المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الحجر [15: 1] سورة الحجر ترتيبها في القرآن (15)، - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ١٤

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الحجر [15: 1]

سورة الحجر

ترتيبها في القرآن (15)، وفي النزول (54)، نزلت بعد سورة يوسف.

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} :

{الر} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} : تلك: اسم إشارة، واللام: للبعد؛ تفيد التّعظيم، والكثرة، وتشير إلى الآيات الآتية، أو الّتي سبقتها، أو الآيات بشكل عام.

{الْكِتَابِ} : أي: القرآن، وسمّي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في السّطور، واللوح المحفوظ، وأل التعريف: تفيد الكتاب التّام الكامل، والتّعظيم.

{وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} : مبين: واضح الأحكام لكلّ فرد يقرأه، ويتدبره، ومبين في ذاته، ومبين لغيره، وأنّه منزل من عند الله تعالى، ويسمّى قرآن؛ لأنّه مقروء.

مُبين للحق من الباطل، والحلال من الحرام، والمبين لمنهج الله تعالى، وافعل، ولا تفعل، وقرآن: نكرة للتعظيم، وجمع بين الوصفين الكتاب، وقرآن مبين؛ للدلالة على الكمال. والقراءة والكتابة ضرورية لحفظ كلام الله من التحريف والتبديل. فالتلاوة: القراءة، جمع صوتي لحروف وكلمات القرآن في الصدور، والكتاب يعني: الجمع والضم الحسي لحروف وكلمات القرآن في السطور.

في سورة النّمل، الآية (1):{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} : يعكس التّرتيب مرة يقول تلك آيات القرآن وكتاب مبين، ومرة يقول: تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين؛ فهو يعطف القرآن على الكتاب، أو الكتاب على القرآن؛ لزيادة الوصف.

ص: 1

سورة الحجر [15: 2]

{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} :

{رُبَمَا} : فيها قراءتان متواترتان صحيحتان: إحداهما: بالتّشديد، والأخرى: بالتّخفيف، وقيل: التّشديد هو الأصل، والتّخفيف لكثرة الاستعمال، رب: قد تستعمل للتكثير، أو تستعمل للتقليل.

وحسب السّياق فقد تستعمل للتكثير إذا قيلت في سياق الآخرة؛ حيث يتمنى كثير من الكافرين لو كانوا مسلمين.

وقد تستعمل للتقليل، كما هي حال الكفار في الدّنيا؛ فقليل فهم يودون لو كان مسلمين.

ودخلت رب على ما؛ لأنّ رب وحدها لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها ما عندها يمكن أن تدخل على الفعل، كما هو الحال هنا دخلت على الفعل يود.

{يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} : يود الّذين كفروا يوم القيامة (وهو المرجح) حين يروا أهوال يوم القيامة، وما تكون عليه حال المؤمنين، وحال الكافرين.

{لَوْ} : حرف مصدري للتمني.

{كَانُوا مُسْلِمِينَ} : أي: في الحياة الدّنيا.

قال: ربما يود، ولم يقل: ربما ود؛ لحكاية الحال؛ لتبين شدة تمنيهم لو كانوا مسلمين.

ص: 2

سورة الحجر [15: 3]

{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :

{ذَرْهُمْ} : دعهم؛ اتركهم؛ أي: ذر الكافرين يأكلوا، ويتمتعوا.

{يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} : يأكلوا، ويشربوا، ويلبسوا، ويتمتعوا بمتاع الدّنيا الزّائل؛ متاع الغرور، والتّمتع: هو الانتفاع، والتّمتع بالأكل، والشّرب، والملبس، والأداة: أداة المتعة والترفيه المختلفة من وسائل الاتصال، والتلفزة، واللعب.

{وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} : يشغلهم الأمل (بطول العمر) فلا يتوبوا ويرجعوا عن غيهم وضلالهم إلى الإيمان، أو يأملوا في أن يغفر لهم الله تعالى ذنوبهم بدون توبة أو بدون عمل صالح، والأمل: رجاءٌ يستمر، أو طمع فيما يبعد حصوله.

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : الفاء: للتوكيد؛ سوف: للاستقبال، والتّراخي في الزّمن (تستعمل للزمن البعيد)؛ أي: يوم القيامة، أو يوم موتهم؛ سوف يعلمون عاقبة أمرهم، وجزاؤهم، وفيها تهديد، ووعيد.

ص: 3

سورة الحجر [15: 4]

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية؛ ما: النّافية.

{أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} : من: استغراقية؛ أي: كل قرية. ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لبيان معنى الهلاك.

{قَرْيَةٍ} : حذف كانت ظالمة؛ أي: ظالم أهلها، والقرية؛ تعني: أهل القرية، وعمرانها؛ أي: بتدمير بيوتها، وتخريبها، والقضاء، أو إهلاك أهلها بالرّجفة، أو الزّلازل، أو الفيضانات، أو الأوبئة، أو الكوارث الجوية. ارجع إلى سورة الحج، آية (45).

{إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} : إلا: أداة حصر.

{وَلَهَا} : اللام: لام الاختصاص.

{كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} : في اللوح المحفوظ مكتوب زمن إهلاكها، كتاب معلوم متى يجيء أجلها: انتهاء المدة المضروبة لانتهاء إبقاءها حية.

ص: 4

سورة الحجر [15: 5]

{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَـئْخِرُونَ} :

{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} : ما: النّافية؛ تسبق من أمة أجلها: أي: لا يأتي أجل أي أمة قبل أوانه؛ أي: لا ينقضي، وينتهي أجل أي أمة، ولو بمقدار ساعة، أو أقل. والأمة: جماعة من النّاس غير محدودة بعدد معين، ولا يحدها حيز جغرافي، ولها مبادئ، وقيم، وقوانين محددة.

{وَمَا يَسْتَـئْخِرُونَ} : وما: الواو: عاطفة، وتكرار ما: يفيد توكيد النّفي؛ أي: وإذا لم يأت أجلها لا يستأخرون.

ص: 5

سورة الحجر [15: 6]

{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} :

{وَقَالُوا} : أي: عدد من كفار مكة؛ أمثال: النضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة (قاله ابن عباس رضي الله عنهما ).

{يَاأَيُّهَا الَّذِى} : يا أيها: الياء: أداة نداء للبعد، والهاء: للتّنبيه.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، والسّخرية.

{نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} : نزل: وليس أنزل؛ نزل: تفيد الإنزال على دفعات، أو منجماً خلال سنين طويلة (23). قالوا ذلك تكبراً واستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وسخرية منه وتهكم.

{الذِّكْرُ} : هو اسم علم يعني: القرآن، وسمي الذّكر؛ أي: ذي التذكير يذكِّر قارئه بربه، وآخرته، وما عليه من فرائض، وأحكام، والذّكر: هو الشّرف؛ أي: هذا القرآن شريف القدر لكونه محفوظاً من الله وغير منسي. ارجع إلى سورة ص آية (1)؛ لمزيد من البيان.

{إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} : إنّ: للتوكيد، الكاف: للخطاب.

{لَمَجْنُونٌ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ مجنون: من ذهب عقله؛ اتهموه بذلك باطلاً بسبب ما يدعوهم إليه من ترك ما يعبد آباءهم، والتّوحيد، وجعل الآلهة إلهاً واحداً، والبعث، والجزاء، وغيرها من أمور الدّين.

ص: 6

سورة الحجر [15: 7]

{لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{لَّوْ مَا} : لو: أداة حض، وحث. ما: للتوكيد.

{تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} : كي يشهدوا بصدقك؛ أي: بنبوتك، أو يكونوا معك نذيراً، والباء: للمصاحبة.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك، أو الافتراض.

{كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : أنك نبي مرسل، أو هذا القرآن من عند الله سبحانه.

ص: 7

سورة الحجر [15: 8]

{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} :

{مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} : ما: النّافية.

{نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} : أمثال: جبرائيل، أو غيره؛ هذا رداً على سؤالهم السّابق في الآية (7).

{إِلَّا بِالْحَقِّ} : إلا: أداة حصر.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ الحق: هو الوحي؛ أي: بالقرآن، والحق: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير، ولا يتبدل، أو بالأوامر، أو العذاب، أو لقبض أرواحهم عند موتهم، أو أمر محدد أو نزل الملائكة فعلاً، كما حدث في غزوة بدر لتقاتل مع المؤمنين.

{وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} : فإذا أنزلنا الملائكة؛ ما كانوا: لن يكون عندهم زمن للانتظار بعد نزول الملائكة بالعذاب، أو لقبض أرواحهم.

{إِذًا} : جواب، وجزاء للتوكيد.

{مُنْظَرِينَ} : من الإنظار؛ الإمهال، أو ممهلين؛ أي: حين نزول الملائكة بالعذاب لن يكونوا منظرين مؤخرين؛ لكي ينجو، أو يؤمنوا.

ص: 8

سورة الحجر [15: 9]

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} :

{إِنَّا} : إنّ: للتوكيد، ونا: للتعظيم.

{نَحْنُ نَزَّلْنَا} : للتوكيد أنّ المنزل هو الله وحده.

{الذِّكْرَ} : القرآن. ارجع إلى الآية (6) من نفس السورة، والآية (1) من سورة (ص)؛ للبيان.

رداً على قولهم: يا أيها الّذي نزل عليه الذّكر إنك لمجنون.

{وَإِنَّا لَهُ} : للتكرار، والتّوكيد. له: الهاء: تعود على الذّكر.

{لَحَافِظُونَ} : اللام: لام التّوكيد؛ حافظون: من التّبديل، والتّغيير، والزّيادة، والنّقص، والتّحريف؛ بخلاف الكتب السّماوية السّابقة؛ فإنّه سبحانه لم يتولى حفظها، وإنما استحفظ الرّبانيين، والأحبار فما رعوها حق رعايتها؛ حافظون:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، وحافظون: جملة اسمية تفيد الثّبات، والاستمرار. بينما أوكل الله سبحانه وتعالى حفظ الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل إلى الأحبار والرهبان كما قال تعالى:{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، فلم يحفظوها كما عهد الله إليهم مما أدى إلى ضياع بعضها وإلى تغير وتبديل بعضها.

ص: 9

سورة الحجر [15: 10]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{أَرْسَلْنَا} : ولم يقل: بعثنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ لمعرفة الفرق.

{مِنْ قَبْلِكَ} : من: ابتدائية؛ أي: رسلاً تضم الرّسل والأنبياء؛ من: تدل على قرب الزمان؛ أي: ليس منذ زمنٍ بعيد.

{فِى شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} : شيع: مشتقة من الشياع، وهي قطع الحطب الدقيقة الّتي تضاف إلى النار؛ لتزداد اشتعالاً؛ جمع شيعة: وهي الجماعة الّتي تجمعها عقيدة واحدة، أو مذهب. وشيع: تعني أيضاً: الفرق، وتعني: الجماعة الّتي تميل إلى رجل لمحبتهم إياه.

ص: 10

سورة الحجر [15: 11]

{وَمَا يَأْتِيهِم مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَمَا يَأْتِيهِم} : الواو: استئنافية؛ ما: النّافية.

{يَأْتِيهِم} : بصيغة المضارع بدلاً من أتاهم في الماضي؛ للدلالة على حكاية الحال.

{مِنْ رَسُولٍ} : من: استغراقية؛ أي: رسول، وكل رسول هو نبي، وليس كل نبي رسول. ارجع إلى سورة النساء آية (164) لمزيد من البيان، والفرق بين الرسول والنبي.

{إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : إلا: أداة حصر.

{يَسْتَهْزِءُونَ} : من الاستهزاء، ويعني: تحقير المستهزئ به، والاستخفاف به، والتصغير من شأنه. ويستهزؤون: بصيغة المضارع التي تعني: الاستمرار في الاستهزاء، ولحكاية الحال.

ولو قارنا هذه الآية مع الآية (6) من سورة الزّخرف: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَّبِىٍّ فِى الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِنْ نَّبِىٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} ، كم هنا: خبرية؛ تفيد التّكثير؛ لأنّ الأنبياء عددهم أكثر بكثير من الرّسل.

ص: 11

سورة الحجر [15: 12]

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} :

{كَذَلِكَ} : تعني: مثل ذلك؛ أي: كما سلكنا: أدخلنا الكفر، والتّكذيب، والاستهزاء في قلوب شيع الأولين من الأمم السابقة؛ كذلك ندخله في قلوب المجرمين من مشركي مكة، وغيرهم من المكذبين.

{نَسْلُكُهُ} : ندخله، والسّلك: أعم من الإدخال، والإدخال: حالة خاصة من السّلك؛ فالسّلك: يضم الإدخال، وغير الإدخال، ويعني: إدخال الشّيء في شيء آخر بسهولة بعكس الدّخول الّذي يعني: أكثر صعوبة، ومشقة، والهاء في نسلكه: تعود إلى الكفر، أو الشّرك، أو التّكذيب، أو الاستهزاء، وقد تعود إلى الذّكر؛ أي: القرآن، وقد تشمل الكل.

{فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} : جمع مجرم، ولبيان معنى المجرمين ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31).

ص: 12

سورة الحجر [15: 13]

{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} :

{لَا} : النّافية.

{يُؤْمِنُونَ بِهِ} : لا يصدقون به، والهاء: تعود على الذّكر، أو الرّسول، أو العذاب، أو الكل.

{وَقَدْ خَلَتْ} : وقد: الواو: استئنافية؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{خَلَتْ} : مضت، وسبقت.

{سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : السّنة: الطّريقة الّتي يصرِّف الله سبحانه بها كونه بما يحقق مصلحة الكون، والإنسان؛ أي: قوانين خلقه، وكونه.

{الْأَوَّلِينَ} : الّذين جاءوا قبلكم من الأمم كيف فعلنا بهم، أو أهلكناهم بسبب تكذيبهم لرسلهم. ارجع إلى سورة الفتح، آية (23)، وسورة آل عمران، آية (137) وسورة النساء آية (26)؛ لبيان معنى: السُنة.

ص: 13

سورة الحجر [15: 14]

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: استئنافية؛ لو:

{فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} : هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن؛ فقد أثبتت الحقائق العلمية الحديثة: أن المركبات الفضائية إذا أرادت أن تخرج من الغلاف الجوي المحيط بالأرض لا تستطيع أن تخرج إلى حيز، أو مدار آخر، أو فلك آخر إلا من أماكن محددة تسمى: منافذ الغلاف الجوي (تسمى باباً)؛ فمن هذه الآية نستنتج: أنّ هناك أبواب للسماء إذا أرادت المركبات الفضائية الخروج إلى مدارات أخرى لا بد أن تخرج منها؛ كي تخرج بسلامة، أمّا إذا حاولت الخروج من غير هذه المنافذ، أو الأبواب تنفجر، وتتحطم على الفور؛ فالسّماء؛ أي: السّموات بناء محكم شديد الترابط بقوى كثيرة، وليست السّماء فراغاً كما كان يظن النّاس؛ فليس هناك فراغاً أبداً، إنما الكون مليء بالمادة، والغازات، والطاقة.

والسّماء تعريفها: هو كل ما علاك، وتشمل السّموات السّبع، وما بينهن.

{فَتَحْنَا عَلَيْهِم} : ولم يقل فتحنا لهم؛ لأنّ على: تعني العلو، والاستعلاء، والمشقة؛ لأنّ الخروج من هذه الأبواب ليس سهلاً، وثانياً هم سوف يعرجون، أو يصعدون من أسفل إلى أعلى فالباب سيفتح لهم من أعلاهم، أو أنزلنا عليهم سُلماً يصعدون به إلى أعلى.

{فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} : فظلوا: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ ظلوا: من ظل؛ وظل: تستعمل خاصة للعمل في النّهار، وأمسى: تستعمل خاصة للعمل بالليل، وكان: تستعمل لمطلق الزّمان؛ فظل تعني: في ضوء النّهار؛ أي: ظلوا يصعدون في ضوء النّهار.

{فِيهِ} : ظرف زماني، ومكاني، والهاء: تعود على الباب؛ أي: فظلوا يعرجون نهاراً حتى يصلوا إلى الطبقة المظلمة المحيطة بالكون، وعندها لا يرون إلا الظلام.

{يَعْرُجُونَ} : تحمل معنى أول، وهو الصّعود، ومعنى ثان الحركة بشكل مائل إذن يعرجون تعني الصّعود مع الميلان بشكل مائل؛ أي: بخط منحني غير مستقيم؛ لأنّ السّماء الدّنيا مليئة بالأجرام، وهذه الأجرام تختلف في كتلها، وسرعة دورانها، وقوى التّجاذب، وقوى الطرد المركزي.

{يَعْرُجُونَ} : مشتقة من العرج، وهو الميل بالحركة؛ أي: يصعدون بشكل مائل، أو منحي، ولو كان الصّعود في الليل لقال الحق فباتوا فيه يعرجون بدلاً من كلمة فظلوا.

فسوف يرون ظلاماً يسيطر على الكون، والأرض؛ أي: محيطاً بالأرض، ويرون الشّمس، والنّجوم بقاع، أو نقاط باهتة لا تعطي نوراً.

فمن أين جاء الظّلام، وهذه هي حقيقة علمية في علم الفلك، والفضاء أننا لو تجاوزنا الغلاف الجوي سنرى ظلاماً قد أطبق على الكرة الأرضية؛ أي: ما حول الأرض غلاف مظلم، وطبقة النّهار، أو الطبقة المضيئة طبقة لا يزيد سمكها عن (200كم)، ومعظم أشعة الشّمس لا تصل إلينا إنما فقط تصل إلينا حزمة من أشعة الشّمس تسمّى حزمة الضوء المرئي المكونة من ألوان الأطياف السبعة الّتي حين تختلط بالطبقة الغازية المضيئة حول الأرض، وتعطينا هذا الضوء الأبيض.

للتفريق بين الصّعود، والعروج، والرّقي. ارجع إلى الآية (93) من سورة الإسراء.

ص: 14

سورة الحجر [15: 15]

{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} :

{لَقَالُوا إِنَّمَا} : لقالوا: اللام: للتوكيد، والتّعليل؛ قالوا: الّذين يعرجون في السّماء؛ أي: رواد الفضاء.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} : من سِكْر الباب؛ أي: أغلقه، أو مشتقة من السُّكر الّذي يلي شرب الخمر؛ أي: غُطيت، وغُشيت أبصارنا؛ أي: اعتراها خلل في إحساسها، كما يعتري عقل السّكران بعد شرب الخمر؛ فيختل إدراكه.

أو سدت أبصارنا، ومنعت عن الرّؤيا، وما نرى إلا ظلاماً، أو تخيلاً، وأوهاماً.

{بَلْ} : بل: للإضراب الانتقالي.

{نَحْنُ} : للتوكيد.

عدلوا عن كلمة عقولهم إلى أبصارهم؛ أي: مسحورين في الأبصار.

{قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} : جمع مسحور؛ اسم مفعول من سحر؛ هي جملة اسمية تفيد الثّبوت؛ أي: هم لن يصدقوا، ويؤمنوا بهذه الحقائق الثّابتة الكونية الّتي هي عين اليقين الّتي لو رأوها بأعينهم لقالوا هذا سحر، وأوهام؛ لشدة عدم تصديقهم وتكذيبهم، ولمعرفة معنى السحر؛ ارجع إلى سورة طه، آية (8).

ص: 15

سورة الحجر [15: 16]

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: لام التّوكيد؛ قد: للتحقيق.

{جَعَلْنَا} : صير، والجعل يكون بعد الخلق.

{فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا} : وهي منازل للشمس، والقمر، كما قال تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]؛ أي: كلما تحركت الشمس في السّماء؛ تنتقل من برج إلى آخر.

والبروج: هي تجمعات نجمية يراها أهل الأرض في أشكال هندسية معينة يسميها النّاس تسميات مختلفة؛ مثل: برج الحمل، والثور، والسرطان، والأسد، وبرج العقرب، أو الميزان، وهي في الحقيقة ليست كما يصفها النّاس، وهذه البروج عددها (88 برجاً)، (12) برج تقع الشمس في كل واحد منها في كل شهر؛ فيستطيع الإنسان أن يحدد الشّهر عن طريق البرج الّذي تقع فيه الشمس، وكذلك تلعب هذه الأبراج (التجمعات النجمية) دوراً في تحديد جهة الشرق، وبقية الاتجاهات، وكذلك باقي الأبراج يلعب دوراً في زينة السّماء، وكما قال تعالى:{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} : أي: السّماء.

وسميت هذه البروج: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.

والقمر: ينتقل في السّماء من منزل إلى آخر: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]. ارجع إلى سورة يس؛ لمزيد من البيان.

{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} : أي: السّماء زيناها بالنجوم، والكواكب، والشموس، والأبراج، والمنازل.

{لِلنَّاظِرِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ النّاظرين: جمع ناظر: بالعين المجردة، أو بواسطة تلسكوب.

ص: 16

سورة الحجر [15: 17]

{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} :

{وَحَفِظْنَاهَا} : بالشّهب.

أي: ومنعنا كل شيطان رجيم من الاقتراب من السّماء، واستراق السّمع.

{مِنْ كُلِّ} : من: استغراقية تستغرق كل شيطان.

{شَيْطَانٍ} : وكلمة شيطان مشتقة من شطن: بُعد عن الحق، وتمادي في الشّر، أو شاط احترق، أو الشّاطن الخبيث.

{رَجِيمٍ} : تعني:

1 -

مرجوم بالشّهب.

2 -

مطرود من رحمة الله، أو مُبعد.

3 -

ملعون.

ص: 17

سورة الحجر [15: 18]

{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} :

{إِلَّا مَنِ} : إلا: أداة استثناء. من: ابتدائية.

{اسْتَرَقَ السَّمْعَ} : استمع في خُفية؛ كي يسرق الكلام المسموع بالتّنصت إلى الملائكة؛ سرقة مقرونة بخوف، وخفاء، وعدم استقرار لا يسمح بحسن الاستماع والفهم.

{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} : فأتبعه: الفاء: للترتيب، والمباشرة مما يدل على إحكام السماء من اطلاع الشيطان على ما لم يرد الله اطلاعهم أو استماعهم إليه.

{شِهَابٌ} : النجوم عندما تنفجر تتحول إلى نيازك تتفجر وتتحول إلى قطع عالية الكثافة؛ تنزل على الأرض بشكل قطع من الصخر؛ كالحديد، وبعضها عندما تنزل وتحتك بالغلاف الغازي للأرض تحترق احتراقاً كاملاً مشكلةً الشهب؛ فالشهب: أصلها نيازك صغيرة الحجم؛ فهذه الشهب جعلها ربنا رجوماً للشياطين، وإذا سقطت على الأرض تسقط بشكل رماد، وربنا سبحانه حرمَ على الشياطين القيام باستراق السمع بعد بعثة الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم.

ما هو الفرق بين الشهاب المبين والشهاب الثاقب؟

الشهاب الثاقب: أشد، وأقوى من الشهاب المبين؛ لكونه يخترق الكثير من الأجسام.

لننظر إلى كلمة شهاب في القرآن الكريم؛ فقد وردت في عدة آيات:

في سورة الحجر هذه آية (18): {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} .

في سورة النمل، آية (7):{سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ؛ أي: شعلة من النّار ملتهبة.

في سورة الصّافات، آية (10):{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} ؛ أي: ألسنة من النّار تنطلق من النّجم لتحرق الشيطان المارد.

في سورة الجن، آية (9):{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} .

ص: 18

سورة الحجر [15: 19]

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} :

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} : أي: مددنا قشرة الأرض؛ فالأرض بدأت من جزيرة بركانية ظهرت في وسط كل محيط، ثمّ استمرت ثورة البراكين، وظلت الأرض تتمدد حول هذه الجزيرة الّتي سميت الحافة وسط المحيط حتى شكلت القارة الأم الّتي تشققت بشبكة من الصدوع إلى سبع قارات، ثمّ تباعدت هذه القارات حتى أصبحت كما نراها اليوم.

{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} : رواسي: هي الجبال، وتتشكل حين تصطدم الألواح القارية تحت المحيطات بعضها ببعض؛ فحين ينزل لوح تحت لوح آخر تكشط كل الصخور الرسوبية عن السطح النازل، وتلقى على السطح الآخر، وعندما ينزل اللوح إلى درجات أعمق ذات درجات حرارة شديدة تنفجر البراكين، وتلقي البراكين بالحمم في الفضاء، ثمّ تنزل على الأرض لتشكل الجبال، أو تلقى على الأرض، ثمّ تنزل الجبال إلى قشرة الأرض، وحينما تصل إلى مناطق الضعف الأرضي تنزاح بعض الصخور المنصهرة، وتدفع إلى أعلى، وهذه تكون قلب الجبل، وهذه الجبال ساعدت على إبطاء حركة الأرض لكي تستطيع هذه الكائنات الحية مثل الإنسان، والحيوان، والنبات العيش عليها.

{وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} : من: استغراقية تفيد التّوكيد، وتشمل كل نبات (يشمل الزروع والثمار).

{كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ} : معلوم الوزن، والقدر عند الله سبحانه، ومنها العناصر اللازمة لاستمرار حياته.

ص: 19

سورة الحجر [15: 20]

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} :

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ} : هيأنا، وأعددنا لكم في الأرض.

{مَعَايِشَ} : جمع معيشة: وهو ما يعيش عليه الإنسان من الطّعام، والشّراب، واللباس، والسكن.

{وَمَنْ لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} : من العيال، والخدم، والأنعام، والدّواب؛ أي: الله يرزقهم، ويرزقكم؛ كقوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60]؛ حتى لا تظنوا أنكم أنتم الرّزاقون لهم خطئاً.

ص: 20

سورة الحجر [15: 21]

{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} :

{وَإِنْ} : الواو: استئنافية؛ إن: نافية؛ أي: وما من شيء إلا عندنا خزائنه.

ومن استغراقية تشمل كل شيء، وتفيد التّوكيد.

{إِلَّا} : تفيد الحصر.

{عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} : خزائن: جمع خزينة: لغة تعني المكان المخصص لحفظ الأشياء الثمينة؛ مثل: الأموال، والذهب، والفضة، والمعادن الثمينة هذا هو التفسير القديم، واصطلاحاً تعني: مقدورات الله تعالى التي تنفع الناس من رزق وخيرات ونعيم وكل ما يحتاجه الخلق في الحياة؛ وأما التفسير العلمي للخزائن، وهي: النجوم الّتي هي عبارة عن أفران نووية هائلة يخلق فيها ربنا كل ما تحتاجه هذه الحياة من عناصر، ومركبات؛ مثل: الحديد، والذهب، والفضة، والنحاس، والألماس

وغيرها؛ كلها تكونت من غاز الهيدروجين، أو الهليوم؛ فهناك أكثر من (100) عنصر خلقها الله سبحانه من غاز الهيدروجين؛ فكل ما تحتاجه الأرض يخلق في السّماء أصلاً، وعندما تتفجر هذه النجوم على شكل نيازك تنزل على الأرض، وغالباً ما تنزل في البحار، أو الأماكن غير المسكونة رحمة بالعباد.

{وَمَا نُنَزِّلُهُ} : ما: نافية؛ ننزله إلا بقدر معلوم حسب المصلحة، والحكمة؛ أي: ننزل هذه المعادن.

{إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} : حصراً بقدر موزون، ومحدد الكمية، والحجم، والمصلحة، والفائدة.

ص: 21

سورة الحجر [15: 22]

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} :

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} : الرّياح في القرآن تستعمل في سياق الرّحمة، والرّيح تستعمل في سياق العذاب، والدّمار.

{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} : لواقح: جمع لاقحة مشتقة من اللاقح الّذي يلقح الغير ليصير فيه جنين فالنّباتات تتكاثر، ولا بد من حمل عامل الذّكورة للوصول إلى عامل الأنوثة. والأهم من ذلك: أن الآية تتحدث عن تلقيح السحب، فأشعة الشمس تبخر الماء من البحار، والمحيطات، والأودية، والبحيرات، نتح أو تنفس النباتات، وتنفس الإنسان، والحيوان، فالرياح تحمل بخار الماء بشكل سحب، والسحب هذه لا تمطر؛ لأن ذرات بخار الماء خفيفة؛ فيرسل الله سبحانه إليها رياح أخرى محملة بهباءات الغبار، فتلقح السحب الحاملة لبخار الماء، وتصبح ذرات بخار الماء كثيفة حول هباءات الغبار، وحين تصل إلى كثافة معينة تنزل بشكل المطر المبارك.

{فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : الآية تتحدث عن دورة الماء حول الأرض. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (18)، وسورة يس، آية (33)؛ للبيان.

{فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} : أي: أعددناه لسقياكم إن أردتم السّقيا، أو معداً للشراب.

{وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} : ما: النّافية.

{أَنتُمْ} : للتوكيد؛ قادرون على خزنه.

{بِخَازِنِينَ} : الباء: للإلصاق، والمصاحبة؛ فالله سبحانه يخزن لنا الماء النّازل من السّماء، والفائض عن الحاجة في جوف الأرض، والجبال عن طريق الصخور المسامية؛ كي يتيح لنا إخراجه حين الحاجة، أو يسيل بقدر الحاجة، وعلم الإنسان بناء السدود؛ ليخزن الفائض من الماء لحين الحاجة؛ فهناك مساحات كبيرة من القشرة الأرضية ليس فيها أنهار، ولا بحيرات، وفر الله سبحانه الماء لأهلها عن طريق الصخور المسامية، وذات النفوذ القادرة على خزن الماء؛ مثل: الصخور الرملية والّتي تسمح للماء، والغاز بالتحرك، أو الخزن لمئات، وآلاف السنين، والإنسان ليس له دور في خزن هذا الماء، ولا يحفظ هذا المخزون إلا الله سبحانه. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (18)؛ لمزيد من البيان.

ص: 22

سورة الحجر [15: 23]

{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} :

{وَإِنَّا} : للتعظيم.

{لَنَحْنُ} : اللام: للتوكيد؛ نحن: لتعظيم مرة أخرى.

{نُحْىِ وَنُمِيتُ} : أي: كل الذّوات فانية، وزائلة؛ إلا ذاته -جل وعلا- ؛ فهو وحده الّذي يحيي ويميت.

{وَنَحْنُ} : التّكرار، ويفيد التّوكيد، وبصيغة التعظيم (الجمع).

{الْوَارِثُونَ} : الباقون بعد هلاك الخلق كله؛ فهو يرث الأرض، ومن عليها؛ كقوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].

ص: 23

سورة الحجر [15: 24]

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـئْخِرِينَ} :

{وَلَقَدْ} : ارجع إلى الآية (17).

{عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ} : المستقدمين: جمع مستقدم: اسم فاعل من استقدام السداسي.

أي: أول الخلق (الأمم السّابقة) الّذين جاؤوا قبلكم؛ أي: ماتوا من ذرية آدم.

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَـئْخِرِينَ} : تكرار، ولقد: للتوكيد.

{الْمُسْتَـئْخِرِينَ} : جمع مستأخر: اسم فاعل من استأخر.

{الْمُسْتَـئْخِرِينَ} : آخر الخلق، أو الذين لم يخلقوا بعد، وسيموتون فيما بعد، أو كل من سيأتي من بعدكم إلى يوم القيامة.

ص: 24

سورة الحجر [15: 25]

{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

{وَإِنَّ} : الواو: عاطفة؛ إن: للتوكيد.

{رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} : ربك؛ أي: الخالق، والمدبر، والوالي.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{يَحْشُرُهُمْ} : بعد النشر، والحشر: هو السّوق، والجمع إلى أرض المحشر، يحشرهم في أرض المحشر للحساب، والجزاء.

{إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} : إنّه: للتوكيد.

{حَكِيمٌ} : أحكم الحاكمين، الحاكم، والمالك للسموات، والأرض، وما فيهن، أو أحكم الحكماء مشتقة من الحكمة في تدبير شؤون خلقه، وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة مشتقة من كثرة العلم يعلم ما يعلمه خلقه من صغير وكبير، ويعلم شؤون خلقه، وكونه؛ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة من السّموات، ولا في الأرض؛ عليم بظواهر، وبواطن الأمور؛ لا تخفى عليه خافية.

ص: 25

سورة الحجر [15: 26]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} :

{خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} : أي: آدم.

لفهم هذه الآية: لا بد من معرفة، أو ذكر المراحل الّتي مر بها خلق آدم عليه السلام .

التراب: المرحلة الأولى: من تراب.

الطين اللازب: المرحلة الثّانية: تراب + ماء = طين، وسمّي طين لازب؛ لأنّه يلتصق باليد.

الحمأ: المرحلة الثّالثة: ترك الطّين ليجف، ويصيبه العفن، والنّتن؛ فأصبح لونه أسود؛ أي: الحمأ: طين أسود رائحته منتنة.

المسنون: المتروك سنين عدة؛ فسمّاه: الحمأ المسنون.

الصلصال كالفخار: المرحلة الرّابعة: ترك الحمأ المسنون ليجف، ويتقدم به الزّمن، وييبس حتى يصبح له صوت إذا نقر عليه يشبه صوت الصّلصال الفخار.

ففي هذه الآية ذكر المرحلة الثّالثة والمرحلة الرّابعة.

وفي سورة الصّافات، آية (11) ذكر المرحلة الثّانية الطّين اللازب، والمرحلة الأولى ذكرت في عدة سور منها: سورة الروم، آية (20)، وسورة الحج، آية (5)، وسورة فاطر، آية (11).

ص: 26

سورة الحجر [15: 27]

{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} :

{وَالْجَانَّ} : يقصد به إبليس، وذريته من قبل؛ أي: من قبل خلق آدم.

{مِنْ نَارِ السَّمُومِ} : من: ابتدائية.

{نَارِ السَّمُومِ} : من اللهب الّذي لا دخان فيه؛ شديد الحرارة يشبه الرّيح الحارة الّتي تتخلل مسام الجلد، وتؤثر في الجلد تأثير السّم.

وفي صحيح مسلم، وأحمد، عن عائشة قال صلى الله عليه وسلم:«خُلقت الملائكة من نور، وخُلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» .

ص: 27

سورة الحجر [15: 28]

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} :

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} : إذ: ظرف للزمان الماضي؛ أي: واذكر إذ قال ربك، أو حين قال ربك.

{لِلْمَلَائِكَةِ} : اللام: لام الاختصاص؛ أي: خاصة للملائكة.

المكلفين بتدبير الخلق، ولا يعني الملائكة العالين (حملة العرش ومن حوله).

{إِنِّى} : للتوكيد.

{خَالِقٌ بَشَرًا} : يسمى الإنسان بشراً؛ مشتقة من كونه له بَشرة خاصة به؛ أعطته حسن الهيئة، أو تعني الظهور.

ص: 28

سورة الحجر [15: 29]

{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} :

{فَإِذَا} : الفاء: للتوكيد؛ إذا شرطية تفيد الحتمية؛ حتمية الحدوث.

{سَوَّيْتُهُ} : من التّسوية: أتممت خلقه، والتّسوية؛ تعني: اخترت له الصفات الوراثية الخاصة به؛ بحيث لا يشبه مخلوقاً آخر من الخلق على الإطلاق.

{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى} : ولا تعني الرّوح أنّها جزء من الله، وإنما الرّوح خلق من خلق الله أضافها إلى ذاته تشريفاً، وتكريماً لها:{وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. وإسناد التسوية ونفخ الروح إليه سبحانه تشريفاً للإنسان، وتبيان لمنزلة وتكريمه من بين سائر المخلوقات.

{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} : الفاء: للترتيب والمباشرة، قعوا: خروا له مباشرة وبسرعة وبدون تردد.

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر له فقط.

{سَاجِدِينَ} : قيل: سجود شكر، وليس سجود عبادة، وسجودهم لآدم بذاته؛ هو طاعة لله سبحانه الّذي أمر بذلك، وليس طاعة لآدم.

ص: 29

سورة الحجر [15: 30]

{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} :

{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ} : الفاء: تدل على المباشرة، والتّرتيب.

{الْمَلَائِكَةُ} : الموكلون ببني آدم؛ فسجدوا سجود تحية، واحترام، وليس سجود عبادة كما قلنا.

{كُلُّهُمْ} : للتوكيد (توكيد أول).

{أَجْمَعُونَ} : توكيد ثان، أو لزيادة التّوكيد، وتعني: لم يتأخر منهم أحداً (سجدوا معاً جميعاً) وفي آن واحد، ولم يتأخر أحد منهم.

ص: 30

سورة الحجر [15: 31]

{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} :

{إِلَّا} : أداة استثناء؛ استثناء منقطع؛ أي: المستثنى ليس بعضاً من المستثنى منه؛ لأنّ إبليس من الجن، والجن ليسوا من الملائكة.

{أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} : ورغم أنّ إبليس ليس من الملائكة، ولكن الأمر الإلهي كان يشمله، كما قال تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، ولكنه أبى: الإباء: شدة الامتناع، وقد يرافق ذلك كره.

واسم إبليس مشتق من الإبلاس: وهو شدة اليأس. ارجع إلى سورة البقرة، آية (34)؛ للبيان.

{مَعَ السَّاجِدِينَ} : مع الملائكة الّذين سجدوا سجود تحية.

ص: 31

سورة الحجر [15: 32]

{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} :

{قَالَ} : الله سبحانه: يا إبليس.

{مَا لَكَ} : ما: استفهام؛ للتوبيخ، اللام: لام الاختصاص.

{أَلَّا تَكُونَ} : ألا: (أن + لا)؛ أن: حرف مصدري يفيد التّعليل، والتّوكيد؛ لا: النّافية.

{تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} : مع السّاجدين؛ أي: الملائكة؛ لأنّه كان في صحبتهم، ولم يقل من السّاجدين؛ من الملائكة؛ لأنّ إبليس لم يكن من الملائكة؛ كان من الجن.

أي: هو لم يكن مع السّاجدين، ولا هو من السّاجدين؛ أي: ما عذرك، أو ما منعك كونك غير ساجد مع الملائكة؛ فهذه الآية تسئل إبليس ما الّذي منعه من السّجود.

ص: 32

سورة الحجر [15: 33]

{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} :

{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} : لم: حرف نفي.

{لِّأَسْجُدَ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ سجود التّحية.

{لِبَشَرٍ} : يعني: آدم، وكلمة بشر: مشتقة من البشارة. ارجع إلى الآية السّابقة (33)، وتعني: حسن الهيئة؛ فالإنسان يمتاز بحسن الهيئة عن غيره من المخلوقات؛ اللام: لام الاختصاص.

{خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} : خلقته: يعني: آدم. ارجع إلى الآية (28)؛ بينما إبليس خلق من نار السّموم؛ فهذه الآية تدل على أنّ القوة المانعة الّتي منعته من السّجود هي صادرة عن نفسه، وإرادته، وهي التكبر، والاستعلاء، وليس قوة مانعة خارجية أكرهته على ذلك.

ص: 33

سورة الحجر [15: 34]

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} :

{قَالَ} : سبحانه وتعالى لإبليس:

{فَاخْرُجْ} : الفاء: للترتيب، والمباشرة.

{مِنْهَا} : من الجنة؛ جنة أرضية، وليست جنة الآخرة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (35) لمزيد من البيان.

{فَإِنَّكَ} : الفاء: تعليلية، وتوكيد؛ إنك: إن: للتوكيد.

