المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الإسراء [17: 1] سورة الإسراء ترتيبها في القرآن (17)، - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ١٥

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الإسراء [17: 1]

سورة الإسراء

ترتيبها في القرآن (17)، وترتيبها في النزول (50)؛ نزلت بعد عام الحزن بعد أن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة، وفقد عمه أبا طالب، ولجأ إلى الطائف؛ فقُذف بالحجارة، وعاد إلى مكة حزيناً منكسر القلب؛ فجاءت حادثة الإسراء والمعراج؛ لتغطي على تلك الأحداث، وتدخل الأمن، والطمأنينة إلى قلبه صلى الله عليه وسلم.

{سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} :

{سُبْحَانَ} : اسم مصدر لفعل سبّح؛ أي: أنزهُ الله تنزيهاً مطلقاً: أن يكون له شبيه، أو مثيل في كمال الذات، وكمال الصفات، وكمال الأفعال؛ لتبقى ذاته متفردة بالوحدانية، وكمال القدرة العجيبة الّتي خلقت الأزواج كلها، والّتي سَرت بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرجت به؛ ليكون قاب قوسين أو أدنى، والّذي بيده ملكوت كل شيء رب السّموات والأرض، رب العرش العظيم، تنزيهاً له عن ذوات خلقه، وعن الولد، والبنت، والصّاحبة، والشّريك تنزيهاً ثابتاً ودائماً من قبل أن يخلق من ينزهه، تنزيهاً يدل على الثبوت والدوام. ارجع إلى سورة الحديد آية (1) لمزيد من البيان.

{الَّذِى} : اسم موصول (معرفة) يختص بالمفرد المذكر يفيد التّعظيم؛ أي: الله سبحانه، ولم يقل: سبحان من أسرى. من: عامة تشمل المفرد، والجمع، ونكرة.

{أَسْرَى} : من السُّري: وهو السير ليلاً مبني على السّر، والخفاء.

{بِعَبْدِهِ} : الباء: للإلصاق؛ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم ببدنه، وروحه، ونفسه معاً، وليس فقط بالروح، والهاء: تعود إلى الله سبحانه، وتدل على التشريف.

{لَيْلًا} : تعني: في تلك الليلة، وتفيد التّوكيد؛ لأنَّ أسرى تعني: السير ليلاً، وتعني: الإسراء، تم في جزء من الليل، ولم يستغرق الليل كله، ولو قال: سبحان الّذي أسرى بعبده الليل؛ لكان يعني: أن الإسراء استغرق كل الليل.

{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : من: ابتدائية؛ ابتداء الغاية المكانية.

{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : يشمل البيت الحرام: الكعبة، وكل ما هو داخل في حدود الحرم، وهو أول بيت وضع للناس للعبادة، وأول من بناه الملائكة، واختاره الله سبحانه، وسمي المسجد الحرام؛ لأنّه حرّم فيه ما لم يُحرم في غيره من المساجد.

{إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا} : الأقصى؛ أي: الأبعد، وسمي الأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام، أو عن مكة في ذلك الزمن، ولم يكن وراءه مسجد حينذاك.

{الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : دليل على المبالغة في البركة، بركة دينية كونه مهبط الرسالات والأنبياء، والصّلاة فيه تعادل في الثّواب بـ (خمسمائة صلاة)، وكونه كان قبلة المسلمين الأولى قبل تحويلها إلى بيت الله الحرام؛ فقد صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس (16-17) شهراً، كما أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وكونه مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع عروجه إلى السماء، كما أخرج الإمام مسلم عن أنس بن مالك، وكونه ثاني مسجد وضع للناس في الأرض بعد المسجد الحرام، كما روي عن أبي ذر الغفاري وأخرجه البخاري ومسلم، وبركة دنيوية: من بساتين، وثمار، ومياه، وسعة في العيش، والرّزق، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الأرض المقدسة وأرض الشام.

{لِنُرِيَهُ} : اللام: لام التّعليل، والهاء: ضمير يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد أعطاه الله القدرة والقوة على رؤية وتحمل الأشياء التي لا تقوى عليها أي رؤية بشرية؛ سواء أفي الإسراء والعروج إلى السموات العليا التي تحتاج إلى استعداد وتحضير وأجهزة وأوكسجين لا يتصوره العقل.

{مِنْ آيَاتِنَا} : من: بعضية، وليس كلها.

{آيَاتِنَا} : الكونية، والمعجزات الخارقة للعادة بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس، ثم العروج إلى سدرة المنتهى، وتكليمه من وراء حجاب، والعودة إلى مكة في أقل من ليلة واحدة، ورؤيته صلى الله عليه وسلم للجنة، والنّار، وملكوت السّموات. وإضافة الآيات إلى الله سبحانه يدل على تشريف الآيات.

{إِنَّهُ هُوَ} : إن: للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : السّميع لأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال المشركين في السر، والعلن؛ الّذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإسراء، والمعراج، كما كذبوه قبل الإسراء، والمعراج، ولم يصدقوا ما أخبرهم به عن الإسراء، والمعراج، وأقوال من صدقوه مثل: أبي بكر. والسميع لأقوال خلقه جميعاً.

{الْبَصِيرُ} : بأفعال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفعال المشركين حين آذوه في الطّائف، وبعد عودته إلى مكة من رحلة الإسراء، والمعراج، وأفعال الّذين صدقوه؛ أمثال: أبي بكر وغيره من الخلق جميعاً.

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : فيه وعيد للكفار على تكذيبهم لمحمّد صلى الله عليه وسلم.

ص: 1

سورة الإسراء [17: 2]

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِى وَكِيلًا} :

المناسبة: بعد ذكر حادثة الإسراء، والمعراج، وما حصل من تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر كذلك إكرام الله سبحانه لموسى عليه السلام .

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : أي: التّوراة.

{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} : وصيرناه هدى: مصدراً لهداية بني إسرائيل (بني يعقوب)، والموصل إلى الغاية: وهي إخراج بني إسرائيل من الظلمات إلى النّور إلى صراط العزيز الحميد.

{أَلَّا تَتَّخِذُوا} : ألا: مركبة من أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، ولا: للتوكيد.

{تَتَّخِذُوا} : من الاتخاذ، أو التصيير.

{مِنْ دُونِى} : من سواي، أو من غيري.

{وَكِيلًا} : الوكيل الّذي تسند إليه الأمور؛ لتدبيرها، ومن يطلب منه العون، ويأتي بالخير والنفع؛ لأنّه سبحانه القوي، وهو على كل شيء قدير.

{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}

{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِى وَكِيلًا} : فيه انتقال من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب؛ للفت الانتباه بعدم اتخاذ من هو دون الله وكيلاً. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لبيان معنى: التّوكل.

ص: 2

سورة الإسراء [17: 3]

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} :

{ذُرِّيَّةَ} : منصوبة على الاختصاص بقصد المدح؛ أي: أنتم خاصة يا ذرية نوح، وحذف (يا) ياء النداء بدلاً من (يا ذرية) من حملنا مع نوح، وحذف الياء؛ للقرب المعنوي، أو الحقيقي.

{مَنْ} : تدل على القلة، قلة من حملنا مع نوح على الفلك، ولو قال: الّذين؛ فتدل على الكثرة؛ من: ابتدائية.

{حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} : في الفلك، أو السفينة.

وذرية: الذّرية أصلها: الأولاد، وتقع على الصّغار، والكبار، أو النسل، وهذه "من حملنا مع نوح"، أي: أولاد نوح: سام، وحام، ويافث.

{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا} : إنّه: للتوكيد.

{كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} : أي: كان نوحٌ عبداً شكوراً: كثير الشكر؛ صيغة مبالغة.

{شَكُورًا} : ولم يقل شاكراً؛ لأنّ شاكراً: يشكر الله أحياناً، أمّا شكوراً: دائب الشّكر، أو كثير الشّكر.

أي: يا ذرية نوح: تشبهوا بأبيكم نوح عليه السلام الّذي كان كثير الشّكر وكونوا مثله.

ص: 3

سورة الإسراء [17: 4]

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} :

{وَقَضَيْنَا} : أي: أعلمنا؛ قضى إليه؛ أي: أعلمه، وأخبره. أما: قضى به: فصل الأمر على التّمام؛ أي: حكمنا.

{إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : بني يعقوب.

{فِى الْكِتَابِ} : في التّوراة.

أي: أعلمنا بني إسرائيل في التّوراة؛ أي: أخبرناهم.

{لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} : لتفسدن: اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد.

تفسدن: من الإفساد: تخالفن شرع الله بالمعاصي، وبمخالفة التّوراة، وتحلُّون ما حرم الله، وتحرِّمون ما أحل الله، وتقتلون الأنبياء بغير حق، وقتل الّذين يأمرون بالمعروف من النّاس، وتحريف التّوراة، وكتمانه

وغيره من طرق الفساد. ارجع إلى سورة البقرة، آية (251).

{فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} : لم يحدد القرآن الزّمن قبل الإسلام، أو بعد مجيء الإسلام.

{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} : ولتعلن: الواو: عاطفة؛ لتعلن: اللام: لام التّوكيد، والنون: كذلك لزيادة التّوكيد، والعلو: هو التّكبر في الأرض عن طاعة الله، والاستعلاء على النّاس: بالظلم، والبغي، ومعصية الله، والعلو: الغرور بالقوة، أو القدرة، والشّعور بالفوقية.

ص: 4

سورة الإسراء [17: 5]

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} :

{فَإِذَا} : الفاء: للتوكيد؛ إذا: ظرف زماني للمستقبل، شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} : أولى مرتي الفساد، أو الفساد الأول. قيل: هو ما حدث من يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة الّذين خالفوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتدوا على حرمات المسلمين.

{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} : أي: جالوت وجنوده كما قال ابن عباس، وقيل: بختنصر وجنوده كما قال ابن المسيب والفراء، وقيل: العمالقة (القوم الجبارين).

{عَلَيْكُمْ} : تفيد العلو، والسيطرة.

{أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} : أولي قوة شديدة وعدد.

{فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} : من: جاس يجوس؛ أي: فتَّش، ونقَّب، وبحث، أو دخل الدار بدون حرب، واستولى عليها بدون مقاومة، أو طافوا خلال الديار يبحثون عنكم لقتلكم؛ فقتلوا الكثير، وأحرقوا التّوراة، وخربوا المسجد الأقصى.

{خِلَالَ الدِّيَارِ} : بين الديار؛ أي: تتبعوا آثاركم ينظرون هل بقي أحدٌ لم يقتل؛ حتّى يقتلوه.

{وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} : أي: وعد صدق قادرين على إنجازه؛ نافذاً لا محالة.

ص: 5

سورة الإسراء [17: 6]

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} :

{ثُمَّ} : للترتيب الزمني، والتّراخي.

{رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} : الحديث موجَّه إلى بني إسرائيل؛ أي: جعلنا لكم الغلبة، والقوة، والنّصر على أعدائكم، وسلطناكم عليهم، وسواء أكان ذلك بقتل داود لجالوت، أو قتل بختنصر، وقيل: الكرة الأولى: كانت للمسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والكرة الثانية: كانت لليهود على المسلمين.

{الْكَرَّةَ} : أي: الغلبة، من: الكر، والفر الّذي يحدث في الحرب.

{وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} : أمدهم الله بالمال، فأصبحوا أكبر أصحاب رؤوس الأموال في العالم، والبنوك، والتجارات، وازدادت أعدادهم بإمدادهم بالبنين والهجرة.

{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} : من النفير، أو النافر؛ أي: من يَنْفرُ مع الرجل من عشيرته للتصدي للعدو، ونصرته على أعدائه؛ أي: سخرنا الكثير من الدول الكبرى؛ لنصرتكم، أو مساندتكم، أو جعلنا الكثير من الدول تهب لنصرتكم، ولا زالت هذه قائمة.

ص: 6

سورة الإسراء [17: 7]

{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُـئُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} :

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال، والشّك.

{أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} : الخطاب لا زال لبني إسرائيل: إن أحسنتم أحسنتم بالإيمان، والطاعة، والعمل الصالح من قول، وفعل، في الدنيا أحسنتم لأنفسكم بالثواب؛ كقوله: من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها.

{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} : وإن: شرطية كالسّابقة.

{أَسَأْتُمْ} : بالمعاصي، والكفر.

{فَلَهَا} : الفاء: للتوكيد، واللام: للاختصاص؛ أي: جزاء ذلك عائد إلى نفسه؛ كقوله: ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره، أو كقوله تعالى:{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]، أو الإساءة تعود إليه؛ أي: يسيء إلى نفسه، والإثم والعقوبة يقع عليه، أو يعود عليه.

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} : مرة الفساد الثانية. قيل: هذا الفساد الثاني: هو ما نراه يحدث الآن في فلسطين، وبلاد الشام من خراب، ودمار من اليهود. انظر إلى الآية (5) السّابقة.

{فَإِذَا} : إذا: شرطية زمانية جوابها محذوف؛ تقديره: بعثناهم مرة أخيرة؛ أي: المؤمنين.

{لِيَسُـئُوا وُجُوهَكُمْ} : الخطاب لبني إسرائيل؛ أي: تظهر على وجوههم آثار الإساءة، آثار الهزيمة، والخزي للمرة الثّانية.

{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : ليدخلوا: اللام: للتوكيد؛ أي: ليدخلوا أي: المسلمون المؤمنون المسجد الأقصى؛ أي: يسترجعونه من أيدي اليهود كما دخلوه أول مرة، قيل: في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكان المسجد الأقصى عندها في أيدي المسيحيين النّصارى، أو في زمن بختنصر.

وهذه الآية: تدل على أن المسجد الأقصى سيستولي عليه اليهود، وسيدخله المسلمون، ويطهرونه من رجس اليهود دخولاً ثانياً، وبعد المرة الثانية لن يكون لليهود غلبة بعدها.

{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} : يتبروا؛ أي: يهلكوا، ويدمر المسلمون ما أقامه اليهود، وما بنوه، وشيدوه؛ ليزيلوا آثاره، ومعالمه، والتتبير: هو الهلاك.

{مَا عَلَوْا} : ما استولوا عليه، أو ما أقاموه، وما شيدوه، وليس بذاتهم، وأموالهم، وإنما بمساعدة أنصارهم.

{تَتْبِيرًا} : هلاكاً.

ص: 7

سورة الإسراء [17: 8]

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} :

{عَسَى رَبُّكُمْ} : أداة للترجي؛ أي: أن تكونوا راجين ربكم أن يرحمكم، ولا تعني: أن الله سبحانه هو الّذي يرجو.

{أَنْ يَرْحَمَكُمْ} : أن: أداة استقبال خاصة بالمستقبل، والخطاب لبني إسرائيل؛ أي: عسى ربكم أن يرحمكم حينذاك؛ أي: حين يجيء وعد الآخرة، أو في المستقبل.

انتبه إلى الفرق بين: عسى أن يرحمكم، أو عسى أن ترحموا، وبين: لعلكم ترحمون.

عسى أن ترحموا، أو أن ترحموا: أن: تفيد الاستقبال؛ أي: الرّحمة في المستقبل، ولا تعني الآن، وعسى دائماً تقترن بأن في القرآن.

بينما لعلكم ترحمون: زمن الرّحمة مطلق في الماضي، والمستقبل، والحاضر، وفيها تجدد، واستمرار.

ولعلكم ترحمون: معناها اتخاذ الأسباب الّتي توصل إلى الرّحمة مع رجاء الرّحمة من الله معاً، ولو أراد اتخاذ الأسباب فقط بدون رجاء الرّحمة من الله لقال بدلاً من لعلكم ترحمون: لترحموا.

{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال.

{عُدتُّمْ عُدْنَا} : أي: إن عدتم إلى الفساد للمرة الثّالثة، عدنا إلى عقوبتكم، ولم يقل: وإن تعودوا نعد، الّتي تدل على كثرة العودة مرات عديدة. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (19)؛ للمقارنة.

{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ} : جهنم: ارجع إلى الآية (18) من سورة الرعد.

{لِلْكَافِرِينَ} : اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.

{حَصِيرًا} : أصل الحصير: البساط المنسوج الّذي يفرش على الأرض، وحصير من الحصر؛ أي: التضييق؛ أي: جعلنا جهنم سجناً، أو محبساً ضيقاً يحبسون فيه؛ أي: لا يخرجون منها، وهي ضيقة مطبقة عليهم لها ميزتان: الحبس، والضيق. وفي سورة الهُمزة، آية (8-9): وصفها "إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة".

ص: 8

سورة الإسراء [17: 9]

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} :

{إِنَّ هَذَا} : إن: للتوكيد.

{هَذَا} : اسم إشارة، والهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب؛ لكونه يهدي، والهداية تحتاج إلى شيء قريب.

{الْقُرْآنَ} : من كونه مقروءاً، أو من القراءة، والقراءة تحتاج إلى قرب؛ إذاً الهداية والقراءة كلاهما يحتاجان إلى قرب؛ فاستعمل "هذا".

{يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ} : يهدي للوصول إلى الغاية؛ يهدي إلى الّتي هي أسَدُّ، وأصوب، وهي ملة الإسلام، أو الصراط المستقيم بأقصر زمن، وأقل مسافة، ودون عائق.

{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} : يبشر من البشارة. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة، والبشارة: هي الإخبار بأمر سارٍّ لأول مرة.

{الْمُؤْمِنِينَ} : أي: الّذين أصبح الإيمان صفةً ثابتةً لهم؛ المؤمنين بالله، وما أنزل على رسله.

{يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} : يعملون: تدل على التّجدد، والتّكرار لعمل الصالحات.

{أَنَّ لَهُمْ} : أن: للتوكيد.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص.

{أَجْرًا كَبِيرًا} : الأجر مقابل العمل.

{كَبِيرًا} : تدل على عظم الأجر؛ فالكبير كل ما عداه صغير.

ص: 9

سورة الإسراء [17: 10]

{وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :

مقابل المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات في الآية السّابقة: الّذين لا يؤمنون بالآخرة.

{وَأَنَّ الَّذِينَ} : أن: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{لَا يُؤْمِنُونَ} : لا: النّافية.

{لَا يُؤْمِنُونَ} : يصدقون بالآخرة؛ أي: بالبعث، والحساب، والباء: للإلصاق.

{أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : أعتدنا؛ أي: أعددنا، وهيَّأنا.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{عَذَابًا أَلِيمًا} : شديد الإيلام، لا يتحمله أحد.

ص: 10

سورة الإسراء [17: 11]

{وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} :

{وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ} : الإنسان: اسم جنس؛ يدعو: من الدعاء بالشر على نفسه، أو ولده، أو ماله عند الضجر، والغضب، والعجلة، وعدم الصّبر؛ يدعو بالموت، والهلاك، أو اللعنة، ولا ينظر في عاقبة دعائه.

{دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} : أي: يدعو بالشر كما يدعو بالخير بالسلامة، والرزق، والعافية، سواء بشهوة أم بغضب متعجلاً بدون صبر وتمهل فيدعو على نفسه أو أولاده، ولو استجاب الله سبحانه له لأصابه الضر، وربما هلك، ولكن من رحمته سبحانه، وفضله لم يستجب لدعائه، وعليه الكف عن هذا للخوف من أن تكون ساعة استجابة فيندم حين لا ينفع الندم.

{وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} : كان: تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ أي: كان عجولاً في كل الأوقات؛ عجولاً في دعائه، وأفعاله، وأقواله؛ عجولاً: صيغة مبالغة: كثير العجلة. وكما قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، ولا تعني أن الله خلقه عجولاً، وإنما من كثرة عجلته التي هي مكتسبة، أو من صنع يده يظهر كأنه خلق عجولاً. وهناك من الناس من يتجمَّل بالصبر ولا يتسرع، ولكن هذه الفئة قليلة، والغالبية ممن يبدو كأنه مجبول على العجلة، وعدم الصبر والتريث، وهناك أمور يستحب فيها العجلة مثل: دفن الموتى، والإسراع في سداد الدين، والرجوع إلى الله بالتوبة والإنابة، وكذلك الزواج في سن مبكرة وغيرها.

ص: 11

سورة الإسراء [17: 12]

{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} :

{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} : الجعل يتم بعد الخلق.

{الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} : علامتين دالتين على كمال قدرة الله سبحانه، وعظمته على الخلق، ووحدانيته.

{آيَتَيْنِ} : مثنى آية: آية كونية تدل على كروية الأرض، وأنّها تدور حول نفسها، وحول الشّمس؛ مما يؤدي إلى تعاقب الليل، والنّهار؛ الأمر الهام لاستقامة واستمرار الحياة على الأرض. ارجع إلى سورة يونس، آية (67)؛ للبيان.

{فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} : في بداية خلق الأرض كان الليل يضاء بستائر من نور تنزل من السّماء بشكل رأسي، ثم تنحني قليلاً حين وصولها إلى الأرض، وتكون على أشدها في القطبين الشمالي، والجنوبي، وتضعف كلما اتجهنا إلى خط الاستواء، وكانت تسمى: ظاهرة الفجر الكاذب، وكان النهار يضاء بالشمس؛ فكان النور، أو الضوء يعم الليل، والنّهار، ولكن الله سبحانه منَّ على البشرية بأنه خلق نُطُق الحماية الّتي لم تكن موجودة في بداية الخلق، وتكونت على مراحل؛ فقامت هذه النُّطُق بحجب هذه الأشعة، أو الستائر الّتي هي آية الليل، وبقي النهار مبصراً.

فالغلاف الجوي لم يكن موجوداً عند نشأة الأرض، وإنما تكون على مر العصور، وكان الليل هو السائد على الأرض في بداية الخلق رغم وجود الشّمس، وشروقها، ثم تكون الغلاف الجوي الّذي يضيء؛ لكونه يحتوي على غازات قابلة للإضاءة بنور الشّمس، واستغرق ذلك ملايين السنين؛ فبدأ الليل ينجلي تدريجياً، وضوء النهار يزداد قوة؛ فزالت الظلمة المحيطة بالكرة الأرضية، فمع بداية الفجر تدخل أشعة الشّمس الطبقات العليا للغلاف الجوي، الّتي تتميز بكثافة ضعيفة، ثم تدخل أشعة الشّمس الطّبقات السفلى ذات الكثافة العليا؛ فإذا بالشّمس تشرق، ويصبح النهار مبصراً، وتنمحي آية الليل عن نصف الكرة الأرضية المقابلة للشّمس. ارجع إلى سورة يونس آية (67) لمزيد من البيان.

{لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَّبِّكُمْ} : أي: لليل مهمة: وهي لتسكنوا فيه، وللنهار مهمة: هي لتبتغوا فيه فضلاً من ربكم؛ تسعون فيه لطلب رزقكم، وتبحثون عن أسباب عيشكم.

{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} : الواو: عاطفة؛ أي: جعلنا الليل والنهار آيتين؛ لتبتغوا فضلاً من ربكم أولاً، وثانياً: لتعلموا عدد السنين والحساب؛ فالشّمس تحدد لنا الأيام؛ فالأرض تستغرق في دورتها حول الشمس (365 يوماً وخمس ساعات و48 دقيقة و46 ثانية)؛ أي: ما يعادل (365125 يوماً)، وتقرر جمع أرباع اليوم وإضافتها إلى السنة الرابعة لتصبح (366 يوماً)، وتسمى السنة: الكبيسة، والسنة القمرية تقدر بـ (12 دورة للقمر حول الأرض)، وتقدر كل دورة بـ (29 يوماً و12 ساعة و44 دقيقة و3 ثوان)؛ فالسنة القمرية تعادل (354 يوماً و8 ساعات و48 دقيقة و34 ثانية)، بحوالي (11 يوماً) الفرق بين السنة الشمسية والقمرية، وكل (33 سنة) يصبح هناك فرق سنة واحدة بين النظام الشمسي والنظام القمري. ارجع إلى سورة يونس، آية (5)؛ لمزيد من البيان.

{وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} : وكل شيء تحتاجون إليه في أمور دنياكم، وحياتكم، وأمور الدين؛ أي: دينكم، وأمور آخرتكم بيَّنَّاه بياناً لا التباس فيه.

نظير ذلك قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ} [الأنعام: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَىْءٍ} [النحل: 89].

ص: 12

سورة الإسراء [17: 13]

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} :

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ} : هنا يذكر مبدأ المسؤولية الفردية؛ فبما أن كل إنسان مخير في عمله؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه.

العمل شبه بالطائر؛ أي: طائره بمعنى: عمله؛ فقد كانت العرب في الماضي إذا أراد أحدهم أن يقوم بعمل ما يأتي بطائر، ثم يطلقه؛ فإن طار عن يساره يتشاءم، ولا يقوم بذلك العمل، وإن طار عن يمينه يتفاءل به، ويقوم به.

وبعد ذلك يلوم الطائر على عمله، ويتهمه.

وأما بالنسبة للعنق: كانت العرب تعبر عن تلازم الشّيء بالشّيء بما يوضع في العنق؛ تقول: هذه أمانة في عنقك، كما تلازم القلادة العنق، هكذا يكون عملك ملازماً لك.

{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} : سجل أعماله، ويقول: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة، ولا كبيرة إلا أحصاها؟! ووجدوا ما عملوا حاضراً؛ يخرج له كتابه يوم القيامة كي يراه، ويقرأه، ونخرج: نون الجمع للتعظيم، أو الملائكة يخرجون له كتابه.

{يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} : مفتوحاً معداً للقراءة قبل وصول صاحبه إليه ليقرأه.

ص: 13

سورة الإسراء [17: 14]

{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} :

{اقْرَأْ كِتَابَكَ} : اقرأ سجل أعمالك بنفسك، وانظر إلى ما عملته في الدّنيا، وحاسب نفسك بنفسك؛ القائل هو الله سبحانه على ألسنة الملائكة.

{كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ} : يوم القيامة.

{عَلَيْكَ} : على: تفيد العلو، والمشقة.

{حَسِيبًا} : محاسباً؛ أي: حاكماً، أو قاضياً.

ص: 14

سورة الإسراء [17: 15]

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} :

{مَنِ اهْتَدَى} : من: شرطية.

{اهْتَدَى} : يعني: التزم بمنهج الله، وسار على دينه، واهتدى إلى الصّراط المستقيم.

{فَإِنَّمَا} : الفاء: للتوكيد؛ إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد.

{يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} : لنفسه: اللام: تفيد الاختصاص، والاستحقاق؛ أي: هو المنتفع بذلك.

{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا} : مثل: من اهتدى فإنما.

{يَضِلُّ عَلَيْهَا} : على: تفيد الاستعلاء؛ أي: عاقبة الضّلال، والإعراض عن منهج الله تقع عليه.

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : هذه الآية تؤكد الآية السّابقة (13).

{وَلَا} : الواو: عاطفة؛ لا: نافية.

{تَزِرُ} : تحمل. والوزر: هو الحمل الثقيل (أو الثقل العظيم)، وعبر بالوزر بدلاً من الإثم، وكما أن الحمل الثقيل (الوزر) يتعب صاحبه (حامله) كذلك الإثم فإنه قد يقصم ظهر حامله.

{وَازِرَةٌ} : أي: نفس آثمة، أو وازرة محملة بالذنوب.

{وِزْرَ أُخْرَى} : أي: إثم نفس أخرى، وإنما تحمل إثمها فقط.

وهذه القاعدة تنطبق على الّذي ضل في ذاته، ولم يتعدَّ ضلاله إلى غيره، وأما إذا تعدى ضلاله إلى غيره فسوف يحمل وزره، وأوزاراً مع وزره؛ أي: وزره ووزر من أضله، كما بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . أخرجه مسلم.

{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} : ونظير ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{نَبْعَثَ رَسُولًا} : ليُبين لهم ما نُزل إليهم، وما كنا معذبين أحداً في الدّنيا والآخرة على فعل شيء، أو تركه إلا بعد إرسال الرّسل، والإنذار، وإقامة الحجة، وإعطائهم المهلة الكافية للتوبة. ولمعرفة الفرق بين نبعث، ونرسل: ارجع إلى سورة البقرة، آية (119).

ص: 15

سورة الإسراء [17: 16]

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل يتضمن معنى الشرط.

{أَرَدْنَا أَنْ نُّهْلِكَ} : أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد، والتّعليل.

{قَرْيَةً} : أي: سكان القرية، وكلمة القرية تعني: أهل القرية، والبنيان.

{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} : أمرنا أغنياءها بالطاعة، والالتزام بمنهج الله على لسان الرّسل، ولكنهم خالفوا، وعصوا، أو معنى أمرنا: كثرنا. قيل: أمر كثر؛ أي: كثرنا عدد المترفين فيها؛ لكي يشتد فسادهم، وفسقهم.

{فَفَسَقُوا فِيهَا} : ففسقوا: الفاء: للتوكيد؛ فسقوا: خرجوا عن طاعة الله تعالى، أو عن دينه، وخالفوا، وعصوا.

{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} : فحق: الفاء: للتوكيد؛ حق: وجب عليها العذاب، أو استحقت القول (العذاب)، ولم يقع بعد، وسيقع لا محالة في الدّنيا.

ولو قال: ووقع القول كما في قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 85]؛ أي: قد وقع وانتهى، أو يقع الآن.

{فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} : التدمير يعني: الخراب، والهلاك، والدمار: هو دائماً يأتي كعقوبة، ويشمل كل شيء بلا استثناء. ارجع إلى سورة الحج، آية (45)؛ لمعرفة معنى: الهلاك.

أي: أهلكنا كل أهلها، ولم يُستثنَ أحد من المترفين وغيرهم، كما في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} ؛ أي: تصيب الجميع؛ لأنّ غير المترفين لم ينهوا المترفين بالكف عن عصيانهم، وضلالهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» ، كما روى البخاري عن زينب بنت جحش.

ص: 16

سورة الإسراء [17: 17]

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} :

{وَكَمْ} : الواو: استئنافية؛ كم: الخبرية تفيد الكثرة؛ أي: أهلكنا الكم الكثير من القرون.

{أَهْلَكْنَا} : ارجع إلى الآية (4) من سورة الأعراف؛ لبيان معنى الهلاك.

{مِنَ الْقُرُونِ} : من: ابتدائية.

{الْقُرُونِ} : جمع قرن، والقرن (مائة سنة)، أو القرن قوم عاشوا في زمن واحد مقترنين، مأخوذة من الاقتران.

{مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} : ولم يقل من بعد آدم. قيل: كان النّاس بين آدم ونوح على دين الإسلام أمة واحدة، ومن هذه القرون الّتي أهلكت من بعد قوم نوح عاد، وثمود، ولوط، ومدين، وفرعون، وأصحاب الرس، وقرون بين ذلك كثير.

{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} : أي: سبحانه لا هو يخبر أحداً من عباده عن ذنوب عباده، وهو سبحانه لا يحتاج من أحد من البشر؛ أي: من خلقه، أن يخبره، أو ينقل إليه ما يفعله عباده؛ لأنّه سبحانه خبير، عليم ببواطن الأمور، وخفاياها. بصير: يرى ويبصر أعمال عباده؛ فلا تخفى عليه خافية، سواء أكانت أعمالاً ظاهرة، أم باطنة، وسواء أكانت في السر، أم في العلن.

ص: 17

سورة الإسراء [17: 18]

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} :

{مَنْ} : ابتدائية شرطية.

{كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} : العاجلة: مؤنث العاجل؛ أي: الدّنيا، ولم يقل: من أراد الدّنيا؛ إنما قال: يريد: فعل مضارع يدل على التّجدد، وطلب الدّنيا باستمرار، وعدم الكف عن ذلك.

{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} : بالقدر الّذي نشاء، ولمن نختار، أو لمن نريد، وليس حسب ما يريده ويطلبه العبد، أو بالقدر الّذي يشاؤه العبد؛ كقوله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ} [الشورى: 27]. وإذا قارنا هذه الآية مع قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145]؛ لأن الثواب متجدد في كل عمل.

{ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} : ثم: للترتيب، والتراخي في الزمن.

{جَعَلْنَا} : صيرنا، أو هيَّئنا.

{لَهُ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا} : يحترق بها، ولمعنى جهنم: ارجع إلى الآية (18) من سورة الرعد.

{مَذْمُومًا} : مذموماً، من الذم: من الله، والملائكة، والناس أجمعين، والذم يعني: أتى بعمل يستحق الذم؛ أي: اللوم على أمر قبيح، سواء أكان المذموم أمامك، أم غائباً، وهو نقيض المدح.

وأما الفرق بين اللوم، والذم؛ اللوم: قد يكون على فعل حسن؛ كاللوم على كثرة الصدقة.

أما الذم: فلا يكون إلا على فعل قبيح فقط.

{مَّدْحُورًا} : مطروداً من رحمة الله سبحانه، أو مبعداً عنها.

الفرق بين يريد، وأراد:

يريد: تدل على التّجدد، والاستمرار في طلب الدّنيا، وأنه دائماً مشغول بها.

أراد: بصيغة الماضي تدل على قلة الطلب، والانشغال، والركض وراء الدّنيا.

ولربط الذم بالدحر مذموماً مدحوراً.

مذموماً: أي: فعل أمراً قبيحاً يستحق أن يُذم عليه، واستحق أن يُطرد، ويُبعد عن رحمة الله بسببه؛ أي: مدحوراً: اسم مفعول من دحر: طرد، وأبعد.

ولربط الذم بالخذلان: مذموماً مخذولاً.

مذموماً: أي: فعل أمراً قبيحاً يستحق أن يذم عليه، ولن يجد من يدافع عنه، أو ينصره؛ أي: مخذولاً من: خذله ترك عونه ونصرته، ومخذولاً: اسم مفعول.

ص: 18

سورة الإسراء [17: 19]

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} :

{وَمَنْ} : ابتدائية شرطية.

{أَرَادَ الْآخِرَةَ} : ولم يقل: يرد الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} : (الفعل المضارع الذي يدل على التكرار والتجدد). إنما أراد؛ أي: ولو مرة واحدة، أو أرادها بقليل من العمل الصالح والمستمر، والإرادة: تعني العزم على القيام بالفعل، أو تعني الثبات والرسوخ في الإرادة، أو كان أدنى من إرادة الدنيا على الأقل.

{وَسَعَى} : سعى من السعي: الحركة، والعمل بجد بالأعمال الصالحة المقرونة بالإيمان.

{لَهَا} : اللام: لام الاختصاص؛ لها؛ أي: للآخرة.

{سَعْيَهَا} : عمل ما في وسعه من الأعمال الصّالحة؛ لنيل ثواب الآخرة.

{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : وهو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{مُؤْمِنٌ} : إيماناً ثابتاً راسخاً في القلب بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد؛ أولئك: اسم إشارة يشير إلى منزلتهم العالية.

{كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} : كانوا مثابين على سعيهم (عملهم)، وسعيهم مقبولٌ مضاعفُ الأجر والثواب.

ص: 19

سورة الإسراء [17: 20]

{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} :

{كُلًّا} : أي: كلا الفريقين السابقين: الفريق الّذي يريد العاجلة (الدّنيا الفانية)، والفريق الّذي أراد الآخرة، وسعى لها سعيها.

{نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} : هؤلاء: الّذين أرادو الدّنيا، وهؤلاء: الّذين أرادوا الآخرة نمدهم من عطاء ربك.

الفرق بين المد، والإمداد:

المد: هو الإعانة، والتقوية، والزيادة في الخير والشر.

والإمداد: لا يكون إلا في الخير.

{مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} : من عطاء الربوبية الّذي ينال المؤمن، والكافر، والطائع، والعاصي، بينما عطاء الألوهية: فهو عطاء خاص بالمؤمنين دون غيرهم.

{وَمَا} : الواو: واو الحالية، أو التّوكيد؛ ما: النّافية.

{كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} : كان: تشمل كل الأزمنة.

{عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} : ممنوعاً من أحد، لا يمنعه من المؤمن، أو الكافر، والحظر: هو المنع. إذن: عطاء الربوبية الكل له نصيب منه.

ما هو الفرق بين: محظوراً، وقوله تعالى في الآية (57):{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} ؟

المحظور: الممنوع، الحظر: المنع؛ عطاء ممنوع.

المحذور: من الحذر؛ أي: اتخاذ الوقاية، والحيطة، والخوف من وقوع الأمر المحذور منه.

ص: 20

سورة الإسراء [17: 21]

{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} :

{انظُرْ} : انظر نظرة قلبية، وفكرية.

{كَيْفَ} : للاستفهام، والتّعجب.

{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : لكي يحدث تكافلٌ في المجتمع، كل فرد يحتاج إلى الآخر؛ كقوله: ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، وفضلنا بعضهم على بعض: قد تعني: في الرزق، والجاه، والعافية، وغيره من أمور الدّنيا؛ للابتلاء، والاختبار.

{وَلَلْآخِرَةُ} : اللام: لام الاختصاص.

{أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} : أعظم درجات التفاوت تكون في درجات الجنة.

{وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} : من الدّنيا؛ لأن تفضيل الآخرة هو التّفضيل الحقيقي، والأعظم، والدائم، وتفضيلاً: مصدر لفعل فضّل (الرباعي).

ص: 21

سورة الإسراء [17: 22]

{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} :

{لَا تَجْعَلْ} : لا تتخذ؛ لا: النّاهية.

{مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : شريكاً، أو نداً في ألوهيته، وعبادته، وربوبيته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.

فإن فعلت ذلك عندها {فَتَقْعُدَ} : فتصبح كالّذي خارت قواه على القيام؛ فأصبح غير قادر على القيام ولم تعد لك قوة، وتصبح {مَذْمُومًا}: من قبل الله، ومن قبل النّاس.

{مَّخْذُولًا} : من الخذلان، وهو عدم النصرة، أو العون؛ أي: لا ينصرك أحد، ولا يدافع عنك، أو يُعينك أحد. ارجع إلى الآية (18) من السّورة نفسها.

ص: 22

سورة الإسراء [17: 23]

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} :

{وَقَضَى رَبُّكَ} : أي: أمر، وألزم، وأوجب، وقضى: قد تأتي بمعنى: حكم، أو تدل على انتهاء المدة:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص: 29].

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} : أي: حكم، وأمر الله سبحانه: ألَّا: أصلها: أن، ولا؛ أن: حرف مصدري يفيد التّعليل، والحكم، ولا: نافية، أو ناهية.

{تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} : لمعرفة معنى العبادة: ارجع إلى سورة البقرة، آية (21)، أو الأنبياء، آية (106).

{إِلَّا} : أداة حصر.

{إِيَّاهُ} : للتوكيد.

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} : وبالوالدين: الوالد والوالدة، ولم يقل بالأبوين؛ اختار لفظ الولادة على الأبوة وبالوالدين؛ أي: من الولادة، والتي تقوم بها الأم؛ الباء: باء الإلصاق، والاستمرار؛ أي: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً؛ أي: أن تبروهما؛ فقد قرن الإحسان للوالدين بعبادته سبحانه، وقضى بالإحسان إلى الوالدين؛ لأنّهما هما السبب، أو الوسيلة في وجودنا؛ لما تتحمله الأم خلال الحمل، والوضع، والرضاعة، والسهر، والتربية، وما يوفره الأب من المعاش، والإنفاق، والتربية، ولهذين الوالدين حقوق، كما أن للخالق الحقيقي حقوقاً. ارجع إلى سورة النساء آية (36)، وسورة البقرة آية (112) لمزيد من البيان.

{إِحْسَانًا} : مصدر أحسن؛ حذف الفعل، وجاء بالمصدر؛ ليفيد التّوكيد.

{إِمَّا} : مركبة من: إن، وما؛ إن: الشّرطية، وزيدت عليها ما: للتوكيد.

{يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} : يبلغن: من بلغ؛ أي: أدرك، أو وصل؛ أي: بلغا الكبر؛ أي: وصلا إلى سن الكبر عندك، أو أحدهما، والنون في "يبلغن" للتوكيد، ولم يقل يبلغا.

انتبه إلى تقديم كلمة "عندك"، ولم يقل: يبلغن الكبر عندك، العنديَّة هنا هامة، ومقصودة، وخاصة، ويجب فهم معناها.

وتعني المعية (أي: معك)؛ أي: حافظ على والديك؛ أي: أبقِ والديك عندك، ولا تُلقِ بهما في دور العجزة، أو دور إقامة المسنين، أو الكهول؛ فالمكان بحد ذاته مهم، والأهم منه رعايتهما، والإحسان إليهما، والاهتمام بهما، وإذا كان هناك أخوة، وأخوات؛ فالكل يشارك في المسؤولية.

ولتثبيت هذا المعنى في النفس انظر إلى ما قالته امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] قدمت كلمة "عندك" بدلاً من القول: رب ابن لي بيتاً عندك في الجنة، تبغي العنديَّة؛ أي: المعية؛ أي: الرعاية، والقُربى؛ عندك أنت خاصة، وهي أهم من المكان.

{الْكِبَرَ} : بعد مرحلة القوة والشباب تأتي مرحلة الكبر؛ مرحلة الحاجة، والضعف، والمرض، وهنا تتجلى صورة الإنسان بشكل واضح.

{أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} : قدم الأهم أحدُهما؛ لأن كليهما قد يساعد أحدهما الآخر؛ أما حين يكون الإنسان وحيداً؛ فهو بحاجة أشد للعون، والإحسان.

{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَقُلْ} : مضارع تدل على الاستمرار، والتّجدد.

{أُفٍّ} : صوت يدل على ضجر المتكلم من شيء ما، ومنهم من قال: أف اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر فيكون المعنى لا تشعر تضجرك للوالدين، وهي أقل لفظة يمكن أن تقال، وجاءت بصيغة التنكير؛ تعني: أي: شيء، أو قول؛ أي: لا تضجر بأدنى تضجر منهما، أو من غيرهما فتضجر أمامهما.

{وَلَا} : ولا: الواو: عاطفة؛ لا: ناهية، وتكرار لا: تفيد التّوكيد.

{تَنْهَرْهُمَا} : النهر: هو الزجر بقسوة، وانفعال تالٍ للتضجر؛ أي: احذر من التأفف، والتضجر منهما، ولا ترفع صوتك عليهما.

{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} : وقل سبقتها كلمة: فلا تقل، ثم جاء بقل: لتفيد التّوكيد.

{قَوْلًا كَرِيمًا} : سمحاً ليناً فيه مظاهر الرّحمة، والمحبة، والحنان خاصة إذا حدث خطأ منهما، أو تصرف غير طبيعي.

ص: 23

سورة الإسراء [17: 24]

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} :

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} : جناح الذّل: كناية عن الطاعة، والحنان، والتواضع، والخضوع، والذل قد يأتي بمعنى: القهر، والغلبة، أو بمعنى: العطف، والرحمة، كما جاء في قوله تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 54]؛ أي: عطوفين رحيمين بالمؤمنين؛ بينما القول: أذلة للمؤمنين؛ أي: قاهرين ليس عندهم رحمة، أو رأفة بالمؤمنين.

وقوله تعالى: {جَنَاحَ الذُّلِّ} : كالطائر الّذي يخفض جناحيه حين يريد أن يحنو على صغاره، ويغذيهم، وإذا أراد أن يطير يرفع جناحيه، ويرفرف، ويعني: التواضع السمع والطاعة، وتنفيذ أوامرهما، والإصغاء لما يقولانه، والنظر إليهما بعين الرأفة والحنان والعطف.

{مِنَ} : تعليلية.

{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} : أي: لا يكفي رعايتك لهما، ورحمتك بهما، بل لا بد من أن تدعو لهما، وتطلب لهما الرّحمة من الله سبحانه؛ فهو أرحم الراحمين، وقل هذا الدعاء: رب أرحمهما، كما ربياني صغيراً؛ أي: مثلما ربياني صغيراً، وهذا الدعاء يشمل كل مربٍّ شارك الوالدين في تربيتك.

{كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} : تفيد التّعليل، والاعتراف بفضل الوالدين.

ص: 24

سورة الإسراء [17: 25]

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} :

المناسبة: ذكرت هذه الآية بعد ذكر: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً؛ إذن: المطلوب هو الإخلاص في العبادة، والتّوحيد، وكذلك معاملة الوالدين بالبر، والإحسان لهما، وربكم أعلم بما في نفوسكم من الإيمان، ومن النفاق، والرياء، أو الإخلاص، والإحسان، والصدق، وكما أن النفاق يكون في الدين، والإيمان، هناك نفاق في بر الوالدين؛ بحيث يقول بلسانه ما ليس في قلبه، يقول بلسانه رياءً.

فهناك من الأبناء من يظهر بمظهر البار بوالديه أمام النّاس، وفي الداخل يتمنى، أو يسأل الله سبحانه أن ينقضي أجَلُهما، أو يتخلص منهما، فجاءت الآية لتحذر من هذا النفاق، والرياء في عبادة الله، والبر بالوالدين؛ فقال:

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ} : ربكم المتولي تربيتكم، وشؤونكم الحياتية. ربكم: يعلم ما يصلحكم.

{أَعْلَمُ} : ولم يقل: يعلم، بل قال: أعلم على صيغة أفعل؛ صيغة مبالغة كثير العلم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق. وما: اسم موصول بمعنى الذي، وأوسع شمولاً من الذي.

{فِى نُفُوسِكُمْ} : ولم يقل أنفسكم؛ نفوسكم تعني: كل نفس، وجميع النفوس المؤمنة، والكافرة، والمنافقة على الإطلاق؛ بينما "أنفسكم" تعني: بعض الأنفس، وليس كلها، وقد وردت النفوس في آيتين فقط في هذه السورة، وفي سورة التكوير آية (7).

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال، أو الشك.

{تَكُونُوا صَالِحِينَ} : إن: كنتم صالحين كان بها، ولكم أجركم، وإن لم تكونوا؛ فتوبوا إلى الله، وأصلحوا نفوسكم، واحذروا ما لا تحمد عقباه.

{فَإِنَّهُ} : إنه: للتوكيد، والفاء: جواب الشرط.

{كَانَ} : ولا زال، وسيكون:

{لِلْأَوَّابِينَ} : جمع أوّاب: صيغة مبالغة من آب، يؤوب؛ من الأوب: الرجوع، والعودة إلى الله بالتوبة، والإنابة. للأوابين؛ أي: للتوابين، والراجعين إلى ربهم بالتوبة، والإنابة.

{غَفُورًا} : صيغة مبالغة من: "غفر" كثير الغفران يغفر الذنوب جميعاً مهما كثرت، أو عظمت، والغفران: صفة أزلية فيه سبحانه، وغفوراً تشير إلى أنه يغفر الذنوب العظيمة الكبيرة.

ص: 25

سورة الإسراء [17: 26]

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه البر إلى الوالدين، وقرن ذلك بعبادته يوسع دائرة الإحسان، والبر؛ لتشمل ذوي القربى، والمساكين، وابن السبيل؛ فقال تعالى:

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} : أي: أعطِ ذا القربى حقه؛ أي: جعل الله سبحانه حقاً للأقارب يجب الإيفاء بهذا الحق؛ أي: حقه من المال إذا كان محتاجاً، أو فقيراً، وحقه من المساعدة بشتى صورها، وإن لم يكن محتاجاً؛ فعليك البر إليه (صلة الرحم) بالمعاملة الكريمة، والسؤال عنه، وتفقد حاله، وزيارته، وبالإهداء إليه.

{وَالْمِسْكِينَ} : تعريف المسكين: الّذي عنده مال لا يكفيه، والدليل على ذلك قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ} [الكهف: 79].

والفقير: هو الّذي لا يملك شيئاً؛ أي: هو أسوأ حالاً من المسكين.

وقوله: المسكين: يشمل الفقير، والمسكين؛ لأن الفقير أجدر بالعطاء من المسكين؛ حقه من الزكاة، والصدقات.

{وَابْنَ السَّبِيلِ} : أي: ابن الطريق المنقطع الّذي ضاع ماله، أو سُدَّت السبل أمامه، وليس معه ما يسد حاجته إلى العودة إلى دياره، والأكل. ارجع إلى الآية (36) من سورة النساء؛ للبيان.

{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} : ولا: النّاهية.

{تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} : التّبذير: هو إنفاق المال فيما لا يحل مثل إضاعة المال في المعاصي، والقمار

وغيرها.

والتّبذير أعظم من الإسراف، والتّبذير: مصدر لفعل: بذَّر (الرباعي).

والتّبذير: مأخوذة من البذر: وهو العملية الّتي يقوم بها الفلاح حيث يأخذ البذور الّتي يريد زراعتها، وينشرها بيده؛ فإن كان ماهراً يجيد البذر، تراه يبذر الحب؛ أي: يوزع الحب على الأرض بنسب متساوية بدون أن يضيع كمية من الحب في أمكنة لا تحتاج البذر.

وإن من الخطأ أن يظن القارئ: أن المقصود بهذه الآية أن التّبذير يعود على ذي القربى، والمسكين، وابن السبيل، وإنما الآية تشير إلى الإسراف في الأمور غير المباحة.

ص: 26

سورة الإسراء [17: 27]

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} :

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} : إن: للتوكيد.

{الْمُبَذِّرِينَ} : جمع مبذر، والتّبذير: هو إنفاق المال في غير حلِّه، وهو يعتبر معصية، وكفراً لنعمة الله. ارجع إلى الآية (26) السّابقة.

{كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} : كانوا: من كان، وكان: قد تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ كانوا في الماضي، وسيكونون في الحاضر والمستقبل؛ كانوا في الدّنيا:

{إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} : الإخوان: قوم اجتمعوا على مبدأ واحد خير، أو شر، وفي هذه الآية: اجتمعوا على مبدأ التّبذير.

وسموا بإخوان الشّياطين: إما لكونهم يكفرون، أو يجحدون نِعَم الله، أو إضاعة المال؛ فهم مثل إخوانهم الشّياطين؛ لكونهم تجمعهم صفة الإسراف في المعاصي، والتبذير والكفر؛ أي: ساتر لنعم الله أو جاحدها. ارجع إلى سورة الحجرات آية (10) لبيان معنى إخوان وإخوة.

{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ} : كان: كما قلنا تشمل كل الأزمنة الماضي، والحاضر، والمستقبل، والشيطان: يمثل الشياطين.

{لِرَبِّهِ} : اللام: لام التّعليل.

{كَفُورًا} : كثير الكفر: صيغة مبالغة: كثير الكفر لنعم الله تعالى، أو محترفاً في مهنة الكفر؛ فهو كافر، ويعمل على تكفير غيره.

وإذا عدنا إلى كلمة أخ؛ فهي تجمع على: إخوة، وإخوان، والقرآن استعمل كلمة إخوة في سياق إخوة النسب، وكلمة إخوان تأتي في سياق قوم اجتمعوا على مبدأ واحد في الخير والشر؛ أمثلة إخوان لوط (في الفاحشة)، أو سياق النسب كما في قوله في سورة النور آية (31) إخوانهن، أو بمعنى الأصدقاء كقوله إخواناً على سرر متقابلين (في الجنة في الخير).

سور الإسراء [الآيات 28 - 38]

ص: 27

سورة الإسراء [17: 28]

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} :

{وَإِمَّا} : مركبة من إن: الشرطية؛ تفيد الاحتمال؛ ما: للتوكيد.

{تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} : خجلاً، وحياءً؛ لأنك لم تعطهم من حقهم، كما جاء في الآية (26):{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} : إذن تعرض عن ذوي القربى أو المساكين، أو ابن السبيل بعد أن يسألوك، تعرض عنهم، ولم تعطهم شيئاً قليلاً، أو كثيراً بسبب فقرك، أو القلة، أو ليس عندك الكفاية، أو ما يسد حاجتهم.

{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} : طلباً للرزق الّذي تنتظره أن يأتيك فتعطيهم منه.

{فَقُلْ لَّهُمْ} : فقل: الفاء: للتوكيد؛ قل لهم: اللام: لام الاختصاص.

{قَوْلًا مَّيْسُورًا} : قولاً سهلاً ليناً بالاعتذار لهم، أو الوعد بأن تعطيهم حين يتوفر لك الرزق.

{مَّيْسُورًا} : اسم مفعول من: يسر.

ص: 28

سورة الإسراء [17: 29]

{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} :

{وَلَا} : الواو: استئنافية؛ لا: النّاهية.

{تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} : أي: لا تجعل يدك الّتي تعطي بها الصدقات مغلولة؛ أي: مقيدة، أو مربوطة إلى عنقك (مشهد من مشاهد يوم القيامة) كقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} [يس: 8]، وحين تقيد اليد إلى العنق فهي لا تمتد بالعطاء، كناية عن الإمساك، والبخل.

{مَغْلُولَةً} : مقيدة بالغل، والغل: هو القيد الّذي يوضع في اليدين، والعنق.

{وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} كناية عن الإسراف والتبذير؛ أي: تنفق كل ما لديك.

والواجب الاعتدال؛ أي: التوسط في الإنفاق، كما جاء في آيات أخرى؛ كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

{فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} : فتقعد: ارجع إلى الآية (22).

{مَلُومًا} : من اللوم؛ سواء أكان من نفسك، أم من النّاس، وهو تنبيه الفاعل على شيء فعله غير جيد أو مناسب، يُعاتب عليه، أو يلام عليه، ويؤنب من أجله، وهو الإسراف.

ملوماً: تمثل البخيل.

محسوراً: تمثل المسرف الذي أسرف ماله فأصبح كالبعير الحسير الذي أتعبه السير فلم تعد له قوة.

{مَّحْسُورًا} : من الحسر؛ كالبعير الّذي ذهبت قواه؛ لكونه أنفق كل ما عنده، وافتقر، ولم يدخر شيئاً؛ فأصبح غير قادر على القيام بسبب الإسراف؛ فهو في كلا الحالين ملوم إن قبضت يدك، وملوم إن بسطت يدك كل البسط.

ص: 29

سورة الإسراء [17: 30]

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} :

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} : إن: للتوكيد. ربك: أي الخالق الرازق والمدبر؛ أي: يوسع الرزق لمن يشاء من عباده؛ أي: يُغني من يشاء حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه، وهو ابتلاء من الله تعالى.

{وَيَقْدِرُ} : يفقر، أو يضيق على من يشاء؛ ابتلاءً لهم، وحسب الحكمة الإلهية، وحسب ما يصلح حال عباده.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{كَانَ} : تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والحال، والمستقبل.

{بِعِبَادِهِ} : الباء: للإلصاق.

{خَبِيرًا} : يعلم بواطن أمورهم، وخفايا صدورهم، ومصالحهم، فيرزقهم حسب مصالحهم.

ص: 30

سورة الإسراء [17: 31]

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـئًا كَبِيرًا} :

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} : ولا: الواو: استئنافية؛ لا: النّاهية.

{تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} : بالوأد، أو غيره من الطرق؛ مثل: الإجهاض، أو إسقاط الحمل.

{أَوْلَادَكُمْ} : تعني: الذكور، والإناث (البنين والبنات)؛ لأن قتل الأولاد هو اعتداء على إرادة الله، وحكمته.

{خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} : خوفاً من الإملاق، وهو شدة الفقر، والخشية تعني: الفقر لم يحدث بعد، وإنما مظنة أنه سيحدث في المستقبل؛ بينما في سورة الأنعام:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ} [آية: 15]؛ أي: الفقر قد وقع، وهم الآن يعانون منه.

{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} : أي: لا تقتلوا أولادكم سنرزقهم أولاً، ونرزقكم أيضاً، أو ترزقون برزقهم.

{إِنَّ قَتْلَهُمْ} : إن: للتوكيد؛ قتلهم: بالوأد، أو غيره من الوسائل؛ كالإجهاض.

{كَانَ خِطْـئًا كَبِيرًا} : خطئاً: الخطء: الإثم، أو الذنب العظيم؛ أي: قتلهم كان إثماً كبيراً.

أو خِطئاً: بكسر حرف الخاء، ولها معان أخرى بالإضافة إلى الإثم؛ منها: ضد الصواب؛ اسم من: أخطأ.

أو خطئاً: اشتقَّت من: خطا يخطو؛ أي: خروجاً عما تعارف عليه النّاس؛ أي: خروجاً عن العادة، والعرف. ولم يقل خَطأ: بفتح الخاء؛ لأن الإثم لا يكون إلا عن قصد وتعمد، وأما الخطأ بفتح الخاء هو السهو أو غير العمد وفعله أخطأ واسم الفاعل مخطئ كقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وهذا يدل على أن قتلهم للأولاد إثم كبير.

{كَبِيرًا} : توكيد.

ص: 31

سورة الإسراء [17: 32]

{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} :

{وَلَا} : الواو: استئنافية؛ لا: النّاهية.

{تَقْرَبُوا الزِّنَى} : الزنى: هو الوطء من غير عقد شرعي، واستمرار عملية الزنى يسمى الفجور، وإذا استمر الفجور وأقامت الزانية مع الزاني يسمى السفاح، والسفاح للرجل والمرأة، أما البغاء: يطلق على المرأة التي تجاوزت حرم الله وتسمى البغي، تقربوا أشد وأبلغ في التحريم من قوله: لا تزنوا، أو حرم عليكم الزنى، أو لا تأتوا الزنى، ولو قال ذلك؛ لكانت عملية الزنى هي فقط المحرمة، وأما ما يجري من لقاءات، ومجون؛ لكان كله غير داخل في التحريم.

{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} : أي: لا تقربوا أسبابه من اختلاط، وخلوة، وعدم غض البصر.

{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} : إن: للتوكيد.

{كَانَ} : تشمل كل الأزمنة.

{فَاحِشَةً} : عمل شيء قبيح.

{وَسَاءَ سَبِيلًا} : ساء: فعل لإنشاء الذم يشبه بئس؛ لأنّه يؤدي إلى هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، والاعتداء على الآخرين، وهدم الأسرة، وانتشار الأمراض الفتاكة، والفقر، والهوان، والفساد في الأرض، ونرى اقتران آيات قتل النفس التي حرم الله مع آيات الزنى، وذلك في سورة الإسراء والفرقان والممتحنة؛ قد يكون الاقتران إشارة إلى أن الزنى قد يؤدي إلى الحمل؛ فتلجأ المرأة إلى الاجهاض؛ لتغطية جريمة الزنى، وقتل الجنين حتى بعد الولادة أحياناً.

{سَبِيلًا} : طريقاً، ونهاية؛ لأنّه يؤدي إلى عذاب النّار، وبئس المصير.

وإذا قارنا هذه الآية من سورة الإسراء: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} ، مع الآية (22) من سورة النّساء:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} زاد في هذه الآية مقتاً؛ لأنّه في آية الإسراء زنى بامرأة محرمة عليه، وفي آية النساء زنى بامرأة أبيه؛ فزاد مقابل ذلك مقتاً. ارجع إلى سورة النساء، آية (22).

ص: 32

سورة الإسراء [17: 33]

{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} :

{وَلَا} : انظر في الآيات السّابقة.

{تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} : إلا: أداة حصر.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، والاستمرار، وبالحق تعني: القصاص من القاتل إذا لم يعفُ ولي المقتول، أو بالردة بعد الاستتابة، أو الثيب المحصن.

{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} : من: شرطية.

{قُتِلَ مَظْلُومًا} : أي: عدواناً، وظلماً، وعمداً، أما القتل الخطأ؛ فلا يدخل تحت حكم هذه الآية.

{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} : لولي المقتول؛ اللام: لام التّعليل، والاختصاص، وقد يكون أباه، أو أخاه، أو الابن، أو العم، وإن لم يكن له ولي فالحاكم يتولى إقامة الحكم.

{سُلْطَانًا} : سلطان القوة، والقهر بالقصاص، والدية، أو العفو.

{فَلَا} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ} : بأن يقتل غير القاتل، أو يعذب القاتل، أو يقتل أكثر من فرد، أو يقتل شريفاً بدلاً من عبد، أو رجلاً بدلاً من امرأة، ولا يمثّل بالجثة.

{إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} : إنه: للتوكيد؛ أي: ولي المقتول.

{مَنصُورًا} : لأنّه أعطي حق القصاص، والخيار.

ص: 33

سورة الإسراء [17: 34]

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا} :

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} : ارجع إلى الآية (32) السّابقة، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تسرفوا مال اليتيم.

{مَالَ الْيَتِيمِ} : اليتيم: الّذي فقد أباه في سن الطفولة.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : إلا بأحسن الطرق؛ فهو يحتاج إلى من يدبر، ويحسن التصرف بماله، وينمي ماله. ارجع إلى الآية (152) من سورة الأنعام؛ للبيان، وسورة النّساء، آية (2).

{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} : حتّى: حرف غاية، نهاية الغاية.

{يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} : اختلف في معنى يبلغ أشده؛ فمنهم من قال: يبلغ سن الرشد، وهو (21 سنة)؛ أي: سلامة العقل، وحسن التصرف، أو يصبح قادراً على إنجاب مثله؛ أي: سن البلوغ.

{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} : أي: أتموه، ولا تنقضوا عهودكم، والعهد: كل ما يلزمه، ويعقده الإنسان على نفسه باختياره؛ مثل: النذر، والباء: للإلصاق، والاستمرار، والتّوكيد.

{إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا} : إن: للتوكيد.

{كَانَ مَسْـئُولًا} : أي: مسؤولاً عنه مطلوباً منه، وعلى المعاهد ألا يضيعه، ويفي به.

{الْعَهْدَ} : هو وعد مقرون بشرط، ويقتضي الوفاء، وهناك فرق بين العهد، والعقد؛ العهد: يكون بطرف واحد؛ كالنذر، أو ما يعاهد العبد ربه، أو يعاهده ربه على لسان نبيه؛ أما العقد: لا يتم إلا بطرفين متعاقدين، وهو أوثق، أو أبلغ من العهد.

ص: 34

سورة الإسراء [17: 35]

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} :

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} : أتموه، والكيل: المعايير لما يكال حجماً.

{إِذَا كِلْتُمْ} : أي: حين البيع، والشراء؛ أي: وقت كيلكم؛ للتأكيد على إتمامه، وعدم التأخير.

{إِذَا} : ظرف زمان للمستقبل متضمن معنى الشرط، وإذا: تعني: الحتمية.

{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} : القسطاس: من القِسط، وهو العدل والحصة والنصيب، والغاية من الميزان: هو أن يأخذ كل إنسان نصيبه، ولذلك قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]، ودائماً يأتي الوزن مقروناً بالقسط، والقسطاس: هو الميزان، وزنوا بالميزان السويِّ العدل؛ الميزان الصغير؛ كميزان الذهب، أو الكبير (مثل: القبَّان) بأعدل الموازين.

{ذَلِكَ خَيْرٌ} : ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد يشير إلى الوزن بالقسطاس، وإيفاء الكيل خير وأفضل لكم عند الله من التطفيف.

{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} : عاقبةً، ومآلاً؛ أي: نتيجةً في الجزاء؛ تأويلاً: مشتقة من: آلَ؛ أي: رجع، أو ما يؤول إليه.

ص: 35

سورة الإسراء [17: 36]

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُولًا} :

{وَلَا تَقْفُ} : لا: النّاهية؛ تقف: القفو: اتباع أثر الشخص، أو السير خلفه، والقيافة: تتبع الأثر، وقفوت الشّيء: أي: تبعت أثره.

{مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : من قول، أو فعل؛ أي: لا تقل ما لا تعلم، ولا بد من التحقق، والتثبت إذا جاءكم إنسان بخبر لمعرفة صدقه أو كذبه، أو حق، أو باطل.

ويندرج تحت ذلك شهادة الزور، وقول الزور، وعدم الظن، والقذف.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} : هذه الحواس كل إنسان مسؤول عنها، ويحاسب عليها، وقدم السمع على البصر. ارجع إلى سورة البقرة آية (7)، وسورة الملك آية (23) لمعرفة السبب.

وأما الفؤاد: فقد قيل هو القلب، والحقيقة: الفؤاد هو الخلايا القلبية المتميزة والقادرة على الذكرى والشعور والحنان والعاطفة، وكأنها تشبه خلايا الذاكرة في الدفاع. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان.

{كُلُّ} : تفيد التّوكيد.

{كُلُّ أُولَئِكَ} : كل: أي: السّمع، والبصر، والفؤاد عبر عنها بأولئك؛ أي: أعطاها صفة العاقل العقل، والإدراك.

{كَانَ عَنْهُ مَسْـئُولًا} : محاسب على كل واحدة منها، وكل منها سوف تشهد له، أو تشهد عليه يوم القيامة.

وقدم السّمع على البصر؛ ارجع إلى الآية (7) من سورة البقرة؛ للبيان، وإلى سورة الملك، آية (23)؛ للبيان.

ص: 36

سورة الإسراء [17: 37]

{وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} :

{وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا} : في الأرض، ولم يقل على الأرض؛ لأنّ الطبقة الغازية المحيطة بالأرض جزء من الأرض.

{مَرَحًا} : بتكبُّر، وخيلاء، وفخر.

{إِنَّكَ لَنْ} : إن: للتوكيد؛ لن: تنفي المستقبل القريب والبعيد معاً.

{تَخْرِقَ الْأَرْضَ} : في القريب، أو الزمن البعيد القادم؛ تعليل للنهي، ولن يحدث ذلك أبداً مهما حاول الإنسان، وفيه تهكم بالمختال؛ فقد دلت البحوث على أن قطر الأرض يبلغ حوالي (12، 756كم).

{تَخْرِقَ الْأَرْضَ} : لن تستطيع أن تحفر الأرض، أو تقطعها أو تنفذها إلا بقدر؛ فقد تبين أبعد ما وصل إليه الباحثون في الحفريات في عمق الأرض هو حوالي (8ميل)، أو (12كم) فقط، ولم يتمكنوا بعدها من الحفريات؛ لأن أدوات الحفر بدأت تنصهر وتذوب بسبب شدة ارتفاع درجة الحرارة.

{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} : ولن: كالسّابقة.

{تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} : أي: لن تبلغ بطولك طول الجبال؛ أي: علوها؛ فهي أعلى منك؛ فقد أشارت الدراسات إلى أن ارتفاع جبال هيملايا (قمة أفرست) حوالي (8، 8كم)؛ أي: (5، 5ميل) من سطح البحر، وتكرار لن: تفيد التّوكيد، وفصل كل منهما عن الآخر: خرق الأرض، وبلوغ الجبال طولاً، ولذلك لا يجوز للعاجز في هاتين الحالتين أن يتكبر، ويختال، ويفخر؛ فالتواضع أفضل، والأرض والجبال أقوى منك؛ فإياك والغُرور.

ص: 37

سورة الإسراء [17: 38]

{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} :

{كُلُّ ذَلِكَ} : كل: للتوكيد.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ تشير إلى ما وصى، ونهى، وأمر به الله تعالى عباده في الآيات السّابقة (23-38) من سورة الإسراء. ذلك: تصلح للواحد، والجمع، والمؤنث، والمذكر.

{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ} : أي: السيئ: هو المكروه عند الله؛ أما الأمور الحسنة: مثل: بر الوالدين، وإيتاء ذي القربى، والوفاء بالعهد هذه أمور حسنة، ومخالفتها كعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، وعدم الوفاء بالعهد يحولها إلى أمور سيئة.

{مَكْرُوهًا} : والمكروه عند ربك: هو المخالف لمنهج العبودية، والربوبية، والمخالف لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن تلخيص الآيات السّابقة بما يلي:

1 -

عبادة الله وحده، وتحريم الشرك.

2 -

الإحسان إلى الوالدين.

3 -

إيتاء ذي القربى، والمساكين، وابن السبيل، والقول الميسور إذا تعذر الإيتاء.

4 -

عدم التبذير، والإسراف، وعدم البخل.

5 -

تحريم قتل الأولاد من الإملاق، أو خشية الإملاق.

6 -

تحريم الزنى.

7 -

تحريم قتل النفس إلا بالحق؛ حق القصاص؛ وتحريم الإسراف في القصاص.

8 -

تحريم أكل مال اليتيم.

9 -

الوفاء بالعهد.

10 -

إيفاء الكيل، والميزان بالقسط (بالعدل).

11 -

التثبت من الأخبار، وتجنب الظن.

12 -

تجنب التكبر، والخيلاء.

ص: 38

سورة الإسراء [17: 39]

{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ تشير إلى ما سبق ذكره من الوصايا، والأوامر، والنواهي الإلهية، وكرر كلمة ذلك؛ للتوكيد، وذلك: تصلح للواحد، والجمع.

{مِمَّا} : مركبة من كلمتين: من: الابتدائية البعضية؛ وما: اسم موصول بمعنى: الذي، وما: أوسع في المعنى من: الذي.

{أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} : أوحى: من الوحي: وهو الإعلام بخفاء، والوحي في الشرع: هو ما يُلقي الله إلى رسله من تكاليف وتعاليم وآيات، ووعد، ووعيد

وغيره.

{إِلَيْكَ رَبُّكَ} : الرب: هو الخالق المربي، والمدبر. ارجع إلى سورة النساء، آية (163) لمزيد من البيان في معنى الوحي.

{مِنَ الْحِكْمَةِ} : من: هنا بعضية؛ أي: بعض الحكمة، ولذلك أحد تعاريف الحكمة: هي التّكاليف الشّرعية، أو الفقه بأمور الدّين، ولتعريف الحكمة: ارجع إلى سورة النحل، آية (125).

{وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : كرر النّهي عن الشرك مرة أخرى في أول آية؛ آية (22)، وآخر آية؛ للتوكيد، وللتذكير بأن التّوحيد هو البداية والنهاية، والفاتحة، والخاتمة، وبدون الوحدانية لا تُقبل تلك الأعمال، وليس لها ثواب.

{فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} : ملوماً: أي: لا تجعل مع الله إلهاً آخر؛ أي: لا تشرك بالله تعالى؛ فيكون سبباً في إلقائك في جهنم موبخاً ملوماً على شركك. ارجع إلى الآية (29) من السّورة نفسها.

انتبه إلى أول الآيات: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} وآخر الآيات {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} .

الآيتان معاً جمعتا: مذموماً مخذولاً، ملوماً مدحوراً؛ أي: الشرك بالله يؤدي بصاحبه إلى الذم، والخذلان، واللوم، والبعد، والطرد من رحمة الله تعالى، وفي الآية الأولى: فتقعد، وفي الثّانية: فتلقى في جهنم، والإلقاء: يكون أولاً، ثم القعود.

فتقعد في جهنم خائر القوى عاجزاً لا تستطيع حتّى القيام.

ولذلك وصف الله الشرك بأنه ظلم عظيم للنفس، والذات، وجاءت الآيات الكثيرة في القرآن محذرة منه.

ص: 39

سورة الإسراء [17: 40]

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} :

هذه الآية، والآيات القادمة تبين لنا بعض أنواع الشرك.

{أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} : الهمزة في "أصفاكم" للاستفهام، والإنكار، والتوبيخ، والفاء: للدلالة على شدة الإنكار، والتّوكيد، والتّهديد.

أصفاكم: من الاصطفاء. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (144)؛ لمعرفة معنى الاصطفاء، والمعنى العام: أي: اختار، وخصكم ربكم بالبنين، أو فضلكم على ذاته، وخص نفسه بالملائكة الإناث؛ كما يزعم بعض المشركين!

{وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} : اتخذ: من أفعال التّحويل، والتّصيير؛ أي: جعل من الملائكة إناثاً.

وفي آية أخرى يقول الحق: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْـئَلُونَ} [الزخرف: 19].

وكذلك الآية: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57].

{إِنَّكُمْ} : إن: للتوكيد.

{لَتَقُولُونَ} : اللام، والنون: لزيادة التّوكيد.

{قَوْلًا عَظِيمًا} : أي: قولاً في منتهى العظم، والكفر، والشّرك، والجرأة على الله سبحانه وتعالى . ارجع إلى سورة الكهف، آية (5)؛ للبيان.

ص: 40

سورة الإسراء [17: 41]

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} :

{وَلَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق؛ أي: تحقق ذلك التّصريف.

{صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ} : صرفنا من التّصريف، والتّبيين؛ أي: صرفنا الآيات؛ أي: جئنا بها بصور شتى، وأساليب متعددة؛ حتّى تفهموا معانيها؛ أي:(آية واحدة) جئنا بها بصور مختلفة مثل: الرّيح، والرّياح، لواقح، عقيم، العاصفة، طيبة، وغيرها من أشكال الرّيح.

{فِى} : ظرفية.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب.

{الْقُرْآنِ} : لكونه مقروءاً، أو يقرأ؛ أي: عن قرب.

{لِيَذَّكَّرُوا} : اللام: لام التّعليل؛ يذكروا: من جديد بعد أن غفلوا عما أمرهم الله به، ونهاهم عنه، أو نَسُوا، وغفلوا عن اتباع الحق، وعن آيات الله، وبدلاً من أن يذكروا ازدادوا نفوراً.

{وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} : ما: النّافية.

{يَزِيدُهُمْ} : ذلك التّذكير.

{إِلَّا نُفُورًا} : إلا: للحصر؛ ابتعاداً عن الهدى، والإيمان. والنفور: مشتق من نفور الدابة؛ أي: هروب الدابة خشية من الأذى كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51].

وإذا قارنا هذه الآية (41) مع الآية (89) من السّورة نفسها.

الآية (41): {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} .

الآية (89): {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} .

نجد النّفور: يحدث أولاً، ثم يأتي الكفور ثانياً، أو يتلو النّفور الكفر؛ فَذكَر كلتا المرحلتين، وبدأ بالمرحلة الأولى (النّفور)، ثم المرحلة الثّانية (وهي الكفر).

ص: 41

سورة الإسراء [17: 42]

{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلًا} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} : لو: حرف امتناع لامتناع.

{مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} : أي: هناك آلهة أخرى غير الله مثل الشّمس، أو القمر، أو النّجوم، أو الملائكة، أو الأصنام، أو بشر، أو جن، أو غيرها.

{إِذًا} : حرف جواب.

{لَّابْتَغَوْا} : اللام: لام التّوكيد.

{إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلًا} : أي: لو كان هناك آلهة كما يزعمون فهم سيبحثون عن الإله الواحد الحق؛ ليأخذوا، ويستمدوا منه القوة، أو لالتمسوا؛ أي: طلبوا إلى ذي العرش (صاحب العرش) طريقاً؛ سبيلاً؛ أي: لطلبت تلك الآلهة لنفسها القوى، والزلفى من الله تعالى؛ فهي غير قادرة على اتخاذ السبيل لنفسها؛ فكيف تستطيع أن تشفع، أو تقربكم إلى الله زلفى؟ أو لحاولت تلك الآلهة الاستيلاء على العرش، والوصول إليه بالقتال، والعداوة، والقهر.

ص: 42

سورة الإسراء [17: 43]

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} :

{سُبْحَانَهُ} : تنزيهاً له مطلقاً أن يكون له شريك، أو مثيل في الذات، والصفات، والأفعال، وتنزيهاً؛ أي: تبرئة له.

{وَتَعَالَى} : تعاظم. ارجع إلى سورة الحديد، آية (1)، وإلى الآية (1) من السّورة نفسها؛ لبيان معنى: سبحانه.

{عَمَّا يَقُولُونَ} : من وجود الشركاء، والولد، والبنات

وغيرها. يقولون، ولم يقل قالوا؛ لأنّهم استمروا في أقوالهم؛ فهي تتجدد، وتتكرر، ولم يكفوا عنها بعد.

{عُلُوًّا كَبِيرًا} : تعالى سبحانه علواً كبيراً (مبالغة في البراءة عما يقولون) من أن له ولداً، أو شريكاً، أو بنتاً، أو الملائكة (إناثاً).

{كَبِيرًا} : تعني: كل ما سواه صغير، ولم يقل: أكبر الّذي يعني: ما دونه كبير؛ أي: مشارك له في الكبر، وهذا ليس صحيحاً.

ص: 43

سورة الإسراء [17: 44]

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} :

{تُسَبِّحُ لَهُ} : أي: تنزهه.

{السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} : من: للعاقل، وتشمل: المفرد، والمثنى، والجمع. ارجع إلى سورة الحديد، آية (1)؛ للبيان.

{وَمَنْ فِيهِنَّ} : من مخلوقات؛ كالملائكة، والثقلين: الجن، والإنس؛ تسبح له كل المخلوقات؛ مثل: الشّمس، والقمر، والنّجوم، والجبال، والشجر، والدواب، والجمادات، والنباتات، تسبح، وتشهد بوحدانيته.

{وَإِنْ} : إن: نافية؛ وتعني: ما، وإن: أشد نفياً من: ما؛ أي: وما من شيء إلا يسبح بحمده.

