الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنبياء [21: 1]
سورة الأنبياء
ترتيبها في القرآن (21)، وترتيبها في النّزول (73).
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} :
{اقْتَرَبَ} : دنا وأقبل، والاقتراب إما أن يكون زمناً أو مكاناً؛ وهنا يعني دنا زمن وقت القيامة أو السّاعة، واقترب: فعل ماضٍ يدل على لزوم الحدث فكأنّ الاقتراب حدث وانتهى، والله سبحانه خالق الزّمان والمكان يستوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل.
{لِلنَّاسِ} : اللام لام الاختصاص تفيد الظّرفية؛ أي: اقترب للناس حسابهم بشكل عام، ولمنكري البعث والآخرة، خاصة، وكلمة النّاس مشتقة من النّوس، وهو الحركة وتشمل الإنس والجن.
{حِسَابُهُمْ} : زمن أو وقت حسابهم، ونتيجة الحساب إما أن تكون لهم؛ أيْ: لصالحهم، أو لغير صالحهم؛ أيْ: عليهم.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{فِى غَفْلَةٍ} : في ظرفية، غفلة: في جهالة وإهمال للاستعداد ليوم الحساب، وعدم الانتباه والحذر، والتنكير في غفلة للتعظيم.
ارجع إلى سورة البقرة آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى الغفلة.
{مُّعْرِضُونَ} : جمع معرض –اسم فاعل من أعرض-؛ أي: ابتعد عنه ولم يتقبل ذلك، أو لم يبالِ به، أو يهتم به.
{مُّعْرِضُونَ} : عن الإيمان بالله ورسوله وبما أنزل على رسوله.
{مُّعْرِضُونَ} : جملة اسمية تدل على الثّبوت؛ أي: الإعراض عن الإيمان أصبح صفتهم الثّابتة.
ارجع إلى سورة النّحل آية (1){أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} للمقارنة.
سورة الأنبياء [21: 2]
{مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} :
{مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} : ما النّافية، يأتيهم من ذكر من ربهم: من آيات أو آية أو قرآن أو وحي أو موعظة أو ما يذكرهم بربهم أو وعيد.
{مُّحْدَثٍ} : جديد؛ أيْ: يسمعونه لأوّل مرة.
{إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} : إلا أداة حصر، استمعوه: استمعوا إليه، والاستماع هو الإصغاء إلى التلاوة بقصد ونية. بينما سمعوه يكون بدون نية أو بشكل عارض.
{وَهُمْ يَلْعَبُونَ} : الواو: حالية، هم للتوكيد، يلعبون: أيْ: وهم منشغلون في لعبهم، ومن دون انتباه وتدبر؛ أيْ: لاهون، واللعب حين يشغل عن واجب يصبح لهواً، ولذلك أتبع ذلك بقوله: لاهية قلوبهم.
سورة الأنبياء [21: 3]
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} : أي: استمعوه وهم يلعبون، وقلوبهم مشغولة بأشياء أو أمور أخرى، وتقديم لاهية قلوبهم، ولم يقل: وقلوبهم لاهية؛ أي: قلوبهم لاهية تعني عن الذّكر المحدث: المنزل من ربهم وغيره من الأمور؛ أي: الكلّ، أمّا لاهية قلوبهم؛ أيْ: لاهية خاصة عن الذّكر المحدث من ربهم، أمّا غيره من الأمور فهي غير لاهية عنها، مثل أمور الدّنيا.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} : النّجوى: المسارة في الحديث، أو خفض الصّوت، ولا بُدَّ من ثلاثة نفر على الأقل لحدوث النجوى، ولمعنى النّجوى: ارجع إلى سورة المجادلة آية (7): للبيان.
وقدَّم النّجوى على الّذين ظلموا بدلاً من القول: وأسروا الّذين ظلموا النّجوى للاهتمام والتّوكيد، وما فحوى النّجوى: هي قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السّحر وأنتم تبصرون، وهذا يسمَّى التّبيين أو الإيضاح بعد الإبهام.
{هَلْ} : استفهام فيه معنى النّفي.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير على محمّد صلى الله عليه وسلم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} : أيْ: ليس بملكٍ أو برجلٍ عظيم أو ليس برسول؛ لأنّه بشر يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، ويمشي في الأسواق.
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} : أفتأتون: الهمزة همزة استفهام وتعجُّب فيه الشّك، أفتأتون السّحر؛ أيْ: تحضرون وتأتون إلى محمّد صلى الله عليه وسلم لتسمعوا إلى سحره، قال: أفتأتون السّحر؛ أيْ: كأنّ محمّداً كلّه تحوّل إلى سحر، فهو ساحر، ومسحور، وما يقوم به السّحر، وأنتم تبصرون: فكيف تُقبِلون عليه وأنتم تعلمون وترون أنّه ساحر يريد أن يسحركم بسحره.
واتهموه بالسّحر أو ما جاء به السّحر؛ لكونه أثّر في نفوسهم تأثيراً قويّاً ولم يستطيعوا مقاومته، وكانوا يظنون كلّ شيء خارق للعادة سحراً. ارجع إلى سورة طه آية (58)، والبقرة (102): لمزيد من البيان.
سورة الأنبياء [21: 4]
{قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :
في الآية السّابقة قال تعالى: وأسروا النّجوى الّذين ظلموا وظنّوا أنّ الله لا يعلم بحالهم.
{قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : فقل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: إنّ ربي يعلم القول في السّماء والأرض؛ أيْ: يعلم ما يقال في السّماء والأرض ولا تخفى عليه خافية في السّماء ولا في الأرض.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{السَّمِيعُ} : يسمع كلّ ما يقال في السّماء والأرض سواء أكان القول جهراً، أم سراً، أم نجوى.
{الْعَلِيمُ} : ويعلم ما يحدث في السّماء والأرض من قول وفعل. وعليم: صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم.
وإذا قارنا هذه الآية (4) من سورة الأنبياء: {قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، مع الآية (6) من سورة الفرقان:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
في سورة الأنبياء قال تعالى: يعلم القول في السّماء والأرض، وفي سورة الفرقان قال تعالى: يعلم السّر في السّموات والأرض:
أوّلاً: القول أوسع من السّر؛ لأنّ القول قد يكون سراً أو جهراً، فالسّر جزء من القول، والسّماء أوسع من السّموات.
فنرى أنّ الله سبحانه جاء بالأوسع مع الأوسع حجماً، وجاء بالأدنى مع الأدنى حجماً، فجاء بالقول (أوسع من السّر) والسّماء (أوسع من السّموات والأرض) معاً، وجاء بالسرّ مع (مُصاحباً) السّموات.
سورة الأنبياء [21: 5]
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} : قالوا؛ أي: الكفار: القرآن أضْغاثُ أحلام؛ أيْ: أخلاط كأنّه أحلام مختلطة ملتبسة غير مميَّزة، فهم تمادوا في طغيانهم، وجهلهم، وضلالهم، فلم يكتفوا بقولهم عن القرآن: سحر، والرّسول: ساحر ومسحور، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وقالوا: أضغاث أحلام ولم يكتفوا بذلك أيضاً فقالوا: افتراه.
{بَلِ افْتَرَاهُ} : بل للإضراب الانتقالي، أيْ: أنّ محمّداً شاعرٌ، والقرآن شعرٌ، ومفترى افتراه؛ أي: اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: كذباً.
{فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} : فالقرآن كلّه وآياته لم تكفهم كآية كمعجزة من السّماء، فهم يطلبوا آية أخرى؛ أيْ: معجزة أخرى تدل على نبوَّة محمّد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل من عند الله، كما أرسل الأولون: الكاف للتشبيه، الأولون: أي: الأنبياء فليأتنا بآية مثل ناقة صالح، أو عصا موسى، أو مائدة عيسى.
سورة الأنبياء [21: 6]
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} :
يردُّ الله سبحانه على أسئلتهم ومطالبهم وقولهم: فليأتنا بآية، فيقول:{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} : ما النّافية، آمنت قبلهم؛ (أيْ: مشركو قريش)، من استغراقية، قرية: أيْ: أهل قرية أهلكناها، وقوله: قبلهم؛ أيْ: سواء كانت قريبة الزّمن، أو بعيدة الزّمن ما آمنت ولا قرية واحدة أرسلنا إليها بآية أو آيات.
{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} : الهمزة استفهام إنكاري، أفهم أيْ: مشركو مكة، أو الكفار إن جاءتهم آية سيؤمنوا، فمن جاء قبلهم لم يؤمنوا رغم إرسال الآية أو الآيات، ولذلك أهلكناهم، وكذلك لو أرسلنا إليهم بآية ولم يؤمنوا لأهلكناهم، وكما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
سورة الأنبياء [21: 7]
هذه الآية رداً على قولهم: هل هذا إلا بشرٌ مثلكم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا} : ما النّافية، أرسلنا قبلك يا محمّد صلى الله عليه وسلم إلا رسلاً وأنبياء رجالاً أيْ: بشراً (ونفى بذلك إرسال أيِّ أنثى نبياً أو رسولاً) وقبلك: تعني من زمن قريب أو بعيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لمعرفة الفرق بين أرسلنا وبعثنا.
{نُّوحِى إِلَيْهِمْ} : نوحي إليهم، والوحي هو الإعلام بالخفاء سواء بإرسال ملك (مثل جبريل)، أو تكليم من وراء حجاب، أو غيره من طرق الإيحاء.
ارجع إلى سورة النّساء آية (163): لمزيد من البيان في معنى الوحي.
{فَسْـئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} : فاسألوا يا مشركو مكة، أو الكفار، أهل الذّكر: أهل القرآن، أو أولي العلم، أو أهل التّوراة والإنجيل من أهل الكتاب.
{إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والشّك، كنتم لا تعلمون: أنَّا لا نرسل إلا رجالاً ولا نرسل ملائكة، فكفوا عن غيِّكم وأسئلتكم الباطلة.
سورة الأنبياء [21: 8]
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} :
وهذا الرّدُّ تتمة للردِّ على قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم.
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ} : ما النّافية، جعلناهم: أيْ: هؤلاء الرّسل إلا رجالاً نوحي إليهم، ولم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام.
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} : أيْ: ما جعلنا الرسل أو الأنبياء ملائكة؛ لأنّ الملائكة لهم أجساد، الجسد= بدن +روح.. ولا يأكلون الطّعام، أمّا الرّسل والأنبياء فهم بشر يأكلون ويشربون، والبشر= بدن+ روح+ نفس.
{وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} : أي: الرسل. ما: تكرارها يفيد توكيد النّفي، وما كانوا خالدين: لأنّ الخلود ليس من صفة البشر والرّسل، إذن هم ميتون كما جاء في سورة الزّمر الآية (30):{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .
سورة الأنبياء [21: 9]
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} :
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ} : أيْ: رسلنا.
{الْوَعْدَ} : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، أو قوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصّافات: 171 - 173].
{فَأَنجَيْنَاهُمْ} : الفاء للتوكيد، أنجيناهم: ولم يقل: نجيناهم، أنجيناهم: تعني بسرعة وقوة، نجيناهم: تعني: ببطء في الزّمن.
{وَمَنْ نَشَاءُ} : معهم من المؤمنين، من استغراقية؛ أيْ: كلّ من نشاء من ذكر أو أنثى.
{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} : الكفار أو المشركين، والمكذبين، والعاصين، والإسراف هو مجاوزة الحدّ في الكفر، والشّرك، والمعاصي.
سورة الأنبياء [21: 10]
{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا} : أي: القرآن الكريم، أنزلنا إليكم القرآن في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، وسمِّي كتاباً؛ لأنّه مكتوب في أسطر، أو في السّطور، إليكم: خاصة لهدايتكم، وفلاحكم. والكتابة تحمي من التحريف والتغيير.
{فِيهِ} : ظرفية.
{ذِكْرُكُمْ} : فيه شرفكم، وعزتكم، وسمعتكم، وفيه دينكم وشرعكم، وفيه ذكركم بين الأمم الأخرى، واستمرار بقائكم. ارجع إلى سورة (ص) آية (1) لمزيد من البيان في الذكر.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة همزة استفهام وتوبيخ، وتعجُّب من ترك التّفكير، ألا: أداة حضٍّ وتنبيه، وتحمل معنى الأمر بالتّفكر والتّدبر للوصول إلى الحقيقة، ومعرفة الحقّ، والموازنة، وفهم الأمور بأسبابها ونتائجها، والوصول إلى أن الله سبحانه هو الإله الحقّ الخالق الّذي يجب أن يُعبد ويطاع.
سورة الأنبياء [21: 11]
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} :
{وَكَمْ} : كم الخبرية تفيد التّكثير؛ أيْ: قصمنا الكثير من القرى.
{قَصَمْنَا} : أي: مزقناها كل ممزق؛ لأن القصم: هو الكسر الّذي يحدث فيه انفصال الأجزاء عن بعضها، وليس فيه أمل الالتئام، إذن القصم أشد من الكسر (الكسر فيه أمل الالتئام)، ويقال للقصم أحياناً الكسر الّذي ترى من خلاله العظم؛ أي: شبه أخذها بالعذاب بالكسر المفتوح وفيه تمزق للأنسجة والأربطة؛ أي: كسرها وقطع أوصالها ومزقها كل ممزق؛ أي: ماتوا بجروحهم، ومن تقطع أوصالهم، وهذه الآية الوحيدة التي ذكر فيها القصم.
{مِنْ قَرْيَةٍ} : من ابتدائية، القرية: تعني أهلها وبنيانها معاً.
{كَانَتْ ظَالِمَةً} : فهذا الشّرط الأوّل كانت ظالمة؛ أيْ: أهلها كانوا كفرة مشركين مكذبين.
{وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} : بعد القصم؛ أيْ: تدميرها، وإهلاك أهلها أنشأنا وتعني: التربية والإعداد والإنشاء: هو أحداث حالاً بعد حال من غير مثال سابق، ومنه يقال: نشأ الغلام؛ أي: نما وتربى وتطور شيئاً فشيئاً، بعدها بزمن قصير أو طويل قوماً آخرين.
سورة الأنبياء [21: 12]
{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} :
انتبه بعد القصم يعود الحق ليفصل لنا ما حدث لتلك القرية من الأحداث قبل القصم، وهذا ما يسمَّى التّفصيل بعد الإيجاز.
{فَلَمَّا} : لما ظرفية زمانية؛ أيْ: حين.
{أَحَسُّوا بَأْسَنَا} : أيْ: شعروا وأدركوا بمجيء عذابنا والبأس القوة والشّدة، أحسوا مجرد الحس والحس من الإحساس، أحسوا بالرّؤية، أو السّمع، أو أيِّ حاسة، أو رأوا ريح مدمرة قادمة، أو صاعقة من السماء فيها رعد وبرق شديد.
{إِذَا هُمْ} : إذا الفجائية، هم للتوكيد.
{مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} : يتركوا منازلهم وقراهم فراراً من العذاب، والرّكض هو الجري السّريع، كما يحدث عندما نرى شيء مروع كالرياح المدمرة بسرعة (200 ميل) أو أكثر القادمة.
سورة الأنبياء [21: 13]
{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْـئَلُونَ} :
{لَا تَرْكُضُوا} : لا النّاهية، القائل مبني للمجهول، لا يهم؛ قد تكون الملائكة تقول لهم توبيخاً وتقريعاً: أين تفرون.
{وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} : ارجعوا إلى نعيمكم من طعام وشراب، وإلى تفاخركم، وأموالكم، وأولادكم، وعشيرتكم، وتجارتكم، وهذا يدل على أنهم كانوا أغنياء، أو كانوا ففراء فيل لهم تهكماً وتوبيخاً. ارجع إلى سورة الزخرف آية (23) لبيان معنى الترف، والمترف.
{وَمَسَاكِنِكُمْ} : قصوركم، وحصونكم، ومنازلكم.
{لَعَلَّكُمْ تُسْـئَلُونَ} : لعل: للتعليل والتّوبيخ، تسألون: لعل أحداً يمر بكم فيسألكم ماذا حل بكم، أو تسألون أنفسكم عما جرى بكم وحاق بكم وما أسباب ذلك العذاب والدّمار؟
سورة الأنبياء [21: 14]
{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} :
كان هذا اعترافهم وإقرارهم حين سُئلوا ماذا حل بهم وجرى بهم قالوا: بسبب ظلمنا.
{قَالُوا} : أيْ: هؤلاء الظّالمون من أهل القرى.
{يَاوَيْلَنَا} : يا للنداء، ويلنا: يا هلاكنا أقبل، أو يا حسرتنا على ما فعلنا.
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} : إنا كفرنا، أو أشركنا بربنا، وهذا اعتراف منهم واضح بالكفر أو بالشّرك الموجب للعذاب، أو الخروج عن منهج الله. ارجع إلى سورة البقرة آية (54) لبيان معنى الظلم.
سورة الأنبياء [21: 15]
{فَمَا زَالَتْ تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} :
{فَمَا} : الفاء استئنافية، ما النّافية.
{زَالَتْ تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} : فما زالوا يردِّدون: يا ويلنا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، دعواهم: أيْ: دعاؤهم المتكرر أو من الدّعوى اعترافهم بالذّنب.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} : حتّى حصدناهم استأصلناهم فأصبحوا كالزّرع المحصود أو النّار الخامدة (الرّماد)، وفي الآية تشبيه الظّالمين في عدائهم لله ولرسوله كالنّار الملتهبة حتّى أخمدها الله، وصارت رماداً.
سورة الأنبياء [21: 16]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} :
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ} : الواو استئنافية، ما النّافية، خلقنا السّماء والأرض: والخلق: بالنّسبة إلى الله هو الخلق من العدم على مثال غير سابق، والخلق لغة هو التّقدير، وخلق السّموات والأرض من أعظم الآيات الكونيّة الدّالة على قدرته سبحانه وعظمة خلقه، والدّالة على وحدانيته، ومرَّت بأطوار مختلفة، ولمعرفة كيف تمّ الخلق، ارجع إلى سورة البقرة آية (22، 29) والآية (30) من نفس السّورة، وفصلت آية (9-12).
{وَمَا بَيْنَهُمَا} : حيث يختلط الغلاف الغازي للأرض بمكونات السماء فيشكل طبقة فاصلة تعد جزءاً من السّماء بالكامل، ولا من الأرض لاختلاف تركيبها.
{لَاعِبِينَ} : أيْ: عبثاً، أو من دون فائدة، أو باطلاً، لاعبين: من اللّعب؛ واللّعب هو اللّهو الّذي يصرف صاحبه عن واجباته ويصبح عبثاً.
فالسّماء والأرض وما فيهنّ من مجرات وشموس، وأقمار، ونجوم، وكواكب، وجبال، وأشجار وغيرها لم يخلقها ربنا عبثاً، وإنّما هي آيات كونيّة تشهد بوحدانية الله تعالى، وتشهد على عظمة وقدرة الخالق، والكلّ مسخّر من الله لخدمة الإنسان ولصلاح الحياة على هذه الأرض، والكلّ يسجد ويسبّح الخالق.
سورة الأنبياء [21: 17]
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} :
{لَوْ} : شرطيّة.
{أَرَدْنَا} : شئنا والمشيئة تسبق الإرادة.
{أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} : أن للتوكيد، نتخذ لهواً: عملاً لا فائدة منه، أو لعباً لا فائدة منه لفعلنا، وقيل: اللّهو: بلغة اليمن الولد (قاله قتادة)، وقال ابن عباس: اللهو: الولد، وقيل: الزوجة (قاله الحسن)؛ أيْ: لو شاء الله سبحانه لاتّخذ ولداً مما يخلق، أو اتّخذ بنات كما ظنّ مشركو قريش أنّ الملائكة بناتُ الله، وقالوا: عيسى ابن الله.
{إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} : شرطية، تفيد معنى الاحتمال والشّك، وفيها معنى النّفي أيْ: ما كنا فاعلين، وإن: أقوى نفياً من (ما).
سورة الأنبياء [21: 18]
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي، الإضراب عن اتّخاذ اللّهو واللّعب وتنزيه لِذاته عن فعل ذلك.
{نَقْذِفُ} : الرّمي بشدّة وبسرعة.
{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق، الحقّ: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدّل، والحقّ: هو القرآن، والإيمان، والتّوحيد؛ أيْ: نبيِّن الحق بإنزال الآيات والبراهين.
{عَلَى الْبَاطِلِ} : الباطل: هو الزائل والذاهب، أو ما لا وجود له، والباطل يطلق على الكذب، والظّلم، والشّرك، والإحباط، أو الإبطال كقوله:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
أمّا الظّلم كقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] فيشمل سائر أنواع الظّلم.
أو الشّرك: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
أو الكذب: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (الكاذبون)[غافر: 78].
{فَيَدْمَغُهُ} : أيْ: يبطله ويزيله. شُبه الحق بشيء صلب كالحديد قُذف به الدّماغ الّذي (شبه بالباطل) مما أدَّى إلى توقُّف عمله وموته.
فيدمغه مشتقة من الدّماغ، ودمغه؛ أيْ: أصاب دماغه فقتله أو أدى إلى تعطيله وإبطال وظيفته، وكذلك الحق حين يقذف على الباطل يزيله ويدمغه ويعطله.
{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} : ولكم اللّام للاختصاص، والويل: العذاب الشّديد.
مما: من+ ما، من للتبعيض، ما: حرف مصدري أو اسم موصول بمعنى الّذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.
تصفون: تفترون على الله الكذب، تصفون به الله سبحانه، أو تصفون رسوله، بالسّاحر، أو الشّاعر، أو المفتري، وغيرها من الأوصاف.
سورة الأنبياء [21: 19]
{وَلَهُ} : أيْ: لله تعالى، اللّام للاختصاص والاستحقاق والملكية.
{مَنْ} : للعاقل عادة وهنا تعتبر استغراقية، تشمل العاقل وغير العاقل، وكيف نوفِّق بين كونها استغراقية وأنّها للعاقل فقط.
لأنّ العاقل وغير العاقل، والحيوان والنّبات والجماد، الكلّ يسبح بحمده لقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
{مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : له كل شيء في السموات من: مجرات وكواكب ونجوم وشموس وأقمار، والأرض: من أشجار وحدائق وأنهار وجبال وكنوز ومعادن
…
وغيرها.
{وَمَنْ عِنْدَهُ} : أي: الملائكة، وعنده: تعني: أنّهم مكرمون، عندية المنزلة، منزلة المقربين.
{لَا يَسْتَكْبِرُونَ} : لا النّافية، لا يتعالون عن عبادته وطاعته.
{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} : تكرار (لا): لتوكيد النّفي، وفصل كلاهما عن الآخر، يستحسرون من الحسر تعني: التّعب والإعياء، إذن هم لا يستكبرون ولا يستحسرون: لا يصيبهم إعياء أو تعب أو ملل، ويستحسرون فيها مبالغة من الحسر، مأخوذة من الحسر وهو البعير المنقطعة قواه من الإعياء والتّعب.
سورة الأنبياء [21: 20]
{يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} :
{يُسَبِّحُونَ} : من التّسبيح والتّنزيه، تنزيه الذّات الإلهية من كلّ نقص، أو عيب، أو عطل، أو ولد، أو شريك.
ارجع إلى سورة الحديد آية (1)، وسورة الإسراء آية (1).
{الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : أيْ: هم في تسبيح دائم لا يتوقف ليلاً ونهاراً؛ أي: طول الليل وطول النهار، ولو قال ليلاً ونهاراً تعني: جزءاً من الليل أو جزءاً من النهار.
{لَا يَفْتُرُونَ} : لا النّافية، يفترون: مشتقة من فتر الشيء؛ أي: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة (لسان العرب)، وهو السّكون والفتور، وهو الشّعور الّذي ينتاب الإنسان بعد التّعب الشّديد؛ أيْ: تسبيحهم دائم لا ينقطع، ومن دون ملل أو كلل.
سورة الأنبياء [21: 21]
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} :
{أَمِ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ، أم: للإضراب الانتقالي.
{اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} : عبدوا آلهة صنعوها من الأرض، آلهة من الحجارة، أو النّحاس، أو الخشب.
{هُمْ يُنْشِرُونَ} : هم ضمير فصل للعاقل يفيد التّوكيد، وأضفى عليها صيغة العاقل لكونهم يعيدونها، ينشرون: من النّشر وهو إحياء الموتى.