{رَجِيمٌ} : تعني: من المبعدين، والمطرودين من رحمة الله، أو الرجيم: الملعون من الملعونين، أو المرجوم بالكواكب، والشّهب الثّاقبة.

ص: 34

سورة الحجر [15: 35]

{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} :

{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} : إن: للتوكيد.

{عَلَيْكَ} : على: تفيد الاستعلاء، والمشقة.

{اللَّعْنَةَ} : الطّرد من رحمة الله سبحانه، والبعد عنه.

{إِلَى} : حرف غاية عموم الغايات.

{يَوْمِ الدِّينِ} : يوم الجزاء، والحساب؛ أي: يوم القيامة.

ص: 35

سورة الحجر [15: 36]

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} :

{قَالَ} : إبليس.

{رَبِّ فَأَنظِرْنِى} : فأنظرني: أخرني، أو أمهلني، والفاء: للتوكيد.

{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : إلى: حرف غاية لعموم الغايات؛ بينما حتى: نهاية الغاية.

{يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : أي: إلى يوم البعث؛ فهو يريد أن ينجوا من النفخة الأولى؛ أي: أن لا يموت، ويصعق الّذي يتم أو يحدث حين النّفخة الأولى (نفخة الموت والصّعق).

ص: 36

سورة الحجر [15: 37]

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} :

{فَإِنَّكَ} : الفاء: للمباشرة؛ إنك: إن: للتوكيد.

{مِنَ الْمُنظَرِينَ} : الممهلين، أو المؤخرين إلى يوم الوقت المعلوم.

ص: 37

سورة الحجر [15: 38]

{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} :

{يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} : أي: إلى وقت النّفخة الأولى؛ نفخة الموت، والصّعق؛ حيث تموت كل الخلائق؛ المعلوم عند الله وحده متى سيكون، أو يحدث.

ص: 38

سورة الحجر [15: 39]

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{قَالَ رَبِّ} : إقرار بالرّبوبية لله.

قال إبليس رب بما: الباء: السّببية، أو التّعليلية.

{أَغْوَيْتَنِى} : من الغي، والغي هنا قد يعني: إما الخيبة في الطّلب.

بما أنّ الله سبحانه لم يستجب لطلب إبليس بأن يكون من المنظرين، أو أغويتني أضللتني؛ أي: طردتني من رحمتك، أو أبعدتني عن رحمتك، أو بما أغويتني بالطّلب للسجود لآدم.

والله سبحانه لم يغويه، ولكن أعطاه الخيار؛ إما أن يعصي أمر الله، أو يطيعه بالسّجود لآدم.

{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} : لأزينن: اللام: لام التّوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد.

التّزيين: يكون في المعاصي، وتزيين الحياة الدّنيا، والانشغال بها عن الآخرة، وطاعة الله، وفي المحرمات يزين لهم المنكر، أو الباطل، أو الحرام، والزنى، والفاحشة، والشّرك، والتّزين؛ يكون في غير الضّروريات؛ لأنّ كل الضّروريات لم يحرمها الله سبحانه.

{فِى الْأَرْضِ} : في: ظرفية مكانية، وزمانية، والسؤال هنا: كيف علم إبليس أن آدم سيخرج من الجنة ويهبط إلى الأرض وآدم ما زال في الجنة وذلك لقول الله تعالى: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]؟

{وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} : اللام، والنّون في أغوينهم؛ للتوكيد، والإغواء: الإضلال.

وهناك فرق بين الضّلال، والإغواء:

الضّلال: أعم من الإغواء، ويكون في الدّين، وغيره.

أمّا الإغواء: يكون فقط في الدّين، والإغواء؛ يعني: الإفساد، والخيبة في المطلب.

{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد. ارجع إلى الآية (42) من نفس السّورة؛ لمعرفة معنى الغاوي بالتفصيل.

ص: 39

سورة الحجر [15: 40]

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} :

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} : انتبه إلى الفرق بين المخلَصين في هذه الآية، والمخلِصين بكسر اللام:

المخلِصين: بكسر اللام: الّذي يُخلِص نفسه، وطاعته لله، ويجاهد ليكسب ثواب الله؛ مثال: المتقين، والمحسنين.

المخلَصين: أعظم درجة من المخلِصين؛ من أخلَصهم الله سبحانه بعد أن أخلصوا له.

{مِنْهُمُ} : من: هنا ابتدائية؛ أو: البعضية.

ص: 40

سورة الحجر [15: 41]

{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ} :

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة للقرب، أو يشير إلى تخليص الله عباده المخلصين من إبليس، وأعوانه من الإغواء، والتّزيين، والإضلال.

{صِرَاطٌ عَلَىَّ} : هذا حق علي؛ أي: تخليص المخلصين من إبليس وأعوانه.

على: تفيد الاستعلاء، والمشقة.

أو تعني: الإخلاص طريق عليَّ مستقيم بدل إليَ بـ (عليَّ)؛ لأنّه طريق صعب وشاق سلوكه، والقيام به، وتجنب الرّياء.

أو هذا صراط علي مستقيم، وعيد من الله سبحانه؛ أي: حسابك يا إبليس عليَّ، أو وعد من الله سبحانه لعباده المخلِصين بعدم قدرة إبليس على إغوائهم.

{مُسْتَقِيمٌ} : ثابت لا يتغير؛ لا عوج فيه، ولا انحراف.

وقد يكون هذا رد على قول إبليس في سورة الأعراف، آية (16-17) حين قال:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .

وهناك من قرأ عليَّ: علِي بكسر اللام، ورفع الياء، وتنوينها؛ أي: هذا صراط عليَّ؛ أي: رفيع عالٍ مستقيم.

ص: 41

سورة الحجر [15: 42]

{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} :

{إِنَّ عِبَادِى} : إن: للتوكيد.

{عِبَادِى} : إضافة ياء المتكلم يدل على أنّهم أعلى، وأشرف من العبيد؛ فهم الّذين اختاروا أن يكونوا عباد الله؛ فإضافتهم إلى الله تدل على التّشريف، والمدح.

{لَيْسَ لَكَ} : ليس: للنفي.

{لَكَ} : اللام: لام الاختصاص، والملكية.

{عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : لا سلطان القهر، أو الغلبة، ولا سلطان الحجة، والبرهان.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مَنِ} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي؛ من: ابتدائية.

{اتَّبَعَكَ} : استجاب لك، واتبع خطواتك.

{الْغَاوِينَ} : جمع غاو، والسؤال هنا: إذا كان من الغاوين فليس لسلطان الشيطان عليه فائدة، فالغاوين تعني: من يريد الضلال والغواية، واتباع الشيطان، وتعريف الغاوي:

1 -

عالم بالحق، وعادل عنه، أو مائل عنه إلى الباطل، أو الغاوي هو:

2 -

الضال عن طريق الحق، والخير.

3 -

التائه عن الصّراط المستقيم، والإيمان، والدّين.

4 -

غير راشد.

5 -

الجاهل، والّذي يتمنى الأماني الكاذبة.

6 -

الخائب من خاب، ولم يتحقق مطلبه، أو لم يصب الحقيقة.

وقيل الغي:

1 -

العدول عن الحق بعد معرفته.

2 -

أصل الغي الفساد في المذهب، والعقيدة.

3 -

فساد الرّأي، وتعاطي الباطل من قول، وفعل.

4 -

ضد الرّشد.

ص: 42

سورة الحجر [15: 43]

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ} : إنّ: للتوكيد.

{جَهَنَّمَ} : اسم جنس مشتقة من الجهمومة الشّيء المخيف المركب الكريه المنظر، أو بعيدة القعر، وهي أول دركة من دركات النّار.

{لَمَوْعِدُهُمْ} : اللام: للتوكيد؛ الضّمير هم: يعود على الكافرين. موعدهم: الموعد يعني: الزّمان، والمكان.

{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد؛ الكل بدون تغيب أحد.

ص: 43

سورة الحجر [15: 44]

{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} :

{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} : قيل: لها سبعة أبواب.

وكما أنّ للجنة ثمانية أبواب. قيل: للنار سبعة أبواب، وقيل: دركات؛ هي: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسّعير، والهاوية، والجحيم.

{لِكُلِّ بَابٍ} : أو دركة.

{جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} : جماعة معينة، أو زمرة تدخل منه؛ لأنّ مراتب الكفر، والشّرك، والمعاصي مختلفة؛ مثال: الدّرك الأسفل من النّار للمنافقين، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

ص: 44

سورة الحجر [15: 45]

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الْمُتَّقِينَ} : جمع متقي: وهو من أطاع أوامر الله سبحانه، وتجنب نواهيه.

{فِى} : ظرف مكان.

{جَنَّاتٍ} : جمع جنة؛ مثل: جنات النّعيم، وعدن، والفردوس، والمأوى، ودار السّلام.

{وَعُيُونٍ} : جمع عين؛ أي: عين الماء، وذكرت (9) مرات في القرآن.

والفرق بين أعين، وعيون:

أعين: جمع عين، وهي العين الّتي نُبصر بها.

أمّا العيون: جمع عين؛ تعني: عين الماء الّتي نشرب منها.

ص: 45

سورة الحجر [15: 46]

{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} :

{ادْخُلُوهَا} : يقال للمتقين: ادخلوا الجنة.

{بِسَلَامٍ آمِنِينَ} : بسلام: الباء: للإلصاق؛ بسلام من الملائكة، وبسلام من ربكم، وبسلام بعضكم لبعض؛ سلام آمنين من الأمراض، والآفات؛ آمنين من الخوف، والفزع، والجوع، والفقر، والموت؛ سلام أمن وطمأنينة من كل مكروه، وضرر.

ص: 46

سورة الحجر [15: 47]

{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} :

{وَنَزَعْنَا} : من النّزع: وهو الاقتلاع بشدة: ونزعنا تدل على تغلغل وتحكم الغل مثل الحسد، والعداوة، وغيرها في قلوبهم بشكل عميق، وإن قلعها يحتاج إلى قوة وشدة حتى لا يبقى لها أي: أثر.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، ما: أوسع شمولاً وعموماً من الّذي.

{فِى} : ظرف مكاني؛ صدورهم.

{مِّنْ غِلٍّ} : من: استغراقية؛ غل: غل: نكرة تشمل كل أنواع الغل؛ مثل: الحسد، والعداوة، والغش، والخداع، والغيبة، والنّميمة، وألقى في صدورهم بعد النزع المحبة، والمودة، والصّفاء.

{إِخْوَانًا} : جمع أخ؛ إخواناً: تجمعهم أخوة الدّين، والإسلام، والّتي هي أهم من أخوة الدّم، والنّسب. ارجع إلى سورة الحجرات، آية (10).

{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} : السّرير: اسم لما يجلس عليه، ولا يرى بعضهم ظهر بعض تدور بهم الأسرة.

ص: 47

سورة الحجر [15: 48]

{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} :

{لَا} : لا: النّافية.

{يَمَسُّهُمْ} : من المس: وهو اللّمس الخفيف؛ أي: لا يصبهم في الجنة أدنى درجات التّعب، أو اللغوب.

{نَصَبٌ} : التّعب الجسماني، والّذي يحصل بعد العمل لعدة ساعات، واللغوب: الإعياء، أو التّعب النّفسي، أو هو الفتور النّاتج عن النّصب.

{وَمَا هُمْ} : ما: للنفي؛ هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{بِمُخْرَجِينَ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ مخرجين: من الجنة.

أي: لن يصيبهم مثل ما أصاب أبوهم آدم حين أخرج من الجنة، وما هم بمخرجين: توكيد للوعد؛ لتطمئن قلوبهم؛ لأن أدخلوها بسلام آمنين تكفي.

ص: 48

سورة الحجر [15: 49]

{نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

بعد ذكر الوعد، والوعيد، وإنّ جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب؛ إن المتقين في جنات وعيون يتبعه بقوله:

{نَبِّئْ عِبَادِى} : الخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنباء: هو الإخبار بأمر مهم، وعظيم، هو أنّ الله هو الغفور الرّحيم؛ أي أخبر عبادي بهذا الخبر العظيم، وهو أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم.

{أَنِّى} : أن: حرف توكيد.

{أَنَا} : ضمير منفصل يفيد التّوكيد؛ وتوكيد القصر على أنّه هو الغفور الرّحيم.

{الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة من غافر كثير الغفران لعباده مهما كثرت، وعظمت ذنوبهم، ومهما تعددت وتكررت.

{الرَّحِيمُ} : الرّحيم: صيغة مبالغة من الرّحمة؛ كثير الرّحمة لعباده المؤمنين.

ص: 49

سورة الحجر [15: 50]

{وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} :

{وَأَنَّ عَذَابِى} : هو العذاب الأليم، ونبئهم أيضاً: أنّ عذابي:

{هُوَ} : ضمير منفصل يفيد التّوكيد، على أنّ عذابه هو العذاب الأليم الّذي لا يقارن بعذاب آخر.

وهاتين الآيتين تجمعان مقامي الرّجاء، والخوف، وعلى المؤمن أن يجمع بينهما في عبادته.

ص: 50

سورة الحجر [15: 51]

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} :

وأخبرهم بالخبر الهام عن ضيف إبراهيم؛ ففي قصتهم مثالاً للبشارة، والإنذار، ومثال على عذاب الله سبحانه الأليم الّذي حل بقوم لوط.

{ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} : ضيف: تطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، وقيل: كانوا ثلاثة من الملائكة، ومنهم: جبريل عليه السلام .

ص: 51

سورة الحجر [15: 52]

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} :

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي، وتعني: واذكر إذ دخلوا على إبراهيم عليه السلام فجأة، أو حين دخلوا عليه، وألقوا عليه السلام.

{فَقَالُوا} : أي: الملائكة؛ الفاء: للترتيب، والمباشرة.

{سَلَامًا} : جاءت بالنّصب؛ أي: نُسلم سلاماً.

{قَالَ} : إبراهيم.

{إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} : في هذه الآية لم يذكر سبحانه وتعالى: أنّ إبراهيم رد عليهم السلام، ولكنه في آيات أخرى في سورة الذّاريات، آية (25):{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} .

وفي سورة هود، آية (69):{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} .

وإذا نظرنا إلى سلام الملائكة، وكيفية رد إبراهيم عليه السلام على سلامهم نجد أنّ سلام الملائكة جاء بصيغة الجملة الفعلية (سلاماً) الّتي تدل على التّجدد، والتّكرار بينما رد إبراهيم عليه السلام جاء بصيغة الجملة الاسمية (سلام)، ونحن نعلم من قواعد اللغة العربية: أنّ الجملة الاسمية أقوى، وأثبت من الجملة الفعلية، وهذا يتناسب مع قول الحق سبحانه.

{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].

إذاً: رد إبراهيم كان أقوى، وأحسن من تحية الملائكة؛ فقد كان بإمكان إبراهيم أن يقول سلاماً؛ فهذا يعني: رد التحية بالمثل، وسلام: نكرة، ولم يقولوا: السّلام عليكم؛ فهو يشمل سلام التّحية، وسلام الأمن، والاطمئنان، وسلام من كل مكروه، وأذى، وشر؛ أما القول السلام تعني: فقط سلام التّحية.

{قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} : في هذه السّورة لم يذكر -جل وعلا- تفاصيل ما حدث من رد السّلام، وإحضار الطّعام، وتهيئته لهم، وإنما انتقل إلى مواقف اختارها سبحانه في قصة إبراهيم، ولوط منها:

{إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} : وفي آيات أخرى قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذّاريات: 25]، و {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].

{إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} : قالوا لا توجل: لا تخف إنا أرسلناك إلى قوم لوط، لماذا قال إبراهيم عليه السلام ذلك لهم، أو لماذا خاف إبراهيم منهم، وكانوا ثلاثة ملائكة في صورة شباب حسان؟ لأنّهم دخلوا عليه فجأة بدون سابق إنذار، أو لأنّه لما رأى أيديهم لا تمتد إلى الطّعام لتأكل.

{إِنَّا} : بصيغة الجمع؛ للتعظيم.

{وَجِلُونَ} : الوجل: الخوف الشديد الّذي يصاحبه عوامل نفسية تؤدي إلى إفراز لبعض الهرمونات الّتي تؤدي إلى ازدياد عدد نبضات القلب، وقشعريرة في الجلد من الخوف الشديد.

ص: 52

سورة الحجر [15: 53]

{قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} :

{قَالُوا} : الملائكة قالوا لإبراهيم.

{لَا تَوْجَلْ} : لا تخف؛ لا: النّاهية.

{إِنَّا} : إنا: للتوكيد.

{نُبَشِّرُكَ} : البشارة: هي الخبر السّار لأول مرة، والّتي تؤدي إلى ترك آثارها على وجه الإنسان من علامات السّرور، والفرح.

{بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ غلام: ولد.

{عَلِيمٍ} : صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم، وهو إسحاق عليه السلام ؛ لأنّ إسماعيل كان شاباً في ذاك الزّمن.

ص: 53

سورة الحجر [15: 54]

{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَنْ مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} :

{قَالَ} : إبراهيم عليه السلام ؛ لأنّه لا يصدق ما تسمعه أذنيه من الخبر السّار بالغلام؛ فيحاول الحصول على تأكيدات على هذه البشارة؛ لأنّه يرى من الصّعب، أو المستحيل أن تنجب امرأته، وهي العقيم طوال عمرها، أو كيف يجتمع الكبر مع الإنجاب.

{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى} : أبشرتموني: الهمزة: للاستفهام، وفيها معنى التّعجب بالغلام، أو الولد.

وأصل أبشرتموني: أتبشرونني حذف النّون للتخفيف، والحصول على الخبر بسرعة.

{عَلَى أَنْ مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ} : على: تفيد العلو، والمشقة بدلاً من كلمة: مع؛ أي: مع الكبر؛ كقوله تعالى في سورة إبراهيم، آية (39):{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} .

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ} : أصابني وحلَّ بي الكبر (التّقدم في السّن، أو العمر).

{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} : أي: بأي: شيء تبشروني، الفاء: تدل على التعقيب والمباشرة، ما: هنا استفهامية، وحذف الياء من تبشرون؛ لأنها بشرى على الإنجاب بعد انقطاع الرجاء وبلوغه الكبر وامرأته عجوز عقيم؛ أي: جاء متأخراً.

ص: 54

سورة الحجر [15: 55]

{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} :

{قَالُوا} : أي: الملائكة.

{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} : قالوا؛ أي: الملائكة لإبراهيم عليه السلام بشرناك بالحق؛ بالصدق، والحق: هو الشّيء، أو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير، أو يتبدل؛ أي: لا لبس فيه بأن سارة ستنجب غلاماً.

والباء في كلمة الحق: للإلصاق، والتّوكيد.

{بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} : من ربك؛ فهو الّذي قدَّر ذلك وشاء.

{فَلَا تَكُنْ} : الفاء: لربط المسبب بالسّبب، ولا: النّاهية.

{تَكُنْ} : ولم يقولوا: تك، أو تكوننَّ من القانطين.

{مِنَ الْقَانِطِينَ} : من: ابتدائية.

{الْقَانِطِينَ} : جمع قانط، والقنوط: هو شدة اليأس؛ أي: اليأس إذا اشتد يؤدي إلى القنوط، ويعني: انقطاع الأمل من حدوث شيء ما، والمؤمن الحق لا ييأس أبداً، و لا يقنط من رحمة الله تعالى، أو يقطع أمله في الله سبحانه.

ص: 55

سورة الحجر [15: 56]

{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} :

{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّهِ} : قال إبراهيم، ومن يقنط: من: استفهامية فيها معنى النّفي؛ أي: لا يقنط، أو ييأس.

{مِنْ} : من: ابتدائية.

{رَّحْمَةِ رَبِّهِ} : تعني هنا: الفرج، أو الولد، والرّحمة تعريفها: هي جلب ما يسر، ودفع ما يضر.

{إِلَّا} : إلا: أداة حصر.

{الضَّالُّونَ} : جمع ضال، ويعني: الكافرون، أو الجاهلون الّذين لا يعرفون قدرة الله، وعظم رحمته بخلقه. ارجع إلى سورة البقرة آية (198) لمزيد من البيان.

ص: 56

سورة الحجر [15: 57]

{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} :

{قَالَ} : إبراهيم.

{فَمَا خَطْبُكُمْ} : فما: الفاء: للتوكيد؛ ما: استفهامية.

{خَطْبُكُمْ} : من الخطب، والشّأن: وهو الأمر الخطير العظيم؛ أي: ما شأنكم، أو حالكم، أو ما هو الأمر الجلل الّذي جئتم من أجله سوى هذه البشارة، وسُمي خطباً؛ لأنّه أمراً يُشغل بال النّاس جميعاً؛ فيتحدثون عنه جماعات جماعات؛ أي: يتخاطبون به، وخطبة النساء من الخطب؛ لأنّه أمر عظيم، وكذلك خطبة الجمعة.

{أَيُّهَا} : منادى نكرة، والهاء: للتنبيه.

{الْمُرْسَلُونَ} : جمع مرسل: وهم الملائكة المرسلون إلى قوم لوط.

ص: 57

سورة الحجر [15: 58]

{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} :

{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا} : إنا: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التّوكيد.

{أُرْسِلْنَا} : من الله سبحانه، ولم يقل بعثنا؛ الإرسال: أخف من البعث. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لمعرفة معنى: الإرسال، والبعث.

{إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} : وهم قوم لوط.

{مُّجْرِمِينَ} : لارتكابهم الفاحشة، وهي إتيان الذّكور من العالمين، وفيه إظهار للغاية؛ أي: لماذا أرسلوا؟ لإهلاك قوم لوط المجرمين: جمع مجرم: وأجرم الرّجل أذنب، وعصى، وكفر، وتكبر. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى مجرمين.

ص: 58

سورة الحجر [15: 59]

{إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{إِلَّا آلَ لُوطٍ} : إلا: أداة استثناء.

{آلَ لُوطٍ} : آل بيته.

{إِنَّا} : للتوكيد.

{لَمُنَجُّوهُمْ} : اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ لمنجوهم: النّجاة: هي الخلاص من المكروه، والفوز: هو الخلاص من المكروه، ونيل المرغوب؛ فالفائز: هو النّاجي من النّار، والمدخل الجنة.

{أَجْمَعِينَ} : تفيد التّوكيد.

ص: 59

سورة الحجر [15: 60]

{إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} :

{إِلَّا امْرَأَتَهُ} : أداة استثناء، وهذه ثاني أداة استثناء؛ الأول: آل لوط، آل لوط؛ تعني: ذريته، وامرأته، والقاعدة: أنّها إذا توالت الاستثناءات نأخذ المستثنى الأول من المستثنى منه، ثمّ نأخذ المستثنى الثّاني من المستثنى الأول

وهكذا.

{امْرَأَتَهُ} : امرأة لوط، ولم يقل زوجته؛ لأنّها تخالف زوجها في الإيمان؛ فإذا كان هناك اختلاف بين الزّوج، والزّوجة يقال للزوجة امرأة بدلاً من زوجة؛ لأنّ الزّوج يعني أن يشبه كل منهما الآخر.

{قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} : من التّقدير: وهو الحكم. وجاء التقدير بأنها لمن الغابرين بما اختارته بعملها أن لا تستجيب لدعوة زوجها لوط عليه السلام ، ولا تتوقف عن فعل المنكر، وما نهى الله تعالى عنه. ارجع إلى سورة النمل آية (57) للمقارنة بين الآيات المتشابهة.

{لَمِنَ} : اللام: للتوكيد؛ من: ابتدائية بعضية.

{الْغَابِرِينَ} : جمع غابر، والغابر: الباقي في القرية للهلاك؛ أي: الباقين في العذاب، أو الغابرين الماضين (من الماضي)؛ أي: من الّذين انقرضوا، وماتوا، وما دامت لم تخرج من القرية، وبقيت؛ فهي من الهالكين.

ص: 60

سورة الحجر [15: 61]

{فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} :

{فَلَمَّا جَاءَ} : فلما: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{جَاءَ} : حضر، وهناك فرق بين جاء، وأتى؛ جاء: المجيء بصعوبة، ومشقة، وجاء، وصلوا إلى لوط؛ وأتى: تعني: المجيء بسهولة، وأتى؛ أي: في طريقهم إلى لوط.

{الْمُرْسَلُونَ} : الّذين كانوا ضيفاً على إبراهيم عليه السلام ؛ أي: وصل الملائكة المرسلون إلى لوط.

ص: 61

سورة الحجر [15: 62]

{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} :

{قَالَ} : لوط لهم:

{إِنَّكُمْ} : للتوكيد.

{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} : أي: لا أعرفكم، أو من أين جئتم، أو من أنتم.

{مُنْكَرُونَ} : جمع منكر، غير معروفين.

ص: 62

سورة الحجر [15: 63]

{قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} :

{قَالُوا} : أي: المرسلون.

{بَلْ جِئْنَاكَ} : بل: للإضراب الانتقالي.

{جِئْنَاكَ} : المجيء كما قلنا فيه صعوبة ومشقة، واختار كلمة جئناك بدلاً من أتيناك؛ لأنّهم جاؤوا بالعذاب، والحجارة من سجيل.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي.

{كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} : يمترون: مشتقة من المرية، وهي الشّك، والتّهمة؛ جئناك بالعذاب الّذي فيه يمترون يشكون، ويتهموك بأنّه لن يحدث، وقالوا في آيات أخرى:{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .

ص: 63

سورة الحجر [15: 64]

{وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} :

{وَأَتَيْنَاكَ} : الإيتاء: هو المجيء بسهولة، ويسر.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق؛ الحق: وهو الصدق؛ الأمر الثّابت الّذي لا يتغير، وهو العذاب، أو الأمر بالإسراء بقطع من الليل، وعدم الالتفاف، والمضي حيث أُمروا.

{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} : وإنا: للتصديق.

{لَصَادِقُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ صادقون فيما نخبرك به، ونبلغك، وفيما يجب فعله.

ص: 64

سورة الحجر [15: 65]

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} :

{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ} : الإسراء: هو السّير ليلاً.

{بِأَهْلِكَ} : الباء: للإلصاق، والأهل: الأولاد والزّوجة.

{بِقِطْعٍ مِنَ الَّيْلِ} : بجزء من الليل؛ أي: آخر جزء من الليل بقطع جمع قطعة.

{وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} : امشي خلفهم، والعادة أن يمشي أمامه وليس خلفهم؛ أي: في المقدمة؛ لتحثهم على السّرعة، أو كن خلفهم؛ لكي لا يلتفت منهم أحد لكونه يراقبهم من خلفهم، أو ليكون حائلاً بينهم وبين العذاب.

{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} : لا: النّاهية.

{يَلْتَفِتْ} : الالتفات: النّظر إلى الخلف؛ أي: لا تنظروا ورائكم، أو خلفكم. ولا يمنة، ولا يسرة؛ حتى لا تروا ما سيحل بقومكم من العذاب المروع.

{وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} : ليكن مسيركم، واتجاهكم حيث أُمرتم.

ص: 65

سورة الحجر [15: 66]

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} :

{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} : أي: أوحينا إليه، وأعلمناه.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة؛ للبعد.

{الْأَمْرَ} : بهلاك قومه وامرأته.

{أَنَّ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{دَابِرَ هَؤُلَاءِ} : دابر: آخر، دابر الشّيء آخره، والدّابر: التّابع.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للذم.

{دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ} : قطع الدّابر؛ قطع لهم جميعاً؛ كناية عن استئصالهم عن بكرة أبيهم.

{مُّصْبِحِينَ} : آخر من يهلك منهم وقت الصّبح، أو ما أن يأتي الصّبح يكون هلاكهم قد تم، وانتهى، وهكذا أخبرت الملائكة لوطاً بما سيجري في تلك الليلة؛ لكي يتم الاستعداد لها.

ص: 66

سورة الحجر [15: 67]

{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} :

ولما علم أهل المدينة من قوم لوط (أهل سدوم) بقدوم وفد من الشّبان الحِسان إلى عند لوط؛ جاءوا إليه.

{يَسْتَبْشِرُونَ} : أي: مسرورين؛ الاستبشار: إظهار علامات السّرور؛ أي: قد جاءوا إليه فرحين؛ طمعاً في فعل الفاحشة، وفي آية أخرى: يُهرعون: مندفعين بسرعة يحث بعضهم بعضاً، وتظهر على وجوههم علامات السرور.

ص: 67

سورة الحجر [15: 68]

{قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِى فَلَا تَفْضَحُونِ} :

{قَالَ} : لوط لقومه حين جاؤوا يستبشرون.

{إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِى} : إن: للتوكيد.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه؛ أولاء: اسم إشارة للجمع، والقرب.

{ضَيْفِى} : أي: في حمايتي.

{فَلَا تَفْضَحُونِ} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَفْضَحُونِ} : لا تجلبوا العار، والفضيحة إلي بالاقتراب منهم.

ص: 68

سورة الحجر [15: 69]

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} :

خافوا الله ربكم، وأطيعوا أمره، وتجنبوا ارتكاب الفاحشة.

{وَلَا تُخْزُونِ} : لا: النّاهية.

{تُخْزُونِ} : من الخزي؛ أي: الفضيحة، والهوان أمام النّاس.

والهوان؛ أي: يهان لوحده بمفرده بدون علم النّاس بذلك.

ص: 69

سورة الحجر [15: 70]

{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} :

{قَالُوا} : أي: قوم لوطٍ للوط.

{أَوَلَمْ} : الهمزة: همزة استفهام، وإنكار، وتوبيخ، والواو: تدل على شدة النّهي؛ لم: حرف نفي.

{نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} : أولم نحذرك من قبل من عدم استضافة أحداً من العالمين في منزلك.

ص: 70

سورة الحجر [15: 71]

{قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِى إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} :

{قَالَ هَؤُلَاءِ} : ارجع إلى الآية (68).

{بَنَاتِى} : لأن النّبي يعتبر أبا القوم، ونساء القوم بناته، قال لهم لوط هؤلاء بناتي (أي: بنات القوم)؛ فلماذا لا تتزوجهن، وحاشا لله أن يعني هؤلاء بناتي (يعني: بنات لوط)؛ فافعلوا فيهن الفاحشة بدون زواج، أو حاشا لله أن يقول لهم اذهبوا، وافعلوا الفاحشة مع بنات القوم بدون زواج.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الشّك، والافتراض.

{كُنتُمْ فَاعِلِينَ} : السّوء بضيفي.

ص: 71

سورة الحجر [15: 72]

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} :

{لَعَمْرُكَ} : أي: أقسم بحياتك يا محمّد صلى الله عليه وسلم، والقسم بحياته تشريفاً له، وأصل عَمرك هي عُمرك بضم العين، وفتحت؛ لكثرة الاستعمال. لعمرك: لفظ يستعمل في القسم، ومعنى العمر: الحياة، وعَمْر وعُمْر، والعُمُر: شيء واحد، واللام: لام الابتداء، وقيل: إنّ القسم قد يكون بحياة لوط.

{إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} : إن: للتوكيد.

{لَفِى} : اللام: للتوكيد، وفي: الظرفية.

{سَكْرَتِهِمْ} : السّكرة: تعني: الغفلة، أو الضّلالة، أو الخدرة العقلية الّتي تعصف بالعبد، أو تصيب العبد لفعل الفاحشة الجنسية، وتغطي على عقله؛ فتعمى بصيرته، كما يغطي الخمر على عقول شاربيه.

{يَعْمَهُونَ} : مشتقة من العمه في البصيرة، أو العمى في الرّأي، وهو التّردد، والحيرة في الضلال، والتّخبط، كما يفعل السّكران. وأما العمى: فهو عمى العين.

ص: 72

سورة الحجر [15: 73]

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} :

{فَأَخَذَتْهُمُ} : الفاء: تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ أخذتهم: قضت عليهم الصّيحة؛ أي: أهلكتهم.

{الصَّيْحَةُ} : نوع من أنواع العذاب. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (41)؛ للبيان.

{مُشْرِقِينَ} : أي: بدأت الصّيحة بدخول صباح الفجر، وانتهت بطلوع الشّمس، أو الدّخول في وقت شروق الشّمس، وكيف علمنا أنّ بداية الصّيحة كانت عند دخول الصباح؟ هي الآية (66)، وهي قوله تعالى:{أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} : وقت دخول الصباح (الفجر)، ونهاية الصّيحة كانت في قوله مشرقين؛ مشرقين: وقت شروق الشّمس.

ص: 73

سورة الحجر [15: 74]

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} :

{فَجَعَلْنَا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة، والتّعقيب؛ جعلنا: صيرنا، والضّمير يعود إلى الله، وملائكته.

{عَالِيَهَا سَافِلَهَا} : عاليها: هاء الضّمير تعود إلى قرى قوم لوط (المؤتفكات)؛ أي: اجتثت قراهم الخمسة؛ أي: اقتلعت من الأرض، ثمّ رفعت إلى السّماء، ثمّ قُلبت قراهم عاليها سافلها؛ أي: انقلاباً تاماً، وهوت على الأرض.

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} : على قوم لوط بعد قلب قراهم أمطرنا عليهم حجارة من سجيل.

{عَلَيْهِمْ} : أي: على قوم لوط.

{مِنْ سِجِّيلٍ} : من طين متحجر؛ أي: لا يعلم كنهه إلا الله. قد تكون مادة تشبه ما ينتج عن تفجر بعض الأجرام السّماوية؛ مثل: الاستروئيد، والّتي تسقط على الأرض أحياناً.

أي: عبارة عن شظايا تنتج عن انفجار نجوم صغيرة نيازك تنفجر عندما تصطدم بالغلاف الأرضي، ويطلق عليها استروئيد، وتسقط على الأرض غالباً في البحار، والمحيطات؛ تسمّى حجارة من سجيل، أو حجارة من طين، أو سجيل منضود؛ أي: صخور متفتتة.

ففي هذه الآية سجيل، وفي سورة الذّاريات، الآية (33):{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} ، وفي سورة هود، الآية (82):{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} ؛ منضود: متتابع في النّزول من النّضد: وهو وضع الشّيء بعضه على بعض.

ص: 74

سورة الحجر [15: 75]

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} :

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن: للتوكيد.

{فِى} : في: ظرفية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة للبعد؛ ما صنعنا أو حل بقوم لوط من الهلاك، والدّمار، والمطر عليهم بحجارة من سجيل

وغيرها.

{لَآيَاتٍ} : اللام: للتوكيد؛ آيات: جمع آية، والآية: علامة، أو دلالة قاطعة، أو بينة؛ الآيات منها نجاة آل لوط، وجعل عاليها سافلها، وإنزال المطر من سجيل منضود.

{لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ المتوسمين: جمع متوسم: وهو الّذي عنده قدرة على الفراسة، أو النّاظر في السّمة الدّالة على الشّيء، والتّوسم: يعني: النّظر بتفكر، وحكمة؛ للكشف عن مكنون النّفوس، وبواطنها؛ أي: التّوصل إلى معرفة بعض الحقائق، والأمور الخفية عن النّظر؛ فالمتوسمون: المعتبرون النّاظرون، المتفكرون في عظمة الله سبحانه، وعلى طلاقة قدرته.

ص: 75

سورة الحجر [15: 76]

{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} :

{وَإِنَّهَا} : إن: للتوكيد قرى لوط.

{لَبِسَبِيلٍ} : اللام: لام الابتداء، أو التوكيد. لبطريق مبين، واضح، مُعْلم؛ على طريق بين مكة والشّام، طريق ثابت؛ أي: لا يخفى على المسافرين المارين بها.

ص: 76

سورة الحجر [15: 77]

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{فِى ذَلِكَ} : أي: لما حدث لقوم لوط من الهلاك، والدّمار.

{لَآيَةً} : دلالة بينة الآثار هي آية واحدة.

{لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ المؤمنين: أي: ينتفع بها المؤمنون؛ أي: عظة وعبرة؛ تدل على قدرة الله سبحانه، وأن عذابه هو العذاب الأليم، أو أخذه إذا أخذ القرى، وهي ظالمة:{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

ص: 77

سورة الحجر [15: 78]

{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} :

هذه هي القصة الثالثة؛ الأولى: كانت قصة: آدم وإبليس، والثّانية: إبراهيم ولوط، والثّالثة: أصحاب الأيكة.

{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} : إن: للتوكيد.

{الْأَيْكَةِ} : الأيكة: الأشجار الملتفة المتشابكة، الكثيرة الأغصان؛ أرسل الله تعالى شعيب عليه السلام إليهم، وكانوا بقرب مدين، وكثير من المفسرين يقولون: أنّ مدين، وأصحاب الأيكة هما أمتان مختلفتان بُعث إليهما شعيب عليه السلام ، ومن المفسرين من يظن أنّ مدين، وأصحاب الأيكة هما أمة واحدة، والأرجح: هو القول الأول.

{لَظَالِمِينَ} : اللام: للتوكيد؛ ظالمين: لأنّهم أشركوا، وكذبوا شعيباً، أو كانوا لا يؤمنون بالمكيال، والميزان، وعاثوا في الأرض فساداً.

ص: 78

سورة الحجر [15: 79]

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} :

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : من أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظُّلة إنّه كان عذابُ يوم عظيم [الشّعراء: 189].

{مِنْهُمْ} : تعود على أصحاب الأيكة، وقرى قوم لوط (المؤتكفات).

أو: تعود إلى أصحاب الأيكة، وقوم مدين.

{لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} : لبإمام: اللام: للتوكيد؛ الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ إمام: طريق، وشبه الطريق بالإمام؛ لأنّ المسافر يأتم به، أو يهتدي به؛ حتّى يصل الموضع الّذي يريده.

{مُبِينٍ} : واضح، ظاهر للعيان؛ لبطريق مبين يسلكه النّاس في سفرهم من الحجاز إلى الشّام.

ص: 79

سورة الحجر [15: 80]

{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} :

هذه هي القصة الرّابعة في السّورة.

{وَلَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{أَصْحَابُ الْحِجْرِ} : هم قبيلة ثمود (قوم صالح)، وسموا أصحاب الحجر: عاداً الثانية؛ لأنّهم كانوا يسكنون في منطقة الحجر (واد بين الشّام والمدينة المنورة)، واقعة في الأردن.

{الْمُرْسَلِينَ} : كان نبيهم صالح من الأنبياء العرب، وهم كذبوا صالح، وجاء بصيغة الجمع؛ ليدل على أن تكذيب أحد الرّسل يمثل تكذيب لكلّ الرّسل؛ لأنّ رسالتهم واحدة أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.

ص: 80

سورة الحجر [15: 81]

{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} :

{وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} : أي: أريناهم آياتنا، والآيات البينات، والدّلالات، وتتضمن المعجزات الدّالة على النّبوة، أو الآيات الكونية، أو الآيات التشريعية، ومنها: آية النّاقة؛ ناقة الله، وهي وإن كانت آية واحدة؛ فهي تمثل الكثير من الآيات، والعبر؛ مثل: خروجها من الصّخرة، وعظم خلقها، وفصيلها، وكثرة لبنها.

{فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} : لم يقبلوا بتلك الآيات، وكذبوها، وأنكروها غير مبالين، ولا يتفكرون بها.

ص: 81

سورة الحجر [15: 82]

{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} :

{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} : يحفرون في الجبال، وينقبون الجبال؛ لكي يبنوا لهم بيوتاً فيها؛ لكي يأمنوا شر الأعداء، ولأنّ الخيام كانت لا تقيهم الأمن.