{مِنْ} : ابتدائية استغراقية.

{شَىْءٍ} : اسم جنس، ونكرة يشمل كل شيء، والشّيء: هو أقل القليل.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} : تسبيح وحمد معاً، ولمعرفة معنى الحمد: ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (2).

{وَلَكِنْ} : أداة استدراك؛ تفيد التّوكيد.

{لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} : التسبيح: هو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بذاته وأسمائه وصفاته من كل عيب ونقص، ويعني: تعظيم وتمجيد الله تعالى، فنحن نسمع تسبيحها ولكن لا ندرك أو نفهم ما تقول؛ فقد قال تعالى:{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]؛ فكل شيء في الكون يعلم كيف يُصلي لله بطريقته الخاصة، ولغته الخاصة، ويسبحه، وعدم فقه تسبيحهم قد يكون رحمة بالعباد؛ فلو فهموا أو فقهوا تسبيح الأشياء الّتي يأكلونها لربما امتنعوا عن الأكل، وربما لم يستطيعوا أن يناموا لحظة من سماعهم ما تقول تلك المخلوقات حين نسمع أصواتها، أو غيرها من الآثار المترتبة على سماع وفهم تسبيح مخلوقات الله. وانظر إلى قوله تعالى:{تَسْبِيحَهُمْ} ، ولم يقل (تسبيحها): وصف الغير عاقل بالعاقل، وعاملها معاملة العاقل؛ لأن الله حين خلط مع العقلاء غيرهم جرى على أحدهما ما جرى للآخر إذا كان مشارك في المعنى.

{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} : إنه: للتوكيد.

{كَانَ} : تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ كان، ولا زال، وسيبقى.

{حَلِيمًا} : لا يعجل بالعقوبة للغافل؛ لعله يذكر ربه، ويسبح، أو يتوب إلى ربه، ورفيقاً بعباده كثير الصبر والإناة.

{غَفُورًا} : لمن تاب، وأناب؛ كثير الغفران صيغة مبالغة؛ يغفر الذنوب جميعاً مهما كثرت، أو عظمت، والغفر؛ يعني: الستر، ثم يمحوها من كرمه، وفضله.

ص: 44

سورة الإسراء [17: 45]

{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا}

المناسبة: كما ذكر القرطبي؛ قيل: إن جماعة من كفار قريش منهم: أبو جهل، وأبو سفيان، وأبو لهب، وأم جميل كانوا يتنصتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن؛ ليسمعوا ما يقول، وكانوا يؤذونه؛ فحجب الله سبحانه عنهم سماع القرآن، وكذلك حجب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن؛ فكانوا يمرون به، ولا يرونه، ولا يسمعونه، ومثال على ذلك: حين نزلت سورة "تبت يدا أبي لهب"؛ فجاءت امرأة أبي لهب بحجر، والنّبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؛ فقالت لأبي بكر: أين صاحبك الّذي هجاني؟ ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرها أبو بكر بأن السّورة ليست من قوله. وقيل: نزلت في أبي سفيان، والنضر بن الحارث، وأبي جهل، كما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما .

{وَإِذَا} : ظرف زمان يتضمن معنى الشّرط، واستعمال إذا: يفيد حتمية الوقوع، وكثرة وقوعه.

{قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} : ولم يقل: ساتراً، بل: مستوراً؛ مبالغة في الستر، والإخفاء، وهذا الحجاب نفسه مستور، حجاب معنوي يمنعهم من سماعك، أو رؤيتك، كما قال تعالى:{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].

مستور: على وزن مفعول؛ أي: مانع للعين من الرؤية، ومانع للأذن أن تسمع، والقدرة الإلهية الّتي تُسير هذا الكون قادرة على أن تعطل أيَّ أداة عن أداء مهمتها؛ فلا عجب؛ فقد جعل النّار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام .

ص: 45

سورة الإسراء [17: 46]

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} :

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} : كما جعل الله سبحانه على أعين كفار مكة حجاباً مستوراً لا ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً، وعطل سمعهم أحياناً؛ كذلك جعل على قلوبهم أكنَّة: أغطية؛ جمع كنان: غطاء.

{أَنْ يَفْقَهُوهُ} : أي: يفهموا القرآن يفهموا أسراره ومعانيه وحقائقه التي تبعث على الإيمان بالله وحده. أن: حرف مصدري للتعليل، وما جعل الله على قلوبهم أكنَّة؛ إلا بعد أن قالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنَّة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر؛ أي: ثقل في السّمع؛ لكيلا يسمعوا هذا القرآن، أو ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم سماع يُستفاد منه بالرجوع إلى طريق الهداية، والإيمان، والتّوبة.

{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} : أي: إذا ذكرت ربك وحده، ولم تذكر آلهتهم الّتي يظنون أنها ستشفع لهم، أو تقربهم من الله زلفى، أو قلت: لا إله إلا الله وحده، وذكرت آيات تدل على التّوحيد؛ خافوا مما سمعوا.

ثم {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} : (أعطوك ظهورهم)، وابتعدوا عنك فارين لا يريدون سماع ما تقول، ولا يريدون منك أن تذكر الله وحده.

ص: 46

سورة الإسراء [17: 47]

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} :

المناسبة: روي عن ابن عبّاس i أن جماعة من كفار مكة مثل النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي جهل، وغيرهم كانوا يجلسون إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، ويستمعون إلى حديثه للاستهزاء به، أو التّعجب، أو لكي يلغوا في القرآن.

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} : الباء: للإلصاق، والتّوكيد؛ سبب الاستماع: هو الاستهزاء، أو اللغو

وغيرها، والهاء: تعود للقرآن؛ أي: يستمعونه، وهناك فرق بين يستمعون به، ويستمع إليك؛ يستمع إليك تعني: ذكر الرسول، أو القصد الرسول، وحين يقول يستمعون به تعني: القرآن.

{وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} : إذ: ظرف زماني؛ أي: وإذ هم ذوو نجوى؛ فكأن كل حالهم، وهمهم النجوى.

{هُمْ نَجْوَى} : يتحدثون سراً بينهم، ويقولون: رجل مسحور، أو ساحر، أو كاهن، أو مجنون.

وأحياناً يقولون: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو، ولا يُعلى عليه من السيرة النبوية لابن هشام، أو يقولون: إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً (اسم مفعول)؛ أي: سحره غيره، وفي مرات أخرى قالوا: ساحر، وهنا يقولون: مسحوراً سحره غيره.

{إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} : المشركون.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ} : إن: نافية أقوى في النفي من: ما.

{إِلَّا} : حصراً.

{رَجُلًا مَّسْحُورًا} : أي: سحره غيره. ارجع إلى سورة طه، آية (58)؛ لبيان معنى: السّحر.

فهم ما قالوا ذلك إلا بعد أن تأثروا بما جاء في القرآن، فشبهوا ذلك بالسّحر الّذي يؤثر في نفوس النّاس.

ص: 47

سورة الإسراء [17: 48]

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} :

{انظُرْ كَيْفَ} : استفهام فيه معنى التّعجب.

{ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} : لك: اللام: لام الاختصاص؛ لك: خاصة، وليس لغيرك؛ أي: أنت وحدك الّذي اتهموه بكل هذه الأمثال؛ فقالوا ساحر، شاعر، مجنون، كاهن. ارجع إلى سورة النحل آية (74-75) لمزيد من البيان في معنى المثل.

{فَضَلُّوا} : الفاء: عاطفة؛ ضلوا: عن الصّواب، ولم يهتدوا إلى الحق، ولم يجدوا مخرجاً إلا هذه الافتراءات.

{فَلَا} : الفاء: للتأكيد؛ لا: النّافية.

{يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} : ليس لهم القدرة، والاستطاعة أن يصدوا أحداً عن سبيل الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الدخول في الدّين إذا شاء الله بأي وسيلة، أو طريقة يملكونها.

{سَبِيلًا} : نكرة؛ أيّ سبيل، أو طريقة يستعملونها.

ص: 48

سورة الإسراء [17: 49]

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} :

{وَقَالُوا أَإِذَا} : أإذا: الهمزة: استفهام إنكاري، وتعجب، واستبعاد؛ أي: قال المشركون منكرو البعث.

{كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} : ولم يقولوا هذه المرة تراباً وعظاماً، وإنما قالوا: عظاماً ورفاتاً، فقط في سورة الإسراء ذُكرت العظام، والرفات، والأصل: تراباً، وعظاماً، وليس عظاماً ورفاتاً؛ لأننا إذا بحثنا في القبر نجد التّراب، وتحته العظام؛ فالعظام، والرفات: هي ناتجة عن تكسر العظام وتفتتها، وهي تدل أو تشير إلى مرحلة متأخرة جداً بعد الموت تلي مرحلة التراب والعظام.

والعظام: جمع عظم، وتتكسر العظام، ثم تتفتت على مرور السنين.

والرفات: هو الفتات (فتات العظام) وهم قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} ؛ لأن بعضهم أحضر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عظماً بالياً وكسره وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في سورة ياسين آية (78){قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} .

فهؤلاء المشركون ومنكرو البعث يستبعدون أنهم بعد موتهم، وتحولهم إلى عظام ورفات أنهم سوف تعاد لهم الحياة، ويُبعثون من قبورهم للحساب، والجزاء.

{أَإِنَّا} : استفهام إنكاري، واستبعاد.

{لَمَبْعُوثُونَ} : اللام: لام التّوكيد؛ مخلوقون من جديد.

{خَلْقًا جَدِيدًا} : بعد الموت.

ص: 49

سورة الإسراء [17: 50]

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} :

قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: لو كنتم حجارة، أو حديداً بدلاً من العظام، والرفات، أو أي شيء بين الحجارة، أو الحديد؛ فإن الله سبحانه قادر على بعثكم خلقاً جديداً للحساب، والجزاء، ولن تفلتوا من عقابه.

ص: 50

سورة الإسراء [17: 51]

{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} :

{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ} : التّحدي ازداد لمنكري البعث بأبعد من الحجارة، أو الحديد: بأن يختاروا خلقاً حسب ما يتصورونه، ويكون أصعب، أو أبعد التّصورات من الحديد، أو الحجارة؛ مهما كان نوعه، وشكله أعظم شيء يمكن تصوره، أو تخيله بعيداً عن قابلية الحياة.

{فِى صُدُورِكُمْ} : في نفوسكم.

{فَسَيَقُولُونَ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ سيقولون: السين: للاستقبال القريب.

{مَنْ يُعِيدُنَا} : إلى الحياة، أو يبعثنا.

{قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: الّذي فطركم (خلقكم) أول مرة.

{فَطَرَكُمْ} : أخرجكم أظهركم للوجود من: تفطر الشجر؛ أي: تشقق بالورق.

{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} : فسينغضون: الفاء: للترتيب، والتعقيب، والمباشرة، والسين: للاستقبال القريب؛ ينغضون إليك رؤوسهم: يحركون رؤوسهم كما نفعل حين نرد على سؤال ما بدون النطق نحرك الرأس من الأعلى إلى الأسفل، وتعني: نعم، أو من الأسفل إلى الأعلى، وتعني: كلا، أو لا.

نغض الرأس: حركة الرأس بارتفاع، أو انخفاض تعجباً، أو استهزاءً أحياناً.

{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} : أي: متى سيكون البعث، والإعادة.

{مَتَى} : للاستفهام الزماني، وفيها معنى الاستنكار، والتعجب، والاستبعاد؛ لحصول البعث.

{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} : عسى: للطمع، والتّرجي، والمتوقع حدوثه:

{أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} : أن: للتوكيد.

{يَكُونَ قَرِيبًا} : بدون طول انتظار.

ص: 51

سورة الإسراء [17: 52]

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} :

{يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} : بالنّفخة الثّانية: نفخة البعث؛ يدعوكم للخروج، أو للبعث من القبور؛ كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25].

{فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : فتستجيبون: الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ تستجيبون: للداعي، وهو إسرافيل عليه السلام ؛ تستجيبون: تجيبون دعوة الداعي بمشقة وجهد.

{بِحَمْدِهِ} : الباء: للإلصاق، والتّعليل؛ بحمده؛ أي: بأمره، أو حامدين لله شاكرين له؛ أي: تقومون طائعين تحمدون الله الّذي طالما أعلمكم بهذا اليوم، أو بالبعث.

{وَتَظُنُّونَ إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} : وتظنّون: من الظن، وهو الخبر الراجح (نسبة الإثبات أعلى من نسبة النّفي).

{إِنْ لَّبِثْتُمْ} : إن: للنفي أشد نفياً من حرف: ما؛ أي: ما لبثتم، واللبث: الإقامة المقترنة بزمن محدد مقارنة بالمكث الغير محدد بزمن معين.

{إِلَّا قَلِيلًا} : أداة حصر، قليلاً من الزّمن؛ لأنّه سبحانه قادر على قبض الزّمن، وبسطه في آن واحد، وقادر على جمع الضدين، كما حدث في قصة الّذي مر على قرية، وهي خاوية على عروشها، وكقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].

ص: 52

سورة الإسراء [17: 53]

{وَقُلْ لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} :

{وَقُلْ لِّعِبَادِى} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{لِّعِبَادِى} : اللام: لام الاختصاص؛ عبادي: أي: الّذين آمنوا، الطبقة المؤمنة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (186)؛ لمعرفة الفرق بين عبادي وعبيد وعباد.

{يَقُولُوا الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : قيل: الّتي هي أحسن هي: لا إله إلا الله، وتشمل كل الأقوال الحسنة؛ "يقولوا الّتي هي أحسن": على وزن أفعل؛ أي: أفضل عند حديثهم مع بعضهم، أو عند محاورتهم للمشركين، أو غيرهم من النّاس.

{أَحْسَنُ} : تشمل كل حسن، وحكمة.

{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} : إن: للتوكيد.

{الشَّيْطَانَ} : ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة؛ للبيان.

{يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} : النزغ: هو الإهاجة، والإثارة بأن يهيج، ويثير الغضب بعضهم على بعض؛ حتّى تحدث العداوة بينهم، أو يفسد بينهم بالوسوسة، والطعن، والغيبة.

{إِنَّ الشَّيْطَانَ} : إن: للتوكيد.

{كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} : كان: تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ كان، ولا يزال، وسيبقى.

{لِلْإِنسَانِ} : اللام: لام الاختصاص؛ الإنسان: مشتقة من الإنس؛ أي: الإلفة.

{عَدُوًّا مُبِينًا} : أي: بين العداوة عدواً ظاهر العداوة عداوته لا تخفى على كل فرد، وعداوته لا تحتاج إلى برهان، أو دليل. ومبيناً: صفة مشبهة من فعل أبان.

ص: 53

سورة الإسراء [17: 54]

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} :

{رَّبُّكُمْ} : الرب: هو الخالق، والمربي، والمدبر، ورب المؤمن، والكافر، ورب كل شيء.

{أَعْلَمُ بِكُمْ} : الخطاب هنا للكل، أو قد يكون للمشركين، أو للمؤمنين. أعلم بكم: أعلم بالمؤمن، أو غير المؤمن، والطائع، والعاصي؛ أعلم بإيمانكم، وبأعمالكم، وأحوالكم، وتقلبكم، وأعلم بحسناتكم، وسيئاتكم، وذنوبكم.

{إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} : إن: شرطية؛ يشأ: من المشيئة الّتي تسبق الإرادة، والمشيئة لا تتغير.

فإذا كان الخطاب للمؤمنين يرحمكم: بالتوبة، ويغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم في الدّنيا، والآخرة بكثير من أنواع الرّحمة، أو أن يعذبكم بكثير من أنواع العذاب.

وإذا كان الخطاب للمشركين العاصين يرحمكم: يهديكم للإيمان، أو يعذبكم في الدّنيا، والآخرة بأنواع كثيرة من أنواع العذاب، أو يميتكم على الكفر.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} : ما: النّافية؛ أرسلناك: يا محمّد صلى الله عليه وسلم. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لبيان معنى الإرسال والبعث.

{عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} : أي: ليس موكلاً إليك أمرهم عنا لكي تجبرهم على الإسلام، والإيمان، أو مسؤول عن إيمانهم، أو مؤاخذ على أفعالهم، أو ليس موكلاً عليك الدفاع عنهم؛ لأنّ الوكيل يدافع عن موكله؛ أي: لتدافع عنهم يوم القيامة؛ أي: أنت لست وكيلاً عليهم ولست وكيلاً عنا.

وهذا من رأفة الله تعالى، ورحمته برسوله صلى الله عليه وسلم، وليس انتقاصاً من قدره؛ لأنّه كان صلى الله عليه وسلم باخعاً نفسه، وحريصاً على إيمانهم. وإذا قارنا هذه الآية مع قوله تعالى {أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]؛ حفيظاً: تعني لكي تحفظ أعمالهم وتحاسبهم عليها.

ص: 54

سورة الإسراء [17: 55]

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} :

{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ} : على وزن أفعل التفضيل؛ تدل على المبالغة في العلم، والله كذلك عليم، والله عالم الغيب، والشهادة، وأجاز لمن دونه أن يتصف بالعلم؛ فوصفه بالعالم؛ أي: العالم كذا، والله علام الغيوب؛ فهو سبحانه عليم، وعالم، وعلام؛ يملك كل درجات العلم سبحانه.

{بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : بمن: الباء: للإلصاق، ومن: للعاقل، وتشمل المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى من الإنس، والجن، والملائكة أعلم بأحوالهم، وسبل عيشهم، وإيمانهم، وموتهم.

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ} : فضلنا: بالقرب من الله، وبالدرجة في الجنات، والله سبحانه له الأمر، والتفضيل؛ لأنّه سبحانه يعلم بواطن الأمور (خبير)، وظواهرها. ارجع إلى سورة البقرة آية (253) لمزيد من البيان في الفضل والكيفية.

{النَّبِيِّنَ} : تشمل الرّسل، والأنبياء؛ فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً.

وذكر تفضيل الرّسل في آية أخرى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].

{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} : الزبور: الكتاب الّذي أنزل على داود، وهو كتاب دعاء، وتحميد، وتمجيد ليس فيه من الفرائض، والحدود، أو الحلال، والحرام.

والزبور: تطلق على كل كتاب أنزله الله سبحانه. ارجع إلى سورة النّساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان في معنى: زبوراً، ولماذا خص داود بالذكر عقب تفضيل بعض الأنبياء على بعض، ولم يذكر نبياً من أولي العزم؟ الله أعلم، وقد يكون السبب لأنه كان ملكاً رسولاً بعد أن كان راعياً للغنم.

ص: 55

سورة الإسراء [17: 56]

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} :

سبب نزولها: أن نفراً من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، كما روى ابن مسعود، وأخرجه البخاري. وقيل: أن المشركين كانوا يعبدون الآلهة، أو الملائكة، وغيرهم من الشّركاء؛ فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين، وراحوا يشكون حتّى أكلوا الكلاب، والجيف، وضاقت السبل قيل لهم:

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ} : أي: من غير الله، على سبيل التهكم؛ من الملائكة، والأصنام، وعيسى، أو الجن، أو المعبودين حتّى يطعموكم، أو ينزلوا الغيث عليكم، أو يكشفوا الضر عنكم، والعبرة بعموم اللّفظ، وليس بخصوص السّبب.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد؛ لا: النّافية.

{يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} : فلا يقدرون إزالة، أو إيقاف الضّر من الفقر، والجوع، والمرض، والبؤس.

{يَمْلِكُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد، والاستمرار.

{وَلَا تَحْوِيلًا} : ولا يقدرون على تحويل الضر عنكم إلى غيركم، أو تحويل العسر إلى يسر، أو تحويل الضر إلى النافع.

وتكرار (لا) مرتين: تفيد التّوكيد لا كشف الضر، ولا تحويله، ولا كليهما.

ص: 56

سورة الإسراء [17: 57]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد (سواء عيسى، أو الملائكة، أو عزير، أو الجن).

{الَّذِينَ يَدْعُونَ} : أي: هم أنفسهم يدعون.

{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} : أي: يطلبون أو يلتمسون القربى من الله تعالى بالطاعة، والعبادة، والدعاء؛ جاءت بالمضارع؛ لتدل على التّجدد، والاستمرار.

{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} : جنته، أو دفع الضر عن أنفسهم، والوقاية من وقوع العذاب بهم.

{وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} : عذاب النّار (عذاب الآخرة)، أو الأخذ بالعذاب في الدّنيا.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} : من الحذر؛ أي: أن عذاب ربك مُحذر منه، يُخاف منه ويُبتعد عنه، بينما المحظور: الممنوع، والحظر: هو المنع (فالعطاء محظور، والعذاب محذور)؛ كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].

ص: 57

سورة الإسراء [17: 58]

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا} :

انتبه إلى هذه الآية الّتي تخبر بحكم مطلق بتعذيب كل قرية، أو إهلاكها قبل يوم القيامة، والإطلاقات في بعض الآيات القرآنية تقيدها آيات أخرى، وعلى سبيل المثال هذه الآية الّتي تقيدها آيتان هما قوله تعالى:{ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} : وإن: الواو: استئنافية؛ إن: نافية أشد نفياً من: ما؛ أي: وما من قرية.

{مِنْ} : ابتدائية استغراقية.

{قَرْيَةٍ} : تعني: أهل القرية، والبناء، وكما قلنا: من قرية؛ أيّ قرية ظالمة، أما القرية غير الظالمة، والقرية الّتي أهلها غافلون، أو مصلحون؛ فلن تعذب، أو تهلك قبل يوم القيامة.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{نَحْنُ} : بصيغة التّعظيم؛ للدلالة على شدة الهلاك.

{مُهْلِكُوهَا} : بالاستئصال. ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لبيان معنى الهلاك.

{أَوْ مُعَذِّبُوهَا} : من التعذيب، والتعذيب يكون قبل الاستئصال، ويتم بالألم، والجوع، والصواعق، والكوارث الجوية، وفيه عطف الخاص على العام.

{كَانَ ذَلِكَ} : العذاب، والهلاك.

{فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا} : أي: مسجلاً في اللوح المحفوظ؛ منذ الأزل.

ص: 58

سورة الإسراء [17: 59]

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} :

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ} : ما: النّافية.

{مَنَعَنَا} : لا يمنع الله سبحانه أيُّ شيء، واستعمل منعنا بدلاً من صرفنا؛ أي: وما صرفنا عن إرسال الآيات الّتي طلبوها، أو المعجزات الّتي اقترحوها مثل تحويل الصفا إلى ذهب، أو أن ينحّي عنهم جبال مكة كي يزرعوا ويحصدوا، كما أخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس، أو غيرها من الآيات الّتي سيأتي ذكرها في الآيات القادمة (90-93)، والآيات تعني: المعجزات.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} : أي: ما صرفنا عن الاستجابة إلى طلبهم بإرسال الآيات الّتي اقترحوها إلا تكذيب الأولين الّذين سبقوهم بتلك المعجزات، أو الآيات؛ لأنّه لو أرسلنا تلك الآيات، واستجبنا لما طلبوه، ولم يؤمنوا بعدها، لَحقَّ عليهم العذاب، وهلكوا كما حدث لقوم ثمود الّذين ظلموا بها؛ أي: بالنّاقة الّتي أرسلت إليهم كآية:

{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ} : وأرسلنا إلى ثمود النّاقة؛ كآية معجزة دالة على صدق نبوة صالح. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لبيان معنى الإيتاء والعطاء.

{مُبْصِرَةً} : بينة، واضحة على نبوة صالح، وصدق ما دعاهم إليه، ونسب الإبصار إلى الناقة؛ لأنها كانت سبباً كافياً للدلالة لإبصار طريق الهدى والإيمان؛ مبصرة كالنهار، مبصراً بنوره، وهم عمون عن الحق.

{فَظَلَمُوا بِهَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ ظلموا بها؛ أي: بالنّاقة كآية؛ أي: جحدوا بها، وكذبوا بها، ولم يمتثلوا أوامر نبيهم صالح؛ فأخذتهم الصيحة؛ {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67]. والسؤال لماذا خص ثمود بالذكر دون غيرهم؛ لأن قصة ثمود وآية الناقة التي أرسلت إليهم اشتهرت بين العرب، ولأن آثار ديارهم لا زالت قائمة بين مكة والشام، ويمكن الوصول إليها ورؤيتها.

{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} : أي: ما نرسل بالآيات؛ آيات التنزيل، أو المعجزات، أو الكونية إلا حصراً، وقصراً؛ لتخويف العباد؛ كي يتذكروا، أو يتعظوا، أو يصحوا من سباتهم، ويتوبوا إلى الله، ويؤمنوا به، وبما أُنزل عليهم من الآيات وتشمل الآيات الكونية، والزلازل، والبراكين، والأحداث الجوية.

{إِلَّا تَخْوِيفًا} : أي: إنذاراً؛ أي: وما نرسل بآيات القرآن إلا تحذيراً، وإنذاراً بعذاب الآخرة، والخوف: هو توقع الضرر المشكوك في وقوعه، وأما الحذر: فهو توقي الضرر سواء أكان ظناً أم يقيناً.

ص: 59

سورة الإسراء [17: 60]

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} :

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ} : ظرف زمان للماضي؛ أي: واذكر إذ قلنا لك، أو حين قلنا لك، أو أوحينا إليك.

{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} : إن: للتوكيد.

{رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} : أي: أحاط بعلمه، وبقدرته؛ أي: إحاطة علم، وقدرة؛ أي: الكل في قبضته، ولا بد من كليهما معاً.

{بِالنَّاسِ} : الجن، والإنس معاً. وقيل:"إن ربك أحاط بالنّاس": بشرناك بما سيحدث في معركة بدر؛ سيهزم الجمع، ويولون الدبر.

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ} : اختلف المفسرون في هذه الرؤيا على عدة تفاسير:

1 -

ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ليلة بدر حيث رأى مصارع القوم مصرع فلان، وفلان من قريش؛ فسمعت قريش فكانوا يسخرون ويضحكون من تلك الرؤيا الّتي كانت فتنة للناس من حيث التّصديق، أو التّكذيب بها. أخرجه مسلم، وأحمد في مسنده من حديث أنس رضي الله عنه .

2 -

رؤيا الإسراء، والمعراج: وسميت رؤيا؛ لأنّها وقعت بالليل فما كان من قريش إلا أن أنكروا ذلك، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبرهم بما حدث، كما روى عكرمة عن ابن عباس وغيره من الصحابة، وهذا هو المرجح، وهي رؤيا بصرية حقة، وليست رؤيا منامية حصلت باليقظة.

{إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} : إلا: أداة حصر؛ فتنة للناس: ابتلاءً واختباراً.

{لِلنَّاسِ} : اللام: لام الاختصاص؛ النّاس: قريش، ومن حولهم.

{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْآنِ} : أي: شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64-65]، {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63]؛ حيث قال أبو جهل وأصحابه استهزاءً بها وسخرية منها: إن محمد يعدكم بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا التمر والزُّبدُ لنتزقمها تزقماً، كما روى ابن عباس، وكما روى قتادة: ووصفت بالشجرة الملعونة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] في أبعد مكان من الرّحمة، أو العرب تقول لكل طعام مكروه: ملعون. قول: طعام الأثيم؛ الأثيم: لا شك هو ملعون، وهي طعام الأثيم، وهي آية من آيات الله الدّالة على قدرته؛ فهي تنبت في أصل الجحيم؛ تنبت في النّار، وأعدت لإطعام الأثيم؛ فهي شبهت برؤوس الشياطين لقبحها، ولكونها مخيفة، والتي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج.

{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} : ونخوفهم: بالآيات، أو بالعذاب، ونخوفهم بالصواعق، والبراكين، والريح العقيم، والصيحة.

{فَمَا يَزِيدُهُمْ} : تخويفنا، أو إرسال الآيات.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{طُغْيَانًا كَبِيرًا} : الطغيان: تجاوزهم الحد في الضّلال، والظلم، والشرك، والكفر، وبعداً عن الدين.

ص: 60

سورة الإسراء [17: 61]

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} :

{وَإِذْ قُلْنَا} : إذ: ظرف زمان للماضي؛ أي: واذكر إذ قلنا، أو اذكر حين قلنا.

{لِلْمَلَائِكَةِ} : اللام: لام الاختصاص.

{اسْجُدُوا لِآدَمَ} : سجود طاعة لله، أو تحية، وليس سجود عبادة.

{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} : الفاء: تدل على المباشرة، سجدوا مباشرة.

{إِلَّا} : أداة استثناء منقطع؛ لأن إبليس ليس من الملائكة، وإنما من الجن.

{إِبْلِيسَ} : هو أبو الجن؛ كان من الجن ففسق عن أمر ربه، وله ذرية هم الجن، كما أن آدم أبو البشر. إبليس: اسم أعجمي ممنوع من الصرف، وقيل: مشتق من الإبلاس؛ لأن الله سبحانه أبلسه من رحمته، وآيسه من مغفرته، سجدوا تعني: الملائكة الموكلين بذرية آدم.

{قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} : قال إبليس: أأسجد: الهمزة همزة استفهام إنكاري، وتعجب، واستبعاد؛ لأنّه ظن نفسه أفضل من آدم؛ لكونه خلق من نار، وآدم خلق من طين. ارجع إلى سورة الحجر، آية (28)؛ للبيان.

ص: 61

سورة الإسراء [17: 62]

{قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} :

{قَالَ} : إبليس.

{أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ} : أرأيتك: الهمزة: همزة استفهام، وإنكار، وتعجب؛ أرأيتك: الرؤية هنا تعني: رؤية قلبية، وممكن أن تكون بصرية؛ أي: أخبرني، وأعلمني بالتأكيد عن هذا الّذي كرَّمته عليَّ، وأنا أفضل منه، وأصابني بسببه ما أصابني.

{هَذَا الَّذِى} : هذا: الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة يشير إلى آدم

{الَّذِى} : اسم موصول مختص بالمفرد المذكر.

{كَرَّمْتَ عَلَىَّ} : فضَّلت عليَّ، وكرَّمت أشد بلاغاً، وتوكيداً؛ أشد تكريماً من القول: أكرمت عليَّ.

{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} : لئن: اللام: للتوكيد؛ أخرتن: ولم يقل أخرتني؛ حذف الياء؛ لأن تأخير إبليس ليس طلباً لطول عمره؛ أي: من أجل نفسه، وإنما يريد التأخير للإضلال، والإغواء لبني آدم؛ فهو تأخير ليس فيه نفع لإبليس نفسه، وتأخير سيجلب له زيادة في العذاب، ولو كان التّأخير فيه فائدة ومصلحة له لقال أخرتني مقارنة بقوله تعالى:{أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] حيث التأخير هنا كائن لمصلحة؛ أي: فائدته والطلب في هذه الآية طلب صريح بينما الطلب في آية الإسراء هو شرط.

{إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : إلى حرف غاية.

{يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : أي: يريد أن ينجو من نفخة الصعق، والموت، ويبقى حياً إلى يوم القيامة (نفخة البعث) النفخة الثّانية.

{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} : لأحتنكن: اللام: لام التّوكيد؛ ذريته: أي: نسل آدم؛ أحتنكن لها عدة معان منهم من قال: اشتقت من حنك الدابة، وتعني: وضع اللجام في فمها حتّى يمكن السيطرة عليها، وتوجيهها حيث يريد الراكب عليها؛ أي: يصبح كالدابة يسيره كيف يشاء، أو احتنك الجراد الأرض؛ أي: أكل نباتها، وأتى عليها؛ فيصبح معنى الاحتناك هو: الاستيلاء، والاستئصال؛ أي: أستولي على كل ضعيف إيمان، ومشرك، وكافر فأضله، وأغويه؛ حتّى أورده مورد التّهلكة؛ فيصبح لجهنم حطباً؛ (وقوداً لجهنم)، ومعنى ذلك: الاستئصال.

{إِلَّا قَلِيلًا} : إلا: أداة استثناء.

{قَلِيلًا} : أي: إلا عبادك منهم المخلِصين.

ص: 62

سورة الإسراء [17: 63]

{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا} :

{قَالَ} : الله سبحانه وتعالى لإبليس.

{اذْهَبْ} : فعل أمر يحمل معنى: الطرد، والإبعاد.

{فَمَنْ} : الفاء: للتأكيد؛ من: استغراقية تستغرق كل من تبعك، وشرطية، وجوابها: فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً.

{تَبِعَكَ} : ساروا وراءك، واتبعوا خطواتك؛ أي: استجابوا لك، وأطاعوك.

{مِنْهُمْ} : من الإنس، والجن.

{فَإِنَّ} : الفاء: رابطة للجواب.

{جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} : ولم يقل: جزاؤهم؛ لأنّ إبليس مخاطب كذلك، وداخل معهم، وفي حكمهم.

{جَزَاءً مَّوْفُورًا} : وافياً كاملاً فيه من كل أنواع العذاب، والجزاء في الأصل المماثلة؛ أي: من جنس العمل، ويشمل العقاب والثواب.

ص: 63

سورة الإسراء [17: 64]

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} :

{وَاسْتَفْزِزْ} : من: فز؛ أي: قم، وحرك، أو انهض، وحرض، وحث.

{مَنِ اسْتَطَعْتَ} : من: ابتدائية استغراقية، كل من استطعت.

{بِصَوْتِكَ} : بوسوستك.

{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} : أجلب: صِح عليهم، أو صِح بهم راكباً كنت أو ماشياً؛ يصور الله سبحانه حالة الشيطان في تسلطه على الغاوين بالفارس الّذي يصيح بجنده، ويشجعهم للهجوم على الأعداء، ودحرهم.

{وَشَارِكْهُمْ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} : كيف يشاركهم؟ بأن يزين لهم المال الحرام، والربا؛ فيأخذوه، والسرقة، وأكل مال اليتيم؛ فتقلّ بركة المال، أو يصرف في التبذير، والمعاصي، والرذيلة، وزين لهم الزنى، وعقوق الوالدين، ووأد البنات.

{وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} : عدهم بالأماني الكاذبة، وطول العمر، وزين لهم الباطل في صورة الحق.

{وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} : ما: النّافية.

{الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} : إلا: أداة حصر؛ يعني: ما يعدهم إلا باطلاً.

والغرور: الخداع، غرَّ فلان فلاناً؛ أي: خدعه، وأصل الغرور تزيين الباطل بما يوهم بأنه حق، مثال شفاعة الآلهة لهم شفاعة باطلة فالآلهة لا تنفع، ولا تضر، والتسويف بتأجيل التّوبة، والاتكال على الرّحمة، ولا جنة، ولا نار، وفي الآية انتقال من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب للتوكيد؛ أي: تحول من مخاطبة الشيطان إلى مخاطبة النّاس بصيغة الغائب {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} بدلاً من قوله: وعدهم، وما يعدكم الشّيطان إلا غروراً؛ لأن ما يعدهم بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار وهو الغرور، والتزيين، والوهم، والباطل، والشّيطان يسمى الغَرور: بفتح الغين.

ص: 64

سورة الإسراء [17: 65]

{إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} :

{إِنَّ عِبَادِى} : إن: للتوكيد.

{عِبَادِى} : عبادي: هم الطبقة من الّذين آمنوا، واختاروا طريق الإيمان بأنفسهم؛ فشرفهم الله تعالى، فقال: عبادي، وليس عبيد؛ الكل عبيد، وعبادي هم الطبقة المؤمنة، وعبادِ هم أعلى درجة من عبادي، وهم المؤمنون حقاً. ارجع إلى سورة الزمر، آية (18)؛ للبيان.

{لَيْسَ لَكَ} : ليس: أداة نفي.

{لَكَ} : اللام: لام الاختصاص، والخطاب لإبليس.

{عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : أي: ليس لك على عبادي سلطان، سواء أكان سلطان الحجة، والبرهان، أو سلطان القهر، والغلبة؛ لحملهم على المعصية؛ أي: سواء بالحجة، والتزيين في القول، أو الوسوسة، والنزغ، أو بالقوة، والغلبة.

{وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} : وكفى؛ أي: هو كافيك، ولا تحتاج إلى سواه في الدّنيا، ولا في الآخرة.

{بِرَبِّكَ} : الباء: للاهتمام، والتوكيد.

{وَكِيلًا} : الكافي، والقائم بأمور العباد، والموكول إليه تدبير كل أمر، أو شيء.

ص: 65

سورة الإسراء [17: 66]

{رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} :

{رَبُّكُمُ} : الرب: هو الخالق، والرازق، والمدبر، والمتولي أموركم.

{الَّذِى} : اسم موصول مختص بالمفرد المذكر.

{يُزْجِى} : يُسير الفلك برفق فوق الماء؛ أي: يسوق، ويدفعها برقَّة؛ يقال: أزجى الإبل: ساقها برفق، والريح تُزجي السحاب: تسوقه تحمله، وتسير به، والآلة، أو المحرك يسير ويعمل بإذن الله؛ فهو سبحانه القادر على تعطيلها، أو تشغيلها.

{لَكُمُ} : اللام: لام الاختصاص.

{الْفُلْكَ} : السفن، وتشمل المفرد، والجمع. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (32)؛ للبيان، كيف يُسير لكم الفلك.

{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : الابتغاء: القصد من فضله: من رزقه؛ أي: اللحم الطري السمك، وغيره من الحيوانات المائية؛ التي تؤكل، أو يستفاد منها، والانتقال، والسفر، والتجارة، وحمل الأثقال، والمتاع.

{إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} : إنه: للتوكيد.

{كَانَ} : من الأزل، ولا يزال، وسيبقى بكم رحيماً.

{رَحِيمًا} : صيغة مبالغة من الرّحمة في تسخيرها لكم، والفلك التي تحملكم وتسير بكم، والتجارة، وصيد البحر، واللحم الطري، واستخراج الحلية، كل ذلك من مظاهر رحمة الله بكم.

ص: 66

سورة الإسراء [17: 67]

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل متضمن معنى الشرط؛ تدل على حتمية الوقوع، أو الحدوث.

{مَسَّكُمُ} : المس: الإصابة الخفيفة.

{الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ} : أي: الغرق، أو الخوف، أو التيه، أو المرض.

{ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} : أي: لم تعودوا تدعون أو تذكرون إلا إياه مغيثاً، وغاب وتاه، ولم يعد في بالكم أحد تدعونه إلا الله.