أيْ: كيف انصرفوا عن عبادة الإله الحق إلى عبادة الأصنام والأوثان الّتي صنعوها من الأرض الّتي لا تحيي ولا تميت، ولا تنفع ولا تضرّ.
وتقديم كلمة الآلهة من الأرض بدلاً من القول: اتّخذوا من الأرض آلهة للدلالة على أنها حصراً من الأرض، وتفيد التّحقير والتّوبيخ.
سورة الأنبياء [21: 22]
{لَوْ} : حرف امتناع لامتناع؛ أي: امتنع الفساد لامتناع وجود الآلهة إلا الله سبحانه.
أي: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا} : في السّموات والأرض آلهة.
{إِلَّا اللَّهُ} : للحصر فقط إلا الله. وقيل: إلا بمعنى: غير الله، ولا يجوز القول أنها أداة استثناء؛ لأن الاستثناء يعني: هناك آلهة أخرى، وهذا يتنافى مع وحدانية الله تعالى.
{لَفَسَدَتَا} : اللام للتعليل والتّوكيد، فسدتا، أي: السّموات والأرض.
لما قد يحدث من اختلاف بين هذه الآلهة؛ مما يؤدِّي إلى اضطراب في هذا النّظام الفلكي المحكم البديع، وحدثت الكوارث الكونية لما يصدر عنها من أوامر مختلفة متضاربة تؤدِّي إلى الدّمار والهلاك؛ أي: الفساد.
{فَسُبْحَانَ} : الفاء للتوكيد، سبحان: تنزيهاً لله تعالى وذاته عن كلّ عيب ونقص وشريك وولد.
{اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} : الله، المعبود الإله الحق رب العرش الحاكم ومالك الملك والسّلطان.
{عَمَّا يَصِفُونَ} : يزعمون، ارجع إلى الآية (18): للبيان.
سورة الأنبياء [21: 23]
{لَا يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ} :
{لَا} : النّافية.
{يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} : لأنّه مالك الملك، الحاكم، العزيز، الحكيم، والحكم العدل، ولا رادَّ لحكمه؛ لأنّه العليّ العظيم المتفرّد بالألوهية والرّبوبية، ولا معقِّب لحكمه.
{عَمَّا} : عن تفيد المجاوزة والابتعاد، ما مصدرية أو اسم موصول بمعنى الّذي، وأوسع شمولاً من الذي.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يُسْـئَلُونَ} : عن أفعالهم، وأقوالهم، وعما يصفون، وعمّا يفترون. يسألون من غيرهم من البشر، أو ولاة أمورهم، وكذلك يسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون من الكفر والشرك والظلم وغيرها.
سورة الأنبياء [21: 24]
{أَمِ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ والتّعجُّب.
{مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} : أيْ: عبدوا من سواه آلهة قادرة على النّشر؛ أيْ: لو فرضنا أنّهم وجدوا تلك الآلهة القادرة على النّشر والإحياء والبعث.
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} : قل هاتوا برهانكم، والبرهان: هو الحجة القاطعة المفيدة للعلم على صدق دعواكم أنّها آلهة حقَّة.
{هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَّعِىَ} : أي: القرآن المنزّل عليَّ وعلى من معي من المؤمنين.
{وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِى} : التّوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السّماويّة.
ليس فيها أيُّ ذكر أنّ مع الله آلهة أو شريكاً، أو ولياً، أو ولداً، أو أن الله أمر وأوصى بذلك، والحقيقة أنّه ليس عندهم من دليلٍ أو برهانٍ أو سلطانٍ.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} : يعني: أكثر كفار قريش، لا النّافية، لا يعلمون الحق، أيْ: توحيد الألوهية والرّبوبيّة، والصّفات والأسماء، ولا يعلمون ما جاء في الكتب السّماوية السّابقة، ولا يعلمون؛ أي: يميزون بين الحقّ والباطل.
{فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} : عن التّوحيد واتِّباع الأدلة والبراهين، أو اتِّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم للوصول للحق، والحق موجود وغير خافٍ، ولو التمسوه لوجدوه قريباً منهم أو حولهم، أو موجوداً حتّى في أنفسهم وخلقهم.
سورة الأنبياء [21: 25]
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.
{مِنْ قَبْلِكَ} : من استغراقية ظرفية زمانية، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ رَسُولٍ} : من ابتدائية.
{إِلَّا نُوحِى إِلَيْهِ} : إلا: أداة حصر، نوحي إليه: بالإيحاء وهو الإعلام بالخفاء، أو إرسال رسول كجبريل (ع)، أو يكلِّمه الله من وراء حجاب.
ارجع إلى سورة النّساء آية (163): لمعرفة معنى الوحي.
{أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} : أنّه: للتوكيد، لا: النّافية، إله: معبود، إلا: أداة حصر وقصر، أنا: لتدلّ على الوحدانية.
{فَاعْبُدُونِ} : الفاء رابطة للجواب والنّون للتوكيد، والعبادة تعني: طاعة الله والتذلل له وامتثال أمره واجتناب نهيه. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لمزيد من معنى العبادة. حذف الياء في اعبدون قد يكون للإيجاز، والمقام ليس كما هو الحال في آية يس حين قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} حيث جاءت في سياق النّهي عن عبادة الشّيطان؛ لأنّ عبادة الشّيطان تفسد عبادة الله، ولذلك نهى عن عبادة الشّيطان وأكّد عليها أكثر من عبادة الآلهة: الأصنام والأوثان التي لا تفيد ولا تضر، واعبدوني فيها معنى التوحيد أن نعبد الله وحده بإخلاص ولا نشرك به شيئاً.
سورة الأنبياء [21: 26]
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} :
بعد التّنزيه عن اتّخاذ الشّريك (آلهة) يُتبع ذلك بالتّنزيه عن اتّخاذ الولد.
ارجع إلى سورة الحديد آية (1): لبيان معنى سبحانه.
{وَقَالُوا} : مبني للمجهول، أيْ: لا يهم معرفة من قالوا والمهم المقولة، وقيل: مشركو قريش كما قال ابن عباس، وقيل: أفراد من قبيلة خزاعة وبني سلمة وجهينة، والمهم عموم اللفظ وليس خصوص السّبب.
{اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} : أي: الملائكة بنات الله، والولد تعني: الذّكر أو الأنثى.
{سُبْحَانَهُ} : اسم مصدر تقديره أسبح سبحانه أن يتّخذ ولداً فهذا مستحيل، وأنّ الله منزه عن ذلك وأنّه أكبر وأجلّ أن يردّ عليهم كذبهم ويقول: إنكم لكاذبون فاكتفى بالقول سبحانه ونزَّه الملائكة الكرام وأخبر بأنّهم عباد مكرمون.
{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} : بل: للإضراب الإبطالي تبطل الجملة التي قبلها؛ أيْ: بل هم عباد مكرمون إبطال لقولهم اتخذ الرحمن ولداً؛ أي: سبحانه لم يتخذ ولداً كما يزعمون، والملائكة هم عباد للرحمن مكرمون، وفي الآية (16) من سورة عبس وصفهم بأنّهم كرام بررة.
{مُّكْرَمُونَ} : جمع مكرم، اسم مفعول من أكرم يعني الإحسان والإنعام والتّفضل؛ أيْ: أكرمهم الله سبحانه بكونهم عباداً له، وبما لهم من خصائص في الخلق والعبادة والمنزلة، ومع ذلك لهم صفات أخرى هي:
سورة الأنبياء [21: 27]
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} :
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} : لا النّافية، يسبقونه بالقول: أيْ: لا يقولون شيئاً قبل أن يأذن لهم أو يأمرهم ويخاطبهم سبحانه.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} : أيْ: لا يخالفونه قولاً ولا فعلاً؛ أيْ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحريم: 6]، وقدَّم بأمره على يعملون للتوكيد والحصر، والباء للإلصاق والتّوكيد في كلمة بالقول، والباء بأمره للإلصاق والسّببيّة.
سورة الأنبياء [21: 28]
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} : أيْ: يحيط علمه سبحانه بالملائكة إحاطة تامة ولا يخفى على الله تعالى منهم خافية.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : يعلم ما يعملون وما سيعملون أو تعني: ما هو قادم لهم من أعمال.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} : أيْ: ويعلم ما مضى أو عملوه من أعمال في الماضي.
{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} : لا النّافية، يشفعون: الشّفاعة: ارجع إلى الآية (85) من سورة النّساء للبيان.
{إِلَّا} : أداة حصر لمن ارتضى.
{لِمَنِ ارْتَضَى} : اللام في كلمة لمن للتوكيد، من للعاقل وتشمل المفرد والجمع، ارتضى؛ أيْ: رضي الله عنه؛ أيْ: رضي له قولاً وعملاً من عباده، فهي شفاعة مقيدة وليست مطلقة؛ مثل: الشفاعة في أهل الذنوب من الموحدين الذين دخلوا النار.
{وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} : وهم ضمير فصل يفيد التّوكيد، يعود على الملائكة، من ابتدائية، خشيته: أيْ: خشية الله تعالى، والخشية تعني الخوف المصحوب بالمهابة والتّعظيم لمن تخشاه والعلم.
{مُشْفِقُونَ} : من الإشفاق، والإشفاق: هو العناية المشوبة بالخوف والحذر وعدم الاطمئنان، حذرون خائفون أن طاعتهم أو عبادتهم غير تامة وغير آمنين مطمئنين أن خشيتهم لله كافية.
سورة الأنبياء [21: 29]
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} : من شرطية، يقل منهم: أيْ: من الملائكة.
{إِنِّى إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} : ما قال أحدٌ ذلك أو على فرض أن أحدهم قال ذلك: إنّي إله من دون الله.
{نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} : هذا تهديد للملائكة ومن ورائهم الإنس والجن.
{كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} : أيْ: ومثل هذا الجزاء (جهنم) نجزي كلّ ظالم (مشرك).
سورة الأنبياء [21: 30]
{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام.
{يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الرّؤية هنا رؤية قلبية ورؤيا بصرية وتعني أيضًا أولم يعلم الّذين كفروا، ولماذا الخطاب موجَّه إلى الّذين كفروا؛ لأنّ الّذين كفروا أو المشركين هم الّذين سيكشفون هذه الحقائق الكونية وهم من سيراها أولاً ومع ذلك، هم عن آياتها معرضون.
{أَنَّ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} : من الرّتق هو الالتصاق التّام؛ أيْ: كانتا في بداية نشوء الكون متصلتين ببعضهما، عبارة عن جرم واحد متناهٍ في الصغر والحجم ذات طاقة ومادة متناهية في العظم، ثمّ فجر الله تعالى هذا الجرم إلى كتلة من الدّخان ويسمونها عملية الانفجار العظيم..
فخلق الله من هذا الدخان الأرض والسّماء معاً في لحظة واحدة، وبذلك تشكلت الأرض الابتدائية، والسّماء الابتدائية، ثمّ تمايزت الأرض بأن أنزل الله الحديد من انفجار النيازك في السّماء، ثمّ سقطت على الأرض الابتدائية الّتي كانت عبارة عن كومة من الرّماد واخترقت كومة الرماد لتستقر في مركز الكرة الأرضية بشكل صلب وشكلت (90%) من الطبقة الأولى من الأرض.
ثمّ تمايزت الطبقة الثّانية من الأرض بشكل حديد منصهر مختلط ببعض العناصر الأولى، ثمّ تشكلت (3) أغطية، ثمّ تشكلت الطبقة ما دون القشرة، ثمّ القشرة الأرضية، وذلك باختلاف كمية الحديد في هذه الطبقات السّبع؛ السّبع كرات الّتي وصفها الله بسبع أرضين.
ثم استوى إلى السّماء وهي دخان، سماء واحدة فسواهن سبع سموات، سبع كرات هائلة كلّ كرة تغلف ما تحتها وجعل مركز هذا الكرات السّبع؛ أيْ: السّموات السّبع الأرض المتكونة من سبع أرضين، فبذلك شكل هذا الكون المكون من سبع سموات طباقاً، سبع كرات مركزهن الأرض المشكلة من سبع أرضين يحيط بهذا كله عرش الرحمن سبحانه. فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» ، وما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس، وما وري عن ابن مسعود، وما قاله ابن القيم في (زاد المعاد) كل تلك الأقوال تدل على أن العرش هو سقف المخلوقات؛ أي: السموات، وارجع إلى سورة هود آية (8) لمزيد من البيان عن العرش والكرسي.
ونحن لا نعلم عن هذه السّموات السّبع إلا الجزء اليسير المحدود بالسّماء الدّنيا الّتي تزينها هذه النّجوم والمجرات، فالسّموات السّبع غيب لا يعلمها إلا الله سبحانه. ارجع إلى سورة فصلت آية (10-11)، وسورة الأعراف آية (54)، وسورة البقرة آية (22-29).
{فَفَتَقْنَاهُمَا} : الفتق هو: الفصل أيْ: فصلنا السّماء عن الأرض وانفصلت السماء إلى المجرات والكواكب والنّجوم.
وبعد مرحلة الدّخان، ثمّ تبرد الدّخان وأول ما تشكلت النّجوم وسماها المصابيح.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} : كلّ شيء: شيء نكرة سواء إنسان أو حيوان، أو نبات، ولولا الماء لما عاش إنسان، أو حيوان، أو نبات في الأرض، ونسبة تركيب الماء في جسم الإنسان يساوي تقريباً (70%) من وزن الإنسان.
{أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ على عدم الإيمان وتعجُّب، وألا: أداة تنبيه وحضٍّ، وتعني الأمر على الإيمان بالله بعد كلّ هذه الدلائل والبراهين على قدرته وعظمته.
سورة الأنبياء [21: 31]
{وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ} : الجعل يكون بعد الخلق، فقد خلق الأرض أولاً، ثمّ أرساها بخلق الجبال في الأرض، ولم يقل: على الأرض؛ لأنّ الطبقة الغازية المحيطة بالأرض جزء من الأرض. الرواسي تعني: الصفائح القارية، والقوى المغنطيسية بالإضافة إلى الجبال التي تشكلت من البراكين والحمم التي شكلت الجبال. ارجع إلى سورة النحل آية (15)، والنبأ آية (7) لمزيد من البيان، فهناك فرق بين ألقى في الأرض رواسي، وجعل فيها رواسي.
{رَوَاسِىَ} : الجبال. ارجع إلى سورة النّحل آية (15)، وسورة النّبأ آية (7): لبيان كيف تشكلت الرواسي.
{أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، تميد بهم: أيْ: تميل وتضطرب بهم.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} : تعود على الرّواسي أي: الجبال وقيل: تعود على الأرض.
{فِجَاجًا} : الفج هو الطّريق في الجبل أو بين جبلين.
{سُبُلًا} : الطّريق الواسع السّهل.
{لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} : لعل للتعليل، يهتدون: بها في سيرهم فتكون كعلامات يهتدون بها في سفرهم.
ويهتدون إلى خالقهم فهي آية من الآيات الكونية الّتي تدل على عظمة الخالق وقدرته، الأمر الّذي إلى يدعو إلى الإيمان بالله وحده.
لنقارن هذه الآية (31) من سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} .
مع الآية (15) من سورة النّحل: {وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} .
في سورة الأنبياء قال: أن تميد بهم جاءت في سياق الكلام عن قدرة الله سبحانه وعظمته.
وفي سورة النّحل قال: أن تميد بكم جاءت في سياق الكلام عن نعم الله تعالى وتعدادها.
ولنقارن آية الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} .
مع آية (20) من سورة نوح: {لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} .
ففي سورة الأنبياء قدَّم الفجاج على السّبل، وفي سورة نوح قدَّم السّبل على الفجاج.
قيل: قدَّم الفجاج على السّبل في سورة الأنبياء؛ لأنّ الفج هو الطّريق في الجبل أو بين جبلين، ولما ذكر الرّواسي؛ أي: الجبال فقد قدَّم الفجاج الّتي هي طرق في الجبال الّتي تشكلت نتيجة مياه الأمطار الّتي تنحدر على سفوحها فتشكل هذه الأنهار، ثمّ تجفّ بعضها وتتركها كالسّبل.
أمّا في سورة نوح فقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} قدَّم السّبل على الفجاج؛ لأنّه سبقها قوله الأرض بساطاً (والسّبل الطّرق السّهلة الممهدة فهي تتناسب مع الأرض بساطاً).
أو سبلاً فجاجاً تعني: سبلاً بعضها فجاجاً بين الجبال، وبعضها سبلاً في الأرض.
أو قيل: إنّ السّبل تصف الفجاج، أو الفجاج تصف السّبل.
أو التّقديم والتّأخير حسب الأهم؛ لأنّ العرب تقدِّم الأهم.
سورة الأنبياء [21: 32]
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} :
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا} : أيْ: كالسّقف للأرض، فالسّموات السّبع الكروية الشّكل كلّ منها يغلف الأخرى، وكلها تحيط بالأرض الّتي تعتبر كمركز لهذه السّموات، وهن كالسقف لهذه الأرض الّتي بدورها تتشكل من سبع كرات صغيرة مقارنة بالسّموات السّبع.
سقفاً محفوظاً: أيْ: سقفاً محكماً، ومحفوظاً اسم مفعول من حفظ، وتقوم بهذه الحماية والحفظ النطق المسماة بنطق الحماية وهي نطاق المناخ، ونطاق الأوزون، والنطاق الإشعاعي، والنطاق المغنطيسي، والنطاق الخارجي، والنطاق المتأين، فهذه النطق تحفظ الأرض من بعض الأشعة الشّمسية المهلكة للأحياء والمسماة الأشعة فوق البنفسجية الّتي تسبب سرطانات الجلد الخبيثة، فمثلاً طبقة الأوزون تمنع اختراق تلك الأشعة.
وكذلك هناك الطّبقات الغازية وبخار الماء تقوم بدور عازل بحيث تحافظ على دفء الأرض وذلك بمنع تسرب الحرارة إلى الطّبقات العليا، وما يخترق الغلاف الغازي الجوي من أشعة شمسية وحرارة تكفي لاستمرار الحياة على الأرض وقتل الجراثيم الضّارة.
ارجع إلى سورة الطارق آية (11): لمزيد من البيان.
فالسّماء وبما فيها من شموس وأقمار وكواكب ومجرات وأفلاك كلها آيات كونية تدل على عظمة وقدرة الخالق وعلى وحدانيته وألوهيته وربوبيته.
ورغم رؤية هذه الآيات الكونية الّتي هي أعظم من خلق النّاس، كما قال تعالى في سورة غافر آية (57):{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
{وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} : أيْ: لا ينتفعون بها ولا يهتدون بها إلى الخالق ولا يفكرون بها.
ارجع إلى الآية (1) من نفس السّورة.
سورة الأنبياء [21: 33]
{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} :
{وَهُوَ} : ضمير منفصل يفيد الحصر والتّوكيد، تعود على الله سبحانه.
{الَّذِى} : اسم موصول يختص بالمفرد المذكر.
{خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : الخلق هو الإيجاد ابتداءً، وخلق الليل والنهار يدل على كروية الأرض ودورانها حول محورها (نفسها) وحول الشّمس، وفي آيات أخرى قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].
الجعل يكون مرحلة بعد الخلق فالله سبحانه خلق أولاً الليل وخلق النّهار بخلق الغلاف الجوي حول الأرض فالغلاف الجوي لم يكن عند نشأة الأرض وإنما تكون على مر العصور والأحقاب والليل كان هو السّائد في بداية نشأة الأرض.
ثمّ تكون الغلاف الجوي حول الأرض، وفيه طبقات مختلفة إحدى هذه الطّبقات السّفلى تتشكل من غازات معينة هذه الطّبقة أو الغازات تضيء حين تقع عليها حزمة من أشعة الشّمس التي تسمَّى حزمة الضوء المرئي المشكلة من ألوان الطيف السّبعة: الأحمر والبرتقالي والأصفر والبنفسجي والأخضر والأزرق والنيلي، تعطينا هذا النور الأبيض، وأغلب أشعة الشّمس لا تصل إلينا بفضل نطق الحماية، ومنها الأشعة السينية والفوق بنفسجية وتحت الحمراء وأشعة غاما وغيرها.
فتصبح هذه الطبقة الغازية المحيطة بالأرض كالمصباح ينير نصف الأرض المقابل للشمس، بينما النّصف الآخر يكون في ظلام؛ أيْ: ليل، ثمّ تدور الأرض حول الشّمس فيصبح النّصف المضيء ليلاً والنّصف المظلم نهاراً وعملية محو الليل والمجيء بالنهار استغرقت ملايين السّنين.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : الشّمس أو القمر كلّ منها يدور حول نفسه، ويدور القمر والأرض حول الشّمس، والأرض والقمر والشّمس تدور حول مركز المجرة الشّمسية، وتدور هذه المجرة حول مركز لتجمع المجرات، وتكون محصلة هذه الحركات الثّلاث حركة اهتزازية تعرُّجية، وكأنّها تسبح على موجة صعوداً وهبوطاً.
ولذلك لا يستخدم القرآن كلمة تدور، وإنما كلمة يسبحون، ويشعر كلّ إنسان مثل رواد الفضاء أنّهم حين يخرجون عن نطاق الجاذبية الأرضية كأنّه يسبح أو يطفو على سطح الماء، وهذا إحساس حقيقي، وليس وهمياً، فالإنسان لا يكون في فراغ، بل هو وسط مادي بكثافة منخفضة.
وفي سورة يس الآية (40) قال تعالى: {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} واو الجماعة هنا تعني كلّ ذرة، كلّ مخلوق مثل الأرض والشّمس والقمر والنّجوم والكواكب والمجرات والغازات جميعها تتحرك حركة اهتزازية، حركة أشبه ما يكون بجسم يطفو على سطح الماء، وتحركه الأمواج حركة تعرُّجية، حتّى الذّرة وكل نيترون وبروتون داخل الذّرة يدور، وله مدار لا يتعدّاه، وسرعة ثابتة لا تزيد ولا تنقص، ولا تسرع ولا تبطئ، لذلك قال تعالى:{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
{فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : الفلك: المدار الّذي تدور فيه الأفلاك والشّمس والقمر والمجرات والمدارات بيضاوية الشّكل تدور حول مركز المجرة.
فكل هذه النّجوم والكواكب والأقمار والشّموس تسبح في طبقة غازية مكونة من غازات مختلفة أهمها الإيدروجين والكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم والماء والحديد، وليس كما كان يُظنُّ قديماً أنّها تسبح في فراغ أو فضاء فارغ، وهذه الطّبقة الغازية سوداء مظلمة.
سورة الأنبياء [21: 34]
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِين مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} :
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.
{جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} : اللام في البشر لام الاختصاص، من ابتدائية، قبلك يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{الْخُلْدَ} : البقاء الدّائم في الدّنيا أيْ: بلا موت، أو ما خلَّدنا من قبلك أحداً من بني آدم.
{أَفَإِين} : الهمزة همزة استفهام فيه معنى النّفي، المشوب بالإنكار والتّعجُّب.
{مِتَّ} : ولم يقل: مُت: بكسر الميم يدل على الموت العادي الطّبيعي، أمّا مُت: بضم الميم، فتدل على الموت بسبب الجهاد في سبيل الله (القتال)؛ أيْ: في أرض المعركة مثلاً. ارجع إلى سورة آل عمران آية (157-158) لمعرفة الفرق بين مِتم ومُتم.
{أَفَإِين مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} : أيْ: أنت يا محمّد ميت وإنّهم ميتون، ولن يخلد أحدٌ من البشر بعد موتك؛ لأنّ الموت حتم وحقّ ولن ينجو منه أحد وقد كان الكفار يتمنَّون موت الرّسول صلى الله عليه وسلم.
سورة الأنبياء [21: 35]
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} : هذا هو القانون الإلهي، كلّ نفس مهما كان نوعها أو جنسها مصيرها الموت.
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ} : الابتلاء لا يكون إلا بعد التّكليف، بـ (افعل ولا تفعل)، ونبلوكم بالشّر أو بالخير بنعيم وصحة وغنى وسرور، أو مرض وفقر وبلاء في الأنفس والثمرات.
{فِتْنَةً} : من فتن الذّهب بالنّار ليعلم الثّمين من الرّديء، والجيد من الخبيث، وفتنة النّاس تعني معرفة المطيع من العاصي، والمؤمن من الكافر، الشّاكر من الجاحد، الصّابر من غير الصّابر، والله سبحانه ليس بحاجة إلى ابتلائنا فهو سبحانه يعلم منذ الأزل نتيجة هذا الابتلاء، ولكن ليقيم الحجة علينا ويرينا نتائج أعمالنا، ونتيجة الابتلاء هي الفوز والفلاح، أو الهلاك والخسارة.