{مِنَ} : بعضية؛ أي: بعض الجبال؛ أي: قاموا ببناء بعض البيوت من الجبال.

{آمِنِينَ} : مطمئنين غير خائفين.

أمّا الفرق بين هذه الآية، وآية الأعراف رقم (74):{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} : كان هذا في المرحلة الأولى؛ حيث كان الكلّ يحاول أن يبني من الجبال بيوتاً، وحركة البناء مزدهرة، ثمّ قلت، وقل النّحت؛ فجاءت الآية في سورة الحجر؛ لتصور لنا هذه الحالة الأخيرة.

ص: 82

سورة الحجر [15: 83]

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} :

ارجع إلى الآية (73) من نفس السّورة.

بعد أن عقروا النّاقة، وعتوا عن أمر ربهم، وتمادوا في التّحدي، وقالوا: يا صالح آتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين؛ عندها قال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} : أهلكتهم، وقضت عليهم الصّيحة. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (41).

وقت دخول الصّباح؛ فلم تنفعهم حصونهم، وبيوتهم، وتحميهم من العذاب.

ص: 83

سورة الحجر [15: 84]

{فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{فَمَا} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ ما: النّافية.

{أَغْنَى عَنْهُم} : ينفعهم، أو يمنعهم، أو يحميهم من العذاب ما يكسبون من الأموال، وبناء القصور، والزّروع.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية، وما: أشمل وأعم من الّذي.

{يَكْسِبُونَ} : من الأموال، والبناء، ونحت الحصون، والبيوت، والزّروع. ولم يقل ما كسبوا، وجاءت بصيغة المضارع للدلالة على حكاية الحال إبدال الماضي بالمضارع لإحضاره أمام العين كأنك تراه الآن لشدة إتقان ما صنعوا من الجبال بيوتاً.

ص: 84

سورة الحجر [15: 85]

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية؛ ما: النّافية.

{خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} : ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (19)؛ للبيان.

أي: لم نخلق السّموات، والأرض وما بينهما باطلاً، ولا عبثاً، ولهواً.

{إِلَّا بِالْحَقِّ} : أداة حصر؛ بالحق. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (19)؛ للبيان.

{وَإِنَّ السَّاعَةَ} : إنّ: للتوكيد.

{السَّاعَةَ} : ساعة تهدم النّظام الكوني.

{لَآتِيَةٌ} : اللام: لام التّوكيد أيضاً؛ آتية: قادمة، وآتية فيها معنى المجيء بسهولة، وذلك لأنّها لم تحدث بعد. ارجع إلى سورة طه آية (15) للبيان، والمقارنة مع الآيات المتشابهة؛ لآتية كي تجزى كلّ نفس بما كسبت، أو {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَائُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].

{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} : الصّفح: هو ترك العقوبة، وترك اللوم، وعدم التّذكير بما حدث، والصّفح: أبلغ من العفو؛ أي: اصفح يا محمّد صلى الله عليه وسلم عمن أساء إليك بالحلم، والعفو، وترك اللوم.

ص: 85

سورة الحجر [15: 86]

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ} : إنّ: للتوكيد.

{رَبَّكَ هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد على كمال العلم، والخلق.

{الْخَلَّاقُ} : صيغة مبالغة للخلق: فهو خالق كلّ شيء، وكثير الخلق.

{الْعَلِيمُ} : صيغة مبالغة للعلم، واسع العلم، عليم بأحوال خلقه، وأحوالهم، وأعمالهم.

ص: 86

سورة الحجر [15: 87]

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ اللام: للتوكيد؛ قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{آتَيْنَاكَ} : الإيتاء: عطاء مع إمكانية استرداد العطاء؛ أي: ليس فيه تملك، والإيتاء: أعم من العطاء، ويشمل الأشياء الحسية، والمعنوية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (251)؛ للبيان.

{سَبْعًا} : أي: الفاتحة (فاتحة الكتاب)، وقيل: أم الكتاب، وهي سبع آيات بما فيها بسم الله الرحمن الرحيم؛ فهي أول الآيات السبع.

{مِنَ الْمَثَانِى} : من: بعضية.

{الْمَثَانِى} : سمّيت المثاني؛ لأنّها تثنى؛ أي: يُعاد قراءتها، وتكرر في كل ركعة، والمثاني: مشتقة من الثّناء (الحمد)؛ أُثني بها على الله إذ جمعت الحمد، والتّوحيد.

{وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} : هذا يسمى عطف العام (وهو القرآن العظيم) على الخاص، وهو السّبع المثاني، وفائدة ذلك التّوكيد على أهمية السّبع المثاني.

ص: 87

سورة الحجر [15: 88]

{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} :

بعد أن بين الله -جل وعلا- لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي لأمته: أنّه أتاه السّبع المثاني، والقرآن العظيم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وهو إيتاء للمؤمنين أيضاً، وهو إيتاء عظيم، وكافٍ، وينبغي معه عدم النّظر والالتفات، أو الطموح، والرغبة إلى ما عند غيرك من متاع، وزينة، ومال.

{إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} : أي: أصناف من الكفار، أو المشركين، أو الأغنياء من متاع الحياة الدّنيا، وزينتها، وزخارفها، ومالها، وذهبها؛ لأنّه متاع زائل، وأمّا السّبع المثاني، والقرآن العظيم: فهو متاع دائم، وباق، وهو المتاع الحقيقي.

{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} : أي: لا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ لعدم الاستجابة لك، ورفضهم الدّخول في الإسلام، والإيمان فهم الّذين اختاروا لأنفسهم ذلك.

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} : وخفض الجناح: كناية عن لين الجانب، والتّواضع، والرّفق بالّذين استجابوا لك من المؤمنين، وكن كالطّائر الّذي يخفض جناحيه إلى نسله؛ للرعاية، والحماية.

ص: 88

سورة الحجر [15: 89]

{وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} :

أي: أعلم قومك:

{وَقُلْ} : لهم.

{إِنِّى أَنَا} : للتوكيد: النّذير المبين.

{النَّذِيرُ} : المنذر؛ الإنذار يعني: الإعلام مع التّحذير، والتّخويف: النّذير لهؤلاء الّذين أعرضوا، وتولوا عن الإيمان، وكذلك لكلّ النّاس.

{الْمُبِينُ} : البين؛ الإنذار لكلّ واحد، وهذا الإنذار لا يحتاج إلى تبيان؛ لأنّه واضح من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد، وويل للمشركين، والكافرين من عذاب يوم أليم.

ص: 89

سورة الحجر [15: 90]

{كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} :

أي: كما آتيناك سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم؛ آتينا، أو أنزلنا التّوراة، والإنجيل على المقتسمين؛ أي: اليهود، والنّصارى، كما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، أو كما آتيناك سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم؛ أنزلنا على كفار مكة.

وسموا المقتسمين: فإذا كانوا هم اليهود، والنّصارى كما روي عن ابن عباس؛ لأنّهم اقتسموا القرآن؛ فجعلوه أقسام ما يوافق التّوراة، والإنجيل، أو آرائهم حقاً، وما يخالفه باطلاً، أو آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.

وأمّا إذا كان يقصد بالمقتسمين كفار مكة قاله قتادة، وغيرهم من الكفار الّذين سماهم مقتسمين؛ لأنّهم قالوا: إنّ القرآن سحر، أو شعر، أو أساطير الأولين، أو مفترى، أو كانوا يقتسمون طرق مكة قاله ابن السائب، كما كان يفعل الوليد بن المغيرة يأمر أنصاره بالوقوف في شعاب مكة؛ ليصدوا كلّ من يدخل مكة عن الدّخول في الإسلام، أو الإيمان بمحمّد؛ فيقولون: هو شاعر، أو مجنون، أو كاهن

وغيرها.

ص: 90

سورة الحجر [15: 91]

{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول، ويعود على المقتسمين الّذين جعلوا القرآن عضين؛ فيمكن تعريف المقتسمين: بأنّهم هم الّذين جعلوا القرآن عضين.

{عِضِينَ} : من عضيت الشّيء؛ أي: فرقته، وجعلته أجزاء؛ كلّ فرقة عضّة، أو عضين: جمع عضَه؛ بمعنى: الكذب، والبهتان؛ أي: جعلوا القرآن شيء مفترى، وأكاذيب، وأساطير الأولين أُمْليت على محمّد صلى الله عليه وسلم، والمعنى يحتمل كلاهما معاً؛ أي: صيروا القرآن أجزاء، وقطع، وأكاذيب، أو أساطير الأولين.

ص: 91

سورة الحجر [15: 92]

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{فَوَرَبِّكَ} : الفاء: استئنافية، وربك: الواو: واو القسم؛ يقسم الرّب سبحانه بصفة الرّبوبية، والقسم هنا يفيد شدة الوعيد، أو التّوكيد.

{لَنَسْـئَلَنَّهُمْ} : اللام: للتوكيد، والنون: لزيادة التّوكيد.

{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد أيضاً؛ فلا يفوت أحدٌ من هؤلاء الّذين جعلوا القرآن عضين، والسّؤال هنا سؤال توبيخ لهم، وتقريع، وليس سؤال استفهام.

ص: 92

سورة الحجر [15: 93]

{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{عَمَّا} : عن: تفيد المجاوزة، والمباعدة؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية.

{كَانُوا} : في الدّنيا.

{يَعْمَلُونَ} : يقولون، ويفعلون؛ يقولون؛ أي: يفترون على القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من الباطل، والأكاذيب، ويفعلون: بمنع النّاس وصدهم عن الدّخول في الإسلام، والإيمان بالله ورسوله، ويعبدون من دون الله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً.

ص: 93

سورة الحجر [15: 94]

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} :

{فَاصْدَعْ} : الفاء: للتوكيد؛ اصدع: من صدع، ويقال صدع بالحجة؛ أي: تكلم بها جهاراً بما أنزل الله إليك، وأعلن، واجهر بالدّعوة، وقم بتبليغها إلى كلّ فرد، وأظهر دينك، وادعوهم إلى التّوحيد، والإيمان بالله، ورسوله؛ فقد انتهى زمن الإسرار بالدعوة والخوف من المشركين.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ ما: اسم موصول بمعنى: الذي؛ تؤمر به، أو مصدرية.

{تُؤْمَرُ} : بما أنزل الله إليك، وأمرك به؛ من قول، أو فعل.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} : وأعرض: من الإعراض؛ أي: لا تبال بهم، ولا تهتم بما يقولوه، أو يفعلوه، ولا تلتفت إليهم.

{الْمُشْرِكِينَ} : مثل مشركي مكة، أو غيرهم، وهم الّذين جعلوا لله شركاء الجن، والإنس.

ص: 94

سورة الحجر [15: 95]

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} :

{إِنَّا} : للتعظيم.

{كَفَيْنَاكَ} : شرَ المستهزئين؛ فلا تحتاج إلى مساعدة، أو نصر من أحدٍ؛ أي: توليناك، أو تولينا أمرك؛ فلا يصلون إليك بسوء.

{الْمُسْتَهْزِءِينَ} : قيل: كانوا جماعة ذوي شوكة، وقوة من مشركين مكة عددهم خمسة، وقيل: سبعة؛ أمثال: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلب.

والمستهزئين: جمع مستهزأ، والاستهزاء: هو التّحقير، والاستخفاف، أو ذم الآخرين، أو تصغير قدر الآخر، أو الشّيء، وأهميته.

ص: 95

سورة الحجر [15: 96]

{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :

أي: المستهزئين.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم، والتّحقير.

{يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : أي: المستهزئين الّذين يجعلون مع الله إلهاً آخر؛ أي: أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وجعلوا له شركاء، واستهزؤوا بالقرآن، وبالرّسول.

{فَسَوْفَ} : الفاء: للتوكيد؛ سوف: حرف للاستقبال؛ يفيد التّراخي في الزّمن.

{يَعْلَمُونَ} : عاقبة أمرهم في الدّنيا، وفي الآخرة، وقيل: أصابتهم الآفات، والأمراض المختلفة، وماتوا شر ميتة، وفي الآية تهديد، ووعيد للمشركين، والمستهزئين بدين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 96

سورة الحجر [15: 97]

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، وزيادة التّوكيد.

{نَعْلَمُ أَنَّكَ} : أنّ: للتوكيد، والكاف: للمخاطب، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{يَضِيقُ صَدْرُكَ} : ضيق عارض لا يدوم طويلاً. ارجع إلى الآية (12) من سورة هود؛ للبيان.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي يقولون، وما: أوسع شمولاً من: الّذي.

{يَقُولُونَ} : من الطّعن، والتّكذيب؛ مثل قولهم: كاهن، ساحر، مجنون، مفتر، أو يعلمه بشر.

أو قولهم: لولا أنزله إليه ملك، لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.

لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، لولا يأتينا بآية.

يقولون: ولم يقل بما قالوا: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد، وتكرار قولهم، وأنّهم لم ينتهوا بعد، أو لحكاية الحال؛ لعظم ما يقولون، وكأنه يحدث الآن.

ص: 97

سورة الحجر [15: 98]

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} :

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} : فسبح: الفاء: للتوكيد؛ سبح: من التّسبيح، ومعناه: الصّلاة، وتنزيه الله سبحانه ذاته، وصفاته، وأسمائه من كلّ ما لا يليق بجلاله، وكماله سبحانه من النّقائض في الذّات، والصّفات، والأفعال.

{بِحَمْدِ رَبِّكَ} : وبحمده، والثّناء عليه، والشّكر على نعمه؛ أي: تنزيه مصاحب بالحمد، فالتّسبيح، والحمد علاج لضيق الصّدر، والهم، والحزن.

{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} : وكن من المصلين.

{السَّاجِدِينَ} : جمع ساجد، والسّجود يعني: الصّلاة، والسّجود: هو قمة الخضوع لله تعالى، وأقرب ما يكون العبد من ربه.

ص: 98

سورة الحجر [15: 99]

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} :

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ} : ما دمت حياً، والعبادة تشمل كلّ قول طيب، وعمل صالح، وتشمل بضع وسبعون شعبة. ارجع إلى سورة النحل، آية (73)، والأنبياء، آية (106)؛ للبيان.

{حَتَّى} : حرف غاية؛ يعني: نهاية الغاية.

{يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} : هو الموت، واليقين: العلم بالحق، وليس هناك غيره، والحق: هو الأمر الثّابت الحق الّذي لا يتغير، كما قال عيسى بن مريم عليه السلام :{وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].

ص: 99

سورة النحل [16: 1]

سورة النحل

سورة النّحل [الآيات 1 - 6]

ترتيبها في القرآن (16)، وترتيبها في النزول (70)، نزلت بعد سورة الكهف، وتسمى سورة النِّعم؛ لكثرة ما ذكر الله فيها من النِعم التي لا تعد ولا تحصى على عباده، كما ذكر القرطبي.

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{أَتَى} : دنى، واقترب؛ أي: شارف على الوقوع.

{أَمْرُ اللَّهِ} : أي: السّاعة، أو العذاب، وأتى: فعل ماض، والسّاعة لم تقم بعد؛ فالله سبحانه أقام الماضي مقام المستقبل؛ لأنّ الزّمن عنده سواء؛ أيْ: واحد؛ لأنّه سبحانه خالق الزمان، والمكان، وإذا قال الحق سبحانه أتى فالأمر واقع لا محالة، واعتبره وقع وحصل للدلالة على التقنين أو بمنزلة ما مضى، قال سبحانه:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، ولم يقل: جاء أمر الله؛ لأنّ هناك فرقاً بين أتى، وجاء.

أتى: فيها معنى السّهولة في الإتيان، وجاء: فيها معنى المشقة، والصّعوبة في المجيء، وكون السّاعة، أو العذاب قادم، ولم يحدث بعد؛ فقد استعمل أتى، ويوم يحل، أو ينزل العذاب، أو تقوم السّاعة يقول جاء، وهذا تهديد للكفار، وإعلام بقرب هلاكهم، والله -جل وعلا- قادر على أن يأتي بالفعل كما يشاء.

{فَلَا} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَسْتَعْجِلُوهُ} : الهاء: هنا تعود على يوم القيامة، أو تعود على عذاب الله سبحانه، والاستعجال: هو طلب الحدث أو الشيء قبل وقته، وهو: مذموم غالباً، نقيض العجلة الأناة وهي محمودة.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : فالله سبحانه نهى عن الاستعجال؛ فقال: فلا تستعجلوه، ثمّ قرن النّهي بالتّنزيه له عن الشّركاء؛ فقال -جل وعلا- :{عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

{سُبْحَانَهُ} : تعني: التّنزيه الكامل لذاته، وعمّا لا يليق بجاهه؛ فلا ذات مثل ذاته، ولصفاته، وأفعاله عن أيِّ شيء يوجد في البشر، وغير البشر، وعن الشّرك، والولد، والعجز، والنّقص؛ سبحانه: مصدر سبح.

{عَمَّا} : مركبة من عن: تفيد المجاوزة، والمباعدة، وما: اسم موصول؛ بمعنى الّذي، أو مصدرية.

{يُشْرِكُونَ} : به من الآلهة، والأصنام، والولد، والصّاحبة، والشّمس، والقمر، والكواكب، والأولياء، والأنبياء، والملائكة.

يشركون: جاءت بصيغة المضارع بدلاً من أشركوا؛ لأنّ شركهم بالله يتجدَّد، ويتكرَّر، ولا ينتهي، ويتوقف.

ولا بُدَّ من الانتباه كيف توالى نزول هذه الآيات الّتي تتعلق بيوم القيامة، والسّاعة.

1 -

فقد نزلت الآية (1) من سورة القمر أوّلاً: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ترتيب نزول سورة القمر (37).

2 -

ثمّ نزلت الآية (1) من سورة النّحل ثانياً: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ترتيب نزول سورة النّحل (70).

3 -

ثمّ نزلت الآية (1) من سورة الأنبياء ثالثاً: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} ترتيب سورة الأنبياء (73).

وكأنه سبحانه يقول: اقتربت السّاعة، اقترب أمر الله (العذاب)، اقترب الحساب: بالترتيب.

ص: 100

سورة النحل [16: 2]

{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} :

{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} : يُنزل الله -جل وعلا- الملائكة؛ أيْ: جبريل عليه السلام ، وسمِّي باسم الجمع؛ لعظم مقامه، وسمِّي بالرّوح الأمين.

{بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} : بالروح: الباء: للإلصاق؛ والرّوح: يعني: الوحي، أو القرآن، وسمِّي روحاً؛ لأنّ فيه حياة القلوب؛ فالقرآن هو الرّوح الحقيقية للمؤمن، إضافة إلى روحه الّتي بين جنبيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشّورى: 52]، وبذلك نتبيَّن أنّ للمؤمن روحين، وليس روحاً واحدة.

{مِنْ أَمْرِهِ} : من: ابتدائية.

{أَمْرِهِ} : بأمر الله تعالى، وإرادته، وإذنه؛ أيْ: نزول الوحي، أو نزول الملائكة لا يكون إلا بأمر الله تعالى، وكما قال تعالى على لسان جبريل عليه السلام :{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]، وكل ما ينزل من أمر الله فيه حياة للنفوس.

{عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : على: تفيد العلو، والسّمو، والمشقة.

{مَنْ} : بعضية.

{مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : يعني: الأنبياء، والرّسل.

{أَنْ أَنذِرُوا} : أن: مصدرية؛ تفيد: التّعليل، والتّوكيد.

{أَنذِرُوا} : من الإنذار: وهو الإعلام، والتّحذير، والتّخويف؛ أنذروا المشركين، والعاصين، وغيرهم من النّاس، أو النّاس كافة بالقرآن، وبالإرشاد، والدعوة.

{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} : أنّه: تفيد التّوكيد.

{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} : ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة.

{فَاتَّقُونِ} : الفاء: للتوكيد؛ اتقون: من التّقوى؛ أيْ: أطيعوا أمري، وتجنبوا ما أنهاكم عنه، أو احذروا عقابي، وعبادة غيري، ثمّ ذكر سبحانه الأدلة على كمال قدرته، وعظمته، ووحدانيته، وأنّه الإله الواحد الّذي يستحق العبادة، وأنّه واجب الوجود.

ولم يرد في القرآن: فاتقوني (بياء المتكلم)؛ لأنّ التقوى: لا تكون إلا لله وحده، ولأنّه لا يستطيع أحد أن يتقي الله حق تقاته. تتقون وردت في (19) آية، يتقون في (18) آية.

ص: 101

سورة النحل [16: 3]

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} : ارجع إلى الآية (22-29) من سورة البقرة، والآية (30) من سورة الأنبياء، وسورة فصلت، آية (9-12)، وسورة الأعراف، آية (54)؛ للبيان.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ خلق بتقدير وحساب لا يتغير، ولم يشاركه فيه أحد، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، ولا يتبدل؛ أيْ: بالدقة الفائقة، والقوانين الثّابتة الّتي تحكم الكواكب، والنّجوم، والمجرات بحيث كلٌّ في فلك يسبحون لا تصطدم ببعضها، ولا يتغيَّر بعدُها عن بعضها رغم اختلاف كتلها، وحركتها منذ خلقت منذ (13، 5 مليار سنة)، ولم تخلق عبثاً، ومن دون غاية، وفائدة.

{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : تنزه، وتقدس عمّا يشركون. ارجع إلى الآية (1) من نفس السّورة؛ للبيان.

ص: 102

سورة النحل [16: 4]

{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} :

{خَلَقَ} : الخلق: الإيجاد؛ ابتدأ بتقدير، وحساب الخلق يكون من العدم، أو من شيء، أو من بعض الشّيء.

{الْإِنسَانَ} : اسم جنس؛ الإنسان: مشتق من الإنس؛ الّذي يعني: فيه عنصر الألفة، والمحبة.

{مِنْ} : من: ابتدائية.

{نُّطْفَةٍ} : وهي نطفة الرّجل؛ أي: الحيوان المنوي، ونطفة المرأة: البويضة.

{فَإِذَا} : الفاء: تفيد الإسراع؛ تدل على التّعقيب، والمباشرة في الإسراع في الخصومة ما إن يبلغ سن البلوغ؛ حتّى يبدأ بالخصومة، أو هي فاء السّببية؛ أي: خَلْقه كان سبباً للخصومة، أو تعني: التّوكيد؛ إذا: الفجائية.

{هُوَ خَصِيمٌ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{خَصِيمٌ} : كثير الخصومة، أو شديد الخصومة، والجدال، ومنكر للحقائق، أو تعني: بدلاً من أن يكون شاكراً لربه على نعمه عليه كان خصماً عنيداً جاحداً لنعمه.

{مُبِينٌ} : ظاهر، وبين الخصومة؛ أيْ: خصومته، وجحوده، وعناده، وجداله لا يخفى على أحد، وهي خصومة ظاهرة لا تحتاج إلى من يُبينها، أو إلى برهان.

ص: 103

سورة النحل [16: 5]

{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} :

{وَالْأَنْعَامَ} : وهي ثمانية أزواج؛ أي: الذّكر والأنثى من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين.

{خَلَقَهَا لَكُمْ} : لكم: اللام: لام الاختصاص، والتّعليل لكم خاصة، وتقديم الأنعام؛ للحصر، والاهتمام بكم.

{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} : تكرار لكم: يفيد التّوكيد؛ لكم فيها دفء: حيث يصنع من أشعارها، وأوبارها، وأصوافها الملابس، والفرش، والأغطية للتدفئة. قدم الدفء، ثم عطف العام (المنافع) على الخاص وهو الدفء؛ لأن الدفء من أعظم المنافع التي لا ينتبه إليها الكثير من الناس.

{وَمَنَافِعُ} : مثل: الرّكوب، والحراثة، والتّجارة بها، والبيع، والشّراء، والرّبح.

{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} : ولم يقل: وتأكلون منها؛ إنما قال: ومنها تأكلون: قدَّم الجار، والمجرور منها؛ ليدل على أنّ الأكل هو الأصل؛ أيْ: سخرها لكم أصلاً؛ لتأكلوا منها اللحم، والألبان، والشّحوم.

ص: 104

سورة النحل [16: 6]

{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} :

{وَلَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ لكم: خاصة.

{فِيهَا جَمَالٌ} : أيْ: هي جميلة الصّورة، والمنظر، والتّركيب، كما قال سبحانه:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17].

{حِينَ تُرِيحُونَ} : حين: ظرفية زمانية.

{تُرِيحُونَ} : حين تردونها عشية إلى مراحها؛ أيْ: حظيرتها الّتي تأوي وتبيت فيها، أو تروح عشية إليها، والمراح: هو مكانها الّذي تأوي إليه، ويسمَّى مراحها.

{وَحِينَ تَسْرَحُونَ} : تكرار حين: يفيد التّوكيد.

{تَسْرَحُونَ} : تخرجونها في الصّباح إلى مسارحها؛ أيْ: مراعيها؛ لترعى، وتسرح؛ أيْ: تخرج لترعى، وتأكل.

سورة النّحل [الآيات 7 - 14]

ص: 105

سورة النحل [16: 7]

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} : جمع ثقل، والثّقل: هو الحمل الثّقيل؛ أي: الأحمال الثّقيلة.

{إِلَى بَلَدٍ} : بعيد.

{لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ} : لم: حرف نفي.

{بَالِغِيهِ} : أيْ: واصلين إليه.

{إِلَّا} : حصراً.

{بِشِقِّ الْأَنفُسِ} : شق: مشتقة من المشقة؛ أيْ: بجهد الأنفس، والمشقة، والتعب، والإعياء.

{إِنَّ رَبَّكُمْ} : إنّ: للتوكيد.

{لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} : لرؤوف: اللام: للتوكيد؛ رؤوف: من الرّأفة، والرأفة: أشد وأبلغ من الرّحمة، وأخص؛ فالرحمة: تكون للمؤمن، وغير المؤمن، والرأفة: فقط للمؤمن.

ص: 106

سورة النحل [16: 8]

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} : قدَّم الخيل: لأهميتها، والتّشريف. وقد يسئل سائل: لماذا لم يذكر سبحانه الجمال، أو الإبل؟ لأنها تدخل في الأنعام، والسؤال الثاني: ما هو الفرق بين الحمير والحمر المستنفرة كما في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51]؟ الحُمر: تعني الحمر الوحشية، والحمير: للأهلية.

{لِتَرْكَبُوهَا} : اللام: لام التّعليل.

{وَزِينَةً} : أيْ: جمال، ولم يذكر ولتأكلوها.

{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : ويخلق: جاء بصيغة المضارع؛ للتّجدد، والتّكرار، ويخلق ما لا تعلمون كُنْهَهُ مثل: السيارات والطائرات والقطارات والسفن، ومركبات الفضاء، والأقمار الاصطناعية، والطائرات المسيرة.

{مَا} : اسم مصول بمعنى: الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{لَا} : النّافية.

ص: 107

سورة النحل [16: 9]

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} :

{وَعَلَى اللَّهِ} : أيْ: تفضلاً من الله وكرماً منه.

{قَصْدُ السَّبِيلِ} : وعلى الله تبيين السّبيل: الطريق السهل المستقيم الموصل إلى الغاية، أو القصد؛ أيْ: تبين الطريق الموصل إلى الغاية، وهي التّقوى، ورضوان الله، والحق، والجنة، أو طريق قصد، أو قاصد؛ إذا قصد بك إلى ما تريد، وتبيان السّبيل يكون بإرسال الرّسل، والأنبياء، وإنزال الكتب، والوحي؛ للهداية إلى الإسلام.

{وَمِنْهَا جَائِرٌ} : السّبل: اسم جنس، ومنها جائر: أيْ: من السّبل، أو من السّبيل (تؤنث وتذكر) ما هو منحرف، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} : لو: شرطية وليست للتمني.

{شَاءَ} : المشيئة: مُلزمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأما الإرادة: فهي نوعان: إرادة إلزام، وإرادة خيار، وفي هذه الآية تعني لو أراد إرادة إلزام لفعل، ولكنه سبحانه لم يريد وترك لهم الخيار.

{لَهَدَاكُمْ} : اللام: للتوكيد، والتّعليل.

{لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} : هداية قسرية، ولكن لم يشأْ ذلك، وترك لكم الخيار لكي تسئلوا عما كنتم تعملون.

{أَجْمَعِينَ} : توكيد. قد يسأل سائل لماذا وقعت هذه الآية في خضم الآيات التي جاءت في سياق تعداد النعم الكونية والإنسانية؟ لأن المقاصد الروحية مثل الهداية لها أهمية كبرى يجب أن لا ننساها، بل هي أعظم من المقاصد البدنية والمعيشية.

ص: 108

سورة النحل [16: 10]

{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} :

{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد، والحصر؛ أيْ: هو وحده الّذي أنزل من السّماء ماءً.

{مِنَ السَّمَاءِ} : أيْ: من السّحاب؛ أي: السّحب الرّكامية. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (18)، وسورة النور، آية (43)؛ للبيان.

وقوله: أنزل من السّماء ماءً، ولم يقل: من السّحاب؛ لأنّ تعريف السّماء: هي كلّ ما يعلو الإنسان يسمَّى: سماء، والسّحاب تعلو الإنسان؛ فالسّماء تعني: السّحاب في هذه الآية.

وكما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النّور: 43].

{لَكُمْ مِّنْهُ شَرَابٌ} : ارجع إلى سورة ق، آية (9)؛ للبيان.

{لَكُمْ} : خاصة.

{مِّنْهُ} : من: بعضية.

{شَرَابٌ} : يعني: الماء العذب، وتقديم منه على الشّراب: يفيد الحصر، والاهتمام؛ أيْ: شرابكم أصله الماء؛ أمّا باقي الماء فيبقى مستودَعاً، ومخزَّناً. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (18)؛ للبيان.

{وَمِنْهُ شَجَرٌ} : ومن الماء ما يستخدم لسقاية الشّجر، والشّجر منه ما له ساق، ومنه ما ليس له ساق، وهو ما ترعاه الماشية. وقيل: الشجر يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ، وقال الزجاج: كل ما نبت على الأرض فهو شجر.

{فِيهِ تُسِيمُونَ} : أيْ: ترعون دوابكم، ومواشيكم، والسّوم: الرّعي، وسامت الماشية: إذا رعت حيث شاءت، وتقديم: ومنه شجر؛ أيْ: أصل الشّجر الماء؛ فلولا الماء؛ لما نبت الشّجر.

ص: 109

سورة النحل [16: 11]

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ} : بالماء، ينبت: فعل مضارع؛ يدل على التّجدُّد، والتّكرار.

{لَكُمْ} : خاصة، اللام: لام الاختصاص.

{الزَّرْعَ} : يشمل الحب؛ مثل: القمح، والرّز، والشّعير، والذّرة.

{وَالزَّيْتُونَ} : ثمر الزّيتون بأنواعه، وألوانه المختلفة.

{وَالنَّخِيلَ} : النّخل: اسم جنس؛ يضم النّخيل؛ فالنّخيل: جزء من النّخل، أو قسم من النّخل، ومنه المثمر، وغير المثمر.

{وَالْأَعْنَابَ} : بأنواعه، وأشكاله المختلفة.

وذكر هذه الأنواع الأربعة الزّرع، والزّيتون، والنّخيل، والأعناب؛ لأنّها من أهم ما يحتاجه الإنسان في غذائه.

{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} : ومن: هنا استغراقية.

{كُلِّ الثَّمَرَاتِ} : أيْ: ثمرات الأرض على اختلاف أصنافها، وأنواعها؛ مثل: الرمان، والتين، والتفاح، والبرتقال

وغيرها، وقد أحصى العلماء أكثر من ألفين نوع.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة للبعد؛ يشير إلى إنزال الماء، وإخراج الشّجر، وإنبات الزّرع، والزّيتون، والثّمرات، والنّخيل، والأعناب.

{لَآيَةً} : اللام: للتوكيد؛ آية: دلالة قاطعة، وبيِّنة، أو علامة ظاهرة.

{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : اللام: لام الاختصاص؛ لكي ينظروا إليها، ويدرسوها، ويصلوا إلى النّتيجة.

{يَتَفَكَّرُونَ} : التّفكر: هو إعمال العقل في الأخذ بكلّ الدّلائل، والبدائل، وبما أن الثمرات التي تزيد عن (2000) نوع، وكثير منها غير معروفة أو يعلمها الناس فقد أوصى بالتفكير فقال تعالى لقوم يتفكرون للوصول إلى معرفة عظمة وقدرة الخالق ووحدانيَّته، وأنّه هو الخالق، البارئ، المصور، لا إله إلا هو، واجب الوجود؛ الّذي يستحق العبادة، والشّكر على نعمه الّتي لا تعد، ولا تحصى.

ص: 110

سورة النحل [16: 12]

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ} : سخَّر: خلق، وذلَّل الليل، والنّهار. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (32).

وسخَّر الشّمس والقمر. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (32)، وسورة يونس، آية (5)؛ للبيان.

سخَّرها؛ ليؤدِّي كلٌّ وظيفته.

سخَّرها؛ لتستقيم بها الحياة على الأرض؛ حياة المخلوقات كلّها بما فيها الإنسان حسب ما اقتضت حكمته؛ فالليل: مسخَّر لراحة الإنسان، والنّهار: آية لطلب الرّزق، والسّعي، والعمل، والشّمس، والقمر: للنور، والدّفء، والطّاقة، ومعرفة الزّمن، والحساب، والشّهر، واليوم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (54)، وسورة فاطر، آية (13)، وسورة يونس، آية (5)؛ للبيان.

{وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} : لها مهمتها في الاهتداء بها في السّفر، ومعرفة الجهات، ولها وظيفة التّزين، والشّهب رجوماً للشياطين

وغيرها.

ونلاحظ أنّه لم يأتِ بالنّجوم معطوفة على ما قبلها بالنصب، بل رفعها وخصها بجملة جديدة، وذلك لعظمتها، وكثرتها؛ فإن مجرة درب التبانة تحوي أكثر من (400 مليار نجم)، وأقرب نجم يبعد عنا (5، 4 سنة ضوئية). والتسخير الأول (الليل والنهار، والشمس والقمر) واضح، ونشهده كل يوم، أما تسخير النجوم معظمه خفي، ومن ذلك مواقعها الّتي أقسم الله بها؛ فقال:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76]. ارجع إلى سورة الواقعة آية (75) لمزيد من البيان.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة؛ للبعد تشير إلى الليل، والنّهار، والشّمس، والقمر، والنّجوم.

{لَآيَاتٍ} : اللام: للتوكيد. لآيات: ولم يقل آية كما في الآيات (11، 13) من نفس السورة؛ لأن الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم آيات متعددة وليست محصورة في آية كونية واحدة، بل آيات متعددة.

{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص.

{يَعْقِلُونَ} : مشتقة من عقل الشّيء؛ أيْ: عرفه بدليله، ومهمته بأسبابه، ونتائجه، وبالتّالي الوصول إلى الحقيقة، وهي أنّ هذه الآيات تكفي لأي عقل أن تدرك على عظمة، وقدرة الخالق، فهو وحده الّذي سخر هذه المخلوقات الكونية؛ لتدل عليه وحده سبحانه أنه الخالق الحق {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْـئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20].

ص: 111

سورة النحل [16: 13]

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية.

{ذَرَأَ لَكُمْ فِى الْأَرْضِ} : ذرأ: بث، ونشر بالتّكاثر، والتّوالد؛ أيْ: خلق خلقاً يتكاثر بذاته، وبثهم، ونشرهم في الأرض من إنسان، وحيوان، ونبات، ومن ذكر وأنثى.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص.

{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} : من بشر، وحيوان، ونبات، وبأنواعه، وأشكاله، وعدده، وعيشه، وموته، وتجدُّده.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً} : ارجع إلى الآية (11). آية: لكونها كلها محصورة في الأرض.

{لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} : اللام: لام الاختصاص.

{يَذَّكَّرُونَ} : أيْ: هي آيات سبق علمها عندكم وهي آيات بينات، فما عليكم إلا أن تذكروها، ولا تنسوها، ولم يقل: لقوم يتذكرون؛ لأنّ هذه الآيات لا تحتاج إلى زمن طويل لتذكُّرها؛ فهي أمام أعينكم بشكل متجدِّد، ومتكرِّر.

ص: 112

سورة النحل [16: 14]

{وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

{وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ} : وهو: ضمير فصل؛ يفيد الحصر، والتّوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التّعظيم.

{سَخَّرَ الْبَحْرَ} : ذلَّل، وأخضع البحر؛ للانتفاع منه؛ ليؤدِّي مهمته. والبحر: اسم جنس، وجمعه بحار، وأبحر الّتي تشكل ثلاثة أرباع مساحة الكرة الأرضية.

{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} : لتأكلوا: اللام: لام التّعليل.

{لَحْمًا طَرِيًّا} : بعض حيوانات البحر؛ مثل: السّمك، وغيرها من صيد البحر.

{وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} : مثل: اللؤلؤ، والمرجان

وغيرها.

وقدَّم منه: الجار والمجرور؛ للحصر.

{تَلْبَسُونَهَا} : أي: الحلية الّتي تلبسها غالباً النّساء؛ كزينة وبما أنّها زينة للمرأة من أجل زوجها؛ فكأن الزّوج هو الّذي يستمتع بالحلية أيضاً.

{وَتَرَى الْفُلْكَ} : السّفن، والفلك: تطلق على المفرد، والمثنى، والجمع. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (32)؛ للبيان.

{مَوَاخِرَ فِيهِ} : صفة للفلك من المَخْر: هو الشّق يقال مخَرَ الماء: إذا شقها بصوت هادئ تشق الماء شقاً، وقدَّم الفلك على البحر؛ لأنّ الحديث، أو السّياق في وسائل النّقل: الخيل، والبغال، والحمير، والفلك من وسائل النقل، ويخلق ما تعلمون، ولم يقل: وترى الفلك فيه مواخر، كما في الآية (12) من سورة فاطر؛ لأنّ السّياق في هذه: هو الحديث عن البحر ذاته، وليس على وسائل النقل.

{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : وزيادة الواو تشير إلى منافع أخرى لم تذكرها الآية؛ مثل: صيد السّمك، والغوص، والسباحة، والرّكوب، ولو قال: لتبتغوا من فضله من دون زيادة الواو؛ لكان المقصود فقط المنافع الّتي ذكرت في الآية فقط، واللام: لام الاختصاص، والتّعليل. من فضل الله: من كرمه، وفضله الفضل يعني: الزّيادة عن الأجر، والجزاء.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعل: للتعليل.

{تَشْكُرُونَ} : المنعم، وهو الله سبحانه على نعمه، ولا تنشغلوا فقط بالنّعمة. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لبيان معنى تشكرون.

سورة النّحل [الآيات 15 - 26]

ص: 113

سورة النحل [16: 15]

{وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

{وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ} : الجبال. ألقى: إلقاءً حقيقياً؛ فعندما تثور البراكين تلقي بحممها من الأسفل إلى الأعلى داخل طبقات الأرض، وما إن تندفع من سطح الأرض تعود وتسقط المواد البركانية على الأرض مشكلة الجبال الّتي تمتد داخل الأرض ضعفين، أو أكثر من ارتفاعها على ظهر الأرض؛ فهذه الجبال تلعب دوراً أساسياً في عدم ترنح الأرض، أو الاضطراب، ولا ننسى كتلة الأرض؛ أيْ: لب الأرض المكون من كتلة ضخمة من الحديد غير المنصهر، وقوى الجاذبية، والألواح القارية. لمعرفة الفرق بين {وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ} ، وقوله تعالى {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} [الرعد: 3]. ارجع إلى سورة الرعد آية (3).