{فَلَمَّا} : لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.

{نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} : نجاكم: تعني: ببطء، ولم يقل: أنجاكم؛ أي: بسرعة رجعتم إلى كفركم، وشرككم، ودعاء سواه.

{وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} : جاحداً لنِعم الله.

{كَفُورًا} : صيغة مبالغة من الكفر؛ أي: كثير الكفر لنِعم الله، ومن مظاهر الكفر: الإعراض عن التّوحيد، والإيمان، وستر نِعم الله تعالى.

ص: 67

سورة الإسراء [17: 68]

{أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} :

{أَفَأَمِنتُمْ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري، والفاء: للتوكيد؛ أفأمنتم بعد إذ نجاكم من الغرق، وعدتم إلى اليابسة (أي: البر):

{أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} : أي: تنهار الأرض بكم، كما فُعل بقارون.

{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} : أو أن يرسل عليكم ريحاً مدمرة تحمل في طياتها الحصى، والحجارة، وتدمر كل شيء.

{ثُمَّ} : للاستبعاد.

{لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا} : لا تجدوا لكم من ينصركم، ويدافع عنكم، ويعينكم، ويتولى أمركم، أو يخفف، ويدفع عنكم عذابنا.

ص: 68

سورة الإسراء [17: 69]

{أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} :

{أَمْ أَمِنتُمْ} : أم: الهمزة استفهام إنكاري؛ أم: هنا المنقطعة، والانتقال إلى سؤال، أو استفهام آخر.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التّوكيد.

{يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} : يعيدكم في البحر مرة ثانية.

{فَيُرْسِلَ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} : أي: ريحاً تقصف كل شيء تمر به، وتكسر، أو تدمر الفلك؛ من: قصف فلان ظهر فلان؛ أي: كسره. والريح في القرآن تأتي في سياق الشر والعذاب والدمار، وأما الرياح فتأتي في سياق الخير والنعمة.

وللريح أنواع (ذكرت في القرآن):

ريحاً قاصفاً: ريحاً شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته؛ أي: كسرته.

ريحاً عاصفاً.

ريحاً حاصباً: ترمي بالحصى، والحجارة.

ريحاً عقيماً: لا فائدة منها إلا الدمار، والخراب.

{فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} : فيغرقكم: الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو باء السببية، أو البدلية؛ أي: بسبب كفركم.

{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} : ثم: للتعقيب، والتّراخي؛ لأن ذلك يأخذ زمناً، ويحتاج فيه للمتابعة، وأخذ الثأر، ثم لا تجدوا لكم ناصراً، أو معيناً، أو ولياً لكم يوالي تتبعنا، ويبحث عنا؛ لأخذ ثأره منا؛ أي: لا تجدوا لكم تبعاً يأخذ بثأركم، أو يطالبنا بفدية لكم.

{تَبِيعًا} : صيغة مبالغة على وزن فعيل من: تابع، وتبيع اسم فاعل: وهو المطالب بحق، أو بثأر؛ لأن الله سبحانه لا يخاف رد الفعل منكم؛ فلا يستطيع أحد أن يرد على عذابه، أو انتقامه.

ص: 69

سورة الإسراء [17: 70]

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ} : فضَّلنا بني آدم: كرَّمنا، ولم يقل أكرمنا؛ كرَّمنا: أشد مبالغة من أكرمنا بني آدم بالعقل، والإيمان، والعلم، والنطق، والتّمييز، وحسن الهيئة، والصورة، والبيان، وكَرَّمنا تفيد دوام وأتم وأبلغ التكريم:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64].

{وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : بالسيارات، الفلك، ووسائل النقل المتعددة، والأنعام، وغيرها كما قال تعالى:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]؛ أي: الطائرات والسفن الفضائية؛ أي: حملناهم في البر والبحر والجو (السماء).

{وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : من الأطعمة، والأشربة الحلال.

{الطَّيِّبَاتِ} : جمع طيب: وهو الحلال الطاهر. ارجع إلى سورة الأنفال، آية (69)؛ للبيان.

ص: 70

سورة الإسراء [17: 71]

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} :

{يَوْمَ} : يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، والتعظيم.

{نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} : ندعو كل أناس بنبيهم: يا أمة محمّد، يا أمة عيسى، يا أمة موسى، يا أمة إبراهيم، أو كتابهم: يا أهل القرآن، يا أهل التّوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل الزبور.

{فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} : فمن: الفاء: عاطفة؛ من: شرطية.

{أُوتِىَ كِتَابَهُ} : من هؤلاء المدعوين أعطي كتابه بيمينه: فهذه بشارة الخير، والسلامة.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ أولئك: اسم إشارة؛ اللام: للبعد، وتشير إلى علو المنزلة، والتّكريم

انتبه إلى: فمن أوتي

فأولئك: قد يظنه البعض انتقالاً من المفرد إلى الجمع، والحقيقة: فمن أوتي؛ من: تفيد الإفراد، والتّثنية، والجمع، والمذكر، والمؤنث؛ إذن: من أوتي: جاءت في معنى: الجمع.

{يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} : كتاب أعمالهم، أو حسناتهم؛ كقوله تعالى:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19-20].

{وَلَا} : الواو: عاطفة؛ لا: النّافية.

{يُظْلَمُونَ} : بزيادة سيئة واحدة، ولا نقصان حسنة.

{فَتِيلًا} : هو الخيط في بطن نواة التمر، وبالإضافة إلى الفتيل هناك: النقير، والقطمير.

فالنقير: هو نقطة، أو حفرة تظهر في ظهر نواة التمر.

والقطمير: اللفافة الرقيقة بين الثمرة، والنواة.

فهذه الكلمات الثلاث: الفتيل، والنقير، والقطمير: مأخوذة من حبة التمر.

ص: 71

سورة الإسراء [17: 72]

{وَمَنْ كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} :

ذكر الله سبحانه في الآية السّابقة: فمن أوتي كتابه بيمينه، وهذه الآية تشير إلى الّذي سيأخذ كتابه بشماله؛ فوصفه بالأعمى أعمى البصيرة في الدّنيا، وأعمى البصر والبصيرة معاً في الآخرة.

أعمى البصيرة في الدّنيا؛ أي: أعمى القلب، لا يفهم آيات الله، ولا يؤمن، ولا يهتدي سبيلاً، وأما في الآخرة؛ فهو أعمى البصر، والبصيرة؛ كقوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]، و {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

وقد يكون عمى الدّنيا أقل شدة بكثير من عمى الآخرة.

{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} : فمن كان في الدّنيا ضالاً فسيكون في الآخرة أضل بكثير مما كان عليه في الدّنيا؛ حيث لا يمكن أن يتدارك ضلاله في الآخرة؛ بينما في الدّنيا كان باستطاعته أن يتوب، ويرجع عن عصيانه، وضلاله.

ص: 72

سورة الإسراء [17: 73]

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} :

{وَإِنْ كَادُوا} : إن: للتوكيد؛ كادوا: من أفعال المقاربة؛ أي: كاد قارب على الحدوث، ولكنه لم يحدث.

{لَيَفْتِنُونَكَ} : اللام: لام التّوكيد، والنون في "يفتنونك" لزيادة التّوكيد؛ يفتنونك: أي: يخدعونك، أو يزلونك عن الحق، ولكن هذا لم يحدث؛ مثال: قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة كما روي عن ابن عباس، أو حين طلبت ثقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصها بأمور تفتخر بها على العرب، كما روى عطاء عن ابن عباس، وذكره الواحدي في أسباب النزول.

{عَنِ} : تفيد المجاوزة، والمباعدة.

{الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} الّذي أوحينا إليك: هو القرآن الكريم، ولمعرفة معنى أوحينا: ارجع إلى سورة النساء، آية (163)، والافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق.

{وَإِذًا} : جواب، وجزاء.

{لَاتَّخَذُوكَ} : اللام: لام الاختصاص، والتّعليل.

{خَلِيلًا} : من الخلَّة، وهي المودة؛ أي: لاتَّخذوك صديقاً مخلصاً، ومشتقة من: تخلل الخليلان كلٌ في الآخر، والاندماج معاً.

ص: 73

سورة الإسراء [17: 74]

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـئًا قَلِيلًا} :

{وَلَوْلَا} : حرف امتناع لوجود؛ أي: لأننا ثبتناك لم تركن إليهم، ولو ركوناً قليلاً.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل، والتوكيد.

{ثَبَّتْنَاكَ} : عصمناك؛ أي: لم تخدع بما قالوه، أو عرضوه عليك.

{لَقَدْ كِدْتَ} : لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{كِدْتَ} : قاربت.

{تَرْكَنُ} : تميل، الركون: الميل، أو تخدع بأقوالهم.

{إِلَيْهِمْ شَيْـئًا قَلِيلًا} : بقبول بعض ما اقترحوه.

ص: 74

سورة الإسراء [17: 75]

{إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} :

{إِذًا} : حرف جواب، وجزاء؛ أي: لو ركنت إليهم:

{لَّأَذَقْنَاكَ} : اللام: للتعليل.

{لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} : الضعف: مضاعفة الشّيء: قدر الشّيء مرتين؛ أي: أذقناك ضعف عذاب الحياة الدّنيا، وضعف عذاب الممات. قيل: هو عذاب القبر، أو الآخرة؛ يضاعف له العذاب؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة

{ثُمَّ} : للاستبعاد.

{لَا} : لا: النّافية.

{تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} : لا تجد لك ناصراً، أو من يدفع العذاب عنك، أو يمنعه.

ص: 75

سورة الإسراء [17: 76]

{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} :

{وَإِنْ كَادُوا} : ارجع إلى الآية (73)؛ أي: قاربوا.

{لَيَسْتَفِزُّونَكَ} : اللام: لام التّوكيد؛ يستفزونك: استفزه: أثاره، أو خوفه؛ ليترك المكان؛ من فز؛ أي: قم، وانهض؛ ليحملوك، أو يكرهوك على الخروج من الأرض؛ أي: من مكة.

{مِنَ الْأَرْضِ} : أي: من مكة (وكأن مكة تمثل كل الأرض)؛ فالله سبحانه منعهم من إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أمره بالخروج مهاجراً إلى المدينة المنورة.

{وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ} : إذاً: حرف جواب، وجزاء.

{خِلَافَكَ} : أي: بعدك.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{قَلِيلًا} : من الزمن، وقيل: هذا حدث، فبعد خروجه حدثت بدر، وقتل سبعون منهم، وأُسر سبعون، ولم يتمتعوا بعد خروجه لا بنعيم، ولا بسيادة كانوا يرجونها.

ص: 76

سورة الإسراء [17: 77]

{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} :

السنة: هي العادة، الطريقة الّتي لا تتبدل، ولا تتحول.

وكانت هذه هي سنة الله في الرّسل الّذين أرسلناهم قبلك منذ الزمن البعيد، أو القريب، كل قوم أخرجوا رسولهم بالقوة، والإكراه، والمعاداة لم يلبثوا بعد خروجه أحياء إلا قليلاً، وقليلاً: للدلالة على التّوكيد.

{وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} : لا: النّافية، وفي آية أخرى:{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، ولمعرفة معنى السنة: ارجع إلى سورة آل عمران آية (137)، والنساء، آية (26).

فما هو الفرق بين التحويل، والتبديل؟

ـ التحويل: تتحول السنة من قوم إلى قوم، أو شخص إلى شخص، أو جماعة إلى جماعة.

ـ التبديل: أن يضع سنة بدلاً من سنة أخرى. مثال: لا يبدل العذاب بعذاب آخر: صاعقة بدلاً من فيضان، أو صيحة برجفة.

وتقديم: لسنَّتنا: الجار والمجرور: للحصر، والقصر.

وسنَّتنا: بصيغة الجمع؛ للتعظيم، والإنذار الشديد.

ص: 77

سورة الإسراء [17: 78]

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} :

{أَقِمِ الصَّلَاةَ} : أي: أتم الصّلاة، أو أدها بشروطها، وأركانها، وأوقاتها، وخشوعها، والمداومة، والمحافظة عليها، والصلاة في جماعة.

{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} : لدلوك: اللام: لام التوقيت؛ بمعنى: عند دلوك الشّمس.

ودلوك الشّمس: هو ميل الشّمس، أو زوالها عن كبد السّماء؛ أي: وسط السّماء؛ أي: عند الظهر (صلاة الظهر)؛ أي: أقم الصّلاة وقت زوال الشّمس؛ أي: صلاة الظهر.

{إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} : إلى حرف غاية (لعموم الغايات)؛ سواء أكانت في أول الشّيء، أم آخره، أم منتصفه، وتعني: إلى العصر، وإلى المغرب، وإلى العشاء.

{غَسَقِ الَّيْلِ} : سواد الليل، وشدة ظلمته، ويشير ذلك إلى صلاة العصر، والمغرب، والعشاء؛ أي: أقم صلاة العصر، وصلاة المغرب إلى صلاة العشاء الّتي هي في غسق الليل.

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} : أي: صلاة الفجر؛ أي: وأقم صلاة الفجر، وسميت الصّلاة قرآناً؛ لأن قراءة القرآن ركن من أركان الصّلاة (ويسمى هذا إطلاق الجزء على الكل).

{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} : إن: للتوكيد.

{قُرْآنَ الْفَجْرِ} : تكرار "قرآن الفجر" يدل على التّوكيد.

{كَانَ مَشْهُودًا} : أي: تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار الّذين يتعاقبون في النزول في صلاة الفجر، وصلاة العصر.

ص: 78

سورة الإسراء [17: 79]

{وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} :

{وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} : من: ابتدائية.

{فَتَهَجَّدْ بِهِ} : فتهجد: الفاء: للتوكيد؛ تهجد به: التهجد: هو ترك النوم للصلاة.

تهجد: من الهجود، وهو النوم، وتهجد: سهر، أو ترك النوم؛ فهو من أفعال الأضداد، ويقال للنائم: هاجد، ومتهجد، وكذلك للساهر، وقيل للقائم إلى الصّلاة من النوم: المتهجد؛ لتركه الهجود، وأطلق على الصّلاة: صلاة التهجد.

تهجد به: "به": تعود على القرآن؛ أي: تهجد بالقرآن.

{نَافِلَةً لَكَ} : النافلة: الزيادة عن الفرض.

{لَكَ} : اللام: لام الاختصاص؛ أي: لك خاصة دون غيرك؛ فقد قيل: إن فرض التهجد لم ينسخ بحق الرّسول صلى الله عليه وسلم، وصلاة التهجد: هي تطوع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{عَسَى} : فعل رجاء؛ رجاء حصول الفعل في المستقبل.

{أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} : يبعثك ربك المقام: هو محل القيام أو يعني المنزلة العظيمة، والدرجة (عبر عنها بالمقام) وهو مقام الشفاعة يوم القيامة؛ مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء، أو مقام الشفاعة لأمته؛ لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان من النّار.

{يَبْعَثَكَ} : من البعث يوم القيامة؛ أي: يبعثك ربك يوم القيامة ذا مقام محمود؛ أي: المقام الّذي يحمده لأجله أهل المحشر؛ أي: الشفاعة العظمى.

ص: 79

سورة الإسراء [17: 80]

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} :

{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِى} : أدخلني: أي يسأل الله أن يدخله (يُدخله شخص آخر) لا يدخل من تلقاء نفسه؛ أي: المدينة المنورة، أو أي مدخل، وبدأ بالمدخل؛ لأن الدخول هو الغاية من الخروج، وهو الأهم مقارنة بالخروج.

{مُدْخَلَ صِدْقٍ} : من أدخَل أما مَدخل من دخل يدخل فهناك مَدخل، ومُدخل، وإضافة الصدق إلى المدخل، والمخرج: هو مدح لهما، أو مُدخلاً مرضياً ابتغاء مرضات الله تعالى، ونصرة دينه، ونشره، وأما مَدخل مثل: دخلت مَدخلاً صعباً؛ أي: دخلت بإرادتي.

{وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} : وأخرجني من مكة المكرمة مخرجاً مرضياً ابتغاء مرضات الله تعالى، ونصرة دينه، ونشره، أو أي مخرج، وليكن خروجك، أو دخولك في سبيل الله، وابتغاء مرضاته.

{وَاجْعَل لِّى مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} : من لدنك: تشير إلى القرب الخاص بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ربه؛ بدلاً من قوله: واجعل لي منك؛ من: عامة للمؤمن، والكافر.

{سُلْطَانًا} : الدليل والبرهان والسلطان، وهو إما سلطان الحجة والبيان، أو سلطان القوة والغلبة؛ لنشر دينك، وإعلاء كلمتك.

{نَّصِيرًا} : قوة لكي يتم النصر بها على أعدائك؛ صيغة مبالغة من فعل نصر.

ص: 80

سورة الإسراء [17: 81]

{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} :

{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ} : الإسلام الحق (الدين الحق).

{وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} : زهق: زال واندحر، واضمحل الباطل؛ يقال: زهقت نفسه؛ أي: خرجت.

{الْبَاطِلُ} : في اللغة: الزائل، أو الذاهب، وقيل: ما لا وجود له، ويطلق على الكفر، والشرك، وعبادة الأصنام، والظلم، والكذب، والإحباط.

{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} : إن: للتوكيد. كان: تشمل جميع الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.

{الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} : زهوقاً صيغة مبالغة من زهق؛ بمعنى: زال واضمحل؛ أي: هالكاً زائلاً مندحراً؛ أي: هذا شأن الباطل في كل زمان رغم أننا نراه أحياناً يعلو ويظهر للناس، ولكن ذلك لن يدوم وسرعان ما يضمحل ويزول.

ص: 81

سورة الإسراء [17: 82]

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} :

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} : من: استغراقية؛ من آيات القرآن، والآية تسمى: قرآناً، والقرآن كاملاً يسمى: قرآناً.

{مَا} : اسم موصول بمعنى: الذي، وما: أوسع شمولاً من: الذي.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{شِفَاءٌ} : من أمراض: الجهل، والشك، والنفاق، والضّلال، والأمراض النفسية، والحيرة، والتردد، والاكتئاب، والجنون، وأمراض القلوب، والزيغ؛ حتّى الأمراض العضوية؛ فقد تبين: أن الأمراض النفسية؛ مثل: التوتر، والهم، والغم: ترفع الضغط الشرياني، وتسبب الإصابة بأمراض القلب، وكذلك الأمراض النفسية المختلفة؛ تؤدي إلى ضعف في الجهاز المناعي عند الإنسان، الّذي يؤدي بدوره إلى عدم قدرة الجسم على مكافحة الإنتانات، والسرطانات

وغيرها.

{وَرَحْمَةٌ} : الرّحمة: الوقاية؛ فهو شفاء، وعلاج، وفي الوقت نفسه وقاية للمؤمنين من الأمراض النفسية، والعضوية.

{لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام: لام الاختصاص؛ المؤمنين: ولم يقل: الّذين آمنوا؛ المؤمنين: أعلى درجة من الّذين آمنوا؛ فهم الّذين أصبحت صفة الإيمان عندهم ثابتة لا تتغير، أو تتبدل، واستقاموا على طاعة الله.

{وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} : ولا: الواو: عاطفة؛ لا: النّافية.

{يَزِيدُ الظَّالِمِينَ} : المشركين.

{إِلَّا} : أداة حصر، وقصر.

{خَسَارًا} : أي: نزول القرآن، وسماع آياته من قبل المشركين، أو الضالين، والكافرين لا يزيدهم إلا كفراً، وضلالاً، وبالتالي هلاكاً، وعذاباً فوق العذاب.

ص: 82

سورة الإسراء [17: 83]

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَـئُوسًا} :

{وَإِذَا} : الواو: عاطفة؛ إذا: ظرف زمان يتضمن معنى الشرط، وتدل على حتمية الحدوث؛ ظرفية تدل على الاستمرار في الماضي والمستقبل وكأن هذا هو دأبه.

{أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ} : آتيناه من النعم، وأحسنا إليه مثل سعة الرزق، والصحة، والقوة، والعلم، والولد، وكشفنا عنه البلاء، وشفيناه من المرض.

{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} : أنكر نعمة الله عليه؛ أي: بدلاً من أن يشكر المنعم؛ تكبر، وازداد غروراً، وابتعد عن دين الله، وعن عبادة الله، بدلاً من أن يتقرب إليه.

{وَنَأَى بِجَانِبِهِ} : نأى: ابتعد.

{بِجَانِبِهِ} : بنفسه، أو لوى جانبه، وولى ظهره.

{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَـئُوسًا} : وإذا: ظرفية شرطية تدل على حتمية الحدوث.

{مَسَّهُ} : من المس: وهو الإصابة الخفيفة. مسه الشر بما قدمت يداه أو كسبت يداه، والله سبحانه لا ينسب الشر لنفسه مطلقاً؛ لأن الله سبحانه ليس بظلام للعبيد، وقد يكون ابتلاءً أيضاً، ونتيجة الابتلاء قد تكون لمصلحة المبتلى.

{الشَّرُّ} : الأذى، والظلم، والسجن، أو البلاء، والسقم، وهناك فرق بين الضُّر والشر. ارجع إلى سورة الأنعام آية (17) للبيان.

{كَانَ يَـئُوسًا} : من اليأس: انقطاع الأمل في حدوث الشّيء، واليأس قد يكون قبل، أو بعد الأمل، والقنوط: أشد من اليأس؛ أي يئس من رحمة الله، وانقطع أمله.

الفرق بين أنعمنا وأذقنا:

الإنعام: يكون فقط في الخير، وأذقنا: تكون، أو تستعمل في الخير، والشر؛ مثال:{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [الشورى: 48]، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8].

ص: 83

سورة الإسراء [17: 84]

{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} :

{قُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم

{كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} : كل: اسم يفيد الاستغراق والإحاطة بالأفراد والأجزاء؛ أي: تشمل أو تستغرق كل فرد من أفراد الجنس، أو تستغرق كل أجزاء الشيء الواحد، وقد تضاف إلى معرفة أو نكرة؛ أي: كل من المؤمنين، أو الكافرين، أو المشركين، والموحدين الضالين، والمهتدين، أو الطائعين، والعاصين.

كل واحد من هؤلاء يعمل على شاكلته: على طريقته، وهواه.

{شَاكِلَتِهِ} : مأخوذة من الشكل: وهو المِثل والنظير؛ كل واحد يعمل حسب ما يشاء، ويرغب، أو يختار لنفسه، وفيها تحذير خفي للضالين، والظالمين.

{فَرَبُّكُمْ} : الفاء: للتوكيد؛ ربكم: الخالق المربي المدبر هو وحده.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، والحصر.

{أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} : هو أعلم على وزن أفعل: صيغة مبالغة بمن هو على صراط مستقيم، أو في ضلال مبين، وبمن هو أكثر هداية من غيره؛ من: تشمل المفرد، والمثنى، والجمع، ومن للعاقل.

{أَهْدَى} : صيغة مبالغة.

{سَبِيلًا} : طريقة، ومذهباً، أو منهجاً؛ أي: ملتزماً بالقرآن، والسنة من غيره.

ص: 84

سورة الإسراء [17: 85]

{وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} :

{وَيَسْـئَلُونَكَ} : الواو: تدل على أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أسئلة في آن واحد، ولو قال تعالى يسئلونك عن الروح (بدون الواو العاطفة) لدلت على أنهم سألوه سؤالاً واحداً فقط؛ فقد سألوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح في آن واحد، والسائل هم قريش، ويسألونك؛ تعني: مباشرة؛ أي: السائل يقف أمام المسؤول، والسؤال يراد به اختبار رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل هو نبي، أم لا؟ وليس للتعلم، وكشف الجهل، والمعرفة.

والروح هنا: يقصد بها الروح الّتي تمد الجسم بالحياة؛ يسألونه عن ماهيتها، وحقيقتها؛ فرد الله سبحانه على هذا السؤال بقوله:

{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} : من أمر؛ أي: من شأن ربي، أو اختصاصه.

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} : ما: النّافية.

{أُوتِيتُمْ} : أعطيتم من العلم بالنسبة للروح؛ إلا قليلاً.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{قَلِيلًا} : الشّيء القليل.

إذن: نحن أوتينا شيئاً قليلاً من العلم عن الروح أمثلة متى تنفخ الروح في الجنين، وماذا يحدث للجسم إذا خرجت منه الروح، وهذه الروح لا يعلم كنهها إلا الله وحده سبحانه، وتشير البحوث العلمية الأخيرة، والدراسات القرآنية إلى وجود اختلاف بين الروح والنفس، وأن الروح شيء، والنفس شيء آخر، والروح تسري في كل الجسم، وتبقى بعد توقف، أو تعطل عمل النفس؛ هذه النفس ربما هي الّتي تتمثل فيما يسمى جهاز لمبيك في الدماغ، وتتكون من عدة أجزاء، وظائفها الوعي، والإدراك، واتخاذ القرارات، والذاكرة الطويلة والقصيرة، والذاكرة الجديدة والقديمة، والسرور، والعاطفة، والسمع، والبصر، والسلوك، والشعور، والناحية الجنسية

وغيرها.

والروح شيء أساسي، وضروري للنفس؛ لكي تؤدي وظيفتها.

ويمكن إيقاف، أو تعطيل النفس عن العمل في حالتي الموت، والنوم، أو التخدير العام؛ للقيام بالعمل الجراحي، أو إصابة الدماغ بحادثة تؤدي إلى السبات، وتعطيل عمل النفس الّذي قد يدوم أسابيع عدة، ثم يصحو الإنسان، ولا يذكر ما حدث له.

أما الروح: لا تُوقف، ولا تُعطل، وإنما تنزع، أو تنشط نشاطاً من الجسم، كما قال تعالى:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 1-2]، وذلك عند الموت من قبل الملائكة، أو ترغم على ترك الجسم بالقتل، وإذا خرجت الروح من البدن يعني: الموت.

وأما النفس: لا تخرج من البدن، وإنما تتوفى تتوقف عن العمل عند النوم، أو تعطل عن العمل، وتتوقف أو تتوفى عند خروج الروح من البدن؛ أي: عند الموت؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} ، وبعد النوم (الوفاة، أو التعطيل) تعود النفس إلى العمل؛ لأن الروح ما زالت في البدن. ارجع إلى سورة الزمر، آية (42)؛ لمزيد من البيان.

وحين الموت تخرج الروح من البدن مما يؤدي إلى توقف عمل النفس، وعمل الأعضاء كاملة: القلب، وجهاز التنفس، والدماغ، وتنتهي مرحلة الحياة الدّنيا.

ص: 85

سورة الإسراء [17: 86]

{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} :

{وَلَئِنْ} : اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال، والشك.

{شِئْنَا} : من المشيئة، والمشيئة تسبق الإرادة والفعل، والمشيئة: لا تتبدل، أو تتغير ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ أما الإرادة فقد تتبدل، أو تتغير؛ فالإرادة: هي العزم على الفعل.

{لَنَذْهَبَنَّ} : اللام، والنون: للتوكيد.

{بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : أي: بالقرآن الكريم؛ الذي: اسم موصول؛ يفيد التعظيم.

{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : عن طريق جبريل، وذلك بأن نمحوه من صدور العالمين؛ أي: ينسوه، ولا يتذكرونه. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمعرفة معنى: أوحينا.

وإذا فعلنا ذلك {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} : فلن تجد من تتوكل عليه؛ لاسترداده، وإعادته محفوظاً، ولكن رحمة من ربك لم يشأ، وله الحمد، والمنة.

وانتبه إلى حكمة مجيء هذه الآية بعد آية يسألونك عن الروح؛ لأن الّذي أوحينا إليك هو روح أيضاً؛ كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]؛ فالقرآن روح أيضاً؛ فكما أنَّا قادرون على أن نذهبن بأرواحكم، وقادرون على أن نذهبن بالّذي أوحينا إليكم (وهو القرآن)، وهو الروح الحقيقة لكم.

ص: 86

سورة الإسراء [17: 87]

{إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} :

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} : أي: تركه، وعدم الذهاب بالقرآن، أو عدم محوه من صدور العالمين هو رحمة من ربك.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} : فضل الله بعدم رفعه، والذهاب به، وبالنّبوة، والشّفاعة العظمى، وغيرها من الفضائل تعد فضلاً كبيراً عليك، وعلى أمتك.

ص: 87

سورة الإسراء [17: 88]

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم رداً على قولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31].

{لَئِنِ} : اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك.

{اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ} : الثقلان، وأدخل الجن في التحدي؛ لأن بعض العرب كانوا يعتقدون أن بعض العباقرة المفكرين يستعينون بالجن، أو يلجؤون إلى الجن؛ لكي يساعدوهم في بعض الأمور، وكان هناك تحدي في مكة، وتحدي في المدينة المنورة، والتحدي في مكة جاء بأشكال متعددة؛ مثل: بحديث، بآية، بسورة، أو عشر سور، والتحدي في المدينة جاء بشكل: بسورة من مثله، أو بمثله؛ أي: ما يماثله؛ لأنه لا يوجد ما يماثل القرآن أو ببعض ما يماثله، وأما قوله تعالى:{بِسُورَةٍ مِنْ مِّثْلِهِ} من: تشمل الاستغراق؛ أي: أي سورة من الفاتحة والبقرة إلى سورة الناس.

{عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} : أن: شرطية تفيد الاحتمال، والشك، وجوابها محذوف؛ يعني: لا يأتون، والباء للتبعيض.

{لَا يَأْتُونَ} : لا: النّافية.

{بِمِثْلِهِ} : ولم يقل مثله؛ لأنّهم لا يمكن لهم أن يأتوا به نفسه؛ لأنّه نزل من عند الله، وهذا مستحيل، ولذلك قال: بمثله؛ أي: المشبه له؛ أي: لا يمكنهم أن يأتوا بالأصل، ولا حتّى قادرون على أن يأتوا بالمشبه له؛ فهم غير قادرين على الإتيان بآية واحدة، ولا بسورة، وقدم الإنس على الجن في هذه الآية؛ لأن الإنس هم أقدر وأبلغ من الجن في مدار التحدي للغة القرآن واللغة العربية.

{وَلَوْ} : لو: شرطية

{كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} : معيناً، ومساعداً. ظهيرا: مشتقة من الظهر، ويسند ظهره؛ أي: يعاونه.

وفي سورة الفرقان، آية (55):{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} ؛ أي: يحث ويُعين أوليائه على المعصية، والشرك، والكفر، وعدم طاعة الله تعالى.

وفي سورة القصص، آية (17):{فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} ؛ أي: معيناً، ومساعداً للمجرمين؛ هذا ما قاله موسى بعد أن وكز موسى عدوه فقضى عليه.

ص: 88

سورة الإسراء [17: 89]

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتوكيد.

{صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ} : التصريف يعني: تصريف الآيات والتصريف يعني: عرض مسألة ما بأساليب شتى؛ حتّى يوضح ويتبين المعنى الحقيقي، والهدف، مثال: تصريف الرياح بأساليب مختلفة: ريح عقيم، ريح عاصف، ريح مصفرة

مثال آخر على البرهان على وحدانية الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91].

{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].

{مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : من: استغراقية؛ من الأمثال المختلفة، ومن: تستعمل للمفرد، والمثنى، والجمع، والذكر، والأنثى، وقدم الناس على القرآن رغم أن القرآن أهم بالأصالة من الناس؛ لأن السياق التحدي وإقامة الحجة عليهم.

{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} : فأبى: الإباء: شدة الامتناع، وقد يخالطه كراهية، وأبى: رفض أكثر النّاس الإيمان، ورضوا بالكفر.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كُفُورًا} : من فعل: كفر كفوراً على وزن فعول: صيغة مبالغة في الكفر؛ أي: إنكاراً للقرآن، وتكذيباً بما جاء فيه من الحق ومن التّوحيد، والإيمان.

ولا بد من مقارنة هذه الآية من سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} ، مع الآية (54) من سورة الكهف:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا} .

قدم النّاس في آية الإسراء؛ لأنّ السّياق تتحدث عن الإنسان، ونعم الله عليه، كما في قوله:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83].

وقدم القرآن في آية الكهف؛ لأنّ السّياق عن القرآن، كما في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا} [الكهف: 1].

ص: 89

سورة الإسراء [17: 90]

{وَقَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} :

{وَقَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ} : قالوا؛ أي: رؤساء قريش من المشركين، والكفار.

{لَنْ} : نافية تنفي المستقبل القريب والبعيد.

{نُّؤْمِنَ لَكَ} : نصدقك، ونتبعك، ولم يقولوا: نؤمن بك؛ لأن به تعني: الإيمان بالله، أو إيمان العقيدة، والإيمان له تعني: التصديق بالرسول، واتباعه.

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} : تَفجر: بفتح التاء، وسكون الفاء على صيغة أفعل؛ تعني: كثرة الانفجار من الينبوع الواحد. أما تُفَجر: بضم التاء، وفتح الفاء؛ تعني: كثرة الانفجار من ينابيع عديدة، كما سيأتي في الآية (91) من السّورة نفسها.

{يَنْبُوعًا} : عيناً ينبع الماء منها، ولا ينضب ماؤها؛ أي: لا يغور، تفيض بالماء باستمرار دون أن يقل ماؤها، أو ينقص.

ص: 90

سورة الإسراء [17: 91]

{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} :

{أَوْ} : للتخيير.

{تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} : بستان من نخيل وعنب؛ "من": اسم جنس.

{فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا} : تفجر: بضم التاء، وفتح الفاء؛ أي: تتدفق الأنهار خلالها: داخلها، وسطها من ينابيع عدة، وبقوة حتّى تخرج الثمار، والزرع. وتفجِّر: على صيغة فعِّل تفيد التكثير والمبالغة بكثرة الأنهار مقارنة بـ: {تَفْجُرَ} [آية: 90].

فَتُفجِّر الأنهار: بضم التاء، وفتح الفاء: كثرة الانفجار من ينابيع عديدة.

إذن: هم طلبوا الأمرين تَفْجر، وتُفَجر، ولم يطلبوا أمراً واحداً.

{تَفْجِيرًا} : للتوكيد.

ص: 91

سورة الإسراء [17: 92]

{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} :

{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} : من الزعم، وهو ادعاء العلم غير المستند إلى دليل، وأكثر ما يقع في الباطل.

{عَلَيْنَا} : تقديم "علينا" يدل على الحصر، والقصر؛ أي: علينا خاصةً.

{كِسَفًا} : ولم يقل كِسْفاً. كِسَفاً: ذكرت في أربع آيات، وأما كِسْفاً: ذكرت في آية واحدة.

كِسَفاً؛ أي: أسقطها قطعاً كثيرة؛ أي: على شكل قطع.

أما كِسْفاً؛ أي: أسقطها كقطعة واحدة كطبق علينا، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44].

{أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} : أي: نرى الله ربنا، والملائكة عياناً، كما سأل بنو إسرائيل موسى؛ فقالوا:{حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]؛ حتى يشهد لك الله والملائكة على أنك رسوله.

ص: 92

سورة الإسراء [17: 93]

{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ وَلَنْ نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} :

{أَوْ} : للتخيير.

{يَكُونَ لَكَ} : لك: اللام: لام الاختصاص.

{بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} : مزين بالذهب والفضة، أو مزين بأجمل أنواع الزخارف والزينة.

{مِنْ زُخْرُفٍ} : من: ابتدائية.

{أَوْ} : للتخيير.

{تَرْقَى فِى السَّمَاءِ} : الرقي: هو الصعود في معارج السّماء شيئاً فشيئاً.

{وَلَنْ} : للنفي القريب، والبعيد.

{نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} : نصدق صعودك.

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{تُنَزِّلَ عَلَيْنَا} : خاصة.

{كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} : كتاباً من رب العالمين أنك رسول الله تعالى، أو كتاب منزل على فلان، وفلان يخبر أنك رسوله، وغيرها من الادعاءات الباطلة.

{قُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{سُبْحَانَ رَبِّى} : تنزيهاً له من كل عجز، أو نقص، أو عدم القدرة؛ فهو إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، أو سبحان قد تقال حين التعجب من شيء، أو مقولة.

{هَلْ كُنْتُ} : هل: للاستفهام، والتعجب، والنفي؛ أي: ما كنت.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{بَشَرًا} : كسائر البشر.

{رَسُولًا} : من الله إليكم، ورسولاً: توكيد على أن الرسل بشر.

وما الفرق بين الرقي في السّماء، والصعود، والعروج؛ ففي هذه الآية قال:{أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ} ؛ أما في الآية (125) من سورة الأنعام: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ} ، والآية (14) من سورة الحجر:{فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} .

الرقي: أعم من الصعود، ويشمل المكان، وغير المكان؛ قد يكون في العلم، والمنزلة، وفيه صعود بالتدرج شيئاً فشيئاً.

والصعود: مقصور على المكان.

وأما العروج: صعود بشكل مائل، أو بخطِّ منحنٍ.

ص: 93

سورة الإسراء [17: 94]

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} :

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} : ما: النّافية.

{مَنَعَ النَّاسَ أَنْ} : أن: حرف مصدري يفيد التّعليل.

{يُؤْمِنُوا} : بالله، وبما أنزل في القرآن، وبنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِذْ جَاءَهُمُ} : إذ: ظرف زمان للماضي.

{الْهُدَى} : الكتب السّماوية، والرّسل، والأنبياء.

{إِلَّا أَنْ} : إلا: أداة حصر.

{أَنْ قَالُوا} : أن: حرف مصدري للتعليل.

{قَالُوا أَبَعَثَ} : أبعث: الهمزة همزة استفهام إنكاري، وتعجب؛ لكون الرّسول صلى الله عليه وسلم بشراً.

{أَبَعَثَ} : من البعث، وفيه حث، وتهييج، وعزم، وبعث؛ أي: إحياء لما نُزل إليهم من قبل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لمزيد من البيان في البعث، والإرسال.

{اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} : بشراً: مشتق من البشرة، والبشارة؛ أي: حُسن الهيئة، ومن البشرة الخاصة بجلد الإنسان؛ ولظهورهم عكس الجن المستورين؛ فهم يريدون ملكاً رسولاً، فكيف يكون ملكاً من الملائكة، وهم بشرٌ؛ فجاء الرد على هذا في الآية القادمة.

ص: 94

سورة الإسراء [17: 95]

{قُلْ لَّوْ كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} :

{قُلْ لَّوْ كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ} : أي: قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم رداً على تعجبهم من إرسال بشر رسولاً، ولم يكن ملكاً رسولاً.