{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} : تقديم إلينا يفيد الحصر؛ أيْ: تُرجعون إلينا وحدنا قسراً؛ أيْ: كرهاً راضين أم غير راضين، تُرجعون بعد البعث إلينا لمحاسبتكم على أعمالكم.
سورة الأنبياء [21: 36]
{وَإِذَا} : الواو استئنافية، إذا ظرفية شرطية تعني: حتمية الحدوث.
{رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : أمثال أبي جهل، أو كفار قريش. وإذا قارنا هذه الآية {رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مع قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ} [الفرقان: 41]؛ رءاك: تأتي في سياق المفرد، رأوك: تأتي في سياق الجمع.
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ} : إن نافية بمعنى لا، ويمكن أن تكون تعليلية والنّون في يتخذونك للتوكيد.
{إِلَّا هُزُوًا} : إلا تفيد الحصر؛ أيْ: حصراً، هزواً: أيْ: إذا رآك الّذين كفروا يهزؤون بك، والاستهزاء هو التّصغير من شأنك والتّحقير أو العيب أو الاستخفاف بك.
{أَهَذَا} : الهمزة في (أهذا) للاستفهام والإنكار والتّعجُّب والتّهلكة.
{الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} : بسوء؛ أيْ: يعيب عليها ويسبها أو لا يعترف بها وأنّها باطلة، أو يستهزأ بها ويستخفها ويحقرها وأنّها أصنام وحجارة لا تضرّ ولا تنفع، والذّكر قد يكون بالخير أو بالشّر فهو يذكر آلهتكم بشرّ لأنّها عدو له.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ} : أيْ: كيف تعجبون من أنّ محمّداً يذكر آلهتكم بسوء، وأنتم بذكر الرّحمن تنكرون وتجحدون كقوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60].
{هُمْ كَافِرُونَ} : هم ضمير فصل يفيد التّوكيد، كافرون: جاحدون لا يؤمنون أو يصدقون.
سورة الأنبياء [21: 37]
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} :
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} : لا تعني: أنّ الله سبحانه خلقه أو فرض عليه أن يكون عجولاً أو فرض عليه العجلة، وإنما تعني كأنه مخلوق من العجلة لكثرة فعله إياها واعتياده لها، وهذا يقال له نسبة الشّيء إلى غير أصله مبالغة في اتصافه بالعجلة؛ أيْ: كأنّه مخلوق من العجلة لكثرة ما يتعجل به أو مطبوع عليها، والعجلة تعني: طلب الشّيء وإرادته وتحريه قبل أوانه، والإنسان هنا تعني: جنس الإنسان، أو كل الناس.
ونزلت هذه الآية حين استعجلت قريش بالعذاب، وقال النّضر بن الحارث:{اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
{سَأُورِيكُمْ آيَاتِى} : السّين للاستقبال القريب؛ أيْ: سأوريكم عذابي قريباً في معركة بدر أو يوم القيامة.
{فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية، لا تستعجلون: أيْ: لا داعي للاستعجال أن انتظروا قليلاً.
سورة الأنبياء [21: 38]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
ويقولون: بصيغة المضارع بدلاً من قالوا: لأنّ سؤالهم تكرر وتجدد كثيراً عن زمن العذاب أو متى يوم القيامة فهم استبطؤوا يوم القيامة أو لم يصدِّقوا به.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك في أنّكم صادقين يخاطبون: النّبي وأصحابه. وصادقين: جملة اسمية تعني: ثبوت الصدق.
سورة الأنبياء [21: 39]
{لَوْ} : شرطية جوابها محذوف للتهويل والأجوبة الكثيرة.
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : حين لا يكفون عن وجوههم النَّار ولا عن ظهورهم أو ما سيحل بهم لما استعجلوه أو لما أقاموا على كفرهم أو لو علموا وقته وأيقنوا بحدوثه لما كذبوا به أو استعجلوه.
{حِينَ} : ظرف زماني.
{لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} : الكف: المنع أو دفع النَّار أيْ: لا يستطيعون دفع النَّار أو منعها عن حرق وجوههم ولا عن ظهورهم: تكرار (لا) و (عن) مرتين يفيد التّوكيد وفصل الوجه عن الظّهر أو كلاهما معاً. واختار الوجوه؛ لأنها أكرم أو أعز الأعضاء، والظهور؛ لأنها تدل على الإهانة والخزي.
{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} : أيْ: ولا يجدون لهم وليّاً ولا نصيراً يمنعهم من العذاب أو يمنع العذاب عنهم أيْ: ينقذهم ويخلصهم.
سورة الأنبياء [21: 40]
{بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{تَأْتِيهِم بَغْتَةً} : أي: النَّار، بغتة: فجأة ومن دون إنذار.
{فَتَبْهَتُهُمْ} : الفاء للتوكيد، تبهتهم: تحيرهم وتدهشهم، أيْ: يجدوا أنفسهم في حيرة وقهر.
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} : الفاء للتوكيد: لا النّافية، لا يستطيعون رد النّار ولا دفعها عنهم وينقطع كلامهم.
{وَلَا هُمْ} : ولا النّافية هم، أي: الّذين كفروا، وهم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يُنْظَرُونَ} : لا يمهلون أو يؤخَّرون عن دخول النّار للمعذرة أو ليشفع لهم.
سورة الأنبياء [21: 41]
{وَلَقَدِ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} : الاستهزاء يعني تصغير قدر الآخر أو التّحقير والاستخفاف أو العيب عليه في شخصه، برسل: الباء للإلصاق، جمع رسول أو نبي، من قبلك: من تعني من قريب.
{فَحَاقَ} : الفاء للتوكيد، تعني: نزل وأحاط أو حل. ارجع إلى سورة غافر آية (45) لمزيدٍ من البيان، والفرق بين حاق ونزل.
{بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم} : بالّذين سخروا من الرّسل.
{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : أيْ: حاق بالمستهزئين بالأنبياء والرّسل الجزاء على ما فعلوه من السّخرية والاستهزاء، وقيل: هذا نوع من التّخفيف على رسول الله، أيْ: هوِّن عليك فما يصيبك من الاستهزاء والسّخرية أصاب من قبلك وسوف ننتقم من هؤلاء المستهزئين.
سورة الأنبياء [21: 42]
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُم} : قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين كفروا، من استفهام يفيد التّقريع والتّوبيخ، والجواب محذوف وتقديره لا أحد، يكلؤكم: الكلاءة: الحراسة والحفظ أيْ: يحرسكم يرعاكم أو يحفظكم ويمدكم بمقومات العيش والحياة.
{بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : الباء: للإلصاق وتفيد الظرفية في الليل والنّهار.
{مِنَ الرَّحْمَنِ} : من بأس الرّحمن وعقابه أو عذابه الّذي تستحقونه لكونكم معرضين عنه وغير مؤمنين به واختار اسم الرّحمن للتذكير أن هذه الكلاءة من مظاهر رحمته ولا يغرنكم كونه الرّحمن، فلن يعذبكم.
{بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} : بل للإضراب الانتقالي، هم تفيد التّوكيد، أيْ: رغم أنّه لا يوجد أحد يكلؤهم من عذاب الرحمن وبأسه استمروا في إعراضهم عن ذكر ربهم: عن القرآن وعن الصّلاة والتّوبة والإنابة إلى ربهم رغم الإنذار والتّهديد والوعيد.
سورة الأنبياء [21: 43]
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، والهمزة للاستفهام الإنكاري.
{لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِنْ دُونِنَا} : لهم اللام لام الاختصاص لهم خاصة، آلهة من دوننا: أيْ: غير الله سبحانه، ألهم آلهة غير الله ستدفع عنهم العذاب وتحميهم أو تدافع عنهم.
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} : فلو فرضنا لهم آلهة فهي غير قادرة على أن تنصر نفسها، فكيف تنصرهم وهي لا تنفع ولا تضر أصلاً.
{وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} : ولا الواو عاطفة، لا للنفي، هم للتوكيد، يصحبون: لا يجدون أحداً يحميهم أو يجيرهم من العذاب أو من يلجؤون إليه ليحميهم أو يكون في صحبتهم، وقد تعني: لا يجدون أحداً منا يكون جاراً لهم أيْ: يصاحبهم؛ لأنّ الجيرة تعني: المصاحبة كقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} [النّساء: 36]. والصحبة تحمل في طياتها الفائدة للطرفين.
سورة الأنبياء [21: 44]
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} : متعنا: من المتاع متاح الحياة الدّنيا من المأكل والمشرب والملبس والمسكن ورفاهية العيش بنعم الدّنيا والبسط في الرّزق لهم ولآبائهم، هؤلاء: الهاء للتنبيه، أولاء اسم إشارة يشير إلى أهل مكة وغيرهم من القرون.
{حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} : حتّى حرف نهاية الغاية، طال عليهم العمر حتّى طالت أعمارهم فاغتروا بذلك النّعيم وطول الأجل، وظنوا أنّ آلهتهم الّتي فعلت ذلك وحفظتهم.
{أَفَلَا} : الهمزة همزة استفهام توبيخي.
{يَرَوْنَ} : الرّؤية هنا رؤية بصرية ورؤية قلبية.
{أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} : هناك كثير من التّفسيرات القديمة لهذه الآية مثل موت العلماء أو نقص أرض المسلمين لأعدائهم أو نقص الأرض بعوامل التعرية أو البحار تطغى على اليابسة أو دوران الأرض حول محورها وكون قطر الأرض الاستوائي أطول من قطر الأرض القطبي وغيرها من التفسيرات.
والتّفسير العلمي الأقرب للحقيقة في هذا الزّمن أن الأرض مرتبطة بالشمس بقانون الجاذبية أو عامل الجاذبية، والّذي يقدر بضرب الكتلتين والتقسيم على مربع المسافة بينهما، فحتى تبقى الأرض ثابتة في مدارها والمسافة بين الأرض والشّمس ثابتة، وبما أن الشّمس تفقد من كتلتها ما يعادل 4. 6 مليون طن بالثانية من المادة والطاقة.
فلا بُدَّ للأرض أن تفقد ما يعادل
ذلك حتّى تبقى النسبة متوازية بينهما وتبقى العلاقة بينهما ثابتة فالأرض تفقد عن طريق البراكين الفوهات البركانية كمية هائلة من الغازات والرماد البركاني الّذي لا يعود إلى الأرض.
فهذا ما يفسر لنا أن الأرض تنقص من أطرافها (من جميع أطرافها، وليس من طرف واحد كما يفسره جمع من المفسرين) وقد ثبت علمياً أن أرضنا الابتدائية كانت 100 ضعف حجم الأرض الحالية. ارجع إلى سورة الرعد آية (41) لمزيد من البيان.
{أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} : الهمزة همزة استفهام للتقرير والتّوبيخ؛ أي: أفهم القادرون على منع البراكين والزلازل من الحدوث، وبالتالي تغير المسافة بين الأرض والشمس، أو تغير النسبة التي جعلها الله ثابتة لاستمرار الحياة على الأرض، فالله هو الغالب وهو القوي العزيز.
سورة الأنبياء [21: 45]
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْىِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} :
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْىِ} : هذا أمر من الله سبحانه إلى رسوله بأن ينذر الّذين كفروا، إنما كافة مكفوفة تفيد الحصر، أنذركم: الإنذار هو الإعلام مع التّحذير والتّخويف أيْ: أحذركم.
بالوحي: الباء للإلصاق، بالقرآن؛ أيْ: بما جاء به من وعد ووعيد من عند الله تعالى وإنما أنا بشر يوحي إليَّ وما عليَّ إلا البلاغ المبين.
{وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} : ولا ينفع هذا الإنذار أو القرآن الصّمَّ: أي: الكفار الّذين لا ينتفعون بما يسمعون أو لا يستجيبون للداعي المنذر فهم الصّم البكم العمي الّذين لا يسمعون شيئاً {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10].، وكقوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].
{إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} : إذا ظرفية زمانية، ما للتوكيد، أيْ: وإن طال الإنذار والتّحذير وتكرَّر فهم لن يسمعوا.
وفي سورة النّمل الآية (80): {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وفي سورة الأنبياء الآية (45): {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} ، فيمكن جمع الآيتين معاً بالقول أنّ الكفار:
أوّلاً: لا يريدون الجلوس مع الرّسول أو مع من ينذرهم؛ لكي لا يسمعوا الإنذار.
ثانياً: وإذا جلسوا لا يسمعون، أيْ: لا ينتفعون بسماع إنذار أو وعيد فهم كالصّم.
ثالثاً: عندما تدعوهم إلى الحق إلى الإيمان يولوا مدبرين خوفاً من أن يسمعوا ما يقرع آذانهم ويغيظهم.
سورة الأنبياء [21: 46]
{وَلَئِنْ} : الواو استئنافية، لئن: اللام للتوكيد، إن شرطية.
{مَّسَّتْهُمْ} : مستهم من المس وهو اللمس الخفيف أخف اللمس.
{نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} : النّفحة: هي هبوب الشيء القليل من الهواء، والنّفحة تعني أدنى شيء من العذاب واسم مرة أيْ: مجرد أن تمسهم نفحة من العذاب ولمرة واحدة (هذا يدل على شدة العذاب). انظر إلى ما ذكر في هذه الآية من المبالغات الدالة على منتهى الصغر: أولاً: المس، ثانياً: نفخة، ثالثاً: مرة واحدة؛ لأن نفخة: مصدر مرة. ويجب عدم الخلط بين النفحة والنفخة واللفحة؛ أما النفخة: هي إخراج شيء قليل من الريح بالفم، وأما لفحة من عذاب ربك؛ أي: لفحة من النار إذا أصابت الوجه.
{لَيَقُولُنَّ} : اللام والنّون كلاهما للتوكيد.
{يَاوَيْلَنَا} : الياء للتنبيه، أيْ: يا هلاكنا، وويل كلمة توجع وحسرة لمن وقع في العذاب والويل يعني: العذاب والهلاك وقيل: واد في جهنم.
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} : فهم ينطقون بالحق ويعترفون ويقرون بأنّهم كانوا ظالمين مشركين ومكذبين بالوحي.
سورة الأنبياء [21: 47]
ثم يبيِّن الله سبحانه كيف سيحاسبهم في الآخرة، وأنّه لن يظلمهم شيئاً.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : ننصب الموازين، القسط: أيْ: موازين العدل أو العادلة، الموازين جمع ميزان، وليست ميزاناً واحداً، قيل: موازين لوزن الأعمال، أو لوزن الحسنات والسيئات. ارجع إلى سورة القارعة آية (6) للبيان.
{لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : اللام لام التّوقيت أو الاختصاص لأجل ذلك اليوم، وسُمِّي يومَ القيامة؛ لأنّ فيه النّاس يقومون لرب العالمين (للحساب)، يقومون من قبورهم.
{فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـئًا} : الفاء للتوكيد، لا النّافية، تظلم نفس شيئاً. الظلم: هو نقصان الحق والجور، والعدول عن الحق؛ أيْ: لا ينقص من حقها حسنة ولا تزاد عليها سيئة واحدة، نفس: نكرة تعني: أيَّ نفس، شيئاً: نكرة، والشّيء هو أقل القليل، أيُّ قولٍ أو فعلٍ أو صغيرةٍ أو كبيرةٍ أو حسنةٍ أو سيئةٍ، أيْ: لا تُظلم شيئاً من الظلم ولا تظلم شيئاً من الأشياء.
{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} : إن شرطية، كان: العمل الّذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل، الخردل: نبات له حب صغير متناهي في الصغر واحدته خردلة، وحبة الخردل هي تعادل جزء من (80 جزء) من حبة الشعير وتعادل (7/ 10، 000 من الغرام) وهي مثال لأصغر شيء يُرى بالعين مثال للوزن والحجم، أيْ: لا يظلم الله مثقال حبة من خردل من الظّلم؛ أي: إن كان له حسنة تعادل حبة الخردل، أو سيئة أتينا بها.
{أَتَيْنَا بِهَا} : أيْ: جيء بها، ووضعناها في ميزانه وحاسبناه عليها وجازيناه بها.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} : كفى تعني يكفيك أو حسبك، تحمل معنى التّعجُّب، حاسبين جاءت بصيغة العظمة: وتعني وكفى بالله حسيباً والحسيب من الحسب وهو الاكتفاء أو المحاسب، أي: الّذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها، ولا يحتاج إلى أحدٍ غيره لهذا الحساب فهو يكفي سبحانه.
سورة الأنبياء [21: 48]
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} :
المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه طرفاً أو جانباً مما يعانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار مكة، وتكذيبَهم واستهزاءَهم، وأمره بإنذارهم بالوحي أيْ: بالقرآن، جاء بعدها ليذكرنا ببعض الرّسل الّذين سبقوه، مثل موسى وهارون وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وأيوب وزكريا وعيسى ابن مريم.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق، آتينا: من الإيتاء وهو العطاء الّذي لا تَملُّك فيه، ويمكن استرداده والإيتاء أعم من العطاء، ويشمل الأشياء الحسية والمعنوية.
{مُوسَى وَهَارُونَ} : رسالتهما واحدة.
{الْفُرْقَانَ} : أي: التّوراة وسمِّيت الفرقان؛ لأنّها تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والظلمات والنّور.
{وَضِيَاءً} : أيْ: نوراً يهدي من الظّلمات إلى النّور أيْ: هدىً أو مصدر للهداية.
{وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} : موعظة أو ذكراً يُذكَّرُ به المتقون، للمتقين: اللام لام الاختصاص، أيْ: خاصة للمتقين الّذين ينتفعون به.
سورة الأنبياء [21: 49]
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} :
هذه الآية تتمة للآية السّابقة أيْ: ذكراً للمتقين:
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} : الّذين اسم موصول، يخشون ربهم: الخشية: هي الخوف الممزوج بالمهابة من الخالق وعظمته والعلم بصفاته وأسمائه، وفيها معنى الأمل.
{بِالْغَيْبِ} : الباء للإلصاق والاستمرار، الغيب: أيْ: وهم لا يرونه والغيب: أيْ: في خلواتهم وسرائرهم وانفرادهم عن الخلق وليس فقط أمام النّاس. ولمقارنة هذه الآية مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: 12]. ارجع إلى سورة الملك لمعرفة الفرق.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} : من الإشفاق: هو العناية المشوبة بالخوف والحذر وعدم الاطمئنان من أن تقوم السّاعة القيامة الصّغرى أو القيامة الكبرى وهم مقصرون في حق ربهم من طاعة أو عبادة، أو أن لا تقبل أعمالهم الصّالحة، مشفقون: جملة اسمية تدل على إشفاقهم دائم لا ينقطع ثابت، والسّاعة تعني ساعة تهدم النّظام الكوني الحالي، فهناك فرق بين الخشية والإشفاق.
سورة الأنبياء [21: 50]
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} :
{وَهَذَا} : الواو استئنافية، هذا: الهاء للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب تشير إلى الذّكر المبارك.
{ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} : أي: القرآن الكريم، مبارك: نعت للقرآن الكريم كما نعت التّوراة بأنّها ضياءٌ وذكرٌ للمتقين، نعت القرآن بأنّه ذكر مبارك؛ أيْ: كثير البركة والخير، كثير الفوائد والمنافع الدّنيوية والأخروية.
{أَنزَلْنَاهُ} : أيْ: عليك يا محمّد جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا.
{أَفَأَنتُمْ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّعجب، لمن ينكر القرآن العظيم.
{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر.
{مُنْكِرُونَ} : من الإنكار، والإنكار يكون للشيء الخفي غالباً، وأحياناً للشيء الظاهر، والإنكار أعم من الجحود. ارجع إلى الآية (51) من سورة الأعراف للبيان، وتقولون أنّه أساطير الأولين أو إفك مفترى أو سحر أو شعر، ومنكرون جملة اسمية تدل على الثّبات والاستمرار في الإنكار.
سورة الأنبياء [21: 51]
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} :
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} : ارجع إلى الآية (48) من نفس السّورة لبيان معنى الإيتاء. وقوله تعالى: (آتينا) بدلاً من أوتي (بصيغة المجهول) تدل على منزلة إبراهيم وشرفه وذلك لأنا كنا به عالمين أنه من أهل الرُّشد.
والرُّشد: القدرة على التفكير للوصول للحق والصّواب، آتينا إبراهيم رُشده: أيْ: هديناه للرُشد أي: الحق والصّواب والصلاح هداه إلى وحدانية خالقه وربه وتجنُّب عبادة الأصنام، ولمعرفة الفرق بين الرَّشد والرُّشد ارجع إلى الآية (6) من سورة النّساء للبيان.
{مِنْ قَبْلُ} : أي: أتينا إبراهيم رشده من قبل موسى هارون أو قبل إنزال الوحي عليه والنّبوة وقيل: منذ صغره.
{وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} : وكنا: للتعظيم، به: تقديم الجار والمجرور يعني: عالمين بكلّ شيء قام به، عالمين به منذ طفولته، وبكلّ أحواله نشأته وتربيته وأفعاله وأقواله.
سورة الأنبياء [21: 52]
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} :
{إِذْ} : ظرف زماني بمعنى حين، أيْ: واذكر حين قال، أو اذكر إذ قال إبراهيم.
{قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} : اللام في لأبيه تدل على التّوكيد وتعني: إذ قال لأبيه خاصة ولقومه عامة، لأبيه أي: عمه آزر، والعم يمكن أن يقوم مقام الأب، ارجع إلى سورة البقرة آية (133)، وارجع إلى سورة الأنعام آية (74) للبيان.
{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} : ما اسم استفهام إنكاري يحمل معنى الاستهزاء والتقريع، هذه: الهاء للتنبيه ذه اسم إشارة للقرب. (ما هذه): إذا قورنت بـ (ما) هي أشد في الاستفهام وأبلغ.
{التَّمَاثِيلُ} : أي: الأصنام أو الحجارة والصنم أو التّمثال: اسم للشيء المصنوع المضاهي خلق الله كإنسان أو حيوان أو شجر. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (17) للتفريق بين الصنم والوثن.
{الَّتِى أَنتُمْ} : أنتم للتوكيد.
{عَاكِفُونَ} : جمع عاكف: اسم فاعل من الاعتكاف، والاعتكاف مأخوذ من عكف إلى الشّيء أيْ: لزمه وداوم عليه، أيْ: ملازمون لها أو مقيمون على عبادتها، وعاكفون جملة اسمية تفيد الثّبوت.
سورة الأنبياء [21: 53]
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} :
قالوا لإبراهيم ردّاً على سؤاله ما هذه التّماثيل الّتي أنتم لها عاكفون: وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها؛ أي: اقتدينا بهم، ارجع إلى الآية (106) من نفس السّورة لبيان معنى العبادة.
سورة الأنبياء [21: 54]
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
{قَالَ} : إبراهيم لهم.
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{كُنتُمْ} : تفيد التّوكيد.
{كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} : بعبادتها في ضلال مبين: في بُعد عن الحق واضح أو الضّلال له معانٍ كثيرة منها الشّرك والكفر والضّياع والخطأ.
{مُبِينٍ} : بيِّن لا يخفى على أحد، وظاهر بنفسه لا يحتاج إلى من يظهره أو يُبيِنه للناس أو يحتاج إلى دليل أو برهان.
سورة الأنبياء [21: 55]
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} :
{قَالُوا أَجِئْتَنَا} : الهمزة همزة استفهام حقيقي واستعباد.
{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق والاستمرار والحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ضد الباطل الزّائل؛ أيْ: أجئتنا بالحق: أن نعبد الله ونترك ما يعبد آباؤنا.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} : أيْ: أجاد أنت فيما تقوله نحن في ضلال مبين وآباؤنا أم ما تقوله لعب وعبث. ارجع إلى سورة الأنعام آية (32) لمعرفة معنى اللعب واللهو والفرق بينهما.
سورة الأنبياء [21: 56]
{قَالَ} : إبراهيم لهم.
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي: أيْ: هذه الأصنام لا تستحق العبادة والّذي يستحق العبادة هو ربكم الّذي خلقكم وخلق السّموات والأرض.
{رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ} : فطرهن: من فطر الله الخلق؛ أيْ: أظهر الخلق، والفطر هو الشّق أو إخراج الشّيء على مثال غير سابق.
{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ} : ولم يقل: وأنا على ذلك، ذلكم للجمع (السّموات والأرض وما فيهن) والتّوكيد.