{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، وكانت تفسر بـ: لئلا تميد بكم، أو خوفاً أن تميد بكم.

{تَمِيدَ بِكُمْ} : تميد من ماد يميد؛ أيْ: تضطرب الأرض، أو تميل.

{وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} : دائماً يربط الأنهار بالجبال؛ لأنّ الأنهار تنبع من قمم الجبال، ثمّ تنحدر على سفوحها، وما إن تصل إلى الأرض حتّى تشق الأنهار، والوديان، وبعض هذه الأنهار يجف؛ فيشكل السبل؛ أي: الطرق السهلة.

{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : لعلكم: لعل: للتعليل؛ أيْ: لتهتدوا بها في سيركم على الأرض، وإلى مقاصدكم، ولتهتدوا بها إلى من أوجدها وخلقها لكم.

ما هو الفرق بين قوله تعالى تميد بكم، وتميد بهم؟

تميد بكم: بصيغة المخاطب تأتي في سياق الحديث عن ذكر نعم الله تعالى على النّاس.

أما تميد بهم: بصيغة الغائب فتأتي في سياق الحديث عن قدرة الله تعالى، وعظمته، وخلقه، كما في سورة الأنبياء آية (31){وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} .

ص: 114

سورة النحل [16: 16]

{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} :

{وَعَلَامَاتٍ} : وألقى في الأرض علامات لتهتدوا بها في ظلمات البر، والبحر؛ كالجبال، والأنهار، والطّرق، والأشجار؛ أيْ: مختلف التضاريس الّتي تستعمل كوسائل للهداية للسيارات وللطائرات.

{وَبِالنَّجْمِ} : الباء: للإلصاق؛ أيْ: بالنّجوم، والنّجم: اسم جنس، ومثال على ذلك الاهتداء بالنّجم القطبي الّذي يتجه إلى الشمال الحقيقي، والذي من معرفة اتجاهه يمكن معرفة الشّرق، والغرب، والجنوب.

{هُمْ يَهْتَدُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد. يهتدون بالعلامات الظاهرة؛ أي: هداية ظاهرة كالجبال أو الأنهار أو المدن، وهي هداية عامة، وهناك الهداية الخاصة، أو الهداية القلبية.

{يَهْتَدُونَ} : بالنّجم، كما في الزّمان القديم، ويهتدون إلى القبلة، أو في أسفارهم، أو أنّ قريش، والعرب آنذاك كانوا هم وحدهم يهتدون بالنّجم، وغيرهم لا يعرفون ذلك، يهتدون بها خاصة في ظلام الليل.

ص: 115

سورة النحل [16: 17]

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

{أَفَمَنْ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري؛ من: للعقلاء.

{يَخْلُقُ} : وهو الله سبحانه هذه المخلوقات البديعة كالسّموات، والأرض، والماء، والرّواسي، والبحار، والأنهار، والسّبل، والنّجوم، والعلامات؛ أيْ: هذه الآيات الكونية.

{كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} : كمن: الكاف: للتشبيه؛ من لا يخلق: أيْ: كالأصنام، والآلهة المزعومة، ورغم أنّ هذه الأصنام، والآلهة لا تعقل استخدم معها حرف (من) للعقلاء؛ لأنّهم لمّا عبدوها وسموها آلهة أجروها مجرى العقلاء؛ فجيء بمن على حسب اعتقادهم الباطل.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} : أفلا: الهمزة للاستفهام الإنكاري؛ ألا: للحثِّ، والتّحريض.

{تَذَكَّرُونَ} : أنّ هذه الآلهة، والأصنام هي حجارة لا تنفع، ولا تضر، ولا تخلق شيئاً، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تشفع، ولا تنطق، وأنتم صنعتموها، ولا تحتاجوا إلى عمق في التّفكير، أو طول زمن؛ لتدركوا الحقيقة، أو تذكرون ولم يقل: أفلا تتذكرون التي تحتاج إلى طول زمن للتذكر؛ لأن قضية الخلق واضحة تخص الله تعالى وحده كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وتعودوا إلى رشدكم، والصّواب؛ فقال: تذكرون، ولم يقل: تتذكرون.

ص: 116

سورة النحل [16: 18]

{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{وَإِنْ تَعُدُّوا} : وإن: الواو: استئنافية؛ إن: شرطية تفيد الشّك، والاحتمال في عدِّ، أو إحصاء نعمة الله.

{نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} : لأنّ النّعمة الواحدة تشتمل على نعم لا تُحصى، ولا تعدُّ، ونِعمة: تعني نِعم لا تحصى، وهناك فرق بين نِعمة بكسر النون، ونَعمة بفتح النون، والتي تأتي في سياق النِعم المنبوذة، أو سياق البطر والشر.

{لَا} : النّافية.

{تُحْصُوهَا} : الإحصاء: هو العدُّ مع الجمع، والحفظ. ارجع إلى الآية (34) من سورة إبراهيم؛ للبيان، والمقارنة.

{إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : إنّ: للتوكيد.

{لَغَفُورٌ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ غفور: كثير الغفران يغفر الذّنوب جميعاً مهما تعدَّدت، وكبرت الذنوب.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة من الرّحمة؛ رحيم: كثير الرّحمة؛ رحيماً بالمؤمنين في الدّنيا والآخرة، ولا يعاقبهم على إنكار نعمهُ الظاهرة، والباطنة، وغفور للذنوب العظيمة، وغفاراً للذنوب المتعددة الكثيرة، وإذا قارنا هذه الآية مع قوله تعالى في سورة إبراهيم آية (34):{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فقد جاءت آية سورة النحل في سياق تعداد النعم على الإنسان وتذكيراً بعفو الله ورحمته، وذلك من أكبر النعم، أما آية سورة إبراهيم جاءت في سياق الذين بدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار، ولذلك ختمت بقوله تعالى إن الإنسان لظلوم كفار. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (34) لمزيد من البيان والفرق بين نعمة بالتاء المربوطة، ونعمت بالتاء المفتوحة.

ص: 117

سورة النحل [16: 19]

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} :

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، وهي أوسع شمولاً من الذي.

{تُسِرُّونَ} : من السّر، والسّر: ما هو تخفيه في نفسك، ولا يعلمه أحد.

{وَمَا تُعْلِنُونَ} : إعادة ما: للتوكيد، والفصل بين ما تسرون، وما تعلنون؛ أيْ: كلاً على حِدَةٍ، وتعلنون من العلن، وهو ما تجاهر به، ويكون علناً؛ سواء أهذا العلن كان صادراً من فردٍ، أم جمع غفير الكل يتكلم في آن واحد؛ فهو يعلم كلَّ ما يتكلَّم به عبادُهُ ولو كانوا ملايين الأفراد.

ص: 118

سورة النحل [16: 20]

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْـئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} :

{وَالَّذِينَ} : المشركون، والكفار؛ الّذين: اسم موصول يفيد الذم.

{يَدْعُونَ} : يعبدون الأصنام، والآلهة، ويطلبون منها، ويدعونها للمساعدة، والعون، والشّفاعة.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{لَا يَخْلُقُونَ شَيْـئًا} : لا: النّافية.

{يَخْلُقُونَ شَيْـئًا} : شيئاً: نكرة؛ أيَّ شيء مهما كان نوعه، وحجمه، وشكله، يخلقون سواء أكان من العدم، أم غيره.

{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} : هم: ضمير يفيد التّوكيد.

{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} : أيْ: هم أنفسهم يحتاجون إلى من يخلقهم؛ فكيف يخلقون.

ص: 119

سورة النحل [16: 21]

{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} :

هذا وصف لهذه الآلهة، والأصنام المصنوعة من الحجارة، وغيرها إضافة إلى كونها لا تخلق شيئاً هي أموات لا تشعر بكم، ولا بدعائكم، وعبادتكم، وكذلك لا تعلم الغيب، ولا أيّان يوم البعث؛ أيْ: غير قادرة على البعث وإحياء الموتى، وإذا دل هذا إنما يدل على سخافة اعتقادكم بعبادة حجر لا يضر ولا ينفع.

{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} : فكلمة غير أحياء؛ تعني: أموات، فلماذا ذكر ذلك؟ هذا يسمَّى إثبات الشّيء، ونفي ضده، ويفيد التّوكيد.

{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} : ما: النّافية.

{أَيَّانَ} : للاستفهام الزّماني، وتختص بالمستقبل، وفيها معنى التّفخيم، والتّعظيم.

ص: 120

سورة النحل [16: 22]

{إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُّنكِرَةٌ وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ} :

أيْ: كلّ الدلائل، والبراهين الّتي ذكرت سابقاً تدل على بطلان الآلهة، والأصنام، وتدل على أنّه إله واحد لا شريك، وتثبت وحدانيته سبحانه، ورغم كلّ ذلك استمر المشركون على شركهم، واستمروا على عدم إيمانهم بالآخرة، والبعث، والحساب.

فالإله: يعني: المعبود، والمستحق للعبادة، وهو الّذي يأمر بالتكاليف والذي يجب أن يطاع.

{إِلَهٌ وَاحِدٌ} : أيْ: إله لا شريك له، واحد لا يتجزأ، ولا شريك له. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{فَالَّذِينَ} : الفاء: استئنافية؛ الّذين: اسم موصول.

{لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : أيْ: بالبعث، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار.

{قُلُوبُهُمْ مُّنكِرَةٌ} : قلوبهم جاحدة بوجود الله، والبعث، والحساب، ولا تعرف التّوحيد، والإنكار أعم من الجحود، والإنكار يكون للشيء الظاهر، أو الباطن، وقلوبهم منكرة لنعم الله.

{وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ} : جمع مستكبر: اسم فاعل من استكبر؛ أيْ: رفع نفسه فوق ما تستحق، وعظَّم من شأنه، ولا يكتفوا بذلك الإنكار، بل وهم مستكبرون؛ هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{مُّسْتَكْبِرُونَ} : عن الإيمان بربهم، ورسله؛ مستكبرون: جملة اسمية تدل على ثبوت صفة الكبر عندهم، وأنّهم مصرون على شركهم وكفرهم.

ص: 121

سورة النحل [16: 23]

{لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} :

{لَا جَرَمَ} : لا: النّافية.

{جَرَمَ} : لا بد، ولا محالة مشتقة من الجَرْم: القطع، جرم اللحم: قطع اللحم، وهناك من قال: لا جرم تعني حقاً، أو ما يأتي بعد لا جرم دائماً يعتبر حقاً.

{أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : أنّ: للتوكيد.

{يَعْلَمُ} : ما يسرون.

{وَمَا يُعْلِنُونَ} : ارجع إلى الآية (19) من نفس السّورة.

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} : إنّه: للتوكيد؛ إن الله لا يحب المستكبرين: أي: عن الإيمان، والتّوحيد؛ لا يحب الظالمين.

ص: 122

سورة النحل [16: 24]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :

{وَإِذَا} : ظرفية زمانية شرطية؛ تفيد: حتمية الحدوث.

{قِيلَ لَهُمْ} : قيل: مبني للمجهول؛ لأنّ المهم هنا المقولة، وليس القائل؛ أيْ: سُئلوا.

{مَاذَا} : استفهام أشد استفهاماً من ما.

{أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} : على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم.

{قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : بدلاً من أن يقولوا: القرآن الكريم، والوحي، أو خيراً. قالوا أساطير الأولين: أيْ: أكاذيب وأباطيل.

{أَسَاطِيرُ} : جمع أسطورة؛ أيْ: كتابات قديمة غلب عليها الباطل، والكذب، أو قصص من الأولين، وخرافات.

ص: 123

سورة النحل [16: 25]

{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} :

{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} : ليحملوا: اللام: للتعليل، والتّوكيد، وحذف على ظهورهم كما قال تعالى:{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31].

{أَوْزَارَهُمْ} : جمع وزر؛ أصل الوزر الحمل على الظّهر، والأزر: هو الظّهر؛ لقوله تعالى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى} ؛ أيْ: ظهري، فالأوزار: الآثام والذّنوب؛ أي: شبه الذنوب بالأوزار الثقيلة.

{كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : للتوكيد يوم القيامة.

{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} : ومن: بعضية، أو لبيان الجنس؛ أيْ: يحملون مثل أوزار من يضلونهم كاملة.

{الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : أي: الّذين أعرضوا عن سبيل الله، وصدوا، وصرفوا غيرهم، ومنعوهم عن الإيمان، والتّصديق بالقرآن، وبالرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فهم رؤساء الضّلال سيحملون وزرين: وزر ضلالهم أنفسهم، ووزر إضلالهم لغيرهم.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : أيْ: هؤلاء الرّؤساء يضلون من لا يعلم أنّهم يتبعون من هو على ضلال مبين، أو قد تعني: أنّ رؤساء الضّلال يضلون غيرهم جاهلين بعاقبة أمرهم، وما سيحملون من آثام، وذنوب.

{أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} : ألا: أداة تنبيه.

{سَاءَ} : بئس من أفعال الذّم.

{مَا} : بمعنى: الّذي؛ اسم موصول.

{يَزِرُونَ} : ما يحملونه من آثام، وذنوب.

ص: 124

سورة النحل [16: 26]

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} :

{قَدْ} : حرف للتحقيق؛ تفيد التّكثير.

{مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : مكر: ارجع إلى الآية (46) من سورة إبراهيم.

مكر الكثير الّذين من قبلهم من قبل كفار مكة؛ مثل: النّمرود، والّذي ألقى بإبراهيم في النّار، وفرعون الّذي حاول قتل موسى

وغيرهم.

{مِنْ} : ابتدائية؛ أيْ: ما يحدث لك سبق وحدث مع من سبقك من الرّسل.

{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} : شبّه مكر الماكرين: وهم كفار قريش حين اجتمعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختاروا من كلّ قبيلة رجلاً فيضربوه ضربة رجل واحد؛ فيتفرق دمه في القبائل؛ فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره؛ فنجى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكرهم «من سيرة ابن هشام» ، وأذاقهم وبال مكرهم، أو مكر النّمرود بإبراهيم، أو فرعون بموسى

وغيرهم.

شبه مكرهم بحال قوم بنوا بنياناً عالياً؛ فتركهم الله سبحانه ليتموا البناء، ويشعروا بالأمن المزيف والباطل؛ فأتى الله بنيانهم من القواعد: إشارة إلى أن الله زلزل الأرض من تحتهم؛ مما أدى إلى إصابة بنياتهم من القواعد؛ أي: الأسس، وجذور بيوتهم؛ مما أدى إلى أن يخرَّ عليهم السقف من فوقهم؛ فيقضي عليهم.

{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} : خرَّ سقط بسرعة، ومن دون إنذار.

{السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} : أيْ: خرَّ البناء من فوقهم، ويعني هم كانوا تحته واقفون، أو جالسون تحته، أو نائمون.

{وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} : من جهة لا تخطر على بالهم؛ لكي لا يستعدوا لذلك، ولا ينجو منهم أحداً، ولا يتوقعون ذلك؛ فيكون مجيء العذاب فجأة، وهذا إنذار لهم، وأن مكرهم بالرّسل والمؤمنين سيرجع وباله عليهم، ويؤيِّد ذلك قوله سبحانه:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].

سورة النّحل [الآيات 27 - 34]

ص: 125

سورة النحل [16: 27]

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} :

تستمر الآيات في ذكر ما سيحدث للذين أشركوا بالله، وقلوبهم منكرة للآخرة، والمستكبرون الّذين قالوا: ما أنزل الله هو أساطير الأولين.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : ثم: للترتيب، والتّراخي في الزّمن.

{يُخْزِيهِمْ} : والخزي: هو الفضيحة أمام النّاس؛ أيْ: يفضحهم أمام النّاس، أو على رؤوس الخلائق، والأشهاد بكشف أعمالهم المنكرة أمام النّاس، وقدم يوم القيامة على يخزيهم للفت الانتباه إلى عظم الخزي الذي سيحل بهم يوم القيامة والذي لا يمكن مقارنته بالخزي الضئيل في الحياة الدنيا الزائل.

{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ} : أين: استفهام توبيخي، وتقريع لهم؛ أيْ: يوبخهم، ويسكتهم بالحُجَّة؛ أيْ: يغلبهم بالحُجَّة.

{شُرَكَاءِىَ} : من الجن، والإنس؛ أيْ: تلك الأصنام، والأوثان، أو ما كنتم تعبدون من دوني. شركائي: جمع شريك في الطّاعة، والعبادة، والدّعاء.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{كُنتُمْ} : كنتم: في الدّنيا.

{تُشَاقُّونَ} : من الشّق، ويقال: شق الجدار؛ أيْ: جعلتم بينكم وبين الرّسول، والمؤمنين شق لأجلهم؛ لأجل الآلهة، والأصنام، أو الشركاء. تشاقون فيهم: تخاصمون؛ تخالفون أمري لأجلهم، تنازعونني فيهم، وتشاقون: أبقى الإدغام ولم يفكه؛ لأنه لم يأتي فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشاقون: بحذف الياء؛ لأن المشاقة كانت مؤقتة في الدنيا وانتهت حين ماتوا ولم تستمر في الأخرة.

{فِيهِمْ} : ظرفية بمعنى: لأجلهم؛ لأنّ مشاقة المؤمنين، أو رسوله كأنّها مشاقة لله، ولم يذكر في هذه الآية ردهم على هذا السّؤال، أو الاستفهام، بل ذكره في آيات أخرى؛ كقوله:{ضَلُّوا عَنَّا} [غافر: 74]: غابوا عنا، ولم يحضروا.

{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : أوتوا العلم: من الأنبياء، والعلماء، والّذين كانوا يدعون النّاس إلى الإيمان، والتّوحيد؛ أوتوا العلم: علوم الدِّين، والقرآن.

{إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ} : إنّ: للتوكيد.

{الْخِزْىَ} : الفضيحة، والعار.

{وَالسُّوءَ} : العذاب.

{عَلَى الْكَافِرِينَ} : على: تفيد العلو، والمشقة.

{الْكَافِرِينَ} : جمع كافر: لم يؤمن، ويصدق بما أنزل الله، وجَحَدَ به، وبرسله. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لمزيد من البيان، وسورة التوبة آية (68) لمعرفة الفرق بين الكافرين والكفار.

ص: 126

سورة النحل [16: 28]

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يفيد الذم.

{تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : ولم يقل: توفاهم الملائكة.

{تَتَوَفَّاهُمُ} : من الوفاة، وقيل: الوفاة: هي المرحلة الّتي تسبق قبض الرّوح (الموت)، وقد تطول هذه الفترة، أو تقصر ساعة، أو ساعات، أو أيّام، ويكون فيها المريض غيرَ واعٍ لما حوله في غيبوبة، وقد يكون على الأجهزة التّنفسية، أو القلبية، وغيرها الّتي تساعده حتّى تقبض روحه، ومرحلة الوفاة إذا بدأت لا رجعة منها، أما إذا كان المريض في غيبوبة، أو فاقداً وعيه، ثمّ عاد إلى الحياة الدّنيا؛ فهذه لا تعتبر مرحلة الوفاة الّتي نتحدث عنها، ولكن مرحلة الوفاة الحقيقية تبدأ برؤية الملائكة ملائكة الموت وبعدها تستمر إلى أن تقبض روحه، وهنا في هذه المرحلة قد يعذب الكافر، أو المشرك عذاباً شديداً، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50].

{ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} : بالكفر، والشّرك، والضّلال، والظلم، والمعاصي؛ أي: الكبائر، أو الآثام، والذّنوب.

{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} : أي: الاستسلام، والخضوع، وأظهروا الطّاعة، وأقروا بالرّبوبية، والوحدانية، وذلك حين أدركوا الحقيقة، وهم في سكرات الموت. ألقوا السّلم: قيل: حين يرون الملائكة في مرحلة الوفاة الّتي تسبق قبض الأرواح، أو يوم القيامة، وما داموا ألقوا السّلم؛ فهذا يدل على أنّهم كانوا في حرب مع الله ورسوله وأنفسهم؛ لمخالفتهم لمنهج الله تعالى، وهم اليوم يلقون أسلحتهم مستسلمين لله تعالى كما يلقي الأسير سلاحه أمام عدوه.

{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} : ما: النّافية.

{كُنَّا} : في الدّنيا نعمل من سوء؛ من: كفر، وتكذيب، وشرك، ومعاصي؛ أيْ: هم جحدوا، وأنكروا ما كانوا عليه كقولهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].

{مِنْ} : استغراقية.

{بَلَى} : حرف جواب تختص بوقوعها بعد النفي فتجعله إثباتاً؛ أيْ: تؤكد الّذي كانوا يعملون من السّوء؛ أيْ: بل عملتم السّوء.

{إِنَّ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير العلم، بما كنتم في الدّنيا تعملون من سوء؛ تعني: يعلم كلّ أعمال السّوء الّتي قمتم بها.

{بِمَا} : والباء: للإلصاق؛ ما: حرف مصدري، أو اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، وأوسع شمولاً من الذي

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : في الدنيا. تعملون: تشمل الأقوال والأعمال.

لنقارن بين هذه الآية: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} .

والآية (97) من سورة النّساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الْأَرْضِ} .

الذين تتوفاهم في سورة النّحل: تدل على أن عددهم أكثر من الّذين توفاهم في سورة النّساء، وتدل على الظلم العام بكل أنواعه، ومنه الشرك، وظلم الغير.

أما آية سورة النّساء: فتدل على عدد الّذين توفاهم الملائكة أقل، وظلمهم كان بعدم قدرتهم على الهجرة؛ ظلم جزئي مقارنة بظلم المذكورين في آية النّحل (الظلم العام).

فاستخدم تتوفاهم للعدد الأكثر، وتوفاهم للعدد الأقل (تاء واحدة).

ص: 127

سورة النحل [16: 29]

{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} :

{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} : فادخلوا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ أي: المباشرة. ادخلوا أبواب جهنم: لم يُبيِّن عددها في هذه الآية، وبيَّنها في سورة الحجر، الآية (44)؛ فقال:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} .

{أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} : قيل: هي دركات؛ قيل: دركة من دركاتها، وكلمة جهنم مشتقة من الجهمومة، وهو الشّيء المخوف الكريه المنظر، وكذلك تعني: بعيدة القعر.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : من الخلود: وهو البقاء، والاستمرار منذ دخولها بعد الحساب.

{فَلَبِئْسَ} : الفاء: للتوكيد، واللام: لزيادة التّوكيد؛ بئس: فعل من أفعال الذّم، وجاء بأداتين من أدوات التّوكيد: الفاء، واللام؛ لأنّ قلوبهم منكرة، وهم مستكبرون، ويقولون: أساطير الأولين؛ فلما تمادوا بالكبر والإنكار أكد على عذابهم.

{مَثْوَى} : المستقر، المثوى: مكان الإقامة الدّائمة المكان السيء الضيق والمقيد لا يسمح بالحركة، أو أسوء من السجن والمطبق عليه. ارجع إلى سورة آل عمران آية (151) لمزيد من البيان ومعرفة الفرق بين مثوى ومأوى.

{الْمُتَكَبِّرِينَ} : جمع متكبر: الّذين أصبحت صفة الكبر عندهم ثابتة مستمرة، والكبر: هو إظهار عظم الشأن، ورفع النفس فوق ما تستحق. ارجع إلى الآية (23) السّابقة من نفس السّورة.

ص: 128

سورة النحل [16: 30]

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} :

بعد أن بيَّن جواب الّذين لا يؤمنون بالآخرة، وقلوبهم منكرة، وهم مستكبرون يُبيِّن جواب الطّرف الآخر المقابل وهم المتقون؛ ليتَّضح الفرق بين الجوابين.

{وَقِيلَ} : مبني للمجهول؛ لأنّ القائل هنا لا يهم، أو السّائل، والمهم هو المقولة.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} : اللام: لام الاختصاص.

{اتَّقَوْا} : أيْ: ربهم أطاعوا أوامره، وتجنَّبوا نواهيه، واتقوا النّار بأن جعلوا بينهم وبينها حاجزاً.

{مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} : ماذا: استفهام وأقوى في الاستفهام من: ما. ماذا أنزل ربكم: على رسوله، أو عليكم؟ قالوا: خيراً؛ أيْ: قالوا: أنزل الله خيراً؛ حذف أنزل؛ للإيجاز.

{قَالُوا خَيْرًا} : خيراً بالنّصب، ولما سأل الّذين لا يؤمنون بالآخرة، وقلوبهم منكرة، وهم مستكبرون ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطيرُ الأولين بالرّفع، فلماذا نصب (خيراً)، ورفع (أساطيرُ)؟

أولاً: لأنّ الأساطير (الأكاذيب: جمع أسطورة، أو أكذوبة) ليست من الإنزال في شيء، والنّصب أقوى من الرّفع، وتدل على أن إجابة المتقين كانت بسرعة، وكأنّهم يعرفون سابقاً، ومن دون تردُّد، وحيرة أنّه كان خيراً.

وخيراً: جاء بصيغة النّكرة؛ لتشمل كلّ خير، والخير: هو الطّيب الحلال؛ أيْ: أنزل رحمة، وبركة، وهدى، وشفاء، ووقاية، وموعظة، وحسنة.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} : للذين: اللام: للاختصاص، والاستحقاق.

{أَحْسَنُوا} : اجتهدوا في العبادة، والأعمال الصّالحة، والطّاعة، والإحسان: هو جودة العمل كماً، وكيفاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (112) لمزيد في معنى الإحسان.

{فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} : قيل: الحسنة في الدّنيا: النّصر، والفتح، والحياة الطّيبة، والرّزق، والعافية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمزيد من البيان في معنى الحسنة لغةً وشرعاً.

وقد بيَّن ذلك في قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النّحل: 97].

{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} : دار الآخرة خير: من حسنة الدّنيا؛ فحسنة الدّنيا خير، وخيرٌ منها حسنة الآخرة. ولدار الآخرة: اللام: للتوكيد.

{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} : أي: الجنة خير من الدّنيا وما فيها.

{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} : نعمَ: من أفعال المدح.

ثم بيَّن دار المتقين: جناتُ عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار.

ص: 129

سورة النحل [16: 31]

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} :

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : جنات الإقامة الدّائمة في النّعيم.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع من تحتها الأنهار.

{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} : لهم: اللام: للاختصاص؛ تقديم فيها جار ومجرور تفيد حصراً؛ أيْ: حصراً في الجنة لهم فيها ما يشاؤون.

{مَا} : اسم موصول؛ يعني: الّذي، أو مصدرية.

{يَشَاءُونَ} : يختارون، ويبغون.

{كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} : أيْ: مثل هذا الجزاء جنات عدن تجري من تحتها الأنهار يجزي الله من اتقاه، وآمن به، وأصبحت التّقوى ثابتة عنده.

ص: 130

سورة النحل [16: 32]

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : ارجع إلى الآية (28) من نفس السّورة.

{طَيِّبِينَ} : أعمالهم صالحة طيبة (أقوالهم، وأفعالهم)، وطاهرين من الظّلم، والكفر، والمعاصي.

{يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} : تقول الملائكة لهم: سلام عليكم.

{سَلَامٌ} : نكرة ليشمل سلام التّحية، وسلام من الآفات، والمكروه، والموت، وسلام: أمان، واطمئنان، وسلام: ثابت دائم لا ينقطع؛ سلام عليكم من ربكم؛ سلام عليكم من الملائكة.

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : بما: الباء: للإلصاق والبدلية، أو التّوكيد.

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : في الدّنيا، تعملون: تضم الأقوال، والأفعال.

ص: 131

سورة النحل [16: 33]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

بعد أن أجابوا على السّؤال ماذا أنزل ربكم قالوا: أساطير الأولين، ثمّ بيَّن عاقبة أمرهم، وماذا سيحدث لهم يوم القيامة، وكيف تتوفاهم الملائكة؛ إذن: ما ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتيهم العذاب ليستأصلهم.

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : هل: للاستفهام فيه معنى النفي؛ أيْ: ما ينظرون.

{يَنْظُرُونَ} : من الانتظار، والترقب.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : لقبض أرواحهم.

{أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ} : أي: العذاب المستأصل لهم في الدّنيا؛ كالصّواعق، والكوارث، والزلازل، أو أمر الله فيهم؛ أيْ: يوم القيامة، وأهواله، وعذابه.

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : كذلك؛ أيْ: مثل الّذي فعلوه من الشّرك، والتّكذيب، والإعراض عن الرّسل؛ فعل الّذين من قبلهم من الأقوام السّابقة الّذين كذبوا برسلهم؛ فأتاهم العذاب، أو أمر الله من حيث لا يشعرون.

{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} : بإهلاكهم بالعذاب، أو تدميرهم، أو أخذهم بالبأساء، والضّراء؛ لأنّه سبحانه أنذرهم، وحذرهم، وأمهلهم.

{وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : ولكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{كَانُوا} : في الدّنيا.

{أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : بما فعلوا ما يستوجب العذاب، أو الاستئصال؛ أنفسهم يظلمون: بالشّرك، والمعاصي، وظلم الآخرين، والخروج عن منهج الله تعالى.

ص: 132

سورة النحل [16: 34]

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} : فأصابهم: الفاء: للتوكيد، أو المباشرة؛ أصابهم سيئات ما عملوا: أيْ: أصابهم جزاء ما عملوا من السّيئات، وسمَّى الجزاء باسم سيئات الأعمال.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : أي: نزل بهم العذاب، أو أحاط بهم العذاب؛ فلا يستطيعون الفرار، ولا يجدون منفذاً، أو ملجأ يلجؤون إليه. ارجع إلى سورة غافر، آية (45)؛ لمزيد من البيان، والفرق بين حاق ونزل.

{مَا} : بمعنى: الّذي، أو مصدرية.

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : به: تعود على العذاب، أو البعث، أو الحساب، أو الرّسل، والملائكة.

{يَسْتَهْزِءُونَ} : ارجع إلى الآية (8) من سورة هود، والآية (11) من سورة الحجر؛ للبيان.

سورة النّحل [الآيات 35 - 42]

ص: 133

سورة النحل [16: 35]

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : أيْ: مشركو مكة، وغيرهم من الكفار.

{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ} : أيْ: من غيره من الآلهة، والأصنام؛ مثل: اللات، والعزى.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية؛ تشمل أيَّ شيء؛ كالآلهة، والأصنام، وعيسى، وعزير، والملائكة.

{نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} : أيْ: أنهم أشركوا بالله، ونسبوا ذلك إلى مشيئة الله تعالى بزعمهم دفاعاً عن شرعهم الباطل، وتقليدهم لآبائهم، ولو شاء الله لأجبرهم، وأقسرهم على عبادته وحده، وأنزل عليهم عذاباً من السّماء، أو آية؛ فالله سبحانه قادر، ولظلَّت أعناقهم لها خاضعين، ولكنه سبحانه لم يرد ذلك، بل خيرهم بعد أن بيَّن لهم الحق من الباطل، وأنذرهم بعاقبة أمرهم.

{وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ} : كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. ارجع إلى سورة المائدة، آية (103)؛ للبيان.

{كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : أيْ: كذبوا، وأشركوا، وحرموا، أو أحلوا، كما يشاؤون، وليس كما يشاء الله سبحانه.

{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : فهل: استفهام تقريري.

{الرُّسُلِ} : الأنبياء، والرّسل.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : أيْ: ما على الرّسل إلا تبليغ الرّسالة كاملة، وبشكل واضح.

ص: 134

سورة النحل [16: 36]

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد؛ أيْ: قد تحقق ذلك.

{بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} : بعثنا: من البعث، ولم يقل: أرسلنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان الفرق بين البعث، والإرسال.

{فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} : في: ظرفية؛ كقوله تعالى {وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].

{أُمَّةٍ} : جماعة من النّاس تجمعها عقيدة، أو ملَّة، أو شريعة بغضِّ النظر عن الكم، أو الحيِّز الجغرافي.

{رَسُولًا} : كلّ رسول نبي، وليس كلّ نبي رسولاً. ارجع إلى سورة النساء، آية (164)؛ لبيان الفرق بين الرّسول والنّبي.

{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} : أن: مصدرية تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{اعْبُدُوا اللَّهَ} : اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً.

العبادة: هي طاعة العابد للمعبود؛ فيما أمر ونهى، ولها منهج افعل، أو لا تفعل، ولها جزاء، ولا تكون إلا للخالق، ولا بُدَّ معها من معرفة المعبود.

{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} : الاجتناب: هو الابتعاد؛ أي: ابتعدوا عن عبادة الطّاغوت، أو طاعته، والاجتناب: أشد من التّحريم؛ أمّا الطّاغوت: فارجع إلى الآية (256) من سورة البقرة؛ للبيان.

{فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ} : تعود على أفراد الأمم المذكورة؛ من: ابتدائية بعضية؛ من: الثّانية تفيد التّوكيد.

{هَدَى اللَّهُ} : أي: استجاب لأوامر الله بالطّاعة، واجتناب الطّاغوت، ووحَّد الله، وطلب الهداية، واستعان بالله فوفَّقه الله تعالى وهداه.

{وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} : ومنهم مثل السّابقة من حقت عليه الضّلالة؛ أيْ: رفض الاستجابة لله وعبادة الله، ووحدانيته، وطاعته، وسار في طريق الكفر، والضّلالة، واستمر على ذلك؛ فوجبت له الضّلالة؛ أيْ: تركه الله تعالى في ضلاله يرتع ويلعب. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (30)؛ لمعرفة الفرق بين حقَّت عليه الضلالة، وحقَّ عليه الضلالة.

{فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : فسيروا: الفاء: تفيد التّرتيب، والمباشرة.

{فِى الْأَرْضِ} : في: ظرفية؛ لأنّ الأرض تعني: الأرض، وتشمل: الطّبقة الغازية الّتي حولها، ولم يقل: على الأرض سيروا في الأرض؛ للاعتبار، والاطلاع على آثار الأمم السّابقة، وخراب ديارهم، وهلاكهم، ولمعرفة الفرق بين فسيروا في الأرض، ثمّ سيروا في الأرض؛ ارجع إلى سورة آل عمران، آية (137).

{فَانْظُرُوا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ انظروا: نظرة عينية، وقلبية فكرية، ونظرة اتعاظ.

{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : كيف: للاستفهام، والتّعجب، والإنكار.

{كَانَ عَاقِبَةُ} : تذكير العاقبة باستعمال كان، وليس كانت؛ تعني: العذاب في كلّ القرآن الكريم؛ أمّا لو قال تعالى: كانت عاقبة بالتأنيث بدلاً من كان عاقبة؛ لدلَّت على الجنة، أو العاقبة الحسنة، أو الحسنى.

{الْمُكَذِّبِينَ} : بالرّسل، وبما أنزل الله من الآيات الكونية، والمعجزات، وآيات القرآن، والمكذبين: جملة اسمية تفيد ثبوت الكذب عندهم، وأنّه أصبح صفة ثابتة عندهم؛ مقارنة بالّذين كذبوا الّذين صفة الكذب عندهم تتجدَّد، أو تتكرَّر، وأحياناً يصدقون في أقوالهم.

ص: 135

سورة النحل [16: 37]

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :

{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} : تحرص: من الحرص: هو أشد الطّمع، والرغبة؛ فرغبة الرّسول صلى الله عليه وسلم في إسلام قومه، وهدايتهم كان شغله الشّاغل.

فجاءت هذه الآية: لتخبره أنّ حرصه وطمعه لن يجدي شيئاً لمن اختار لنفسه الضّلال، والسّير في طريق الكفر؛ فهؤلاء لا يهديهم الله، ويتركهم وشأنهم يفعلون ما يشاؤون.

{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} : فإن: الفاء: للتوكيد؛ إن: لزيادة التّوكيد.

{لَا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} : لا: النّافية؛ لا يهدي الله إلى صراطه (دينه)، وطاعته من اختار طريق الضّلالة، ويريد أن يضل، وابتعد، وضل ضلالاً بعيداً، ولم يعد هناك أمل في عودته.

{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} : وما: الواو: عاطفة؛ ما: النّافية.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{مِنْ} : استغراقية تشمل كلّ النّاصرين؛ أيْ: ما لهم يوم القيامة من أيِّ ناصر، أو من يدافع عنهم، أو يشفع لهم، أو يقدِّم لهم الفداء ولو كان له ملك الأرض، ولو افتدى به.

ص: 136

سورة النحل [16: 38]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} : من صفات المشركين، والمكذبين، والّذين لا يؤمنون بالآخرة؛ اعتقادهم أن البعث، والحساب أمر باطل، ولذلك يقسمون بالله جهد أيمانهم أغلظ الأيمان غير مصدقين بأنّ الله يبعث من يموت فهم يعتقدون اعتقاداً صادقاً مبنياً على الظّن، أو الباطل أنّه ليس هناك آخرة، أو حساب، أو بعث، ولم يقل: ويحلفون، وإنما قال: وأقسموا، والقسم غير الحلف. ارجع إلى سورة التوبة، آية (56)؛ للبيان.

{بَلَى} : بلى: هنا تنفي النّفي الّذي قبلها؛ فيكون معناها: بل يبعث الله من يموت؛ لأنها حرف جواب تختص بوقوعها بعد النّفي؛ فتجعله إثباتاً.

{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} : الوعد: هو الإخبار بشيء لم يأتِ زمنه بعد.

{حَقًّا} : من الحق، وهو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير الوعد عادة يستخدم في الخير، واستعمل هنا في التّهديد بدلاً من الوعيد في سبيل التّهكم، والاستهزاء بهم؛ لأن الوعد إذا أطلق يعني: الخير، وإذا لم يطلق قد يأتي بمعنى الشّر؛ للتهكم، والاستهزاء؛ كقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 138].

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن: للاستدراك، والتّوكيد. لا يعلمون: أنّ الله قادر على البعث، والنّشر، وهو أهون عليه، كما أكد ذلك في قوله تعالى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وكذلك قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

ص: 137

سورة النحل [16: 39]

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} :

{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} : ليبيِّن: اللام: لام التّعليل، والتّوكيد؛ يبيِّن لهم: لمنكري البعث، والحساب.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص.

{الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} : الّذي: اسم موصول؛ الّذي يختلفون فيه من أمر البعث، والحساب.

{يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} : ولم يقل: اختلفوا فيه؛ لأنّهم استمروا على الاختلاف، والتّكذيب به؛ حتّى يومنا هذا، وأصرُّوا على ذلك رغم كلّ البراهين، والآيات.

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : وليعلم: اللام: للتعليل، والتّوكيد؛ الّذين كفروا.

{أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} : أنّ: للتوكيد؛ كانوا في الدّنيا كاذبين في قولهم: لا يبعث الله من يموت.

ص: 138

سورة النحل [16: 40]

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} :

{إِنَّمَا} : للتوكيد والحصر.

{قَوْلُنَا لِشَىْءٍ} : اللام: لام الاختصاص؛ شيء: نكرة؛ أيِّ شيء ذكراً، أو أنثى، أو صغيراً، أو كبيراً، أو مهما كان نوعه، وشكله، وحجمه.

{إِذَا أَرَدْنَاهُ} : إذا: ظرفية للزمن المستقبل.

{أَنْ نَقُولَ لَهُ} : أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد، والتّعليل.

{لَهُ} : الهاء: تعود على الشّيء.

