا} : اللام: للاختصاص؛ أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

{أَنْ نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ} : أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد بحجة أو برهان، كما تطلبون؛ لأن ما جاءكم من الآيات، والمعجزات يكفي، وإذا كان الله سبحانه يريد أن يأتيكم بآيات أخرى فبإذنه.

{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : إلا: حصراً؛ بأمر من الله. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة.

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : بعد تقديم الأسباب عليهم أن يفوضوا أمرهم إلى الله لتحقيق ما يسعوا إليه.

{فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : فليتوكل: الفاء: للتوكيد، واللام: لام الأمر أو الاختصاص. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لبيان معنى التوكل.

ص: 113

سورة إبراهيم [14: 12]

{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} :

{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} : ما: استفهامية؛ استفهام إنكاري.

{أَلَّا} : مركبة من: أن: حرف مصدري للتوكيد، ولا: حرف نفي أي: لا عذر لنا في ألا نتوكل على الله بعد أن هدانا وأرشدنا إلى السبل، أو الطرق الموصلة إلى الغاية، وهي النّجاة من عذابه، والفوز في الآخرة.

{وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} : وقد: الواو: للتوكيد؛ قد: تحقيق.

{هَدَانَا سُبُلَنَا} : جمع سبيل: وهو الطّريق الواضح الموصل إلى الغاية؛ أي: وقد دلنا، وبين لنا كلّ السبل الموصلة إلى النجاة.

{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} : ولنصبرن: الواو: استئنافية؛ لنصبرن: اللام: لام التّوكيد؛ نصبرن: النّون للتوكيد.

{مَا} : مصدرية، أو اسم موصول بمعنى: الّذي.

{آذَيْتُمُونَا} : سواء بألسنتكم، أو بأفعالكم. والأذى: هو الحدث المؤلم الذي يؤلم ساعة وقوعه، ثم ينتهي ويزول، أو يتحول إلى الضُّر، فالضُّر: أشد من الأذى، ويكون في النفس أو غيرها. وقوله تعالى:{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} ؛ أي: سيصبرون في المستقبل كما صبروا في الماضي؛ أي: سيستمرون على صبرهم على أذاهم؛ لأنهم لم يقولوا ولقد صبرنا على ما آذيتمونا.

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} : وعلى الله: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: ليستمر المتوكلون من المؤمنين على توكلهم على الله، ولا يكفهم، أو يمنعهم أذى الكفار، والّذين أشركوا.

{فَلْيَتَوَكَّلِ} : الفاء: تفيد التّوكيد، اللام: لام الأمر؛ يتوكل المتوكلون: كلّ متوكل مؤمن، وليس كلّ مؤمن متوكل.

ما هو الفرق بين: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وعلى الله فليتوكل المتوكلون؟

المرتبة الأولى: وعلى الله فليتوكل المؤمنون: فيها حث المؤمنين على التّوكل على الله سبحانه؛ أي: هم اتصفوا بصفة واحدة هي الإيمان، وتحثهم على التوكل.

المرتبة الثانية: وعلى الله فليتوكل المتوكلون: المتوكلون في هذه الآية اتصفوا بصفتين: الإيمان، والتّوكل، والآية تحثهم على الاستقامة، والاستمرار على التوكل؛ فكل متوكل مؤمن، وليس كلّ مؤمن متوكل.

ص: 114

سورة إبراهيم [14: 13]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا} : لرسلهم: اللام: لام التّوكيد.

{لَنُخْرِجَنَّكُم} : النّون: بدلاً من نخرجكم للتّوكيد. من: ابتدائية. أرضنا؛ أي: الوطن، أو قريتنا.

{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} : أو: للتخيير؛ إذن: هم أمام أحد الخيارين: إما الإخراج؛ أي: الطرد والنفي، وإما العودة؛ لا محالة إلى ملة الكفر، أو ملة الآباء من التقليد.

{لَتَعُودُنَّ} : مثل: لنخرجنكم: اللام: للتوكيد، والنّون لزيادة التّوكيد.

{فِى مِلَّتِنَا} : في ملة الكفر.

ولا تعني هذه الآية أن الرّسل كانوا في ملتهم، ثمّ خرجوا عنها، والآن عليهم أن يعودوا إلى ملة الكفر مرة ثانية، وهذا لم يحدث أبداً، ومستحيل.

فمعنى لتعودن في ملتنا: أي: تصيرن، والعرب تستعمل عاد بمعنى صار، والملة: الشّريعة والدّيانة، والملة: أصلها التّكرار، وسمّيت ملة لاستمرار أهلها عليها، والملة المذهب، ومنها الملل؛ أي: تكرار الشيء.

{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} : الفاء: للتوكيد؛ أي أوحى إلى الرّسل، وأوحى: من الإيحاء: وهو الإعلام بالخفاء بدون إعلام الكفار ما سيحدث لهم من الإهلاك. ارجع إلى سورة النساء، آية (163) لبيان معنى الإيحاء.

{لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} : اللام: للتوكيد، والنّون: كذلك لزيادة التّوكيد

{الظَّالِمِينَ} : المشركين الذين يصدون عن سبيل الله؛ جمع ظالم، والظالم: هو كلّ من خرج عن منهج الله يعتبر ظالم.

ص: 115

سورة إبراهيم [14: 14]

{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} :

هذا من تتمة ما أوحى إليهم ربهم.

{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} : نورثكم أرضهم، وديارهم بعد هلاكهم أو طردهم وإبعادهم.

{ذَلِكَ لِمَنْ} : إهلاك الظّالمين، وتمكين الرّسل، والمؤمنين (أو إسكان المؤمنين ديارهم). ذلك لمن: اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق، ومن: بمعنى الّذي، ومن: تعني: المفرد، والمثنى، والجمع. أما الذي: تختص بالمفرد المذكر.

{خَافَ مَقَامِى} : الخوف: هو توقع الضرر المشكوك في وقوعه، ومقامي؛ أي: القيام والوقوف بين يدي ربه للحساب بأن اتقى، ونهى النّفس عن الهوى. والمقام له زمان ومكان؛ وخاف مقامي: يدل على المبالغة في الخوف من القيام بين يدي ربه، ويعني: خوف دائم لا يتعلق بزمن معين، أو مكان؛ أي: في كل زمان ومكان.

{وَخَافَ وَعِيدِ} : وعيد بالعذاب، وتكرار خاف: للتوكيد؛ أي: كلاً على انفراد مقامي، ووعيد، أو كلاهما، والوعيد يأتي دائماً في سياق الشر.

ص: 116

سورة إبراهيم [14: 15]

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} :

{وَاسْتَفْتَحُوا} : أي: الرّسل طلبوا الفتح بالدعاء بالنّصرة على الأعداء، والفتح: هو الغلبة بدون قتال، والفتح قد يعني الفصل والحكم، أمّا النّصر: هو الفتح بالقتال، وتوضح ذلك سورة النّصر:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إذن: هناك فرق بين النّصر والفتح، واستفتحوا؛ أي: الرّسل على قومهم (بالدّعاء لهلاكهم)، واستفتحوا: قد تعود إلى الكفار، استفتحوا على رسلهم ظناً أنّهم على الحق.

{وَخَابَ} : الخائب: المنقطع أمله، أو الذي منع من فعل أمله، وقيل: خسر وخاب.

{كُلُّ جَبَّارٍ} : الذي يتعاظم بالقهر والتسلط والقتل، وظالم متكبر يجبر النّاس على ما يريد من الفساد والبغي.

{عَنِيدٍ} : معاند للحق، أو مخالف، أو معارض لمنهج الله سبحانه لا يسمع ولا يعقل. ارجع إلى سورة هود آية (95) لمزيد من البيان.

ص: 117

سورة إبراهيم [14: 16]

{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} :

{مِنْ وَرَائِهِ} : من: ظرفية زمانية أو مكانية، ورائه: أمامه؛ كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]، وقد تعني: ورائه خلفه؛ أي: من بعده؛ كقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .

{جَهَنَّمُ} : ارجع إلى الآية (18) من سورة الرعد.

{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} : الصّديد: القيح المختلط بالدم، وقيل: القيح: هو السّائل الّذي يسيل من أجساد أهل النّار حين تشوى جلودهم.

ص: 118

سورة إبراهيم [14: 17]

{يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} :

{يَتَجَرَّعُهُ} : التّجرع: تناول الماء الصديد جرعة بعد جرعة، أو يتجرعه بجهد وعناء وشدة وقهر.

{وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} : لا يكاد من أفعال المقاربة، يُسيغه من السّوغ هو انحدار الشّراب في الحلق والمري، من ساغ الشّراب في الحلق؛ أي: كان سهلاً سهل الابتلاع، أو يغص ولا يبلعه بسهولة، والآية تعني: أي: لا يستطيع بلعه يعلق بحلقه من شدة مرارته وطعمه، ويقاسي أشد الصّعوبات في بلعه، كما يحدث حين بلع دواء مر كريه الطعم، ويبقى على اللسان، ولا ينزل بسهولة إلى المري والمعدة، وهذا دواء، ولكن ذلك صديد وقيح!!

{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} : ويشعر بالموت يأتيه من كلّ مكان وجانب.

{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} : أي: موتاً تنقطع معه الحياة فيرتاح، ولا يعد يشعر بشيء من العذاب؛ كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36].

{وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} : من وراء هذا العذاب تجرع الماء الصديد عذاب آخر غليظ (أمامه) ينتظره، وهو عذاب النّار، الغليظ الشّديد الدائم، والمستمر في نار جهنم.