{مِنَ الشَّاهِدِينَ} : أيْ: من الشّاهدين جمع شاهد على أنّه لا إله إلا الّذي فطر السّموات والأرض، والشّاهد لا يشهد إلا بالحق، أيْ: بعد التّحقق مما رأى ومعه الحُجَّة والدّليل على الشّهادة.
سورة الأنبياء [21: 57]
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} :
ويبدو أنّهم لم يصدِّقوا ما قاله فأقسم إبراهيم عليه السلام وقال:
{وَتَاللَّهِ} : والتّاء تاء القسم، وهي أقوى أدوات القسم وأقوى من الواو (والله) أو الباء (بالله) واللام. وتالله للإنشاء، والخبر لأكيدن أصنامكم.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} : اللام في لأكيدن للتوكيد والنّون في (أكيدن) لزيادة التّوكيد، والكيد: هو التّدبير الخفي المحكم لإيقاع المكروه، بها (الأصنام) يعني هنا تحطيمها وكسرها.
{لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} : جملة وهل يمكن الكيد من الأصنام الّتي هي حجارة لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا ترى، الجواب الكيد منها يعني الكيد من الّذين يعبدونها.
{بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} : بعد ظرفية زمانية ومكانية، تولوا مدبرين: أيْ: تنصرفوا عنها ولو زمناً قليلاً، ولم يقل: تتولوا، تولوا: تعني ولو زمناً قصيراً وتتولوا تعني زمناً طويلاً، أن: للتعليل، أقسم إبراهيم ذلك سراً في نفسه أو جهراً كما قيل سمعه أحدهم.
وما حدث بعد القسم جاء ذكره في سورة الصّافات، فقد انتظر إبراهيم يوم عيد لهم وسألوه أن يخرج معهم فقال: إنّه سقيم، أيْ: مريض، الصّافات (89-93){فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} .
سورة الأنبياء [21: 58]
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} :
{فَجَعَلَهُمْ} : الفاء تدل على التّرتيب والمباشرة أيْ: أسرع بتحطيم هذه الأصنام، بعد خروجهم لعيدهم.
{جُذَاذًا} : من الجذِّ وهو القطع والكسر يقال: جذذت الشّيء أيْ: كسرته وقطعته، أيْ: جعل الأصنام قطعاً متناثرة وحطاماً بعد أن راغ عليهم ضرباً باليمين.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{كَبِيرًا لَّهُمْ} : إلا كبير الأصنام تركه ولم يحطِّمْه ويكسره.
{لَعَلَّهُمْ} : لعل للتعليل.
{إِلَيْهِ} : تقديمها على يرجعون، ولم يقل: لعلهم يرجعون إليه، تفيد الحصر والقصر إليه حصراً، وإليه إما أن تعود على الله سبحانه أو تعود على إبراهيم أو تعود على كبيرهم.
{يَرْجِعُونَ} : يرجعون، ولم يُرجعوا، أيْ: يرجعون بإرادتهم ورغبتهم وليس مكرهين، كما لو استعمل كلمة يُرجعون، فإن كانت تعود على الله سبحانه، فالآية تعني: إليه يرجعون، أي: يرجعون إلى الله ويتوبون ويؤمنون به، وإن كانت تعود على إبراهيم، فالآية تعني: يرجعون إليه فيُحاجهم كما سيأتي، وإن كانت تعود على كبير الأصنام، فالآية تعني: يرجعون إليه فيسألونه من كسر الأصنام فيجدون أنّه لا يتكلَّم، وربما يعودون إلى صوابهم ورشدهم.
والاحتمالات الثّلاثة كلها واردة؛ أي: تحمل الآية كلّ الاحتمالات معاً.
سورة الأنبياء [21: 59]
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} :
{قَالُوا} : بعد أن عادوا إلى معبدهم ووجدوا أصنامهم محطَّمة.
{مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} : من: استفهامية وإنكار، للعاقل وتشمل المفرد والمثنى والجمع.
{فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} : أيْ: من حطَّم آلهتنا.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{لَمِنَ} : اللام لزيادة التّوكيد.
{الظَّالِمِينَ} : أي: المجرمين.
سورة الأنبياء [21: 60]
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} :
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} : قال بعضهم: سمعنا فتى يذكرهم يقول: تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فتى: تعني شاباً.
{يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} : اسمه إبراهيم أو ينادونه إبراهيم.
سورة الأنبياء [21: 61]
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} :
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ} : أيْ: أحضروه مباشرة حالاً، الفاء للمباشرة.
{عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} : على مرأى من النّاس ليراه الكلّ. على: تفيد الاستعلاء، وتستعمل للأفعال الشاقة مثل هذا المشهد.
{لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} : لعلهم للتعليل، يشهدون: ما سنُوقع به من العذاب أو يشهدون عقابه أو عذابه حتّى يكون عبرة لمن بعده، أو يشهدون عليه أنّه هو مرتكب الجرم بتكسير الآلهة.
سورة الأنبياء [21: 62]
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} :
{قَالُوا أَأَنْتَ} : الهمزة همزة استفهام، وقدَّموا أنت، أي: الفاعل على الفعل لأنّ الفاعل مرتكب الجرم غير معروف، وهو الأهم والفعل واضح وهو تحطيم الآلهة وهم يبحثون عنه، ولو اهتموا بالفعل لقالوا: أفعلت هذا يا إبراهيم.
سورة الأنبياء [21: 63]
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْـئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} :
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} : قال إبراهيم، بل للإضراب الانتقالي، فعله كبيرهم هذا الّذي تركه سالماً، ولم يحطمه ويجعله جذاذاً كباقي الأصنام حتّى يُعزى إليه أنّه هو الّذي حطم بقية الآلهة، وفي ذلك توبيخ لهم واستهزاء.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى كبير الأصنام.
{فَسْـئَلُوهُمْ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب.
{إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} : إن شرطية، تحمل معنى الشّك أو النّدرة، وإبراهيم يعلم أنّهم لن يسألوا هذا الصّنم؛ لأنّهم ليسوا أغبياء، ولكن جاء بهذا الأسلوب الحواري ليبيِّن لهم جهلهم وغباوتهم ويلزمهم الحجة لعلهم يرجعون.
سورة الأنبياء [21: 64]
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} :
{فَرَجَعُوا} : الفاء للمباشرة.
{إِلَى أَنفُسِهِمْ} : أيْ: تنبهوا وعادوا إلى عقولهم ونطقوا بالحق.
{فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ} : الفاء للمباشرة، إنكم أنتم (أنتم تفيد التّوكيد).
{الظَّالِمُونَ} : المشركون والظّالمون لأنفسكم بعبادتكم الأصنام وليس غيركم، الظّالمون: جملة اسمية تدل على الثّبوت. وظالمون جمع ظالم، وكل من خرج عن دين الله هو ظالم لنفسه.
سورة الأنبياء [21: 65]
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} :
{ثُمَّ} : لتباين الصّفات بين معرفتهم الحق والعودة إلى الضّلال والغي.
{نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} : عادوا إلى ضلالهم وغيهم بعد ما عرفوا الحق واعترفوا بأنّهم الظّالمين وشبه سبحانه رجوعهم عن الحق بعد أن تبيَّن لهم إلى الباطل (عبادة الأصنام) بانقلاب الشّخص حتّى يصبح أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، أو نكسَ المريض: عاد إلى مرضه.
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} : قالوا لإبراهيم: لقد علمت ما هؤلاء، أيْ: كبيرهم أيْ: كبير الأصنام أو الأصنام الّتي أصبحت جذاذاً لا ينطقون.
سورة الأنبياء [21: 66]
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْـئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} :
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، أفتعبدون: الفاء للتوكيد، تعبدون من دون الله: من غير الله أو سواه.
{مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْـئًا} : ما النّافية، وتستعمل لغير العاقل أو العاقل أحياناً، لا ينفعكم شيئاً: لا النّافية، شيئاً: نكرة، لا ينفعكم أيُّ شيء مهما كان إذا عبدتموه.
{وَلَا يَضُرُّكُمْ} : تكرار لا النّافية للتوكيد، أيْ: ولا يضركم شيئاً، إذن لماذا تعبدون هذه الأصنام؟
سورة الأنبياء [21: 67]
{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :
{أُفٍّ لَّكُمْ} : أيْ: قبحاً لكم أو تعساً لكم، وأفٍّ صوت يدل على التّضجر. وجاءت أفٍ بالتنوين؛ أي: إني ضجرت منكم ضجراً عظيماً بلغ منتهاه.
{وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : الواو استئنافية، ولما: اللام لام الاختصاص، ما للعاقل وغير العاقل، ولمعنى العبادة: ارجع إلى الآية (106) من نفس السّورة للبيان، من دون الله: من غير الله.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ على عدم التّعقل والتّعجُّب من ترك التّفكير، ألا: أداة تنبيه وحضٍّ وتحمل معنى الأمر، على الموازنة بين البدائل والتّدبر للوصول إلى معرفة حقيقية، وهي أن الله هو الإله الحق وما يعبدون من دونه هو الباطل.
سورة الأنبياء [21: 68]
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} :
{قَالُوا حَرِّقُوهُ} : ولم يقولوا: احرقوه: حرِّقوه بالتّضعيف الدّال على المبالغة في الإحراق؛ أي: أحرقوه كاملاً يشمل الرأس والصدر والظهر والبطن والأطراف مما يدل على نار الحقد المتأججة في نفوسهم من إبراهيم بعد أن جعل أصنامهم جذاذاً ووصفهم بأنهم لا يعقلون. ارجع إلى الآية (24) من سورة العنكبوت للبيان.
{وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} : بالانتقام من هذا الّذي حطم وكَسرَ وفتت آلهتكم، فهم نسبوا المعركة بين إبراهيم والآلهة (الأصنام) ولم ينسبوا المعركة أنّها بينهم وبين إبراهيم عليه السلام.
{إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك، كنتم فاعلين: أيْ: تريدون حقّاً نصرتها، وجواب الشّرط محذوف، دل عليه الكلام المتقدم أيْ: إن كنتم ناصرين لها فانصروها وحرِّقوه، وفي سورة العنكبوت الآية (24){قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ، ففي هذه الآية ذكروا طريقتين للقضاء على إبراهيم عليه السلام بالقتل أو الإحراق بالنّار، ثمّ أجمعوا على الإحراق.
سورة الأنبياء [21: 69]
{قُلْنَا يَانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} :
في الكلام اختصار وحذف في الكلام فهم قاموا بجمع الحطب، ثمّ بنوا عليه بنياناً عالياً، ثمّ أوقدوا النّار، ثمّ رموا إبراهيم في النّار، كما ورد في سورة الصّافات الآية (97) وعندما عزموا على إلقائه في النّار:
{قُلْنَا يَانَارُ} : خاطب الله النّار مباشرة وناداها ربها: يا نارُ: كل منادى مبني على الضم معرفة ولو نصب النار قد تكون معرفة أو نكرة؛ أي: خاطب الله سبحانه نار معينة، وهي نار التي أوقدت لإحراق إبراهيم عليه السلام .
{كُونِى بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} : قيَّد حرَّها بسلام، ولو لم يقيِّد حرَّها بسلام لآذاه حرُّها، وقيَّد بردها بسلام، ولو لم يقيِّده، فربما البرد المطلق يؤذيه ويضره ويهلكه؛ أيْ: يا نار كوني ذات برد وسلام وقد يسأل سائل: كيف بردت النّار وهي ما زالت مشتعلة ملتهبة؟ الجواب: هو أن الله نزع منها خاصية الإحراق وأبقى لها خاصية الإضاءة والاشتعال؛ لأنّه سبحانه على كلّ شيء قدير.
سورة الأنبياء [21: 70]
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} :
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} : بإبراهيم عليه السلام كيداً: أيْ: إحراقه بالنّار أو قتله والكيد هو التّدبير الخفي المحكم لإيقاع المكروه بالغير من دون علمه.
{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} : الفاء تدل على المباشرة، الأخسرين: جمع أخسر على وزن أفعل ليدل على المبالغة في الخسران، فإبراهيم عليه السلام نصره الله تعالى، فأنجاه الله من النّار بعد أن ألقوه فيها، بينما قومه خسروا أنفسهم وأهليهم باستمرارهم على الشّرك، ولهم عذاب مقيم.
وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (97-98) من سورة الصّافات، وهي قوله تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} :
نجد في سورة الأنبياء الآية (70) أرادوا، في سورة الصّافات فأرادوا بزيادة الفاء الّتي تدل على السّرعة في تنفيذ الكيد من دون فاصلة زمنية أيْ: مباشرة.
وفي سورة الأنبياء فجعلناهم الأخسرين تناسب قولهم: انصروا آلهتكم فنصر الله تعالى إبراهيم وأنجاه من النّار وجعلهم هم وآلهتهم الأخسرين، وأمّا في سورة الصّافات فجعلناهم الأسفلين تناسب قولهم: ابنوا لهم بنياناً فألقوه في الجحيم، أيْ: من أعلى إلى أسفل فبدلاً من أن يكون إبراهيم عليه السلام الأسفل جعلناهم الأسفلين كأنّهم هم الّذين سقطوا من بنيانهم في النار.
سورة الأنبياء [21: 71]
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} :
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} : أيْ: إبراهيم عليه السلام ولوطاً، ونجيناه ولم يقل: وأنجيناه: نجيناه تعني: زمن النّجاة كان طويلاً، بينما لو قال: أنجيناه فذلك يعني زمن النّجاة استغرق زمناً قصيراً ونجيناه من ديار الكفر أرض بابل بالعراق بالهجرة مع زوجته وابن أخيه لوط إلى أرض الشام وفلسطين.
{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} : أرض فلسطين والشّام وما حولها، باركنا فيها: من البركة وتعني الزّيادة والنّمو، والبركة بركة مادية تعني: بلاد الخيرات والثّمار والزّروع، أو بركة معنوية وتعني: أرض النّبوة والرّسالات ومهبط الأنبياء.
سورة الأنبياء [21: 72]
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} :
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} : أيْ: لإبراهيم إسحاق الهبة عطاء من دون مقابل، ارجع إلى سورة آل عمران آية (8) للبيان.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} : لأنّ امرأة إبراهيم عليه السلام سارة كانت عجوز عقيم غير صالحة للإنجاب، فكان إسحاق عليه السلام هبة من الله سبحانه له، فقد دعا إبراهيم ربه قائلاً {رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصّافات: 100] قدَّم له الجار والمجرور للحصر أيْ: له خاصة.
{وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} : نافلة: أيْ: زيادة، أيْ: وهب له إسحاق ويعقوب زيادة ويعقوب هو ولد إسحاق أي: الحفيد أيْ: ولد الولد ونافلة؛ لأنّ إبراهيم لم يسأل ربه عن ولد الولد فكان زيادة؛ أي: نافلة.
{وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} : الواو واو الجمع وتعني: هؤلاء وغيرهم؛ أي: كلّ واحد من هؤلاء إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحِين وهناك غيرهم من الصالحين بكسر الحاء، وتعني: جمع صالح، ولم يقل: صالحَين بفتح الحاء أي: (فقط إسحاق ويعقوب)؛ أي: من الصالحين.
ولمعرفة معنى الصّالحين ارجع إلى الآية (130) من سورة البقرة للبيان.
سورة الأنبياء [21: 73]
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} : أيْ: جعلنا إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب، أئمة: جمع إمام والإمام قدوة يُقتدى بهم في الخير والصّلاح، وذلك استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام حين قال تعالى:{إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى} [البقرة: 124]. وفي الآية السابقة (72)(وكلاً جعلنا صالحين) وكرر في هذه الآية وجعلناهم للتوكيد والأهمية والشرف لهذا الجعل جعلهم أئمة بالإضافة إلى كونهم صالحين.
{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} : يرشدون النّاس بأمرنا بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنّهي ملتزمين بما أمرناهم به ولا يخالفونا.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ} : الوحي في اللغة الإعلام بالخفاء أيْ: سراً (الكلام الخفي) وفي الشّرع: هو ما يُلقي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من آيات وتعاليم دينية ومواعظ بواسطة الوحي جبريل أو الكلام من وراء حجاب. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمعرفة معنى أوحينا.
{فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} : الخير وهو الشّيء الحسن النّافع الحلال الطّيب.
{وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} : هذا يسمَّى عطف الخاص على العام؛ لأنّ فعل الخيرات يتضمن إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، واختار الله تعالى ذكر هاتين العبادتين؛ لأنّهما أهم العبادات وإقام الصّلاة يعني: بشروطها وأركانها وأوقاتها وخشوعها والدّوام عليها، وقال تعالى: وإقام الصّلاة بالتّذكير ولم يقل: وإقامة الصّلاة؛ لأنّ التّذكير أقوى من التّأنيث وإيتاء الزّكاة بشروطها وأوقاتها والمداومة عليها.
{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} : جمع عابد، عابدين من العبادة، ارجع إلى الآية (106) من نفس السّورة للبيان، وعابدين جملة اسمية تدل على الثّبوت.
سورة الأنبياء [21: 74]
{وَلُوطًا} : هو ابن هاران بن تارخ عمّه إبراهيم عليه السلام، ذكر في القرآن (27) مرة في (14) سورة.
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ} : قيل: هي معطوفة على {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} : وأيضاً آتينا لوطاً حكماً وعلماً.
{حُكْمًا} : تشمل النّبوة والحكم: القضاء والفتوى في الأمور الدنيوية والدينية.
{وَعِلْمًا} : العلم: الفهم بالدّين، أيْ: معرفة أمور الدّين الأحكام والشرائع.
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} : نجيناه ولم يقل: أنجيناه ليدل على أنّ عملية النّجاة استغرقت زمناً طويلاً ولم تكن صعبة.
{مِنَ الْقَرْيَةِ} : هي قرية سدوم والقرى المحيطة بها المسماة المؤتفكات، والقرية تعني: أهل القرية، الّتي كانت تعمل الخبائث:
أيْ: أهلها الّذين كانوا يعملون الخبائث الّتي ذكرها الله تعالى في قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت: 29].
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} : إنهم للتوكيد، كانوا قوم سوء: أصحاب أعمال سيئة ومعاصي، وقيل: السّوء كلّ معصية يقام عليها الحد في الدّنيا، والسّوء القبيح وهو ما يسوء إظهاره وله عاقبة سيئة، والسّوء: اسم مصدر والمصدر لا يجمع.
{فَاسِقِينَ} : خارجين عن طاعة الله تعالى، جمع فاسق، وفاسقين تدل على صفة الفسق ثابتة عندهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لمزيد من البيان.
سورة الأنبياء [21: 75]
{وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} :
{وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَا} : الرّحمة تعني النّبوة، وتعني الجنة، وتعني العيش في رحمة الله، أي: الإسلام والإيمان والنّعمة والسّعة في العيش والعصمة، وإضافة الرّحمة له سبحانه تعني: رحمة خاصة بالمؤمن، وهناك رحمة عامة للمؤمن والكافر.
{إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} : إنه للتوكيد، الصّالحين: جمع صالح والصّالح من قام بحق الله تعالى وحق العباد، والمؤهل لحمل الخلافة الإيمانية، ويمتاز بصلاح في العقيدة والأخلاق والسلوك والتربية ويقاوم الفساد بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
سورة الأنبياء [21: 76]
{وَنُوحًا} : الواو عاطفة على إبراهيم، ولقد آتينا إبراهيم ونوحاً إذ نادى.
{إِذْ} : ظرف زماني بمعنى حين.
{نَادَى} : إذ دعا على قومه بالهلاك فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
{مِنْ قَبْلُ} : إبراهيم ولوط.
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، أي: استجبنا له مباشرة، له: لدعائه وندائه، لمعرفة معنى استجبنا له: ارجع إلى الآية (84) من نفس السّورة.
{فَنَجَّيْنَاهُ} : الفاء تدل على المباشرة ونجاته استغرقت زمناً طويلاً لصنع السّفينة وإعدادها.
{وَأَهْلَهُ} : أولاده وزوجته.
{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} : الكرب: هو المكروه الّذي لا تستطيع دفعه غالباً عن نفسك ولا يستطيع أحد آخر دفعه إلا الله.
والكرب يعني: الغرق بالطوفان ويشمل الغم الشديد الّذي استمر طويلاً.
ما هو الفرق بين استجبنا له وأجبناه: الاستجابة تعني دائماً: القبول لما دعا إليه الدّاعي، أيْ: فيها وعد من الله سبحانه للداعين بالاستجابة لهم.
أما الإجابة فقد تكون بالإيجاب (القبول) أو الرفض.
سورة الأنبياء [21: 77]
{وَنَصَرْنَاهُ} : أيْ: نوح من القوم الّذين كذبوا بآياتنا، ونصرناه من القوم ولم يقل: على القوم، نصرناه من القوم تعني: نصراً كان من عند الله سبحانه من دون قتال أو معركة أو حرب، ولو قال: ونصرناه على القوم لكان ذلك يعني أنّه كانت هناك معركة وقتال بينه وبين قومه؛ لأنّ كلمة على تعني العلو والغلبة. وقال نصرناه، ولم يقل نجيناه؛ لأن نجيناه تعني: النجاة فقط له، وأما نصرناه: تدل على نجاته من عقاب خصمه؛ أي: نجيناه وأغرقنا خصمه.
{مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : بآياتنا: الباء للإلصاق، آياتنا: أيْ: كذبوا بآيات ربهم الدالة على التوحيد والإلوهية، وبآياتنا الكونية الّتي ذكرها الله سبحانه في سورة نوح (15-17):{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} .
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.
{كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} : ارجع إلى الآية (74) للبيان.
{فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب بالطّوفان أجمعين كبيرهم وصغيرهم من ذكر وأنثى إلا من آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.
سورة الأنبياء [21: 78]
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} : يعني: واذكر نوحاً إذ نادى من قبل واذكر داود وسليمان.
{إِذْ يَحْكُمَانِ} : إذ: ظرف زمان للماضي، يحكمان في الحرث: الحكم هو القضاء كلّ منهما حكم حكماً باجتهاد منه لا بوحي، وكلٌّ من داود وسليمان حكم بحكم مخالف للآخر، وتبيَّن أنّ حكم سليمان الابن كان أصوبَ من حكم الأب داود.
{فِى الْحَرْثِ} : في الزّرع، والزّرع يسمَّى حرثاً؛ لأنّ الحرث يسبق الزّرع ومن دون حرث لا يحدث زرعاً والحرث هو تقليب التّربة وتهويتها حتّى تصبح صالحة لعملية البذر ووصول الماء إلى البذرة.
{إِذْ نَفَشَتْ} : إذ ظرف للزمان الماضي تدل على الفجأة.
{نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} : انتشرت وتفرَّقت فيه غنم القوم.
والنّفش: قيل: الرّعي ليلاً، ورعت من دون راعٍ، ويبدو أنّ الغنم خرجت من حظيرتها ليلاً من دون علم صاحبها، وبقيت ترعى حتّى الصباح في الزّرع، فلم تبقِ منه شيئاً يصلح للحصاد؛ مما أدَّى إلى فساده، فاختصم صاحب الحرث (الزّرع) وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام، كما ذكر أهل التفسير.
فحكم داود لصاحب الحرث أن يأخذ الغنم ويصبح مُلكاً له بدلاً من زرعه الّذي أتلفه الغنم، وسأل سليمان الخصمين بماذا حكم داود فأخبروه بذلك، فقال: انصرفا معي فأتى داود فقال: يا نبي الله إنّك حكمت بكذا وكذا، وإنّي رأيت ما هو أرفق بالجميع فقال: ما هو؟ فقال: نعطي الغنم إلى صاحب الحرث (الزّرع) كي يستفيد من لبنها وأصوافها وأولادها إذا ولدت في ذلك الزّمن، ونعطي الأرض لصاحب الغنم كي يُصلحها ويزرعها حتّى تعود كما كانت، عندها يأخذ صاحب الغنم غنمه وصاحب الزّرع زرعه. هذا ما ذكره القرطبي في تفسيره
{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} : أيْ: حاضرين أو مراقبين.
سورة الأنبياء [21: 79]
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، فهمناها: الهاء تعود على الخصومة أو الدّعوى، فهمناها سليمان: خصَّ الفهم بسليمان والفهم هو تصور المعنى، أي: الإدراك الخفي للمسألة أو العلم بمعاني الكلام أو فطنة + علم، والعلم هو الإدراك سواء كان خفياً أو جلياً، أي: كلّ فاهِم لا يعني أنّه عالم وكلّ عالم هو فاهِم.