{كُنْ فَيَكُونُ} : أيْ: إذا أراد الله شيئاً ما، أو أمراً ما مهما كان فبمجرَّد الإرادة فقط يُخلق ذلك الشّيء، أو يقع؛ أيْ: يحدث، وسبحانه لا يحتاج في ذلك للقول للشيء، أو الأمر كنْ فيكون، ولا يحتاج إلى زمن للانتظار؛ لأنّ القول كنْ فيكون يحتاج إلى زمن فالله سبحانه هو خالق الزّمن، ولا يحتاج حتّى إلى زمن يقدر بزمن القول كنْ ليكون، وإنما ذلك لتقريب مسألة الخلق إلى أذهان البشر، وسرعة الاستجابة إلى إرادته.

ص: 139

سورة النحل [16: 41]

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} :

سبب نزول الآية: قيل: نزلت هذه الآية في نفر من الصّحابة في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم هاجروا إلى المدينة، وتركوا أموالهم، وديارهم ابتغاء مرضاة الله، كما رُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السّبب.

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} : الّذين اسم موصول يفيد المدح.

{هَاجَرُوا} : في سبيل الله، وليس لسبب آخر، والهجرة ترك الوطن، أو الدّيار في سبيل الدّعوة، وإقامة الدِّين، أو إعلاء كلمة الله، أو استجابة لأمر من الله ورسوله، وهناك فرق بين هجر، وهاجر، هاجر تعني: أُخرج من وطنه مكرهاً، ومن دون اختيار بسبب الاضطهاد، أو عدم استطاعة إقامة شعائر دينه، أما هجر؛ أيْ: ترك وطنه باختياره، ومن دون أن يكون مضطهداً مثلاً ترك وطنه مختاراً يبحث عن عيشةٍ، أو معاشٍ أفضل.

هاجروا في الله، ولم يقل: إلى الله؛ في الله؛ أيْ: كان أحدهم سابقاً مظلوماً، وصابراً يتحمل الأذى في سبيل دينه؛ فهو في حالة تشبه حالة الهجرة، ثمّ أُلجئ، أو اضطر إلى ترك وطنه؛ فهو كأنّه استمر في هجرته في الله؛ أيْ: سواء أقام في وطنه، أو تركه إلى وطن ثانٍ، هو في هجرة في الله جديدة.

أمّا إذا كان غير مضطهد، أو يتعرض لأذى، وطلب منه الهجرة؛ فهو يهاجر إلى الله.

{مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} : من: ابتدائية؛ أيْ: هاجروا من بعد أن ظُلموا مباشرة، ولم يكن هناك فاصل طويل بين الظّلم، والهجرة، ولو قال: بعد ما ظلموا لكان هناك فاصل زمنيٌّ طويل، أو قصير بين الظّلم، والهجرة، والفتنة: هنا في الدِّين؛ مثل الاضطهاد، والتّنكيل لكي يرتدُّوا عن دينهم.

{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} : لنبوئنَّهم: اللام: لام الاختصاص؛ أي: الاستحقاق، وقد تكون لام التّعليل، أو حتّى هناك من يقول: إنّها لام القسم، أو: الموطئة للقسم، أو: التّوكيد؛ نبوئنَّهم: ننزلهم، أو نسكننَّهم منازل ومساكن أفضل من منازلهم التي هجروها في سبيل الله وهي جنات الفردوس، جنات النعيم التي أعدت لهم مشتقة من فعل باء؛ أيْ: رجع. ارجع إلى الآية (87-93) من سورة يونس؛ للبيان.

{فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} : أيْ: لننزلنَّهم منزلة أحسن، وأفضل من الّتي كانوا عليها، ونرزقنَّهم رزقاً حسناً آمنين غير خائفين؛ أيْ: عندما يهاجروا إلى الله، أو في الله؛ هذا في الدّنيا. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمعرفة معنى الحسنة.

أمّا في الآخرة: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} : ولأجر: اللام: لام التّوكيد؛ أجر الآخرة: الجنة، ورضوان الله تعالى أكبر بكثير من أجر الدّنيا، بل هو أفضل، وأعظم.

{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : لو: شرطية.

{كَانُوا} : تعود إلى المهاجرين لجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم أكثر وأكثر، واجتهدوا في صبرهم في سبيل الله لنيل الأجر الأكبر فالأكبر، أو تعود إلى الكفار، والمشركين الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم، لو كانوا يعلمون ما سيُعطى لهؤلاء المؤمنين من الأجر؛ لتركوهم من دون أذى، أو لآمنوا معهم، أو قد تعود إلى المؤمنين الّذين لم يهاجروا، وفي هذا ترغيب للهجرة في سبيل الله، ونيل أجر الآخرة الأكبر.

ص: 140

سورة النحل [16: 42]

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} :

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : الّذين: اسم موصول؛ يفيد المدح، وتعود على الّذين هاجروا في الله.

{صَبَرُوا} : بصيغة الماضي؛ أيْ: فعلاً صبروا، وحدث منهم الصّبر على طاعة الله، وعلى أذى المشركين صبروا ابتغاء وجه الله وحده.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : قدَّم الجار والمجرور.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ} : للحصر، والتّوكيد؛ أيْ: فقط على الله وحده يتوكلون.

{يَتَوَكَّلُونَ} : يطلبون المساعدة، والعون من الله تعالى بعد تقديم الأسباب، وتوكلهم مستمر غير منقطع، ومتجدِّد، ويدل على ذلك كلمة يتوكلون جاءت بصيغة الفعل المضارع الدّال على التّجدُّد، والتّكرار. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لبيان معنى التّوكل.

سورة النّحل [الآيات 43 - 54]

ص: 141

سورة النحل [16: 43]

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَسْـئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} :

هذه الآية ردٌّ على سؤالهم: ولو شاء الله لأنزل ملائكة وإنكارهم أن يرسل الله بشراً رسولاً، ويريدون ملكاً رسولاً.

{وَمَا} : الواو: استئنافية؛ ما: النّافية.

{أَرْسَلْنَا} : بصيغة الجمع؛ للتعظيم؛ أرسلنا: تعني: بمنهج جديد، أو رسالة جديدة، وهناك فرق بين أرسلنا، وبعثنا. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ للبيان.

{إِلَّا رِجَالًا} : إلا: أداة حصر.

{رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ} : رجالاً: لها عدة معانٍ:

الأول: أي: لن يرسل ملائكة، كما يطلبون.

الثّاني: فيها دلالة على أنّ النّبوَّة لا تكون إلّا في الرجال فقط، ولا تكون في النّساء.

الثالث: رجالاً نحن نختارهم، ولستم أنتم، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

الرابع: يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق رداً على قولهم:{مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7].

{نُّوحِى إِلَيْهِمْ} : الوحي: هو إعلام بخفاء، وشرعاً: هو ما يلقي الله على أنبيائه ورسله من تكاليف، وتعاليم دينية، وآيات ووعد ووعيد، ويكون بإرسال رسول؛ كجبريل، أو التكلُّم من وراء حجاب، أو غيره من الوسائل. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان.

{فَسْـئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} : فاسألوا أيها المشركون أهل الذّكر من مؤمني أهل الكتاب؛ مثل عبد الله بن سلام، أو سلمان الفارسي، أو علماء التّوراة والإنجيل؛ مثل: ورقة بن نوفل، وقيل: أهل الذّكر أيضاً أهل القرآن عن الرّسل الّذين جاؤوا قبل محمّد صلى الله عليه وسلم، هل كانوا إلّا بشراً، وما جاؤوا به الحق من ربهم، أو اسألوا أهل الذكر من هو النّبي المنتظر.

{إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} : إن: شرطية تفيد الشّك، والاحتمال.

ص: 142

سورة النحل [16: 44]

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} :

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} : أرسلناهم بالبينات، جمع بيِّنة؛ أيْ: بالحجج الواضحة الدّالة على صدق دعواهم، والمعجزات، والآيات.

{وَالزُّبُرِ} : الكتب السّماوية السّابقة. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لبيان معنى: الزّبر.

{وَأَنزَلْنَا} : أيْ: جملة واحدة، أو دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، بينما نزلنا تعني: بالتدرج على دفعات خلال (23) عام، ونزلنا: جاءت في سياق التوكيد والاهتمام.

{إِلَيْكَ} : إلى: تفيد عموم الغايات؛ أيْ: للتبليغ، والإيصال إلى النّاس. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمعرفة الفرق بين إليك وعليك.

{الذِّكْرَ} : القرآن، وسمِّي الذكر؛ لأنّه تذكرة لمن يخشى؛ لأنّه هو الشرف، والرفعة لهذه الأمة إليك، ولم يقل: عليك. ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة، وسورة ص آية (1).

{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} : لتبيِّن: اللام: للتعليل.

{لِلنَّاسِ} : اللام: للاختصاص؛ أيْ: توضح، وتشرح لهم.

{مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} : من الأحكام، والشّرائع، والحرام، والحلال.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} : لعل: أداة للتعليل.

{يَتَفَكَّرُونَ} : أيْ: ينظرون في البينات، والدّلائل للوصول إلى أنّ محمّداً حقٌّ، وأنّ القرآن حقٌّ؛ فيؤمنوا به. ارجع إلى الآية (11) من نفس السّورة.

ص: 143

سورة النحل [16: 45]

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} :

{أَفَأَمِنَ} : الهمزة: استفهام توبيخي.

{الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} : الّذين: اسم موصول.

المكر: هو التّدبير الخفي الّذي يقوم به الماكر؛ لإلحاق الضّرر بالممكور به، ومن دون علمه.

الّذين مكروا السّيئات: هم مشركو، وكفار مكة؛ مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، وحاولوا سحره.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد.

{يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} : الخسف: هو أن تنشق الأرض، وتبتلعهم، كما حدث لقارون. يخسف بهم؛ أيْ: وحدهم لا غيرهم.

{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} : أيْ: من أيِّ جهة لم تخطر على بالهم، ولم يأخذوا حذرهم، ويحتاطوا كما حدث لقوم لوط.

ص: 144

سورة النحل [16: 46]

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} : أو: للتخيير.

{يَأْخُذَهُمْ} : يهلكهم، ويحل بهم العذاب.

{فِى تَقَلُّبِهِمْ} : من التّقلب: وهو الانتقال من مكان إلى مكان للتجارة، أو للسفر، أو حين ممارستهم لأعمالهم اليومية طلباً للرزق، أو ذهابهم، ومجيئهم، والتّقلب قد يعني: من حال إلى حال، والتّقلب: مظهر من مظاهر القوة، وفي تقلبهم يعني: وهم على استعداد، أو غير استعداد، أو على حذر، أو غير حذر.

{فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} : فما: الفاء: للتوكيد؛ ما: النّافية.

{هُمْ} : للتوكيد.

{بِمُعْجِزِينَ} : الباء: للإلصاق، وتوكيد النّفي؛ معجزين: فائتين من العذاب؛ معجزين مشتقة من أعجزه: هرب منه؛ أيْ: فاته ولم يقدر عليه، ويغلبه، ويقهره؛ فالله قادر على اللحاق بهم، والقضاء عليهم أينما كانوا.

ص: 145

سورة النحل [16: 47]

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{عَلَى تَخَوُّفٍ} : أو على خوف؛ أيْ: وهم يتوقَّعون أن يحل بهم العذاب، أو هم على مخافة، وحذر، واستعداد، أو مختبئون في الملاجئ، أو في البروج المشيدة، أو يحدث بشكل تدريجي؛ أي: يرون العذاب قادماً نحوهم بعد أن أهلك ما حولهم، وقيل: التّخوف الفزع من شيء لم يحدث بعد، فهو يتصوَّره بألوان شتى، ومخاوفَ، وخيالاتٍ مختلفة.

{فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ} : فإن: الفاء: للتوكيد.

{رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ} : لرؤوف: اللام للتوكيد؛ رؤوف: مشتقة من الرّأفة، والرّأفة: أخص من الرّحمة، أو الرّأفة أشد من الرّحمة، ومنهم من قال: أنّها تخص المؤمنين، ورؤوف من رأف به؛ أيْ: أشفق عليه بأن دفع عنه السّوء، أو كره أن يحل به مكروه.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير الرّحمة، والرّحمة قد تشمل المؤمن، والكافر في الدّنيا؛ فلا يعجل لهم العقاب، أما في الآخرة: فهي خاصة بالمؤمن فقط.

ص: 146

سورة النحل [16: 48]

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} :

{أَوَلَمْ يَرَوْا} : تعود على الّذين مكروا السّيئات؛ فبعد أن خوفهم، وحذرهم الله سبحانه بالخسف، أو أخذِهم، وإهلاكهم؛ جاءت هذه الآية تذكرهم بالقدرة الإلهية، وعظمة الخالق الّذي خلق لهم ما يتفيأُ ظلاله، ويسجد له ما في السّموات والأرض.

{أَوَلَمْ يَرَوْا} : أولم: الهمزة: للاستفهام، والتّعجب، والتّوبيخ، والواو: تفيد التّوكيد، والانتظار.

{يَرَوْا} : رؤية عقلية، فكرية، ورؤية بصرية.

{إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، وأوسع شمولاً من الذي.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: ابتدائية، واستغراقية؛ تستغرق كلّ شيء.

{شَىْءٍ} : اسم جنس لكلّ شيء خلقه اللهُ.

{يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ} : من فاء؛ أيْ: رجع فالظّل المتحرك يسمَّى الفيء؛ لأنّه يعود إلى الشّمس؛ أيْ: أصله ناشئ عن حجب حزمة من أشعة الشّمس؛ فهناك أشعة غير قادرة على الاختراق، وأشعة قادرة؛ فالأشعة غير القادرة: تسبب الفيء بسبب عدم قدرتها على اختراق جسم كثيف كالجبال، والأشجار، والإنسان، والحيوان. ارجع إلى سورة يس آية (56) لمزيد من البيان في معنى الظل.

{عَنِ الْيَمِينِ} : جاءت بالإفراد: من الصّبح إلى الظّهر من حين تطلع الشّمس من جهة المشرق يكون الظّل على يمين الشّيء (ويدوم ذلك من الصّباح إلى وقت الظّهر)، والظّل يضمحل، ويضمحل حتّى يأتي وقت الظّهر وقت الزّوال (زوال الظّل).

{وَالشَّمَائِلِ} : جمع شمال، من الظّهر إلى المغرب يكون الظّل على شمال، أو يسار الشّيء، والظّل يزداد، ويزداد؛ فعبر عن الزّيادة بالجمع؛ جمع الشمائل.

{سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} : سُجّداً: تعود على ظلال كل شيء بما فيه ظل الكفار. سجداً؛ أيْ: خضوعاً. السّجود: هو الخضوع، وقيل: سجودها يعني: ميلها، ودورانها؛ أيْ: إذا مالت، وتغيرت من جانب إلى جانب، أو طالت، أو قصرت. وقيل: هو سجود حقيقي؛ فالله سبحانه قادرٌ على فعل ذلك، والظّل: آية من آيات الله الكونية الّتي تخضع لربها.

{وَهُمْ دَاخِرُونَ} : صاغرون، ذليلون؛ من دَخر يدخرُ: صَغُر، وذل، كما نرى الكفار والمشركين عندما يصابون بالمرض، أو البأساء، والضراء، والأوبئة، والكوارث الجوية

وغيرها.

ص: 147

سورة النحل [16: 49]

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} :

{وَلِلَّهِ} : تقديم الجار والمجرور؛ اسم الجلالة للحصر؛ أيْ: له وحده يسجد.

{مَا فِى السَّمَاوَاتِ} : ما: لغير العاقل، وصفات العاقل، وما: أوسع استعمالاً من (من في السّموات والأرض)، ما في السّموات كظرف، وكمظروف.

{وَمَا فِى الْأَرْضِ} : من جبال، وشجر، وحيوان، وحجر

وغيرها من المخلوقات. وما في الأرض كظرف، وما فيها كمظروف؛ الكلّ يسجد.

{مِنْ دَابَّةٍ} : من: استغراقية.

{دَابَّةٍ} : اسم جنس؛ تشمل كلّ دابة تدب على الأرض، وتشمل الإنسان أيضاً.

والسّجود قد يعني: الخضوع، أو يعني: السّجود الحقيقي، أو يعني الصلاة، كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26]، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، وإذا لم يسجد الكافر السّجود الطّوعي؛ فهو يسجد سجود الخضوع رغماً عن أنفه حين مرضه، أو فقره، أو موته، أو مصيبته؛ فليس في الكون شيء يخرج عن إرادة الله تعالى، وأمره.

{وَالْمَلَائِكَةُ} : فالملائكة لا تدب في السّموات، ولا يقال لهم دابة؛ فهم يتحركون بأجنحتهم، ولذلك قال: من دابة، والملائكة، وقوله: من دابة والملائكة: فيه عطف الخاص (الملائكة) على العام (من دابة)؛ للتوكيد على أن هناك بعض المؤمنين الذين يمشون على الأرض قد تصل منزلتهم منزلة الملائكة، أو أفضل من الملائكة، وهناك من البشر من هم كالأنعام أو الدواب، أو أضل.

{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} : وهم: ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ لا: النّافية.

{يَسْتَكْبِرُونَ} : لا: يتكبرون عن عبادة ربهم، والسّجود له. ارجع إلى الآية (29) السّابقة من نفس السّورة؛ لبيان معنى: التكبر.

ص: 148

سورة النحل [16: 50]

{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} :

ولما كان الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فلماذا يخافون ربهم؟

{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} : الخوف: هو توقع الضرر المشكوك في وقوعه؛ هذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة للملائكة هو خوف من التّقصير، أو خوف مهابة، وإجلال، وتعظيم دون ذنب، ودون تقصير.

{مِنْ فَوْقِهِمْ} : الفوقية هنا فوقية المكانة (المنزلة) على العرش استوى.

وفوقية: المكان فالله سبحانه منزَّه أن يحيطه مكان وزمان؛ لأنّ المكان والزّمان من خلقه؛ أيْ: هو خالق الزمان، والمكان.

{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} : مثلاً: التّسبيح، والحمد؛ يسبحون الليل، والنّهار لا يفترون، ويستغفرون للذين آمنوا، ويفعلون ما يؤمرون فيها؛ حذف، أو إيجاز أصلها يفعلون ما يؤمرون، ويجتنبون ما يُنهون عنه.

ص: 149

سورة النحل [16: 51]

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ} :

{وَقَالَ اللَّهُ لَا} : لا: النّاهية.

{تَتَّخِذُوا} : لا تجعلوا، لا تعبدوا، لا تصيِّروا معي شريكاً.

{إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} : الإله المعبود؛ أيْ: لا تعبدوا إلهين.

{اثْنَيْنِ} : توكيد لأمر التّوحيد.

{إِنَّمَا هُوَ} : إنما كافة، ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد.

{إِلَهٌ وَاحِدٌ} : معبود واحد، لا يتجزأ ليس له ولد، ولا يتجزأ، ويصبح اثنين، وأمّا قوله: أحد؛ فيعني: لا مثيل له، ولا يشبه أحد؛ لله وحده الألوهية، والوحدانية، والربوبية. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{إِلَهٌ وَاحِدٌ} : إله: صفة ثابتة.

{وَاحِدٌ} : تأكيد للصفة الثّابتة وهي إلهٌ (صفة مؤكدة).

{فَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ} : الرّهبة: هي طول الخوف، واستمراره مع العلم بالذي تخافه، ويقال للراهب راهب؛ لأنّه يديم الخوف، والتّوخي، والحذر؛ فإياي فارهبون: يفيد القصر؛ أيْ: لا تخافوا غيري؛ فإياي فارهبون: بدلاً من فإياه فارهبون (حول صيغة الغيبة إلى المخاطب)؛ لأنّ الرّهبة من المتكلم خير من الرّهبة من الغائب، والرّهبة كما قلنا الخوف، والحذر، والعلم بمن تخافه وتعظمه.

ص: 150

سورة النحل [16: 52]

{وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} :

{وَلَهُ} : اللام: لام الملكية، والاختصاص؛ له: تقديمها يفيد الحصر؛ أيْ: له وحده.

{مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ما: للعاقل، وغير العاقل.

{فِى} : ظرفية.

{السَّمَاوَاتِ} : السبع: كظرف ومظروف؛ أي: له ملكية السموات السبع وما فيها.

{وَالْأَرْضِ} : ذاتها كظرف ومظروف، وملكية الأرض وما فيها.

{وَلَهُ} : وتكرار له يفيد التّوكيد، وفصل كلاً من الأمرين الملكية، والدِّين واصباً، وله وحدَه:

{الدِّينُ وَاصِبًا} : واصباً: دائماً، وثابتاً لا يتغيَّر، ولا يتبدَّل، أو له الدِّين الخالص.

{الدِّينُ} : الطّاعة، والخضوع له الدِّين، والخضوع دائماً وأبداً، أو الطّاعة واجب له. ارجع إلى سورة آل عمران آية (19) لبيان معنى الدِّين.

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} : أفغير: الهمزة: همزة استفهام للإنكار، والتّوبيخ؛ أفغير الله تطيعون، أو تعبدون، والتّقوى: هي تنفيذ أوامر الله سبحانه، وتجنب نواهيه.

ص: 151

سورة النحل [16: 53]

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ} :

{وَمَا بِكُمْ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي؛ بكم: خاصة. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{مِنْ نِّعْمَةٍ} : من: استغراقية تشمل كلّ نعمة ظاهرة وباطنة.

{نِّعْمَةٍ} : نكرة تعني: صغيرة، أو كبيرة، ومهما كان نوعها، والنّعمة تعريفها: هي ما يهبه الله لعبده من خير يجلب له المسرة، ويدفع عنه المضرة، وتشمل الصّحة، والغنى، والخصب، والجاه

وغيرها.

{فَمِنَ اللَّهِ} : فمن: الفاء: للتوكيد؛ من: ابتدائية؛ من الله سبحانه المنعم.

{ثُمَّ} : لتباين منزلة النّعمة، والضّر.

{إِذَا} : ظرفية زمانية تتضمن معنى الشّرط، وتفيد حتمية الحدوث.

{مَسَّكُمُ الضُّرُّ} : المس: أخف من اللمس مجرد المس؛ أي: الإصابة الخفيفة؛ أي: أصابكم الضّر، ولو إصابة خفيفة. الضُّرُّ: سوء الحال والمرض، وهو أشد من الأذى، ويكون في النفس أو غيرها.

{فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ} : إليه وحده تجأرون: من جأر: رفع صوته بالدعاء تضرعاً؛ أيْ: ترفعون أصواتكم بالدّعاء، والاستغاثة؛ لكشف الضّر عنكم، وهذا يدل على تصوير حقيقة الإنسان الذي إذا مسه أدنى ضر يضيق صدره، وينفد صبره، ويجأر إلى الله لأدنى أذى.

ص: 152

سورة النحل [16: 54]

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب الزّمني، والتّراخي، أو لتباين منزلة الإصابة، والكشف.

{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث، أو كثرته، كشف الضّر.

{كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ} : رفع البلاء، والضّر: يشمل الفقر، والمرض، والجدب، والأوبئة، والكوارث.

{إِذَا} : الفجائية.

{فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ} : فريق جماعة منكم، وليس الكلّ.

{بِرَبِّهِمْ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد بعد أن كشف الضّر عنهم يعودون لما كانوا عليه.

{يُشْرِكُونَ} : يجعلون معه شريكاً وندّاً، وتدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار في الشرك.

سورة النّحل [الآيات 55 - 64]

ص: 153

سورة النحل [16: 55]

{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} : ليكفروا: اللام: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي، وأوسع شمولاً من الذي، والكفر يعني: كفر العقيدة، وإنكار وجود الخالق ووحدانيته، أو جحد النّعمة، وسترها، وإنكار المنعم.

{آتَيْنَاهُمْ} : من الإيتاء: وهو العطاء، ولمعرفة الفرق بينهما: ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.

ليكفروا: بنعمنا، أو ليجعلوا ما أنعمنا عليهم سبباً للكفر، والشّرك، أو كلا الأمرين؛ كقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]؛ فهم من جهة جحدوا بأنّ الله أنعم عليهم، ولم يشكروه على نعمه، ولم يكتفوا بذلك، بل صيَّروا هذه النّعم سبباً في الإسراع، والزّيادة في الكفر.

{فَتَمَتَّعُوا} : الفاء: للتوكيد، والتّعقيب؛ التّمتع: الانتفاع، والاستمتاع باللذة العاجلة.

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : فسوف: الفاء: للتوكيد؛ سوف: أداة للاستقبال البعيد، والتّراخي؛ أيْ: يوم القيامة، أو في الآخرة.

{تَعْلَمُونَ} : عاقبة كفركم، أو شرككم، أو جحدكم لنعم الله؛ كقوله تعالى:{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزّمر: 8]، وفي الآية تهديد ووعيد.

انتبه إلى التّحول من صيغة الغائب ليكفروا بما آتيناهم إلى صيغة المخاطب: فتمتعوا فسوف تعلمون؛ لأنّ المخاطبين في هذه الآية قسم غائب، وقسم حاضر.

قارن هذ الآية مع الآية (66) من سورة العنكبوت: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : الكلّ في هذه الآية من الغائبين.

ص: 154

سورة النحل [16: 56]

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} :

{وَيَجْعَلُونَ} : من الجعل، ويعني: التّصيير، ولم يقل: وجعلوا. يجعلون: بصيغة المضارع؛ للدلالة على التّكرار، والتّجدُّد، والاستمرار في الجعل، والفاعل: يعود على الّذين كفروا، والمشركين من أهل مكة

وغيرهم.

{لِمَا} : اللام: لام الاختصاص، أو الملكية؛ ما: للعاقل، وغير العاقل.

{لَا} : النّافية.

{يَعْلَمُونَ} : أيْ: للأصنام أو الأوثان التي اتخذوها آلهة، وهم لا يعلمون، وهي لا تعلم أيضاً، فهم لا يعلمون أنّ لها ضراً، ولا نفعاً، ولا حساً، ولا معرفة، ولا تبصر، ولا تسمع، والأصنام الّتي لا تعلم شيئاً عن حالتهم، وما هم فيه، والتي لا تعلم ما يقولون، أو يفعلون؛ فهذا يدل على غباوتهم وسفاهة عقولهم.

{نَصِيبًا} : نصيباً: أيْ: قسماً جزءاً.

{مِمَّا} : من: البعضية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي وهي أوسع شمولاً.

{رَزَقْنَاهُمْ} : كصدقة للإلهة من المال ومن الحرث، والأنعام، والبحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام؛ كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].

{تَاللَّهِ} : التّاء: تاء القسم، وهي مخصصة للفظ الجلالة فيها معنى التّفخيم، وهي أشد أدوات القسم؛ أيْ: أوكدها.

{لَتُسْـئَلُنَّ} : اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد؛ تسألنَّ: من السّؤال يوم القيامة هو سؤال توبيخ لهم.

{عَمَّا كُنتُمْ} : عن: تفيد المجاوزة، والمباعدة؛ ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{كُنتُمْ} : في الدّنيا.

{تَفْتَرُونَ} : الافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق من أمر الأصنام، والآلهة. والافتراء على الله: بأن له ولد، أو شريك، أو صاحبة، أو أحل هذا، أو حرم ذلك، وهو لم يحل، أو يحرم.

ص: 155

سورة النحل [16: 57]

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} :

{وَيَجْعَلُونَ} : ارجع إلى الآية السّابقة، ويجعلون؛ أيْ: يعتقدون أنّ الملائكة بنات الله سبحانه.

{لِلَّهِ} : اللام لام الاختصاص.

{الْبَنَاتِ} : قيل: نزلت هذه الآية في قبيلة خزاعة، وكنانة؛ حيث زعموا أنّ الملائكة بنات لله سبحانه وتعالى عما يشركون. ارجع إلى سورة الزخرف آية (19) لمزيد من البيان.

{سُبْحَانَهُ} : أيْ: هو منزَّه عما يفترونه، ومبرَّؤٌ منه، وحاشا لله أن يكون له ولد، ولا بنت؛ تنزيهاً لذاته، وصفاته، وأسمائه من الشّريك، والولد، والولي، والبنت

وغيرها.

{وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} : ولهم: اللام: لام الاختصاص، والملكية.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{يَشْتَهُونَ} : أي: البنين، أو ما يختارون؛ أيْ: ويجعلون لله ما يكرهون؛ أي: البنات سبحانه، ولهم ما يشتهون (ما يختارون) من البنين، والأنعام، والحرث.

ص: 156

سورة النحل [16: 58]

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل متضمِّن معنى الشّرط.

{بُشِّرَ أَحَدُهُمْ} : بُشر: من البشارة، وهي الخبر السّار نسمعه لأول مرة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119).

{بِالْأُنثَى} : أيْ: أُخبر أحدهم من المشركين، أو كفار مكة، أو العرب بأنّه قد ولِدَ له بنت.

{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} : ظل: بمعنى: صار وجهه، أو تغير وجهه، وأصبح مسوداً كناية عن الكآبة، والحزن، والحياء من النّاس.

{وَهُوَ كَظِيمٌ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{كَظِيمٌ} : ممتلئ غمّاً وحزناً وغيظاً؛ أيْ: كاظم غيظه من دون إظهاره، ولكنه يكاد ينفجر، أو يظهر ما في نفسه من الغيظ، واستخدم كلمة بُشر؛ لأنّ الأنثى في الحقيقة كالولد هي بشارة.

ص: 157

سورة النحل [16: 59]

{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :

{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ} : يستخفي من القوم، ولا يريد أن يظهر أمامهم غيظه، ووجهه المسود.

{مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} : من: ابتدائية للتعليل.

{سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} : يعتبر الأنثى أمراً سيئاً، يُسيء إليه فقد تجلب له العار عندما تكبر، أو تصبح سبباً للفقر، أو غيرها من ظنون الجاهلية الباطلة.

{أَيُمْسِكُهُ} : الهمزة: للاستفهام، أيبقيها حية.

{عَلَى هُونٍ} : على مذلة، والهُون: هو الهوان الذل والعار، وقد يعني: الحيرة، والتّردُّد، وأما الهَون: بفتح الهاء تعني التواضع والتؤدة.

{أَمْ} : أم: للإضراب الانتقالي.

{يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ} : الدّس: هو إخفاء الشّيء في الشّيء؛ أيْ: يدفن بنته، وهي حية (يئدُها)، وسماها سبحانه الموءودة: البنت التي تدفن حية. ارجع إلى سورة التكوير آية (8).

{أَلَا} : أداة تنبيه.

{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} : ساء من أفعال الذّم والتّحقير؛ أيْ: قبح، أو بئس ما يحكمون.

{مَا} : مصدرية.

{يَحْكُمُونَ} : من الحكم، وهو القضاء، ساء ما يحكمون بتفضيل الذّكر على الأنثى، وساء ما يحكمون بنسبة البنات لله، ولهم ما يشتهون، وأنّها افتراءات باطلة من أحكام الجاهلية الفاسدة.

ص: 158

سورة النحل [16: 60]

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ الّذين: اسم موصول يفيد الذّم.

{لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : لا: النّافية. لا يؤمنون بالآخرة؛ أيْ: لا يصدقون بالبعث، والحساب، والجنة، والنّار. الباء: للإلصاق والمصاحبة.

{مَثَلُ السَّوْءِ} : أيْ: صفة النّقص، وهي الحاجة إلى الأولاد، والذّكور، وكيف يعاملون البنات خشية الإملاق بالوأد، أو الإمساك على الهُون.

{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} : تقديم الجار والمجرور ويفيد الحصر والتّوكيد، المثل الأعلى: لكونه منزهاً عن الولد، والشّريك، والصّاحبة، ومنزه عن صفات المخلوقين فله الكمال المطلق، والتّنزيه، والتّقديس.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُغلب، ولا يُقهر، والممتنع لا يضره أحد من خلقه.

{الْحَكِيمُ} : في تدبير شؤون خلقه، وكونه؛ فهو أحكم الحاكمين القاضين، والمشرعين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ لمزيد من البيان.

ص: 159

سورة النحل [16: 61]

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} :

{وَلَوْ} : حرف امتناع لامتناع.

{يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم} : يؤاخذ؛ أيْ: يجازي يعاقب، أو يعاجل الخلق بالعقوبة.

{بِظُلْمِهِم} : الباء: للإلصاق؛ باء: السّببية، أو البدلية؛ أيْ: بسبب ظلمهم (شركهم)، ومعاصيهم، وقولهم الملائكة بنات الله، وعبادتهم الأصنام، ووَأْدهم البنات، أو خروجهم عن منهج الله تعالى؛ فكل من يخرج عن منهج الله تعالى هو ظالم لنفسه.

{مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} : ما: النّافية.

{تَرَكَ عَلَيْهَا} : على الأرض.

{مِنْ} : استغراقية تشمل كلّ دابة؛ أيْ: لأهلك جميع من في الأرض، أو لأصاب العذاب كلّ إنسان، وحيوان، وجن، ولا يبقى على ظهرها مخلوق.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك، وتوكيد.

{يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : بالعفو، والصّفح، والفضل؛ لكونه حليماً، وغفوراً؛ يمهل ولا يهمل.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إما الموت (انقضاء أجلهم؛ أيْ: أعمارهم)، أو إلى أن يحل العذاب بهم، وهم لا زالوا أحياء، أو يوم القيامة.

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً} : فإذا: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ إذا: ظرف للزمن المستقبل.

{جَاءَ أَجَلُهُمْ} : انقضى أجلهم، وجاء زمن قبض أرواحهم، أو جاء زمن هلاكهم.

{لَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً} : أيْ: إذا جاء أجلهم لا يؤخَّر ساعة، ولا أقل من ذلك، وقدم يستأخرون؛ لأن الإنسان يرغب بتأخير أجله (الموت).

{وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} : أيْ: وإذا لم يجئْ أجلهم لا يستقدمون. ارجع إلى سورة يونس، آية (49)؛ لمزيد من البيان.

ص: 160

سورة النحل [16: 62]

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} :

{وَيَجْعَلُونَ} : ارجع إلى الآية (56).

{لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} : ما يكرهون: هو البنات، ويجعلون لله البنات كما يزعمون (الملائكة بنات الله) [الزخرف: 19]، والشّريك في الألوهية، وما يكرهون من الحرث، والأنعام. ارجع إلى سورة الأنعام آية (136)، وآية (138-139).

{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} : أيْ: تقول ألسنتهم الكذب، أو يدَّعون باطلاً، ولا تكتفي بذلك، بل تصور الكذب بصوره المتعددة لتزينه للآخرين.

{أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} : أنّ: للتوكيد.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص، والملكية.

{الْحُسْنَى} : الجنة، أو الجزاء الحسن، أو الأولاد الذّكور، الحسنى: تأنيث الأحسن.

{لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} : لا جرم: لا بد، أو لا محالة، وبعد أن كثر استعمالها أصبحت بمعنى: حقاً، كما قال الفراء. جرم؛ أي: لا بُدَّ أنّ لهم النّار، أو لا محالة، أو حقاً لهم النّار.

{أَنَّ} : حرف مصدري يفيد التّعليل، والتّوكيد.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق. ارجع إلى الآية (23) السّابقة من نفس السّورة.

{وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} : أنّ: للتوكيد.

{مُّفْرَطُونَ} : متركون في النّار منسيون؛ من أفرطه: إذا نسيه، وتركه، ولم يلتفت إليه؛ أيْ: حقاً أنّ لهم النّار، وأنّهم متركون فيها، أو منسيُّون فيها. وقيل: مفرطون؛ أيْ: معجلون إلى النّار، ومتركون فيها منسيُّون.

ص: 161

سورة النحل [16: 63]

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{تَاللَّهِ} : التّاء: تاء القسم؛ تفيد التّوكيد، فيها معنى التّعجُّب، والتّفخيم، يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله، وهي أشد القسم (التاء والباء والواو واللام)

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} : أرسلنا رُسلاً إلى أمم من قبلك؛ فكذبت الأمم رُسُلها. من: الابتدائية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لتبيان معنى الإرسال.

{فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} : بالوسوسة، والإغراء، والتّزيُّن، وهو تجميل وتحسين الكفر، والشّرك (عبادة الأوثان) في أعينهم.

{فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} : وليهم اليوم؛ أيْ: ناصرهم في الدّنيا، أطلق على زمان الدّنيا يوم، وإذا كان المقصود يوم القيامة؛ فيكون معناه: قرينهم اليوم في النّار؛ أيْ: معهم في النّار.

{وَلَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام، لا يقدر عليه أحد.

ص: 162

سورة النحل [16: 64]

{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} : ما: النّافية.

{أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} : ولم يقل: إليك؛ لمعرفة الفرق بين عليك، وإليك: ارجع إلى سورة البقرة، آية (4)؛ للبيان.

{الْكِتَابَ} : القرآن.

{إِلَّا} : حصراً.

{لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} : اللام: لام التّعليل، والاختصاص.

{لِتُبَيِّنَ لَهُمُ} : أيْ: توضح، وتشرح لهم، وهذا من واجباتك، ولذلك قال عليك.

{الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ} : من التّوحيد، والإشراك، والهدى، والضّلال، والتّحليل، والتّحريم، والحق، والباطل، والبعث، والجزاء، أو سائر الأحكام الشّرعية.

{وَهُدًى} : ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة؛ مصدر هداية، أو هو الهدى بذاته.

{وَرَحْمَةً} : رحمة لمن اتبعه؛ أيْ: يجلب ما يسر، ويدفع ما يضر، ويقي من الوقوع في الشّر والمعصية. إذن ليس فقط للتبيان، وكذلك هدى ورحمة، وفي الآية (102) من نفس السورة قال تعالى:{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} بالفوز بالجنة، والنجاة من النار.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: هذا القرآن هدى ورحمة خاصة بمن آمن بالله وحده، ورسوله، وصدق به، وعمل صالحاً.

{يُؤْمِنُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد، واستمرار إيمانهم.

سورة النّحل [الآيات 65 - 72]

ص: 163

سورة النحل [16: 65]

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} :

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : من السّحاب ماءً؛ أيْ: ماء المطر، وكلّ ما يعلو الإنسان يسمَّى سماء؛ فالسّحاب سماء، ويعني: من السّحب الركامية. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (99).

{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : فأحيا: الفاء: للترتيب، والتّعقيب.

{بَعْدَ مَوْتِهَا} : أيْ: بعد أن كانت جدباء لا زرع فيها، ولا حب. بعد موتها: أيْ: أحياها بعد فترة طويلة، أو قصيرة من زمن موتها بالزّرع، والشّجر، وإخراج الثّمر، وليس مباشرة، ولو قال من بعد موتها؛ أي: من دون تراخٍ في الزّمن؛ يعني: مباشرة بدون مهلة أو فترة كما ورد في سورة العنكبوت آية (63){فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} . ارجع إلى سورة الحج، آية (5، 63)، وفصلت، آية (39)؛ للبيان المفصل.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً} : إن: للتوكيد.

{فِى ذَلِكَ} : الإحياء.

{لَآيَةً} : اللام: للتعليل؛ آية: دليل، وبرهان محسوس على قدرته تعالى وعظمته.

{لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} : هذا المطر، أو الماء يُرى بالعين، وقليلاً ما يسمع صوته، ورغم ذلك قال سبحانه:{لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ؛ لأنّ الله سبحانه يريد أن ينتقل بنا من آية ترى بالعين إلى آية تسمع بالأذن؛ لأننا أمام فهم يحتاج إلى السّمع، والبصر معاً.