ص: 119

سورة إبراهيم [14: 18]

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} :

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ} : أي: مثل أعمالهم الصّالحة كالصّدقة على الفقراء وصلة الرّحم والأيتام وبر الوالدين، أو مساعدة النّاس في الحياة الدّنيا؛ كمثل الرّماد الذي هو ما تبقى بعد احتراق مادة عضوية بالكامل، وضرب هذا المثل؛ لأن صورة الرماد معروفة لدى العرب والريح العاصفة التي تهب عليه الرّيح الشّديدة في يوم عاصف. وضرب المثل: لإزالة أي غموض فليس هناك مثل غامض.

وقال: مثل الّذين كفروا بربهم: أضاف المثل إليهم، وهو في الحقيقة إلى أعمالهم؛ أعمال الّذين كفروا بربهم لم يؤمنوا به ويصدقوا برسله، كمثل الرماد الّتي تركته النّار بعد احتراقها في يوم عاصف اشتدت به الرّيح فجعلته هباء منثوراً.

أي: حبطت أعمالهم الصّالحة، ولم يعد لها ثواباً على الإطلاق، كما لا يقدر أحد على جمع الرّماد في يوم عاصف، وقد وصف الله سبحانه أعمالهم الصّالحة الّتي حبطت بسبب كفرهم وشركهم بعدة تشبيهات في القرآن؛ مثل:{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، أو {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]، أو {كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ} [النور: 40]، {صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة: 264].

{لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ} : هذه الآية تخص الكفار، جاءت في سياق الأعمال؛ أي: كلّ الأعمال الحسنة الّتي عملوها في الحياة الدّنيا حبطت لا ثواب لها في الآخرة، ولو كثرت ومهما كانت كلّها حبطت معاً.

لا يقدرون مما كسبوا على شيء؛ أي: الكفار، كما لا يقدرون على جمع الرّماد في اليوم العاصف؛ كذلك أعمالهم الصّالحة الّتي عملوها في الدّنيا لا ثواب لها في الآخرة كلّها تحبط.

{مِمَّا كَسَبُوا} : مما = من + ما؛ من: استغراقية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي كسبوا، وأوسع شمولاً من الذي، ولم يقل اكتسبوا؛ اكتسبوا: تستعمل في سياق السّيئات؛ أي: الأعمال غير الصّالحة. وكسبوا تأتي في سياق الأعمال الصالحة. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) لمزيد من البيان.

{عَلَى شَىْءٍ} : مهما كان صغيراً أو كبيراً، ومهما كان نوعه.

{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} : ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد، وذلك الكفر: هو الضّلال البعيد الّذي لا يؤمل معه الرّجوع إلى طريق الهداية، أو الطّريق المستقيم.

لنقارن بين هذه الآية، والآية (264) من سورة البقرة:

ففي آية إبراهيم: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَىْءٍ} .

وآية البقرة: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} .

كلا الآيتين جاءتا في سياق الكفار، ففي آية إبراهيم؛ تعني: كلّ أعمالهم الصّالحة كرماد لا ثوباً لها.

وأمّا في آية البقرة؛ تعني: عمل واحد هو الصّدقات يبطل ثوابها.

وآية إبراهيم: جاءت في سياق الآيات الّتي تتحدث عن أعمالهم؛ أي: سياق العمل، والعامل كاسب؛ فقدم الكسب.

أمّا آية البقرة: جاءت في سياق الإنفاق، والمنفق معطٍ، وليس كاسباً بالمعنى العام، وليس الشّرعي؛ فقدم الشّيء، وأخر الكسب.

وإذا جمعنا الآيتين يكون المعنى: لا ثواب لأعمالهم، ولا لصدقاتهم؛ عطف الخاص على العام: للتوكيد؛ لأنّ أكثر أعمالهم الصّالحة هي الصّدقات، فأكد على بطلانها.

ص: 120

سورة إبراهيم [14: 19]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} :

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : ألم: الهمزة: استفهامية، وتقرير، ومعناها: ألم تعلم، وألم تر رؤية عقلية فكرية، وما يخبرنا به الله سبحانه هو أصدق مما لو رأيناه بأمّ أعيننا، أو ألم ينته علمك: أنّ الله خلق السّموات والأرض؟! ارجع إلى سورة البقرة، آية (22، 29)، والأنبياء، آية (30)، وسورة فصلت آية (9-12)؛ لبيان كيف خلق السموات والأرض.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، والحق: الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير؛ أي: بالدّقة الفائقة، وبالقوانين الثّابتة الّتي تحكم السّموات، وما فيها من ملايين الأجرام، أو المجرات، والنجوم الثابتة لا تصطدم ببعضها رغم اختلاف كتلها، وأبعادها، وحركتها منذ (14 ألف مليون سنة)، والتي تدل على قدرة وعظمة وحكمة الخالق، الفاطر، البارئ لهن. الإله الحق واجب الوجود الذي يستحق العبادة وحده.

ووردت هذه الآية في سور مختلفة منها:

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]؛ أي: عبثاً.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27].

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38].

فتكرار هذه الآية؛ ليدل، ويؤكد على أن خلق السّموات والأرض من أعظم الدلالات على طلاقة القدرة الإلهية، ووحدانية الخالق وعظمته.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو النّدرة.

{يَشَأْ} : من الإشاءة: وهي تسبق مرحلة الإرادة؛ إن يشأ: إن كفرتم به وجحدتم خلقه. أن يذهبكم: أي: يستبدلكم بخلق جديد، أو يستخلفكم بآخرين {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]، وهذا يدل على طلاقة قدرته سبحانه، كما دل على ذلك أيضاً خلق السّموات والأرض، واعلموا أنّ خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} : بأن يميتكم، أو يقضي عليكم، أو يهلكهم، ويأتي بخلق جديد لا يعصوه، أو أفضل منكم، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له:{كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].

ص: 121

سورة إبراهيم [14: 20]

{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} :

{وَمَا ذَلِكَ} : الواو: عاطفة؛ ما: النّافية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد، ويشير إلى الذّهاب بكم والإتيان بخلق جديد.

{عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} : بعزيز: الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ بعزيز: بممتنع، أو مستحيل، أو أمر عسير صعب، وتقديم على الله: للحصر، والتّوكيد.

ص: 122

سورة إبراهيم [14: 21]

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه الّذين كفروا برسلهم، وذكر أعمالهم الّتي كرماد اشتدت به الرّيح؛ أي: حبطت يذكر سبحانه ما سيحدث بينهم يوم القيامة من حوار، وما سيقول الشّيطان آنذاك لهم.

{وَبَرَزُوا} : البروز: هو الظّهور مشتقة من البراز: وهو الفضاء الواسع، وجاء بلفظ الماضي بدلاً من المستقبل؛ لأنّ الزّمن عند الله واحد، الماضي والحاضر والمستقبل؛ فهو خالق الزمان والمكان، وصيغة الماضي تعني: كأن الأمر وقع وانتهى.

والبروز يحدث بعد النّشر والبعث، ويكون على أرض المحشر في الفضاء الواسع.

{جَمِيعًا} : للتأكيد برزوا: كلّهم مجتمعين، ولم يتأخر عنهم أحد.

{فَقَالَ الضُّعَفَاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : فقال: الفاء: يدل على التّرتيب، والمباشرة.

{الضُّعَفَاؤُا} : جمع ضعيف تطلق على العوام الضعاف الرّأي والفكر، ووصفوا بذلك لأنّهم اتبعوا غيرهم، وقلدوا آباءهم بدون تفكير وتدبر، ويطلق عليهم الأتباع أيضاً، أو التابعين، وإذا نظرنا إلى كيف كتبت كلمة {الضُّعَفَاؤُا} في هذه الآية مع كتابتها في الآية (266) في سورة البقرة نجد فيهما اختلافاً قد يعود إلى أن آية البقرة تعني: ضعفاء في الجسم والبنية، وأما في آية إبراهيم ضعفاء في الرأي والعقل؛ أي: ضعف معنوي، وفي آية البقرة ضعف مادي حسي. ارجع إلى سورة البقرة آية (266) لمزيد من البيان.

{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : للذين: اللام: لام الاختصاص؛ الّذين استكبروا: أي: رؤساء الكفروالشّرك، ويطلق عليهم المتبوعين.

{اسْتَكْبَرُوا} : الألف والسّين والتّاء؛ تعني: الطّلب؛ أي: هم ليسوا أهل للتكبر؛ أي: ليس عندهم مؤهلات الكبر، واستكبروا على هؤلاء الضّعاف، واستكبروا بغير حق، أو استكبروا عن طاعة الله ورسله، والاستجابة للإيمان، ودعوا غيرهم ليتبعوهم في ضلالهم وغيهم؛ فهم ضلوا وأضلوا غيرهم.

{إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} : إنا: للتوكيد.

{كُنَّا} : في الحياة الدّنيا.

{لَكُمْ} : خاصة.

{تَبَعًا} : جمع تابع؛ أي: نتبعكم في ضلالكم وشرككم، أو في دعوتكم.

{فَهَلْ} : الفاء: للتوكيد؛ هل: استفهام يفيد التوبيخ.

{أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} : أي: هل أنتم ستحملون عنا من عذاب الله من شيء. من هنا: ابتدائية للتعليل، أو بعضية؛ أي: بعض العذاب.

{قَالُوا} : أي: الّذين استكبروا للضعفاء؛ أي: أجابوهم معتذرين لهم.

{لَوْ} : للتمني، وشرطية؛ لو: امتناع لوجود.

{هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} : أي: لو هدانا الله للإيمان لهديناكم، واللام: لام التّوكيد، ولكن لم يهدينا فهم يفترون على الله الكذب، وينسبون عدم هدايتهم لله، ويدَّعون أنّ الله هو سبب ضلالهم، وعدم هدايتهم، وحاشا لله أن يفعل ذلك، ونسوا أنّ الله خيرهم فاختاروا، أو استحبوا الكفر على الإيمان، واختاروا طريق الضّلالة.

{سَوَاءٌ عَلَيْنَا} : سواء: من المساواة، وتعني: استوى الشّيئان، وتسويا، وسوى أحدهما الآخر، والسّواء: العدل، ويقال للعدل: سواء؛ كقوله: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]؛ أي: كلمته عدل وإنصاف.

{أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} : أي: يستوي الأمران: الجزع، أو الصّبر هنا لا يغنيان شيئاً في هذا الموقف. والجزع: هو ضعف النّفس على تحمل المكروه، وهو عكس الصّبر، والصّبر: القدرة على تحمل المكروه، أو الأمر الملقى إليه.

{أَجَزِعْنَا} : أجزعنا: الهمزة: للتسوية.

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي؛ فهم أدركوا الجزع لا يفيد، والصّبر لا يفيد أيضاً مما يؤدي بهم إلى القنوط.

{مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} : ما: النّافية.

{لَنَا} : اللام: لام الاختصاص؛ لنا: نحن خاصة.

{مِنْ} : استغراقية تستغرق كلّ محيص.

{مَحِيصٍ} : منجى، ملجأ، أو مهرب، والمحيص: اسم مكان؛ أي: ما لنا من مكان نهرب إليه، أو نلجأ إليه، وفلان حايص: أي: لا يجد مكاناً يرتاح فيه؛ فيحاول الهرب.

ص: 123

سورة إبراهيم [14: 22]

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الْأَمْرُ} : لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين، وتتضمن معنى الشّرط، قال الشّيطان: إبليس لأتباعه من الإنس، ولمعرفة معنى كلمة الشّيطان: ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة للبيان.

{قُضِىَ الْأَمْرُ} : انتهى الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النّار النّار.

{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} : إنّ الله: للتوكيد.

{وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} : الوعد هنا: البعث والجزاء، والجنة والنّار، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسّيئة فلا يجزى إلا مثلها، أو وعدكم على ألسنة رسله.

{وَعْدَ الْحَقِّ} : الوعد الّذي لا يتغير، ولا يتبدل، أو وعد الصدق.

{وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} : بالوسوسة والتزيين والإيحاء، لا بعث ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، وأوحيت إليكم.

{وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِنْ سُلْطَانٍ} : وما: النّافية.

{كَانَ} : تشمل جميع الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل.

{مِنْ} : استغراقية؛ تشمل كلّ سلطان.

{سُلْطَانٍ} : سواء أكان سلطان القهر والقوة، أم سلطان البرهان، والحُجة؛ أي: ما كان لي عليكم من قوة أقهركم بها على طاعتي (أي: تفعل الشّيء وأنت غير راض عنه؛ أي: أنت مكره)، ولا حجة، أو برهان أقنعكم بها، بل كنتم أنفسكم على ضلال.

{إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} : إلا: تفيد الحصر.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

{دَعَوْتُكُمْ} : بالوساوس، والتّزين، والإغراء، دعوتكم إلى الشّرك، والكفر بالله ومعصيته.

{فَاسْتَجَبْتُمْ لِى} : فاستجبتم: الفاء: للمباشرة، والإسراع في الاستجابة لي؛ أي: الشيطان.

{فَلَا تَلُومُونِى} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَلُومُونِى} : من اللوم: وهو خطاب يُعبر فيه عن عدم الرّضا عن عمل لم يكن متوقعاً من الملوم من قول أو فعل، واللوم إذا اشتد أو أصبح عنيفاً يقال له تثريب كما ورد على لسان يوسف عليه السلام حين قال لإخوته:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92].

{وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} : أي: وبخوا أنفسكم على ما فعلتم، وأشعروا بالنّدم والحسرة.

{مَا} : ما: النّافية.

{أَنَا} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{بِمُصْرِخِكُمْ} : الباء: للإلصاق والتّوكيد.

{بِمُصْرِخِكُمْ} : المصرخ: هو المغيث المقدم العون، والمساعدة؛ أمّا المستصرخ المستغيث الّذي يطلب العون، والغوث؛ أي: ما أنا بمغيثكم؛ أي: ما أنا بمساعدكم؛ أي: لا أستطيع مساعدتكم حتّى لو أردت.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} : أي: وكذلك أنتم لستم بمساعدي، أو مغيثين لي.

{إِنِّى كَفَرْتُ} : كفرت: جحدت، أو تبرأت من إشراككم إياي.

{بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ} : بما: الباء: للتعليل أو السّببية.

{أَشْرَكْتُمُونِ} : من قبل بإشراككم إياي مع الله؛ أي: جعلتموني شريكاً لله، أو أطعتموبني كما أطعتم الله، وحذفت الياء (ياء المتكلم) للدلالة على أنه ولو كان أدنى أو أقل الشرك؛ أي: كفرت بأي شرك بالله قمتم به ولو كان مهما كان.

{مِنْ قَبْلُ} : أي: في الدّنيا.

{إِنَّ الظَّالِمِينَ} : إنّ: للتوكيد.

{الظَّالِمِينَ} : المشركين الكافرين.

{لَهُمْ} : لهم: اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام لا يقدر عليه أحد، والقول: إنّ الظّالمين لهم عذاب أليم قد يكون من كلام الله تعالى- وهو الأغلب- أو تتمة لقول الشّيطان.

ص: 124

سورة إبراهيم [14: 23]

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} :

{جَنَّاتٍ} : جمع جنة: جنات عدن، والفردوس، والخلد، وجنات النّعيم

وغيرها.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : خلود دائم يبدأ منذ دخولهم الجنة.

{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} : بأمر ربهم، ومشيئته، وتيسيره. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة.

{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} : سلام: نكرة؛ لأنّه أعم وأشمل؛ سلام: تحية، وسلام من أي سوء، أو مكروه، أو موت، أو مرض، وسلام: أمن واستقرار.

سلامٌ من الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58].

ومن الملائكة: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23-24].

وسلام فيما بينهم: {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 26].

ص: 125

سورة إبراهيم [14: 24]

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ} :

{أَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام فيه تعجب.

{أَلَمْ تَرَ} : ارجع إلى الآية (19)؛ للبيان.

{كَيْفَ} : للاستفهام.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : المثل: هو قول يُشَبه بقول آخر بينهما مشابهة في شيء محسوس للتوضيح، والبيان. ارجع إلى الآية (74) من سورة النّحل للبيان.

{كَلِمَةً طَيِّبَةً} : قيل: هي: لا إله إلا الله (كلمة التّوحيد)، محمّداً رسول الله.

{طَيِّبَةً} : من الطّيب المبارك، المدرك بجميع وسائل الإحساس، أو كلمة الحق.

{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} : الكاف: للتشبيه؛ شجرة طيبة قيل: هي النّخلة، وقد تكون شجرة طوبى في الجنة، أو شجرة غنية بالثمر الطيب الطعم واللذيذ.

{أَصْلُهَا ثَابِتٌ} : أصلها جذورها ثابتة في الأرض؛ أي: ممتدة بجذورها تحت الأرض، والجذور للتغذية، فلا يخاف عليها من الجفاف والعقم أو السقوط.

{وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاءِ} : أي: فروعها ممتدة؛ أي: متشعبة في السّماء.

ص: 126

سورة إبراهيم [14: 25]

{تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} :

{تُؤْتِى أُكُلَهَا} : من الإيتاء؛ أي: تخرج أكلها؛ أي: ثمرها.

{كُلَّ حِينٍ} : كلّ زمن، أو في كلّ حين قدره الله؛ لتخرج أكلها أو ثمرها.

{حِينٍ} : زمن غير محدد قد يطول أو يقصر حسب مشيئة الله.

{بِإِذْنِ رَبِّهَا} : بأمر ربها؛ بمشيئة ربها؛ أي: خالقها. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة.

{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} : اللام: لام الاختصاص، ويضرب: من الضّرب، والضّرب فيه معنى إرادة التّأثير في نفس المستمع، وتهيج النّفوس؛ كأن ضارب المثل يقرع أذن السّامع، (أو المستمع)، كي يصل أثر ما يقال إلى قلبه، وينتهي إلى أعماق نفسه.

{لَعَلَّهُمْ} : لعل للتعليل.

{يَتَذَكَّرُونَ} : من التّذكر؛ أي: هناك أمر مر عليهم سابقاً، ثمّ نسوه؛ فيعود الله سبحانه ليذكرهم به؛ يتذكرون: لعلهم يطيلوا التّفكر والتّأمل في هذه الأمثال؛ ليهتدوا بها، ولا ينسوها ويستفيدوا منها. فاستعمل يتذكرون الدالة على طول الزمن الذي يحتاجون إليه، والتفكر العقلي في هذه الأمثال.

وقالوا يمكن تشبيه الإيمان بشجرة لها جذور (أصلها ثابت)؛ يعني: القرآن والسّنة، والإجماع، وأقوال الصّحابة، وفرعها في السّماء.

الفرع: اسم جنس؛ أي: فروعها في السّماء هي: شعب الإيمان، وهي بضع وسبعون شعبة تؤتي أكلها؛ أي: ثمارها، وهي: الحسنات، كلّ حين: كلّ وقت يُعمل به عمل صالح.