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} : وكلاً أيْ: داود وسليمان آتيناه حكماً وعلماً، حكماً: القدرة على حل الخصومات والقضاء في الدّعوى، وحكماً من الحكمة: الفهم وتدبر الأمور، وعلماً: علماً بأمور الدّين والفتوى والقضاء.
فكلاهما آتيناه حكماً وعلماً، فلا يظن أحد أنّ داود أقل علماً أو حكماً من ابنه سليمان، وما توصل إليه سليمان لا يقدح في ما توصل إليه داود، فالإنسان يمكن أن يخطئ في الاجتهاد، فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) وعلى الحاكم أو القاضي التّريث والنّظر في الدّعوى أو القضية من جميع جوانبها، وأنّ لكلّ حاكم أو قاض حكماً مبنياً على علمه وما توافر له من أدلة.
ولكل من المدَّعِي والمدَّعَى عليه حقٌّ، أو مشروعية الاستئناف، والنّقض في الحكم.
ثم بيَّن الله سبحانه طرفاً مما آتاهما الله تعالى إضافة إلى الحكم والعلم فقال:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} : وسخرنا من التّسخير وهو قهر المسخر، أو تذليله على فعل شيء، أو أمر لا يستطيع رفضه، وسخرنا: بصيغة الجمع للتعظيم. الجبال: يسبحن: وكما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
{وَالطَّيْرَ} : يسبحن وكلّ الحيوانات تسبح بحمد ربها.
وفي سورة ص الآية (18) ذكر لنا زمن التّسبيح فقال تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ} ، وقدَّم الجبال على الطّير؛ لأنّ تسخير الجبال وتسبيحها من عجائب القدرة الإلهية الّتي قلَّما يفكر بها العقل البشري المنحرف عن تسبيح الله تعالى في معظم الأوقات، فهذه الجبال الرّواسي، أو الكائنات الّتي يظنها الإنسان أنّها جمادات هي تفوق الكثير من البشر في عبادتها، وقد تكون أشرف من هؤلاء الّذين جحدوا بخالقهم وأنكروا تسبيحه، وتقديمها على الطّير؛ لأنّ الطّير من جنس الحيوان.
{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} : أيْ: قادرين على فعل هذا وغير هذا فلا يعجزنا شيء، وفيها معنى التّوكيد للتسخير.
سورة الأنبياء [21: 80]
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} :
{وَعَلَّمْنَاهُ} : أيْ: داود التّعليم بطريق الوحي.
{صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} : صناعة الدّروع، صنعة: هي الحرفة، لبوس: مشتقة من اللّباس الّذي يغطي الجسم.
وكلمة لبوس على وزن فعول صيغة مبالغة من كلمة لباس، لبوس من لباس الحرب؛ أي: الدّروع الّتي تلبس في الحرب، لكم: اللام: لام الاختصاص لكم خاصة.
{لِتُحْصِنَكُم مِنْ بَأْسِكُمْ} : أيْ: تحميكم من ضرب السّيوف، أو طعن الرّماح، واللام للتعليل، من بأسكم: البأس: الحرب؛ أيْ: تحميكم في حربكم مع عدوكم.
وقد بيَّن لنا في سورة سبأ الآية (10-11) كيف تتم صنعة لبوس، فقال تعالى:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ} ؛ أيْ: جعلنا له الحديد ليناً، أن اعمل سابغات؛ أيْ: دروعاً سابغات؛ أيْ: دروعاً تغطي صاحبها كاملة، وقدر في السّرد، السّرد النّسج؛ أيْ: لا تجعل الحلق واسعة، فلا تقي صاحبها فكان داود أوّل من صنع الدّروع والحِلق.
{فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} : هل استفهام بمعنى الأمر؛ أي: اشكروا الله المنعم الّذي سخر لكم الحديد، وغيره من المعادن، وصناعة ما يحفظكم ويقيكم من عدوكم.
سورة الأنبياء [21: 81]
{وَلِسُلَيْمَانَ} : الواو: عاطفة؛ أيْ: وسخرنا لسليمان: اللام لام الاختصاص.
{الرِّيحَ عَاصِفَةً} : الرّيح الشّديدة الهبوب يقال: عصفت الرّيح؛ أي: اشتدت، وعاصفة: مشتقة من العصف، وهو التبن، والفتات؛ أيْ: تحطم ما تمر عليه فتجعله كالعصف، وفي آية أخرى (36) من سورة (ص)، وصفها بأنّها ريح ناعمة فقال:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} ، إذن هذه الرّيح يمكن أن تكون ريح لينة، أو تتحول إلى عاصفة إذا احتاج لذلك، فالله سبحانه جمع لهذه الرّيح صفتين صفة العصف، وصفة الرّخاء في آن واحد.
{تَجْرِى بِأَمْرِهِ} : أيْ: بأمر سليمان عليه السلام ، يمنةً أو يسرةً بشدة أو لينٍ وتحمله في أسفاره.
{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} : أرض الشّام وفلسطين باركنا فيها، ارجع إلى الآية (71) من نفس السّورة.
{وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَالِمِينَ} : بسرعة الرّيح {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12]. عالمين بما يحدث في مُلك داود وسليمان.
سورة الأنبياء [21: 82]
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} : وسخرنا لسليمان الرّيح عاصفة ومن الشّياطين، ومن الواو عاطفة، من بعضية، بعض الشّياطين.
{مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} : في البحار والغوص هو النّزول لقعر البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، له: أيْ: خاصة له لسليمان، اللام لام الاختصاص، وليس لغيره.
{وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} عملاً آخر (غير الغوص)، وذكر هذا العمل في سورة سبأ الآية (13)، وهو البناء فقال تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} ، وفي سورة ص الآية (37-38):{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ} .
{وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} : حافظين لهم من الزّيغ عن أمر سليمان؛ أي: الإفساد في الأرض {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12].
سورة الأنبياء [21: 83]
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} :
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أيْ: واذكر أيوب إذ نادى، أو حين نادى ربه، نادى ربه: دعا ربه، النّداء هنا بمعنى الدّعاء، النّداء من أدنى إلى أعلى يسمَّى دعاءً.
{أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ} : أنّي: للتوكيد، مسني: من المس والمس هو أخف درجات اللمس، والضُّرُّ: هو ما يصيب الإنسان بجسمه، أو ماله، أو ولده حيث فقد ماله أو ولده أو أصيب بمرض في جسده، وفي الآية (41) من سورة ص {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، نسب ما أصابه إلى الشّيطان تأدباً مع الله تعالى. وهناك فرق بين الضُّر بضم الضاد، والضَّر بفتح الضاد، الضَّر: مصدر يقابل النفع.
{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : وأنت يا رب أرحم الرّاحمين، جميعاً؛ أيْ: أرحم الرّاحمين من خلقك فمن فضل الله على خلقه وصفهم بصفة من صفاته وهي الرّحمة.
سورة الأنبياء [21: 84]
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} : الفاء: للمباشرة والتّوكيد. استجبنا له: أجبنا له دعاءَه أو نداءَه، استجبنا له: من الاستجابة وتعني: قبلنا دعاء أيوب، ولم يقل فأجبنا له الإجابة فقد تعني بالمخالفة أو يجيب بالقبول.
{فَكَشَفْنَا} : أيْ: أزلنا ورفعنا عنه ضره بالشّفاء من مرضه.
{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا} : أعطيناه مثل أهله عدداً، وقيل: وزيادة (مثل آخر) بأن ولد له ضعف ما كان عنده من الأولاد والإيتاء غير العطاء ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ للبيان.
رحمة من عندنا: أخص من رحمة منا، رحمة من عندنا تخص المؤمنين أو المقربين، وأمّا رحمة منا فهي رحمة عامة للمؤمن والكافر.
{وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} : وتذكرة لغيره من العابدين باللجوء إلى الله حين المحن وعظة لهم بأن يصبروا على ما أصابهم، للعابدين: اللام لام الاختصاص، والعابدين: جمع عابد والعبادة ارجع إلى الآية (106) للبيان، والفرق بين ذكرى وذكرٌ: ذكرى تأتي في سياق الهداية (بصيغة التّأنيث) وذكرٌ للعالمين يأتي أو يستعمل سياق الدّعوة والتّبليغ (بصيغة التّذكير)، وذكرٌ أقوى وأبلغ من ذكرى.
سورة الأنبياء [21: 85]
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} :
واذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل:
{وَإِسْمَاعِيلَ} : صبرَ وهل هناك أعظم صبراً من إسماعيل الّذي صبر حين أخبره أبوه إبراهيم أنّه رأى في المنام أن يذبحه، فقال:{يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصّافات: 102]، وصبر على الإقامة في بلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بشر (مكة).
{وَإِدْرِيسَ} : أول من خط بالقلم، وتعلم خياطة الملابس، واستخدم النّجوم لمعرفة الاتجاهات.
{وَذَا الْكِفْلِ} : قيل: كان يصلي لله كثيراً، وقيل: هو ابن أيوب، وقيل: سُمِّي بذلك الاسم؛ لأنّ الله تكفل له سعيه وعمله بضعف أجر الأنبياء الّذين كانوا في زمانه.
{كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} : صابرين على طاعة الله وصابرين في دعوتهم على الاضطهاد والإيذاء، ولما أصابهم في سبيل الله تعالى.
سورة الأنبياء [21: 86]
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} :
ارجع إلى الآية (75) من نفس السّورة لبيان معنى في رحمتنا، وإلى الآية (75) من لبيان معنى الصّالحين.
سورة الأنبياء [21: 87]
{وَذَا النُّونِ} : أيْ: صاحب الحوت سيدنا يونس عليه السلام من قرية نينوى بالعراق، والنون الحوت: السّمك الكبير مثل الحيتان الزرقاء ذات الوزن العظيم، وليس لها أسنان حادة، وتتنفس الأوكسجين، واستعمال (ذو النّون) أو (ذا النّون) أشرف من لفظ صاحب الحوت، وأبلغ في الثّناء والمعنى.
والسّؤال: لماذا ذو أفضل من صاحب؛ لأنّ (ذو) تضاف للتابع وصاحب تضاف للمتبوع والتّابع أشرف أو أفضل من المتبوع.
{إِذْ} : إذ ظرف للزمن الماضي.
{ذَهَبَ مُغَاضِبًا} : ذهب تاركاً قومه بعد أن أغضبوه، وهناك فرق بين غاضب: وهو الّذي يغضب دون أن يغضبه أحد يغضب بنفسه، ومغاضب: هو الّذي يُغضبه أو يسبب غضبه إنسان آخر (يُثير غضبه).
فقوم يونس أغضبوه؛ لأنّهم كذبوه ولم يؤمنوا، فغضب على عدم إيمانهم ولما اشتد به الغضب ترك قومه من دون أمرٍ أو إذنٍ من الله، ذهب مغاضباً: أيْ: خرج من عند قومه، مغاضباً: اسم فاعل للمبالغة، ولو قال: غاضباً، أيْ: لم يسبب غضبه أحدٌ إلا نفسه.
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} : أن للتوكيد، لن نقدر عليه: ظن: رجح أنّ الله سبحانه لن يُضيق عليه في الأرض بعد أن ترك قومه من دون أمر إلهيٍّ حين علم أنّ العذاب سيحل على قومه، خرج من عندهم، ولم يعلم أنّهم تابوا إلى الله سبحانه بعد خروجه وقبل الله توبتهم ورفع عنهم العذاب، لن: نافية للمستقبل القريب أو البعيد. ولمعرفة ما حدث له بعد تركه لقومه ارجع إلى سورة الصافات الآيات (139-148): {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَـئَامَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .
{فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ} : وهو في فم الحوت في الظّلمات: جمع ظلمة: ظلامات البحر فقد اكتشف العلماء أكثر من عشر ظلمات للبحر. ارجع إلى سورة النور آية (40) للبيان، وظلمة الليل، وظلمة فم الحوت.
{أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} : أن: للتوكيد. بدأ بالتّوحيد لا إله إلا أنت، ثمّ بالتّنزيه سبحانك، ثمّ بالاستغفار والاعتراف بالذّنب، إني كنت من الظّالمين.
روى البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفضِّلوني على يونس ابن متى، فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر» في فم الحوت {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
فلولا: حرف امتناع؛ أيْ: لكونه كان من المسبحين لم يلبث في بطنه (أي: الحوت) وخرج، وإلا لمات يونس ونزل إلى بطن الحوت، وبعد أن يموت الحوت أيضاً يصبح بطن الحوت قبراً له ويبقى في قبره إلى يوم يبعثون. ارجع إلى سورة الصافات، وسورة القلم لمزيد من البيان.
إني كنت من الظّالمين: حين تركت قومي مغاضباً دون إذن منك.
سورة الأنبياء [21: 88]
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُجِى الْمُؤْمِنِينَ} :
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} : الفاء: للتعقيب والسّرعة، استجبنا لدعائه وقبلنا توبته واستغفاره، ارجع إلى الآية (84) السّابقة لمعرفة معنى استجبنا له.
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} : أخرجناه من فم الحوت ومن الظلمات وأعظم غم هو مخالفة أمر الله والشّعور بأنّ الله غير راضٍ عن العبد.
{وَكَذَلِكَ نُجِى الْمُؤْمِنِينَ} : أيْ: مثل ما أنجينا يونس عليه السلام ننجي أيَّ مؤمن يدعونا، يدلُّ ذلك على أنّه ما من مؤمن يصيبه أيُّ كرب أو غمٍّ فيدعو الله بإخلاص إلا استجاب له ربه، ونجَّاه من كربه وغمه.
سورة الأنبياء [21: 89]
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} :
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} : واذكر زكريا إذ نادى ربه (دعا ربه).
{رَبِّ لَا تَذَرْنِى فَرْدًا} : أيْ: لا تتركني وحيداً بلا ولد يرثني، وذكر ذلك في سورة مريم الآية (5-6){فَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ارجع إلى سورة مريم الآية (2-10).
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} : أي: الباقين بعد فناء خلقك فالمُلك مُلكك وأنت مالك المُلك في الدّنيا والآخرة.
سورة الأنبياء [21: 90]
{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} : ارجع إلى الآية (84) السّابقة.
{وَوَهَبْنَا} : ووهبنا من الهبة، ارجع إلى سورة آل عمران الآية (8).
{لَهُ يَحْيَى} : له خاصة، اللام لام الاختصاص، يحيى: ارجع إلى الآية (39) من سورة آل عمران.
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} : أيْ: جعلناها صالحة للولادة بعد مرضها بالعقر؛ أيْ: أعدنا لها القدرة على التّخصيب والحمل.
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد، وتعود على المذكورين من الأنبياء عليهم السلام بما فيهم زكريا.
{كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ} : يسارعون في فعل الخيرات: الخير هو كلّ حلال طيب، حسن نافع من قول أو فعل، يسارعون في، ولم يقل: يسارعون إلى الخيرات.
أيْ: إنّهم كانوا سابقاً في فعل الخيرات ولا زالوا يسارعون في فعل الخيرات، أمّا يسارعون إلى الخيرات فتعني لم يكونوا يفعلون الخيرات، والآن بدؤوا بذلك، يسارعون ولم يقل: يسرعون، يسارعون تعني: يسرعون بشدة لا يدَّخرون جهداً يسارعون بأقصى طاقاتهم ويسارع بعضهم بعضاً.
{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} : يدعوننا: من الدّعاء والعبادة، رغباً: حباً وطمعاً في رحمتنا، ورهباً: خوفاً من عذابنا أو خشيةً منا.
{وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} : من الخشوع، والخشوع يكون في الجوارح، الصّوت والبصر والقلب، ويعني: الإخبات، أمّا الخضوع: فهو اللين والانقياد ويكون في الجسم، أيْ: لنا خاشعين في صلاتهم ودعائهم وقلوبهم وأبصارهم وسمعهم.
سورة الأنبياء [21: 91]
{وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} : واذكر مريم بنت عمران في عداد عبادنا الصّالحين، أحصنت فرجها: الإحصان له أربعة معانٍ: الزّواج، والإسلام، والعفة، والحرية، أحصنت فرجها: أيْ: عفت وصانت فرجها عن الحرام وعن الحلال أيضاً.
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} : الفاء للترتيب الذّكري أو التّوكيد، نفخنا: تعني: بأمر من الله إلى جبريل، وجاء بضمير الجمع للتعظيم ليدل على عظم الأمر، وقد تحمل معنى اشتراك جبريل في عملية النفخ التي كانت بأمر من الله سبحانه، كما قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم17-19].
ولنقارن هذه الآية فنفخنا فيها من روحنا مع الآية (12) من سورة التّحريم {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} .
فيها تعود إلى مريم، وفيه تعود إلى عيسى عليه السلام الّذي في رحمها، نفخنا فيها أولاً لتحمل (لكي يبدأ الحمل بعيسى)، ثم نفخنا فيه (في عيسى) الروح، وذلك كما بينت الأحاديث بعد (42) ليلة، أو في حديث آخر بعد (120) يوماً، نفخنا فيها عن طريق جيبها (درعها أو ثوبها). أما فيه: تعود إلى عيسى نفخنا فيه الروح بصورة مباشرة أو فيه تعود إلى حبيب درعها، والله أعلم.
{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} : آية: معجزة أو بينة أو دلالة على قدرة الله سبحانه أن يولد عيسى عليه السلام من دون أب وأن يتكلم في المهد أو أن تلد مريم من دون أن يمسها بشر، للعالمين: اللام لام الاختصاص، العالمين: الجن والإنس والملائكة يتحدثون بها.
وفي سورة مريم الآية (21) قال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} الجعل هو التّصيير آية للناس؛ أيْ: أبرزه آية للناس؛ أيْ: هو وحده آية للناس ومريم وابنها آية للعالمين.
ولنقارن الآية (91) من الأنبياء {فَنَفَخْنَا فِيهَا} ، أو: الآية (12) من سورة التحريم {فَنَفَخْنَا فِيهِ} ، مع الآية (29) من سورة الحجر {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى} يعني: آدم عليه السلام ، النّفخ في آدم من الله تعالى وحده فهو أعجب من النّفخ في عيسى عليه السلام : النّفخ في عيسى كان عن طريق جبريل عليه السلام .
في هذه الآية (91) من سورة الأنبياء قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} وفي الآية (50) من سورة المؤمنون قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ، في سورة الأنبياء قدّم أمّه (مريم) على عيسى؛ لأن الآيات جاءت في سياق الحديث عن مريم فقدَّم أمه وإنّ ابنها أفضل منها قربى إلى الله، وفي سورة المؤمنون آية (50) قدَّم عيسى على أمّه؛ لأن السّياق في الحديث عن الرّسل، فقدَّم عيسى على أمّه.
سورة الأنبياء [21: 92]
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} :
{إِنَّ هَذِهِ} : إنّ للتوكيد، هذه: الهاء للتنبيه اسم إشارة.
{أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : الأمة هنا في هذه الآية تعني الشّريعة والملة، أيْ: هذه شريعتكم أو ملتكم ملة واحدة، أو دين واحد وهو دين الإسلام أو ملة إبراهيم حنيفاً، واحدة: تفيد التّوكيد.
{وَأَنَا رَبُّكُمْ} : خالقكم ومربيكم ورازقكم، وأنا بصيغة المفرد للدلالة على التّوحيد.
{فَاعْبُدُونِ} : الفاء فاء السّببية، اعبدون: الخطاب موجَّه إلى سائر الخلق بما فيهم الأنبياء والرّسل، ولو كان الخطاب موجَّه إلى الأنبياء والرّسل لقال تعالى: فاتقون، كما قال تعالى في الآية (51-52) من سورة المؤمنون:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} والتّقوى تضم العبادة وأعلى درجة من العبادة. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لبيان معنى العبادة. وارجع إلى سورة ياسين آية (61) للمقارنة بين فاعبدون، وإن اعبدوني.
سورة الأنبياء [21: 93]
{وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} :
الخطاب في هذه الآية موجَّه إلى الأمم، وليس إلى الرّسل؛ لأنّ الرّسل حاشا أن يتفرَّقوا، وما دام ربكم واحد ودينكم أو شريعتكم واحدة فلم تتفرَّقوا في الدّين وتكونوا شيعاً وأحزاباً أيها النّاس.
{وَتَقَطَّعُوا} : تفرَّقوا واختلفوا أو أصبحوا أمماً مختلفة أو أحزاب وشيع في الأمة الواحدة بسبب الأهواء والجهل والمصالح الفردية كلّ حزب بما لديهم فرحون.
{أَمْرَهُم} : أيْ: دينهم أو ملتهم.
{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} : كل الأمم والأحزاب أو الفرق، إلينا: تقديم إلينا يدل على الحصر؛ أيْ: إلينا وحدنا، راجعون: للحساب والجزاء.
انتبه إلى الانتقال من صيغة المخاطب في الآية (92) إلى صيغة الغائب في الآية (93)، أصل الكلام: إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، وتقطعتم أمركم بينكم، عدل عن هذا إلى قوله: وتقطعوا أمرهم بينهم، للتنبيه أو للفت انتباه السّامع إلى الفعل الشّنيع الّذي فعلوه وهو التّفرق في الدِّين.
ولمقارنة هذه الآية (93){وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} والآية (53) من سورة المؤمنون: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} :
في سورة المؤمنون قال: فتقطعوا بينهم زبراً: الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، أيْ: مباشرة تفرَّقوا وتقطعوا أمرهم بينهم، ومن دون فاصل زمني وأضاف كلمة (زبراً) تفيد التّوكيد توكيد التّفرق؛ مما يدل على أنّ المخاطبين في سورة المؤمنون مبالغين في التّفرق، أيْ: أشد تفرقاً وكفراً من المخاطبين في سورة الأنبياء.
سورة الأنبياء [21: 94]
هذه الآية تتمة للآية السّابقة.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} : من ابتدائية، يعمل من الصّالحات ولم يتشيع أو يتحزب أو يفرق دينه ويعمل من الصّالحات، أيْ: الأعمال الصّالحة من الأقوال والأفعال، وما جاءت به الرّسل وهو مؤمن، أيْ: العمل الصّالح المقرون بالإيمان.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : هو ضمير فصل للتوكيد على كونه مؤمناً.
{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا نافية للجنس.
{كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أيْ: لن نبخسه أو نجحده حقه أو ثوابه ولن نضيع سعيه، واللام في لسعيه للتوكيد. كفران: مصدر كفر على وزن فعلان صيغة مبالغة وأصل كفر: ستر.
{وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} : وإنا للتعظيم، ورسلي كاتبون له ذلك السّعي في صحائف أعماله؛ لكي يثاب عليه، وقدَّم له على (كاتبون) لتفيد التّوكيد. كاتبون: جملة اسمية تفيد الثّبوت، أيْ: نكتب له أعماله باستمرار بلا انقطاع.
سورة الأنبياء [21: 95]
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} :
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} : أيْ: محرَّم على قرية، أيْ: أهل قرية أهلكناها، أيْ: أهلكناهم بذنوبهم (لأنّها كذبت الرّسل ولم تؤمن).
{أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} : أنّهم للتوكيد، لا يرجعون: لا نافية تفيد التّوكيد، يرجعون: لا يرجعون إلى الدّنيا لكي يؤمنوا أو يستدركوا ما فرطوا في جنب الله، أو لا يُعقل أن يتركهم من دون حساب في الآخرة أو يظنوا إهلاكهم في الدّنيا يكفي، وإنّهم لن يعذبوا في الآخرة.
سورة الأنبياء [21: 96]
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} :
لا يرجعون: حتّى تأتي السّاعة وأشراطها كخروج يأجوج ومأجوج.
{حَتَّى} : حرف لنهاية الغاية.
{إِذَا} : ظرفية للمستقبل شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} : هم قبيلتان من جنس الإنس موجودتان وراء السّد الّذي بناه ذو القرنين وسيفتح لهم الرّدم (السّد) قبيل السّاعة، وتخرج هذه الأقوام لتعيث في الأرض الفساد والفتنة.
{وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} : الحدب: المكان المرتفع من الأرض يخرجون من هضاب ومرتفعات شمال الصّين، كما تشير التفاسير.
{يَنْسِلُونَ} : نَسلَ في مشيه، أيْ: أسرع، ينسلون: يخرجون مسرعين. وينسلون: في الأصل تستخدم لمشي الذئب السريع الجائع ليبحث عن طعام، وهكذا سيكون حال قوم يأجوج ومأجوج كالذئاب الجياع يأكلون الأخضر واليابس.