{لَّوْ} : شرطية.

{كَانَ فِى الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ} : يعيشون في الأرض، ويمشون مطمئنين؛ فعندها قد ننزل عليهم ملكاً رسولاً؛ ليكون من جنسهم يفهمون ما يقول لهم، ويعلمهم ما نُزل إليهم.

ولو بعثنا عليهم ملكاً رسولاً؛ لجعلناه بشراً؛ لأنّهم غير قادرين على رؤية الملائكة، أو التلقي عنهم؛ لأنّ الملائكة من نور، والبشر من طين.

والحقيقة يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين، ويقولون حجراً محجوراً.

فلا بد أن يكون الرّسول من جنسهم، وبلسان قومه (أي: يتكلم لغتهم).

ص: 95

سورة الإسراء [17: 96]

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} :

{قُلْ} : رداً على ما اقترحوه، وطلبوه من الآيات (المعجزات)، وعلى اعتراضهم أن يكون الرّسول بشراً.

{كَفَى بِاللَّهِ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: كفى؛ أي: يكفي أن يكون الله سبحانه شهيداً بيني وبينكم أني رسول الله إليكم. والباء (بالله): تفيد الإلصاق والتوكيد.

{شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} : الشّهيد أقوى من الشّاهد؛ حيث يعلم بخفايا الأمر، وبظواهره، صيغة مبالغة للشّاهد. ارجع إلى سورة البقرة، آية (133)؛ لبيان معنى شهيداً، وتقديم شهيداً على بيني وبينكم هو الأصل، بينما في سورة العنكبوت آية (52) أخَّر شهيداً. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (52) للبيان.

{إِنَّهُ} : تفيد التّوكيد.

{كَانَ بِعِبَادِهِ} : كان: تشمل كل الأزمنة: الماضي، والماضي المستمر، والحاضر، والمستقبل.

{بِعِبَادِهِ} : الباء: للإلصاق.

{خَبِيرًا} : يعلم بواطن الأمور، والنوايا، وما تخفي الصدور.

{بَصِيرًا} : يعلم بظواهر الأمور.

ص: 96

سورة الإسراء [17: 97]

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} :

{وَمَنْ} : من: ابتدائية، وللعاقل، وتشمل: المفرد، والجمع، والذكر، والأنثى، ومن: شرطية، وجوابها: فهو المهتد، ومن: جاءت هنا لتدل على المفرد المذكر بالذات.

{يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} : من يختار طريق الهداية لنفسه، ويسأل الله الهداية، والثبات على دين الله، والاستقامة على الصراط المستقيم.

{فَهُوَ} : الفاء: للتوكيد؛ هو: لزيادة التّوكيد.

{الْمُهْتَدِ} : اسم فاعل؛ يدل على الثبوت على طريق الهداية؛ أي: الّذي هداه الله هداية يسيرة أو قليلة أو خاصة حتى يستقيم على الصراط المستقيم، ولم يقل: المهتدي كما ورد في سورة الأعرف آية (178): الّذي يحتاج إلى هداية أكبر، أو طويلة حتى لا يضل مرة أخرى ويرسخ إيمانه.

{وَمَنْ يُضْلِلْ} : مثل "من يهد"، ومن: تدل على الجمع، والمذكر.

{يُضْلِلْ} : يسير في طريق الضّلال، ويصر، ويستمر على ذلك يتركه وشأنه، وما اختاره من الضّلال.

{فَلَنْ} : الفاء: للتوكيد؛ لن: نفي المستقبل القريب، والبعيد.

{تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} : أولياء: جمع ولي: أي مُعين؛ جاءت بصيغة الجمع؛ لأن طرق الضّلال وسبله متعددة، وأسبابه مختلفة؛ كالشيطان، والهوى، والكبر، والتقليد، والبدع، والجهل.

فلن تجد لهم أولياء: معاونين يهدونهم إلى العودة إلى دين الله تعالى من هذه السبل المتفرقة.

{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : والحشر: هو السَّوق من القبور، والجمع في أرض المحشر للحساب.

{عَلَى وُجُوهِهِمْ} : أي: {يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48].

أو يمشون حقيقة على وجوههم، والله سبحانه قادر على ذلك، كما جاء في صحيح البخاري، ومسلم:«أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: الّذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه» للدلالة على التشويه والتعذيب والإهانة.

{عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} : أي: منهم من يحشر أعمى، ومنهم من يحشر أبكم، ومنهم من يحشر أصم؛ فهم جماعات مختلفة؛ كل جماعة لها صفة من الصفات الثلاث.

ولو قال: عمياً بكماً صماً، وحذف الواو بينهما: عندها تعني جماعة واحدة تحمل الصفات الثلاث معاً في آن واحد. والآخرة قيل: هي مواطن، أو مواقف فقد يكون أعمى في هذا الموقف، وأصم في موقف، أو موطن آخر، وأبكم لا ينطق في موطن آخر.

{مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : المأوى: دار الإقامة، والمأوى: اسم مكان؛ أي: منزلهم، ومكان استقرارهم جهنم، وكلمة المأوى فيها معنى الضم.

{جَهَنَّمُ} : من جهنام؛ أي: بعيدة القعر. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

{كُلَّمَا خَبَتْ} : كلما: مركبة من: كل، وما: المصدرية الظرفية الزمانية، وتفيد التكرار.

{خَبَتْ} : سكنت، أو خمدت، أو أصبحت كالجمر الأحمر سكن لهيبها.

{زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} : ولم يقل زدناها سعيراً وإنما زدناهم.

والسؤال: كيف تخبو النّار، أو تسكن مع أن العذاب لا يخفف، ولا يفتر؛ كقوله تعالى:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]؟

قيل: حين تشتعل النار في أجسادهم وتبدأ أجسادهم تتفحم وتتحول إلى رماد عندها تخبو النار في أجسادهم حتى يعادوا مرة أخرى أحياء من جديد، وتبدل جلودهم كما قال تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56].

ص: 97

سورة الإسراء [17: 98]

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد يشير إلى ما حدث لهم من الحشر على وجوههم، ومأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً.

{جَزَاؤُهُمْ} : الجزاء مقابل العمل، أو من جنس العمل، ويشمل العقاب والثواب.

{بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} : بأنهم: الباء: للتعليل، أو السببية.

{كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} : جحدوا، وأنكروا آياتنا، ولم يؤمنوا بها. آياتنا: تشمل الآيات القرآنية، والكونية، والمعجزات.

{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} : ارجع إلى الآية (49) من السّورة نفسها؛ للبيان.

ص: 98

سورة الإسراء [17: 99]

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} :

حين أنكروا البعث، وإعادة الخلق رد الله عليهم بأن الّذي خَلَقَ السّموات والأرض ـ وخَلْقُ السّمواتِ والأرضِ أكبر من خلق النّاس ـ قادرٌ على أن يخلق مثلهم؛ لأن من خلق الشّيء الأعظم والأكبر هو قادر على خلق الأصغر، والأقل.

وإعادة الخلق أهون من ابتداء الخلق، وهم اعترفوا بذلك حين سئلوا:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 20 والزمر: 38].

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].

{وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

{أَوَلَمْ يَرَوْا} : أي: أولم يعلموا، والرؤية هنا: رؤية قلبية، والهمزة في أولم: للاستفهام، والإنكار، والتوبيخ، والواو: للتوكيد، وشدة الإنكار؛ لم: حرف نفي؛ أي: كيف ترى شيئاً تنكره، وغيرك لا ينكره؟

{أَنَّ اللَّهَ} : أن: مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم؛ مختص بالمفرد المذكر.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} : أي: قادر أن يخلقهم هم أنفسهم، ويعيدهم من جديد، أو يخلق خلقاً آخر مثلهم يشبههم.

{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} : الأجل: هو مدة حياتهم، والأجل: هو الموت، أو يوم القيامة، أو البعث.

{لَا} : النّافية.

{رَيْبَ فِيهِ} : الريب: هو الشك، والتهمة.

{فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} : أبى: لم يرضَ، ورفض الظالمون: المشركون، والكافرون رغم التبيان والتفصيل إلا كفوراً، والإباء: شدة الامتناع قد يخالطه كراهية.

{إِلَّا كُفُورًا} : إلا: أداة حصر.

{كُفُورًا} : صيغة مبالغة على وزن فُعلولاً؛ أي: الاستمرار في الكفر، والزيادة فيه.

ص: 99

سورة الإسراء [17: 100]

{قُلْ لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{لَّوْ} : شرطية.

{أَنتُمْ} : للتوكيد.

{تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّى} : خزائن الأرزاق. ارجع إلى سورة الحجر، آية (21)؛ للبيان.

أو خزائن الرّحمة، أو النعم، والخيرات، والمعادن؛ كقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21]؛ أي: لو أن الله سبحانه أعطى خزائن خيراته للناس، ثم وكل إليهم أن ينفقوا منها على العباد، كما ينفق الله تعالى، لأمسكوا وبخلوا خوفاً من الفقر، أو النفاد. ارجع إلى سورة الحجر آية (21) لمزيد من البيان في معنى خزائن.

{إِذًا} : حرف جواب.

{لَّأَمْسَكْتُمْ} : اللام: لام التّوكيد؛ أي: بخلتم، أو توقفتم، أو امتنعتم.

{خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ} : خوف النفاد، والخشية: خوف خاص مصحوب بالعلم، والرهبة، وعظمة المخشي منه؛ أي: الإنفاق.

{وَكَانَ الْإِنسَانُ} : كان: تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

{قَتُورًا} : صفة مشبهة من فعل قتر بخيلاً على النّاس، وبخيلاً على نفسه؛ أي: يبخل على النّاس، ويشتد بخله حتّى يبخل على نفسه، وعندها يصبح قتوراً: مشتقة من القتار: وهو الدخان الأسود من الشواء.

ص: 100

سورة الإسراء [17: 101]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْـئَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية؛ اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

مناسبة ذكر هذه الآيات: يريد الله سبحانه أن يبين لنبيه عليه السلام ، ومن تبعه من المؤمنين: أن ما يطلبه كفار مكة من آيات مثل تفجر الأرض ينبوعاً، وإسقاط السّماء عليهم كسفاً، أو بيت من زخرف، أو رقي في السّماء، وإنزال كتاب، وغيرها: إنما حدث لموسى عليه السلام ؛ فقد آتاه الله تسع آيات؛ منها: العصا، واليد، والسنين وغيرها، فلم تغير من كفر فرعون وقومه شيئاً، ولم تردعهم، ولذلك لا فائدة من الاستجابة لكفار مكة.

{آتَيْنَا} : الإيتاء: هو العطاء مع إمكانية استرداده، وليس فيه تملك؛ أما العطاء: فيه تملك، وليس فيه استرداد؛ لأي شيء، والإيتاء: يشمل الأمور الحسية، والمعنوية معاً، والعطاء: فقط للأمور الحسية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (251)؛ للبيان.

{تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : واضحات، وهي خاصة بفرعون، ويجب عدم خلطها مع الآيات الّتي أنزلت على بني إسرائيل، وهي: العصا، واليد، والسنين، ونقص من الأموال، والأنفس، والثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

أما الآيات الخاصة ببني إسرائيل: فهي النجاة من فرعون، وفلق البحر، والانفجار، وانبجاس الماء، والمن، والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنّه ظلة، والغمام

وغيرها.

{فَسْـئَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} : والأمر كيف يسأل رسول الله بني إسرائيل الّذين جاءهم موسى؛ فقد ماتوا، وانقرضوا، ولم يبق أحدٌ منهم.

الجواب: أي: اسأل ذريتهم كأنك سألتهم أنفسهم؛ لأنّهم سمعوا الأحداث، وتناقلوا الأخبار جيلاً بعد جيل.

اسألهم سؤال حجة، واستشهاد، وماذا فعل فرعون وقومه بالآيات؟ فقد كذبوا وجحدوا بها. وقد يسأل سائل ما هو الفرق بين {فَسْـئَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} ، و {سَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} [البقرة: 211]؟ العرب: إذا بدأت بالفعل تخفف وتقول سل، وأما إذا سبق الفعل سل شيء تقول: اسأل.

{فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ} : فقال: الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ قال فرعون لموسى (فرعون الابن منفتاح). ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) للبيان:{إِنِّى لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} ؛ أي: سحرك غيرك؛ أي: كانت نتيجة إرسال التسع آيات اتهام موسى بالسحر؛ كذلك يسألك قومك من الآيات فقط للّج، والجدال، كما حدث لموسى عليه السلام .

ص: 101

سورة الإسراء [17: 102]

{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} :

{قَالَ لَقَدْ} : قال موسى لفرعون:

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: حرف تحقيق.

{عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ} : هؤلاء: الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة يعود على الآيات التسع.

{إِلَّا} : إلا: أداة حصر.

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : هو وحده الّذي أنزلها.

والسؤال: هل علم فرعون، وأدرك أن هذه الآيات هي من عند الله تعالى؟

الجواب: كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : نعم؛ أي: علم، ولكنه أبى، واستكبر؛ لقوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النحل: 14].

{بَصَائِرَ} : آيات وحججاً واضحة، وبينات تدل على الخالق واجب الوجود، الإله الحق، وتدل على وحدانيته، وقدرته، وعظمته، وأنه هو الّذي يستحق العبادة.

{بَصَائِرَ} : جمع بصيرة؛ أي: آيات يُرى من خلالها، أو يتضح الحق من رؤيتها، ويُبصر الإنسان الأمر، أو الشّيء الّذي كان لا يعلمه؛ أي: تفتح الأبصار، والقلوب إلى رؤية الحق، والاهتداء للوصول إلى الإله الحق. ارجع إلى سورة الجاثية آية (20) لمزيد من البيان في بصائر.

{وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} : لأظنك: اللام: للتوكيد.

{يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} : المثبور: الهالك، أو الممنوع من الخير، ومثبوراً: اسم مفعول من فعل: ثبر.

وكأن الله سبحانه أطلع موسى على مصير فرعون، وأنه هالك عن قريب، وكأن قول موسى لفرعون:{وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} : ردٌّ على قول فرعون لموسى: {إِنِّى لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} .

ص: 102

سورة الإسراء [17: 103]

{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} :

{فَأَرَادَ} : فرعون.

{أَنْ يَسْتَفِزَّهُم} : يستأصلهم كما قال ابن عباس؛ أي: يحرضهم؛ أي: بني إسرائيل وموسى على الخروج من مصر بالإيذاء، والسوء، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم؛ ليكرههم على الخروج؛ الفاء: للترتيب الذكري.

{مِنَ الْأَرْضِ} : أرض مصر.

{فَأَغْرَقْنَاهُ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة؛ فأغرقناه: الهاء: تعود إلى فرعون. في اليم: البحر.

{وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} : ومن معه من جنده، وتدل على العدد، ليس بالعدد الكبير، ولو قال: والّذين معه؛ لكان ذلك يعني: العدد الكبير.

{جَمِيعًا} : للتوكيد.

ص: 103

سورة الإسراء [17: 104]

{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} :

{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ} : من بعد هلاك فرعون وجنوده قلنا لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام .

{اسْكُنُوا الْأَرْضَ} : قيل: الأرض المقدسة، وقيل: اسكنوا جميع الأرض، وليس بقعة معينة؛ اسكنوا كل بقاع الأرض، وبما أنه لم يحدد لهم مكاناً، ولا عنواناً؛ فهذا يدل على أنها تعني كل الأرض، وهذه هي الحقيقة؛ فهم مبعثرون ومشردون في كل أنحاء العالم، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168].

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} : فإذا: الفاء: للتوكيد؛ إذا: ظرفية زمانية تدل على المستقبل، وعلى حتمية الحدوث.

{وَعْدُ الْآخِرَةِ} : هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل: {لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4]، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُـئُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 7].

{جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} : جئنا بكم من أقطار الأرض إلى الأرض المقدسة؛ ليتحقق وعد الآخرة.

{لَفِيفًا} : اللفيف: هو الجمع الكبير من أخلاط، أو أجناس، أو أعراق مختلفة، ومن أوطان شتى؛ أخلاط تشمل: الشريف والدنيء، والمطيع والعاصي، والقوي والضعيف، وهذا ما يحدث الآن.

ص: 104

سورة الإسراء [17: 105]

{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} :

{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} : وبالحق: الباء: للإلصاق، والتوكيد؛ الحق: هو الشّيء الثابت الّذي لا يتغير، أو يتبدل أبداً؛ فالقرآن: هو الحق، والحق: هو القرآن، فلن يتغير منه حرف منذ نزل حتّى يوم القيامة.

{أَنزَلْنَاهُ} : أي: جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر.

{وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} : وكذلك نزل من السّماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال (23) عاماً منجَّماً حسب الأحداث، ولم يتغير منه حرف:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: 193-194].

إذن هناك مرحلتان:

المرحلة الأولى: إنزال من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا بالحق.

والمرحلة الثّانية: نزول من السّماء الدّنيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق، أو التّوحيد.

وقيل: الحق الأول غير الحق الثّاني؛ فالحق الأول: إنزال بالحكمة الإلهية، وبالحق نزل؛ أي: بما فيه من الأحكام، والوعد، والوعيد.

{وَمَا} : ما: النّافية.

{أَرْسَلْنَاكَ} : لمعرفة معنى الإرسال، والفرق بين البعث، والإرسال: ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ للبيان.

{إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} : إلا: أداة حصر.

{مُبَشِّرًا} : للمؤمنين، والطائعين، والبشارة: تكون بالخير. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{وَنَذِيرًا} : للعاصين، والكافرين.

ص: 105

سورة الإسراء [17: 106]

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} :

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} : القرآن سمي بذلك؛ لكونه مقروءاً.

{فَرَقْنَاهُ} : أي: نزلناه مفرقاً، وليس جملة واحدة، أو دفعة واحدة، كما حصل للكتب السّابقة: التّوراة، والإنجيل، بعد أن كان مجموعاً في اللوح المحفوظ.

{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} : لتقرأه: اللام: للتوكيد، أو التّعليل.

{عَلَى النَّاسِ} : على: تفيد العلو، والمشقة.

{عَلَى مُكْثٍ} : على تؤدة، وتمهل، وتأنٍّ بلا عجلة، وفي آية أخرى:{لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].

{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} : توكيد نزلناه ببطء آيات، آيات، أو سورة بعد سورة.

ص: 106

سورة الإسراء [17: 107]

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{آمِنُوا بِهِ} : أي: القرآن.

{أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} : أو: للتسوية؛ سواء آمنتم به، أم لم تؤمنوا؛ الأمر سواء؛ أي: متساوٍ عند الله سبحانه.

{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : إن: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.

{أُوتُوا الْعِلْمَ} : مؤمنو أهل الكتاب من اليهود، والنّصارى، والّذين قرؤوا التّوراة، والإنجيل قبل إنزال القرآن؛ مثل: عبد الله بن سلام، وورقة بن نوفل

وغيرهما.

{مِنْ قَبْلِهِ} : قبل نزول القرآن، أو قد ترجع إلى إرسال رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِذَا} : ظرفية شرطية تدل على حتمية الحدوث.

{يُتْلَى عَلَيْهِمْ} : يُقرأ القرآن على الّذين أوتوا العلم، أو ما أُنزل إليهم من عند الله.

{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} : أذقان: جمع: ذقن: وهو ملتقى اللحيين.

{يَخِرُّونَ} : بين يدي الله تعالى سجداً مشتقة من خرير الماء، أو الشلال، وتعني: الهبوط بسرعة، وله صوت. يخر: يسقط كسقوط الماء في الشلال، وبصوت.

{لِلْأَذْقَانِ} : إضافة اللام؛ تعني: المبالغة في الخشوع، والخضوع، وعلى كمال السجود؛ لأن السجود يكون على الجبهة، والأنف، أما للأذقان: تدل على كمال وشدة السجود؛ ليشمل الذقن (كناية عن الوجه، والجزء يشير إلى الكل)؛ أي: سجود تام كامل حتّى يبلغ الذقن، ولم يقل على الأذقان (على تفيد المشقة والصعوبة)، وإنما للأذقان للدلالة على الحرص على التقرب لله تعالى.

ص: 107

سورة الإسراء [17: 108]

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} :

{وَيَقُولُونَ} : تدل على التّجدد، والاستمرار، ولم يقل: وقالوا الّتي قد تعني مرة واحدة.

{سُبْحَانَ رَبِّنَا} : تنزيهاً لربنا من الإخلاف بوعده، أو عدم إنجاز وعده الّذي وعده في الكتب السماوية السّابقة بإرسال محمّد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن على قلبه. ارجع إلى سورة الحديد، آية (1)؛ لبيان معنى التّسبيح.

{إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} : إن: للتوكيد.

{كَانَ} : تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ كان وعد ربنا مفعولاً لكل ما وعده على مر الزمن.

{لَمَفْعُولًا} : اللام: للتوكيد؛ مفعولاً: كائناً واقعاً لا محالة.

ص: 108

سورة الإسراء [17: 109]

{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} :

{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} : انظر في الآية (107)، وتكرار "يخرون" للتوكيد.

{يَبْكُونَ} : في هذه المرة "يبكون" تدل على التّجدد، والتكرار.

{وَيَزِيدُهُمْ} : أي: القرآن، وتلاوته خشوعاً.

{خُشُوعًا} : تواضعاً، وليناً في القلب، والخشوع يعني: الخضوع، والإخبات أيضاً.

ص: 109

سورة الإسراء [17: 110]

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} :

{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} : الله: اسم الذات الجامع لكل صفات الكمال الّتي انطوت عليها أسماء الله الحسنى، واسم العلم الدّال على واجب الوجود.

{أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} : أو: للتخيير.

{ادْعُوا الرَّحْمَنَ} : الرحمن: من الرّحمة الّتي هي الصفة والسمة العامة والثابتة لذاته، والتي تمثل كل صفاته الأخرى؛ فهو أرحم الراحمين، والرحمن الرحيم، فهو سبحانه رحمة، وشريعته رحمة، وقرآنه رحمة؛ كل ما يفعله بعباده رحمة؛ لأنّه هو الرحمن دائم الرّحمة، ومتجدد الرّحمة.

{أَيًّا مَا تَدْعُوا} : أي: هنا شرطية.

{مَا} : للتوكيد؛ أي: هي أكثر أدوات الشرط إبهاماً، وإضافة ما: تزيدها إبهاماً.

{فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : فله: الفاء: للتوكيد؛ له: تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة يدل على الحصر؛ أي: له وحده الأسماء الحسنى، وكلمة حُسنى: أفعل تفضيل للمؤنث، والمذكر منها: أحسن، وأسماء الله الحسنى تقسم إلى قسمين: منها ما هو أسماء ذات؛ أي: لا يقابل الاسم اسم مقابل؛ أي: مضاد؛ مثل العزيز لا يقابله الذليل، والكريم لا نقول البخيل؛ الحي لا يقابله الميت، ومنها ما هو أسماء صفات مثل: المُعز، يقابلها المذل، والضار، ويقابلها النافع، والمحيي، ويقابلها المميت.

{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} : أي: لا ترفع صوتك بالقراءة، أو الدعاء، أو لا تجهر بصلاتك حتّى يسمعك المشركون فيسبوا القرآن عَدْواً.

{وَلَا} : النّاهية، وتكرارها يفيد التّوكيد.

{تُخَافِتْ بِهَا} : ولا تخفض الصوت؛ فلا يسمعك أصحابك في الصّلاة.

{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} : بين الجهر، والإخفاء؛ أي: وسطاً.

ابتغ: أي: اتخذ، أو اسلك في التلاوة سبيلاً وسطاً.

ص: 110

سورة الإسراء [17: 111]

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} :

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} : وقل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته. الحمد لله: ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) للبيان. الذي: اسم موصول يفيد التعظيم. لم: للنفي، يتخذ ولداً: لا عيسى، ولا عزير، ولا الملائكة، ولا غيرهم.

فكونه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أن يحمدوه عليها؛ فكل الخلق عنده سواء إلا بالتقوى. فأحبهم، وأقربهم إليه أتقاهم.

إذن: الخلق كله يتمتع بحنان ربهم، ورحمته، ولا يشاركهم بهذا الحنان والرحمة ولد، ولا يحتاج سبحانه لولد؛ لأنّه هو خالد، وباقٍ، ودائم، والولد هو امتداد لوالديه، والحمد لله الّذي لم يشبه عباده، ولا يحتاج إلى ولد؛ لأنّه سبحانه لا يعتريه ضعف، أو نقص؛ ليحتاج إلى ولد، وهو الحي القيوم، وهو الوارث.

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ} : وهذا أيضاً يستوجب الحمد، فلو كان له شريك لكان سبباً للحيرة، والعداوة.

{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِّ} : وأيضاً يستحق الحمد، والشكر؛ لأنّه لم يكن له ولي من الذّل.

{وَلِىٌّ} : الولي: المعين، أو الملجأ؛ فلا يحتاج إلى معين، أو ناصر، أو معز؛ لأن العزة لله جميعاً؛ أي: لا يحتاج إلى موالاة أحد؛ لأن به مذلة، أو عيب، أو نقص.

{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} : أي: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر من كل شيء.

الله أكبر: أكبر اسم تفضيل، وأما كبير: اسم فاعل، واسم التفضيل يدل على الكمال التام، أكثر من اسم الفاعل، وبما أنه لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذّل، ولهذا يجب أن نكبر هذا الإله تكبيراً على كل نعمة أنعمها علينا، وسميت هذه: آية العز.

ص: 111

سورة الكهف [18: 1]

سورة الكهف

ترتيبها في القرآن (18)، وترتيبها في النّزول (69).

فضل سورة الكهف: عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي.

وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» رواه مسلم، والإمام أحمد، والنسائي.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا} :

انظر إلى كيف ختم الله سبحانه سورة الإسراء بقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} ، وكيف بدأ سورة الكهف بقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} ، وكما بدأت سورة الكهف بالحمد لله؛ فقد سبقتها فاتحة الكتاب بالحمد لله، وسورة الأنعام، وسوف يأتي بعد سورة الكهف سورة سبأ، وسورة فاطر، وكلاهما بدأتا بالحمد لله أيضاً؛ فيكون مجموع السّور الّتي بدأت بالحمد خمس سور. ارجع إلى سورة الحمد، الآية (1)؛ للبيان.

فالحمد لله حمداً مطلقاً على ما أنعمه علينا من النّعم، وعلى نعمة الإسلام، والهداية إلى الصّراط المستقيم، والحمد لله في سورة الأنعام؛ لأنّه خلق السّموات والأرض، وجعل الظّلمات والنّور، وأمّا الحمد لله في سورة الكهف؛ لأنّه أنزل على عبده الكتاب، والحمد لله في سورة سبأ؛ لأنّ له ما في السّموات، وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة أيضاً، والحمد لله في سورة فاطر؛ لأنّه خلق الملائكة الّذين يحفظون لنا أعمالنا، ويكتبوها.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (2)؛ للبيان.

{الَّذِى} : اسم موصول مختص بالمفرد المذكر.

{أَنْزَلَ} : أي: جملة واحدة (دفعة واحدة) أنزل الكتاب (أي: القرآن) من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا سماه كتاباً لكونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، ومكتوباً في السّطور.

{عَلَى عَبْدِهِ} : على: تفيد العلو؛ على عبده محمّد صلى الله عليه وسلم.

{عَبْدِهِ} : الهاء: تدل على التّشريف.

{الْكِتَابَ} : القرآن الكريم، ودخول (ال) التعريف؛ للدلالة على أنّه كتاب تام، وكامل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (2)؛ لمزيد من البيان.

{وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا} : أي: مستقيماً لا عوج فيه منذ البداية لم يجعل له عوجاً لا في اللفظ، ولا في المعنى، ولم يقل: ولم يجعل فيه عوجاً؛ لكان من المحتمل أنّ هذا العوج حدث للقرآن في زمان ما ثمّ زال عنه، وهناك من المفسرين من قال: هناك تقديم وتأخير في هذه الآية؛ لأنّها قد تقرأ الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتاب قيماً لا عوج له، وقدم كلمة عبده على الكتاب للاهتمام.

{عِوَجَا} : بصيغة النّكرة؛ لتشمل كلّ أنواع العِوج؛ أي: خالٍ من أي عوج مهما كان.

وهناك فرق بين العِوج: بكسر العين، والعَوج: بفتح العين.

فالعِوج: بكسر العين أكثر ما تستعمل في سياق المعاني، والكلام، والدين.

والعَوج: بفتح العين في سياق الأشياء الحسية؛ مثل: حائط، عصا

ص: 112

سورة الكهف [18: 2]

{قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} :

{قَيِّمًا} : تعود على الكتاب؛ قيماً تعني: مستقيماً لا ميل فيه، ولا زيغ، وقيماً بمصالح العباد الدّينية، والدّنيوية؛ لتستقيم به أمور العباد، وقيماً: تفيد التّوكيد؛ توكيد لا عوج فيه. لم يجعل له عوجاً تفيد نفي العوج؛ قيماً: تثبت استقامته.

{لِيُنْذِرَ بَأْسًا} : لينذر: اللام: للتعليل، والتّوكيد، والإنذار موجه إلى الكفار، والعاصين، ويحمل في طياته الوعيد، والإنذار: هو الإعلام، والتّحذير، والتخويف.

{بَأْسًا شَدِيدًا} : عذاباً شديداً، وأصل البأس: الشّدة في الحرب.

{مِنْ لَّدُنْهُ} : من لدنا: تستعمل للأمور الخاصة فيها معنى القرب إلى الله سبحانه، أو للعبد، ولم يقل: من عنده مما يدل على أنّه عذاباً خاصاً لا طاقة لأحدٍ به، ويستعمل من عندنا، أو منا للأقل قرباً، أو للأمور العامة.

{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} : يعملون: تدل على التّجدد، والتّكرار، والاستمرار بقيامهم بالأعمال الصّالحة، والبشارة: تكون في الخبر السّار، والمسموع لأوّل مرة؛ مما يؤدي إلى ظهور علامات البشارة على البشرة؛ أي: الوجه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)، وسورة النّحل، آية (89)؛ لمزيد من البيان.

{أَنَّ} : أنّ: مصدرية تفيد التّعليل.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص لهم خاصة.

{أَجْرًا حَسَنًا} : الأجر مقابل العمل، والأجر الحسن: قد يعني: الجنة، أو الحسنة بعشر أمثالها، أو أكثر، أو الذي يزيد عما يستحقه المؤمن.

ص: 113

سورة الكهف [18: 3]

{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} :

{مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} : المكث في اللغة: هو الانتظار، أو البقاء والاستقرار الغير محدد بزمن، ولم يقل لابثين: اللبث يقترن بزمن محدد؛ أي: ماكثين فيه: باقين فيه، وإضافة أبداً أضافت إليه معنى الخلود؛ ماكثين فيه (فيه تعود على الأجر)؛ أي: ماكثين في الأجر أبداً، ويعني: الجنة، أو الأجر الدّائم الغير منقطع.

{أَبَدًا} : للتوكيد؛ أي: خالدين فيه.

ص: 114

سورة الكهف [18: 4]

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} :

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} : هذا هو الإنذار الثّاني؛ الإنذار الأوّل: قيماً لينذر بأساً شديداً: هو إنذار عام، ومطلق لكلّ من كفر، وعصى ربه، وهذا الإنذار هو الإنذار الثّاني، والخاص بالّذين قالوا اتخذ الله ولداً؛ ينذر النّصارى الّذين قالوا المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أو غيره من مظاهر الشّرك، أو ينذر المشركين الّذين قالوا إنّ الملائكة بنات الله، أو اليهود الّذين يقولون عزيراً ابن الله، أو غيرهم.

ص: 115

سورة الكهف [18: 5]

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} :

{مَا} : ما: لنفي الحال، والاستقبال.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ هم: تعود على الّذين قالوا اتخذ الله ولداً.

{بِهِ} : تعود على القول اتخذ الله ولداً.

{مِنْ عِلْمٍ} : من: ابتدائية استغراقية تستغرق كلَ علم؛ أي: هو قول صادر عن جهل، أو تقليد، أو لا دليل له، وتشمل أي علم ذاتي، أو مكتسب، أو وراثي.

{وَلَا لِآبَائِهِمْ} : لا: النّافية لنفي كلّ الأزمنة، ولا لآبائهم الّذين قالوا ذلك أيضاً من غير علم ذاتي، أو وراثي.

{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} : كبرت: عظمت كلمةً، أو ما أكبرها من كلمة في القبح، والشّناعة، والإثم حين تفوهوا بها، وقالوا: اتخذ الله ولداً دون فهم، ولا عقل، ولا علم؛ فقد خرجت من أفواههم وبلغت درجة عظيمة؛ لأنها أضلت خلقاً كثيراً، وجاءت بالنصب، وليست بالرفع؛ لأنّ النصب أقوى، وأبلغ، وفيه معنى التعجب.

{إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} : إن: حرف نفي أقوى نفياً من ما؛ أي: ما يقولون إلا كذباً.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كَذِبًا} : باطلاً لا صحة له؛ مفترىً. وكذباً: نكرة؛ أي: كُلُهُ كذب.

وكما جاء في الحديث القدسي الّذي أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النّبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:«كذبني ابن آدمَ، ولم يكُنْ له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبُهُ إياي؛ فقوله: لن يُعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمُهُ إياي؛ فقولُهُ: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم أَلِدْ ولم أولَدْ ولم يكنْ لي كُفُواً أحَد» .

ص: 116

سورة الكهف [18: 6]

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} :

{فَلَعَلَّكَ} : الفاء: للتوكيد؛ لعلك: لها عدة احتمالات، والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

لعلك: للتراخي في المحبوب، وللإشفاق من المحذور، ويعني: أن يبخع نفسه، وهو المحذور.

لعلك: تعني النّهي؛ أي: لا تبخع نفسك، وتجمع الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى النّهي.

لعلك: قد تفيد الاستفهام الّذي يحمل معنى النّهي؛ تعني: هل أنت ستهلك نفسك من جراء عدم إيمانهم.

{بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} : مُهلك، أو قاتل نفسك؛ لكي يؤمنوا، وكلمة باخع أصلها البخع، وتعني: أن تبلغ بالذّبح البخاع، وهو وريد دم قريب من صُلب عظام الرّقبة، وهو أقصى حد يصل إليه الذّبح؛ أي: قاتلٌ نفسك حزناً، وأسفاً على إعراضهم، وعدم إيمانهم، وتكذيبهم بالقرآن كمن يذبح نفسه إلى درجة يصل بها الذبح إلى البخاع، وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ما عليك إلا البلاغ؛ خفف عنك هذا الحُزن والهم.

{عَلَى آثَارِهِمْ} : فلا تستمر في ملاحقتهم بعد توليهم {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].

{إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{لَّمْ} : نافية.

{يُؤْمِنُوا} : يصدقوا.

{بِهَذَا} : الباء: للإلصاق.

{الْحَدِيثِ} : هو القرآن الكريم.

{أَسَفًا} : المبالغة في الحزن، وقيل: أسفاً: ندماً، وجزعاً، وغضباً، فالله سبحانه نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحرص على إيمان قومه؛ لكي يؤدي ذلك إلى إصابته بضرر في نفسه من شدة الحُزن والأسى.

ص: 117

سورة الكهف [18: 7]

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} :

{إِنَّا} : إن: للتوكيد، ونا: المتكلم؛ للتعظيم.

{جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} : جاءت هذه الآية لتعليل النّهي عن أن يبخع الرّسول صلى الله عليه وسلم نفسه على آثارهم؛ لأنّ الدّنيا زائلة، وفانية، وما عليها من زينة، وزخرف، وجمال، إنما لابتلائهم؛ أي: اختبارهم، ولإقامة الحجة عليهم؛ لأنّ الله -جل وعلا- يعلم من هو أحسن عملاً منذ الأزل قبل خلقهم، وإظهارهم للوجود.

{لِنَبْلُوَهُمْ} : اللام: لام التّوكيد، والتّعليل.

{أَيُّهُمْ} : أي: للاستفهام.

{أَحْسَنُ عَمَلًا} : اسم تفضيل من حسن؛ أي: عملاً من الأعمال الصّالحة، والطّاعة، وتجنب النّواهي، والعمل الصّالح يشمل القول، والفعل معاً؛ أحسن: أفضل عملاً. ولم يقل سبحانه: أكثر عملاً، وإنما: أحسن؛ أي: أخلص عملاً وأصوب. ارجع إلى سورة الملك آية (2).

ص: 118

سورة الكهف [18: 8]

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} :

{وَإِنَّا} : وإن: للتوكيد؛ نا: ضمير المتكلم؛ للتعظيم بصيغة الجمع.

{لَجَاعِلُونَ} : اللام: لام التّوكيد؛ جاعلون: من الجعل: وهو التّصيير.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الذي، وأكثر شمولاً من الذي.

{عَلَيْهَا} : من الزينة من نباتات، وجبال، وأشجار، وجنات، وهضاب، ووديان تزول وتتلاشى حين تقوم الساعة؛ كقوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105-107].

{صَعِيدًا} : الصعيد: هو وجه الأرض، ووجه الأرض: هو التّراب؛ أي: تراباً.

{جُرُزًا} : الجرز: الأرض الّتي لا ينبت فيها شيء؛ فالله سبحانه يجعل الأرض يوم القيامة أرض ملساء يابسة مستوية لا نبات فيها، ولا ماء؛ أرض قحط. ارجع إلى سورة طه آية (106-107) للبيان.

ص: 119

سورة الكهف [18: 9]

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} :

سبب نزول هذه الآيات كما ذكر القرطبي عن ابن إسحاق: سألت قريش يهود المدينة عن صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفته، وما ورد في كتبهم؛ فأشاروا إليهم أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، وأصحاب الكهف، وعن ذي القرنين؛ فسألوه فقال صلى الله عليه وسلم: سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله، وجاء الغد، ولم ينزل الوحي عليه بالأجوبة؛ فشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرج، والضيق. ارجع إلى الآية (23-24) من نفس السّورة، والآية (64) من سورة مريم.

{أَمْ} : المنقطعة للاستفهام، تحمل معنى: التّعجب.