ص: 127

سورة إبراهيم [14: 26]

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} :

{وَمَثَلُ} : المثل: يراد به الصّفة (الوصف)، أو التّبيين، أو تشبيهه يراد به المقارنة والموازنة.

{كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} : كلمة الكفر والشّرك أو الباطل.

{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} : كشجرة: الكاف: كاف التّشبيه، شجرة خبيثة: هي شجرة الزّقوم، أو الحنظل، أو الشّوك، أو شجرة لا فائدة منها على الإطلاق.

{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} : اقتلعت واستؤصلت من فوق الأرض؛ اجتثت: بكاملها؛ كالجثة.

{مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} : من جذور، أو أصول ثابتة تغذيها.

ص: 128

سورة إبراهيم [14: 27]

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} :

بعد ذكر اجتثت يأتي بكلمة يثبت من التّثبيت.

{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ} : يثبتهم على الحق إذا ما فتنوا في الدّنيا في إيمانهم، أو عقيدتهم، وإسلامهم بأن يمدهم بالعون، والنّصر، والصّبر.

{بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} : بالقول: الباء: للإلصاق؛ القول الثّابت: هو قول الحق، أو: لا إله إلا الله، والقرآن، وبالحجة، والبرهان، والسّلطان.

{فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : زمن حياتهم في الدّنيا؛ فلا يميلون عن قول الحق، والتّوحيد إلى الهوى، والشهوات، واتباع الشيطان.

{وَفِى الْآخِرَةِ} : قيل: في القبر الّذي هو أوّل منازل الآخرة حين يسأله الملكان: من ربك، ما دينك، ومن نبيك، كما ورد في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه .

{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} : مقابل التّثبيت للذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا والآخرة، يضل الله الظّالمين المشركين في الحياة الدّنيا. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمعرفة معنى: الظّالمين.

أي: يمدهم في الضّلالة الّتي اختاروها لأنفسهم، ويتركهم وشأنهم يفعلون ما يشاؤون، وحاشا لله تعالى أن يُجبر أحداً على الضّلال؛ لأنّه لا يرضى لعباده الكفر.

وفي الآخرة: في القبر، يضل الله الظالمين فلا يستطيعون الإجابة على أسئلة الملكين.

{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} : من التّثبيت، أو الإضلال حسب ما تقتضيه حكمته بدون أي اعتراض أو مانع، ولا معقب لحكمه سواء في الدّنيا، وفي الآخرة.

ما يشاء من المشيئة: فما الفرق بين المشيئة، والإرادة؟

1 -

المشيئة: تسبق الإرادة.

2 -

المشيئة: فيها إلزام ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ أمّا الإرادة: فهي إما إرادة عزم لا تقتضي الإلزام؛ تتعلق بأفعال العباد؛ فالله يريد لعباده الإيمان، ولكن لا يلزمهم بالقسر، أو الجبر على الإيمان، أو إرادة حتم تتعلق بالخلق، والتّكوين، والتّسخير، وإحياء، وإماتة، ورزق.

ص: 129

سورة إبراهيم [14: 28]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} :

{أَلَمْ تَرَ} : ارجع إلى الآية (19) من نفس السّورة.

{إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} : الذين: اسم موصول، والنّعمة: لا تكون إلا حسنة.

{بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} : أي: الإسلام، والإيمان فبدلاً من أن يشكروا المنعم على نعمه كفروا بها؛ أي: أنكروها، وستروها، وانتبه إلى كيفية كتابة نعمت بالتّاء المفتوحة، وليس بالتّاء المربوطة؛ لأنّ من خصائص القرآن: أنّ نعمت: بالتّاء المفتوحة؛ تعني: نعمة خاصة، وليس عامة، وهي نعمة الإيمان، والإسلام؛ فهي نعمة خاصة بالمؤمنين، وتعني نعم كثيرة العدد؛ أمّا نعمة بالتّاء المربوطة؛ تعني: نعمة ظّاهرة للعيان، وهي نعمة عامة للبشر؛ وتعني أيضاً: نعمة واحدة.

{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} : أي: أنزلوا، أو أوردوا قومهم مورد أو منزل الهلاك بإضلالهم، ومنعهم من الدّخول في الإسلام، وصدهم عن سبيل الله، وحملهم على الكفر.

{دَارَ الْبَوَارِ} : البوار: أصلها: أرض لا تصلح للزراعة؛ أرض بور لا خير فيها؛ البوار: الهلاك؛ أي: دار الهلاك؛ أي: جهنم، ويدل على ذلك قوله تعالى بعدها:{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} .

ص: 130

سورة إبراهيم [14: 29]

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} :

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} : جهنم: ارجع إلى الآية (18) من سورة الرّعد.

{يَصْلَوْنَهَا} : يحرقون بها، أو يقاسون حرها؛ أي: يدخلونها، وصلى اللحم شواه.

{وَبِئْسَ الْقَرَارُ} : بئس: فعل من أفعال الذّم. والقرار: مكان الإقامة الدّائمة.

ص: 131

سورة إبراهيم [14: 30]

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} :

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} : وجعلوا: تعود على الّذين بدلوا نعمت الله كفراً؛ أي: صيروا لله أنداداً جمع ند: وهو المِثْل والمشابه. ارجع إلى الآية (22) من سورة البقرة.

{أَندَادًا} : جمع ند: وهو الشبيه والشّريك.

{لِلَّهِ} : تقديم الجار والمجرور للحصر.

{لِّيُضِلُّوا} : اللام: للتوكيد، والتّعليل؛ ليصرفوا النّاس عن الإيمان والتّوحيد والدخول في الإسلام.

{عَنْ سَبِيلِهِ} : عن للمجاوزة والمباعدة؛ سبيله: دينه الإسلام والتّوحيد.

{قُلْ تَمَتَّعُوا} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: تمتعوا بنعيم الدّنيا الزّائل، والتّمتع يعني: الانتفاع، ويشمل الأكل والشّرب والملبس والمسكن والأدوات، وهذا وعيد لهم وتهكم عليهم، وإذا قارنا قوله تعالى:{قُلْ تَمَتَّعُوا} بقوله تعالى في الآية (66) من سورة العنكبوت: {وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بصيغة الغائب والتوكيد؛ نجد أن التهديد والوعيد في سورة إبراهيم أشد للكفار. ارجع إلى سورة العنكبوت لمزيد من البيان والمقارنة.

{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} : فإن: الفاء: للتوكيد.

{مَصِيرَكُمْ} : مآلكم ومرجعكم ونهايتكم إلى النّار.

{إِلَى} : حرف غاية؛ يستعمل لكل الغايات: البداية والنهاية، أو ما بين.

ص: 132

سورة إبراهيم [14: 31]

{قُلْ لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} :

{قُلْ لِّعِبَادِىَ} : قل يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{لِّعِبَادِىَ} : اللام: لام الاختصاص؛ عبادي: ارجع إلى الآية (186) من سورة البقرة لمعرفة الفرق بين عبادي، وعبيد، وعباد.

{الَّذِينَ آمَنُوا} : الّذين: اسم موصول يفيد المدح.

{يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} : وأصلها: قل لعبادي الّذين آمنوا ليقيموا الصّلاة (أضمر لام الأمر)، أو أن تقل لهم يقيموا الصّلاة، وإقامة الصّلاة تعني: أداء أركانها، وسننها، والمحافظة على أوقاتها، والدّوام عليها، وجاء بصيغة المضارع؛ للدلالة على تجددها وتكرارها.

{وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} : الإنفاق: إخراج المال من الملك.

(مما): من: أصلاً؛ من: الابتدائية البعضية؛ ما: اسم موصول يعني: الّذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{رَزَقْنَاهُمْ} : أي: بعض الّذي رزقناهم، والإنفاق له أشكال مختلفة: الزّكاة، وصدقة التّطوع

وغيرها.

{سِرًّا وَعَلَانِيَةً} : بالخفاء، والعلن. ارجع إلى سورة البقرة آية (271) لمزيد من البيان.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} : أي: من قبل أن يأتي يوم القيامة.

{لَا بَيْعٌ فِيهِ} : لا يباع فيه شيء، ولا يشترى؛ لا فداء فيه بأن يدفع، أو يبيع شيئاً ما ليفدي نفسه، أو ينقذ نفسه.

{وَلَا خِلَالٌ} : مصدر خلة من المخالة، أو جمع خُلة: صداقة؛ أي: لا تنفع فيه المودات والصّداقات، والمخالة؛ تعني: يتخلل كلّ منهما الآخر بالروابط الأسرية، والدّينية، أو الأخوية، وتكرار لا: يفيد توكيد النّفي، وقوله من قبلِ بالكسر؛ لأنّ يوم القيامة غير معلوم زمن حدوثه مقارنة بقوله من قبلُ بالضّم الّتي تستعمل حين يكون الزّمن معلوم. ارجع إلى سورة النساء، آية (125)؛ لمزيد من البيان.

وفي آية البقرة (254): {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} ، زاد فيها كلمة شفاعة: هي أعلى من الخُلة (المودة والصّداقة). ارجع إلى سورة البقرة، آية (254).

ص: 133

سورة إبراهيم [14: 32]

{اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} :

{اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : ارجع إلى الآية (30) من سورة الأنبياء، والآيات (22، 39) من سورة البقرة، والأعراف، آية (54) للبيان.