سورة الأنبياء [21: 97]
أيْ: إذا فتحت يأجوج ومأجوج.
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} : الواو في كلمة واقترب للتوكيد، أيْ: حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، الوعد الحق: هو يوم الحساب والجزاء يوم القيامة.
{فَإِذَا} : إذا ظرف للزمن المستقبل والفجائية.
{هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : شخص بصره: انفتحت عيناه فلا تطرف أو لا تغمض بالأجفان من الخوف والفزع والحيرة من أهوال ما يرونه بعد خروجهم من الأجداث، وتقديم شاخصة أبصار على كلمة الّذين كفروا، ولم يقل: فإذا الّذين كفروا شاخصة أبصارهم تدل على أنّ أبصارهم خاصة تصاب بالشّخوص دون غيرهم، وأنّها لا تقوم إلا بالشّخوص.
{يَاوَيْلَنَا} : يا هلاكنا والويل: الهلاك وياء النّداء للتنبيه، أيْ: يا ويل احضر وأهلكنا فنرتاح. ارجع إلى الآية (46) من نفس السّورة لبيان معنى الويل. أو تعني: حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق قالوا: يا ويلنا.
{قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} : قد حرف للتحقيق والتّوكيد، كنا: في الحياة الدّنيا، في غفلة: في ظرفية، غفلة: أيْ: غافلين، أيْ: لم يخطر على بالنا أن نفكر أو نستعد لهذا اليوم، يوم الحساب، أو الوعد الحق. ارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان في معنى الغفلة.
{بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} : بل للإضراب الانتقالي، كنا ظالمين: اعترفوا بظلمهم آنذاك، فلن تنفعهم معذرتهم ولا هم يستعتبون، ظالمين لأنفسنا وظالمين جملة اسمية تدل على الثّبوت، ولمعرفة معنى الظلم ارجع إلى سورة البقرة آية (54).
سورة الأنبياء [21: 98]
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} :
بعد اعترافهم بظلمهم وبعد أن يقضي الله تعالى في أمرهم يؤمر بهم إلى النّار وما كانوا يعبدون.
{إِنَّكُمْ} : أيّها المشركون والكفرة.
{وَمَا تَعْبُدُونَ} : ما تستعمل لغير العاقل (أي: الأصنام)، أو الطاغوت أو الأوثان، وما قد تستعمل لصفات من يعقل، أو للسؤال عن صفة من يعقل كأن تقول ما عيسى أو عزير أو الملائكة.
ولكن عيسى والعزير والملائكة هؤلاء سبقت لهم الحسنى من الله وأولئك عنها مبعدون كما بينت الآية (101) من نفس السورة؛ لأنّهم لم يكونوا السّبب في إضلال أو شرك أي إنسان.
{حَصَبُ} : صغار الحجارة البحص، حصب جهنم، أي: المشركون والكفرة وأوثانهم (أصنامهم)، وإبليس وأعوانه من الشّياطين والطّواغيت الكلّ حصب جهنم، ولم يقل: حطب جهنم؛ لأنّ الحصب في اللغة يشمل الحطب وكلّ ما يلقى في النّار من غير الحطب. وقال قتادة حصب جهنم: حطب جهنم يقذفون بها.
ولذلك لم يقل: إنّكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم، فهذه الأصنام أو الأوثان، وما يلقى في النّار سوف تتحطم حتّى تصبح حجارة صغيرة يقذف بها في النار.
{أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} : أنتم للتوكيد، لها: اللام لام الاختصاص، واردون: داخلون فيها، الورود هنا يعني الدّخول، بينما الورود في الآية (71) من سورة مريم لا يعني الدّخول، بل المرور عليها أو رؤيتها، والأصنام في الحقيقة لا ذنب لها، وهي لا تعقل، والحكمة من دخولها النّار مع عبدتها هي لبيان كذب من اتخذها آلهة، وبيان أنّها لا تنفع ولا تضر، ولا تشفع ولا تقرِّب إلى الله زلفى.
سورة الأنبياء [21: 99]
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} :
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً} : أي: الأصنام آلهة حقّاً كما تزعمون.
{مَا وَرَدُوهَا} : ما دخلوها وألقوا فيها، أيْ: لحالت هذه الأصنام من دخول عابديها النّار، ولكنها آلهة باطلة زائفة لا تضر ولا تنفع عابديها.
{وَكُلٌّ} : الأصنام وعابديها.
{فِيهَا} : أيْ: في النّار.
{خَالِدُونَ} : الخلود يعني بقاء الاستمرار، ويبدأ من زمن دخولها إلى ما لا نهاية.
سورة الأنبياء [21: 100]
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} :
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص، والضّمير يعود على المشركين عبدة الأصنام.
{فِيهَا} : أيْ: في النّار.
{زَفِيرٌ} : ولم يذكر شهيقاً؛ لأنّ عملية التّنفس تحتاج إلى شهيق يتبعه زفير، في الشّهيق يبتلع الأوكسجين، وفي الزّفير يطرح ثاني أكسيد الكربون، ويبدو أن عملية التّنفس في جهنم مقتصرة على الزّفير دون الشّهيق، فلا يدخل أوكسجين إلى الرّئتين؛ مما يؤدي إلى ضيق في التّنفس وشعور بالاختناق تدريجياً، ثمّ الشعور بالموت والهلاك، وهذا نوع من أنواع العذاب الكبرى.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} : لا يسمعون من شدة غليانها وحسيسها؛ أيْ: صوت النّار أو لأنّهم صمٌّ لا يسمعون، وهذا نوع آخر من العذاب، كما قال تعالى في سورة الإسراء آية (97):{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} .
سورة الأنبياء [21: 101]
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} :
{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ: للتوكيد، الذين: اسم موصول يفيد التّعظيم والمدح، وهناك من قال: إن في هذه الآية تعني إلا، أيْ: إلا الّذين سبقت لهم منا الحسنى.
{سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} : من أهل الطاعة والإيمان، وقيل: المسيح وعزير. الحسنى: قيل: هي الجنة والحسنى مؤنث الأحسن، أي: المبشرون بالجنة.
{أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} : أولئك: اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى بعد منزلتهم، عنها: عن النّار، مبعدون: أيْ: ناجون.
سورة الأنبياء [21: 102]
{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} :
{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} : لا النّافية، يسمعون حسيسها: تعود على الّذين سبقت لهم من الحسنى، حسيسها: الحسيس هو الصّوت الّذي يُحس من حركة لهبها أو اشتعالها، أو ما ينبعث منها من أصوات حينما تشتعل، وقيل: الحسيس الصّوت الّذي تسمعه من شيء يمرُّ قريباً منك.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{فِى مَا} : في ظرفية، ما لغير العاقل اسم موصول بمعنى الّذي.
{اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ} : أيْ: هم فيما يشتهونه من نعيم الجنة.
{خَالِدُونَ} : ماكثون والخلود يعني: البقاء والاستمرار، ويبدأ من زمن الدّخول.
سورة الأنبياء [21: 103]
{لَا يَحْزُنُهُمُ} : لا النّافية، يحزنهم: يخيفهم أو لا يعتريهم رعب أو قلق من الفزع الأكبر.
{الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} الناتج عن النّفخة الثّانية النّفخ في الصور حين يقومون من قبورهم للبعث والحساب.
{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : تستقبلهم الملائكة بالبشارة بعد خروجهم من قبورهم لكي تطمئنهم لئلا يصابوا بالخوف والفزع.
{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} : في الدّنيا لنيل الأجر الكبير وهو الجنة، أو يوم القيامة، أو يوم الحساب الّذي كنتم توعدون في الدّنيا.
سورة الأنبياء [21: 104]
{يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ} : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]؛ أي: تبديلها أن تطوى، أو تطوى كي تبدل.
{نَطْوِى السَّمَاءَ} : كقوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، والسّماء تشمل السّموات السّبع.
{كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} : أيْ: كطي الصّحيفة على ما كتب فيها (أو الصّحف على ما كتب فيها).
في ذلك اليوم نطوي السّماء كما نطوي السّجل للكتب (صحف أعمال العباد)؛ أيْ: نطوي كلاهما أو نطوي أحدهما كما نطوي الآخر، وطي السّماء تفسيره العلمي كما تشير الدراسات العلمية أن التمدُّد الكوني لن يستمر إلى الأبد من دون توقف.
وسوف تحدث تغيُّرات في القوى الذرية والكهرومغناطيسية وقوى الجاذبية تؤدِّي إلى توقف هذا التمدُّد لفترة زمنية بعدها تبدأ المجرات بالتقلص، ويحدث جذب داخلي لها، فتقترب من بعضها وتتداخل تدريجياً وتتسارع.
وهكذا ليعود الكون إلى الحالة الّتي كان عليها جرماً واحداً عندما حدث الانفجار الكبير، وهذا ما تشير إليه هذه الآية.
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} : أيْ: هذا الكون الّذي خلقه الله السّموات السّبع والأرضين السّبع بما فيها النّجوم والمجرات والشموس والأقمار والمذنبات وكل جرم سماوي أو أرضي، والّتي بدأت أو تشكلت بالانفجار العظيم الّذي ذكره الله سبحانه في سورة الأنبياء آية (30) لهذا الجرم الصغير الهائل في المادة والطاقة، وتحول إلى دخان، خلق الله تعالى من هذا الدخان السّموات والأرض.
وكل الأجرام ستطوى وتحول مرة أخرى إلى جرم صغير متناهٍ في الطاقة والمادة.
وبعدها سوف يُفجِّر ربنا هذا الجرم من جديد يتحوَّل إلى دخان يخلق لنا ربنا منه سماءً جديدة وأرضاً جديدة أكبرَ بكثير من السّموات السّبع والأرض الحالية، حتّى تتسع للبلايين البشرية الّتي خلقها الله سبحانه من زمن آدم إلى يوم القيامة.
وسنبعث من هذه الأرض الجديدة الّتي فيها كلّ ذرات الأرض الحالية وبقايا البشر، أيْ: عجب الذنب الخاص بكل مخلوق والحاوي على صفاته الوراثية يبعث للحساب والجزاء.
{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} : إنا للتعظيم، كنا فاعلين، أيْ: نُعيد الخلق بالبعث كما بدأنا أوّل مرة، فاعلين: قادرين على فعل ذلك ولا يعجزنا شيء.
سورة الأنبياء [21: 105]
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ} : إما زبور داود أو الزّبور يُراد به جنس الكتاب، ويطلق على كلّ الكتب المنزلة مثل الزّبور والتّوراة والإنجيل والقرآن. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.
{مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} : أم الكتاب أو اللوح المحفوظ أو القرآن الكريم، أيْ: كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون.
{أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا} : أرض الجنة؛ لقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]، أو الأرض العادية يرثها عبادي الصّالحون بالاستخلاف والتّمكين في الدّنيا أو كلاهما معاً.
{عِبَادِىَ} : ارجع إلى الآية (186) من سورة البقرة للبيان، ومعرفة الفرق بين عبيد عبادي عباد.
{الصَّالِحُونَ} : ارجع إلى الآية (75) من نفس السّورة.
سورة الأنبياء [21: 106]
{إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} :
{إِنَّ فِى هَذَا} : إنّ: للتوكيد، في ظرفية، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم يشير إلى القرآن الكريم.
{لَبَلَاغًا} : اللام للتوكيد، والتّعليل. لبلاغاً: البلاغ له معنيان: الكفاية والإيصال؛ أيْ: هذا القرآن: كفاية لقوم عابدين أو ما جاء في هذا القرآن هو البلاغ الكافي الّذي يجب أن يصل ويعلمه القوم العابدون.
لقوم: اللام لام الاختصاص.
{عَابِدِينَ} : من العبادة وهي طاعة العابد للمعبود فيما أمر ونهى، ولها منهج افعل أو لا تفعل والعبادة لها جزاء، ولا تكون إلا للخالق، ولا بُدَّ معها من معرفة المعبود. عابدين: جمع عابد؛ أيْ: طائعين. ارجع إلى سورة النحل آية (73) للبيان المفصل لمعنى العبادة.
أو في هذه القرآن ما فيه الكفاية من البلاغ، أيْ: من الشّرائع والأحكام والأوامر والنّواهي والأخبار والمواعظ المهمة للذين يريدون عبادة ربهم والوصول إلى الغاية وهي رضوان الله وجنته.
سورة الأنبياء [21: 107]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} :
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} : ما النّافية، أرسلناك: ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لبيان معنى أرسلناك وأرسلناك تدل على التشريف.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} : الرحمة: تكون عامة للناس كافة، أو الرأفة خاصة بالمؤمنين رحمة للعالمين، اللام لام الاختصاص، العالمين: الإنس والجن والملائكة والحيوان والنّبات والجماد. وتعريف الرحمة: كل ما يجلب نفعاً أو يدفع ضراً، وتعني: الوقاية؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مرسلة من الرحمن الرحيم للعالمين.
سورة الأنبياء [21: 108]
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} :
{قُلْ إِنَّمَا} : قل لهم يا محمّد، إنما: كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{يُوحَى إِلَىَّ} : من الوحي، ارجع إلى الآية (163) من سورة النّساء.
{أَنَّمَا} : للحصر والقصر.
{إِلَهُكُمْ} : معبودكم إله واحد لا إله إلا هو لا شريك له.
{إِلَهٌ وَاحِدٌ} : ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} : للاستفهام يفيد الأمرَ والحثَّ، أيْ: أسلموا، أو ألا يكفي هذا القرآن وإرسال الرّسول صلى الله عليه وسلم إليكم لتُسلموا.
سورة الأنبياء [21: 109]
{فَإِنْ} : الفاء: للتفصيل، إن شرطية تفيد الشّك، أو احتمال الحدوث.
{تَوَلَّوْا} : أعرضوا وانصرفوا عنك ولم يؤمنوا بك ويصدقوك.
{فَقُلْ آذَنتُكُمْ} : آذنتكم من أذن بمعنى أعلمَ، وقد كثر استعمال ذلك في الإنذار، وأصل الإعلام هو الإذن بالكلام، آذنتكم، أيْ: أعلمتكم.
{عَلَى سَوَاءٍ} : أيْ: صرت أنا وأنتم على سواء، أي: استوينا في العلم بذلك أو أخبرتكم جميعاً، ولم أخصَّ منكم أحداً دون الآخر، فأنتم سواء في الإعلام، أو أخبرتكم على سواء وعلى السّامع أن يخبر الغائب.
{وَإِنْ أَدْرِى} : إن نافية، وأقوى من النّفي من حرف ما، أيْ: وما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؛ أي: السّاعة أو القيامة أو العذاب؛ والدراية أخص من العلم، وتكون بعد الجهل، وفيها معنى الإخبار.
{أَقَرِيبٌ أَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّحذير، أم: المتصلة.
{بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} : أيْ: ما أدري ولا أعلم ما توعدون به من العذاب أو النّصر سيكون قريباً (مثل النّصر يوم بدر) أم بعيداً يوم القيامة والحشر.
سورة الأنبياء [21: 110]
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} :
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} : إنّه للتوكيد، يعلم الجهر من القول: الخطاب هنا موجَّه للجميع يعلم الجهر من القول الصّادر من كلّ واحد وفي وقت واحد، وإذا تكلَّم الجميع بصوت عالٍ، وفي وقت واحد، فإنّه يعلم ما يجهر به كلّ فرد وكلّ كلمة تقال في نفس الوقت، ومن هو القائل، ولو تكلم كل أهل الأرض لميز من القائل، وما قاله فلا تختلط عليه الأصوات سواء كانت سراً وجهراً؛ فعلم الجهر أعظم من علم السّر وأبلغ، وليس كما يظن البعض بالعكس.
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} : الكتمان غير الإخفاء، كتم الشّيء يعني الشّيء ظاهر الوضوح، ولكن صاحبه يحاول كتمه والكتمان يتعلَّق عادة بشيء مادي، أما الإخفاء: فقد يشمل شيئاً معنوياً أو مادياً مثل النّفاق يحاول إخفاءَه.
سورة الأنبياء [21: 111]
{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} :
{وَإِنْ} : نافية بمعنى ما، أدري أعلم أو أدري بكلّ أدوات الإدراك من السّمع والبصر والشّم والحس.
{أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} : وما أدري لعل الإمهال وبقاءَكم دون عذاب وعدم قيام السّاعة عليكم هو فتنةٌ لكم واختبار واستدراج وزيادة في الفتنة، لكم خاصة، ليرى كيف تصنعون.
{وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} : الحين: زمن غير محدود قد يطول أو يقصر؛ أيْ: تمتع إلى أجل مقدر قدره الله بزمن قد يطول أو يقصر، وهو متاع لن يدوم؛ لأنّه محدود المدة، إلى حين: ولم يقل: حتّى حين، وإنما إلى حين إلى تفيد عموم الغايات، أما حتّى فتفيد نهاية الغاية.
سورة الأنبياء [21: 112]
{قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} :
{قَالَ} : أيْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الأنبياء من قبله:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
{رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} : أي: افصل بيني وبين المشركين أو الكفار، أو أظهر من هو على الحق، ومن هو على الباطل، بالحق: الباء للإلصاق والمصاحبة. وربنا الرّحمن.
{عَلَى مَا تَصِفُونَ} : على: تفيد الاستعلاء والمشقة. ما: اسم موصول بمعنى: الذي، وهي أوسع شمولاً من الذي؛ تشمل العاقل وغير العاقل، وتشمل كل ما يصفون.
{تَصِفُونَ} : أنّ لله ولداً أو بناتٍ أو شريكاً، وأنّ القرآن سحرٌ وشعرٌ وأساطيرُ الأولين، والرّسول مجنونٌ وساحرٌ وشاعرٌ.
سورة الحج [22: 1]
سورة الحج
ترتيبها في القرآن (22)، وترتيبها في النّزول (103).
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} :
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : يا أداة نداء للبعيد، الهاء للتنبيه، النّاس: مشتقة من النّوس، الحركة الدّائمة، والنّاس تشمل الإنس والجن، وغالباً يأتي معها كلمة الرّب؛ لأنّ الرّب هو الخالق والمربي والمدبر والرّازق.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} : بامتثال طاعة أوامره واجتناب نواهيه، اجعلوا بينكم وبين سخط وغضب القهار والجبار وقايةً. ثمّ يخبر سبحانه عن بعض أهوال السّاعة.
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} : إنّ حرف مشبه بالفعل يفيد التّوكيد، زلزلة السّاعة، السّاعة؛ أي: ساعة تهدم النّظام الكوني الحالي، وهي الزّلزلة المذكورة في قوله:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزّلزلة: 1]، وزلزلة: مصدر مشتق من الفعل: زلزل؛ أي: زل زل: إذا زل في الطين، أو وقع من مكانه فهناك زل الأولى، وزل الثّانية فهناك وقوع أوّل ووقوع ثانٍ، أو زلزلتان: الزلة الثانية ليست استمراراً للأولى وإنما زلة جديدة؛ أي: هناك زلزلة متكررة، ولكن باتجاه معاكس كما يحدث في حوادث الاصطدام: يتحرك الجسم في السّيارة بسرعة السّيارة، فعندما يحاول السّائق إيقاف السّيارة فجأة يندفع جسمه ويرتطم بزجاج مقدمة السّيارة، والزلزلة رغم تكررها فهي ليست على شدة أو نموذج واحد.
والزّلزلة تحدث نتيجة اصطدام الألواح القارية المشكلة لقشرة الأرض اليابسة، وتسمّى: الصفائح القارية، وهي مشكلة من (12) لوحاً بينها شقوق، فحينما تتحرك هذه الألواح وتصطدم ببعضها تؤدي إلى الزّلازل والبراكين والدّمار الهائل إذا كانت شديدة، وهذا ما سيحدث عند قيام الساعة.
{شَىْءٌ عَظِيمٌ} : شيء مخيف مروع، ارجع إلى سورة الزّلزلة (1) لمزيد من البيان.
وسمّيت بزلزلة السّاعة؛ لأنّها تحدث بعد النّفخة الأولى (نفخة الفزع)، أو حين تبدأ الساعة يومها.
سورة الحج [22: 2]
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} : يعني زلزلة الساعة، والرّؤية هنا رؤية بصرية أو رؤية قلبية، رؤية بصرية لمن قامت عليه السّاعة، ورؤية قلبية لمن عاش قبل حدوثها.
{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} : أي: بسبب تلك الزّلزلة وأهوال ذلك اليوم (تذهل) من الذّهول: وهو الغفلة عن الشّيء مع الدّهشة، ومن شدة الهول تنسى المرضعة أن ترضع وليدها، أو تهمله وتتركه بلا إرضاع، وهو في حضنها، والمرضعة هي الّتي تقوم بعملية الإرضاع أو في حالة الإرضاع وطفلها يرضع من ثديها الآن، ولم يقل تذهل كل مرضع عما أرضعت. المرضع فهي القادرة على الإرضاع وليست ترضع الآن.
مثل: الحائض والحائضة. الحائضة: هي الآن في دورتها، والحائض: من بلغت سن المحيض وهي ليست في الحيض الآن.
{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} : تجهض؛ أي: تسقط المرأة الحامل جنينها قبل تمام الحمل وزمن الولادة من شدة هول ذلك اليوم، وفي هاتين العمليتين: الإرضاع والحمل، تكون عاطفة الأم على أشدها، فإذا حدث منها ذلك، فهو دليل على شدة هول ذلك اليوم وعظمته.
{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} : ترى النّاس يومئذٍ كأنهم سكارى، أو يراهم الرّائي كأنّهم سكارى، جمع: سكران، سكارى من الخوف والفزع وليس هم حقيقة سكارى من شرب الخمر، ولكن من شدة أهوال ذلك اليوم والخوف والفزع والرّعب تراهم يتمايلون مضطربين في توازنهم كالسّكارى، وما هم بسكارى: ما النّافية، هم: تفيد التّوكيد، بسكارى: الباء للإلصاق والمصاحبة.
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} : ولكن: للاستدراك يفيد التّوكيد، عذاب الله شديد.
سورة الحج [22: 3]
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} :
مناسبة هذه الآية؛ أي: رغم أنّ السّاعة حق، وما ذكرنا في الآيتين السّابقتين من بعض أهوالها، ترى بعض النّاس لا يصدق ولا يؤمن بالسّاعة والبعث ويجادل.
{وَمِنَ النَّاسِ} : من هنا: بعضية؛ أي: بعض النّاس.
{مَنْ يُجَادِلُ فِى اللَّهِ} : من ابتدائية، يجادل: من الجدل وهو الحوار الّذي يحدث فيه اختلاف في الآراء، ويكون لدفع شبهة أو إثبات حق أو إظهار حجة كالنّضر بن الحارث، كما قاله الطبري، أو الوليد بن المغيرة أو غيره.
يجادل في الله؛ أي: في آيات الله، أو أن الملائكة بنات الله، أو القرآن، أو في البعث ووحدانية الله تعالى، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : بدون علم: بديهي أو مكتسب القائم على النظر والاستدلال؛ أي: يجادل بالباطل أو بجهل.
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} : ويتبع في جداله وأحواله وحياته وسوسة الشّيطان المريد؛ أي: العاقّ الخارج عن طاعة الله تعالى، أو العاصي المتمرد العاتي، فهو ماردٌ أو مريدٌ أو متمردٌ، كقوله تعالى: صرح ممرد؛ أي: أملس، وشجرة مرداء؛ أي: تساقط ورقها أو تناثر، فهي ملساء. ووصف الشّيطان بذلك؛ لكونه ينشر الشّر والفساد أو يصعب إمساكه، ارجع إلى سورة النّساء آية (117) لبيان معنى مريد. وارجع إلى الآية (8) لمقارنة الآيتين (3، 8) من نفس السورة.
سورة الحج [22: 4]
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} :
{كُتِبَ عَلَيْهِ} : أي: قُضي، والكتابة أشد من الحكم أو القضاء، وجاء بصيغة المبني للمجهول، أي: كتب على الشّيطان أنّه يُضلُّ من اتبعه، أي: أُعطي له القدرة على فعل ذلك، والكاتب هو الله سبحانه، وجاءت بصيغة المبني للمجهول.
{عَلَيْهِ} : على الشّيطان، سواء كان من شياطين الإنس أو الجن.
{أَنَّهُ} : للتوكيد.