{حَسِبْتَ} : اعتقدت؛ حسبت: تعني: الظّن الرّاجح، وتعني: الحساب القائم على النّظر، والتّجربة، والحساب.

{أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} : أنّ: للتوكيد.

{أَصْحَابَ} : جمع صاحب الملازم؛ صاحب: من صحب؛ أي: الرفيق، والصديق الّذي ينفعك، ولا يعني: القرين: الشّيطان الّذي يضرك.

{الْكَهْفِ} : الغار الواسع في الجبل.

{وَالرَّقِيمِ} : اللوح المرقوم المكتوب فيه أسماء أصحاب الكهف، أو لوح حجري كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف، كما قال ابن عباس والفراء.

{كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} : أي: أحسبت أنّ أصحاب الكهف، والرّقيم كانوا أعجب آياتنا لا هناك الكثير من آياتنا ما هو أعجب من أصحاب الكهف.

{مِنْ} : ابتدائية.

{آيَاتِنَا عَجَبًا} : أي: أعجبها؛ فهناك الآيات الكثيرة الّتي هي أعجب من قصة أصحاب الكهف الدّالة على عظمة وقدرة الله سبحانه على الخلق، والبعث، والإحياء.

ص: 120

سورة الكهف [18: 10]

{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} :

{إِذْ} : ظرف زمان للماضي.

{أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} : أوى: التجأ، أو جعلوا الكهف مأوى لهم.

{الْفِتْيَةُ} : جمع فتى؛ بمعنى: الشّبان، والفتية، ولم يقل: الفتيان؛ الفتية في القرآن؛ تعني: الفئة الصّالحة المؤمنة. أمّا الفتيان في القرآن: تأتي في سياق الفئة غير المؤمنة، وسياق التسخير؛ أي: الخدم، وأمّا اللغة: فلا تفرق بين الفتية، والفتيان، وهناك فرق آخر: الفتية: جمع قلة؛ الفتيان: جمع كثرة، أو فتيان: أكثر عدداً مقارنة بالفتية، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62].

{فَقَالُوا} : الفاء: للمباشرة، والتّعقيب.

{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} : ربنا، ولم يقولوا: يا ربنا؛ لأنّه سبحانه قريب؛ فلم يستعملوا ياء النّداء للبعد.

{آتِنَا} : من الإيتاء: وهو العطاء الّذي لا تملك فيه. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ لمعرفة الفرق.

{مِنْ} : من: ابتدائية.

{لَدُنْكَ} : ولم يقولوا منك؛ من لدنك خاصة بالمقربين فيها معنى المبالغة والقرب واللين والخصوصية من الله تعالى، وأما منك تأتي في سياق العامة من النّاس، وتقديم من لدنك؛ تعني: خاصة من لدنك وحدك.

{رَحْمَةً} : جاءت في صيغة النّكرة؛ لتشمل أنواع كثيرة من الرّحمة؛ منها: الرّزق، والأمن، والصّحة، والمغفرة، والرّحمة: هي جلب ما يَسرُ، ودفع ما يضر، وتعني: الوقاية من الوقوع في الذّنوب.

{وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} : هيئ: يسر لنا، واجعل أمرنا كله رشداً؛ أي: صلاحاً، والرَّشَد: بفتح الراء؛ يعني: الصّلاح في أمور الدّين، والآخرة. أما الرُّشد: ضد الغي، والضّلال، والسّفه، وسوء التّدبير؛ أي: اهدنا إلى طريق الصّواب، والصّلاح، والحق، والخير، والإيمان، والتّوحيد، والرُّشد: بضم الرّاء: الصّلاح في الأمور الدّنيوية، والأخروية، والرُّشد: أعم من الرَّشَد.

ص: 121

سورة الكهف [18: 11]

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} :

{فَضَرَبْنَا} : الفاء: للمباشرة، والتّعقيب، والضّرب: يعني: إيقاع شيء على شيء، والضّرب في الأرض: أي: السّفر؛ يضرب بقدمه الأرض؛ أي: يسافر، والضرب على الأذن في الحالات العادية: يؤدي إلى الصمم الناتج أحياناً إلى تمزق غشاء الطبل في الأذن، وتعطل حاسة السّمع عندهم.

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ} : أي: بعد أن أووا إلى الكهف جعلنا على آذانهم حجاباً، أو حائلاً يمنع وصول الصّوت إلى آذانهم؛ لأنّ الله سبحانه لا يريد أن يوقظهم بسماع أي صوت، وأضاف الضّرب إليه سبحانه؛ أي: أصبحوا لا يسمعون شيئاً لسنين طويلة.

{سِنِينَ عَدَدًا} : أبقاهم الله سبحانه أحياء {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [آية: 25] من نفس السّورة.

{عَدَدًا} : للتوكيد؛ أي: (300 سنة شمسية) ما يعادل (309 سنة قمرية) أبقاهم أحياء بدون طعام، أو شراب، أو شيء من مقومات الحياة العادية.

ص: 122

سورة الكهف [18: 12]

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} :

{ثُمَّ} : للتراخي في الزّمن؛ أي: بعد زمن طويل بلغ ثلاث مائة وتسع سنوات.

{بَعَثْنَاهُمْ} : أيقظناهم من نومهم، والبعث: يعني: الحث، والإثارة، والتّحريك.

{لِنَعْلَمَ} : اللام: لام التّعليل.

{أَىُّ الْحِزْبَيْنِ} : أي: للاستفهام.

{الْحِزْبَيْنِ} : قيل: الفتية انقسموا حزبين (جماعتين)، والحزب: هو جماعة من النّاس تجمعهم مصالح مشتركة، وآراء متشابهة؛ حزب قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وحزب قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وبعض المفسرين قالوا: الحزبين هم الفتية، وأهل المدينة.

{أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} : لما: ظرفية زمانية، وما: مصدرية؛ أحصوا: من الإحصاء: وهو العد، والجمع، والطرح، والحفظ، والكتابة.

{لَبِثُوا} : وهم رقود في كهفهم. ولبثوا: اللبث: هو الاستقرار المقرون بزمن محدد بعكس المكث: هو الاستقرار الغير مقرون بزمن محدد.

{أَمَدًا} : والأمد: أما أن يكون ظرفاً من الزمان أو المكان، وفي هذه الآية ظرف للزمان منتهى الأجل، أو المدة (عدد السنين)، وانتهى التساؤل أن كلا الحزبين لم يعلم الجواب الحق.

ص: 123

سورة الكهف [18: 13]

{نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} :

{نَّحْنُ} : ضمير منفصل بصيغة الجمع؛ للتعظيم.

{نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ} : نخبرك، أو نطلعك على نبأهم.

{نَبَأَهُمْ} : النّبأ: هو الخبر الهام العظيم.

{بِالْحَقِّ} : بالصّدق؛ الباء: للإلصاق، والحق: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير، أو يتبدل، وما يقصه الله سبحانه علينا هو علم اليقين، وصدق، ولا يخالطه أي شك، أو ريبة؛ لأنّ هناك من الأنباء ليست بالحق؛ أي: ليست صادقة.

{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} : إنّ: للتوكيد.

{فِتْيَةٌ} : ارجع إلى الآية (10)؛ للبيان.

{آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} : آمنوا إيمان عقيدة، وتوحيد، وصدقوا بربهم، وهذه شهادة من الله لهم، ويا لها من شهادة عظمى.

{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} : أي: إقبالاً على الله، وإيماناً، وبصيرة، وهديناهم الهداية الخاصة الموصلة إلى الغاية، وهي سعادة الدّارين.

{هُدًى} : نكرة؛ تشمل كلّ أنواع الهداية.

ص: 124

سورة الكهف [18: 14]

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَّدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} :

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} : الرّبط: الشّد؛ أي: ألهمناهم، قويناهم بالصّبر، والثبّات، واليقين، والجرأة (عدم الخوف) على الإيمان، والتّوحيد حتّى لا يفزعوا.

وقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} ، ولم يقل: وربطنا قلوبهم؛ على: تدل على العلو، والمشقة؛ أي: على القلب؛ على ما فيها من إيمان، وتقوى. أما ربطنا قلوبهم؛ تعني: ربط القلب ذاته بجهاز، أو شيء حسي، كما يحدث في العمليات الجراحية.

{إِذْ قَامُوا} : إذ: ظرف زمان للماضي؛ بمعنى: حين قاموا يدعون الله وحده، ويعبدونه.

{فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي: الرّبط خاصة حين قاموا لمواجهة الشّرك، والباطل، والتّصدي له، وأعلنوا الكلمة الطّيبة كلمة التّوحيد لا إله إلا الله، ربنا رب السّموات والأرض في أرض الشّرك، والضّلال.

{لَنْ نَّدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} : لن: لنفي المستقبل القريب، والبعيد.

{مِنْ دُونِهِ} : من دون الله، من غير الله.

{إِلَهًا} : معبوداً آخر، ولا شريكاً له، أو مثيلاً.

{لَّقَدْ قُلْنَا} : لقد: اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} : الشّطط: الجور، والظّلم، أو الابتعاد عن الحق، والصّواب؛ أي: إذا ادعينا أنّ هناك إلهاً آخر من دونه؛ فقد قلنا كلاماً شططاً؛ أي: كذباً بعيداً عن الحق، والصّواب، وظلماً، وجوراً.

ص: 125

سورة الكهف [18: 15]

{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} :

{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا} : هؤلاء: الهاء: للتنبيه؛ أولاء: اسم إشارة تشير إلى الّذين اتخذوا من دون الله آلهة.

{مِنْ دُونِهِ} : من: ابتدائية.

{دُونِهِ} : دون الله آلهة يعبدونها.

{لَّوْلَا} : أداة عرض، وحض.

{لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} : بسلطان؛ أي: دليل، وحجة على إشراكهم بالله واتخاذ الآلهة.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : فمن: الفاء: للتوكيد؛ من: استفهامية تفيد النّفي، واستفهام تقرير حتّى يجيب المخاطب بنفسه، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ولو قال تعالى: لا أحد أظلم؛ لكان عبارة عن كلام إنشائي على سياق الخبر؛ بينما قوله: فمن أظلم ممن افترى كلام استفهامي على سياق السّؤال، وهو أبلغ، وأرسخ في النّفس، والافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق.

{كَذِبًا} : نكرة يشمل كلّ أنواع الكذب القليل، والكثير بكلّ أنواعه.

ص: 126

سورة الكهف [18: 16]

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} :

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} : وإذ؛ أي: واذكروا إذا اعتزلتموهم؛ أي: اعتزلوا قومهم؛ أي: تركوا قومهم، وخلوا بأنفسهم.

{وَمَا يَعْبُدُونَ} : وما: النّافية.

{يَعْبُدُونَ} : إلا الله.

{إِلَّا} : أداة حصر، أو استثناء.

{فَأْوُا إِلَى الْكَهْفِ} : هذا قول بعضهم لبعض؛ أي: الجؤوا إلى الكهف، واجعلوه مقر عبادتكم.

{يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَّحْمَتِهِ} : يوسع، ويبسط لكم ربكم كلّ أنواع رحمته.

{رَّحْمَتِهِ} : من الصّحة، والعافية، ومن الطّعام، والشّراب الّتي تحتاجون إليها في هذا الكهف الخالي من مقومات الحياة، والمعيشة.

{وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا} : مرفقاً: جمعه مرافق؛ أي: منافع، ومرافق الحياة: الأمور الّتي لا يستغني عنها الإنسان من غذاء، وشراب، وتدفئة، أو تبريد، أو هواء، وشمس. وأصل كلمة مرفقاً: ما يرتفق به؛ أي: يتكأ عليه، أو يستعان به مثل عضو المرفق، وهو المفصل المسمى المرفق، أو الكوع كقوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].

ص: 127

سورة الكهف [18: 17]

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} :

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} : وترى الشّمس: رؤية العين؛ إذا طلعت أشرقت على كهفهم، وإذا تفيد حتمية الحدوث، وكثرته.

{تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} : أي: تتزاور أدغمت التّاء في الزّاي، فأصبحت تزاور؛ أي: تميل وتنحرف عنهم؛ لئلا تؤذيهم بأشعتها، أو سرعان ما تتحول، وتميل، أو تعدل عن كهفهم، من الزّور: وهو الميل.

{ذَاتَ الْيَمِينِ} : جهة يمين الكهف؛ أي: على يمين الدّاخل إلى الكهف.

{وَإِذَا غَرَبَتْ} : إذا: ظرفية زمانية، وتدل على حتمية الحدوث، وكثرته؛ أي: مالت للغروب.

{تَّقْرِضُهُمْ} : تتجافى عنهم، ولا تَقْربهم (قرض المكان تركه وتجاوزه) فلا تؤذيهم عند الغروب.

{ذَاتَ الشِّمَالِ} : أي: تصيبهم إصابة خفيفة حين الغروب؛ لأنّ الشّمس ضرورية لما فيها من أشعة فوق البنفسجية الغير مرئية الضرورية لإنتاج فيتامين (د) وكثرتها تؤدي إلى الإصابة بسرطانات الجلد، ولم يقل: تزاور عن كهفهم ذات الشّمال.

{وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ} : وهم: الفتية.

{فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ} : الفجوة: المتسع، أو وسط الكهف.

{مِّنْهُ} : أي: الكهف.

{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} : التّزاور، والإقراض عند الشّروق، وعند الغروب، ودوران الشّمس، وميلها، والضّرب على آذانهم، ونومهم (309 سنة) بدون طعام، أو شراب، وتقليبهم ذات اليمين، وذات الشّمال آيات من آيات الله؛ أي: دلائل، وبراهين على عجائب قدرته سبحانه.

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ} : ارجع إلى الإسراء، الآية (97)؛ للبيان.

{وَمَنْ يُضْلِلْ} : ارجع إلى سورة الأعراف، آية (186)؛ للبيان.

{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} : فلن: الفاء: للتوكيد؛ لن: نافية تنفي المستقبل القريب، والمستقبل البعيد.

{تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا} : معيناً.

{مُّرْشِدًا} : اسم فاعل من الفعل أرشد؛ أي: دل وهدى؛ أي: يرشده إلى الدّين، والهدى، والصّواب، والصّلاح.

ص: 128

سورة الكهف [18: 18]

{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} :

{وَتَحْسَبُهُمْ} : من الحسبان: وهو الظّن الرّاجح، أو الاعتقاد المبني على الحساب والتجربة.

{أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} : جمع يقظ؛ أي: غير نائم أيقاظاً؛ لكون أعينهم مفتحة رغم أنهم نيام سنين طويلة (309 سنة).

{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} : نقلبهم على جنبهم الأيمن ثمّ الأيسر، ولم يذكر لماذا؟ وهذا من المعجزات العلمية؛ فالتّقلب لتجنب تقرحات الجلد، والعضلات النّاشئة عن عدم تروية الجلد بسبب الضّغط المباشر على الجلد من جراء النّوم لزمن طويل على جنب واحد، ولتجنب تشكل الخثرات الدموية في الأوردة الّتي قد تترك مكانها وتستقر في الرئتين، أو القلب مما يؤدي إلى الموت أحياناً، فالتقلب والحركة تمنع حدوث ذلك.

{وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} : الوصيد بفناء الكهف، أو مدخله (عتبة الكهف).

{ذِرَاعَيْهِ} : الطّرفين الأماميين.

{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} : لو: شرطية.

{اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} : أي: رأيتهم لأوّل مرة؛ أي: وقع بصرك عليهم لأوّل مرة.

{لَوَلَّيْتَ} : اللام: للتوكيد، وليت: من ولى أدبر.

{مِنْهُمْ} : تقديم الجار، والمجرور؛ يفيد الحصر؛ أي: منهم خاصة.

{فِرَارًا} : الهروب بسرعة مع الخوف مع عدم محاولة التّستر، والاختفاء.

أما الهروب العادي: هو الجري بسرعة، قد يرافقه التّستر، والاختفاء.

{وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} : ولملئت: الواو: لمطلق الجمع، وليس للترتيب؛ انظر إلى تقديم الفرار على الرعب؛ أي: يحدث الهروب أوّلاً، ثمّ يليه الرّعب، أو يحدث الرّعب، والعادة أن يحدث الرّعب، ثمّ الهروب، وإذا حدث الفرار (الهروب) أوّلاً، وتبعه الرّعب دلّ على شدة المنظر المخيف المهيل.؛ فهم رقود وعيونهم مفتحة، وأوقع سبحانه عليهم الهيئة المرعبة حتّى يحميهم، ولا يستطيع أحد أن ينظر في وجوههم، ويعرفهم.

ص: 129

سورة الكهف [18: 19]

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} :

{وَكَذَلِكَ} : ولم يقل: ثم بعثناهم، وإنما قال: وكذلك بعثناهم؛ أي: كما ضربنا على آذانهم، وأنمناهم وحفظناهم أحياء لثلاث مائة سنين، وتسع؛ فهم لم يموتوا، وإنما ناموا؛ كذلك بعثناهم؛ أي: آية نومهم تشبه آية بعثهم كلاهما يدل على عظمة الخالق.

{بَعَثْنَاهُمْ} : أيقظناهم من نومهم بعد (309 سنين).

{لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} : ليتساءلوا: اللام: لام التّعليل؛ يسأل بعضهم بعضاً.

{قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} : كم: استفهامية، وتستعمل للسؤال عن العدد، وهناك كم الخبرية؛ كقوله:{كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31].

أي: سأل سائل منهم كم لبثتم: اللبث: الإقامة المحدودة بزمن محدد؛ أي: كم مر علينا من الزّمن في نومنا، أو كم استغرقنا في نومنا.

{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} : قال بعضهم: يوماً أو بعض يوم؛ لأنّهم شاهدوا أن شعرهم، وشكلهم، وهيئتهم لم تتغير كثيراً.

{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} : وألهم الله بعضهم الآخر للإجابة بالقول ربكم أعلم بما لبثتم، ودعونا من هذا السّؤال نريد أن نأكل:

{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} : الوَرِق: العملة من الفضة مضروبة، أو غير مضروبة؛ فهم لا يزال معهم دراهم من الفضة؛ الوَرِق: الفضة.

{إِلَى الْمَدِينَةِ} : لم يذكر اسمها؛ لأنه ليس مهم.

{فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} : أزكى: أي: الحلال الطّيب الجيد، أو الأبعد عن الحرام.

{فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} : فليأتكم: الفاء: للترتيب، والمباشرة.

{بِرِزْقٍ مِّنْهُ} : بطعام (الطّعام رزق).

{مِّنْهُ} : من: البعضية؛ أي: من بعضه.

{وَلْيَتَلَطَّفْ} : اللام: للتوكيد؛ ليذهب، ويأتي بالطّعام لنا بلطف وخفاء؛ ليتلطف في المعاملة؛ أي: يحاول جهده أن يكون لطيفاً ممن يشتري منه؛ فهم ما زالوا على حذر، وخوف من قومهم الّذين ليسوا على ملتهم، أو شريعتهم، وأنّهم يلاحقونهم، ويبحثون عنهم، هكذا ظنوا أنّهم لا زالوا في زمنهم قبل (309 سنة).

{وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} : ولا: لا: النّاهية.

{يُشْعِرَنَّ} : النّون: نون التّوكيد.

{وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} : أي: لا يخبرن، أو لا يطلعن أحداً بمكانكم، ولا يفعل، أو يقول شيئاً يؤدي إلى الشّعور بنا؛ سواء أكان بغير قصد أم الخطأ.

ص: 130

سورة الكهف [18: 20]

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} :

{إِنَّهُمْ إِنْ} : إنّهم: للتوكيد.

{إِنْ} : شرطية تفيد احتمال الحدوث، أو النّدرة، أو الافتراض.

{يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} : يطَّلعوا عليكم، أو يظفروا بكم، أو يعلموا مكانكم.

{يَرْجُمُوكُمْ} : أي: يقتلوكم رمياً بالحجارة.

{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} : في شريعتهم كرهاً، والملة: هي الشّريعة، أو الطريقة، أو المذهب. ارجع إلى سورة إبراهيم، آية (13)؛ للبيان.

{وَلَنْ} : للنفي للمستقبل القريب، أو البعيد.

{تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} : إذا عدتم في ملتهم، أو أحيط بكم؛ فلن تفلحوا.

{تُفْلِحُوا} : تنجو من عذاب الله، وتفوزوا بالآخرة؛ أي: بالجنة.

{إِذًا} : حرف جواب، وجزاء للتوكيد.

{أَبَدًا} : للتوكيد؛ أي: إذا عدتم في ملتهِم، وأمّا إذا عثروا عليهم ورجموهم فهم سيكونوا شهداء في سبيل الله.

[21ٍ]{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} :

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : وكذلك؛ أي: مثل ذلك (تفيد التشبيه)، كما بعثناهم أحياء ليتساءلوا بينهم.

{أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أطلعنا عليهم النّاس الّذين جاؤوا بعد (3 قرون).

{لِيَعْلَمُوا أَنَّ} : ليعلموا: اللام: لام التّوكيد.

{أَنَّ} : لزيادة التّوكيد.

{وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : وعد الله بالبعث حق، وعد الله حق؛ أي: ثابت لا يتغير؛ لأنّ الضّرب على آذانهم وهم رقود لمدة ثلاث مائة سنين وتسع يشبه، أو يمثل حياة البرزخ، ثمّ بعثهم يمثل حالة من يبعث من قبره، ويساق إلى أرض المحشر عند قيام السّاعة.

{وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} : أنّ: للتوكيد، ولم يقل: آتيه؛ لأنّه في هذه الآية لا يتحدث عن السّاعة؛ أي: لحظة تهدم النّظام الكوني، وإنما يتحدث عن ساعة قيام الفتية من نومهم، وبعثهم بعد (309 سنة) دليلاً على آتيه، وكلمة ليعلموا: تعود على أصحاب الكهف، أو تعود على قومهم؛ فإذا كانت تعود على أصحاب الكهف؛ فهم يعلمون أنّ وعد الله حق؛ لأنّهم يؤمنوا بالله، ولو قال: كي يعلموا ذلك؛ يعني: أن الفتية لا يعلموا أن وعد الله حق، وهذا ليس صحيحاً، وإذا كانت تعود إلى قومهم.

{لِيَعْلَمُوا} : اللام: للتأكيد؛ ليعلموا قومهم من إحياء أصحاب الكهف أنّ وعد الله بالبعث حق، وأنّ السّاعة؛ أي: ساعة تهدم النّظام الكوني لا ريب فيها؛ فكلا المعنيين وارد.

{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} : إذ: ظرف زماني للزمن الماضي.

{يَتَنَازَعُونَ} : بصيغة الفعل المضارع الدّالة على التجدد، والتكرار، أو حكاية الحال، لم يقل: تنازعوا: للدلالة على الماضي؛ لأنّ الكثير من النّاس لا زالوا يتنازعون، يتخاصمون في أهل الكهف، وعددهم، ومكانهم، وشأنهم، والتّنازع في ذلك الزّمان حدث بين أفراد الجماعة الّتي عثرت على أصحاب الكهف بعد بعثهم من مرقدهم، والتّنازع في اتخاذ بنيان لهم يضم قبورهم، أو اتخاذ مسجدٍ عليهم.

وانتبه إلى تقديم كلمة بينهم بدلاً من قوله؛ إذ يتنازعون أمرهم بينهم؛ أخر كلمة أمرهم؛ لأنّ أمر أصحاب الكهف لم يُعد سراً، والكلّ يعلم بقصتهم، والنّاس كلهم قد آمنوا حين عُثر عليهم بعد (309 سنة)، ولنعلم أن الكثير من النّاس حتّى يومنا هذا لا زالوا يتنازعون في أصحاب الكهف عددهم ومكانهم وقصتهم.

ولو قارنا هذه الآية مع الآية (62) من سورة طه: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} : الآية تتحدث عن سحرة فرعون قبل إلقاء عصيهم، وحبالهم.

ففي هذه الآية جاء بفعل ماض: تنازعوا، وجاء بكلمة: أمرهم قبل بينهم؛ فقال: أمرهم بينهم؛ قدم أمرهم هنا؛ لأنّه كان أمر سري، وهام، ولم يطلعوا السّحرة عليه أحداً من النّاس، وأمّا المجيء بالفعل الماضي تنازعوا؛ لأنّ التّخاصم، والتّنازع بين السّحرة كان مرة واحدة وانتهى بعد أن تبين لهم الحق حين ألقى موسى عصاه، والتقفت ما صنعوا، وبعدها آمنوا برب العالمين، وانتهى الأمر.

{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا} : قسم من الّذين عثروا على أصحاب الكهف اقترحوا أن يبنوا عليهم بنياناً.

{بُنْيَانًا} : من البناء، والبنيان يختلف عن البناء؛ البنيان: هو الثابت الّذي لا يتغير، ويدوم قروناً طويلة؛ مثل: الأبنية الأثرية التاريخية؛ كالأهرامات. أما البناء: ليس ثابتاً قد يتغير؛ مثل: المنازل العادية.

{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} : أي: قال الأكثرية؛ أي: أهل المدينة المؤمنون، أو الرّؤساء القادة؛ أي: الملك، وأصحابه المؤمنون: لنتخذن عليهم مسجداً.

{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} : لنتّخذنّ: اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد؛ أي: لنبنينَّ عليهم مسجداً.

ص: 131

سورة الكهف [18: 21]

ص: 132

سورة الكهف [18: 22]

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدًا} :

{سَيَقُولُونَ} : السّين: للاستقبال القريب؛ سيقول الّذين يتنازعون في أمرهم؛ أي: يخوضون في قصتهم. ويقولون: بصيغة المضارع الدالة على التجدد والتكرار، ولم يقل قالوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالوا خمسة سادسهم كلبهم.

{ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} : عددهم ثلاثة رابعهم كلبهم.

{وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} : ويقولون عددهم: خمسة سادسهم كلبهم.

{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} : رجماً: مشتقة من الرّجم بالحجارة الّتي لا تصيب المرمى، أو يرمي إلى مكان لا يعرف مداه، واستعيرت لرمي الكلام من غير علم، أو دليل؛ أي: ما قالوه من باب الظّن بدون علم.

{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} : قالوا: زيادة حرف الواو في كلمة وثامنهم: تدل على الاهتمام؛ أي: التّوكيد؛ فقالوا: هذا هو الأقرب إلى الصّواب؛ أي: عددهم سبعة، وثامنهم كلبهم؛ لأنّ الواو يؤتى بها في أماكن الاهتمام، والتّوكيد.

{قُلْ رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: لا داعي للجدال في عددهم، ولا يهم معرفة عددهم، والأفضل أن تردوا ذلك إلى الخالق إذا لم تكونوا على يقين؛ أي: قولوا: الله أعلم بعدتهم.

{مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} : فالله سبحانه يعلم عددهم، وحالهم، وإيمانهم منذ الأزل، وكذلك هناك عدد قليل من النّاس يعرف عددهم، وحقيقتهم.

{مَا} : النّافية.

{إِلَّا} : تدل على الحصر، وما يعلمهم إلا قليل.

{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تُمَارِ} : من المراء: وهو الجدال بعد ظهور الحق؛ أي: حسبك ما قصصنا عليك، وأطلعناك عليه من أمر أهل الكهف؛ فلا تزد، أو تنقص عند الحديث عنهم، فلا تمار فيهم؛ أي: تخوض في الحديث عنهم بعدما تبين لك الحق إلا مراء ظاهراً؛ أي: بحجة ويقين، فلا تجادل مثلاً في أسمائهم، أو مكانهم، أو عددهم، وإنما جادلهم بما أخبرناك به من الآيات والذكر الحكيم.

{وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدًا} : ولا: لا: النّاهية.

{تَسْتَفْتِ} : من الفتوى، أو طلب الفتيا، ولا تسأل أحداً عن أمر من أمورهم لا تعلمه عن أصحاب الكهف؛ أي: لا تسأل أحداً من أهل الكتاب عن أي شيء آخر لم نطلعك عليه، وما أخبرناك عنهم يكفي، ولا تحتاج إلى ذلك، وانتهى الأمر.

ص: 133

سورة الكهف [18: 23]

{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} :

سبب نزول هذه الآية كما روى ابن عباس: عندما سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح، وأصحاب الكهف، وذي القرنين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: سأخبركم غداً، ونسي أن يقول: إن شاء الله؛ فتأخر الوحي بالنّزول لفترة قيل خمسة عشرة ليلة؛ فشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرج من قريش، ثمّ نزل جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجوبة الثّلاثة، كما جاء في هذه الآيات، وحين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام لما تأخر عنه؟ جاء الرّد في الآية (64) من سورة مريم:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .

{وَلَا تَقُولَنَّ} : ولا: الواو: استئنافية؛ لا: النّاهية.

{تَقُولَنَّ} : النّون: فيها للتوكيد.

{لِشَاىْءٍ} : اللام: لام التّعليل؛ شيء: أي: شيء جاءت بصيغة النّكرة؛ لتشمل كلّ شيء، أو أمر، والشّيء: هو أقل القليل.

{إِنِّى} : إنّي: للتوكيد.

{فَاعِلٌ} : بالتّنوين، ولم يقل فاعلُ؛ لأنّ فاعلٌ: اسم فاعل يدل على الحال، أو الاستقبال، أمّا لو قال فاعلُ يدل على أنّ الفعل حدث في الماضي؛ أي: لا تقولن لشيء سأفعله غداً، أو في المستقبل إلا أن يشاء الله.

{ذَلِكَ غَدًا} : ذلك: اسم إشارة تشير إلى الشّيء.

{غَدًا} : المراد بالغد ما يستقبل من الزّمان، ولا يعني بالضّرورة الغد بعد (24) ساعة، فالغد يطلق على المستقبل من الزّمان.

ص: 134

سورة الكهف [18: 24]

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} :

{إِلَّا} : أداة استثناء، وحصر.

{أَنْ} : أن: حرف مصدري يفيد التّعليل، والتّوكيد، والاستقبال. إلا: أداة استثناء.

{يَشَاءَ اللَّهُ} : أي: أراد، ولم يقل: إن يشاء ربك: لأنّ هذا الأمر؛ أي: القول: إن شاء الله: هو أمر تعبدي، والعبادة تخص الإلوهية (الله -جل وعلا- ).

وإن شاء الله: تأتي عادة في سياق الأمور التي نقوم بها بأنفسها، أما بإذن الله: تأتي في سياق الأمور التي لا دخل لنا فيها، بل هي بتدبير خارج عن إرادتنا.

{وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} : لها معنيين:

المعنى الأوّل: أي: إذا قلت سأفعل كذا، وكذا، ونسيت أن تقول إن شاء الله، ثمّ تذكرت أنّك لم تقل ذلك؛ فقل عندها: إن شاء الله، ولو كان الوقت متأخراً؛ فمتى تذكرت قل: إن شاء الله، وهذا هو قول الجمهور، وابن عبّاس رضي الله عنهما

وغيرهم.

المعنى الثّاني: إذا وقع النّسيان لشيء، ثمّ تذكرت أنّك لم تقل: إن شاء الله؛ فقل: مثلاً سبحان الله، لا إله إلا الله، أستغفر الله؛ لأنّ النّسيان من الشّيطان، وذكر الله يطرد الشّيطان.

وانتبه إلى هذه الآيات الثّلاثة الّتي تشير إلى علاقة النّسيان بالشّيطان: وأنه قد يكون السبب في النّسيان: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19].

وأمّا الحكمة من إبطاء نزول الوحي جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالله سبحانه وحده يعلم ذلك، ومع ذلك فقد فسر ذلك الإبطاء بعدة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: لتعلم قريش، أو غيرهم: أنّ الرّد على أسئلَتهم، أو عدم الرّد: هو بيد الله وحده، وليس بيد الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن شاء الله فعل، أو إن لم يشأ لم يفعل.

الاحتمال الثّاني: لتعلم قريش، أو غيرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هو إلا وحي يوحى؛ فهو لا يأتي بشيء من عنده، ومن تلقاء نفسه إلا أن يشاء الله وحين يشاء الله سبحانه.

الاحتمال الثّالث: ليعلمنا ربنا أن نقول: إن شاء الله في كلّ أمر يراد القيام به، ولا ننسى ذلك وأن نتوكل على الله وحده.

{وَقُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{عَسَى} : من أفعال الرّجاء؛ سواء يرجى حصوله عن قريب، أو بعيد، وما بعدها متحقق الوقوع غالباً.

{أَنْ} : للدلالة على الاستقبال.

{يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} : أي: يرشدني ربي إلى شيء آخر غير قصة أصحاب الكهف أقرب في الدّلالة وأوضح يدل على نبوتي لهؤلاء المشركين من قريش؛ أي: من الغيبيات (علم الغيب)، أو قصص الأنبياء الآخرين، وغيرها أعظم خبراً من أصحاب الكهف؛ فاستجاب له ربه فأخبره بقصة موسى، والخضر الّتي سترد في الآيات القادمة، ويهدين: بحذف ياء المتكلم لأنها هداية شاملة عامة له ولغيره أن يهديهم ربهم هداية الدين. ارجع إلى سورة القصص آية (22) للمقارنة.

لنقارن هذه الآية (24) من سورة الكهف: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ، وقوله في الآية (22) من سورة القصص:{قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ} .

الاختلاف بين الآيتين يرجع إلى تقديم الهداية (أن يهدين) على كلمة ربي في الكهف، وتقديم كلمة (ربي) على أن يهديني في القصص، وكلمة يهدين في الكهف بدون ياء، ويهديني في القصص بزيادة الياء.

هذا الاختلاف يعود إلى أنّ المقام في سورة القصص يعود إلى كون موسى كان خائفاً، ولا يعرف الطّريق إلى مدين؛ فهو يطلب النّجاة، والحماية، والهداية من الرّب؛ فقدم كلمة ربي؛ لأنّ الرّب هو الهادي؛ أي: مصدر الهداية، ولم يقل: الله؛ لأنّ الله هو المعبود، والمقام مقام هداية، وليس عبودية.

ثانياً: قال يهديني بإضافة ياء المتكلم؛ لأنّ موسى يطلب الهداية الكاملة التّامة؛ لكونه لا يعرف أي شيء عن الطّريق، وأين هو ذاهب.

أمّا آية الكهف جاءت في سياق نسيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن شاء الله، وطلب الرّسول أن يهديه ربه إلى دلالة، أو برهان أقرب من قصة أصحاب الكهف؛ تدل على نبوته، فقصة أصحاب الكهف تكفي، ولكن يطلب قصةً أشد تبين نبوته لقريش فجاءت قصة موسى والخضر؛ فهو يطلب دلالة، أو هداية جزئية، ولذلك حذف الياء، وأخر كلمة ربي؛ لأنّ الموقف لا يقارن بموقف موسى الخائف من أن يضل الطّريق، والقتل، والرّسول صلى الله عليه وسلم ليس في مقام الخوف، أو القتل، كما هو الحال في موسى عليه السلام .

ص: 135

سورة الكهف [18: 25]

{وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} :

{وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ} : ناموا في كهفهم: سمى الكهف كهفهم لما ناموا فيه لمدة طويلة (309 سنة)؛ كأنّه أصبح كهفهم.

{ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} : من السّنين الشّمسية.

{وَازْدَادُوا تِسْعًا} : أي: تسع سنين؛ أي: وزد على ذلك تسع سنين إذا كان الحساب بالسّنة القمرية (300 سنة شمسية = 309 سنة قمرية، كلّ سنة شمسية= سنة قمرية+ 10 أيام).

وكلّ (33 سنة شمسية = 34 سنة قمرية)؛ أي: زيادة سنة واحدة.

وكل (100 سنة شمسية = 103 سنة قمرية).

وكل (300 سنة شمسية = 309 سنة قمرية).

وهذا يعتبر إحدى المعجزات العلمية الّتي أخبر القرآن الكريم بها من قبل أن يُعرف علم الفلك، ودوران الشّمس والقمر. أما تذكير العدد وتأنيثه:

العدد من (3-9) تكون عكس المعدود في التّذكير، والتّأنيث سواء أكانت مفردة؛ أمثلة: سبع ليال، ثمانية أيام حسوماً.

أو مركبة مثل: خمسة عشر مفتاحاً، سبع عشرة طاولة، أو ثلاثة وعشرين يوماً، أو أربعاً وعشرين ساعة.

وأمّا واحد (1)، أو (2) اثنان: فهما وفق المعدود.

ص: 136

سورة الكهف [18: 26]

{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} :

{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} : نزلت عندما قال النّصارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا الثّلاث مئة فقد عرفناها، فأمّا التّسع فلا علم لنا بها؛ فنزلت هذه الآية كما قال ابن السائب: قل الله أعلم منكم بما لبثوا؛ فقد لبثوا (309) قمرية، أو (300) شمسية، وهذا هو الحق والصح.

{لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : تقديم له: يفيد الحصر والتوكيد له وحده؛ أي: هو المختص بعلم الغيب؛ فهو عالم الغيب، والشّهادة، ويعلم الغيب في السّموات، والأرض، ويعلم كم لبثوا في كهفهم، ولستم أنتم أعلم منه سبحانه.

{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} : أسلوب تعجب؛ أي: ما أشد بصره، وما أشد سمعه، لا يغيب عن بصره وسمعه شيء مهما كان خفي، أو جلي صغير، أو كبير كقوله تعالى:{إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} : ما: النّافية.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أي: ما لأهل السّموات، وما لأهل الأرض.

{مِنْ دُونِهِ} : من غيره سبحانه.

{مِنْ وَلِىٍّ} : من: ابتدائية استغراقية تستغرق كلّ ولي، والولي: هو المعين، والقريب؛ أي: ما لأهل السّموات، والأرض من دون الله من أي: معين، أو من يتولى أمورهم، ويدبرها إلا هو وحده سبحانه.

{وَلَا يُشْرِكُ} : لا: لتوكيد النّفي.

{يُشْرِكُ} : في حكمه أحداً؛ لأنّه سبحانه غني عن الشّريك، والولد، وكلّ من في السّموات والأرض.

{فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} : أي: لا حاكم إلا هو وحده.

{أَحَدًا} : توكيد، ولا معقب لحكمه.