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : وأنزل من السحب الركامية ماءً: ماء المطر الّذي ينشأ من تحول بخار الماء الّذي تحمله الرياح؛ فيشكل السّحب الّتي يؤلف بينها لتشكل السحب الركامية الّتي تلقح برياح أخرى تحمل هباءات الغبار فيبدأ بخار المكاء يتكثف، ويتحول إلى قطرات المطر. ارجع إلى سورة الحج، آية (5)، ولم يقل سبحانه: وأنزل لكم من السماء ماء، كما ورد في الآية (60) من سورة النمل؛ لأنه سبحانه في آية إبراهيم تبعها قوله تعالى:{رِزْقًا لَّكُمْ} والرزق يشمل الماء وغيره، وأما في سورة النمل تعداد لنعم الله تعالى عليهم.

{فَأَخْرَجَ بِهِ} : أي: بماء المطر، والفاء: للترتيب، والتّعقيب.

{مِنَ الثَّمَرَاتِ} : من: ابتدائية بعضية؛ بعض الثّمرات مثل ثمرات النّخيل والأعناب، وغيرها؛ فقد أعطى الله سبحانه هذه البذور القدرة على اختيار ما يلائمها من عناصر مركبات الأرض المختلفة؛ لذلك تختلف أشكال هذه الثمار، وطعومها؛ فنرى شجرة البرتقال تنمو بجانب شجرة الليمون، وغيرها، وهذا من طلاقة القدرة الإلهية الّتي أودعها في الشفرة الوراثية داخل البذرة أو النواة.

{رِزْقًا لَّكُمْ} : الرّزق: العطاء، وكلّ ما خلقه الله تعالى في الأرض مما يملكه النّاس.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} : والتّسخير: التّذليل والتّطويع والتّدبير، والتّصرف به، ويعني: خلق كائن ما لمهمة معينة لا يستطيع أن يخالفها.

{الْفُلْكَ} : هي السّفن، والفلك: تطلق على المفرد والجمع، ورغم أنّ الإنسان هو الّذي يصنع الفلك، ولكنه سبحانه هو الّذي يزجي الفلك، ويذلل الرّيح؛ كي تجري الفلك في البحر.

{لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} : لتجري: اللام: لام التّعليل؛ تجري: تسير، وتسرع في البحر.

{بِأَمْرِهِ} : بأمر الله ومشيئته وإذنه؛ فهو الّذي جعل لهذا الماء صفات طبيعية، وكيماوية تشكل ما يسمّى ظاهرة التّوتر السطحي الّتي تمثل شدة تماسك جزئيات الماء مع بعضها البعض؛ لتساعد على حمل هذه الفلك العملاقة القادرة على حمل ملايين الأطنان.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} : سخر الأنهار بعد تسخير الجبال؛ لأن تكّون الأنهار مرتبط بتكّون الجبال الّتي ينبع الماء من قممها، ثم ينحدر على سفوح هذه الجبال؛ لتشكل الأنهار، وبفضل عوامل التّعرية من رياح ومطر، واختلاف درجات الحرارة، والليل والنّهار كلّ ذلك يؤدي لتشكل الأنهار الّتي تشهد لله ببديع صنعه. ارجع إلى سورة الرعد، آية (3).

ص: 134

سورة إبراهيم [14: 33]

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} :

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ} : هذا الفرن النووي العملاق من ذرات الهدروجين أخف العناصر، وأقلها بناءً، ثم أحدث تفاعلات كيماوية أدت إلى تشكل غاز الهليوم، والّذي أعطى للشّمس درجة حرارية تعادل (15 مليون درجة مئوية) في قلبها، و (6 آلاف درجة) على سطحها، وجعلها مصدراً للضوء والطاقة، والحساب الزمني.

{وَالْقَمَرَ} : سخر القمر لنا لنحدد به اليوم والأسبوع والشهر، وكذلك السنة القمرية الّتي هي أقل من السنة الشّمسية بـ (11 يوم)، وكذلك يؤثر على الأرض بعملية المد والجزر؛ ففي ظاهرة المد الّتي تصاحب مرحلة البدر، والمحاق يصل المد إلى أقصى ذروته نتيجة لوقوع الشّمس والقمر في جهة واحدة، والتي تصاحبها ارتفاع تدريجي في منسوب المياه في البحار والمحيطات أمّا في ظاهرة الجزر يحدث انخفاض في منسوب مياه البحار، والمحيطات، وكذلك لا ننسى نور القمر الّذي ينير لنا ظلمة الليل

وغيرها من الفوائد.

{دَائِبَيْنِ} : مثنى دائب: دائم في الجري، والحركة، والتّعاقب، والإنارة؛ فالشمس تجري حول مركز المجرة بسرعة (220كم/ ثانية) لتكمل دورتها في (250 مليون سنة)، وتجري في الفضاء نحو نجم النسر، أو سولر ايبكس بسرعة (19كم/ ثانية)، وكذلك تجري حركة مدارية قدرها (150 ميلاً بالثانية). والقمر يجري حول الأرض ويتم دورته في (27، 3 يوماً)، ويجري بشكل محوري حول نفسه.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : فهما آيتان من آيات الله الّتي تشير إلى كروية الأرض، ودورانها حول محورها، وحول الشّمس الّذي يؤدي إلى تبادل الليل والنّهار الضروريين لاستقامة الحياة على الأرض.

ص: 135

سورة إبراهيم [14: 34]

{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} :

{وَآتَاكُمْ} : من الإيتاء: وهو العطاء الّذي يمكن استرداده، وليس فيه معنى التّملك، كما هو الحال في العطاء الّذي فيه تملك. ارجع إلى سورة البقرة آية (251)؛ لمزيد من البيان.

{مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} : من: بعضية؛ بعض ما سألتموه؛ لأنّ هناك أسئلة لا يستجيب لها سبحانه؛ مثال: أن يسأل العبد ربه أن يجعله نبياً، أو أن يبدل مهنته من فلاح إلى طبيب مثلاً، ولا ننسى أن بعض حالات عدم الاستجابة للدعاء نعمة للعبد؛ مثال: أن يدعو الأب على ابنه بالموت أو الفقر، أو الأم على ابنها.

{مَا} : اسم موصول، أو مصدرية.

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} : وإن: شرطية تفيد الشّك، أو الاحتمال، أو الافتراض، والعد هو مجرد العد، ويكتفى به باللسان. أمّا الإحصاء: فهو العد مع الحفظ (حفظ ما نعد)، والإحصاء مشتقة من الحصى؛ حيث كانوا قديماً يستعملون الحصى في العد.

{نِعْمَتَ اللَّهِ} : نعمة واحدة من نعم الله. ارجع إلى الآية (6) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين نعمة ونعمت.

{لَا} : النّافية.

{تُحْصُوهَا} : الإحصاء: هو العد والجمع والحفظ؛ لأنّها تنطوي على نعم كثيرة جداً؛ فلا أحد يستطيع أن يعد نعم الله في الكون، أو على خلقه، أو عليه نفسه؛ فمثلاً: نعمة الصحة والعافية تشمل نعمة العقل، الدماغ، والقلب، والصدر، والمعدة، والكبد، والعين، والأذن، والجلد، والأسنان

وغيرها من الكثير.

{إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} : إنّ: للتوكيد.

{الْإِنسَانَ} : مشتقة من الإنس، وهو الألفة، والمحبة الّتي يمتاز بها الإنسان عن غيره.

{لَظَلُومٌ} : اللام: للتوكيد؛ ظلوم صيغة مبالغة؛ أي: كثير الظّلم لنفسه أو لغيره، وظلوم لا يشكر المنعم، أو هو مستمر على ظلمه بشكل متكرر، وظلوم أشد من ظلام.

{كَفَّارٌ} : صيغة مبالغة شديد الكفر، أو كثير الكفر لنعم الله؛ يجحدها بشكل متكرر ومتجدد ولم يقل ظلوم كفور؛ يعني: دائم الكفر وأشد من كفار، وينسى أن يشكر المنعم؛ مشتقة من الكفر ومعناه: السّتر، أو يشكر غير الله سبحانه؛ أي: يشرك بالله؛ فهو يأكل من نعم الله سبحانه ويشكر غيره.

وإذا قارنا هذه الآية من سورة إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .

مع الآية (18) من سورة النّحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .

نجد أوّلاً: اختلاف في كتابة نعمت بالتّاء المفتوحة في آية إبراهيم، وبالتّاء المربوطة في آية النّحل.

والفرق بينهما: أنّ نعمت؛ تعني: الدّين، والإيمان، والهداية خاصة بالمؤمنين، أو نِعَم لا يمكن إحصائها كثيرة.

أما نِعمة: تتحدث عن نعم الله الظّاهرة للعيان، أو نعم عامة للبشر، أو وكذلك تشير إلى خط المصحف هو توقيفي لم يناله أي تغيير ولا تبديل، ولا تحريف منذ أنزله الله على نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم.

أمّا اختلاف نهاية الآيتين يعود في سورة إبراهيم؛ لأنّها تتحدث عن صفات الإنسان؛ فقال: إنّ الإنسان لظلوم كفار، ويمكن القول إنّ الإنسان لظلوم كفار؛ لعدم شكر الله المنعم، ولعدم إحصاء نعم الله؛ لكثرتها.

أمّا سورة النّحل: تتحدث عن صفات الله سبحانه، ونِعَمُه، وإنّ الله لغفور رحيم؛ أي: سيغفر لكم عدم إحصاءكم لنِعمه، وعدم شكرها، وكأن آية النحل متممة لآية إبراهيم؛ فإن كنت ظلوماً، كفاراً؛ فاعلم أن الله سبحانه غفوراً رحيماً؛ فقابل صفتين من صفات الإنسان: الظلم والكفر، بصفتين من صفات الرحمن: الغفور والرحيم.