ص: 164

سورة النحل [16: 66]

{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِمَّا فِى بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} :

وهذه الآية الأخرى دليل محسوس على قدرة الله تعالى في عالم الحيوان.

{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الْأَنْعَامِ} : وإن: للتوكيد.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكم خاصة أيها النّاس.

{فِى} : ظرفية.

{الْأَنْعَامِ} : ثمانية أزواج من الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين.

{لَعِبْرَةً} : اللام: لام التّعليل؛ عبرة: مشتقة من العبور، وهو الانتقال من طرف إلى طرف من طرف الجهل إلى طرف العلم، والعبرة: الدّلالة الموصلة إلى اليقين، أو الآية الّتي يُعْبَرُ بها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم.

{نُّسْقِيكُم مِمَّا فِى بُطُونِهِ} : نسقيكم: نسب السقيا إلى ذاته الكريمة لأهمية وعظم فائدة هذه السقيا، والتي تدل على رحمة الرب بعباده حتى يسقيهم بذاته؛ بطونه: التذكير يدل على القلة؛ لأن هذه الآية تتحدث عن إسقاء اللبن، واللبن؛ أي: الحليب يخرج من قسم من إناث الأنعام؛ هذا القسم الذي يعطي اللبن من الإناث هو قسم قليل مقارنة بعدد الأنعام عامة، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (21) من سورة المؤمنون، وهي قوله تعالى:{نُّسْقِيكُم مِمَّا فِى بُطُونِهَا} التأنيث يدل على الكثرة إذا قارنا عدد إناث بشكل عام بعدد الأنعام؛ الهاء: تعود على إناث الأنعام، ولم يقل مما في بطونها. انظر إلى الفرق بين بطونه وبطونها في نهاية الآية.

{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} : من: ابتدائية.

{بَيْنِ فَرْثٍ} : الفرث: هو الطّعام المهضوم المختلط بعصارات الهضم

وغيرها، والجاهز للامتصاص من جدر الأمعاء.

{وَدَمٍ} : بعد امتصاص الفرث ينتقل بالدّم، ويصبح كريه المنظر، والرّائحة؛ ينتقل إلى الثديين، وكل ثدي رباعي التركيب؛ كلّ ربع يعمل مستقلاً لإنتاج وتخزين اللبن بواسطة الغدد اللبنية المتصلة بالشعيرات الدموية المغذية لها؛ هذه الغدد الّتي تستخلص اللبن من الدم الشرياني المؤكسد، واللنف الحامل للفرث (الطعام المهضوم) ليصفَّى، ويصبح:

{لَبَنًا خَالِصًا} : حليباً صافياً.

{سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} : السّائغ: طيب الطعم يسهل بلعه.

لنقارن هذه الآية من سورة النّحل: {نُّسْقِيكُم مِمَّا فِى بُطُونِهِ} ، والآية (21) من سورة المؤمنون:{نُّسْقِيكُم مِمَّا فِى بُطُونِهَا} .

آية سورة النّحل: ممّا في بطونه: تتحدث عن نسبة الإناث الضئيلة الّتي تُحلب؛ أيْ: تعطي الحليب بالنّسبة لإناث الأنعام بشكل عام، والّتي تشمل الإناث الصّغيرة، أو المسنة، أو الّتي لا تدر باللبن؛ فإن عددها قليل؛ فجاء بصيغة المذكر (بطونه) بدلاً من بطونها؛ لتدل على القلَّة.

أمّا آية (المؤمنون): مما في بطونها: فبطونها تشير إلى نسبة كلّ إناث الأنعام بشكل عام؛ لعدد الأنعام؛ فهي كثيرة؛ فاستعمل صيغة التأنيث (بطونها)؛ لتدل على الكثرة.

أو آية النّحل: تشير إلى الجنس (جنس الأنعام)، فذكر الضّمير؛ فقال: في بطونه.

أمّا آية (المؤمنون): فتشير إلى إناث الأنعام الّتي تُحلب، وتعطي الحليب أنث الضّمير.

ص: 165

سورة النحل [16: 67]

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} : من: ابتدائية.

{النَّخِيلِ} : التّمر. النخل: اسم جنس يشمل النخيل.

{وَالْأَعْنَابِ} : العنب.

{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} : منه: من: هنا بعضية؛ لأنّ بعضها تؤكل، وبعضها يستخدم للعصير، والخمر.

{سَكَرًا} : أي: الخمر، ولم يصفه بالسّكر الحسن: لأنّه سبحانه حرَّمه بعد ذلك.

{وَرِزْقًا حَسَنًا} : العنب، والتّمر؛ سواء أكله، أم التّجارة به، وبيعه، وكذلك تحويله إلى الكحول المستعملة في التعقيم، والخل، والزّبيب، والعصير، والأطعمة، والحلويات المعمولة من التّمر، والعنب.

{وَرِزْقًا} : رزقاً حسناً؛ مقارنة باستخدامها لصنع الخمر.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ: للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة للبعد.

{لَآيَةً} : اللام: لام التّعليل، أو التّوكيد علامة.

{لِّقَوْمٍ} : اللام: لام الاختصاص.

{يَعْقِلُونَ} : من العقل، ومن عقل الشّيء عرفه بدليله، وأسبابه، ونتائجه؛ أيْ: إذا فكروا، وتدبروا الأمر، وصلوا إلى الحقيقة أنّ الخمر ضاراً بالنّاس.

نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، والّذي جاء في الآية (90-91) من سورة المائدة. ارجع إلى سورة المائدة، آية (91)؛ لبيان مراحل تدرُّج تحريم الخمر.

ص: 166

سورة النحل [16: 68]

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} :

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} : قلنا: إنّ الوحي: هو إعلام بخفاء، والوحي هنا يتمثَّل بالتكوين الغريزي الخلقي للنحل؛ بما يسمَّى: نظام المعلومات عند النّحل، أو بما يمتلك النّحل من حواس الشّم، والذّوق، والبصر، ويستطيع النّحل أن يميز بالخلايا الموجودة على قرونه رائحة الزّهور، ورائحة الأسرة الّتي ينتمي إليها كلّ نوع من النّحل، ورائحة الخلية بما يفرزه كلّ نوع من مواد تشع في أرجاء الخلية، وتعرفها كلّ نحلة من تلك العائلة، أو الخلية، وتحمل هذه الرّائحة المميزة لها كلمة السّر، أو الهوية؛ فلا تدخل أيُّ نحلة في غير خلاياها، أو مسكنها، وللنحلة قدرة على تمييز الألوان، والقدرة على الرّؤية عندها أقوى من الرّؤية في الإنسان، وتستطيع رؤية الأشعة فوق البنفسجية، ولكلّ منها حركاتها الخاصة، ودورانها، والرّقص الدّائري، والاهتزازي، وتسمَّى لغة الرّقص الّتي بواسطتها تحدد المسافات بعدد الرّقصات.

وتستطيع النّحلة أن تحدِّد مساراتها، والأمكنة المطلوبُ الوصول إليها للوقوف على الزّهور الخاصة، ثمّ العودة، والقدرة على اجتياز الطّرق الصّعبة، والأميال الطّويلة.

{أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} : مساكن لكي تأوي إليها مثل الخلايا؛ من: تفيد البعضية بعض الجبال.

{وَمِنَ الشَّجَرِ} : من: البعضية؛ أي: اتخذي من بعض الشّجر اتخذي بيوتاً خلايا للسكن.

{وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} : من: ابتدائية؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي يبنيه النّاس من خلايا للنحل من خشب، أو طين، أو ما نسمِّيه الخلايا الاصطناعية.

ص: 167

سورة النحل [16: 69]

{ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

{ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} : ثمّ: تفيد التّباين بين تغذية النّحل بالمواد السّكرية المصنعة من قبل الإنسان، وبين تركها تأكل من كلّ الثّمرات؛ أيْ: كلّ أنواع الزهور الّتي خلقها الله سبحانه لها، أو سخرها لها بلا حصر، أو تقييد، وهو الأفضل.

{فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} : فاسلكي: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ اسلكي: من السّلوك؛ أي: الدّخول بسهولة ويُسر؛ أي: المسير في هذه السّبل الطرق، والمسالك، والمسارات الّتي سخرها الله سبحانه لها في رحلات الذّهاب والإياب بسهولة ويُسر، وأما لو قال ادخلي؛ الدخول فيه مشقة وصعوبة.

{ذُلُلًا} : أيْ: ذللها الله لك؛ الذُّلُل: جمع ذلول؛ أيْ: وطَّأها، ومهَّدها، وسهَّلها لك ربُّ العالمين.

{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} : الشّراب: هنا العسل بمختلف ألوانه، وأنواعه؛ منه ذو اللون الأصفر، والأحمر المصفر، والعنبري اللون، والأصفر الباهت، واللون الزّيتوني، والأبيض

وغيرها من الألوان، وله أسماء مختلفة.

وكلمة شراب: جاء بصيغة النّكرة؛ لتدل على أنّ هناك أنواعاً مختلفةً من الشّراب، أو الأشربة إضافة إلى العسل، وكلمة بطونها تشير إلى مكان تشكل العسل في النّحلة؛ أيْ: في معدتها الّتي تقع في بطن النّحلة.

{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} : كلمة شفاء: نكرة ليشمل الكثير من أنواع العلاج، والشّفاء؛ ففي العسل شفاء للأمراض الجلدية، والجروح، والأمراض التّنفسية والتهاب القصبات، والرّبو، والأمراض الأخرى مثل القرحة، وأمراض الكبد.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : إنّ في ذلك: ارجع إلى الآية (67) من نفس السّورة.

{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص.

{يَتَفَكَّرُونَ} : في صنع الله، وعجائب مخلوقاته، والنّحل أكبر دليل على ذلك للوصول إلى عظمة الخالق، وقدرته، وأنّه هو الّذي يستحق العبادة وحده.

ص: 168

سورة النحل [16: 70]

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} :

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} : أوجدكم، والخلق يعني: التّقدير، خلقكم من تراب، ثمّ من نطفة، ثمّ علقة، ثمّ من مضغة مخلقة، وغير مخلقة، ثمّ يخرجكم طفلاً، ثمّ لتبلغوا أشدكم، ثمّ لتكونوا شيوخاً.

{ثُمَّ} : تفيد التّرتيب، والتّراخي في الزّمن.

{يَتَوَفَّاكُمْ} : أيْ: يأمر ملك الموت بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم.

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : من هنا البعضية، وليس الكلّ يُرد إلى أرذل العمر: أسوأ العمر، وذلك حين يبلغ الثّمانين، أو التّسعين، ويصاب بالخرف، والنّسيان، ويصبح عالة على غيره في حاجاته اليومية، ولا يعقل ما يقول، ولا يقوى على شيء، وهناك من النّاس من يبلغون الثّمانين، والتّسعين، ويقرؤون القرآن وغير عالة على غيرهم، وفي صحة جيدة.

{لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا} : كي: للتعليل الأساسي.

{لَا} : النّافية.

{يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا} : ولم يقل: لا يعلم من بعد علم شيئاً بإضافة (من)، كما في سورة الحج آية (5).

فقوله تعالى: {لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا} : أيْ: لا يتذكر القريب، أو البعيد؛ أيْ: يصاب بفقد الذاكرة للأشياء القريبة، والبعيدة بعد زمن قد يقصر، أو يطول، ولو قارنَّا هذه الآية مع قوله تعالى في سورة الحج، آية (5): نجدهُ أضاف كلمة (من) وقال تعالى: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـئًا} : أيْ: لا يتذكر الأشياء القريبة فقط، أو تدل على فقد ذاكرته للأشياء القريبة بعد زمن قصير، ويتذكر الأشياء، أو الأمور البعيدة التي فعلها منذ زمن بعيد.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة كثير العلم بخلقه، وكونه، وما يحدث لهم، ويصيبهم من تغيرات وكم يعيشون.

{قَدِيرٌ} : على كلّ شيء يبقي من يشاء حياً لسنين طويلة، ومن دون أيِّ ضعف، أو تغيير في الذاكرة، أو يصيب بعض الأفراد بفقدان الذاكرة في أيِّ عمر، أو زمان، وبفقدان ذاكرة واحدة للقرب، أو البعد، أو بفقدان ذاكرتين للقرب والبعد معاً.

وهناك أمر آخر يجلب انتباه القارئ: وهو كيفية كتابة كلمة (لكي لا) في كلا الآيتين: ففي آية النّحل فصل بين كلمة كي ولا، بينما في آية الحج جمع بين كلمة كي ولا فكتبها لكيلا.

فهذا يدل على براءة القرآن الكريم من أيِّ تحريف مهما كان نوعه منذ نزوله على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والفصل بين (لكي ولا): ربما يشير إلى شيئين؛ أي: لكل (شيء) لا (شيء)، ويشيران لفقدان الذاكرتين القريبة والبعيدة.

والجمع أو الوصل بين لكيلا: لتدل على فقدان ذاكرة واحدة، وهي القريبة، وهذا يتطابق مع تفسير الآية.

ص: 169

سورة النحل [16: 71]

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ} : فضل: بسط، ووسع بين أرزاقكم؛ فجعل منكم الغني، والفقير، وهذا التّفضيل للابتلاء فقط، وليس له علاقة مطلقة بالعمل الصّالح، أو السيَّئ، أو الطالح. وجعل منكم المالك، والعامل، أو رب العمل، والأجير.

{فَمَا} : فما: الفاء: للتوكيد؛ ما: للنفي.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{فُضِّلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} : فما الّذين بسط الله لهم الرّزق، أو أصحاب العلم، أو المُلك بمعطين من يعملون لهم نصيباً مساوياً لنصيبهم حتّى يتساوون في الغنى، أو الملك، أو الربح، أو يتساوى ربُّ العمل مع أحد عماله.

فكيف جعل المشركون الأصنامَ شركاءَ لله، وسوَّوا بين الله سبحانه وبين أصنامهم، وعبدوها كما عبدوا الله تعالى، وجعلوا لأصنامهم نصيباً مساوياً لنصيب الله.

{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، فكيف يجحدون بنعمة الله فيأخذون حق الله في العبودية والألوهية، ويعطونه للشركاء؛ فأنتم لا ترضون أن تتساووا مع عمالكم، وتكونوا شركاء، فكيف ترضون أن تجعلوا لله شركاء في ملكه، وتجحدون نعم الله عليكم ولا تشكرون المنعم؟ والجحود: هو إنكار الشّيء الظّاهر، أو العلم به، والجحود أخص من الإنكار.

الإنكار: أعم من الجحود، والإنكار عادة لما هو خفي مع العلم، أو غير العلم به. ارجع إلى سورة الأعراف آية (51) لمزيد من البيان.

ص: 170

سورة النحل [16: 72]

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} :

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} : أيْ: جعل لكم أزواجاً من جنسكم من الإنس، ولم يجعل لكم أزواجاً من الجن مثلاً، أو غير جنسكم.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} : البنين: هم الذّكور، والحفدة: هم وَلَدُ الولد.

{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : الطّيبات؛ أي: الرّزق الحلال الطّيب الطّاهر من الطّعام، والشّراب.

{مِنَ} : البعضية. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (69)؛ لمزيد من البيان.

{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} : أفبالباطل: الهمزة: استفهام إنكاري توبيخي، وتعجُّبي؛ الباطل لغةً: ما لا وجود له، أو الزائل الذاهب مثل الشرك، والظلم، والكذب

وغيرها، وتقليد الآباء بتحريم البحيرة، والسّائبة، أو أنّ لله الولد، والشّريك، والاعتقاد بشفاعة الأصنام، أو أنّها تقرِّبهم إلى الله زلفى.

{وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} : التّوحيد، والإسلام، والرّزق، والصّحة، والأمن.

{يَكْفُرُونَ} : ينكرون. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (34) لمعرفة الفرق بين نعمة ونعمت.

سورة النّحل [الآيات 73 - 79]

ص: 171

سورة النحل [16: 73]

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْـئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} :

بعد أن عدد نعمه سبحانه عليهم، ورزقهم من الطّيبات، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً، وبنين، وحفدة؛ كان من الواجب أن يعبدوه لنعمه، وفضله عليهم، ولكنهم عبدوا غيره، وأشركوا به.

{وَيَعْبُدُونَ} : العبادة لغةً: الذل والخضوع، والعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من: الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخشية الله تعالى، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادات؛ فالعبادة: هي طاعة الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وتشمل العبادات الظاهرة والباطنة (العبادات القلبية) من الأقوال، والأفعال الظاهرة والباطنة، ولا تكون إلا لله وحده، ولا تكون إلّا مع المعرفة بالمعبود، وتعني: كمال الحب لله مع كمال الذل لله سبحانه، كما قال ابن القيم وهي الغاية من خلق الجن والإنس، ولها أجر وجاء بصيغة المضارع؛ للدلالة على التّجدد، والتّكرار، والاستمرار عليها. ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (106)؛ لمزيد من البيان.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله؛ أيْ: بدلاً من عبادته وحده سبحانه عبدوا غيره من الأصنام، والأوثان الّتي لا تملك لهم رزقاً من السّموات والأرض مهما كان نوعه.

{مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ما: اسم موصول، وهي أوسع من الّذي للعاقل، وغير العاقل.

{لَا} : النّافية للمستقبل، والحاضر.

{يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مثل: المطر، أو الطّاقة الشّمسية، والنجوم المليئة بالمعادن، والأرض: مثل النّبات، والبترول، والغاز، والمعادن

وغيرها. شيئاً: نكرة لا تملك لهم نفعاً، ولا ضراً.

{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} : الاستطاعة: هي القدرة على فعل الفاعل مما يريده من أحداث الفعل.

والقدرة: أعم من الاستطاعة، والاستطاعة: أخص من القدرة، وتكرار (لا): يفيد توكيد النّفي.

ص: 172

سورة النحل [16: 74]

{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} :

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} : أيْ: لا تجعلوا لله شركاء، أو أنداداً، أو تشبهوه بخلقه. تضربوا: من الضّرب فيه معنى التّهييج، والتّأثير في نفس السّامع؛ لكي يصل ما يقوله ضارب المثل إلى أعماق نفس المستمع.

والضّرب يعني: صوغ المثل، ويعني: نشره على ألسنة النّاس.

{لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} : الأمثال: جمع مثل، والمثل: هو قول موجز، أو تشبيه حال بحال يراد به توضيح أمر غامض، أو المقارنة، والموازنة، أو المفاضلة بين أمرين، أو التّبين، أو التّمثيل، أو الوصف والصنع، والاتخاذ، والأمثال دائماً تكون من باب المبين (الواضح)؛ فلا تضربوا لله الأمثال؛ فالله سبحانه ينهى عباده أن يضربوا له الأمثال، إنما هو سبحانه الّذي يضرب الأمثال؛ أيْ: لا تشبهوا الله سبحانه بشيء آخر؛ لأنّه سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته، وأفعاله، وصفاته، وأسمائه.

{إِنَّ اللَّهَ} : إن: حرف توكيد.

{يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} : هذه هي علَّة النّهي عن ضرب الأمثال لله من قبلكم؛ لأنّه سبحانه يعلم بواطن الأمور، وظواهرها، ولا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السّماء، ويعلم الغيب، وما تخفي الأنفس.

{وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} : جزاء أو عقاب تشبيه الله بالأصنام أو بخلقه أو لا تعلمون كيف تضربوا الأمثال.

ص: 173

سورة النحل [16: 75]

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَنْ رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

روي عن ابن عبّاس أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ؛ كان له مولىً كافرٌ، وكان عثمان ينفق عليه، ويكفله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : ارجع إلى الآية (74) السّابقة من نفس السّورة.

{عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} : أيْ: عبد مملوك غير حر التّصرف؛ عاجز عن السّعي، والعمل؛ أيْ: مُقعد.

{لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} : أيْ: على التّصرف؛ أيْ: غير موكَّل بأن يعمل، أو يشارك، بل مُقعد لا يفهم التجارة.

{شَىْءٍ} : نكرة؛ أيْ: لا يستفاد منه في شيء. وهذا مثل الآلهة المُقعدة لا تفيد، ولا تضر.

{وَمَنْ رَّزَقْنَاهُ} : من: ابتدائية، وتشمل الفرد، أو الجمع، وللعاقل.

{مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} : أي: السّيد الحر الّذي رزقه الله رزقاً حلالاً طيباً وافراً.

{فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} : أي: يسعى ويعمل في تجارته، وينفق في سبيل الله في شتَّى المناسبات.

{سِرًّا} : من دون أن يعلم به أحد.

{وَجَهْرًا} : ينفق بالعلن، ومن دون رياء.

{هَلْ يَسْتَوُنَ} : هل: للاستفهام التّقريري، والسؤال موجَّه إلى السّامع، والجواب إما بنعم، أو لا.

والجواب هنا: لا يستوون.

ولما لم يقل: هل يستويان بصيغة المثنى؛ لأنّ المراد هنا سؤال الجنس (سواء أكان واحداً، أو أكثر) النتيجة واحدة لا يستوون.

فكيف تستوي هذه الأصنام مع هذا العبد الحر؟

أو كيف يسوون بين الله سبحانه مالك الملك، الرزاق الّذي يرزق كلّ مخلوق، أو كل عبد حرٍّ يسعى في تجارته ويربح وينفق، والأصنام العاجزة المقعدة غير القادرة على شيء؟

{الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : الحمد لله لها عدَّة معانٍ، ويجب الوقوف عليها.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : أنكم عرفتم الجواب: لا يستوون.

أو الحمد لله: لأنّه لا شريك له.

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أنّ الله هو واجب الوجود الّذي يستحق العبادة وحده، أو لا يعلمون توحيده، وعظمته وقدره، وهناك أقلية تعلم ذلك.

ص: 174

سورة النحل [16: 76]

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} : هذا مثل آخر للأصنام؛ فهي لا تسمع، ولا تتكلَّم، ولا تضرُّ، ولا تنفع عابديها.

{أَبْكَمُ} : الّذي لا يتكلَّم، ولا يُفهم ما يقوله، ولا يقدر على شيء؛ على النّفع، أو الضّر، أو العمل، أو التّدبير؛ أيْ: هو عاجز.

{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} : هو: ضمير فصل؛ يفيد التّوكيد.

{كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} : عالة على مولاه: سيده، أو وليه يحتاج إلى المساعدة، والإنفاق عليه؛ لأنّه غير قادر على إعالة نفسه.

{أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} : يوجهه: يصرفه ليقوم بأمر ما لا خير فيه، أو لا يجيبه ولا يستفاد منه.

{لَا} : النّافية؛ لا منفعة فيه البتة؛ لا يفيد نفسه، ولا غيره.

{هَلْ يَسْتَوِى} : هل للاستفهام التّقريري.

{يَسْتَوِى} : يشابه، أو يعادل، أو يماثل.

{هُوَ} : تعود على الأبكم الّذي لا يقدر على شيء، وتمثل الصنم، أو الوثن، أو الآلهة.

{وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : ومن: ابتدائية.

{يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : أيْ: يقول الحق، أو يدعو إلى طاعة الله وتوحيده، أو يأمر النّاس بالعدل: بالقسط.

{وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : وهو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{عَلَى} : الدِّين القيم المستقيم؛ دين الإسلام.

ص: 175

سورة النحل [16: 77]

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

وبعد أن بيَّن حقيقة الأصنام، والشّركاء، وقال تعالى: بل أكثرهم لا يعلمون عظمته، وتوحيده، وقدرته يذكر هنا مظاهر أخرى لعظمته وقدرته، وكمال علمه.

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : لله: تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة؛ يفيد الحصر؛ حصر غيب السّموات والأرض له وحده؛ أيْ: علم الغيب، وعلم ملكوت السّموات والأرض؛ لا يشاركه في ذلك أحدٌ.

والغيب: هو كلّ ما غاب عن العباد؛ عن مدركاتهم الحسية؛ مثل: السّمع، والبصر، والعقل، ويشمل ملكوت السّموات، والأرض، والجنة، والنّار، وقيام السّاعة، ومن الغيب ما هو مطلق لا يعلمه إلا الله وحده؛ مثل: قيام السّاعة، ومن الغيب ما هو غيب نسبي، غيب أطْلع الله بعض رسله عليه.

{وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} : وذكر أمر الساعة، وهي لحظة تهدم النظام الكوني الحالي؛ لأنها أهم الأمور الغيبية.

{وَمَا} : للتأكيد.

{أَمْرُ السَّاعَةِ} : حدوثها، أو مجيئها، أو الإتيان بها.

{إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} : إلا: أداة حصر.

{كَلَمْحِ الْبَصَرِ} : وهو النّظر بسرعة، أو طرفة الجفن، أو إغماض الجفن (العين)، وفتحها فإذا بك تراها قد قامت.

{أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} : من لمح البصر؛ للدلالة على إظهار شأنها العظيم، ولزرع الرهبة والخوف في قلوب الذين لا يؤمنون بها.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : على قيام السّاعة، والبعث. ارجع إلى الآية (20) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 176

سورة النحل [16: 78]

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْـئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

ومن مظاهر قدرته سبحانه خلق الإنسان في أطوار مختلفة.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} : أيْ: أخرجكم من الأرحام.

{لَا تَعْلَمُونَ شَيْـئًا} : لا: النّافية.

{شَيْـئًا} : نكرة؛ أيْ: لا تعلمون شيئاً حين الولادة.

{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ} : أفرد السّمع.

{وَالْأَبْصَارَ} : جمع البصر.

{وَالْأَفْـئِدَةَ} : قيل: القلوب، أو العقول، والأفئدة بالجمع؛ لأنّ العقول مختلفة في الفهم، والإدراك، والنّتائج، واختار هذه الحواس الثلاثة؛ لأنها أهم حواس الإدراك.

ارجع إلى سورة البقرة، الآية (7)؛ لمزيد من البيان، وسورة الملك، الآية (23)، وسبب تقديم السّمع على الأبصار، وإفراد السمع وجمع البصر.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعل: أداة للتعليل؛ أيْ: لتشكروا المنعم على نعمه، أو لعلكم تستعملنا هذه الحواس؛ لتصلوا إلى معرفته، وتبصروا آثار صنعه، ومن ثمّ تشكروه على نعمه عليكم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان.

ص: 177

سورة النحل [16: 79]

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

هذه صورة أخرى من صور قدرة الله سبحانه وتعالى.

{أَلَمْ يَرَوْا} : ألم: الهمزة: للاستفهام؛ لم: حرف نفي.

{يَرَوْا} : رؤية بصرية، ورؤية فكرية عقلية للتعجُّب من صنع الله.

{إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ} : سخر: هيّأ لها وجعلها قادرة على الطيران بما أودع الله سبحانه في جو السّماء من خصائص، وعناصر تحمل الطير، وبما أودع في الطير من أجهزة، وصفات تجعله يطير في جو السّماء، ولا يقع على الأرض؛ مثل: شكل الأجنحة، وأنواع الطيران، وخفة وزن الطائر، وشكل عظام الصدر، وعظام الطير الّتي تحوي على أكياس هوائية، وقوة عضلات الطيران

وغيرها. ومسخرات: قد تعني مذللات لأمر الله، ومذللات لمنافعكم.

{فِى} : في: ظرفية.

{جَوِّ السَّمَاءِ} : أعالي السّماء.

{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} : ما: النّافية.

{يُمْسِكُهُنَّ} : من السّقوط على الأرض.

{إِلَّا اللَّهُ} : إلّا: أداة حصر؛ إلا الله تعالى؛ فالمسألة ليست فقط مسألة أجنحة، بل ذلك آية من آيات قدرة الله تعالى، وبديع صنعه.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : إنّ: للتوكيد.

{لَآيَاتٍ} : اللام: للتوكيد؛ لآيات عظيمة: تدل على عظمة قدرة الخالق، وأنّه الإله الحق لا إله إلا هو واجب الوجود الّذي يجب طاعته، وعبادته، والتّوكل عليه.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : أي: يستفيد منها الذين يؤمنون بربهم؛ أما الكفار: فقد عميت أبصارهم عن رؤية آيات الله تعالى، وإذا رأتها فهي رؤية معدومة الفائدة؛ لأنها لا تدرك ما ترى.

في هذه الآية (79) من سورة النّحل يقول سبحانه: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} ، بينما في سورة الملك آية {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} .

الاختلاف: في سورة النّحل السّياق في التّوحيد، والنّهي عن الشّرك؛ فناسب اسم الله الّذي يشير على أنّه هو المعبود، أمّا في سورة فالملك السّياق في الرّحمة؛ فناسب ذلك ذكر الرّحمن، وفي سورة النحل قال تعالى (مسخرات) كما سبق ذكرها، وفي سورة الملك قال تعالى (صافات). ارجع إلى سورة الملك للبيان.

سورة النّحل [الآيات 80 - 87]

ص: 178

سورة النحل [16: 80]

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} :

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ} : خاصة؛ جعل، صيَّر، أو أوجد لكم.

{مِنْ بُيُوتِكُمْ} : من: الابتدائية.

{بُيُوتِكُمْ} : جمع بيت، والبيت الّذي يبيت فيه أيْ: يقضي فيه الليل، سواء نام، أم لم ينم، وقد يكون خيمة، أو غرفة واحدة، أو دار.

{سَكَنًا} : أيْ: جعل بيوتكم سكناً؛ أيْ: للسكون، والرّاحة، كما أنّ الزّوجة سكن لزوجها، كما قال تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الرّوم: 21].

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} : جعل: صيَّر، وأوجد لكم من جلود الأنعام بيوتاً مثل الخيام، والأنعام (ثمانية أزواج من البقر، والغنم، والماعز، والإبل).

{تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} : مشتقة من خفَّ يخف عليكم حملها، أو تجدونها خفيفة، وسهلة الحمل يوم سفركم رحيلكم. والظّعن: الانتقال من مكان إلى مكان؛ للبحث عن الكلأ، والمرعى، والماء، والعشب.

{وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} : يوم استقراركم، وعدم سفركم تجدونها كذلك سهلة البناء، والرّفع.

{وَمِنْ أَصْوَافِهَا} : أصواف الغنم.

{وَأَوْبَارِهَا} : أوبار الإبل.

{وَأَشْعَارِهَا} : أشعار الماعز.

{أَثَاثًا} : مثل: الفرش، والأبسطة، واللحف، والسّتائر.

{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} : مثل: الألبسة، والأدوات، والخزائن، والمقاعد، ووسائل للزينة.

{إِلَى حِينٍ} : الحين: زمن غير محدود؛ زمن طويل، أو قصير، ثمّ تحتاجون إلى غيرها، وهذا الجمع يذكر بنعم الله تعالى وفضله العظيم على الناس، وكثرة إنعامه.

ص: 179

سورة النحل [16: 81]

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} :

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ} : جعل: صيَّر، وأوجد.

{مِمَّا} : من: ابتدائية بعضية؛ ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{مِمَّا خَلَقَ} : من الجبال، والشّجر، والبيوت، والسّحاب.

{ظِلَالًا} : جمع ظل: وهو الواقي من بعض أشعة الشّمس، أو ما يستظل به من حر الشّمس، وهذا يشير إلى أن بعض أشعة الشّمس لا تخترق بعض الأجسام؛ كالجبال، والشّجر

وغيرها، ولنعلم أن هناك أشعةً شمسيةً أخرى قادرة على اختراق أيِّ جسم. ارجع إلى الآية (48) من نفس السورة للبيان. وارجع إلى سورة يس آية (56) لمزيد من البيان في معنى الظلال.

{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} : جمع كنٍّ: وهو المكان الّذي يستتر فيه مثل النّفق، أو الكهف.

{مِنَ الْجِبَالِ} : من بعض الجبال، وليس كلّ الجبال.

{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} : سرابيل: جمع سربال: وهو القميص مصنوع من القطن، أو الصّوف، أو الكتان، واكتفى ولم يذكر سرابيل تقيكم البرد؛ لأنّ ذلك مفهوم من سياق الكلام، وذكر الحرَّ؛ لأنّ الحرَّ أهم عندهم من البرد؛ لأنّ الحرَّ أمر دائم، والبرد قلَّما يحدث.

{وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} : البأس: الحرب؛ مثل: الدّروع تقيكم من الطّعن، أو الجراح، أو القنابل، والشظايا.

{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} : أيْ: مثلما أنعم الله عليكم هذه النّعم كذلك يريد أن يتم نعمته عليكم في الدّنيا (نعمة الإسلام والإيمان).

{لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} : لعل: للتعليل؛ أيْ: لتسلموا، وتوحدوا الله، وتخلصوا له، وتؤمنوا بربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته؛ إيمان كامل، وليس إيماناً ببعض، وكفراً ببعض.

ص: 180

سورة النحل [16: 82]

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :

{فَإِنْ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال.

{تَوَلَّوْا} : ابتعدوا، أو انصرفوا، وأعرضوا عنك، ولم يسلموا، ويؤمنوا بما أنزل الله تعالى بعد كلّ هذه النّعم.

{فَإِنَّمَا} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط؛ إنما: كافة، ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : على: تفيد العلو، والمشقة؛ أيْ: فليس عليك أمر هدايتهم، وإنما عليك البلاغ المبين.

{الْبَلَاغُ} : هو إيصال الرّسالة مع التبيين، أو الأداء على أتم وجه.

{الْمُبِينُ} : يعني: إيصال الرّسالة لكل فرد تستطيع منهم، وغيرهم، وإيصالها كاملة من دون نقصان؛ أي: البلاغ التّام الكامل.

ص: 181

سورة النحل [16: 83]

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} :

{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ} : يتمتعون بكلّ هذه النّعم الّتي أسبغها الله عليهم مثل البيوت والسّرابيل، ولا يشكرون المنعم، بل أو ينكرون ذلك، وهؤلاء يمثلون الأكثرية من النّاس، ويظنون أنّهم يستحقونها بسبب جهدهم، وعلمهم كما فعل قارون، أو هم ورثوها عن آبائهم، أو غير مطالبين بشكر المنعم، أو لكونهم يظنون أن نعمت الله هي المال فقط. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (28) لمعرفة الفرق بين نعمة ونعمت.

{ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} : ثم: لبيان فضل الشكر على الإنكار، وارجع إلى سورة الأعراف، آية (51)؛ لبيان معنى الجحود، والإنكار.

{وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} : أيْ: هناك أقلية تشكر المنعم، ولا تنكر إنعامه عليهم، وأمّا الأكثرية؛ فهم الكافرون جمع كافر، والكفر قد يعني: الكفر العقائدي، أو كفر النّعم؛ أيْ: سترها، وعدم الاعتراف بالمنعم، والكافرون جملة اسمية تفيد ثبوت صفة الكفر عندهم.

ص: 182

سورة النحل [16: 84]

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} :

{وَيَوْمَ} : أيْ: يوم القيامة، والتّنكير: للتهويل، والتّعظيم.

{نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : البعث: هو الإتيان من كلّ أمة بشهيد، أو المجيء بشهيد، والشّهيد من كلّ أمة: هو نبيها الّذي أرسل إليها؛ يشهد على نفسه أنّه قد بلغ الرّسالة لأمته، ويشهد على أمته أنّه قد بلغها، أو يشهد له بالإيمان، والتّصديق، أو يشهد عليهم بالكفر، والتّكذيب؛ مثلاً سيبعث الله تعالى من اليهود موسى شهيداً عليهم، وسيبعث الله بعيسى شهيداً على النّصارى.

{ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : ثم: للترتيب الذكري؛ بعد البعث لا يؤذن للذين كفروا بالاعتذار، ولا يطلب منهم العُتبى.

{لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : لا: النّافية.

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص.

{كَفَرُوا} : في الكلام، أو الاعتذار؛ لأنّه ليس لهم عذر صحيح مقبول.

{وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} : من أعتبه؛ أي: استرضاه فأرضاه؛ لا يؤذن لهم بطلب العتبى، ولا يسمح لهم، أو يُقبل عتابهم، ولو حاولوا ذلك، أو لا يشير عليهم أحد بأن يطلبوا العُتبى.

{يُسْتَعْتَبُونَ} : لم يجرؤوا على طلب العتاب بأنفسهم، وإنما طلب لهم العتاب غيرهم، أو شفعاؤهم. وكلمة يُستعتبون: جاءت في ثلاث سور: النّحل، الآية (84)، وسورة الروم، الآية (57)، وسورة الجاثية، الآية (35).

وكلمة يَسْتعتبون: جاءت في آية واحدة في سورة فصلت، الآية (24)؛ أيْ: طلبوا العتاب بأنفسهم؛ لكي يرضى الله عنهم، ويعفو عنهم.

ص: 183

سورة النحل [16: 85]

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} :

{وَإِذَا} : ظرف للزمن المستقبل يفيد حتمية الحدوث.

{رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} : أي: الّذين أشركوا.

{الْعَذَابَ} : النّار، وفي آية أخرى:{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].

إذن: هم يروها، وهي تراهم، كما في قوله:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: 53].

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد؛ لا: النّافية.

{يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} : العذاب.

{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} : تكرار لا يفيد التّوكيد، وفصل التّخفيف عن الإنظار، فلا يخفف عنهم العذاب من جهة، ولا هم ينظرون من جهة أخرى، ولا كلاهما.

{هُمْ يُنْظَرُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{يُنْظَرُونَ} : يمهلون، أو يؤجلون عن الدخول في العذاب.

ص: 184

سورة النحل [16: 86]

{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} :

{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} : من الّذين أضلوهم، وزيَّنوا لهم من شياطين الإنس، والجن الّتي عبدوها؛ أي: الّذين اتُّبِعوا، والّذين اتَّبَعوا؛ رأوا سادتهم، وكبراءَهم الّذين أضلوهم.

{قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ} : أيْ: نعبد من غيرك؛ أي: اعترفوا بشركهم بعد أن حاولوا سابقاً كتم شركهم، وقالوا:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].

{فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} : فأنطق الله سبحانه السّادة، والكبراء، وقالوا للمشركين: إنّكم كاذبون، أو أنطق الله الأصنام والأوثان.

{إِنَّكُمْ} : إنّ: للتوكيد.

{لَكَاذِبُونَ} : اللام: لزيادة التّوكيد؛ كاذبون: جمع كاذب، وهي جملة اسمية تفيد ثبوت صفة الكذب عندهم.

ص: 185

سورة النحل [16: 87]

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} : يوم القيامة.

{السَّلَمَ} : الاستسلام، والخضوع؛ فهم لم يُسلموا طواعية، واختياراً في الدّنيا فها هم يستسلمون قهراً، وقسراً يوم القيامة.

{وَضَلَّ عَنْهُم} : غاب عنهم، أو بطل ولم تعد تنفعهم آلهتهم الّتي يعبدون من دون الله من شيء.

{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{كَانُوا يَفْتَرُونَ} : من الافتراء، وهو الكذب العمد؛ يكذبون عمداً، واختلاقاً في الدّنيا؛ كقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، أو يقربونا إلى الله زلفى.

سورة النّحل [الآيات 88 - 93]

ص: 186

سورة النحل [16: 88]

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} :

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أيْ: منعوا النّاس من الدّخول في دين الله، أو أضلوهم عن الهداية، والإيمان، وزيَّنوا لغيرهم المعاصي، والابتعاد عن دين الله.

{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} : عذابان: عذاب على الكفر، وعذاب على الصّد عن سبيل الله، والفساد في الأرض.