ص: 137

سورة الكهف [18: 27]

{وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} :

{وَاتْلُ} : من التّلاوة: وهي اتباع الشّيء بالشّيء، وتلاه تعني: تبعه، والتّلاوة تخص كتب الله، وهي أخص من القراءة؛ فكلّ تلاوة قراءة، وليس كلّ قراءة تلاوة، والتّلاوة تعني: القراءة، وتعني الاتباع؛ أي: واتل تلاوة عبادة، أو تعليماً للنّاس، أو دعوة النّاس إلى ربهم، ولا تعبأ بما يقوله المشركون، والتّلاوة لها أجر كلّ حرف بعشر حسنات.

{مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ} : ما: اسم موصول بمعنى: الّذي، وأوسع شمولاً.

{أُوحِىَ إِلَيْكَ} : عن طريق جبريل، ولمعرفة معنى الوحي: ارجع إلى سورة النّساء، آية (163).

{مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} : من: ابتدائية.

{كِتَابِ رَبِّكَ} : أي: من القرآن الكريم. كتاب ربك: نسب الكتاب إليه: تشريفاً لهذا الكتاب.

{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : ولو كلمة واحدة، أو حتّى حرفاً واحداً منذ أُنزل على قلب محمّد صلى الله عليه وسلم إلى أن يُرفع من الأرض.

{لَا} : النّافية للجنس؛ لنفي كلّ الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.

{وَلَنْ} : لنفي المستقبل القريب، والمستقبل البعيد.

{تَجِدَ مِنْ دُونِهِ} : من غير الله.

{مُلْتَحَدًا} : ملجأ تعدل إليه، أو تميل إليه؛ لتحتمي به، وألحد: مال، وعدل، والالتحاد: الميل؛ أي: لن تجد غير الله سبحانه من تحتمي به، أو يدافع عنك، وينقذك.

بعد ذكر قصة أصحاب الكهف جاءت أوامر الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، والاستمرار في مصاحبة الفقراء، والجلوس معهم، وعدم الطّمع في إيمان بعض الأغنياء، وأمره بقول الحق من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولا إكراه في الدّين، وما أُعد للظالمين من جزاء، وما أعد للذين آمنوا وعملوا الصّالحات.

ص: 138

سورة الكهف [18: 28]

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} :

أسباب النّزول: كما ورد في أسباب النّزول للواحدي: إنّ بعض أشراف قريش طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا نحَّيت عنا هؤلاء؛ أي: سلمان، وأبا ذر، وفقراء المسلمين جلسنا إليك، وأخذنا عنك؛ فنزلت هذه الآية تحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم الاستجابة لمطالب هؤلاء، وإن يثبت، ويجالس الفقراء من المسلمين، ويبقى معهم.

{الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ} : أي: يذكرون ربهم، ويحمدونه، ويسبحونه، ويعبدونه صباحاً، ومساءً؛ كناية عن دوام العبادة.

{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} : يبتغون رضا الله وحده مخلصين له.

{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي: لا تتجاوز عيناك، أو تنصرف، وتبتعد عن هؤلاء الفقراء، والمساكين؛ تتركهم، وتتطلع إلى هؤلاء الأغنياء كأنك تريد زينة الحياة الدّنيا.

{وَلَا تُطِعْ مَنْ} : ولا: النّاهية.

{تُطِعْ مَنْ} : من: للعاقل، والمفرد، والجمع.

{أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} : أي: نسوا الله فأنساهم أنفسهم؛ أي: غفلوا عن ذكر الله، وأعرضوا عن الإيمان به، واتبعوا أهوائهم.

{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} : الهوى: ارجع إلى الآية (56) من سورة الأنعام.

{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} : أمره: طاعته، أو عبادته.

{فُرُطًا} : مصدر بمعنى: الإفراط، أو التّفريط من أفرط في الأمر: تجاوز الحد، وإفراطاً: إسرافاً، وتجاوزاً عما أمر الله، أو التّفريط: التّقصير، أو فرطاً: سفهاً وضياعاً؛ لأنّه يكفر، ويشرك بالله، ويتبع الباطل، كان أمره؛ أي: أعماله إسرافاً وتجاوزاً حدود الله، أو تقصيراً، أو ضياعاً لا قيمة لها.

ص: 139

سورة الكهف [18: 29]

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} :

{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ} : وقل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكُمْ} : أي: هذا القرآن، أو الوحي الّذي جئتكم به هو الحق من ربكم. الحق الأمر الثّابت الّذي لا يتغير، أو لا يتبدل المنهج الرّباني الموصل إلى الغاية، والّذي يصلح به أمر دنياكم، وآخرتكم.

{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِن} : من: شرطية.

{شَاءَ} : منكم فليؤمن بالله، وما أنزل إليكم.

{فَلْيُؤْمِن} : الفاء: جواب الشرط؛ ليؤمن: اللام: للتعليل.

{وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} : من: ابتدائية.

{فَلْيَكْفُرْ} : اللام: للتّعليل، وفي الآية تهديد، ووعيد.

نظير هذه الآية قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ} [البقرة: 256].

{إِنَّا} : ضمير فصل يفيد التّعظيم.

{أَعْتَدْنَا} : هيأنا، وأعددنا، والمسألة منتهية؛ فالنّار مخلوقة فعلاً، ومعدة، وجاهزة.

{لِلظَّالِمِينَ} : للمشركين، والكافرين، والعاصين، واللام: هنا لام الاختصاص، أو الاستحقاق.

{نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} : السُّرادق: كلّ ما أحاط بشيء من حائط، أو دهليز، أو جدران؛ سرادق النّار: أي: ألسنة النّار تحيط بهم من كلّ جانب؛ فلا يفلتون منها.

{وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والافتراض.

{يَسْتَغِيثُوا} : يطلبوا الغوث؛ لإنقاذهم من العذاب، وشدة العطش.

{يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} : استعمال كلمة يغاثوا: أسلوب تهكمي، أو استهزاء، والمهل قيل: هو النّحاس المذاب، أو ماء أذيب فيه معادن مختلفة من حديد، ورصاص، ونحاس، أو دردري الزّيت، أو عصارة الزّيت المغلي.

{يَشْوِى الْوُجُوهَ} : من شدة حرارته قبل شربه يحرق الوجوه، فما بالك بعد أن يشربه.

{بِئْسَ الشَّرَابُ} : بئس من أفعال الذّم؛ أي: ساء الشّراب.

{وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} : تعود على النّار؛ ساءت: من ساء: وهو فعل من أفعال الذّم؛ مثل بئس.

{مُرْتَفَقًا} : من المرتفق: هو الشّيء الّذي يضع الإنسان عليه مرفقه ليجلس مُستريحاً؛ أي: المتكأ، وإطلاق كلمة مرتفق على النّار على سبيل التّهكم، وهل نار جهنم مكاناً للراحة؛ أي: لا تجد فيها أي مرفق من مرافق الحياة الكريمة. ارجع إلى الآية (16) من نفس السورة

ص: 140

سورة الكهف [18: 30]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} :

{إِنَّ} : إن: للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول. آمنوا وعملوا الصّالحات.

{آمَنُوا} : بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفرائض، والسنن، والذكر، والطاعات.

{إِنَّا} : ضمير فصل للتوكيد، والتّعظيم.

{لَا نُضِيعُ أَجْرَ} : لا: النّافية.

{نُضِيعُ أَجْرَ} : أي: سنوفيهم أجور أعمالهم الحسنة، ولن يفوتهم أجر أي حسنة.

{مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} : من: استغراقية تشمل كلّ واحد عمل عملاً حسناً حتّى الكفار؛ فإنّ أجر حسناتهم تعود عليهم في الدّنيا، وليس لهم في الآخرة من نصيب؛ أمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات: فأجرهم يمتد إلى الآخرة، ولم يقل: إنّا لا نضيع أجرهم؛ أي: لم يقيد الأجر بهم فقط؛ فالأجر لهم؛ أي: للذين آمنوا، وعملوا الصّالحات، ولغيرهم، وكلّ من أحسن عملاً.

ص: 141

سورة الكهف [18: 31]

{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ يشير إلى الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات.

{لَهُمْ} : لهم: اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : العدن: الإقامة، أو عدن في مكان؛ أي: أقام في مكان؛ جنات الإقامة الدّائمة الّتي لا تزول، ولا تنتهي.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} : من تحتهم، ولم يقل: من تحتها؛ لأنّ السّياق، والحديث عن المؤمنين الّذين آمنوا، وعملوا الصّالحات، وإذا كان السّياق عن الجنات، والاهتمام بها يقول سبحانه من تحتها؛ أي: تنبع من تحتها، وإذا كانت تنبع من مكان آخر تمر تحتها.

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} : يحلون: يلبسون الحلي فيها في الجنات، والحلي هي الأساور من الذّهب للزينة، والزّخرف، والأساور؛ إما من ذهب، أو فضة، أو لؤلؤ، كما ذكرت الآيات الأخرى.

{مِنْ} : ابتدائية.

{مِنْ ذَهَبٍ} : من اسم جنس (لبيان الجنس).

{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} : من: لبيان الجنس.

{سُنْدُسٍ} : رقيق؛ أي: (الحرير الرّقيق).

{وَإِسْتَبْرَقٍ} : هو الحرير الغليظ ذو اللون الأخضر؛ لأنّ اللون الأخضر مُريح للعين.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} : الاتكاء: هو الجلوس على الجنب الّذي يُريح الإنسان؛ الاضطجاع قليلاً.

{الْأَرَائِكِ} : هي السّرر جمع أريكة، وقيل: الفُرش.

{نِعْمَ الثَّوَابُ} : نعم: من أفعال المدح، نعم الثّواب؛ أي: الجنة، ولباسها، وشرابها، ونعيمها.

{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} : مجلساً ومقراً؛ فالجنة حسنت مرتفقاً، والنّار ساءت مرتفقاً، ويسمى هذا من المقابلة في بديع اللغة. مرتفقاً: ارجع إلى الآية (16) من نفس السورة.

الفرق بين كلمة أساور في هذه الآية، وأسورة في قوله تعالى:{فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزّخرف: 53]. أساور: جمع كثرة، أسورة: جمع قلة.

الفرق بين كلمة يحلون في هذه الآية، وكلمة:{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]. يحلون: الكلام عن المستقبل جاء بالفعل المضارع؛ حلوا: بصيغة الماضي؛ أي: اعتبر الأمر، أو الفعل قد حدث، وانتهى.

ص: 142

سورة الكهف [18: 32]

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} :

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ} : واضرب لهم: اللام: لام الاختصاص؛ أي: لهؤلاء المشركين الأغنياء الّذين طلبوا منك أن تبعد الّذين يدعون ربهم بالغداة، والعشي؛ أي: الفقراء، والمساكين؛ كي يجلسوا معك، ويستمعوا إليك. اضرب لهم مثلاً رجلين: واضرب لهم هذا المثل؛ لكي ينبههم، ويوقظهم، وربما يثير إحساسهم، ويرتدعوا، وهذا المثل مثل حقيقي، وليس تصوري، ويراد بضرب هذا المثل تبين الغموض، وذلك بتشبيه حال بحال، أو الموازنة والمفاضلة بين هذا الغني الّذي جعلنا له جنتين، ولكنه أشرك بالله، واستكبر، وبين الفقير المؤمن الّذي يدعو صاحبه، وقيل أخوه الغني إلى العودة إلى الإيمان، والتّوحيد، ولم يوضح الحق سبحانه من هم هذين الرّجلين؛ لأنّ هذا غير مهم

{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} : الجنة: البستان.

{جَعَلْنَا} : صيرنا له جنتين من أعناب.

{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} : أحطنا كلّ منهما بشجر النّخل، والعنب من الفاكهة.

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} : الّذي هو مصدر القوت الضّروري إذن هيئ له كلّ ما يحتاجه من الفاكهة والزّرع.

ص: 143

سورة الكهف [18: 33]

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} :

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} : كلّ من الجنتين أثمرت، وأينعت، وكلمة كلتا: تعني: كلّ جنة أتت أكلها، ولم يقل أتتا أُكُلها: فهو وحد، وجمع بقوله: أتت أكلها.

{وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـئًا} : ولم تظلم: ولم تنقص منه تعود على أكلها؛ أي: ثمرها، وزرعها، وحبها.

{شَيْـئًا} : الشّيء: هو أقل القليل، وشيئاً: نكرة مهما كان نوعه، وكثرته، أو قلته.

وانتبه إلى قوله تعالى: لم تظلم منه شيئاً: وهل تظلم الأرض، أو هل الأرض هي الّتي تعطي، أو تمنع، أم الله الغني الكريم؟ لقوله في آية أخرى:{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: 35]، والحقيقة: هو الله سبحانه الّذي سخر الأرض، وهو لا يحرم الكافر، أو العاصي أجره إذا قام بعمل خير، وحلال في الدّنيا، وحرث، وبذر، وسقى الأرض؛ فالله سبحانه يعطيه ثواب عمله، ولا يظلمه حقه.

{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} : وفجرنا من التّفجير: فجر الله سبحانه لكلتا الجنتين نهراً يفيض بالماء الغزير الّذي لا ينقطع.

{خِلَالَهُمَا} : اللام: لام الاختصاص؛ أي: نهر خاص بهما لا يشارك فيه أحد. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (90-91)؛ لبيان معنى: فجرنا.

ص: 144

سورة الكهف [18: 34]

{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} :

{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : أي: لصاحب الجنتين ثمر: جمع ثمرة؛ أي: أعطاه الله الثّمر الكثير، وتقديم له يدل على الحصر، والقصر؛ أي: له وحده، وقيل في تفسير ثمر: مال، أو ثمر كثير باعه، فأصبح غنياً؛ لأنّه قال لصاحبه: أنا أكثر منك مالاً؛ فالثّمر قد يعني: الثّمر الكثير العادي بأشكاله المختلفة، والمال، والولد.

{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} : فقال: الفاء: تدل على التّرتيب، والتّعقيب، والصاحب: قد تطلق على الأخ، أو الصديق، أو المسافر، أو من يلازمه في كثير من الأوقات، والصاحب: يطلق على الّذي ينتفع منه، ولا تضر صحبته؛ فإذا كانت صحبته فيها مضرة يطلق عليه: القرين كالشيطان؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].

{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} : هو: يفيد التّوكيد. الحوار: مناقشة بين طرفين كلّ منهما يبدي رأيه في مسألة الإيمان، والكفر، أو طلب الدّنيا، وطلب الآخرة.

{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} : هذا القول يدل على الفخر، والتّكبر، أو الاستعلاء. النّفر: قيل: من (3-10).

{وَأَعَزُّ نَفَرًا} : إما ولداً، أو عشيرة، أو أعواناً. أعز: أكثر، أو أشد عزة، والنّفر: الّذين ينفرون معه للدفاع، أو القتال، أو الخروج لأمر طارئ.

ص: 145

سورة الكهف [18: 35]

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} :

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} : الواو: عاطفة؛ أي: دخل جنته، وهو لا زال يحاور صاحبه، دخل جنته، ولم يقل جنتاه؛ لأنّ الإنسان، وإن كان له جنتان؛ فلا يستطيع أن يدخلهما معاً في نفس الوقت، بل يدخل الواحدة، ثمّ الأخرى.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} : معجب بنفسه، ومصاب بالغرور، ومتكبرٌ.

{قَالَ مَا أَظُنُّ} : ما: النّافية. الظّن: حين ترجح كفة الإثبات على كفة النّفي: وهو ضرب من الاعتقاد الخاطئ في هذه الآية.

{أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} : أن: للتوكيد.

{تَبِيدَ} : هذه الجنة: تهلك، أو ينقطع ثمرها، أو تصاب بطارئ مثل إعصار وغيره.

{أَبَدًا} : للتوكيد.

ص: 146

سورة الكهف [18: 36]

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} :

{وَمَا أَظُنُّ} : كما في الآية السّابقة، وتكرارها: للتوكيد.

{السَّاعَةَ قَائِمَةً} : يستنكر البعث، وقيام السّاعة القادم لحظة تهدم النظام الكوني الحالي، ويوم القيامة.

{وَلَئِنْ} : اللام: للتوكيد؛ إن: شرطية: تفيد الشّك، أو الاحتمال.

{رُدِدْتُ إِلَى رَبِّى} : ولم يقل: ولئن رجعت إلى ربي من الرّد، وهو العودة، أو الرّجوع بإكراه، وقسر، أو جبر، وكراهية؛ لأنّه يريد الخلود في الدّنيا؛ لكثرة النّعم الّتي أنعمها الله عليه، أي: ولئن رددت إلى ربي مكرهاً لا خيار لي، ولم يقل: ولئن رجعت؛ لأنّ الرّجوع ليس فيه معنى الكراهية؛ أي: يرجع راغباً، وليس مكرهاً، كما هو الحال في الرّد.

{لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا} : لأجدن: اللام: للتوكيد، والنّون: لزيادة التّوكيد؛ ليعطيني ربي أفضل من جنتي هاتين، وهذا يدل على الغرور، وكأنه يعلم الغيب.

{مُنقَلَبًا} : من الانقلاب: هو الرّجوع إلى حالة غير الحالة الّتي كان فيها؛ فالمنقلب خاتمة الأمر وعاقبته؛ أي: خيراً من جنتك عاقبةً ومصيراً؛ ثلاث كذبات قالها هذا الظّالم، والمغرور بنفسه لأخيه، وهو يحاوره الأولى: ما أظن أن تبيد هذه أبداً، والثّانية: ما أظن السّاعة قائمة، والثّالثة: ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً.

ولنقارن هذه الآية (36) من سورة الكهف: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} : مع الآية (50) من سورة فصلت: {وَلَئِنْ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} : هنا رُجعت: تعني الرّجوع بإكراه مثل رُددت بضم الرّاء، ولم يقل: رَجعت بفتح الرّاء الّتي تدل على الرّجوع برغبة وبدون إكراه.

فالفرق بين الرّجوع والرّد:

فالرّجوع: يكون بالانطلاق من مكان ما، ونية الرّجوع إلى نفس المكان، والرّجوع يكون بإكراه، أو بدون إكراه راغباً في الرّجوع.

وأمّا الرّد: يكون العودة بإكراه، وعدم الرّضا، وليس عنده نية العودة، أو الرّجوع، وكلا الآيتين في سياق الكفر بقيام الساعة واليوم الآخر والكفر بأنعم الله.

ص: 147

سورة الكهف [18: 37]

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} :

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} : ارجع إلى الآية (34) من نفس السورة.

{أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ} : الهمزة في أكفرت همزة استفهامية، وإنكار وتعجب، أتنكر الّذي خلقك من تراب؛ أي: يكفي ما تقوله غروراً، وباطلاً، واستعلاء، وكفر بالنّعمة، وإنكار المنعم، والبعث، والسّاعة، والبعث، والساعة. والكافر غير مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس بالضرورة مشرك، والكفر أعم من الشرك، وكل مشرك كافر، وليس كل كافر مشرك، وصاحب الجنة مشرك وكافر؛ كافر لأنه كفر بنعمة الله ولم يؤدي شكرها بالإضافة إلى الشرك.

{خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} : ارجع إلى سورة الحج، آية (5)، والروم آية (20)؛ للبيان.

{ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} : ثمّ للترتيب، والتّراخي.

{سَوَّاكَ رَجُلًا} : أي: كيف تنسى خالقك الّذي خلقك من تراب؛ سواك رجلاً تشير إلى التسوية، والتي تعني: الصّفات الخلقية الوراثية الّتي يتميز بها كلّ إنسان عن الآخر.

ص: 148

سورة الكهف [18: 38]

{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا} :

{لَكِنَّا} : فيها قراءات مختلفة لكنّا، ولكنَّ، ولكنَّه وأصلها: لكن أنا حذفت الهمزة، وأدغمت النّون في النّون؛ أي: لكن أنا أؤمن بأن الله هو ربي. لكنا: للاستدراك، وكأنه يستدرك مما قاله صاحبه من الكفر، ويستغفر ربه.

{هُوَ} : ضمير فصل للتوكيد.

{اللَّهُ رَبِّى} : جمع بين الإلوهية، والرّبوبية معاً؛ فهو المعبود الّذي يستحق العبادة: وهو ربنا الّذي خلقنا ورزقنا المال، والولد، وكلّ شيء.

{وَلَا} : ولا: النّافية.

{وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا} : ولا: النافية لكل الأزمنة؛ يريد أن يعلم صاحبه كيف يؤمن، ولا يشرك بربه أحداً، وقوله: ولا أشرك بربي أحداً: هو توكيد لقوله: لكنا هو الله ربي.

ص: 149

سورة الكهف [18: 39]

{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} :

{وَلَوْلَا إِذْ} : للحث، والحض؛ إذ: ظرف زمان للزمن الماضي.

{دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} : هلا، أو ليتك تقول عندما تدخل جنتك بدلاً من القول ما أظن أن تبيد هذه أبداً.

أي نقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} : أو هذا ما شاء الله أن يخلق، أو يفعل؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما شاء الله لا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة» .

{لَا} : لا: النّافية.

{قُوَّةَ} : أي: القدرة على مزاولة الأفعال الشاقة.

{إِلَّا} : إلا حصراً بالله.

{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق؛ أي: هذا ليس بقوتي، وحولي، وإنما هذا ما شاء الله تعالى هو الّذي أعطاني القوة، ويسر لي لكي أحصل عليها بفضله وكرمه، وإحسانه (أي: رد النّعمة إلى المنعم والاعتراف بالعجز).

{إِنْ تَرَنِ} : إن: شرطية تفيد الشّك، أو الاحتمال.

{تَرَنِ} : حذفت الياء بدلاً إن ترني؛ لأنّ الرّؤية محدودة، أو مؤقتة بالدّنيا، وليست دائمة؛ لكي يستعمل ياء المتكلم ترني.

{أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} : إن تنظر إلي بأني أقل منك مالاً وولداً؛ فهذا في الدّنيا، وهذا شيء مؤقت وزائل.

ص: 150

سورة الكهف [18: 40]

{فَعَسَى رَبِّى أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} :

{فَعَسَى} : الفاء: للتوكيد؛ عسى: للرجاء المتوقع الحدوث، والإشفاق من حدوث المكروه لصاحبه.

{رَبِّى أَنْ يُؤْتِيَنِ} : أي: أرجو ربي أن يؤتين من الإيتاء: وهو العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ لمعرفة الفرق بين الإيتاء، والعطاء، وحذف الياء في يؤتين بدلاً من القول يؤتيني؛ لأنه عطاء يبدأ في الأخرة ولا يبدأ من الآن يبدأ بعد البعث والحساب.

{خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} : أي: جنة الخلد أو الفردوس.

{وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} : وتعني: عسى أن يرسل عليها حسباناً من السّماء؛ أي: وأخاف، أو أخشى أن يرسل الله عليها حسباناً من السّماء.

{حُسْبَانًا} : عذاباً من السّماء؛ مثل: إعصار فيه نار.

{فَتُصْبِحَ} : الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة.

{صَعِيدًا} : أي: هذه الجنة المليئة بالنّخيل، والأعناب؛ تصبح أرض ملساء لا نبات فيها عديمة النّفع.

{زَلَقًا} : أرض ملساء لا نبات فيها، ولا يثبت عليها قدم؛ أي: تراباً مُبللاً تنزلق عليه الأقدام.

وقول المؤمن لهذا المغرور الضال: عسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ليس من قبيل الحسد، وإنما من قبيل التذكير والتحذير والرجوع إلى الله، والتوبة قبل أن يحل عليها سخط الله وغضبه.

ص: 151

سورة الكهف [18: 41]

{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} :

{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} : غائراً في الأرض، والماء الغائر في الأرض يمكن استخراجه بآلات الضّخ، أو الأجهزة الحديثة، ولذلك قال: فلن تستطيع له طلباً.

{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} : لن: لنفي المستقبل القريب، والبعيد؛ أي: لن تستطيع له طلباً؛ أي: لن يمكن الوصول إليه، واستخراجه بأي وسيلة من وسائل الضّخ والآبار.

ص: 152

سورة الكهف [18: 42]

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} :

وما كان يحذر منه الرّجل المؤمن لصاحبه الكافر وقع بالفعل.

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} : أي: أحاط الدّمار، والهلاك بالثّمر من كلّ جانب ولم يبق فيها ثمر صالح. بثمره: الباء: للإلصاق بكل الثمر الّذي هو الغاية من الزّرع، والحرث؛ لتكون الفاجعة الكبرى.

{فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} : فأصبح: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، أصبح الكافر صاحب الجنتين، يقلب كفيه على ما أنفق فيها كناية عن الحسرة، والنّدم يضرب كفاً على كف ظهراً لبطن لا يتكلم أسفاً، ومتحسراً، ونادماً على ما أنفق فيها: من جهد ومال، وزمن.

{فِيهَا} : ظرفية؛ أي: أنفق عليها؛ فيها: تدل على أنّ الإنفاق مستمر منذ الزّمن القديم بالإضافة إلى الإنفاق الجديد.

{وَهِىَ} : وهي: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} : العروش: هي الدّعائم الّتي كانت منصوبة للأشجار؛ مثل: دعائم شجر العنب. خاوية: أي: تساقطت عروشها على الأرض ولم تعد فائمة.

{وَيَقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا} : يا ليتني تستعمل لتمني النّادر، أو المستحيل، أو الأمور الصّعبة الحدوث، وكأنّه الآن تذكر موعظة صاحبه المؤمن.

ص: 153

سورة الكهف [18: 43]

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} :

{وَلَمْ} : الواو: استئنافية؛ لم: للنفي.

{تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ} : فئة: من فاء رجع؛ أي: لم يكن له من أصحاب، أو جماعة يفيء إليهم لينصرونه، أو يمنعونه من عذاب الله.

{لَهُ} : اللام: لام الاختصاص.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} : ما: النّافية، وما كان قادراً على نصرة نفسه أيضاً.

وإذا قارنا هذه الآية من سورة الكهف مع الآية (81) من سورة القصص: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} (الحديث عن قارون) في آية القصص جاء بكلمة من الاستغراقية، والمنتصرين أكثر عدداً من منتصراً (جماعة مقابل فرد)؛ فالتّأكيد أشد، وأقوى في آية القصص.

حيث في آية الكهف صاحب الجنتين رغم أنّه أحيط بثمرة فقد بقي حياً بينما في سورة القصص قارون قال تعالى عنه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} .

ص: 154

سورة الكهف [18: 44]

{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} :

{هُنَالِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد إشارة إلى الآخرة، أو يوم القيامة.

{الْوَلَايَةُ} : الملك، والسّلطان، والحكم.

{لِلَّهِ الْحَقِّ} : لله وحده حصراً، الحق: الأمر الثّابت الّذي لا يتغير.

{هُوَ} : هو: ضمير منفصل يفيد التّوكيد.

{خَيْرٌ ثَوَابًا} : جزاءً لأوليائه؛ أي: أفضل ثواباً، وجزاءً من غيره.

{وَخَيْرٌ عُقْبًا} : خيرٌ عاقبة ومآلاً ومصيراً.

ص: 155

سورة الكهف [18: 45]

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} :

{وَاضْرِبْ لَهُمْ} : ارجع إلى الآية (32) من نفس السّورة.

{مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} : شبه الله سبحانه حال الحياة الدّنيا في قصرها، وسرعة زوالها، وزهرتها، وبهجتها بحال النّبات الّذي ينزل عليه المطر من السّحاب.

{فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} : فيختلط به تعود على ماء المطر حتّى يرتوي، ويخضر، وينمو، ويستغلظ، ويستوي على سوقه، ثمّ يهيج.

{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ أي: بعد أن يهيج، وينمو يذبل ويصفر، ويصبح يابساً تحطمه الرّياح، وتنثره؛ فيتلاشى، ولا يبقى له أثر، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]، وهذا ما يحدث للإنسان في دورة حياته.

{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} : مقتدراً: اسم فاعل من فعل: اقتدر الخماسي؛ مقتدراً: ذو القدرة العظيمة التّامة الكاملة الّذي لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السّماء.

ص: 156

سورة الكهف [18: 46]

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} :

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : المال والبنون: جمع المال والبنون في حكم واحد وهو زينة الحياة الدنيا، والزّينة: ما يتجمل به الإنسان من الحلي، والذّهب، والفضة، والزّينة: الأمر الزّائد عن ضروريات الحياة، ومقوماتها، ولكنها زينة سريعة الزّوال لا تدوم طويلاً؛ لأنّها متاع الغرور، ومجرد فتنة للناس.

وجاءت هذه الآية في سياق: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} ، وقدم المال على البنون؛ لأنّ المال أعم؛ كلّ إنسان لديه المال، وإن قل. أمّا البنون: فليس كلّ إنسان له بنين؛ فقدم الكثير على القليل.

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} : الباقيات الصّالحات: قيل: هي العبادات (الفرائض)، والذّكر:(تسبيح، وتحميد، وتكبير)، وأعمال الخير، والنّوافل، وسميت الباقيات الصّالحات؛ لأنّها باقية في الآخرة، وغير زائلة بزوال الدّنيا، كما يزول المال والبنون.

{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} : أفضل ثواباً، وجزاءً عند ربك من المال والبنين، فالله سبحانه ثوابه أفضل ثواب.

{وَخَيْرٌ أَمَلًا} : خير طمعاً فيما يطمع النّاس في الحصول عليه من عرض الدّنيا، ومتاعها أملاً في النّجاة من النّار، والفوز بالجنة، ورضوان الله، ورؤية وجهه الكريم، وتكرار خير للتوكيد، ولفصل كلّ منهما على حدة الثّواب، والأمل، وكلاهما معاً.

ولنقارن هذه الآية (46) من سورة الكهف: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} ، والآية (76) من سورة مريم:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} : الاختلاف في خير أملاً، وخير مرداً؛ خير أملاً: انظر إلى ما سبق شرحه، أما خير مرداً: المرد هو المرجع إلى الله تعالى، أو خير مردود؛ أي: تعطي نتاج، أو محصول من الحسنات خير من الأثاث والرِءَيا.

وإذا قارنا هذه الآية (46) من سورة الكهف، مع الآية (14) من سورة آل عمران:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} : الآية في آل عمران تتحدث عن حب الشّهوة؛ بينما الآية في سورة الكهف تتحدث عن حب المال، والبنين؛ فالحب شيء، والشّهوة شيء آخر، فالمحبة تختلف عن الشهوة؛ لأن المحبة يمكن التحكم بها بالإرادة، وأما الشهوة فهي توقان النفس لشيء، وليست من قبيل الإرادة، وشهوة النّساء أقوى الشّهوات عند الرّجل الشاب المعافى من شهوة المال، والأولاد، ولذلك قدمها على حب البنين، والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضة، وقدم شهوة الأولاد على شهوة المال (القناطير المقنطرة) بعكس ما ورد في آية الكهف؛ فالسّياق مختلف في كلّ آية.

وإذا قارنا الآية (46) من سورة الكهف: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} ، والآية (44) من سورة الكهف:{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} .

الآية (46): تتحدث عن الباقيات الصّالحات.

أمّا الآية (44): تتحدث عن الله؛ أي: عن ذاته سبحانه الّذي يثيب على الباقيات الصّالحات، والقائل:{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} متيقن من رحمة الله، وثوابه.

وأمّا القائل: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} : هو متأمل بالوسائل المقدمة لنيل الثّواب والرّحمة، وليس ضامن، وكلاهما مطلوب الأمل واليقين برحمة الله، وثوابه؛ لأن (هو) تفيد التوكيد.

ص: 157

سورة الكهف [18: 47]

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} :

{وَيَوْمَ} : القيامة، ولم يذكر الاسم؛ للتهويل، والتّعظيم.

{نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} : هناك عدة أطوار تمر بها الجبال يوم القيامة، وهي التّالية: الزوال عن أماكنها، وكما قال تعالى:{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} ؛ أي: تسير بسرعة السحاب. ارجع إلى سورة النّمل، آية (88).

والنسف، والدّك كما قال تعالى:{يَنْسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا} [طه: 105].

وتصبح كالرمال {كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14].

ثم مرحلة البس، كما قال تعالى:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} [الواقعة: 5].

ثم تكون كالعهن المنفوش، وتصبح الأرض:{قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 106-107]. ارجع إلى سورة التكوير آية (3) لمزيد من البيان.

{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} : الأرض الجديدة الحاوية على الأرض الحالية بكل ذراتها، ومكوناتها، وأمواتها، والّتي ذكرها الله سبحانه في سورة إبراهيم بقوله:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].

ظاهرة خالية من أي جبل، أو شجر، أو بناء أرض مستوية. أرض جديدة أكبر بكثير من الأرض الحالية؛ قادرة على استيعاب بلايين بلايين البشر.

{وَحَشَرْنَاهُمْ} : من الحشر: هو السّوق، والجمع في أرض المحشر كلّهم: المؤمن، والكافر، والمطيع، والعاصي.

{فَلَمْ} : فلم: الفاء: للتوكيد؛ لم: للنفي.

{نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : لم يتخلف منهم أحداً عن الحشر.

ص: 158

سورة الكهف [18: 48]

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} :

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} : من العرض: الظهور أمام ربهم صفاً صفاً؛ أي: مصفوفين يوم القيامة للحساب، وعرضوا بصيغة الماضي، وهو أمر لم يحدث بعد ومجيئه بصيغة الماضي يدل على قطعية الحدوث؛ أي: اعتبره حدث، وانتهى، والزّمن بالنّسبة لله تعالى كلّه سواء الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لأنّه مالك الزّمان والمكان وخالقهما.

وعند خروجهم من القبور يكونوا كالجراد المنتشر: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 8]، وفي أرض المحشر يكونوا كالفراش المبثوث:{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]، ثم تصفهم الملائكة في صفوف للعرض.

{لَّقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، وزيادة التّوكيد.

{جِئْتُمُونَا} : مشتقة من المجيء، والمجيء فيه معنى المشقة، والصّعوبة؛ لأنّ البعث، والخروج من القبور أمراً ليس سهلاً لما فيه من الخوف، والرّعب، والأحداث الجسام يوم القيامة.

{كَمَا} : كما: الكاف للتشبيه؛ ما: حرف مصدري يفيد التّعليل.

{خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : كما خرجتم من بطون أمّهاتكم حفاة عراة لا شيء معكم فرداً فرداً؛ كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95].

{بَلْ} : بل: للإضراب الانتقالي؛ الخطاب موجه إلى منكري البعث، والحساب.

{زَعَمْتُمْ} : من الزّعم: وهو القول الغير مستند إلى دليل، أو ادعاء العلم، وأكثر ما يقع في الباطل.

{أَلَّنْ} : أن: للتوكيد؛ لن: لنفي المستقبل القريب، والبعيد.

{نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} : للقيامة، والحساب موعداً للعرض على ربكم.

ص: 159

سورة الكهف [18: 49]

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} :

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} : كتاب أعمال العباد في أيديهم في أيمانهم، أو شمائلهم فالمؤمن يأخذه بيده اليمنى، والكافر يأخذه بشماله، أو من وراء ظهره ليقرأ كلٌّ كتابه بنفسه، الكتاب اسم جنس؛ أي: كتاب الأعمال الحسنات، والسّيئات.

{فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} : فترى: الفاء: للترتيب، والتّعقيب، والمباشرة، ترى المجرمين (ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) للبيان) مشفقين: جمع مشفق اسم فاعل من فعل أشفق، والإشفاق: هو الشعور بالتقصير بحق الله، وخائفين يرتعدون من الخوف مما فيه من الأعمال السّيئة، والمعاصي، وبعد أن يقال لكلّ واحد اقرأ كتابك بنفسك فما أن يرى أعماله يقول كلّ منهم:

{وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا} : {يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31]، أو {يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} [الأنبياء: 97]، أو الويلة: الهلكة من الويل وهو الهلاك يدعو على أنفسهم بالهلاك كأنّهم يقولون: يا هلاكنا، يا عذابنا: احضر وأرحنا من هذا البلاء.

{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} : ما: استفهامية للتعجب والدهشة.

{هَذَا الْكِتَابِ} : لهذا: اللام: للتوكيد؛ هذا الكتاب: كتاب الأعمال لم يترك عملاً صالحاً، ولا حسنة، ولا عملاً سيئاً؛ أي: ذنباً إلا كتبه، وأحصاه.

{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} : لا: النافية، صغيرة ولا كبيرة، تكرار (لا) مرة أخرى يفيد لتوكيد النفي، وفصل كل منهما عن الأخرى؛ أي: لا صغيرة، ولا كبيرة، ولا كلاهما. وقوله: لا صغيرة، ولا كبيرة: نفي فيه تقديم الأدنى على الأعلى، وكان يكفي نفي الصغيرة؛ فهو يدل على نفي الكبيرة، ولو قال: ولا يغادر كبيرة ولا صغيرة؛ فهذا النفي من الأعلى إلى الأدنى؛ فقد لا يغادر الكبيرة، ولكنه يغادر الصغيرة؛ فهذه الآية تدل على أن الله سيحاسب العبد على الصغيرة قبل الكبيرة، وحتى لا يتواكل العبد على رحمة الله، والصغيرة: قد تعني صغائر الذنوب، والكبيرة؛ أي: الكبائر.

{إِلَّا أَحْصَاهَا} : إلا: أداة حصر. أحصاها: عدَّها وجمعها وكتبها.

{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} : ووجدوا ما عملوا في حياتهم الدّنيا مكتوباً مسطوراً في كتب أعمالهم؛ أي: ما عملوا في دنياهم أحضر لهم في الآخرة؛ ليروه، ويحاسبوا عليه.

{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} : لا: النّافية للجنس؛ تنفي كلّ الأزمان؛ أي: لا ينقص حسنة من ميزان أحد، ولا يزيد سيئة في ميزان أحد.

{أَحَدًا} : للتوكيد.

ص: 160

سورة الكهف [18: 50]

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} :

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} : أي: اذكر إذ قلنا للملائكة.

{اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} : ارجع إلى سورة البقرة، الآية (34).

{إِلَّا} : أداة استثناء؛ يسمى هذا: استثناء منقطع، أو منفصل المستثنى إبليس، والمستثنى منه الملائكة، وهو ليس من جنسهم؛ لأنّه كان من الجن، وكان مع الملائكة حين أمروا بالسّجود، وكان الأمر يشمله.

{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} : ففسق: الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ فسق: عصى ربه، وخرج عن طاعته، ولم يسجد.

{أَفَتَتَّخِذُونَهُ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب، والخطاب موجه لذرية آدم، والهاء: تعود إلى إبليس.