ولو عاملنا الله بعدله: يصبح الإنسان ظلوم كفار، ولكن يعاملنا سبحانه بفضله، ويغفر لنا؛ لأنّه هو الغفور الرّحيم، وانتبه إلى الفرق بين نِعمه بكسر النّون، ونَعمه بفتح النّون. ارجع إلى الآية (27) من سورة الدّخان، والآية (11) من سورة المزمل.

ص: 136

سورة إبراهيم [14: 35]

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} :

المناسبة: بدأت السورة بالحديث عن الذين كفروا؛ الذين عبدوا الأصنام، وقالوا لرسلهم تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا آية (10)، يذكرنا بإبراهيم عليه السلام باتخاذه القدوة الحسنة في تجنب عبادة الأصنام فقال:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} : وإذ: واذكر إذ قال إبراهيم، أو حين قال:{رَبِّ} : لم يستعمل ياء النّداء؛ لظنه بقرب الله له، ويقل يا رب.

{اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} : يعني: مكة، وجاء بأل التّعريف هذا البلد آمناً بينما في آية البقرة (126) قال:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} : بالنّكرة، وفُسر ذلك: بأنّ دعاء إبراهيم بأن يجعل هذا البلد كان بعد بناء الكعبة، وبعد أن أصبحت مكة بلداً معروفاً بين القبائل، وقد يكون أنّه دعاء بالأمن الخاص بها؛ أي: بلد أمن واستقرار، وأمّا قوله: هذا بلداً (بالنكرة) آمناً: كان قبل بناء الكعبة، وأوّل ما رحل بزوجته هاجر، وابنه إسماعيل إلى مكة، وقيل: بحوالي (13 سنة)، أو هو دعاء لمكة بالأمن العام؛ أي: دعاء إبراهيم اجعل هذا البلد آمناً جاء بعد حوالي (13 سنة) من دعائه رب اجعل هذا بلداً آمناً. آمناً: ذا أمن واستقرار.

{وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَنْ نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} : واجنبني: من الاجتناب؛ أي: الابتعاد؛ أي: أبعدني، وبني أن نعبد الأصنام، والسّؤال هنا كيف يدعو إبراهيم النّبي خليل الرّحمن بهذا الدّعاء، وهو الّذي كسر الأصنام من قبل، وجعلها جذاذاً؟

الدّعاء هنا يعني: إما التّثبيت، والاستمرار على اجتناب عبادتها، أو يعني: اجتناب الشرك بكل أنواعه، والشّرك الخفي خاصة، والعصمة لا تمنع أن يدعو الإنسان ربه بدوام ما هو عليه حاله أن نعبد الأصنام.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل، والتّوكيد.

الفرق بين الصّنم، والوثن: وردت كلمة الأصنام في خمس آيات، ووردت كلمة الوثن في ثلاث آيات. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (17)؛ لتعريف الصّنم، والفرق بين الوثن والصّنم.

ص: 137

سورة إبراهيم [14: 36]

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{رَبِّ إِنَّهُنَّ} : إنهن: للتوكيد، وهن: ضمير يعود على الأصنام.

{أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} : والسّؤال: وهل تضل هذه الأصنام أحداً؛ لأنّها جمادات لا تبصر ولا تسمع ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر؟

الجواب: بما أنّ الأصنام لا تنفع ولا تضر، ولكن القائمين عليها يدعون ويضلون النّاس أنّ لها ألوهية؛ فهم السّبب، أضللن كثيراً؛ لأنّ النّاس ضلوا بسببهن؛ فكأنهن أضللنهم، أو كأنها أضلّتهم.

{فَمَنْ} : الفاء: عاطفة لربط السّبب بالمسبب؛ من: شرطية.

{تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} : تبعني؛ أي: في الاعتقاد، والدّين، والملة؛ فإنّه مني؛ أي: على سنتي أو ملتي.

{وَمَنْ عَصَانِى} : أي: من لم يتبعني؛ فإنّه ليس مني، ويعني: أنّه عصى إبراهيم عليه السلام .

وقال إبراهيم: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : ولم يقل كما قال عيسى بن مريم: {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : إنّك: ضمير متصل تفيد الكمال في الرّحمة والغفران، ولماذا يختلف قول إبراهيم عن قول عيسى عليه السلام ؟

الجواب: لأنّ فتنة إبراهيم في الأصنام، أو في سياق الأصنام، بينما فتنة عيسى عليه السلام كانت في نفسه أنه إله، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، وفي أمه؛ فهي أشد وأعظم.

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : أي: تغفر لهم نتيجة لعزتك، وحكمتك.

ص: 138

سورة إبراهيم [14: 37]

{رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْـئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} :

{رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ} : للتوكيد؛ أسكنت: من السّكن والإقامة، والاطمئنان والأمن.

{مِنْ ذُرِّيَّتِى} : من: ابتدائية؛ من: بعضية بعض ذريتي، والذّرية: هم الأولاد (الذكور والإناث)؛ من ذريتي: إسماعيل، وذرية إسماعيل بقية أولاد إبراهيم كانوا في الشّام.

{بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} : بواد: الباء: ظرفية، وتعني: في واد غير: تفيد المغايرة؛ أي: لا فيه حرث، ولا زرع ولا ماء في ذلك الوادي، ولم يقل بواد غير ذي نبات؛ فكل ما تنبته الأرض يطلق عليه نبات قد يفيد أو لا يفيد، وينبت بالطريقة الفطرية، أمّا الزرع: فهو أساس حياة النّاس، ويحتاج إلى من يزرعه، ونحن نعلم أن أرض مكة أرض صخرية لا تسمح بالزراعة، والماء نادر؛ لكونها تشكلت من البراكين.

{عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} : عند: ظرف مكان، وقوله عليه السلام : عند بيتك المحرم، ولم يكن هناك بيتاً، ولا بلداً، وإنما وادٍ غير ذي زرع؛ يدل على أنّه أُوحي إليه، وأُخبر عن موقع البيت الحرام، وأنّه موجود في هذه المنطقة.

{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} : أي: أسكنت من ذريتي عند بيتك المحرم ليقيموا الصّلاة، واللام: لام التّعليل. وخص بذكر الصلاة؛ لأنها تجمع أركان الإسلام الخمسة.

{فَاجْعَلْ أَفْـئِدَةً مِنَ النَّاسِ} : أفئدة: عقول من النّاس.

{مِنَ} : للتبعيض، وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لو قال: أفئدة النّاس، ولم يقل: أفئدة من النّاس: لازدحمت عليه الأمم المختلفة: الرّوم، والهندوس، واليهود، والنّصارى، والمجوس، والإسلام يأتون للحج، والعمرة.

{مِنَ النَّاسِ} أي: من المسلمين فقط.

{تَهْوِى إِلَيْهِمْ} : من هوى؛ أي: أسرع في السّير تطير إليه قلوبهم شوقاً وحباً.

{وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} : لكونه واد غير ذي زرع؛ فهم يحتاجون إلى ما يأكلونه من الثّمار.

{لَعَلَّهُمْ} : لعل: للتعليل يشكرون. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10) للبيان.

ص: 139

سورة إبراهيم [14: 38]

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} :

قال إبراهيم عليه السلام : هذا الدّعاء، أو القول حين ودع زوجه هاجر، وابنه إسماعيل عائداً من الوادي غير ذي زرع إلى الأرض المباركة (بيت المقدس).

{رَبَّنَا} : أي: يا ربنا؛ حذف ياء النّداء للقرب.

{إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} : دعا بهذا عندما أراد فراق إسماعيل وهاجر، كما قال المفسرون. إنّك: للتوكيد؛ تعلم ما نخفي: في صدورنا من السّر والحسرة، والحب والحزن؛ يعني: على ابنه إسماعيل وزوجه هاجر.

{وَمَا نُعْلِنُ} : تكرار، وما: للتوكيد؛ نعلن: نقول جهراً يقصد به حين قالت له هاجر إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله، قالت: الله أمرك بذلك؟ قال: نعم، قالت عندها: لا نخشى تركتنا إلى كافٍ.

{وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية.

{شَىْءٍ} : أي: شيء مهما كان نوعه، وحجمه، وشكله في أي مكان، أو زمان؛ لأنّه عالم الغيب، والشّهادة، وعلام الغيوب؛ كقوله تعالى:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} [يونس: 61].

{فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} : قدم الأرض: للاهتمام، وكون سياق الآيات تتحدث عن الأرض كقوله: هذا البلد آمناً، أسكنت من ذريتي، بوادٍ، بيتك المحرم، ارزقهم من الثمرات.

ص: 140

سورة إبراهيم [14: 39]

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} :

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى} : الحمد لله: ارجع إلى سورة الحمد، آية (2)؛ للبيان.

{وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ} : الهبة: عطاء بلا مقابل، عطاء من الله ليس حقاً أو واجباً للسائل، وعطاء بدون تقديم الأسباب (هبة من وراء الأسباب)، ويمكن استردادها.

{لِى} : اللام: لام الاختصاص لي وحدي.

{عَلَى الْكِبَرِ} : ولم يقل مع الكبر: على تفيد الاستعلاء؛ لأنّ الكبر في السّن يعتبر ضعفاً وشيبة، ومن العوامل الّتي تمنع الإنجاب، ولكن إرادة الله سبحانه أعلى وأقوى من الضّعف؛ فهو على كلّ شيء قدير.

{إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} : إنّ: للتوكيد.

{رَبِّى} : الرّب: هو الخالق المدبر، والرّزاق، والقادر، والشّافي، والولي.

{لَسَمِيعُ} : اللام: للتوكيد.

{الدُّعَاءِ} : حين دعا ربه؛ فقال: رب هب لي من الصّالحين.