{مَنْ تَوَلَّاهُ} : أي: اتبعه وجعله ولياً، من: استغراقية؛ أي: كلّ واحد اتبعه، الهاء تعود على الشّيطان؛ أي: من اتبع الشّيطان واتخذه ولياً؛ أي: ناصراً معيناً.
{فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} : هاء الضّمير تعود على الشّيطان المريد، يضله: يوقعه في الضّلال، يضله عن طريق الهداية والحق والخير والصّراط المستقيم؛ أي: الدّين، ويهديه إلى عذاب السّعير: يهديه إلى النّار المستعرة نار جهنم، هذا وعيد وتهديد لكلّ من اتبع الشّيطان واتخذه ولياً.
سورة الحج [22: 5]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : ارجع إلى الآية (1) من السّورة نفسها.
{إِنْ} : شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال، (كنتم) الآن أو في أي زمن.
{كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} : الرّيب: الشّك ولكن الرّيب أقوى من الشّك، فالشّك هو: التّردد بين النّفي والإثبات، والرّيب: الشّك القوي، والتّهمة، ويتهمون أنّ القرآن أساطير الأولين وأنّه مفترى. من البعث: في ريب من قدرة الله على إعادة الخلق وإحياء الموتى وبعثهم من جديد، فاذكروا: كيف خلقناكم.
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ تُرَابٍ} : أي: من آدم وآدم من تراب في الأصل، ثمّ خلقناهم من ذرية آدم: بالتّزاوج والتّناسل، والذي يبدأ من النطفة (الحيوان المنوي والبويضة) وكلاهما مركب من الماء ومواد عضوية جاءت من الغذاء، والغذاء من النّبات، والنّبات أصله الماء والتّراب، وكثير من المواد المعدنية الموجودة في تركيب الجسم مثل: الصوديوم والحديد والكالسيوم والفسفور وغيرها، منشؤها من النبات أو الحيوان ومنشؤهم التّربة والماء. ارجع إلى سورة الروم آية (20) لمزيد من البيان.
{ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ} : نطفة الرّجل (الحيوان المنوي) ونطفة المرأة (البويضة)، ومرحلة النّطفة تستغرق الأسبوع الأوّل في تشكلها.
{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ} : علقة حين تعلق النّطفة بجدار الرّحم، والعلقة تستغرق في تشكلها وتطورها الأسبوعين الثّاني والثّالث، وتتحول إلى مضغة.
{مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} : والمضغة: قطعة تشبه قطعة اللحم الممضوغة بالأسنان، وتبدأ في الأسبوع الرّابع وتستمر إلى أربعين يوماً، عندها تبدأ مرحلة العظام في بداية الأسبوع السّابع، وأمّا نفخ الرّوح فما توصل إليه العلم الجنيني وأيدته الأحاديث الصّحيحة يحصل في الليلة (42) من بدء الحمل كما ورد في الحديث الّذي رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد قال صلى الله عليه وسلم: إذا بلغت النّطفة اثنتين وأربعين ليلة، أرسل إليها الملك فيأمره الله جل وعلا بتصويرها، ثمّ يقول: أي ربي، أذكر أم أنثى؟ فيأمر الله ما شاء ويكتب الملك، ثمّ يقول: أي ربي، شقي أم سعيد؟ فيأمر الله ما شاء
…
إلى نهاية الحديث.
أمّا بالنسبة إلى المضغة المخلّقة وغير المخلّقة: فالمخلّقة هي الّتي تشارك في تكوين الجنين، وغير المخلّقة: هي الّتي تتحول إلى خلايا جذعية تتفرق في أنسجة الجنين في المشيمة أو الحبل السّري أو السّائل الأمينوسي، وغيرها من الأنسجة مثل نخاع العظم، وتساعد على التئام الجروح وترميم الأنسجة.
{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} : اللام للتوكيد، نبين لكم: كيف تتم عملية الخلق مرحلة بعد مرحلة.
{وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : أي: نُبقي في الأرحام المضغة الّتي قُدّر لَها أن تكون جنيناً ذكراً أو أنثى حتّى يكتمل إلى أن يولد، إلى أجل مسمى: حين ولادته، أو نسقطه ميتاً قبل ولادته.
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} : ثمّ تفيد التّرتيب والتّراخي في الزّمن، نخرجكم: بصيغة الجمع، وطفلاً بصيغة المفرد ولم يقل أطفالاً؛ لأنّ الطّفل أو الأطفال في هذه المرحلة لهم الصّفات نفسها، فذِكر الواحد يغني عن ذكر الجمع، وطفلاً: اسم جنس يشمل المفرد والمثنى والجمع.
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن، اللام: لام التّعليل والتّوكيد، فهي إضمار تقديره: ثمّ نعمّركم لتبلغوا أشدكم، أشدكم: كمال العقل والقوة، وقيل: هو ما بين الثّلاثين إلى الأربعين سنة أو (15-30).
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} : قبل بلوغ الأشد.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} : أردؤه حين تظهر عليه علامات الخرف والضّعف والهرم ويعود مثل زمن الطّفولة.
{لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـئًا} : يفقد الذاكرة للأشياء القريبة؛ أي: ينسى الأمور الّتي جرت معه منذ ساعات أو زمن قريب، ولا يستطيع التّعلم؛ لكونه ينسى ما يتعلّمه بنفسه أو من الآخرين، ويصبح غير قادر على الحفظ والإحصاء وغير قابل للتّفكر والتّدبر، ولا بد من مقارنة هذه الآية مع قوله تعالى في سورة النحل آية (70){وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا} . ارجع إلى سورة النّحل آية (70) للمقارنة. وانتبه إلى كلمة (لكيلا) في هذه الآية، وفي آية النحل (لكي لا): فهو فصل (لكي) عن (لا)؛ لأن آية النحل تتحدث عن فقد الذاكرة للأشياء القريبة والبعيدة فهي تشمل أمرين لذلك فصل بينهما وجاءت (لكي) مفصولة عن (لا)، بينما في سورة الحج الآية تتحدث عن أمر واحد هو فقد الذاكرة للأشياء القريبة فقط، ولذلك جاءت (لكيلا) متصلة أو كلمة واحدة.
{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} : هذا برهان آخر على البعث، وترى الأرض هامدة: قبل نزول الماء غير مهتزة غير متحركة، كأنّها جافة يابسة؛ لعدم وجود الماء، فإذا أنزلنا الماء؛ أي: ماء المطر الّذي بدأ من تبخر مياه البحار والمحيطات واليابسة وغيرها ويقدر بـ (600، 000 كم مكعب)، سنوياً، تحمله الرّياح فتشكل السّحب، وبعد تلقيح هذه السّحب برياح تحمل هباءات الغبار، تتشكل السّحب الركامية الّتي تنزل المطر. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18) وسورة يس آية (33) لمزيد من البيان.
{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} : نزول الماء يؤدي إلى إثارة المعادن المختلفة المكونة لطبقة التّربة من الصّلصال، والحديد والألمنيوم والمغنيسيوم والكالسيوم والصّوديوم الّتي تحمل على سطحها شحنات كهربائية مختلفة، ونزول الماء واتحاده بهذه العناصر المعدنية يؤدي إلى عملية التأيّن: تأيّن الشوارد، مما يؤدي إلى دخول الماء في تلك العناصر، مما يؤدي إلى انتفاخها أو زيادة سمكها وحجمها، هذه المعادن قد تتشكل على شكل صفائح مترابطة منها بأربطة هيدروجينة تمنع دخول الماء إليها بحسب التّربة. وللتربة أنواع مختلفة:(التّربة الصلصالية والطّمية والرّملية والحصية) منها ما ينتفخ ويربو ومنها ما لا يتأثر.
ولا ننسى مكونات التّربة من المواد العضوية المتحللة والبكتريا والطّحالب والفطريات، الّتي تتفاعل كذلك مع الماء، وحين تربو التّربة فهي ترقُّ رقة شديدة وتنشقُّ؛ لتصبح طريقاً سهلاً للسويقة الخارجة من البذرة والجذور الّتي تمتد إلى الأسفل؛ لتمتص الماء وبقية المعادن الهامة في تشكيل الحبوب الأخرى أو الثّمار المختلفة الأشكال والألوان والطعوم. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (39) من سورة فصلت {تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} ، وفي آية (5) من سورة الحج {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} ما هو الفرق بينهما؟ هامدة: تعني: خمدت أو سكنت وهي كالميتة، وأما خشعت تعني: المرحلة التي تلي الهامدة، أو تمثل نوع آخر من أنواع التربة.
{زَوْجٍ} : صنف من أصناف الزروع والثمار أو الأزهار.
{بَهِيجٍ} : حسن، والبهجة: الحسن، وأنبتت من كلّ زوج بهيج: الّذي يدخل البهجة على النّفوس والسّرور؛ لما فيه من الزّينة.
ومقارنة بالزّوج الكريم: كما ورد في سورة لقمان آية (10): {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} الكريم: البالغ في الجودة والنّفع، وكثير الخيرات أو كثير المنفعة، فهذه الآية جاءت في سياق الأزهار والورود والألوان والبهجة التي تحدثها في نفس الإنسان، وآية لقمان جاءت في سياق النفع، وكثرة الخيرات والفائدة، كلٌّ له صفاته زوج كريم وزوج بهيج.
سورة الحج [22: 6]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} : ذلك: اسم إشارة لخلق الإنسان والمراحل الّتي يمر بها وإحياء الأرض، ذلك: لتعلموا أنّ الله هو الحق؛ أي: الدّائم الصّفات الّذي لا يتغير ولا يتبدل. قوله الحق وما أنزله على عبده هو الحق، وربوبيته حق وأسماؤه وصفاته حق، ووعده ووعيده حق، وكل شيء ينسب إليه حق، ومن أسمائه الحسنى الحق؛ أي: الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود كامل الصّفات لا وجود لشيء إلا به.
{وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى} : وأنّه: تفيد التّوكيد، كما أحيا الأرض الهامدة فهو قادر على إحياء كلّ ميت. ارجع إلى سورة الروم آية (19) لبيان كيف يحي الموتى.
{وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : وأنّه: تفيد التّوكيد، على كلّ شيء قدير: ارجع إلى سورة البقرة الآية (20) للبيان.
سورة الحج [22: 7]
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِى الْقُبُورِ} :
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} : وأنّ: للتوكيد، واللام في لا ريب: لزيادة التّوكيد، السّاعة: لحظة أو ساعة تهدّم النّظام الكوني الحالي. آتية: ارجع إلى سورة طه الآية (15) للبيان والفرق بين أتية، لآتية، آتية لا ريب فيها. ارجع إلى سورة طه آية (15) للبيان، ومقارنة الآيات المتشابهة.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِى الْقُبُورِ} : وأنّ: للتوكيد، يبعث من في القبور: للحساب والفصل بين النّاس، والبعث يبدأ بالنّشر (إحياء الموتى) ثمّ الإخراج من القبور والسَّوق والجمع في أرض المحشر، من في القبور: من استغراقية تشمل الكلّ كل ميت، في: ظرفية؛ أي: القبور، والبعث فيه معنى الحث والإثارة للقيام والخروج من القبور.
سورة الحج [22: 8]
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} :
من: ابتدائية بعضية للعاقل وتشمل المفرد و الجمع. يجادل: ارجع إلى الآية (3) للبيان.
هذه الآية جاءت في سياق المتبوعين رؤساء الشّرك والضّلال الذين يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بغير علم مكتسب أو بديهي ولا هدى ولا كتاب أو وحي من الله، بينما الآية (31) جاءت في سياق الجهال المقلدين الّذين يتبعون الشّيطان الذين يجادلون في آيات الله بغير علم: بديهي، ولا هدى: ولا استدلال عقلي، ولا كتاب منير: ولا وحي من الله، ويتبعون كل شيطان مريد، فهؤلاء أقل ضلالاً من هؤلاء المذكورين في الآية (8)، وتكرار (لا): يفيد التوكيد، وفصل الهدى عن كتاب منير أو كلاهما معاً؛ أي: لا هدى ولا كتاب منير، ولا كلاهما معاً، وكتاب منير: كتاب نكرة أي كتاب من الكتب السماوية.
سورة الحج [22: 9]
العِطف: جانب اليمين أو جانب الشّمال، فهما عطفا الرّجل، وهو القسم أو الجزء من البدن الّذي يعطفه الإنسان ويلويه عند إعراضه عن الاستماع إلى الحق.
{ثَانِىَ عِطْفِهِ} : لاوي جانبه، كناية عن التّكبر والإعراض وعدم الوقوف والسّماع إلى الحق والقرآن والموعظة، وقد بيّن لنا القرآن كيف يتدرج المعرض عن الحق في تصرفاته، أو من يحاول الإعراض وعدم الاستماع إلى آيات الله؛ فهو أوّلاً يبدأ بالرّأس:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} ثمّ الجانب: {ثَانِىَ عِطْفِهِ} ، ثمّ دبره أو عقبيه أو ظهره كقوله تعالى:{وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان: 7].
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ} : إذن هو يجادل بالباطل ليضل، اللام لام التّعليل؛ أي: الغرض من جداله: الإضلال وصرف النّاس عن سبيل الله؛ أي: دين الله تعالى وإن لم يعترف بذلك. عن: تفيد المجاوزة أو الابتعاد.
{لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} : له: اللام لام الاستحقاق، في الدّنيا الخزي والهوان والذّلة والفضيحة، وجزاؤه في الآخرة يوم القيامة عذاب الحريق.
سورة الحج [22: 10]
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} :
يقال له: يوم القيامة.
{ذَلِكَ} : يعني الخزي في الدّنيا وعذاب الحريق في الآخرة.
{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} : بما: اقترفت يداك، ذلك: اسم إشارة للبعد، بما: الباء باء الإلصاق، أو السّببية، بما قدمت يداك من عمل السّوء والمعاصي والكفر بما قدمت في الدّنيا، وإسناد جميع الأعمال إلى اليد؛ نظراً لأنّها هي الجارحة الّتي يزاول العبد بها أكثر الأعمال، وبما قدمت يداك، مع أنّ الكفر ليس من عمل اليد وإنما هو فعل القلب واللسان، ففي هذا توبيخ وتقريع وإهانة لهم.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} : وأنّ للتوكيد، بظلّام: صيغة مبالغة من: ظالم؛ تعني: لا يظلم هذا ولا يظلم ذاك، والعبيد عددهم كبير؛ فإذا كان لا يظلم عبيده (أي عبد) فهو ليس بظلام، ونفي المبالغة كناية عن نفي أصله، فلو كان ظلاماً لكان ظالماً؛ فهو نفي كلا الأمرين فهو ليس بظالم لأيّ عبد ولا بظلّام للعبيد، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْـئًا} [يونس: 44]. ارجع إلى سورة آل عمران آية (182) لمزيد من البيان. وقد وردت هذه الآية أيضاً في سورة الأنفال آية (51)، وسورة الحج آية (10)، وسورة فصلت (46).
سورة الحج [22: 11]
{وَمِنَ النَّاسِ} : الواو استئنافية، (من) الأولى ابتدائية بعضية.
{مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} : (من) الثّانية اسم موصول بمعنى الذي.
يعبد الله على حرف: الحرف: أي الحافة، اسم لطرف الشّيء؛ أي: يقف على طرف الحافة مضطرباً غير ثابت، وهذا حال المنافق.
{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} : إن شرطية تفيد الاحتمال. أصابه خير: مثل غنيمة أو مال أو عافية أو منفعة دنيوية.
{اطْمَأَنَّ بِهِ} : يثبت على دينه، وسكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
{وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} : فتنة: شر، أو مكروه في أهله أو ماله، أو هزيمة أو خسارة أو مرض بسبب إسلامه.
{انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} : ارتدّ عن دينه كما يفعل المنافق ورجع إلى الكفر، أو أصبح عاصياً أو توقف عن عبادة ربه، خسر الدّنيا والآخرة فلا حظّ له في الدّنيا ولا في الآخرة خسر كلاهما.
{ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} : ذلك اسم إشارة، واللام للبعد، الخسران المبين: الواضح لكلّ فرد، وكلّ فرد يقرّ ويعترف بأنّه خسران، خسران ظاهر لا يحتاج إلى شرح أو تبيان.
وهناك فرق بين الخُسر وخساراً وخسران:
1 -
الخُسر: يستعمل لعموم الخسارة أو مطلق الخسارة.
2 -
خساراً: الزّيادة في الخسارة كقوله تعالى في سورة فاطر آية (39): {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} . وكقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21].
3 -
الخسران: هو أكبر الخسارة وأعظمها وأشدها.
انتبه إلى قوله: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} ولم يقل فإن أصاب خيراً؛ أي: الخير هو الّذي أصابه وجاء يبحث عنه، فالرّزق يبحث عن صاحبه، بقدر ما يبحث صاحب الرّزق عن رزقه.
وقال: فإن أصابه خير، وإن أصابته فتنة، ولم يقل شر (مقابل الخير) الفتنة قد تكون بالخير أو بالشر، فإذا فاز كانت الفتنة خيراً له.
سورة الحج [22: 12]
{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تعود على الّذي يعبد الله على حرف، يدعو من دون الله: أي: يعبد غير الله، أو سوى الله، صنماً أو غير صنم؛ ليشفع له أو يقرّبه عند الله زلفى.
{مَا لَا يَضُرُّهُ} : ما اسم لغير العاقل، لا النّافية، يضره؛ أي: ما لا يضره إن لم يعبده.
{وَمَا لَا يَنفَعُهُ} : إن عبده؛ أي: سواء عبده أو لم يعبده النّتيجة واحدة لا نفع ولا ضر.
{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} : ذلك اسم إشارة، واللام للبعد.
هو الضّلال البعيد: هو: ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد، الضّلال البعيد: الضّلال البعيد جداً عن الحق والصّواب، أو الموغل في الضّلال، المستحيل الرّجوع من بعده إلى الحق. وقدّم الضّر على النّفع في هذه الآية؛ لأنّ درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
سورة الحج [22: 13]
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} :
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَّفْعِهِ} : يدعو: أي: يعبد الأصنام، لمن: اللام قيل زائدة، وقيل: للابتداء وللتوكيد، مَنْ: تستعمل للعاقل، وتنزل منزلة غير العاقل بعكس الذي (فقط للعاقل). ضرّه أقرب من نفعه: أي: الضّرر النّاتج عن عبادة الأصنام، أو غير الله أقرب؛ أي: أشد أو أقوى من النّفع الحاصل من عبادتها.
إذن هناك نفع إلى حد ما في هذه الآية، بينما في الآية السّابقة نفى أن يكون لها نفعٌ أبداً، فهل هناك تناقض في الآيتين؟ الجواب: لا، أو كيف نفسر النّفع الحاصل من عبادة الأصنام، بأنّ للأصنام سدنةً وهم الواسطة بين الأصنام وعُبّادها كونهم سدنة ومسؤولين عن القيام بخدمتها ونظافتها، فهم يأخذون الأموال الطّائلة والتّبرعات الّتي تحصل في أماكن الأصنام وتعطى للفقراء والأيتام، ولكن هذا النّفع المادي مقصور على الحياة الدّنيا ثمّ يتركونه ويزول وراءهم، ومدته قصيرة أصلاً. يدعو لمن ضره في الدّنيا: قبل الآخرة، أقرب من نفعه؛ أي: ضرره في الآخرة محقق متيقن منه. فحين يموت أحدهم لا إيمان لهم، ولا عمل صالح؛ لأن الشرك يحبط أعمالهم؛ لذلك ضره في الآخرة أشد بكثير من الفائدة الدنيوية.
{لَبِئْسَ} : اللام للتأكيد، بئس: فعل لإنشاء الذم؛ أي: ساء وقبح المولى والعشير تعود على الأصنام.
{الْمَوْلَى} : الّذي يليك ويقرب منك: الّذي ينفعك ويساعدك ويُعينك وقت الشّدة، وينصرك إذا احتجت له، والمولى هنا هي: الأصنام، فبئس وقبح ذلك المولى؛ لأنّها لا تنصرهم ولا تستجيب لهم.
{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} : العشير: الصّاحب، وهو المعاشر الّذي تأنس به أو الخليل، وهي الأصنام، وقد تطلق على القبيلة أو القريب.
فهناك فرق بين بئس المولى (المعين) وبئس العشير (الصاحب)؛ لأنّ الصاحب قد لا يكون معيناً إذا طلب منه المساعدة، أو المعين (المولى) قد لا يكون صاحباً لذلك فرّق بينهما فهي ليست بصاحب ولا معين (ولي) ولا كلاهما.
سورة الحج [22: 14]
{إِنَّ} : إن: للتوكيد.
{اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أي: آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره إيمان التوحيد والإخلاص والمقرون بالأعمال الصالحة العبادات وكل شعب الإيمان.
{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : الجنات: عدن، والفردوس، وغيرها تنبع من تحتها الأنهار.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} : إنّ للتوكيد، يفعل ما يريد؛ الإرادة نوعان: إرادة إلزام مثل إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، النوع الثاني: إرادة غير ملزمة مثل هو يريد من عباده أن يعبدوه فمنهم من يعبده ومنهم من يكفر؛ فهذه إرادة غير ملزمة، أما المشيئة فهي مُلزمة.
كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} المشيئة تقتضي الوجوب؛ لأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (27) لمزيد من البيان. وارجع إلى الآية (23) من نفس السورة لمزيد من البيان.
سورة الحج [22: 15]
يخبر الله سبحانه أنّه ناصرٌ رسوله صلى الله عليه وسلم في الدّنيا والآخرة، والكلام موجَّه إلى الكفار الحَسَدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يظن أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينصر دينه.
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ} : من شرطية تفيد المبادرة مع التأكيد، ومن تعني: من الكفرةوالحسدة. يظن: الظن يعني: يتصور أو يعتقد، أن: للتوكيد، لن: للنفي. والظن: هو الاحتمال الراجح. أن: للتوكيد. لن: تنفي القريب والبعيد.
{يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ} : اللام لام الأمر، لن ينصر الله رسوله بكل أنواع النّصر بالقوة والغلبة والحجة والبرهان.
{بِسَبَبٍ} : السبب في اللغة: هو الحبل؛ بحبل؛ أي: يشدد حبلاً. ارجع إلى سورة الكهف آية (84) للبيان المفصل في معنى السبب.
{إِلَى السَّمَاءِ} : إلى سقف بيته، وتعريف السّماء: هي كلّ ما علاك.
{ثُمَّ لْيَقْطَعْ} : ثمّ للترتيب الذّكري، واللام للتوكيد، ثمّ ليختنق به، وأصله ليقطع تنفسه؛ أي: دخول الهواء إلى رئتيه، كناية عن الاختناق، أي ليموت مختنقاً بحبله.
{فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} : هل: استفهام للتقرير وإنكاري، ليقروا هم بأنفسهم أنّ غيظهم سيظل كما هو حتّى تزهق أنفسهم وهم كافرون. الكيد: هو التّدبير الخفي لإيقاع الضّرر بالغير، سواء علم الخصم أو لم يعلم، والكيد أقوى من المكر. هل يذهبن كيده غيظه. الغيظ: هو الغم أو هيجان فيه نوع من الغضب والحزن وسمى فعله كيداً حيث لم يقدر على القيام بغيره، أو على سبيل الاستهزاء؛ أي: كاد بنفسه. ارجع إلى سورة التوبة آية (15) لمزيد من البيان. وسواء فعل ذلك أمام النّاس أو في خلوة، هل يُريحه ذلك؟ فإن يُريحه فلمَ لا يفعله وينتهي الأمر؛ لأنّ الله ناصرٌ رسله لا محالة، يذهبن: النّون للتوكيد.
وهناك من قال: أيربط نفسه بحبل إلى سقف البيت، ثم يقطع الحبل فيسقط على الأرض، فإما أن يموت أو تكسر عظامه وأضلاعه، وبعدها ينظر هل فعله هذا غيّر أي شيء من غيظه؟ لأن الله سينصر رسوله وعباده المؤمنين.
ولنعلم أن هذه الآية تحمل معنى التحدي للكفرة، وأعداء الله أن يمنعوا نصرة الله لرسوله وللمؤمنين.
سورة الحج [22: 16]
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يُرِيدُ} :
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : كذلك: أي: مثل ذلك، كما بينّا بشكل واضح في الآية السّابقة قدرة الله عز وجل على نصرة رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم في الدّنيا والآخرة، كذلك أنزلناه؛ أي: القرآن آيات مبينات واضحات تحمل الهدى والصلاح لمن يريد بإذن الله.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يُرِيدُ} : وأنّ للتوكيد، الله يهدي من: ابتدائية استغراقية، من يختار الهداية لنفسه ويسأل الله العون والثّبات.