{وَذُرِّيَّتَهُ} : أتباعه، وسماهم ذريته مجازاً. وهم شياطين الجن والإنس.

{أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى} : جمع ولي: وهو المعين والمساعد. ارجع إلى سورة آل عمران آية (28)

{مِنْ دُونِى} : من غيري، أو سواي.

{وَهُمْ} : هم: ضمير منفصل يفيد التّوكيد.

{عَدُوٌّ} : ولم يقل أعداء؛ لأنّ العداوة مقصورة، أو سببها واحد: هو العداوة في الدّين، ولو كانت العداوة لها أسباب مختلفة، أو عداوات متعددة لاستعمل أعداء.

{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} : بئس: فعل من أفعال الذّم؛ بئس: لمن استبدل طاعة الله بطاعة الشّيطان وذريته.

{لِلظَّالِمِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق. الظّالمين: المشركين؛ استبدلوا موالاتهم لله تعالى بموالاتهم للشيطان وذريته.

ص: 161

سورة الكهف [18: 51]

{مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} :

{مَا أَشْهَدتُّهُمْ} : ما: النّافية.

{أَشْهَدتُّهُمْ} : أي: إبليس، وذريته، والملائكة، والجن، والإنس.

{خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أشهدتهم: أريتهم، أو أطلعتهم كيف خلقت السّموات والأرض، أو شاورتهم، أو استعنت بهم.

{وَلَا} : النّافية نافية للجنس؛ لنفي كلّ الأزمنة.

{خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} : أي: كيف خلقتهم أيضاً.

{وَمَا} : ما: النّافية.

{مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} : جمع مضل من فعل أضل والمضلين هم الشّياطين من الجن والإنس. الّذين يضلون غيرهم.

{عَضُدًا} : شبه المضلين بالعضد، وعَضُداً عُوناً مأخوذة من العضد؛ عُضد الإنسان: وهو من المرفق إلى الكتف، وهو ما يساعد اليد على العمل، ويعطيها القوة؛ أي: ما استعنت بهم، ولا شاورتهم حين خلقت السّموات والأرض، ولا حين خلقت آدم، وفي هذا بيان لكمال قدرته، وعظمته، وغناه عن الأعوان، والشركاء، وأنه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد.

ص: 162

سورة الكهف [18: 52]

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} :

{وَيَوْمَ يَقُولُ} : يوم: نكرة للتهويل والتعظيم القيامة يقول الله سبحانه للكفار والمشركين:

{نَادُوا شُرَكَاءِىَ} : أي: ادعوا شركائي الّذين زعمتم؛ ادعيتم باطلاً في الدّنيا؛ أنّهم شركائي فأطعتموهم، وعبدتموهم، نادوهم لعونكم ومساعدتكم، وإنقاذكم، أو تخفيف العذاب عنكم، أو نادوهم ليشفعوا لكم؛ مثل عيسى، أو عزير، أو الملائكة، أو الأولياء، أو الأصنام، والآلهة.

{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} : الفاء: تدل على المباشرة؛ أي: دعوهم مباشرة ولم ينتظروا؛ أي: نادوا يا عيسى، يا عزير، يا ملائكة، يا فلان، يا اللات، يا عزى، دَعوهم ولم يخافوا، أو يخجلوا من الله؛ لأنهم كانوا موقنين بشركهم.

{فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} : الفاء: للمباشرة، والتّوكيد؛ لم: للنفي، لم يستجيبوا لهم بأي كلمة يسمعوهم.

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا} : مصدر من وبق بمعنى هلك، أو حاجزاً بين الدّاعين، والشركاء.

وكلّ حاجز بين شيئين يسمى: موبقاً. وقيل: موبقاً: اسم مكان؛ أي: مَهْلِكاً؛ أي: كلّ من حاول أن يتعداه هلك؛ من وبق: أي: هلك، وقيل: موبقاً: وادٍ في جهنم، وقيل: الموبق أمداً بعيداً، أو برزخاً بعيداً.

ص: 163

سورة الكهف [18: 53]

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} :

من الرّؤية: أي: وقع بصرهم على النّار؛ أي: هم يرون النّار، والنّار تراهم، كما ورد في قوله:{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]؛ كلاهما يرى الآخر، وكأنه يعرفه.

المجرمون: ارجع إلى سورة الأنفال آية (8) لبيان معنى المجرمون.

{فَظَنُّوا} : علموا، أو أيقنوا من الظّن الّذي وصل درجة اليقين.

{أَنَّهُمْ} : أنّهم: للتوكيد.

{مُوَاقِعُوهَا} : واقعون فيها؛ أي: داخلون فيها.

{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} : لم: للنفي؛ لم يجدوا عنها مكاناً يخرجون منه، أو يهربون منه؛ مثل: الباب، أو النّافذة؛ فهي مطبقة عليهم، وعليها ملائكة غلاظ شداد يحيطون بها. الموبق: موجود، والمصرف مفقود، وكلمة يجدوا، ولم يقل ما وجدوا، لم يجدوا تدل على التّكرار، والتّجدد؛ أي: أنّهم بحثوا مراراً، وتكراراً على المصرف، فلم يجدوا، ولو قال: ما وجدوا تدل على مرة واحدة، وانتهى البحث عن المصرف.

ص: 164

سورة الكهف [18: 54]

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا} :

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَذَا الْقُرْآنِ} : لقد: اللام للتوكيد، وقد: للتحقيق.

{صَرَّفْنَا} : التّصريف بينا الآيات بأساليب مختلفة، وصور شتى لكي يتبين لهم المعنى الحقيقي.

{فِى} : ظرفية.

{هَذَا الْقُرْآنِ} : الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة يفيد القرب.

{الْقُرْآنِ} : لأنّه مقروء، والقراءة تحتاج إلى قرب.

{لِلنَّاسِ} : اللام: لام الاختصاص. النّاس: مشتقة من النّوس؛ أي: كثرة الحركة.

{مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : من: ابتدائية.

{كُلِّ مَثَلٍ} : أي: ولقد بينا في هذا القرآن الأمثال الكثيرة، والكافية؛ لإزالة الغموض، وبيان المجمل والإيضاح، والآيات الدّالة على إلوهية، وربوبية الإله الحق، واجب الوجود: وهو الله سبحانه.

{وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا} : نزلت هذه الآية في أشخاص مثل: النضر بن الحارث كانوا يجادلون بشأن القرآن كما قال ابن عباس، أو يجادلون في البعث كقولهم إذا كنا عظاماً، ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً، كما قاله ابن السائب، أو غيرها من الأسباب.

{جَدَلًا} : من الجدال؛ أي جدل الإنسان أكثر من جدل كلّ شيء آخر، أو هو أكثر المخلوقات جدلاً؛ أي: فاق في جدله كل من اتصف بالجدل، وقوله تعالى {أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلًا} يدل على عمق صفة الجدال في نفس الإنسان. والجدال: هو الحوار الّذي يحصل فيه اختلاف في الآراء بين طرفين أو أكثر لدفع شبهة، أو إثبات حق، أو إظهار حجة.

ص: 165

سورة الكهف [18: 55]

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} :

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} : ما: النّافية.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.

{يُؤْمِنُوا} : بالله، وبما أنزل.

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.

{جَاءَهُمُ الْهُدَى} : القرآن، أو محمّداً، أو الإسلام، والبينات.

{وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} : يستغفروا لذنوبهم، أو يطلبوا من الله المغفرة؛ أي: يستر ذنوبهم، ويمحوها.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد التّعليل، والتّوكيد.

{تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : تأتيهم: في المستقبل.

{سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} : لتعريف السنّة. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (137)، والنّساء، آية (26)؛ للبيان.

{سُنَّةُ} : الهلاك، والدّمار بعد التّكذيب برسلهم.

{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} : عياناً، أو مستقبلاً ديارهم، أو متجهاً نحوهم عندها إذا آمنوا، أو استغفروا فلن ينفعهم ذلك، أو يرفع عنهم العذاب.

ص: 166

سورة الكهف [18: 56]

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِى وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} :

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} : ما: النّافية.

{نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} : الأنبياء، والرّسل.

{إِلَّا} : حصراً.

{مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} : ليكونوا مبشرين لمن أطاع الله تعالى، وصدق برسله، والبشارة تعني: الخبر السّار، ومنذرين لمن عصى الله تعالى، وكذب برسله، والإنذار هو: الإعلام، والتّحذير، والتّخويف، ولمعرفة معنى البشارة: ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)، والنّحل، آية (89)؛ للبيان.

{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} : الجدال: هو الحوار الّذي يحصل فيه اختلاف في الآراء، والمشوب بالمشادة الكلامية، والمخاصمة؛ لإثبات حق، أو دفع شبهة، أو إظهار حجة.

{بِالْبَاطِلِ} : هو ما لا وجود له، ولغةً: هو الزّائل، أو الذّاهب، والباطل في القرآن: يطلق على الشّرك، والأصنام، والشّيطان، ويطلق على الكذب، والظلم، والإحباط.

{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : ليدحضوا: اللام: للتوكيد، والتّعليل؛ يُدحضوا: يزيلوا به الحق مأخوذة من الدّحض: الطين الذي يزلق فيه مشتقة من ادحاض القدم، وهو انزلاق القدم والزلة عن مكانها؛ أي: يجادلوا بالباطل كي يبطلوا ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم، أو يأمرهم به القرآن، أو ينهاهم عنه؛ أي: يجادلوا ليبطلوا الحق أو يزيلوه.

{وَاتَّخَذُوا آيَاتِى وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} : ما: مصدرية، أو اسم موصول بمعنى: الّذي. واتخذوا: جعلوا الإنذار بالعذاب موضع استهزاء، أو استهزءوا بالإنذار، ولم يعبؤوا به. ارجع إلى سورة الزمر آية (48) لبيان معنى الاستهزاء.

لنقارن هذه الآية (56) من سورة الكهف: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِى وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} ، والآية (106) من سورة الكهف:{وَاتَّخَذُوا آيَاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا} : الآية (56) تتحدث عن الاستهزاء بالإنذار نفسه، وأمّا الآية (106): تتحدث عن الاستهزاء بالرّسل أنفسهم. ارجع إلى الآية (106)؛ للبيان، والمقارنة؛ فهم استهزءوا بالإنذار، وبالرسل معاً، أو منهم من استهزأ بالنُذر، ومنهم من استهزأ بالرّسل.

ص: 167

سورة الكهف [18: 57]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} :

{وَمَنْ أَظْلَمُ} : من: استفهامية، ولم يقل: لا أحد أظلم، بل قال: ومن أظلم: استفهام يحمل معنى الإقرار؛ لكي يجيب المسؤول بنفسه بالقول: لا أحد أظلم على وزن أفعل.

أمّا لو قال: لا أحد أظلم؛ فهذا خبر فقط، ولا يحتاج إلى جواب، والإقرار: هو سيد الأدلة، ويطلق على هذا أنّ الخبر جاء بصورة استفهام تقريري لإقامة الحُجة على المسؤول.

{مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} : آيات ربه: آيات القرآن، وتشمل أيضاً الآيات الكونية، والمعجزات

وغيرها.

{فَأَعْرَضَ عَنْهَا} : فأعرض: الفاء: تدل على المباشرة، والتّرتيب؛ تدل على أنّ التّذكير حدث حين أو بعد الجدال؛ أي: جادلوا بالباطل؛ فَذُكِّروا مباشرة بآيات ربهم؛ فأعرضوا عنها مباشرة، ولم يتعظوا بها، أو يتدبروها، أو يستفيدوا منها، وكان من المفروض من أحدهم أن يتريث زمناً قبل إعراضه مباشرة؛ لعله يتدبر ويتفكر؛ فيتوب، ويؤمن، ولكنه بالعكس نسي ما قدمت يداه.

{وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} : نسي ما فعله من الذّنوب، والمعاصي، واختار كلمة يداه بدلاً من ذاته، أو نفسه؛ لأنّ كثيراً من الذّنوب تحدث بالأيدي؛ مثل: القتل، والسّرقة، والشّرك، والظّلم.

{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} : أكنة: أغطية، وحجب؛ فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، وهذا الجعل هُمْ الّذين كانوا سبباً له؛ حيث أعرضوا، وأصموا آذانهم، وطلبوه لأنفسهم.

{أَنْ} : مخففة تفيد التّعليل؛ أي: لئلا يفقهوه، أو يفهموه؛ أي: يفهموا القرآن.

{وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا} : أي: كأنّ في آذانهم، وقراً: ثقل في السّمع، ويختلف عن الصمم؛ فلم يسمعوا جيداً؛ أي: موعظة، أو نصيحة، أو آية.

{وَإِنْ تَدْعُهُمْ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{إِلَى الْهُدَى} : الإيمان، والقرآن، أو الإسلام.

{فَلَنْ يَهْتَدُوا} : فلن: الفاء: للتوكيد؛ لن: للنفي المستقبل القريب، والبعيد.

{إِذًا} : حرف جواب.

{أَبَدًا} : للتّوكيد.

لنقارن هذه الآية (57) من سورة الكهف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، مع الآية (22) من سورة السّجدة:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} .

نجد الاختلاف في استعمال الفاء في آية الكهف (فأعرض عنها) الّتي تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ أي: حصل الإعراض عن الآيات بعد التّذكير بآيات الله مباشرة. بينما استعمل: (ثمّ) في آية السّجدة، ثمّ أعرض عنها الّتي تدل على التّرتيب، والتّراخي في الزّمن؛ أي: حصل الإعراض عن الآيات بعد التّذكير بها بزمن، ولم يحدث مباشرة.

فالإعراض يحصل من الكفار؛ فمنهم من يعرض مباشرة بعد التّذكير، ومنهم من يعرض بعد مرور فترة من الزّمن قد تطول، أو تقصر.

ص: 168

سورة الكهف [18: 58]

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَّوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} :

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ} : الغفور: صيغة مبالغة من الغفر؛ أي: كثير المغفرة للذنوب الكبيرة والصغيرة.

المغفرة: تتضمن ستر الذّنب، وترك العقوبة، وإثابة المغفور له على أعماله الصّالحة.

{ذُو الرَّحْمَةِ} : ذو: بمعنى: صاحب وذو اسم من الأسماء الخمسة تضاف للتابع بينما صاحب تضاف للمتبوع، وذو: أشرف، وأفضل في الثّناء من كلمة صاحب. ذو الرّحمة: ذو النّعمة، والرّحمة: تشمل العافية، والرّزق، وتأخير العذاب، ولكونه يغفر الذّنوب إلا الشّرك، يرحم المؤمن، والكافر، والمطيع، والعاصي في الدّنيا، ويرحم عباده المؤمنين في الآخرة. ارجع إلى الآية (10) من نفس السّورة.

{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا} : لو: شرطية.

{يُؤَاخِذُهُمْ} : يعاقبهم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق؛ باء: السّببية، أو للتعليل؛ ما: اسم موصول بمعنى: الّذي كسبوا، أو مصدرية.

{كَسَبُوا} : من الذّنوب، والسّيئات، والكبائر.

{لَعَجَّلَ} : اللام: للتوكيد.

{لَهُمُ} : اللام: لام الاختصاص لهم خاصة.

{الْعَذَابَ} : في الدّنيا، ولكنه حليم يمهل، ولا يهمل.

{بَلْ} : حرف إضراب انتقالي.

{لَهُمْ مَّوْعِدٌ} : يعذبهم فيه، والموعد: زمن، أو يعني: يوم للجزاء، والحساب، والعذاب.

{لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ} : من غير الله، أو سواه. لن: للنفي المستقبل القريب، والبعيد معاً.

{مَوْئِلًا} : ملجأ يلجؤون إليه، أو منجى مشتقة من آل فلان إلى؛ أي: لجأ.

الفرق بين ملتحداً، الآية (27)، وموئلاً، الآية (58): الملتحد: أي: لن تجد غير الله إلهاً تحتمي به. موئلاً: أي: لن تجد مكاناً تلجأ إليه، أو منجىً، أو محيصاً.

ص: 169

سورة الكهف [18: 59]

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} :

{وَتِلْكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، وتشير إلى القرى البعيدة عن مكة. واستعمل اسم الإشارة رغم أن الآيات السابقة لم تشمل أسماء أو ذكر القرى الهالكة؛ لأن العرب كانوا يعرفون ديار عاد وثمود ولوط ومدين وهي مشاهدة أمامهم يستطيعون إنكارها.

{الْقُرَى} : قرى عاد، وثمود، وصالح، ولوط

وغيرها، والقرى يعني: أهلها بالإضافة إلى البنيان.

{أَهْلَكْنَاهُمْ} : دمرناهم، وقضينا عليهم بذنوبهم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (4).

{لَمَّا ظَلَمُوا} : لما: ظرف زمان بمعنى حين.

{ظَلَمُوا} : بالشّرك، وتكذيب الرّسل، والمعاصي، وعدم الإيمان.

{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} : موعداً: اسم زمان، واسم مكان؛ أي: جعلنا زمناً، ومكاناً (متى وأين) ننزل بهم العذاب. مهلكهم: من مَهْلَك: وهو مصدر ميمي من فعل هَلَك، ومَهْلِك: بكسر اللام يعني: مكان وزمن محدد لإهلاكهم لا يتأخرون عنه ساعة، ولا يستقدمون.

ص: 170

سورة الكهف [18: 60]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا} :

المناسبة: جاءت قصة موسى مع الخضر في سورة الكهف- مع العلم أنّ كفار مكة لم يسألوه عن موسى، أو الخضر- لتبين لكفار مكة، وأهل الكتاب صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت هذه القصة استجابة للآية:{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ؛ أي: عسى أن يخبرني ربي خبراً، أو بينةً، أو قصةً أقرب، أو أوضح بياناً، وبرهاناً من قصة أصحاب الكهف، وذي القرنين ترشد، أو تهدي أهل مكة الّذين لم يصدقوا بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم.

فهم يسألون عن أصحاب الكهف؛ فجاءت قصة موسى والخضر دليلاً آخر وأهم من قصة أصحاب الكهف على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} :

أسباب النزول: عن أُبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه؛ إذ لم يردَّ العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به فأخبره» رواه البخاري ومسلم.

وإذ: أي: واذكر إذ قال موسى، أو حين قال موسى عليه السلام بن عمران لفتاه قيل: هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف كان يتبع موسى، ويتعلم منه، واختار كلمة فتاه بدلاً من صاحبه؛ لأنّ فتاه تحمل معنى اللطف، والحنان، والاحترام. ارجع إلى الآية (10) من نفس السورة لمعرفة معنى الفتية.

{لَا أَبْرَحُ} : لا: النّافية.

{أَبْرَحُ} : أمضي سائراً إشارة إلى تصميم موسى عليه السلام على أنّه سوف لا يألو جهداً، أو طاقة، أو سعياً سائراً حتّى يلتقي بالعبد الصّالح الّذي أخبره الله سبحانه عنه بأنّه أعلم من موسى، ثمّ أوحى إلى موسى كيف يجتمع بهذا العبد الصّالح، وما حدث في اللقاء وكيف كانت الخاتمة هذا ما ستبينه الآيات (60-82).

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.

{أَبْلُغَ} : حتّى ألحق بهذا العبد الصّالح، وألتقي به عند مجمع البحرين.

{مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} : مُلتقى البحرين، ولم يُبين هذين البحرين.

{أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا} : أي: أسير زمناً لا نهاية له.

{حُقُبًا} : أي: أحقاباً، أو أزمان طويلة، وقيل: الحقب (80 سنة)، أو دهراً طويلاً يخبر موسى فتاه لكي يستعد لهذه الرّحلة الطّويلة.

ص: 171

سورة الكهف [18: 61]

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} : وصلا مجمع البحرين أفضل ما قيل عند نقطة التقاء خليج العقبة وخليج السويس.

{بَيْنِهِمَا} : بين: ظرف مكان؛ أي: مكان اختلاط مائهما، والبين: هو الفراق، والبعد الفاصل.

{نَسِيَا حُوتَهُمَا} : في هذه الآية قال تعالى: نسيا (بالمثنى)، وفي الآية (63) من نفس السورة قال: نسيت (بالمفرد)، الحقيقة كان واجب موسى وفتاه أن يكونا حذرين ولا يغفلا عن ذلك الأمر المهم؛ لأن موسى كان متعباً ونام أو أخذته سِنة عند الصخرة ولم يشعر بما حدث للحوت، ونسي يوشع أن يخبر موسى عن الحوت (السمك الحوت)، وقد أعده للأكل، وكان فتى موسى يحمله في مكتل (سلة)؛ فخرج الحوت (السّمكة) من السّلة، ودخل كوة محفورة في الأرض متصلة بماء البحر (سرداب)، وكان موسى في ذلك الوقت في غفوة؛ حيث كانا يأخذان استراحة عند الصّخرة، وهما لا يدريان أنّ هذا هو المكان الّذي يبغيانه، وموسى نائم، ويوشع يقظ؛ فرأى يوشع ما حدث للسمكة كيف أعاد الله سبحانه الحياة لها، وخرجت من السّلة (المكتل)، وتوجهت في طريقها إلى البحر سرباً، وبعد أن أفاق موسى نسي يوشع أن يخبره بما حدث للسمكة.

{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ} : فاتخذ: الفاء: للمباشرة، والتّرتيب؛ اتخذ سبيله في البحر سرباً: اتخذ: شق.

{سَبِيلَهُ} : طريقه، والهاء: هاء الضمير تعود على الحوت (السمكة).

{سَرَبًا} : السّرب نفق صغير سرداب محفور بالأرض ينتهي في البحر؛ أي: خرج الحوت من السلة ودخل في السرب.

ص: 172

سورة الكهف [18: 62]

{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة؛ لما: ظرف زمان بمعنى: حين.

{جَاوَزَا} : ثمّ عاودا السير بعد الاستراحة، وتعدا في سيرهما مجمع البحرين، وهو المكان الّذي يبغيانه.

{قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} : شعر موسى بالجوع فسأل فتاه أن يخرج الطّعام ليأكلان طعام الغداء الّذي يطلق على الطّعام المتناول عند الظّهيرة.

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق، والتّوكيد.

{لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} : أكد موسى على معاناته من التّعب بعد هذا السّفر، ولعل الطّعام يخفف من هذا التّعب.

ص: 173

سورة الكهف [18: 63]

{قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} :

{قَالَ أَرَءَيْتَ} : قال يوشع لموسى عليه السلام : أرأيت: الهمزة همزة استفهام وتعجب.

{إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} : أي: أتذكر.

{إِذْ} : أي: حين أوينا إلى الصّخرة؛ أي: استرحنا عندها.

{فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ} : نسيت أن أخبرك أنّي فقدت الحوت من المكتل، أو هرب الحوت من المكتل. وهل حقيقة نسي أم غفل عما ذكره موسى له أنه يريد أن يبلغ مجمع البحرين وفي ذلك المكان الذي يتخذ الحوت سبيله في البحر سرباً.

{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} : وراح يعتذر لكونه نسي أو غفل أن يخبره بذلك، ونسب ذلك النّسيان إلى نفسه، وهذا نوع من الأدب.

{إِلَّا الشَّيْطَانُ} : تفيد الحصر؛ أي: والشّيطان وحده هو السّبب.

{أَنْ أَذْكُرَهُ} : أن: للتوكيد.

{أَذْكُرَهُ} : أي: أذكر ذلك، وأخبرك به.

{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} : وشق طريقه من المكتل بشكل عجيب؛ كيف دبت به الحياة بعد أن أُعد للطعام، وشويَ على النّار، ودخل في السّرداب عائداً إلى البحر؛ فهذه آية من آيات الله تعالى الدّالة على عظمة قدرته تعالى.

وما أنسانيهُ إلا الشّيطان استعمل الضّمة، وهي من أثقل الحركات لتناسب هذا الأمر الخارق للعادة؛ لكونها أندر حالات النّسيان في أندر، أو أعجب حالات الإحياء.

وفي القرآن فقط حالتين استعمل حركة الضّمة فيهما هذه الحادثة، والآية (10) من سورة الفتح حين قال تعالى:{وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} والّتي نزلت في بيعة الحديبية الّتي كانت من أثقل البيعات، أو المعاهدات؛ لكون الصّحابة بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت؛ فاستعمل أثقل الحركات، وهي الضّمة؛ لتناسب أثقل وأشد العهود، وفخم لفظ الجلالة، وهناك من فسر استعمال حركة الضّم بما يناسب لغة الحجاز حيث يقولون بهُ وإليهُ.

ص: 174

سورة الكهف [18: 64]

{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} :

{قَالَ ذَلِكَ} : قال موسى عليه السلام لفتاه.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ يشير إلى مكان الصّخرة الّتي أووا إليها؛ ليستريحوا عندها؛ هو المكان المطلوب الّذي نبحث عنه.

{مَا كُنَّا نَبْغِ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي نريده.

{نَبْغِ} : ولم يقل: نبغي؛ حذف ياء المتكلم؛ لأنّ موسى عليه السلام يبغي اللقاء بالخضر، ولم يبغ مكان الصّخرة بالذّات؛ فهو علامة على وجود الخضر؛ فبغيته لم تكمل بعد، ولا زال يبحث عن الخضر، ولذلك قال نبغ ولم يقل نبغي، أو لكونه يريد العودة بسرعة إلى المكان الذي فقد الحوت عنده فاختصر الكلام، ولا داعي لذلك لقصر الزمن.

مقارنة بقول إخوة يوسف حين رجعوا إلى أبيهم، ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا: يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا؛ أي: هدفهم النّهائي، أو الحقيقي شراء الميرة؛ أي: الطّعام بما عندهم من البضاعة؛ فهم حققوا هدفهم؛ فذكر الفعل كاملاً: نبغي.

بينما موسى هدفه الكامل الوصول إلى الخضر (العبد الصّالح)، ولم يتحقق بعد فاستعمل: نبغ.

{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} : رجعا في طريقهما إلى الصّخرة، وكانا يتبعان آثار أقدامهما، كما يفعل من يحاول قص الأثر، والوصول إلى الحقيقة.

ص: 175

سورة الكهف [18: 65]

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} :

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا} : عبداً: في اللغة تعني: إنساناً؛ سواء أكان مملوكاً أم حُراً؛ موسى وفتاه وجدا عبداً من عبادنا: هو العبد الصّالح، وقيل: اسمه الخضر، ولكنه جاء بصيغة التنكير للعبد الصالح فقال عبداً، ولم يقل العبد الصالح، والسؤال لماذا هذا التنكير؟ للدلالة أن هذا العبد الصالح ما هو إلا عبد من عباد الله الكثيرين الذين لهم الزلفى عند ربهم.

وسمي بالخضر؛ لأنّه كان إذا جلس أو صلى اخضر ما حوله، أو قيل في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة: أنّه جلس على فروة بيضاء (أي: على الحشيش اليابس) تحول لونها إلى خضراء، والله أعلم.

{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا} : الرّحمة: قيل: الوحي، والكرامة، والمنزلة، والصّلاح، وقيل: درجة النبوة.

{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} : وعلمناه بعضاً من علم الغيب الخاص به.

{مِنْ لَدُنَّا} : لدن: بمعنى: عند، ولكنها أقرب مكاناً، وأبلغ، وأخص من عندنا. انظر كيف استعمل رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علماً. وانظر إلى الفرق بين من لدنا، ومن عندنا، أو منا.

من لدنا: تستعمل للشيء الخاص الّذي يراد إعطاؤه لشخص مقرب إلى الله تعالى؛ مثل: شيء من علم الغيب.

وأما منا: تستعمل للمؤمن، والكافر، والصّالح، والطّالح.

{عِلْمًا} : من علم الغيب من لدن الله عز وجل أوحاه الله تعالى إلى الخِضر.

إذن كلمة من لدنا: أقرب، وأخص، وأبلغ من كلمة: من عندنا، وعندنا: أقرب من كلمة: منا، وقد وردت كلمة من لدنا في القرآن في سبع عشرة آية؛ كلها جاءت في سياق الرّحمة، واللين، والهبة، والإيتاء، والعطاء الخاص.

ص: 176

سورة الكهف [18: 66]

{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} :

{هَلْ أَتَّبِعُكَ} : استفهام يفيد العرض.

{أَتَّبِعُكَ} : بالتّشديد بدلاً من اتْبعك؛ دلالة على شدة حرص موسى على المتابعة، أو المبالغة في الاتباع، والاجتهاد، والسؤال هنا: ماذا حدث لفتى موسى يوشع بعد ذلك؟ لم يخبرنا القرآن بشيء عنه.

{عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} : أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد؛ أي: ليس له غرض آخر غير طلب العلم؛ فهو لا يريد مال، ولا جاه من هذا الاتباع. على: تفيد تحديد المطلوب، والإخلاص في العلم.

{مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} : مما: من: ابتدائية بعضية؛ ما: بمعنى: الذي، أو مصدرية؛ أي: أن تعلمني بعضاً مما عندك من العلم.

مما عُلمت رشداً: علماً ذا رشد، أو علماً يؤدي إلى الرّشد مما علمك الله سبحانه، وتعلمن حذف منها الياء، ولم يقل: تعلمني؛ لأنّ ما سيتعلمه موسى من الخضر علم قليل مهما طالت صحبتهما.

{رُشْدًا} : ولم يقل: رَشَداً. لمعرفة الفرق: رُشداً: مما يهدي إلى الأصلح، والأفضل في الأمور الدّنيوية، والأخروية.

أما رَشَداً: مما يهدي إلى الحق، والخير، والصّواب في الأمور الأخروية فقط؛ فالرُشد أعم من الرَشد.

ص: 177

سورة الكهف [18: 67]

{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} :

{قَالَ إِنَّكَ لَنْ} : قال العبد الصّالح لموسى: إنّك: للتوكيد؛ لن: لنفي المستقبل القريب، أو البعيد. والسؤال هنا كيف علم الرجل الصالح (الخضر) أن موسى لن يستطيع معه صبراً؟ ربما يكون ما فعله موسى سابقاً من البطش بالقبطي، وعدم تريثه في القتل.

{تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} : في هذه الآية ينبه العبد الصّالح موسى عليه السلام إلى طبيعة ما سيتعلم منه من علم بواطن الأمور، وموسى ليس عنده علم بها، وكأنّه يخبره بكلّ تأكيد أنّه لن يستطيع أن يصبر على ما سيراه من صنع العبد الصّالح من أفعال لا يفهم أو يعرف مرادها بالتّسرع بالسّؤال عنها، أو الإنكار. ولم يقل لموسى إنك لن تستطيع صبراً، بل قيد صبر موسى فقال معي؛ أي: ما دمت في صحبتي سينفد صبرك مهما حاولت، أما دون ذلك موسى عليه السلام نبي، ومن سمات النبي الصبر؛ أي: تصبر في الأمور الأخرى، ولذلك لم يقيد صبر موسى ولم يقل إنك لن تستطيع صبراً.

ص: 178

سورة الكهف [18: 68]

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} :

{وَكَيْفَ} : استفهام يفيد الاستبعاد؛ استبعاد أن يصبر موسى على ما سيراه من فعل العبد الصّالح.

ص: 179

سورة الكهف [18: 69]

{قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} :

قال موسى: ستجدني: السّين: للاستقبال القريب.

{إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} : ولم يقل من الصّابرين، وفي هذه الآية أربعة أمور:

الأمر الأوّل: وعد موسى عليه السلام العبد الصّالح بالصّبر، وعلق الصّبر بمشيئة الله؛ فقال: إن شاء الله: إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك في كونه سيصبر.

الأمر الثّاني: قرن الوعد بالرّضا، وعدم العصيان؛ لأنّ الإنسان قد يكون صابراً، وغير راض عما يحدث، أو مُكرهاً على الصّبر.

الأمر الثّالث: صابراً، ولم يقل من الصّابرين ـ جاء بصيغة المفرد ـ ولم يأت بصيغة الجمع الّتي هي أفضل لبركة الجماعة، وأكثر حظاً في القبول مقارنة بدعاء إسماعيل حين أراد تله للجبين قال:{سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصّافات: 102].

الأمر الرّابع: قول موسى عليه السلام للعبد الصّالح: ولا أعصي لك أمراً؛ دليلاً على تواضع موسى عليه السلام رغم أنّه كان نبي زمانه ورسولاً إلى بني إسرائيل، ومن أولي العزم.

ص: 180

سورة الكهف [18: 70]

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسْـئَلْنِى عَنْ شَىْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} :

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى} : قال العبد الصّالح لموسى: فإن اتبعتني: إن شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.

{اتَّبَعْتَنِى} : صاحبتني، هناك شرط فلا تسألني عن شيء حتّى أنا أخبرك به.

{فَلَا تَسْـئَلْنِى} : فلا: الفاء: للتوكيد؛ لا: النّاهية.

{تَسْـئَلْنِى} : عن أي شيء أفعله (شيء: نكرة مهما كان).

{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية؛ أي: حتّى أنتهي من فعله.

{أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} : حتّى أكون أنا الّذي أُخبرك، وأبين لك الشّيء، وإياك وعدم الصّبر، وقبِل موسى شروط العبد الصّالح.

ص: 181

سورة الكهف [18: 71]

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْـئًا إِمْرًا} :

{فَانْطَلَقَا} : الفاء: تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ انطلقا: سارا معاً موسى عليه السلام ، والعبد الصّالح على ساحل البحر ينتظران السّفينة؛ ليركبا فيها. ولم يعد هناك ذكراً لفتى موسى ويبدو أنه لم ينطلق معهما حيث أنه لم يقل فانطلقوا.

{حَتَّى} : حتّى: حرف نهاية الغاية.

{إِذَا} : ظرفية استعملت للزمن الماضي وغالباً ما تكون للمستقبل وقد تستخدم للحال والماضي والاستمرار، وجاءت إذا للماضي في الآيات (74، 77، 86، 90، 93، 96).

{رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} : الخرق: يكون عرضاً، والشّق يكون طولاً؛ خرقها: اقتلع العبد الصّالح لوحاً، أو لوحين من مقدمتها.

{قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} : قال موسى للعبد الصّالح: أخرقتها: الهمزة همزة استفهام إنكار وتعجب.

{لِتُغْرِقَ} : اللام: لام التّعليل.

{أَهْلَهَا} : أصحابها.

{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد؛ قد: للتحقيق.

{جِئْتَ شَيْـئًا إِمْرًا} : جئت: أي: قمت بشيء عظيم بالغ الضرر لا يقوم به ذي عقل ليعرض حياة الآخرين للخطر.

{إِمْرًا} : من أمِر الأمرُ؛ أي: عظم، وكبر؛ أي: أمراً عظيماً بالغ الضّرر.

ص: 182

سورة الكهف [18: 72]

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} :

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ} : قال العبد الصّالح لموسى: ألم: الهمزة استفهام إنكاري؛ لم: حرف نفي.

{إِنَّكَ} : للتوكيد. ولم يقل: ألم أقل لك إنك (كما في الآية 75 من نفس السورة)، فما الفائدة من إضافة لك؟ اللام: للاختصاص، وتفيد التلطف والوعظ، وتحثه على مزيد من الصبر.

{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب، والبعيد.

{تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} : أي: ألم أحذرك بأنّك لن تستطيع معي صبراً، وكان هذا هو الإنذار الأوّل.

ص: 183

سورة الكهف [18: 73]

{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} :

{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} : قال موسى معتذراً من العبد الصّالح: لا تؤاخذني بما نسيت: الباء: للتعليل بسبب نسياني، والنّسيان يرفع المؤاخذة، والنّسيان هنا قد يكون حقيقة هو نسي العهد بينهما على عدم السّؤال، وانتظار العبد الصّالح أن يُبين له لماذا فعل ذلك، أو النّسيان عن عمد وقصد، وعدم الالتزام بما عاهد عليه؛ أي: تركه العهد، أو بما نسيت، أو مجرد عذر اعتذر به، وهو لم ينسى، والله أعلم.

{وَلَا} : تكرار لا تفيد التّوكيد، وفصل كلا الأمرين عدم المؤاخذة، وعدم الإرهاق.

{تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} : ترهقني: من أرهقه؛ أي: غشاه؛ أي: لا تحملني من أمر اتباعك عُسراً ومشقة، أو لا تعاملني بالعسر، والتّضييق يكفيني ما أعانيه.

ص: 184

سورة الكهف [18: 74]

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـئًا نُّكْرًا} :

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا} : ارجع إلى الآية (71).

{لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} : أي: قتل العبد الصّالح الغلام، والفاء: تدل على المباشرة مجرد ما لقيه قتله، ولم يُبين كيف قتله، أو ماذا استعمل لقتله.

{غُلَامًا} : نكرة غير معروف لقياه في الطّريق، بينما قال في الآية (71) ركبا في السّفينة عرف السّفينة؛ لأنّ الخضر كان يعرف أصحاب السّفينة، أمّا الغلام؛ فكان غير معروف للخضر لقياه في الطّريق.

{قَالَ أَقَتَلْتَ} : قال موسى للعبد الصّالح: أقتلت: الهمزة: همزة استفهام، وإنكار.

{نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} : نفساً طاهرة من الذّنوب لم تبلغ سن الحلم، أو بريئة لم تفعل ما يوجب قتلها؛ أي: لم يكن قتلها قصاص، أو حق.

{لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـئًا نُّكْرًا} : لقد قمت بجريمة بشعة تنكرها العقول، والأعراف. لقد: اللام للتوكيد، وقد: للتحقيق والتوكيد.

{نُّكْرًا} : أسوء، وأشد بشاعة، وهولاً أنكر من الأول؛ أي: من إمراً، أو شيئاً تنكره العقول شيء غريب في ظاهره خطأ يدعو للدهشة والغضب والإنكار في عقول البشر (ميزان البشر) لجهلهم الحقيقة وما فعله الرجل الصالح (الخضر) هو صحيح وصواب في ميزان الله تعالى.

وهناك من قال: إمراً أشد هولاً، وعاقبة من نكراً؛ لأنّ خرق السّفينة يؤدي إلى غرق كلّ من عليها؛ أي: الكثير، وأما قتل الغلام؛ فهو واحد فقط.

وهناك فرق بين نُّكْرا ومنكَر: المنكر: هو ينكره الشرع، ويحرمه الله، وهو باطل وإن رضي الناس به.

أما نُّكرا: ما تنكره العقول، وقد يكون في ميزان الله حق وصواب.

ص: 185