ص: 141

سورة إبراهيم [14: 40]

{رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} :

{رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَاةِ} : أي مواظباً على أركانها وسننها وخشوعها وأوقاتها ومحافظاً عليها.

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِى} : من: بعضية؛ بعض ذريتي؛ لأنّه علم بإعلام من الله أنّه سيكون من ذريته الظالمين، وذلك حين أخبره بقوله: لا ينال عهدي الظّالمين.

{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} : تكرار ربنا: للتضرع؛ والدعاء قد يعني العبادة أو يعني الدعاء بالمعروف وقوله تعالى: {دُعَاءِ} : بدلاً من وتقبل دعائي، دعاء يعني: دعائي، ودعاء غيري، ولو قال: دعائي؛ أي: فقط دعائي الخاص بي أو الدعاء المدعو به في زمن معين كقوله تعالى في سورة نوح آية (6){فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِى إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 6].

ص: 142

سورة إبراهيم [14: 41]

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} :

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِى} : بدأ إبراهيم بالدّعاء لنفسه بأن يستر الله ذنوبه ويمحوها، ويثيبه على أعماله الصّالحة.

{وَلِوَالِدَىَّ} : ثمّ بالدّعاء لوالديه؛ اللام: لام الاختصاص.

{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} : المؤمنين (الذّكور والإناث)؛ بأن يغفر لهم.

{يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} : يوم القيامة، دعاء عطف فيه العام على الخاص.

ص: 143

سورة إبراهيم [14: 42]

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} :

{وَلَا تَحْسَبَنَّ} : لا: النّاهية.

{تَحْسَبَنَّ} : ن الحساب، أو الحسبان: وهو الاعتقاد الرّاجح المبني على حساب عقلي، أو قلبي مبني على حساب حسي سابق ناتج عن مراقبة، أو عملية حساب في جمع وطرح.

{اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} : غافلاً: الغفلة عدم التفطن للشيء، أو عدم حضور الشيء في البال، أو تارك عما يعمل الظّالمون، أو غير منتبه لما يعمل الظّالمون. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى: غافلاً.

{عَمَّا} : عن: تفيد المجاوزة والمباعدة، ما: اسم موصول.

{يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} : يقول ويفعل. الظّالمون: جمع ظالم، والظلم: من معانيه الشرك.

ولمعرفة الظّلم، ومعانيه: ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة يعمل بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكراروالاستمرار.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ} : ليوم: اللام: لام الاختصاص ظرف زمان.

{تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} : تتفتح الأعين؛ فلا تطرف الأجفان، ولا تُغلق.

وتثبت العين على شيء، ولا تتحرك إلى غيره، وتصبح الحدقة واسعة من شدة الخوف، والفزع، والحيرة.

وهناك فرق بين: {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} ، و {زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63].

الزّيغ: يحدث من شدة الاضطراب، والخوف، والفزع؛ فلا يعد يرى شيئاً أمامه.

ص: 144

سورة إبراهيم [14: 43]

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} :

{وَلَا تَحْسَبَنَّ} : لا: النّاهية.

{تَحْسَبَنَّ} : ن الحساب، أو الحسبان: وهو الاعتقاد الرّاجح المبني على حساب عقلي، أو قلبي مبني على حساب حسي سابق ناتج عن مراقبة، أو عملية حساب في جمع وطرح.

{اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} : غافلاً: الغفلة عدم التفطن للشيء، أو عدم حضور الشيء في البال، أو تارك عما يعمل الظّالمون، أو غير منتبه لما يعمل الظّالمون. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى: غافلاً.

{عَمَّا} : عن: تفيد المجاوزة والمباعدة، ما: اسم موصول.

{يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} : يقول ويفعل. الظّالمون: جمع ظالم، والظلم: من معانيه الشرك.

ولمعرفة الظّلم، ومعانيه: ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة يعمل بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكراروالاستمرار.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ} : ليوم: اللام: لام الاختصاص ظرف زمان.

{تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} : تتفتح الأعين؛ فلا تطرف الأجفان، ولا تُغلق.

وتثبت العين على شيء، ولا تتحرك إلى غيره، وتصبح الحدقة واسعة من شدة الخوف، والفزع، والحيرة.

وهناك فرق بين: {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} ، و {زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63].

الزّيغ: يحدث من شدة الاضطراب، والخوف، والفزع؛ فلا يعد يرى شيئاً أمامه.

[44]

ص: 145

سورة إبراهيم [14: 44]

[43]

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} :

{وَأَنْذِرِ النَّاسَ} : الإنذار: هو إعلام مع تحذير وتخويف.

الإنذار للاستعداد ليوم القيامة، أنذرهم الآن، وهم في الحياة الدّنيا، ولا إنذار في يوم القيامة.

{النَّاسَ} : كلّ النّاس خاصة الكافرون والظالمون والفاسقون.

{يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} : يوم: هو إما يوم القيامة، أو يوم تتوفاهم الملائكة، واليوم: ظرف زمان، يوم القيامة وخصه بالعذاب؛ لأنّ السّياق في تهديد الظّالمين العصاة الّذين أشركوا، وأمّا يوم تتوفاهم الملائكة يضربون، وجوههم، وأدبارهم في مرحلة الوفاة الّتي تسبق قبض الرّوح، وهم في سكرات الموت.

{فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} : الّذين: اسم موصول؛ أشركوا، والطّغاة، والعاصين، والمكذبين.

{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} : يدعون ربهم، وحذفوا أداة النّداء الياء، ولم يقولوا: يا ربنا؛ لأنّ الزّمن قصير جداً.

{أَخِّرْنَا} : أمهلنا، أو أجلنا، أو أبقنا أحياء إلى فترة أو مدة محدودة قصيرة.

{إِلَى أَجَلٍ} : إلى: حرف غاية يستعمل لكل الغايات. أجل: هو الوقت أو المدة المضروبة لانتهاء أو انقضاء الشّيء.

{إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} : أي: قصير؛ أي: ردنا، أو أرجعنا إلى الدّنيا ولو لفترة قصيرة.

{نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} : إلى التّوحيد والإيمان، وعبادتك، وإلى ما أمرتنا به، أو نهيتنا عنه.

{وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} : ونتبع ما جاء على ألسنة رسلك (من السّنن)، ونصدق بهم، ونستمع إليهم ونطيعهم، وقالوا: ونتبع الرّسل بدلاً من الرّسول؛ لأنّ الرّسول يمثل الرّسل، ولأنّ الرّسل كلهم يدعون إلى لا إله إلا الله، وامتثال أوامر المعبود وتجنب نواهيه.

وقد ورد في سورة المنافقون، الآية (10-11) نظير هذه الآية، وهي قوله تعالى:{لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} .

في سورة القصص، الآية (47):{رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : فهذه الآية نزلت أوّلاً، فلما أرسل الله سبحانه إليهم رسولاً رفضوا أن يؤمنوا، ورفضوا الآيات، وقالوا:{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} ، وهذه الآية نزلت بعد آية القصص؛ أي: قالوا أوّلاً ما ورد في آية القصص: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} ؛ فلما أرسل الله إليهم رسولاً لم يتبعوه طوال حياتهم، ولما أصبحوا على فراش الموت قالوا:{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} .

{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} : أولم: الهمزة: للاستفهام، والتّوبيخ، والواو: لمطلق الجمع، والتّوكيد؛ لم: النّافية.

{تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِنْ قَبْلُ} : في الدّنيا، أو قبل موتكم؛ أي: لا بعث ولا حساب، ولا آخرة.

كما جاء ذلك في الآية (38) من سورة النّحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} ؛ وبما أنهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب ولا بالآخرة؛ لذلك لم يستعدوا لهذا الموت وسكراته.

{مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} : ما: النّافية.

{لَكُمْ} : خاصة.

{مِنْ} : استغراقية، وتفيد التّوكيد.

{زَوَالٍ} : رحيل أو تحول عن الدّنيا إلى الآخرة، أو لا زوال بعد الموت؛ أي: لا بعث ولا حساب بعد الموت، وأنّه هو النهاية.

ص: 146

سورة إبراهيم [14: 45]

{وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} :

{وَسَكَنتُمْ} : من السّكنى: وهو الإقامة، واللبث، والسّكن: مشتق من السّكون، والطمأنينة، والمرأة سكن لزوجها، والبيت سكن لهما.

{فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} : أمثال قوم عاد، وثمود، ولوط، وفرعون.

سكنتم: أقمتم {فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} ، وفي آية أخرى قال:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ} : كيف: استفهام تعجبي؛ ظهر لكم، وتحقق لكم.

{فَعَلْنَا بِهِمْ} : أي: كيف أهلكناهم، ودمرناهم، وانتقمنا منهم.

{وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} : وضربنا: ارجع إلى الآية (25)، من نفس السّورة؛ لمعنى الضّرب.

{الْأَمْثَالَ} : بهؤلاء الأقوام، وما حدث لهم.

ص: 147

سورة إبراهيم [14: 46]

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} :

{وَقَدْ} : حرف تحقيق يفيد التّوكيد.

{مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} : المكر: هو التّدبير الخفي الّذي يؤدي إلى ما لا يحتسبه الممكور به. ارجع إلى الآية (33) من سورة الرّعد؛ للبيان.

وقد مكروا مكرهم في عدة مرات حين حاولوا النّيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذُكر ذلك في سورة الأنفال، الآية (30):{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .

{وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} : عند: ظرف مكان، أو زمان، وعند تفيد أقصى نهايات القرب؛ أي: مكرهم، أو ما يفكروا به من المكر، أو يخطر على بالهم من المكر يعلمه الله، أو عند الله علمه وقد تعني مكتوب ومعلوم عند الله مكرهم قبل أن يفكروا به، أو يخطر على بالهم، هو يعلمه في سابق علمه الأزلي.

{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} : وإن: الواو: استئنافية.

وإن: لها عدة احتمالات:

إن: نافية تفيد التّحقير والتّصغير؛ بمعنى: ما كان مكرهم شديداً لتزول منه الجبال.

إن: أشد نفياً من: ما.

إن: قد تكون مخففة تفيد التّوكيد؛ أي: بالتّأكيد كان مكرهم شديداً قوياً يؤدي إلى زوال الجبال، ولكن الله أشد مكراً وأشد تنكيلاً.

إن: قد تكون شرطية، وتقديرها: فلو كان مكرهم قوياً يُزيل الجبال؛ فلن ينالوك بشيء.

{لِتَزُولَ مِنْهُ} : لتزول: اللام: للتأكيد. منه: الجبال؛ أي: تتحرك من مكانها، أو تتفتت، أو تخر.

الفرق بين المكر والكيد والغدر:

المكر: هو التّدبير الخفي؛ لإلحاق الضّرر بالغير، ولا يعلم ذلك الممكور به.

الكيد: أقوى من المكر: وهو إيقاع الضّرر بالغير قهراً، سواء أعلم به الخصم أم لم يعلم.

الغدر: هو نقض العهد الّذي كان يجب الوفاء به.

ص: 148

سورة إبراهيم [14: 47]

{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} :

{فَلَا تَحْسَبَنَّ} : الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَحْسَبَنَّ} : ارجع إلى الآية (42) من نفس السّورة.

{مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} : مخلف؛ أي: غير منجز وعده، ووعد الله لرسله:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 172-173]؛ أي: النّصر، والفتح، والعصمة من النّاس، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]: بإظهار الدّين. مخلف وعده رسله: الأصل مخلف رسله وعده قدم الوعد؛ للاهتمام به؛ أي: وعده بشكل عام يشمل أي وعد، ولو قدم رسله على الوعد فقال مخلف رسله وعده لكان يعني: أن الله لا يخلف رسله وعده، ولكن يمكن أن يخلف وعده لغير رسله وحاشا لله أن يفعل ذلك.

{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} : إنّ الله: للتوكيد.

{عَزِيزٌ} : قوي، غالب لا يُغلب، ولا يُقهر، ممتنع.

{ذُو انْتِقَامٍ} : القادر على انتقام من أعدائه، وكلّ من يعصيه؛ ذو انتقام: ذو عقاب.

ص: 149

سورة إبراهيم [14: 48]

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} :

{يَوْمَ} : ظرف زماني، ويعني: يوم القيامة.

{تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} : أي: تبدل الأرض الحالية، الأرض الّتي خلقها الله سبحانه منذ حوالي (13-14 مليار سنة) بأرض جديدة هي أرض المحشر، التي هي أكبر بكثير من الأرض الحالية، وتضم الأرض الجديدة الأرض الحالية، وسوف نبعث من الأرض الجديدة، كما ورد ذلك في هذه الآية وفي الصّحيحين، وهذا التّبديل قد يكون تبديل كلّي كامل، وهو الذّهاب بالشّيء واستبداله بآخر، أو تبديل جزئي تبديل في مكوناتها من الجبال والبحار والأودية؛ أي: تزول جبالها وأوديتها؛ فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، أو تبديل في بعض صفاتها، والله أعلم.

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} : البروز: هو الظّهور، والمواجهة بعد الخروج من القبور، وعبر عن البروز بالماضي بدلاً من المستقبل أو الحاضر؛ للدلالة على تحقق الوقوع؛ فكأن البروز حدث ووقع؛ لأن الله سبحانه خالق الزمان والمكان.

{الْوَاحِدِ} : اسم من أسماء الله الحسنى ويعني: لا شريك له، لا يتجزأ، لم يلد، ولم يولد، الواحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وقد ذكر هذا الاسم في (21) موضعاً في القرآن. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{الْقَهَّارِ} : اسم من أسماء الله الحسنى مشتق من صلة القهر: وهي الغلبة والقدرة، أو القادر على قهر كل شيء، والقهار: صيغة مبالغة من القهر، واسم الفاعل هو القاهر الدال على التجدد، والقهار: تدل على الثبوت والمبالغة في القهر بكل أنواعه وأحجامه، فقد دانت له الخلائق، وعنت له الوجوه، وقهر كلّ شيء، وتواضعت لعظمته وكبريائه الجبابرة، وبالموت والحساب.

ص: 150

سورة إبراهيم [14: 49]

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ} :

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} : رؤية العين، الكافرين، والمشركين، ومرتكبي الكبائر. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لمزيد من البيان في معنى المجرمين.

{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة في ذلك اليوم.

{مُقَرَّنِينَ} : من قرن الشيء بالشيء؛ أي: وصلته، مشدودين، مقيدين بعضهم مع بعض، أو المقرن من جمع مع غيره في قرن، وهو الوثاق، وقد تعني: قرنت أيديهم، وأرجلهم إلى أعناقهم بالسّلاسل.

{فِى الْأَصْفَادِ} : جمع صفد، والأصفاد: قيود تستعمل للأرجل (الأقدام)، بينما الأغلال: قيود تستعمل للأيدي.

ص: 151

سورة إبراهيم [14: 50]

{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} :

{سَرَابِيلُهُمْ} : جمع سربال: وهو القميص، أو الثّوب.

{مِنْ قَطِرَانٍ} : من: ابتدائية.

{مِنْ قَطِرَانٍ} : مشربة بالقطران؛ القطران: قيل: هو الزّفت الأسود المستعمل في بناء الطّرقات، أو هو دهن أسود منتن الرّائحة؛ له رائحة مزعجة؛ تشتعل فيه النّار بسرعة؛ يستخرج من الخشب والفحم، أو القطران: دهن يستعمل للإبل للشفاء من الجرب، أو لحماية الحديد من الصدأ.

وقيل: القطران: مؤلف من كلمتين: قطر: وهو النّحاس، آن: متناهي في الحرارة.

{وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} : تلفح، أو تغطي، أو تعلو وجُوهَهُمُ النّار. وخص ذكر الوجوه من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل؛ أي: تغشى جميع أبدانهم، وخص الوجوه وقدمها على النار للانتباه لما سيلحقهم من الذلة والصغار.

ص: 152

سورة إبراهيم [14: 51]

{لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :

{لِيَجْزِىَ اللَّهُ} : اللام لام التعليل. والجزاء: أعم من الأجر ويعني المماثلة؛ أي: من جنس العمل، ويستعمل في العقاب، أو الثواب.

{كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{مَا كَسَبَتْ} : من خير، أو شر، والكسب: في الأصل تعني: الزّائد عن الأصل؛ مثال: الزّائد عن رأس المال يسمى كسب، وتفسير ذلك: أن العبد حين يحرم نفسه من شيء، أو يقوم بعمل لا يقوم به الغير؛ فهو سيأخذ ثواب ذلك وزيادة.

وكسب: عادة تخصص للحسنة.

وأما اكتسب: تخصص للسيئة؛ فلماذا استعمل كسبت للسيئة؛ لأنّ فعل السّيئة أصبح سهلاً، وأمراً دأب عليه فلم يُعد في حسبانه فعلها، كما يفعل بالحسنة يفعلها بسهولة ويُسر. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) للبيان.

{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} : ارجع إلى الآية (41) من سورة الرّعد؛ للبيان.

ص: 153

سورة إبراهيم [14: 52]

{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} :

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة للقرب، واسم إشارة يشير إلى القرآن العظيم. وقوله هذا: تنبيه للمخاطب على المشار إليه وقربه وللمبالغة في إيضاحه.

{بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} : بلاغ: من الإبلاغ، أو التّبليغ: وهو إيصال الشّيء، أو الرّسالة+ مع البيان والفهم؛ هذا القرآن بلاغ للناس كافة؛ أي: منهج الله للنّاس كافة، وفي سورة الأحقاف آية (35) قال تعالى:{بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} ، وفي هذه الآية قال تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} فيه مبالغة وتوكيد أشد من قوله بلاغ.

{وَلِيُنذَرُوا بِهِ} : ولينذروا: الواو: عاطفة؛ اللام: لام التّعليل، الإنذار: هو الإعلام مع التّحذير، والتّخويف.

{وَلِيَعْلَمُوا} : أي: يستدلوا بما فيه من الآيات؛ اللام: لام التّعليل؛ ليعلموا من دراسة الآيات الكونية، والآيات المنزلة في هذا القرآن، والمعجزات: أن الله إله واحد.

{أَنَّمَا هُوَ} : أنما: كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر.

{هُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{إِلَهٌ وَاحِدٌ} : معبود واحد، لا شريك له، ولا ولد، ولا يتجزأ؛ أمّا قوله تعالى: الأحد؛ تعني: لا مثيل له ولا يشبه أحد. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} : إنّ الله إله واحد، ولم يقل: وليتذكروا؛ لأنّ أولي الألباب لا يحتاجون إلى زمن طويل كي يذكروا: أنّ الله إله واحد.

وليذكر أولوا الألباب، ولا ينسوا وحدانية الله، ووحدانية الرّب والأسماء والصّفات، ويدعوا غيرهم إلى التّوحيد. ارجع إلى الآية (179)، والآية (197) من سورة البقرة، والآية (19) من سورة الرّعد؛ لمزيد من البيان في معنى: أولي الألباب.

ص: 154