{بِمَا} : الباء: باء البدلية، أو السّببية؛ ما: مصدرية، أو اسم موصول بمعنى: الّذي. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{كَانُوا يُفْسِدُونَ} : في الأرض بالكفر، وإضلال النّاس، وصدهم عن الإيمان بالله تعالى، وإثارة الفتن، وارتكاب المعاصي، والقتل، والسّرقة

وغيرها.

ص: 187

سورة النحل [16: 89]

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} :

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} : هذه الآية تشبه الآية (84)، مع الاختلاف الآتي: في هذه الآية قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ، بينما في الآية (84):{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} .

فكلمة في: تعني: الشّهيد من خارج هذه الأمة؛ أيْ: شاهد من أمة أخرى.

أمّا من: فتعني: الشّهيد من تلك الأمة نفسها، وقلنا: إنّ الشّهيد هنا يعني: النّبي الّذي بُعث لتلك الأمة؛ فهذا الشّهيد النّبي يشهد لنفسه، ويشهد على أمته؛ مثل: موسى عليه السلام ، وعيسى عليه السلام ، وإبراهيم عليه السلام .

أمّا في الآية (89): {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} : أيْ: من جنسهم من البشر، ومن خارج تلك الأمة مثلاً: يبعث الله شهيداً من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ الأئمّة أو أولوا العلم الّذين بلغوا منهج الله ليشهدوا على أنّ موسى قد بلغ أمته الرّسالة، أو يشهدوا أنّ عيسى قد بلغ أمته الرّسالة، وهذا يؤكده قول الحق سبحانه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وكيف يشهد أحدهم، وهو لم يكن من معاصري تلك الأمة. ارجع إلى الآية (143) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} : وجئنا بك يا محمّد صلى الله عليه وسلم شهيداً على هؤلاء؛ أيْ: على أمتك، وقال: شهيداً، وليس شاهداً؛ لمعرفة الفرق: ارجع إلى الآية (133) من سورة البقرة.

{بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} : بدلاً من القول: وجئنا على هؤلاء بك؛ تقديم بك الجار والمجرور يدل على الحصر، والاهتمام، وأمّا تقديم هؤلاء على كلمة بك: فيدل على ضلال تلك الأمة؛ لكونهم أشركوا، أو حرَّفوا كلام الله.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه؛ أولاء: اسم إشارة تشير إلى أمة محمّد أمة الإسلام. ارجع إلى الآية (41) من سورة النّساء؛ للمقارنة.

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} : ونزلنا؛ أيْ: منجماً مفرقاً عليك، وليس إليك. ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة؛ للبيان.

{الْكِتَابَ} : القرآن الكريم.

{تِبْيَانًا لِكُلِّ شَىْءٍ} : التّبيان مصدر مبين؛ أي: المبين لكلّ شيء.

{لِكُلِّ شَىْءٍ} : شيء: اسم جنس؛ تعني: كلَّ ما يسمَّى شيئاً، بيانه في الكتاب (القرآن)، ويؤيِّد ذلك قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ} [الأنعام: 38]، ويشمل ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، وتقريراً.

{وَهُدًى وَرَحْمَةً} : ارجع إلى الآية (64) من نفس السّورة.

{وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} : البشرى: على وزن فُعلى: وهي الخبر السّارُّ تسمعه لأوّل مرة، وسمِّي بشرى من البشارة، والبشرة؛ لأنّه يظهر أثرها على الوجه بعلامات السّرور، والفرح، وغالباً ما تستعمل في الخير، وإذا ذكرت في سياق الشّر فيراد بها التّهكم؛ فالقرآن الكريم يُعدُّ بشرى للمسلمين.

{لِلْمُسْلِمِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: يبشرهم بالثّواب العظيم، والنّعيم الخالد في الآخرة.

ص: 188

سورة النحل [16: 90]

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَائِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : العدل: هو إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه، وهو المساواة الكاملة في الأحكام، أو المماثلة، والعدل: هو الحق، وقيل: العدل واجب، أو فرض، وأما القسط في اللغة: فهو الحظ والنصيب، واستعمله القرآن مع الميزان فقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]، والقسط يعني: تطبيق العدل.

{وَالْإِحْسَانِ} : ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ للبيان، وهو إتقان العمل، والإحسان: تفعله وأنت محب له، والإحسان: لا يقتصر على النّفس، بل يتعدَّى إلى الغير، والإحسان: مندوب.

{وَإِيتَائِ ذِى الْقُرْبَى} : إعطاء القربى ما يحتاجونهم من مساعدة.

هذه الثلاثة عوامل هي أدوات لبناء المجتمع، وبالمقابل هناك ثلاثة عوامل تهدم المجتمع: هي الفحشاء، والمنكر، والبغي.

{وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} : الزّنى؛ لما يسبب من اختلاط في الأنساب، وتدنس الأعراض، والفساد؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].

{وَالْمُنكَرِ} : ما أنكره الشّرع، وحرمه، واستقبحه العقل السّليم؛ كالكفر، والشّرك، والقتل، وهو باطل.

{وَالْبَغْىِ} : أخذ حقِّ الغير، والتّعدِّي عليهم بالقهر، والقوة.

{يَعِظُكُمْ} : من الوعظ: وهو النّصح بالطّاعة، والعمل الصّالح، والإرشاد إلى الخير، وتذكره بالثّواب، والعقاب، والتّحذير، والنّهي. ارجع إلى سورة النّساء، آية (58)؛ لمزيد من البيان.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : لعل: للتعليل.

{تَذَكَّرُونَ} : ما يعظكم به، ولا تنسونه كما نسيتم ذلك من قبل؛ أي: الأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى.

ص: 189

سورة النحل [16: 91]

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} :

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} : أيْ: أتموا عهد الله، والعهد هنا عام، وشامل يشمل كلّ العهود، ما عهده الله إلى عباده، وما تعاهد عليه الخلق فيما بينهم من بيع، وشراء، ويشمل العقود المؤكدة الّتي تسمَّى الميثاق، وأضاف العهد إليه سبحانه مما زاده أهمية وتفخيماً.

{إِذَا عَاهَدتُّمْ} : إذا شرطية ظرفية للزمن المستقبل، وتفيد حتمية الحدوث؛ أيْ: أتموا عهد الله إذا عاهدتم.

{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} : النّقض: التّخلي، وعدم الوفاء باليمين.

{الْأَيْمَانَ} : جمع يمين: وهو القسم، أو الحلف بالله، وسمِّيت باليمين؛ لأنّهم إذا تحالفوا ضرب كلّ امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه، واليمين يعني: القوة، والقدرة، ومشتقة من يمين الإنسان؛ أيْ: ذراعه الأيمن الأقوى من شماله.

{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} : قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{جَعَلْتُمُ} : من جعل، أو صير.

{عَلَيْكُمْ} : تقديم عليكم: يدل على التّوكيد، والقصر.

{كَفِيلًا} : شاهداً، أو رقيباً، أو حفيظاً وكيلاً.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} : يعلم ما تفعلون في السّر، وفي العلن، وما تخفون وتكتمون، ومن الوفاء، أو النّقض، وعليم بخفايا صدوركم.

ص: 190

سورة النحل [16: 92]

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} :

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} : لا: النّاهية.

{كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} : يضرب الله لنا هذا المثل؛ ليبيِّن حال الّذين ينقضون العهد، والأيمان؛ كالمرأة القرشية الحمقاء الّتي كانت تقوم بعملية الغزل الّذي كان يحتاج إلى جهد عظيم، وزمن طويل، ثمّ تقوم بعد ذلك بفك الغزل، والنّسيج بعد مرور الغزل في مراحل دقيقة من تلاحم الألوان، والخيوط، والقرب من إتمام الصّنع.

{مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} : أيْ: بعد عمل شاق احتاج إلى قوة، كما يحدث في إبرام العقد، أو أخذ العهد الّذي يحتاج إلى قوة، وجهد عظيم، ثمّ يحدث النقض.

{أَنكَاثًا} : محلولاً، جمع نِكْثٍ: وهو ما نُقض وحُل فَتْله من الغزل؛ ليُغزل ثانية.

{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} : أيْ: تمكرون، وتخدعون، وتنقضون عهدكم مع الطّرف الآخر من أجل جماعة أقوى عدداً، وعدَّة، أو فائدة ومصلحة لكم.

{دَخَلًا} : الدّخل: أن تُدخِل في الشّيء شيئاً آخر أدنى منه في الجودة في سبيل الغش، والخداع.

{أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} : الأمة: جماعة من الناس تجمعهم شريعة واحدة، أو مبادئ ومصالح؛ بغض النظر عن الكم، أو الحيز الجغرافي؛ مثل: القبيلة، أو القوم؛ قبيلة أقوى، أو أغنى من قبيلة أخرى.

أيْ: تنقضون عهدكم خديعة، ومكراً مع قبيلة ما لتنضموا، وتدخلوا في تحالف جديد مع قبيلة أخرى أقوى، ولا تتموا عهدكم إلى مدته من أجل المصلحة، والطّمع طلباً للدنيا والسّمعة.

{إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} : إنما: كافة، ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} : به تعود على العهد، والوفاء به، والابتلاء يكون بالوفاء به، أو نقضه بالغدر، والخديعة، وقيل: به قد تعود إلى الكثرة الّتي تعني كثرة العدد (أربى).

{وَلَيُبَيِّنَنَّ} : الواو: استئنافية؛ ليبيننَّ: اللام: لام التّوكيد، والنّون في يبيِّننَّ حرف النّون (زيادة التّوكيد)، والفاعل ضمير مستتر تقديره الله؛ ليبيِّننَّ: يوضح لكم، أو يُظهر لكم.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكم خاصة.

{يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : ليبيِّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم في الدّنيا تختلفون فيه من أمر العهود، والوفاء بها، أو نقضها، والحق من الباطل، ويجازي كلاً على عمله، وفي هذا إنذار، ووعيد، وتحذير من مخالفة الوفاء بالعهود.

ص: 191

سورة النحل [16: 93]

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْـئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} : لو: حرف امتناع لامتناع، امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشّرط.

{لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : أيْ: لهداكم أجمعين سواء بالاختيار، أو القسر، أو كلاهما معاً، أو حملكم على الوفاء بالعهود قسراً، أو جعلكم على دين واحد، أو ملَّة واحدة؛ فلا اختلاف، ولا بغضاء، ولا عداوة، وألف بين قلوبكم، ولكن لم يشأ، بل منح لكم العقل، وعرض عليكم الأمانة، وبيَّن لكم الحق، والباطل، وأرسل إليكم رسله، وأنزل إليكم كتبه، وترك لكم الخيار.

{وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} : يُضل؛ أيْ: من اختار لنفسه طريق الضّلال، والإعراض عن منهج الله، واستمر على ذلك وابتعد، عندها يتركه الله سبحانه لما اختاره لنفسه من الضّلال والخذلان، وكذلك يعلم سبحانه في علمه الأزلي أنّ هذا الضّال لن يتوب؛ أيْ: يرجع عن كفره فيمدُّ له في الضّلالة مدّاً، وقدَّم يضل على يهدي؛ لأنّ الضّالين في الأرض أكثر من المهتدين.

{وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ} : ويهدي من اختار لنفسه طريق الهداية، والطّاعة، ويمدُّ له، ويزيد في هدايته.

{وَلَتُسْـئَلُنَّ} : اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد.

{عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : عن: للمجاوزة، والابتعاد؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي، أو مصدر. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{كُنتُمْ} : في الدّنيا.

{تَعْمَلُونَ} : تقولون، وتفعلون العمل يشمل القول والفعل؛ تعملون: من الضّلال، أو الاهتداء.

ولو كانت مسألة الهداية، أو الضّلالة جبرية قسرية؛ لما سألهم عما كانوا يعملون.

سورة النّحل [الآيات 94 - 102]

ص: 192

سورة النحل [16: 94]

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :

{وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} : أيْ: ولا تجعلوا.

{أَيْمَانَكُمْ} : الأيمان: جمع يمين: وهو القسم، أو الحلف الّذي نؤكد عليه؛ فنقول: والله، أو بالله. ارجع إلى الآية (91) من نفس السّورة؛ للبيان.

{دَخَلًا بَيْنَكُمْ} : الدّخل: هو إدخال شيء في شيء آخر أدنى منه في الجودة للغش، والخداع؛ أيْ: لا تجعلوا أيمانكم وسيلة للخداع، ونقض العهود طلباً للدنيا، ومتاعها، وسبباً لوقوعكم في الضّلال.

{فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} : فتزل: الفاء: فاء السّببية.

{قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} : أيْ: لا تنقضوا أيمانكم بالمكر، والخديعة الأمر الّذي يؤدِّي بكم للوقوع في الضّلال بعد أن كنتم ثابتين على الاستقامة، والإيمان؛ لأنّكم إذا فعلتم ذلك، فلن يبقى هناك من يثق بكم، ويأمن جانبكم، وبذلك لا يدخلون في الإسلام، وتكونون أنتم السّبب؛ بسبب نقضكم العهد.

{وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : أي: العذاب الشّديد في الدّنيا بالمهانة، والاحتقار من قبل النّاس، وبما قمتم به من صد النّاس عن سبيل الله؛ أيْ: دين الله بسبب صنعكم، وقد يؤدِّي الأمر إلى قتلكم، وأسركم، ولكم في الآخرة عذاب عظيم.

ص: 193

سورة النحل [16: 95]

{وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

{وَلَا تَشْتَرُوا} : لا: النّاهية.

{تَشْتَرُوا} : تستبدلوا، أو تبيعوا أيمانكم بأي ثمن، أو تبتغون بها عرض الدنيا.

{بِعَهْدِ اللَّهِ} : بعهد: الباء: للإلصاق؛ باء: البدلية؛ عهد الله يشمل جميع العهود فيما بين العبد وربه، وفيما بينه وبين النّاس.

{ثَمَنًا قَلِيلًا} : أيْ: تنقضوا عهودكم لأجل المال، أو لأيِّ عَرَضٍ دنيويٍّ مهما بلغ وزاد أو عظيم؛ فهو قليل مقارنة بما عند الله سبحانه. وقد ورد الثمن بأنه قليل في تسع آيات في القرآن، وورد مرة واحدة بالثمن البخس كما قال تعالى في سورة يوسف آية (20){وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} ، والبخس: يعني الرديء، أو هو ليس من قدر الشيء الذي بيع.

{إِنَّمَا} : إن ما: حرف مشبه بالفعل يفيد التّوكيد.

{عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} : عند الله من نعيم، ورضوان، وجنات، وخلود.

{خَيْرٌ لَّكُمْ} : أفضل لكم؛ لكم خاصة: اللام: لام الاختصاص.

{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشّك؛ أي: الشّك أنّكم تعلمون ذلك.

{كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : ما هو النّافع من الضّار، والباقي من الزّائل.

ص: 194

سورة النحل [16: 96]

{مَا عِندَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{مَا عِندَكُمْ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{عِندَكُمْ} : من رزق، ومال، ومتاع، وسمعة، وجاه، وقوة، وما تستعمل للشيء غير المحدد؛ أيْ: عامَّة، أو كلُّ ما عندكم.

{عِندَكُمْ} : ينتهي، ولا يبقى منه شيء؛ يفنى، والفناء فناء آخر الشّيء بعد فناء أوّله.

{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} : دائم لا ينقطع.

{وَلَنَجْزِيَنَّ} : اللام: للتوكيد، ونون النّسوة: لزيادة التّوكيد.

{الَّذِينَ صَبَرُوا} : ابتغاء وجه ربهم؛ الّذين: اسم موصول يفيد المدح، والتّعظيم، وصبروا على الطّاعة، واجتناب النّواهي، وصبروا على البلاء، والمحن، والبأساء، والضّراء، وصبروا على الوفاء بعهودهم، وإتمام المدَّة.

{بِأَحْسَنِ} : الباء: البدلية للإلصاق.

{مَا} : تستعمل للشيء غير المحدَّد عامة لذوات غير العقلاء، ولصفات العقلاء.

{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : في الدّنيا.

{يَعْمَلُونَ} : تشمل الأقوال، والأفعال، ولم يقل: الّذي كانوا يعملون؛ الّذي: تستعمل للشيء المعلوم (المعرّف)، أو الخاص.

ص: 195

سورة النحل [16: 97]

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} : من: شرطية.

{عَمِلَ صَالِحًا} : من الفرائض، والنّوافل، والصدقات، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر

وغيرها.

{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} : من: ابتدائية استغراقية؛ تستغرق؛ أيْ: تشمل كلّ ذكر، وأنثى، والمفرد والمثنى والجمع.

{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : وهو: الواو: تفيد التّوكيد؛ هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد أيضاً؛ أيْ: قرن العمل الصّالح بالإيمان، فالأعمال الصّالحة لا تقبل، أو تنفع إلا إذا اقترنت بالإيمان بالله تعالى.

{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} : فلنحيينَّه: الفاء: للتوكيد، واللام: لزيادة التّوكيد.

{حَيَاةً طَيِّبَةً} : تعريف الحياة الطّيبة اختلف فيه العلماء، وجاءت بصيغة النّكرة؛ لتشمل كلّ عنصر من عناصر، أو مقومات الحياة الطّيبة، والتي تشمل النّاحية المادية، والمعنوية، ومن دون خوف، وقلق، بل الرضا بقضاء الله وقدره والاستقرار والأمن والتوكل على الله، والقناعة

وغيرها. ومنهم من قال: الحياة الطيبة: هي حياة الجنة، ومنهم من قال: الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة؛ أي: الجنة أيضاً، والفرق بين الحياة والمعيشة: أن الحياة أعم من المعيشة؛ أي: تشمل المعيشة التي تعني الأكل والشرب والنوم واللباس وغيرها، وعكس الحياة الطيبة المعيشة الضنكا، كما ورد في سورة طه آية (124){وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} .

{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} : اللام، والنون: للتوكيد.

{أَجْرَهُم} : الأجر مقابل العمل.

{بِأَحْسَنِ} : الباء: للإلصاق، أو باء البدلية؛ أحسن: أفضل على وزن أفعل.

{مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، أو مصدرية، وما: عامة شاملة غير محدَّدة.

{كَانُوا} في الدّنيا.

{يَعْمَلُونَ} : العمل يشمل القول، والفعل؛ أيْ: ما كانوا يقولون، أو يفعلون.

لنقارن هذه الآية (97) من سورة النّحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

مع الآية (7) من سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

في سورة النّحل: من عمل صالحاً: نكرة، ذكر أو أنثى؛ لذلك جعل الجزاء عاماً؛ فجاء بـ (ما)؛ فقال: بأحسن ما (للعام) كانوا يعملون.

في سورة العنكبوت: والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات: الّذين آمنوا، وعملوا الصّالحات: معرفة؛ فجاء بأحسن الّذي: اسم موصول يفيد المعرفة، أو جاء الجزاء خاص بهم؛ أي: استعمل ما: للعام، واستعمل الّذي: للخاص والمعرفة.

ص: 196

سورة النحل [16: 98]

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} :

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} : فإذا: الفاء: للتوكيد؛ إذا: ظرف زماني للزمن المستقبل، ويتضمن معنى الشّرط، وتفيد حتمية الحدوث، وكثرته.

{قَرَأْتَ} : أي: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، والقراءة قد تعني: كلمة واحدة. أما التّلاوة: فأصلها إتْباع الشّيء بالشّيء؛ يقال: تلاه تبعه، والتلاوة: تكون من كتاب الله تعالى فقط، أما القراءة: تكون من الصحف، أو الكتب

وغيرها.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : تعني: اللجوء، والاعتصام، والاستجارة بالله تعالى؛ ألا يلبس عليك الشّيطان، أو يخلط عليك قراءتك، أو يمنعك من تدبر آيات الله تعالى: بالوسوسة، والتزيين. واستعذ: السين والتاء: تعني الطلب؛ أي: اطلب العون من الله سبحانه، واسم الله يمثل كل صفاته، ولكن تكون الاستعاذة كاملة بكل صفات الله جاء باسم الله، ولم يقل استعذ بالرحمن، أو القوي العزيز أو غيره من الأسماء؛ لأن اسم الله يمثل كل أسمائه الحسنى.

{مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} : ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة؛ لمعرفة معنى: الشّيطان.

{الرَّجِيمِ} : مشتقة من الرجم، وله معانٍ مختلفة؛ منها: اللعن، والطرد من رحمة الله تعالى.

ص: 197

سورة النحل [16: 99]

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} :

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ} : إنّه: إنّ: للتوكيد.

{لَيْسَ} : للنفي.

{لَهُ} : تعود على الشّيطان.

{سُلْطَانٌ} : أيُّ سلطان؛ سواء أكان سلطان الحُجَّة والبرهان، أم سلطان القهر والغلبة؛ أيْ: ليس للشيطان أيُّ سلطان مهما كان نوعه.

{عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} : هذه بشرى للذين آمنوا؛ أيْ: ليس للشيطان عليهم أيُّ سلطان.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : تكرار (وعلى): تفيد العلو، والسّمو.

{يَتَوَكَّلُونَ} : من التّوكل. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان.

ص: 198

سورة النحل [16: 100]

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} :

{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} : إنما: كافة ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{سُلْطَانُهُ} : سلطان القهر، والغلبة، أو سلطان الحُجَّة، والإقناع.

{عَلَى الَّذِينَ} : على: تفيد العلو، والمشقة.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{يَتَوَلَّوْنَهُ} : يتخذونه ولياً؛ يطيعون أمره، ويتبعون خطواته، ويخضعون لوساوسه.

{وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} : والّذين: تكرارها يفيد التّوكيد، وفصل كلاً من الّذين يتولونه، والّذين هم به مشركون.

{بِهِ مُشْرِكُونَ} : به: تعود على الله، والّذين هم بالله مشركون، أو به: تعود على الشّيطان؛ أيْ: بسببه أشركوا بالله.

ص: 199

سورة النحل [16: 101]

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

{وَإِذَا} : ظرف للزمن المستقبل تفيد حتمية الحدوث.

{بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} : أيْ: نسخنا حكماً بحكم آخر، أو آية بآية أخرى، كما قال الحق:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} : جملة اعتراضية، والله أعلم بما ينزل: من الآيات.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{يُنَزِّلُ} : بصيغة المضارع؛ للدلالة على التّكرار، والتّجدد، وينزل: منجَّماً على دفعات، وليس جملة واحدة، والله ينسخ، ويثبت بما يُصلح خلقه، ويخفِّف عن عباده حسب حكمته، ومشيئته.

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} : قالوا؛ أي: الّذين كفروا.

{إِنَّمَا} : كافة، ومكفوفة؛ تفيد التّوكيد، والحصر.

{أَنْتَ} : ضمير تفيد التّوكيد.

{مُفْتَرٍ} : من الافتراء: وهو الكذب المتعمد المختلق؛ أيْ: أنت تختلقه من نفسك.

{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : بل: للإضراب الإبطالي.

{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : الحكمة من النّسخ، أو التّبديل، وهناك أقلية تعلم، ويقولون: كلٌّ من عند ربنا.

ص: 200

سورة النحل [16: 102]

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} :

هذه الآية ردّاً على الّذين افتروا أنّ رسول الله اختلق القرآن، أو تَقَوَّلَه.

{قُلْ نَزَّلَهُ} : أي: القرآن؛ نزله من نزل، أيْ: من الله تعالى، أو من اللوح المحفوظ.

{رُوحُ الْقُدُسِ} : الرّوح الأمين جبريل عليه السلام منجَّماً على طوال (23 سنة) بالتّدرج.

وصف بالقدس لطهارته؛ فهو حمل الرّسالة الإلهية إلى الرّسل، ووصف بالرّوح الأمين؛ لأنّه نزل بالرّوح (بالقرآن) كما قال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

{مِنْ رَبِّكَ} : وليس مفترىً، كما قالوا.

{لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} : على إيمانهم؛ اللام: لام التّوكيد (التّعليل)؛ يثبت: تعني: الاستقامة، والالتزام على دين الله، والإيمان، فلا تزغ قلوبهم بعد الهداية، فلا يضلوا، ولا يضعف إيمانهم.

{وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} : ارجع إلى الآية (64-89) من نفس السّورة.

{وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} : بالنّجاة من النّار، والفوز بالجنة، أو بالفلاح في الدّارين.

ونظير هذه الآية جاء في الآية (97) من سورة البقرة: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} .

وفي الآيات (192-195) من سورة الشّعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ} .

سورة النّحل [الآيات 103 - 110]

ص: 201

سورة النحل [16: 103]

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُبِينٌ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد؛ أيْ: تحقق ذلك، وحدث.

{نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} : إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد؛ حيث يمكن أن تكون الآية نعلم أن كفار مكة وغيرهم أنّهم يقولون: يعلمه بشر.

{يَقُولُونَ} : ولم يقل: قالوا؛ لأنّهم استمروا في قولهم، وتجدَّد، وتكرَّر هذا القول بينهم يقولون: إنما يعلمه بشر (أحد من النّاس).

{بَشَرٌ} : اسم جنس: يشمل المفرد والمثنى والجمع، والذكر والأنثى مشتقة من البشرى، والبشارة؛ أيْ: حسن الهيئة؛ يقال: رجل بشر؛ أيْ: حسن الهيئة، أو تعني: الظّهور، أو علو شأنهم، ومنزلتهم، أو من الظّهور، أو من كون لا تغطيهم الأشعار.

وكلمة بشر: نكرة؛ لأنّهم ليسوا على يقين من هو ذلك البشر الّذي يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضاربت الآراء عندهم حول اسمه في تسعة أقوال؛ قالوا: هو غلام لبني عامر يقال له: يعيش كان يقرأ التوراة؛ فقالوا منه يتعلم محمد صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس، وقالوا: غلاماً لعامر بن الحضرمي واسم يسار (أبا فُكيهة)، وقال: عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا غلامان روميان أحدهما يسار والآخر جبر، وكانا يضعان السيوف بمكة ويقرآن الإنجيل؛ فكان النبي يمر بهما وربما استمع إليهما فظن المشركون أنه يتعلم منهما.

{لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} : لسان: العرب تستعمل لسان بمعنى اللغة؛ لأنّ اللسان: هو وسيلة الكلام؛ أي: ولغة الّذي يُلحدون إليه.

{يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} : وتقرأ {يُلْحِدُونَ} بضم الياء وكسر الحاء وتقرأ (يَلحَدون) بفتح الياء والحاء؛ أيْ: يميلون إليه، ويشيرون إلى اسمه، أو يزعمون أنه يعلمه، وأصل الإلحاد الميل يقال ألحد في القبر؛ أي: أمال حفرة عن الاستقامة واستعملت للقول ألحد في دينه أو ألحد في قوله، وبشكل عام الإلحاد هو: الميل.

{أَعْجَمِىٌّ} : أيْ: في لسانه عُجمةٌ؟ أي: الّذي تزعمون أنّه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعجمي، وليس عربياً، وزيدت الياء: للتوكيد، والأعجمي: قيل في تعريفه: من لا يتكلَّم العربية، أو لا يفصح، ولا يُبين الكلام، حتّى وإن كان أصله عربياً.

والعجمي: هو من أصله عجمي، وإن كان يتكلم العربية الفصحى.

{وَهَذَا} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة، ويشير إلى القرآن الكريم.

{لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُبِينٌ} : أيْ: وهذا القرآن نزل بلسان عربي بلسان قريش باللغة العربية الفصحى.

{مُبِينٌ} : واضح، وظاهر لكلّ فرد لسانه؛ أيْ: لغته العربية، ومبين: لا يحتاج إلى دليل، أو برهان؛ لإثبات ذلك؛ لأنّه واضح من قراءته.

ص: 202

سورة النحل [16: 104]

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

هذه الآية جواب للذين قالوا: إنما أنت مفترٍ، كما ورد في الآية (101)، والآية (103) من نفس السّورة.

{إِنَّ الَّذِينَ لَا} : إنّ: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{لَا} : النّافية.

{لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} : لا: يصدقون بآيات الله.

{بِآيَاتِ اللَّهِ} : بآيات: الباء: للإلصاق؛ آيات الله القرآنية، أو الكونية، أو المعجزات، أو البينات، والدّلائل على وحدانيته، وعبوديته.

{لَا يُؤْمِنُونَ} : ولم يقل: آمنوا: يدل على عدم إيمانهم المتجدد، والمتكرر.

{لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} : هداية المعونة، أو الهداية الخاصة.

{لَا} : النّافية.

{لَا يَهْدِيهِمُ} : لأنّهم أنفسهم اختاروا طريق الضّلالة، واستمروا عليه؛ لا يهديهم إلى الصّراط المستقيم، أو إلى سبيل الرّشد، والإيمان.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : ولهم: اللام: لام الاستحقاق، هم: ضمير يفيد التّوكيد.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : عذاب شديد الإيلام، كمّاً ونوعاً؛ عذاب: نكرة؛ ليدل على هوله، وعظمته.

ص: 203

سورة النحل [16: 105]

{إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} :

هذه الآية، والآية السّابقة هي- كما قلنا- جواب للذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر، وقالوا: إنما يعلِّمه بشر.

{إِنَّمَا} : إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يَفْتَرِى الْكَذِبَ} : أيْ: لست أنت المفتر؛ إنما الّذين لا يؤمنون بآيات الله هم الّذين يفترون الكذب، وأولئك هم الكاذبون؛ الافتراء: هو الكذب المختلق المتعمَّد.

{الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} : وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام، وأولئك: اسم إشارة، واللام: للبعد؛ يشير إلى شناعة كذبهم.

{هُمُ} : للتوكيد: الكاذبون: جمع كاذب، وصفة الكذب ثابتة عندهم لا ينفكُّوا عنها؛ لأنّ المؤمن الحق لا يَكْذب.

وتكرار الّذين لا يؤمنون بآيات الله مرتين يفيد التّوكيد مرة على قولهم إنما أنت مفترٍ، ومرة ثانية على قولهم: إنما يعلمه بشر، والخلاصة: الّذين لا يؤمنون بآيات الله أوّلاً: لا يهديهم، ثانياً: لهم عذاب أليم، ثالثاً: هم الكاذبون.

ص: 204

سورة النحل [16: 106]

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :

{مَنْ} : شرطية للعاقل؛ تعني: المفرد، أو الجمع، أو المثنى.

{كَفَرَ بِاللَّهِ} : كفر: كفر إلحاد بوجود الله، ووحدانيته بعد أن دخل في الإسلام.

{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) للبيان.

{مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} : من: تفيد المباشرة، مباشرة من بعد إيمانه وإسلامه.

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} : إلا: أداة حصر، أو استثناء؛ أيْ: إلا من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان.

{مَنْ} : اسم موصول؛ بمعنى: الّذي.

{أُكْرِهَ} : بأن أصبحت حياته في خطر مهدَّد بالقتل، أو العذاب، والفتنة، فأكره على التّلفظ بالكفر، أو كلمة الكفر؛ فقالها لفظاً، ولكن قلبه مطمئن بالإيمان.

{مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} : مليءٌ بالإيمان، واليقين بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

سبب نزول الآية: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر بعد أن قتل المشركون أباه ياسر، وأمّه سُمَيَّة، وهما أوّل قتيلين في الإسلام، ولما جاؤوا إلى عمار أعطاهم ما أرادوا بلسانه من أجل التّقية.

فمن أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، فهو أمام خيارين:

الأوّل: أن يصمد ويصدع بالحق، وإذا قتل، أو مات مات شهيداً في سبيل الله.

والثّاني: أن يأخذ بالتّقية، ويستخدم الرّخصة على شرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان، وأمّا إذا أكره على الكفر، وأُمر بأن يقتل أحداً؛ فلا يجوز فعل ذلك، والامتناع، والصّبر.

{وَلَكِنْ مَنْ} : لكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{مَنْ} : شرطية، أو اسم موصول، وتعني العاقل، والمفرد، أو الجمع.

{شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} : أيْ: نطق بكلمة الكفر، وهو راضٍ وغير مبالٍ بها، أو سعيد بها، أو طابت نفسه بها.

{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} : على: تعني: الجميع.

{غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} : سبحانه في الدّنيا؛ الغضب: أشد من اللعن الّذي هو الطّرد من رحمة الله تعالى. غضب من الله: جملة اسمية تدل على ثبوت لعنة الله عليهم، ولا رحمة، ولا مغفرة لهم.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : اللام: لام الاختصاص، هم: للتوكيد.

{عَذَابٌ عَظِيمٌ} : في الآخرة، وهو أشد أنواع العذاب، والعظيم: هو العذاب الّذي يشمل الأليم، والشّديد، والمهين، والمقيم.

ص: 205

سورة النحل [16: 107]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} :

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة؛ يشير إلى الوعيد أنّ غضب الله عليهم، ولهم عذاب عظيم.

{بِأَنَّهُمُ} : الباء: للتعليل؛ أنّهم: للتوكيد.

{اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} : لم يقل: أحبوا، وإنما استحبوا؛ أيْ: تكلَّفوا، وغالوا في حبها؛ أيْ: حبهم زاد عن الحب الطّبيعي، بل انغمسوا، وأوغلوا في حبها، وساروا في طريق الشّهوات، والملذات، وآثروا الحياة الدّنيا على الآخرة.

{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : وأن: تفيد التّوكيد؛ لا: النّافية للجنس.

{لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : الّذين اختاروا الكفر على الإيمان، وأصروا عليه، ولم يعد لهم أمل في ترك الكفر.

ص: 206

سورة النحل [16: 108]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، وتشير إلى سوء حالهم، ومنزلتهم.

{الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : الطّبع: أشد من الختم؛ فلا يدخل قلوبهم أيُّ إيمان، ولا يخرج منها أيُّ كفر، وقوله تعالى: طبع الله على قلوبهم، ولم يقل: وطُبع على قلوبهم بالبناء للمجهول؛ للدلالة على شدة الطبع والتحذير منه.

{وَسَمْعِهِمْ} : السّمع: وسيلة من وسائل الإدراك، والختم على سمعهم يعني: فلا يسمعوا الوحي، أو القرآن، ولا الموعظة، ولا البينات، وأفرد السّمع؛ لأنّ الكلام المسموع هو نفسه بالنّسبة لكلّ فرد، وقدَّم السّمع على الأبصار؛ لأنّ السّمع أهم من البصر، وخلق السّمع قبل البصر. ارجع إلى الآية (7) من سورة البقرة، والآية (23) من سورة الملك؛ لمزيد من البيان.

{وَأَبْصَارِهِمْ} : جمع الأبصار؛ لأنّ كلّ عين ترى أشياء مغايرة للآخر.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} : أولئك: ارجع إلى أولئك في مطلع الآية نفسها.

{هُمُ الْغَافِلُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ أيْ: إذا كان هناك غافلون فهم أغفلهم، ولا أحد أغفل منهم، أو الّذين غفلتهم تامة كاملة.

{الْغَافِلُونَ} : جمع غافل، وغافلون تفيد أنّ صفة الغفلة ثابتة، وملازمة لهم، ولن يَصحُوا منها، ويعودوا إلى رشدهم؛ الغافلون عن الآخرة، والبعث، والحساب، والغافلون عن عاقبة أمرهم، ومصيرهم، وما لهم في الآخرة، وما ينتظرهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى: غافلين.

والخلاصة: هؤلاء المرتدون الّذين كفروا بعد إيمانهم، وانشرحت صدورهم بالكفر عليهم غضب الله، ولهم عذاب عظيم، ولهم خمس صفات استحبوا الحياة الدّنيا على الآخرة، وحرموا من الهداية، وطبع الله على قلوبهم، وسمعهم، وأبصارهم، وهم من الغافلين والخاسرين.

ص: 207

سورة النحل [16: 109]

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{لَا جَرَمَ} : لا محالة، ولا بُدَّ، أو حقّاً من جرم. ارجع إلى الآية (62) من نفس السّورة؛ لمزيد من البيان.

{أَنَّهُمْ} : أنّ: للتوكيد.

{فِى الْآخِرَةِ هُمُ} : هم: ضمير يفيد التّوكيد.

{الْخَاسِرُونَ} : جمع خاسر؛ خسروا أنفسهم بأن أوردوها النّار، وقد تشمل أهليهم؛ أيْ: حقّاً، أو لا محالة هم الخاسرون. وإذا قارنا هذه الآية من سورة النحل مع الآية (22) من سورة هود، وهي قوله تعالى:{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} فالأخسرون: هم أشد خسارة من الخاسرون والأخسرون؛ إذا نظرنا في سياق الآيات تعني: الذين صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم، أما الخاسرون جاءت في سياق الذي صد نفسه فقط، ولم يصد غيره، فالأخسرون يضاعف لهم العذاب كما ورد في سياق الآيات مقارنة بالخاسرون.

ص: 208

سورة النحل [16: 110]

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{ثُمَّ} : تدلُّ على تباعد حال هؤلاء من أولئك الّذين كفروا وشرحوا بالكفر صدراً.

{إِنَّ رَبَّكَ} : إنّ: للتوكيد.

{لِلَّذِينَ هَاجَرُوا} : للذين: اللام: لام الاختصاص.

{هَاجَرُوا} : من مكة إلى المدينة. ارجع إلى الآية (41) من نفس السّورة؛ لمزيد من البيان.

{مِنْ بَعْدِ} : من بعد: منذ زمن قريب.

{فُتِنُوا} : أيْ: عذِّبوا؛ لأنّهم أسلموا؛ فتنوا: عن دينهم؛ ليكفروا، أو يرتدوا.

{ثُمَّ جَاهَدُوا} : ثم: للترتيب الذّكري؛ أيْ: قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.

{وَصَبَرُوا} : على دينهم، وجهادهم، أو صبروا على الطّاعات، وتجنب المحارم، وصبروا على الفتنة، والبلاء.

{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : من بعد الفتنة، أو الهجرة، أو المجاهدة.

{لَغَفُورٌ} : اللام: لام التّوكيد؛ غفور: كثير الغفر: وهو السّتر، ومحو الذّنب؛ غفور: كماً وكيفاً؛ يغفر الذنوب جميعاً؛ إلا الشرك والكفر بالله.

{رَحِيمٌ} : بهم، رحيم: على وزن فعيل؛ رحيم بهم في الآخرة، ورحيم: خاصة بالمؤمنين؛ لم يعجل لهم العقوبة؛ لعلهم يتوبوا وينيبوا إلى ربهم فيغفر لهم.

سورة النّحل [الآيات 111 - 118]

ص: 209

سورة النحل [16: 111]

{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

{يَوْمَ} : منصوب جاء بصيغة النكرة؛ ليدل على هول ذلك اليوم، وعظيم أحداثه، ويعني: يوم القيامة.

{تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا} : كلّ إنسان له نفس واحدة، وهذه النّفس لها حق الاختيار في أن تفعل، أو لا تفعل، ما أمرها ربها في الدّنيا، أما في الآخرة فيصبح كلّ إنسان يجادل عن نفسه؛ أيْ: يدافع، أو يحاول الاعتذار ليخلص نفسه من العذاب، ولا يهمه شأن غيره؛ يقول: نفسي نفسي، والنّفس الأولى: هي عينها، أو ذاتها النّفس الثّانية.

{وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} : تعطى كلّ نفس جزاء عملها تاماً غير ناقصاً؛ مما عملت من خير، أو شر. ما عملت، ولم يقل: ما كسبت؛ العمل: أعم من الكسب، العمل يشمل الكسب وغيره.

{مَا} : حرف مصدري، أو بمعنى الّذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{لَا} : النّافية للجنس.

{لَا يُظْلَمُونَ} : وإن كان مثقال حبة من خردل؛ لا يظلمون: ينقص شيئاً من حسناتهم، أو يُزاد إلى سيئاتهم سيئة، كما قال سبحانه:{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، أو {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].

ص: 210

سورة النحل [16: 112]

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} :

بعد أن هدَّد الله سبحانه الكفار، والمرتدين بالغضب، والعذاب العظيم في الآخرة؛ يهددهم في هذه الآية بآفات الدّنيا، وما يمكن أن يحل بهم إذا كفروا بأنعم الله.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : ارجع إلى الآية (74) من نفس السّورة؛ لمعرفة معنى ضرب المثل، وضرب الأمثال يكون من باب المُبين.

{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} : قرية: قيل: هي مكة، كما قال أغلب المفسرون، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب.

{كَانَتْ آمِنَةً} : من الخوف من الاعتداء، والقتال.

{مُّطْمَئِنَّةً} : عندها مقومات الحياة الطّيبة، والمستقرة.

{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} : لا يحتاج أهلها إلى الانتقال والتّرحال طلباً للرزق، رزقها يأتيها من كلّ مكان من الثّمرات، والمنتجات، والطّعام، والشّراب، ومن متاع الدّنيا في رحلة الشّتاء، والصّيف من الشّام، واليمن.

{رَغَدًا} : الرّغد: العيش الهنيء الواسع.

وقدَّم الأمن على الرّزق؛ لأنّ الرّزق لا يأتي إلا إذا توافرت الطّرق الآمنة؛ لوصول الرّزق، والسّفر، والتّنقل من دون خوف.

{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} : الفاء: تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ كفرت بأنعم الله؛ أي: الربانية الظاهرة؛ أيْ: جحدت النّعم، وأنكرت توحيده، وأشركت به، وكذبت برسوله محمّد صلى الله عليه وسلم، واستعملت نعم الله تعالى في سبيل التّصدي، ومنع النّاس من الدّخول في الإسلام، والصّد عن سبيل الله بدلاً من شكر المنعم، والثّناء عليه.

وكلمة أَنْعُم: وردت مرتين في كل القرآن في هذه الآية، والآية (120) من نفس السورة، والأنْعُم: جزء من النِعَم؛ النعم: شاملة للظاهرة والباطنة، أما الأُنْعم: فهي الظاهرة.

{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ إذا نظرنا في هذه الآية نجد ثلاثة أسئلة:

الأوّل: لماذا استعمل كلمة: أذاقها بدلاً من مسها الجوع والخوف؟ الجواب: لأن التذوق يعني: تمكن الطعام من الامتصاص أو التسرب إلى اللسان؛ أي: جسم الإنسان، وأما المس: فهو الإصابة الخفيفة التي قد لا يكون لها أثر، فالتذوق أشد من المس؛ فيدل ذلك على أن الجوع والخوف قد أثر فيهم، وترك آثاره لزمن طويل، وكذلك التذوق قد يكون مراً كما هو الحال في بعض الأطعمة، وكذلك الجوع والخوف كان مراً مكروهاً عندهم.

والثّاني: لماذا شبه الجوع، والخوف باللباس؟ لأن اللباس يحيط بالجسم كاملاً، وكذلك أحاط بهم الجوع والخوف، وتمكن منهم، فالكل أصيب بالجوع والخوف معاً.

والثّالث: لماذا قدَّم الجوع على الخوف؟ أولاً: لأن الجوع أشد على الإنسان من الخوف؛ أي: يمكن أن يتحمل الإنسان الخوف، ولكن لا يتحمل الجوع. ثانياً: لأن الجوع يسبق الخوف، أو يؤدي إلى الخوف حيث أن الجوع قد يؤدي إلى السرقة والقتل، وهذا بدوره يؤدي إلى الجريمة والخوف.

فالمس يعني: الإصابة الخفيفة، والذّوق يعبر عن الإصابة الأشد؛ فأذاقها تعني: الجوع؛ أيْ: أجاعها، والجوع: أقوى الحواس، وأشد ألماً وحساً من المس؛ فلذلك استعمل الذوق. ارجع إلى سورة هود، آية (9)؛ لمزيد من البيان.

واستعمل لباس الجوع، والخوف: لشدة الجوع؛ أي: الحرمان من الطّعام، والذي استمر عدة سنين، والخوف الّذي حل بمكة، وقريش؛ فعندما يقل الطّعام يحتاج الجسم إلى الطاقة الحرورية، وعندما تنقص السكريات في الجسم؛ مما يؤدِّي إلى التّحول إلى استعمال الدّهون (المادة الشحمية)؛ كمصدر للطاقة، وإذا استمر الجوع يؤدِّي في النّهاية إلى استعمال البروتينات في توليد الطّاقة، وعندها تظهر على الجسم علامات شدة الجوع على البشرة الجلدية الّتي تجف، وتنكمش، وتتغير معها ملامح الوجه، ويظهر الشّحوب، ويقل وزن الإنسان، ويصبح متعب مرهق.

فالجوع الشّديد تصاحبه تغيرات في البشرة، واللون، والجسم، والوزن، تغيُّرات ظاهرية تشبه باللباس الّذي يحيط بالإنسان، كما أحاطت مظاهر شدة الجوع بجسم الإنسان، وهذا ما حدث لقريش أصابهم الفقر الشّديد في سبع سنين؛ فكانوا يأكلون الجيف، والعظام.

وأمّا الخوف الشّديد، فكذلك يؤدِّي إلى تغيُّرات في جسم الإنسان تؤدِّي إلى فرز هرمونات تؤدِّي إلى إثارة نهايات الأعصاب الّتي تقبض مسام البشرة، وبالتّالي مما يؤدِّي بالخائف إلى اضطرابات في عدد ضربات القلب، ويقشعر جلده، ويتغير لونه، وبالتّالي تحيط تلك التّغيرات بكامل الجسم، وهذه التّغيُّرات العامة الناتجة عن الخوف تشبه اللباس الّذي يحيط بالإنسان؛ فقد كانت قريش تعيش حالة غير آمنة مهددة من القبائل الأخرى، واليهود، والرّعب الّذي بثَّه الله في قلوبها، وهذه الآية من آيات الإعجاز العلمي الطّبي في القرآن الّذي يدل على عظمة القرآن، وأنّه منزل من الخالق.

والجواب على السّؤال الثّالث: أمّا تقديم الجوعّ على الخوف؛ فلأنّ الإنسان يحتاج إلى الطّعام قبل الأمن؛ لأنّ الجوع إذا اشتد قد يؤدِّي إلى السّرقة، أو القتل أحياناً، وإشاعة الخوف، والرّعب في قلوب النّاس؛ فقدَّم الأهم أولاً، وهو الجوع على الخوف.

{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} : بما: الباء: باء البدلية، أو السّببية.

{يَصْنَعُونَ} : ولم يقل: يعملون؛ لأنّهم أصبحوا على درجة عالية من ممارسة الشّرك والكفر، والإصرار عليه، ومعاداة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا ماهرين لا يفوقهم أحد، فهم تجاوزوا مرحلة العمل إلى مرحلة الصّنع، والصّنع: هو حسن العمل؛ أيْ: أصبحوا راسخون في صناعة الكفر؛ أيْ: تفنَّنوا في الكفر، والشّرك، ولم يكتفوا بذلك؛ فحاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا عليهم رسول الله فاستجاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وألبسهم لباس الجوع، والخوف.

ص: 211

سورة النحل [16: 113]

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} :

بعد أن ذكر الله سبحانه في الآية السّابقة {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} ، ومن أعظم نعم الله تعالى الّتي كفروا بها هي أن:{جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} .

{وَلَقَدْ} : لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد؛ أيْ: تحقق ذلك.

{جَاءَهُمْ رَسُولٌ} : جاءهم، ولم يقل: أتاهم، جاء فيها معنى: المشقة، والصّعوبة، والإتيان: فيها معنى السّهولة، وجاء يعني: وصل إليهم، جاءَهم على فترة من الرّسل، وكانت أخلاقهم أخلاق الجاهلية. جاءهم: ليقوم ويصلح فسادهم، ومبادئهم.

{مِّنْهُمْ} : من العرب من قريش يعرفونه وعاش بينهم ولقبوه بالصادق الأمين.

{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ كذبوه ولم يصدقوا به، ويتبعوه.

{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} : فأخذهم: الفاء: للترتيب والمباشرة؛ الجوع، والخوف، ولم يقل: فأخذهم الله بالعذاب؛ قال: أخذهم العذاب؛ كأنّ العذاب نفسه يريد أن ينقض عليهم؛ لأنّهم عاملوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالمعاملة السيئة.

{وَهُمْ ظَالِمُونَ} : وهم: الواو: واو الحالية للتوكيد، وهم: ضمير للتوكيد.

{ظَالِمُونَ} : جمع ظالم: كافرون، ومشركون صفة الظّلم أصبحت ثابتة عندهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (54) لمعرفة معنى الظلم.

ص: 212

سورة النحل [16: 114]

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} :

الخطاب هنا في هذه الآية للمؤمنين ليأكلوا من الرّزق الحلال الطّيب، أو الخطاب موجَّه لقريش بعد أن أكلوا الجيف، وأصابهم لباس الجوع، والخوف.

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} : لأنّهم كانوا قبل نزول هذه الآيات لا يتورَّعون عن أكل ما حرَّم الله، أو أكل الخبيث؛ فجاءت هذه الآية تحثهم على أكل الطيبات؛ أي: الحلال والطاهر. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (69).

وكذلك كانوا لا يشكرون نعمه، فجاءت هذه الآية؛ لتحذرهم أن يقعوا مرة أخرى فيما وقعوا به سابقاً، وتحثهم على شكر المنعم.

{إِنْ كُنتُمْ} : إن: شرطية تفيد الشّك.

{إِيَّاهُ} : إياه: للحصر، والتّوكيد.

{تَعْبُدُونَ} : ارجع إلى الآية (73) من نفس السّورة، وفي الآية حث على العبادة، والاستمرار عليها.

ص: 213

سورة النحل [16: 115]

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} : الّتي خرجت منها الرّوح، سواء أكانت منخنقة، أو موقوذة، أو متردية، أو نطيحة، أو ما أكل السَّبُع، أو قتلت بوسائل أخرى، أو ماتت لكبر سنها، أو ماتت لمرض؛ فكل هذه الأسباب تؤدي باللحم إلى التفسخ، والفساد نتيجة موت الخلايا لنقص الأوكسجين، وتحلل الأنسجة، وسرعة انتشار الميكروبات والجراثيم، وحدوث الخثرات الدموية في الأوعية والأنسجة.

{وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} : والدم: يحمل كل نفايات الجسد السامة، والمواد الكيماوية، والمركبات الضارة؛ مثل: البولة الدموية التي يحاول الجسم التخلص منها، وكذلك البكتريا، والدّم الجاري المسفوح حرم شربه، واستعماله بأيِّ وسيلة، ومستثنى من ذلك الكبد والطحال، ولحم الخنزير؛ لأن الخنزير حيوان قذر ونجس يأكل القاذورات، ولحمه بؤرة مناسبة لنمو الفيروسات والبكتريا والديدان التي هي متعايشة مع الخنزير فلا تؤثر عليه، وكذلك لحمه يحوي على نسبة عالية من الحموض الدهنية غير المشبعة، والحاوية على الكولسترول، ومسببات الأمراض، ومنها ارتفاع الضغط، والبرودة الجنسية.

{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : بأن ذكر اسم غير اسم الله عليه عند ذبحه؛ مثل: اسم اللات، والعزى، أو اسم هذا الولي، أو ذاك بدلاً من القول باسم الله، والله أكبر؛ فقد أثبتت التجارب العلمية على أن تذكية الحيوان بالذبح كما شرع الله يؤدي إلى زيادة في تصفية لحم الحيوان من الدم، وكذلك ذكر اسم الله عليه عند الذبح، والقول باسم الله والله أكبر يؤدي إلى مزيد من تصفية اللحم من الدم نتيجة الاختلاجات الناتجة عن الذبح والتكبير، وبذلك يكون أطهر وأطيب للجسم، وندرك بعض الحكمة من التحريم.

{فَمَنِ اضْطُرَّ} : أن يأكل عليه أن لا يكون باغ ولا عاد. ارجع إلى سورة المائدة، آية (3)؛ للبيان.

{غَيْرَ بَاغٍ} : أيْ: ليس عنده بدائل عن أكل الميتة، أو غيرها من المحرمات؛ أيْ: يأكل طعام يسد رمقه.

{وَلَا عَادٍ} : يأكل غير متجاوز حدَّ حاجته؛ أيْ: لا يملأ بطنه، وإنما يأكل لسدِّ رمقه.

{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : فإنّ: الفاء: للتوكيد؛ إنّ: لزيادة التّوكيد.

{غَفُورٌ} : لأنّه يغفر الذّنب للمضطر، وغفور: كثير الغفر؛ أي: السّتر، يغفر الذّنوب جميعاً.

{رَحِيمٌ} : لإعطاء الرّخصة بالأكل من الميتة، والدّم، ولحم الخنزير في حالة الاضطرار التي قد يؤدِّي إلى التّهلكة.

ص: 214

سورة النحل [16: 116]

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} :

{وَلَا تَقُولُوا} : لا: النّاهية.

{تَقُولُوا} : هذا حلال، وهذا حرام.

{لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} : أيْ: لا تصفوا الشّيء بالكذب، وتقولوا: هو حلال، أو حرام؛ مثال: لا تصفوا البحيرة، والسّائبة، والوصيلة، أو الحام بالكذب، أو تقولوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرَّم على إناثنا، وتقولوا: هو حلال، أو هو حرام من دون الاستناد إلى دليل شرعيٍّ.

{لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : لتفتروا: اللام: لام التّعليل؛ لتقولوا عن الحلال حرام، والحرام حلال، أو تحلوا، أو تحرموا حسب أهوائكم، أو ما وجدتم عليه آباءكم؛ لتفتروا على الله الكذب بدلاً من: لتفتروا الكذب على الله؛ تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، والقصر.

{الْكَذِبَ} : جاء بألف التّعريف؛ لأنّه كذب معروف؛ مثل: البحيرة، والسّائبة، والوصيلة، والحام، أو الميتة، ولم يقل: كذباً بصيغة النّكرة الّذي يشمل كلّ أنواع الكذب.

{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يفيد الذّم.

{يَفْتَرُونَ} : من الافتراء: وهو الكذب المختلق المتعمَّد، ويفترون: بصيغة المضارع الدّالة على التّجدد، والتّكرار.

{عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : يكذبون على الله سبحانه؛ يقولون: هذا ما حرَّم الله، وهو تعالى لم يحرِّمه، أو بالعكس.

{لَا يُفْلِحُونَ} : لا: النّافية.

{يُفْلِحُونَ} : في الدّنيا، والآخرة، والفلاح: النّجاة من النّار، والفوز بالجنة؛ أيْ: لن ينالوا الخير، وينجوا من النّار. ارجع إلى سورة البقرة، آية (5)؛ للبيان.

ص: 215

سورة النحل [16: 117]

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} : النّفع، والفائدة الّتي حصلتم عليها من جراء الافتراء على الكذب؛ متاع قليل، وزائل، ولن يدوم طويلاً.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام في الآخرة؛ غير قادر على تحمُّله أحدٌ.

ص: 216

سورة النحل [16: 118]

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه ما حرَّم مشركو مكة افتراء على الله، وقالوا: هذا حلال، وهذا حرام؛ يذكرنا الله سبحانه ما فعله الذين هادوا من قبل.

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} : كان كلّ الطّعام حلالاً لهم، ثمّ حرَّم الله عليهم ما قصصنا عليك يا محمّد صلى الله عليه وسلم. والسؤال: لماذا قدم (على) في هذه الآية بدلاً من (وحرمنا على الذين هادو)؟ للدلالة على أن ذلك التحريم خاصاً بهم، ولم يكن محرماً في شريعة إبراهيم عليه السلام ، وإنما حرم عليهم ابتداءً عندما صدوا عن سبيل الله، وأخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل عندها حرم عليهم كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم، وهذا التحريم كان خاصاً بهم دون غيرهم.

{مِنْ قَبْلُ} : أيْ: ما ذكرناه في سورة الأنعام، الآية (146)، {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} .

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} : لأنّ سبب التّحريم: هو ظلمهم، وصدهم عن سبيل الله، وغيرها من الأسباب الّتي ذكرها الله سبحانه في سورة النّساء، الآية (160-161)؛ فقد قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} ، وكذلك: اتخاذهم العجل، ونقضهم ميثاقهم، فكانت هناك الأسباب الكثيرة الّتي أدت إلى التّحريم، ولم يكن ظلماً من الله سبحانه.

{وَلَكِنْ} : وما ظلمهم الله، ولكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : بما ارتكبوا من المعاصي، وببغيهم، وطغيانهم.

سورة النّحل [الآيات 119 - 128]

ص: 217

سورة النحل [16: 119]

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{ثُمَّ} : للتوكيد، أو للترتيب الذكري.

{إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ} : إنّ: للتوكيد.

{لِلَّذِينَ} : للذين: اللام: للاختصاص؛ الّذين: اسم موصول.

{عَمِلُوا السُّوءَ} : كفروا بأنعم الله، وافتروا على الله الكذب بالتّحليل، والتّحريم، والكفر، والشّرك، وسمِّي سوءاً لسوء عاقبته.

{بِجَهَالَةٍ} : الباء: للإلصاق؛ جهالة: أيْ: عملوا السّوء مع العلم بالعقوبة، أو عاقبة أمرهم، ولكنهم تغافلوا عنها سفهاً، وطيشاً، وتهاوناً لنيل الشّهوة العاجلة، ولو فكروا، وتدبروا لما فعلوا ذلك، وقيل: كلّ عاص هو جاهل حين معصيته، أو سُمُّوا جهالاً لكونهم ارتكبوا المعصية، والجهل ناتج عن عدم العلم.

إذن: الفرق بين الجهل، والجهالة: الجهل: هو عدم العلم بالعقوبة مثلاً، والجهالة: هي العلم بالعقوبة، ولكن لم يتجنَّبها سفهاً، وحماقة أصابته حين قام بها.

{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : ثم: للبعد، والتّباين بين الحالين عمل السّوء، والتّوبة، والإصلاح.

{تَابُوا} : استغفروا ربهم، وتابوا، وكفوا عن عمل السّوء، ولم يعودوا إليه، وندموا على ذلك، وعملوا الصّالحات.

{مِنْ} : تفيد قصر الزّمن، أو الفترة؛ أيْ: تابوا مباشرة بعد عمل السّوء.

{بَعْدِ ذَلِكَ} : أيْ: بعد عمل السّوء بزمن قصير، ولمعرفة أركان التوبة ارجع إلى سورة النساء، آية (17-18).

{وَأَصْلَحُوا} : إصلاح ما أفسدوا بأقوالهم، وأفعالهم.

{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : إنّ: للتوكيد.

{رَبَّكَ} : المربي، والخالق، والمدبر.

{مِنْ بَعْدِهَا} : من بعد التّوبة، والإصلاح.

{لَغَفُورٌ} : اللام: للتوكيد؛ غفور: كثير المغفرة يغفر لهم ذنوبهم، وما عملوا من السّوء، وغفور؛ أيْ: كثير المغفرة يغفر الذنوب جميعاً إلا الشّرك، والكفر.

{رَحِيمٌ} : كثير الرّحمة لا يعجل لهم العقوبة لعلهم يتوبون، ويعودون إلى رشدهم. رحيم: تخص المؤمنين بأنّه رحيم بهم في الدّنيا، وفي الآخرة.

ص: 218

سورة النحل [16: 120]

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

المناسبة: بعد ذكر الّذين كفروا بأنعم الله، وافتروا على الله الكذب بالتّحريم، والتّحليل، والشّرك، وذكر الّذين هادوا وما حرم عليهم، يذكرهم بجدهم إبراهيم عليه السلام الأسوة الحسنة الّتي يجب اتباعها، وأنّه تعالى أوحى إلى نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام .

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} : إنّ: للتوكيد.

{كَانَ أُمَّةً} : الأمّة: هنا تعني: الإمام كقوله: {إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، أو فلان أمة في مقام أمة؛ أي: جماعة من الناس في الطّاعة، والعبادة، والخير فيه خصائص الأمة.

{قَانِتًا لِلَّهِ} : مطيعاً لله قائماً بأوامره، وخاشعاً لله.

{لِلَّهِ} : اللام: لام الاختصاص.

{حَنِيفًا} : مائلاً عن الملل الباطلة إلى الدِّين الحق.

{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : لم: نافية تنفي النّفي المتصل إلى زمن التّكلم، وتنفي الاستمرار.

{يَكُ} : ولم يقل: يكن؛ يك: أقل من يكن، وأدنى منها؛ أيْ: لم يشرك بالله، ولو أدنى الشرك.

ص: 219

سورة النحل [16: 121]

{شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ} : بينما أنتم يا أهل مكة كفرتم بأنعمه، وأنّكم تزعمون أنّكم على ملة إبراهيم، وإبراهيم عليه السلام كان شاكراً لأنعم الله.

الأَنْعم: هي أخص من النّعم، وتعني: النّعم الظّاهرة؛ فهو شاكراً لأنعم الله الظّاهرة. والنِّعِم: تعني الظاهرة والباطنة، وشاكراً لأنعمه: أي: بعض نِعِمِهِ؛ لأن شكر النِّعِم كلها لا يستطيع عليها أحد، كما إن إحصاؤها لا يقدر عليه أحد، كذلك شكرها، والنِّعِم: جمع كثرة، والنَّعَم: جمع قلة مقارنة بالنِّعِم.

{اجْتَبَاهُ} : مأخوذ من جبيت الشّيء: إذا أخلصته لنفسك وجبيت الماء في الحوض؛ إذا جمعته، أو خصه الله بنعم خاصة به، أو الاجتباء يكون بعد الاختيار: اختاره للنبوَّة، وأن يكون خليلاً للرحمن.

{وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : هداه هداية خاصة، هداية المعونة إلى الإسلام، الصّراط المستقيم الّذي لا عوج فيه.

والصّراط: تعني: الواسع، والموصل إلى الغاية، وهي النّجاة من النّار، والفوز بالجنة بأقصر زمن، ومسافة، ومن دون عوائق.

ص: 220

سورة النحل [16: 122]

{وَآتَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} :

{وَآتَيْنَاهُ} : من الإيتاء: وهو العطاء من دون تملك، وإمكانية استرداد ما أعطي، والإيتاء: أعم من العطاء، ويشمل الأشياء الحسية، والمعنوية.

{فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} : قيل: الحسنة في الدّنيا تعني: الثّناء عليه من قبل جميع أهل الأرض، ومحبتهم له، والحسنة: هي الذّكر الحسن، أو الثّناء الحسن، والصّلاة عليه المقرونة بالصلاة على محمّد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الحسنة هي النّبوَّة.

أو هي الذّرية الطّيبة: {وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 37]، وجاء بصيغة النّكرة؛ لكي تشمل كلّ أنواع الحسنات، ولمعرفة معنى الحسنة: ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمزيد من البيان.

{وَإِنَّهُ} : إنّ: للتوكيد؛ أيْ: إبراهيم.

{فِى الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} : في: ظرفية زمانية، ومكانية.

{لَمِنَ} : اللام: للتوكيد، والاختصاص.

{الصَّالِحِينَ} : ارجع إلى سورة البقرة، الآية (130).

لنقارن هذه الآية من سورة النّحل: {وَآتَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} .

مع الآية (27) من سورة العنكبوت: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} .

استعمل أجره بدلاً من حسنة؛ لأنّ في سورة العنكبوت: ذكر تبليغ الرّسالة، والدّعوة إلى التّوحيد فيها ذكر العمل المتواصل، ولذلك ذكر الأجر المقابل للعمل به.

بينما في سورة النّحل: لم يذكر أيَّ دعوة، أو تبليغ لإبراهيم، وإنما ذكر محاسن إبراهيم، ولذلك ليس هناك ذكر للأجر المقابل للعامل.

ص: 221

سورة النحل [16: 123]

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

{ثُمَّ} : تفيد التّباعد، والتّراخي في الزّمن بين زمن إبراهيم، وزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو التّباعد، والتّباين بين منزلة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم عليه السلام .

{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : من الوحي: هو الإعلام بخفاء أخبرناك يا محمّد صلى الله عليه وسلم. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لبيان معنى: أوحينا إليك.

{أَنِ} : أن: مصدرية تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{اتَّبِعْ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته.

{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} : شريعة إبراهيم الحنيفية السّمحة؛ شريعة التّوحيد، والإسلام. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (13)؛ لمزيد من البيان في معنى الملة.

{حَنِيفًا} : مائلاً عن الملل الباطلة إلى الدِّين الحق، دين التّوحيد.

{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : وما: الواو عاطفة؛ ما: نافية. ما كان من المشركين: توكيد لقوله تعالى حنيفاً.

{وَمَا كَانَ} : تنفي عنه الشّرك نفياً يشمل كلّ الأزمنة، وبكل أنواعه، وفي الآية (120) نفى عنه مقداره؛ فقال: لم يك من المشركين.

ص: 222

سورة النحل [16: 124]

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

المناسبة: وأنتم كذلك اتبعوا ملة إبراهيم عليه السلام ، ولا تختلفوا كما اختلف اليهود في السّبت.

واختيار يوم الجمعة كان دليلاً على اتباع محمّد صلى الله عليه وسلم؛ ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأنّ إبراهيم كان قد اختار يوم الجمعة في شرعه، بينما اليهود اختاروا يوم السّبت الّذي لم يكن من شرع إبراهيم.

فقد قال موسى لهم: تفرغوا لعبادة الله يوم الجمعة؛ فرفضوا ذلك، واختاروا يوم السّبت، فرجعوا إلى أحبارهم؛ فقال أحبارهم: اسمعوا لأمر نبيكم؛ فأبوا فذلك اختلافهم، كما روي عن ابن عباس.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{جُعِلَ السَّبْتُ} : فرض تعظيم السّبت، والانشغال بالعبادة فيه، أو جعل وبال تركه حُجَّة على الّذين اختلفوا فيه.

{عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} : على الّذين اختلفوا: أي: اليهود.

{فِيهِ} : قد تعود إلى اختيارهم يوم السّبت للتفرُّغ للعبادة بدلاً من الجمعة، أو تعود إلى إبراهيم.

الّذين اختلفوا فيه؛ أي: اليهود، والنّصارى، هل كان يهودياً أم نصرانياً، وإذا كان الاختلاف يرجع إلى السّبت؛ فقد كان اختلافهم بينهم، وبين نبيهم موسى عليه السلام ، وليس بين اليهود بعضهم مع بعض؛ لأنّ الكلّ اختار السّبت، أمّا موسى عليه السلام فقد اختار الجمعة؛ فخالفوه، واختاروا السّبت؛ فجعل السّبت حُجَّة على الّذين اختلفوا فيه.

وقد تعود إلى القرية الّتي كانت حاضرة البحر؛ إذ يعدون في السّبت بأن أحلوا الصيد منه، فاختلف أصحاب القرية، فانقسموا إلى ثلاث طوائف. ارجع إلى سورة الأعراف، الآيات (163-166).

{عَلَى} : تفيد العلو، والمشقة؛ أيْ: كان عاقبة اختيارهم للسبت ليس لمصلحتهم، وإنما عليهم.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : ليحكم: إن واللام: تفيدان التّوكيد.

{لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} : بين اليهود أنفسهم؛ بين أهل الملة الواحدة بالمجازاة على أعمالهم.

{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : أيْ: سيجازي هؤلاء الّذين خالفوا أمر نبيهم، ويجازي الّذين أحلُّوا حرمته، واصطيادهم يوم السّبت، والّذين عظموا حرمته.

ص: 223

سورة النحل [16: 125]

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} :

بعد أن أمر الله سبحانه نبيه محمّد باتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ جاءت هذه الآية لتبين كيف يتم منهاج الإتباع، وبالتّالي الدّعوة إلى دين الله وشرعه.

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} : ادع: من الدّعوة، والدّعوة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: الدّعوة إلى الله: هي الدّعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا.

وقيل: الدّعوة إلى الله: تتضمن الأمر بكلّ ما أمر الله به، والنّهي عن كلّ ما نهى الله عنه.

وقيل: الدّعوة: هي إبلاغ النّاس، ودعوتهم إلى الإسلام بالوسائل، والأساليب المناسبة لكلّ زمان، ومكان.

{سَبِيلِ رَبِّكَ} : هو الإسلام؛ أيْ: دين ربك، والإسلام كما جاء في حديث جبريل عليه السلام حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحج إلى البيت إن استطعت إليه سبيلاً» . رواه مسلم عن عمر بن الخطاب.

والإسلام لغةً: يعني: الخضوع، والاستسلام، والانقياد لله رب العالمين اختياراً لا قسراً؛ أي: الخضوع الاختياري لله رب العالمين.

وقيل: هو مجموع ما أنزل الله سبحانه على رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من أحكام العقيدة والشّريعة، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات في القرآن والسّنة.

{بِالْحِكْمَةِ} : لها تعريفات كثيرة منها: هي إصابة الحق بالعلم، والعقل، وقد تعني: النّبوَّة والرّسالة.

وقيل: هي القرآن، أو الفقه في الدِّين، ومعرفة الأحكام، والتّفسير، والتّأويل، وتطلق على الحق، وعلى البصيرة، والإصابة في القول والفعل.

وقيل: هي القول المناسب في الوقت المناسب، والأسلوب المناسب. وقد تعني: مزيج من كلّ هذه التّعاريف؛ أي: الصّواب، والسّداد، والحق، والعلم، والعدل، والحلم، والقرآن، والسّنة، والباء بالحكمة تعني: باء الإلصاق، والاستعانة.

{وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} : والموعظة: مأخوذة من الوعظ، وهو زجر مقترن بتخويف.

وقيل: التّذكير بالخير بأسلوب التّرغيب، والتّرهيب، والموعظة تشمل: القول، والفعل، والنّصح بالطّاعة، والعمل الصّالح، والإرشاد إلى الخير، والتّذكير بالثّواب، والعقاب، والتّحذير، والنّهي. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمعرفة معنى الحسنة.

{وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : أي: الدّعوة تكون بالحكمة، والموعظة الحسنة أوّلاً وأخيراً؛ أيْ: مقصورة أوّلاً على الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال يضاف إلى وسائل الدّعوة إذا لزم الأمر واحتيج إليه، وعندها فليكن بالّتي هي أحسن.

والجدال: مشتق من الجَدْل: أصلها الفتل؛ فتل الحبل، واصطلاحاً: هو حوار بين طرفين، أو أطراف؛ لإثبات حق، أو إظهار حُجَّة، أو دفع شبهة، والجدال: أشد من الحوار؛ قد تحدث فيه مخاصمة، وغضب. ارجع إلى سورة غافر، آية (4).

{بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : أيْ: أحسن الطّرق في المجادلة، وهي الرّفق، واللين، واليُسر، وتجنب الغضب، والتّكبر، والمراء.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : إنّ: للتوكيد.

{رَبَّكَ هُوَ} : هو: للتوكيد، والحصر.

{أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : أعلم: على وزن أفعل صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم.

{أَعْلَمُ بِمَنْ} : بمن: الباء: للإلصاق؛ من: اسم موصول؛ من: للعاقل، وتشمل المفرد، أو الجمع.

{ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : تاه، وضاع، ضل عن دينه، وعن الصّراط المستقيم.

{ضَلَّ} : فعل ماض، خرج عن دينه أيّام، أو أسابيع، أو شهر، وسنين، وسار في طريق الكفر، أو المعصية بسبب قلة علمه، وهواه، والشّيطان. وإذا قارنا هذه الآية من سورة النحل مع الآية (117) من سورة الأنعام وهي قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} : جاءت بصيغة المضارع التي تدل على التجدد والتكرار. ارجع إلى سورة الأنعام آية (117) لمزيد من البيان.

{وَهُوَ أَعْلَمُ} : وهو: تكرار يفيد التّوكيد.

{بِالْمُهْتَدِينَ} : أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين منذ الأزل حتّى قبل خلقهم، وهو أعلم بالسّائرين على الصّراط؛ أيْ: دينه؛ أي: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالّتي هي أحسن، وما عليك إلا البلاغ، وهون عليك، واصبر، واعلم: أنّ أمر الهداية الخاصة بيد الله تعالى يهدي من اختار لنفسه طريق الهداية، ويضل من اختار لنفسه طريق الضّلال.

ص: 224

سورة النحل [16: 126]

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} :

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وجمهور المفسرون: إنّ سورة النّحل سورة مكية؛ إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة بعد قتل العبّاس، وهي:(126، 127، 128) نهاية سورة النّحل.

وسبب النّزول: بعد انتهاء معركة أُحُدٍ: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه وقد مُثِّل به، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوعَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالثّأر لحمزة؛ فنزلت هذه الآية.

المناسبة: بعد أن أمر الله تعالى نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم بالدّعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة؛ يأمر الله كذلك نبيّه بالعدل، والمماثلة في القصاص، وبالصّبر على المصائب، والبلاء، أو التّسامي إلى درجة الصّفح، والعفو بدلاً من المقابلة، والمماثلة في القصاص؛ فقال: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الافتراض، أو ندرة الحدوث، وكأنّ المعنى الأفضل ألا تعاقبوا، ولم يقل: وإذا، الّتي تفيد الحتمية، وكثرة الحدوث، والتّأكيد.

{فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} : أي: للمقتصِّ حقُّ المماثلة؛ أيْ: يماثل الجاني.

{فَعَاقِبُوا} : الفاء: فاء السّببية، وقد ورد هذا المعنى في سورة البقرة، الآية (194):{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} : ولئن: اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال، والنّدرة.

{لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} : لهو: اللام: للتأكيد؛ أي: الصّبر خير من الانتقام، أو العقوبة، وفيه حثٌّ على الصّبر، والعفو لنيل الثّواب، والأجر.

{لِلصَّابِرِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: صبركم خيرٌ لكم من معاقبتكم الجاني.

ص: 225

سورة النحل [16: 127]

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} :

{وَاصْبِرْ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي إلى أمته، أو إلى الجميع بالصّبر على الأذى، والبلاء، وعدم الانتقام، صبراً وأنت قادر على الانتقام، والثّأر؛ أيْ: صبراً ليس بسبب الضّعف، والجبن، ولكنه صبر تطوع ابتغاء مرضاة الله؛ الصّبر له درجات، وأنواع؛ انظر في ملحق هذه الآية؛ للبيان.

{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} : وما: النّافية.

{إِلَّا بِاللَّهِ} : إلا: أداة حصر.

{بِاللَّهِ} : أي: استعن بالله على الصّبر؛ فإن لم يصبرك؛ فلن تصبر؛ لأنّه هو المعين على الصّبر، ولو قال: واصبر، وما صبرك إلا لله؛ أي: اصبر ابتغاء وجه الله، أو مرضاة الله.

{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} : لا: النّاهية.

{تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} : أيْ: لا تحزن على قومك إن لم يؤمنوا، أو لا تحزن على كفرهم، وشركهم، وعنادهم، أو ما فعلوا بك يوم أُحُدٍ. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (32)؛ لمعرفة معنى الحزَن، والحزُن.

{وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} : ولا: الواو: عاطفة؛ لا: النّاهية.

{تَكُ} : أيْ: لا يكن في صدرك أيُّ ضيق مهما قلَّ، أو صغر، وحذف النّون، ولم يقل: ولا تكن في ضيق مما يمكرون، كما في الآية (70) من سورة النّحل: إشارة إلى أقل الضّيق مما يمكرون؛ أي: اطمئن وهوِّن عليك، ولا تهتم بمكرهم، ولو أقل الاهتمام، وأدناه، ولتعريف المكر: ارجع إلى الآية (46) من سورة إبراهيم.

{يَمْكُرُونَ} : جاء بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدُّد، وتكرار مكرهم، وأنّه لن يتوقف.

ارجع إلى الآية (12) من سورة هود؛ لمعرفة الفرق بين ضائق صدرك، ويضيق، وضيق مما يمكرون.

والصّبر: خمس مراتب: صابر، مصطبر، متصبر، صبار، صبور.

صابر: اسم فاعل لفعل صبر.

مصطبر: مليء بالصّبر مداوم على الصّبر، اصطبر: داوم على الصّبر.

متصبِّر: يحمل نفسه (يجاهد) على الصّبر.

صبَّار: صيغة مبالغة كثير الصّبر في الكم.

صبور: صيغة مبالغة كثير الصّبر كيفاً عنده كلّ أنواع الصّبر.

أنواع الصّبر: صبر على طاعة الله، وصبر عن المعصية، وصبر على الشّدائد، والمصائب.

وأما الصّبر الجميل: الصّبر الّذي لا شكوى فيه، وإذا اشتكى لا يشتكي إلى أَحَدٍ إلّا الله فقط حصراً.

اصبروا: على الدِّين، والتّكاليف الشّرعية، وعلى تجنب المعصية، وعلى القضاء، والقدر.

صابروا: أشدُّ من اصبروا؛ كن أكثر صبراً من عدوك: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200].

صابروا: أعداءَكم.

وهناك صبر بالله كقوله تعالى في هذه الآية: واصبر وما صبرك إلا بالله؛ أي: استعن بالله؛ أي: اعلم أنّه هو المُصبر إن لم يُصبرك هو؛ فلن تصبر.

صبر لله: صبر لوجه الله ابتغاء مرضاة الله؛ الباعث على الصّبر: هو محبة الله، ومرضاته كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22].

صبرٌ مع الله: صبر الصّديقين: هو أصعب أنواع الصّبر؛ صبرٌ وفقاً لأوامر الله تعالى، ومحارمه؛ صبرٌ على الطّاعات، واجتناب المحرمات، والشّدائد؛ صبر التّسامي إلى درجة الصّفح، والعفو كقوله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].

ص: 226

سورة النحل [16: 128]

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُونَ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ: للتوكيد.

{مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُونَ} : مع: أصلها اسم لمكان أو زمان، ومع تعني: ضم الشيء إلى الشيء، أو اسم معناه الصحبة، كما جاء في لسان العرب؛ أي: إن الله سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون بعلمه وبرعايته وبالقرب منهم، وكونه معهم فهو شرف لهم. التّقوى خاصَّة بالفرد نفسه، تقواه تعود بالفائدة عليه نفسه.

والتّقوى: أعلى درجة من الإيمان، والتقوى: هي امتثال أوامر الله تعالى، وتجنب نواهيه.

الإحسان لا يقتصر على الفرد نفسه، بل يتعداه إلى غيره.

فالإحسان: أعلى درجة من التّقوى.

والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.

فالّذين اتقوا لهم جزاء، ولهم معيَّة مع الله سبحانه، كلّ حسب درجته.

والمحسنون: لهم جزاء، ولهم معيَّة مع الله سبحانه، كلّ حسب درجته.

والإحسان: يشمل الكمَّ، والكيف، والمحسنون: أصبحت صفة الإحسان عندهم ثابتة لا تتغيَّر. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ لمعرفة المزيد عن الإحسان.

ص: 227