سورة الحج [22: 17]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} : المسلمين أتباع محمّد صلى الله عليه وسلم.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} : اليهود أتباع موسى عليه السلام .
{وَالصَّابِئِينَ} : الّذين عبدوا أو عَبَدة الكواكب والنّجوم، وقيل: عبّاد الملائكة، أو قوم كانوا على دين نوح وخرجوا عنه. وصبأ يصبأ: خرج من دين إلى دين. ارجع إلى سورة البقرة الآية (62) لمزيد من البيان.
{وَالنَّصَارَى} : أتباع عيسى عليه السلام .
{وَالْمَجُوسَ} : عَبَدة النّار.
{وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} : عَبَدة الأصنام والأوثان وكلّ من أشرك بالله تعالى.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : إنّ للتوكيد، يفصل بينهم: يحكم ينهم أوّلاً ثمّ يفصل بينهم، فالفصل يكون بعد الحكم، يفصل بينهم من كان منهم على هدى وحق، ومن كان على ضلال وباطل.
ويفصل بين المؤمنين والمشركين والكافرين، وأهل الجنة من أهل النّار، وبين الأمم والأنبياء، والفصل أشد من الحكم. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لمزيد من البيان.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : إنّ للتوكيد، شهيد: صيغة مبالغة من: شاهد، شهيد على أقوالهم وأفعالهم وحفيظ لها، فلا حاجة يوم القيامة إلى شهود أو مُعين.
وانتبه إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} ، ولم يقل إنّ ربك؛ لأنّ الفصل والحكم لله، والرّب تأتي في سياق الخلق والرزق والتدبير والتربية.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} : نجد أنّ كلّ اسم طائفة معطوف على ما قبله.
فالذين هادوا معطوف على الّذين آمنوا، والصّابئين معطوف على الّذين هادوا، والنّصارى معطوف على الصابئين، والمجوس معطوف على النّصارى؛ لأنّ هذه الآية جاءت في الفصل والقضاء والخصومات يوم القيامة، والموقف والمقام مقام قضاء، وكلّ واحد من هؤلاء المذكورين متساوٍ في القضاء، ولا يهم جاءت الصّابئون قبل النّصارى أو النّصارى قبل الصّابئين فالله سبحانه ساوى بينهم في القضاء لأنّه الحكم العدل.
وقد يكون تقديم الصابئين على النّصارى في هذه الآية؛ لأنّهم جاؤوا قبلهم بالزّمان، أو لأنّهم أفضل من النّصارى من ناحية العقيدة والتّوحيد. ولنعلم أنّ هذه الآية ذكرت مرتين سابقاً في سورة البقرة الآية (62) وسورة المائدة آية (65) ارجع إليهما لمزيد من البيان.
سورة الحج [22: 18]
{أَلَمْ تَرَ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير، تر: أي: ألم تعلم أو ينتهي علمك، والرّؤية هنا رؤية قلبية أو رؤية بصرية أو كلاهما.
{أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ} : أنّ: للتوكيد، يسجد له سجود عبادة وطاعة ويعني الصّلاة بشكل عام، أو سجود خضوع وتسخير.
له: تقديم له يفيد الحصر؛ أي: لله وحده يسجد من في السّموات ومن في الأرض: من تستعمل للعقلاء؛ أي: تدل على ذوات العقلاء، من في السّموات: أي: الملائكة، من: استغراقية تستغرق كلّ ملك، ومن في الأرض: من إنس وجن فالكلّ يسجد سجود طاعة وعبادة، أو سجود خضوع، ولنعلم أنّ كلّ مخلوق مهما كان جنسه أو نوعه من إنس أو جن، أو حيوان أو نبات أو جماد، له صلاته وله تسبيحه وسجوده الخاص به الّذي يناسب جنسه وطبيعته.
{وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} : هذا يمثّل ذكر الخاص بعد العام؛ للتوكيد؛ لأنّ هذه المخلوقات في السّموات (الشّمس والقمر والنجوم) أو في الأرض (الجبال والشّجر والدّواب)، والدّواب: كلّ ما يدبّ على الأرض من حيوان.
واعلم أنّ من خصوصيات القرآن الكريم أنّ الله سبحانه إذا أسند السّجود إلى العاقل «استعمل من» وأتبعه بذكر غير العاقل، وهذا يسمى: عطف غير العاقل على العاقل، كما في هذه الآية (18) من سورة الحج، وكما رأينا في سورة الرّعد الآية (15) حين قال تعالى:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} ، عطف على من (للعاقل) ظلالهم وهي لغير العاقل.
{وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} : يسجد أو يصلي حسب قدرته قائماً أو قاعداً أو على جنبه، وقد يسجد ويشير بعينيه أو أصبعه. وكثير من النّاس: تعني الّذين يسجدون عددهم كثير أو هم كثيرو العدد، ولم يقل أكثر النّاس، إذن هم كثير ولكن ليسوا هم الأكثر؛ الأكثر تعني: أكثر عدداً من كثير، وهؤلاء دخلوا فيمن ذكرهم تعالى في قوله:(ومن في الأرض) وكرر ذكرهم؛ لأنّ السّجود الأوّل يختلف عن السّجود الثّاني، السّجود الأوّل هو سجود اختيار وطاعة كسجود الصّلاة وسجود الشّكر، وسجود السّهو وسجود التّلاوة، والسّجود الآخر (الثاني) هو سجود خضوع وذل، وتسخير وبدون اختيار.
قال سبحانه: وكثير من النّاس يسجد سجود خضوع وذل، مقارنة بالقلة من النّاس الّذين يسجدون سجود طاعة، وذكرهم في مطلع الآية.
{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} : أي: هؤلاء الّذين لا يسجدون سجود طاعة، إنما سجود خضوع وذل وليس خضوع إرادة، وهم الكفار والمشركون والملحدون والعاصون، فهؤلاء هم كثرة وهم الّذين حق عليهم العذاب؛ أي: واجب عليهم العذاب.
وقليل من النّاس وهم الّذين سجدوا لله طوعاً، وبإرادتهم ففازوا بالجنة ونجوا من العذاب.
والخطأ هنا أن نظن أنّ قوله تعالى بما أنّ كثيراً من النّاس يسجد، يجب أن لا يحق عليه العذاب، فكيف قال تعالى حق عليهم العذاب.
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} : ومن يهن الله بالخزي والشقاء والعذاب، والخلود في النّار.
{فَمَا لَهُ مِنْ مُّكْرِمٍ} : الفاء: للتوكيد، فما له من يخلّصه من العذاب، أو يُعزّه أو يشفع له؛ لأنّ العزة لله جميعاً. مكرم: اسم فاعل من: أكرم.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} : من الخلق والإحياء والموت والرزق والفقر والإهانة والإكرام، والسعادة والشقاء، والعز والذل.
من مشيئة الله تعالى إذا شاء أكرم عبده، أو إذا شاء أذله وأهانه هذه المشيئة ملزمة؛ أي: واقعة لا تتغير؛ أي: واجبة وليست كالإرادة.
والإكرام مرتبط بتقوى العبد وطاعته وإحسانه وقربه من الله تعالى.
والإهانة مرتبطة بالكفر والشّرك والمعصية والابتعاد عن جنب الله تعالى. ارجع إلى الآية (14) من نفس السورة لمزيد من البيان.
سورة الحج [22: 19]
أسباب النّزول: كما روي عن ابن عبّاس: نزلت في أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم وأقدم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم. فقال المؤمنون: نحن أحق بالله؛ آمنّا بمحمّد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب. وقيل: كما روى البخاري عن أبي ذر نزلت في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة حين تبارزوا للقتال يوم بدر. وقيل: إنّها تعني جميع المؤمنين والكفار، وهذا ما ذهب إليه مجاهد وعطاء. رواه الطبري.
{هَذَانِ خَصْمَانِ} : اختصموا في ربهم، خصمان: لا تعني اثنين، بل هما جمعان أو فريقان، والمراد بهما المؤمنون والكافرون، والدّليل على ذلك قوله: اختصموا في ربهم، ولم يقل اختصما بالتّثنية، والخصم يطلق على الواحد أو الجماعة أو الاثنين. فاسم الإشارة يفيد التثنية، ولمعرفة العدد جاء بضمير الجمع.
{اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} : الخصم هو من يعارض غيره في الرّأي ويتعصب لرأيه، كلٌّ يدّعي أنّه على الحق أو على الصّواب، في ربهم: في دين ربهم، أو صفات ربهم، أو في البعث، أو آيات الله. حين قال بعض أهل الكتاب للمؤمنين: نحن أحق بالله منكم ونحن أقدم منكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم، وكفرتم حسداً من عندكم، فالله يفصل بينهم يوم القيامة، كما قال سبحانه في الآية (17) من السّورة نفسها:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} وكفى بالله شهيداً، فلا داعي لتكرار ذلك وبين جزاء كلٍّ من الفريقين.
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَّارٍ} : قطّعت: جاءت بصيغة الماضي، وهذا يدل على أنّ هذا التّقطيع واقع لا محالة؛ أي: كأنّه وقع وانتهى، قطّعت: فصّلت، أو قطعت لهم ثياب من نار على قدر أجسادهم، فليست فضفاضة ومتسعة مريحة؛ حتّى تحيط بهم إحاطة الثّوب بلابسه، وكذلك قطعت تعني أُعدت بسرعة بدون تأخير.
{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} : الحميم: الماء البالغ منتهى الحرارة، الماء المغلي. من فوق رؤوسهم: من تعني: هم واقفون تحت الماء مباشرة ويصب الماء فوق رؤوسهم.
سورة الحج [22: 20]
{يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} :
{يُصْهَرُ} : أي: بالماء الحميم.
{مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} : ما في بطونهم (الأمعاء والأحشاء)، يصل تأثيره إلى إذابة الجلد أوّلاً ثمّ يذيب ما تحت الجلد مثل الثرب (غطاء الأمعاء)، وتحترق أحشاؤهم، وهذا أبلغ من قوله:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} سورة محمّد الآية (15). (ما) تستعمل للشيء غير المحدد ولغير العاقل (أي: ذلك الحميم يذيب جلودهم كما يذيب ما في بطونهم، أو يحرق به جلودهم ويصهر به الجلد، ويصهر به ما في بطونهم).
سورة الحج [22: 21]
{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} :
مقامع: مضارب أو سياط من حديد يجلدون بها، جمع مقمعة:(آلة للضرب)، والمقمع في الأصل: كالمحجن يضرب بها رأس الفيل.
سورة الحج [22: 22]
{كُلَّمَا} : ظرف بمعنى حين، متضمنة معنى الشّرط، تفيد التّكرار، وأصلها (كلّ) ودخلت عليه (ما) الظرفية، وتفيد الزّمن.
{أَرَادُوا} : أي: الّذين كفروا.
{أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} : أن: للتعليل والتّوكيد، يخرجوا منها؛ أي: يهبوا ليخرجوا منها من النّار من شدة التعذيب والضرب والحميم.
{مِنْ غَمٍّ} : من ابتدائية، غمّ: نكرة، أيّ غمٍّ مثل الألم الشّديد أو الحزن، أو العذاب أو ضيق النّفس أو العطش الشديد والجوع.
{أُعِيدُوا فِيهَا} : أي مُنعوا من الخروج، وإعادتهم في النّار مما يجعلهم يائسين من النّجاة، واليأس من أشد أنواع الغم والعذاب.
{أُعِيدُوا فِيهَا} : أعيدوا فيها بالمقامع الحديدية؛ أي: السّياط، وأعيدوا فيها: تدل على أنّهم لم يخرجوا خارجها أصلاً، ولم يقل أعيدوا إليها؛ أي: يضربون بالمقامع وهم في داخل النّار.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} : يقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق: النّار المحرقة، وكلمة ذوقوا: تدل أنّ العذاب شامل كلّ الجسم. وفي الآية (20) من سورة السّجدة يقول تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وإذا قارنّا آية الحج مع آية السّجدة: نجد أنّ تفاصيل العذاب في سورة الحج أعظم وأشد من تفاصيل العذاب في سورة السّجدة لأنّ سورة السّجدة تتحدث عن الّذين فسقوا؛ أي: خرجوا عن طاعة الله أو دين الله تعالى، وأمّا آية الحج تتحدث عن الّذين كفروا، والكافر أشد من الفاسق، ولذلك اختلفت درجة العذاب فهؤلاء قطّعت لهم ثياب من نار يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، وأمّا الّذين فسقوا: لا يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم ولا يصهر ما في بطونهم والجلود، ولم يذكر لهم مقامع من حديد.
سورة الحج [22: 23]
في الآيات السّابقة (9-22) رأينا ما سيحل بالّذين كفروا، أمّا بالنّسبة للذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهؤلاء يدخلهم الله تعالى جنات: جمع: جنة، جنات الفردوس أو عدن أو المأوى أو النّعيم أو دار السّلام. ارجع إلى الآية (14) من نفس السورة.
{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي: تنبع من تحتها الأنهار.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} : يحلون؛ أي: يلبسون فيها من الحلية الّتي هي الأساور من الذّهب واللؤلؤ، ويحلّون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التّكرار والتّجدد والاستمرار. من أساور: من ابتدائية، من ذهب ولؤلؤاً:(من) لبيان الجنس الذّهب واللؤلؤ، ولا تعني البعضية بل تعني الكثرة.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} : أي: في الجنة، من حرير: من لبيان الجنس وتعني الكثرة، حرير بنوعيه السّندس؛ أي: النّاعم، والإستبرق الغليظ.
لنقارن قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} سورة الإنسان الآية (21) مع قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} أي: الأجر والثّواب في آية الحج أعظم وأفضل، ولنقارن قوله تعالى:{أَسَاوِرَ} و {أَسْوِرَةٌ} سورة الزّخرف الآية (53): أساور: جمع كثرة، بينما أسوِرة: جمع قلة، أساور أعظم وأفضل من أسوِرة.
سورة الحج [22: 24]
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} :
{وَهُدُوا} : أي الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات الّذين أدخلوا في الجنات الّتي تجري من تحتها الأنهار. هدوا: من الّذي هداهم؟ كما بيّنه الله تعالى في سورة يونس آية (9): يهديهم ربهم بإيمانهم.
يهديهم إلى الطيب من القول؛ أي: إلى أفضل القول والدعاء من الحمد والثناء والسلام كقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]، و: الحمد لله {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} [فاطر: 35]، و:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، و: لا إله إلا الله، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وغيره من القول الطيب؛ أي: المبارك. من: البعضية.
{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : وهدوا: تكرار؛ هدوا: يفيد التّوكيد؛ أي: أُرشدوا ودُلّوا إلى صراط الحميد: الصّراط المستقيم الموصل إلى الجنة أفضل الطرق على الإطلاق، الحميد: اسم من أسماء الله الحسنى؛ أي: أهل الثناء والحمد الدال على الخيرات، وثبتت له صفة الحمد وسماه صراط الحميد.
وانتبه إلى قوله في هذه الآية: صراط الحميد، بينما في الآيات الأخرى:{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، صراط الحميد:(كما جاء في سورة الحج) ولم يذكر العزيز؛ لأنّها آية في سياق الآخرة؛ لأنّه ليس في الآخرة تكاليف أو مخالفة لأمر الله تعالى كما هو الحال في الدّنيا، فلا حاجة لذكر العزيز الّذي يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر والممتنع على عباده.
وأما صراط العزيز الحميد: جاء في سورة إبراهيم آية (1)، وسورة سبأ آية (6)، هذه الآيات جاءت في سياق الدّنيا فذكر فيها العزيز الحميد.
سورة الحج [22: 25]
هذه الآية تتحدث عن نوع آخر من الكفر، وهو منع النّاس من الدّخول في الإسلام ودخول المسجد الحرام كما حدث في صلح الحديبية مثلاً.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : إن: للتوكيد. كفروا: في صيغة الماضي؛ لأنّ الكفر وقع منهم فعلاً كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ويصدّون جاءت بصيغة المضارع والقياس أن نقول: كفروا وصدّوا عن سبيل الله؛ لأنّ الصّد الّذي يقومون به ناتج عن الكفر، وما يزال صدّهم مستمراً ومتجدداً؛ لأنّ كفرهم مستمرٌّ وثابتٌ، والصدّ: هو المنع بقصد ونيّة. ارجع إلى سورة النّساء آية (61) للبيان.
ولا بدّ من معرفة الفرق بين البيت الحرام والمسجد الحرام والكعبة والبلد الحرام والمشعر الحرام، الكعبة: هي المركز وهي البناء المكعب الّذي يتوسط الحرم، وهي البيت العتيق، والمسجد الحرام: هو المسجد المحيط بها من كلّ الجهات.
{الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} : قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومعبداً يصلون فيه ويطوفون حوله. للنّاس: اللام لام الاختصاص؛ أي: للمسلمين.
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} : سواء النّوعان متساويان: العاكف والباد (اسم فاعل) في إقامة المناسك والحرمة، سواء العاكف فيه: يعني: المقيم فيه والملازم له، وعكف على الشّيء: واظب عليه ولازمه، والباد: القادم من خارج مكة، القادم من أيّ مكان في الأرض.
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} : ومن: شرطية، ومن يرد من: الإرادة؛ أي: الفعل؛ أي: ينوي ويعزم على القيام بارتكاب الذّنب فيه أو القتل أو ارتكاب المنكر في الحرم، والباء للإلصاق والتّوكيد (العزم) بإلحاد: أي: الميل عن الحق مثل استحلال الحرام؛ أي: فعل الحرام متعمداً مثل القتل أو الشّرك أو ارتكاب المنكرات.
بظلم: بالخروج عن منهج الله تعالى، والعصيان والتمرد وظلم النّاس.
{نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} : جواب الشّرط لـ: من يرد، نذقه: من الذّوق: وهو الإحساس بالمطعوم والمشروب، الذّوق: يعني الإهانة والمذلة والألم الّذي يصل إلى كلّ عضو في الجسم.
سورة الحج [22: 26]
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} : إذ؛ أي: واذكر إذ بوّأنا، أو حين بوّأنا لإبراهيم مكان البيت: اللام في (لإبراهيم) لام الاختصاص، بوّأنا: من: باء؛ أي: رجع؛ أي: يرجع إلى المكان الّذي ينزل فيه؛ أي: يسكن فيه، ويقال: اتخذ مكان مباءةً؛ أي: مرجعاً للعبادة؛ أي: يبوء إليه المؤمنون؛ أي: يحجوا إليه كلّ عام.
مكان البيت؛ أي: البيت الحرام الكعبة، وجبريل هو الّذي حدد لإبراهيم حدود الحرم، فالحد الشمالي يبعد (6كم) من الكعبة، والحد الجنوبي (12كم) من الكعبة، الجنوبي الغربي (16كم) والحد الغربي (15كم) عند الحديبية، والحد الشرقي (14كم)، ومساحة الحرم تبلغ (600كم2) في الوادي الّذي يبلغ طوله (30كم) وعرضه (20كم).
{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِى شَيْـئًا} : أن هذه مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد، أو تفسيرية، لا: النّاهية، لا تشرك بي شيئاً:(شيئاً) جاءت بصيغة النّكرة؛ أي: لا تشرك بي كائناً من كان، أو لا تشرك بي شيئاً من الشّرك لا قليلاً ولا كثيراً، والخطاب موجّهٌ إلى إبراهيم وكلّ من اتبع ملة إبراهيم.
{وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} : طهّر بيتي: من الأصنام أو الأوثان، أو أيّ شرك، وطهّره من النّجاسة للطائفين الّذين يطوفون حول البيت من أهل مكة وغيرهم من القادمين من خارج مكة، سواء كان طواف القدوم أو الإفاضة أو الوداع.
والقائمين: أي: المقيمين أو المعتكفين (جمع معتكف) من أهل مكة وغيرهم.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} : جمع: راكع، وجمع: ساجد؛ أي: المصلين، ولم يقل: الركع السجد، وإنما: الركوع السجود؛ أي: السجود الحقيقي، والذي يتضمن الخشوع، بينما السجد تعني: السجود الظاهري فقط.
التّطهير يشمل التّطهير الحسي والمعنوي، وطهّر بيتي: الطّهارة الحسية؛ أي: من الأوساخ والأقذار، والطّهارة المعنوية من الأصنام والشّرك، حيث كانت قبيلة جرهم وغيرهم يضعون الأصنام عنده ويعبدونها من دون الله تعالى.
سورة الحج [22: 27]
{وَأَذِّنْ} : الخطاب إلى إبراهيم عليه السلام ، والأذان في اللغة: الإعلام، وشرعاً: النّداء إلى الصّلاة.
{وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ} : بعد بناء البيت ورفع قواعده جاءه جبريل عليه السلام فأمره أن يؤذّن في النّاس كما قال ابن عباس. في: ظرفية.
{بِالْحَجِّ} : الباء: للإلصاق، زمن الحج.
{يَأْتُوكَ رِجَالًا} : الرّاجل: هو الماشي على قدميه، رجالاً: مشاة؛ أي: راجلين يمشون على أقدامهم.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} : ضامر: البعير أو الجمل المهزول الّذي أتعبه السّفر، وقيل: الضّامر: قليل الشّحم، وقيل: كان العرب يضمروا الخيل؛ لتكون أقوى وأنشط وأسرع في المشي؛ أي: يأتون راكبين على إبلهم الضّامرة الهزيلة أو دوابهم. يأتين: (تعود على الدّواب)، من كلّ فجٍّ عميق: الفجّ: هو الطّريق في الجبل، عميق: ولم يقل بعيد، عميق؛ لأنّ الأرض كروية الشّكل وسطحها منحنٍ، وكلما ابتعدت عن مكة ينحني سطح الأرض؛ (لأنّ الأرض ليست مستوية)، ويعمق وينحدر سطحها، وهذا الإعجاز العلمي الّذي يدل على كروية الأرض.
سورة الحج [22: 28]
{لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} : اللام للتوكيد، يشهدوا: يحضروا، منافع لهم: دينية فالحج والعمرة من طواف وسعي، والوقوف بعرفات والنّحر والتّكبير، وحلق وتقصير، ومنافع دنيوية مثل التّجارة والشّراء والهدايا، والتّعارف، وزيارة الأماكن التّاريخية.
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} : بالتّلبية والتّكبير والدّعاء والصّلاة، أيّام معلومات: أيّام الحج؛ وهي العشر من ذي الحجة ويوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق.
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : أي: يذكروا اسم الله عند الذّبح بالقول: باسم الله والله أكبر، والشّكر والحمد والتّكبير، وبهيمة الأنعام: تعني: كل ما يصطاد ويؤكل يعتبر من بهيمة الأنعام، ولم يحرم شرعاً؛ أما الأنعام فهي: الإبل، والبقر والغنم والماعز، وغيرها مما يباح أكله.
{فَكُلُوا مِنْهَا} : من لحومها؛ لأنّ أهل الجاهلية كانوا يتحرّجون في الأكل من لحوم الهدايا والأضاحي.
{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} : الشّديد الفقر، أو الّذي أصابه فقر شديد، وقيل: البائس الّذي تظهر عليه علامات الفقر ولم تعد تخفى، والفقير: الّذي يخفي فقره ولا يعلم النّاس بحاله، أو لا يملك شيئاً أو يمد يده للناس.
سورة الحج [22: 29]
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} :
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} : ثمّ للترتيب الذّكري، ليقضوا: اللام لام الأمر، ليقضوا تفثهم: من القضاء؛ أي: يزيلوا تفثهم، والتّفث: هو الأوساخ والأدران الّتي تعلق بالجسم من الغبار والعرق بالحمامات، ويغيروا ملابسهم بعد انتهاء مدة الإحرام، وحلق الشعر وتقليم الأظافر.
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} : اللام لام الأمر، إن كان عليهم نذر (أي: ينحروا ما نذروا لله من هدايا وضحايا)، أو غيره. ارجع إلى سورة البقرة آية (270) لمعرفة معنى النذر.
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : اللام لام الأمر، أصلها: ليتطوفوا بالبيت العتيق: الكعبة، والعتيق يطلق على كلّ شيء يطول مكثه ويبقى أكثر من أمثاله، والعتيق: القديم جداً، ويعني كذلك: الغالي والنفيس، والشيء الجميل، أو المعتوق من سيطرة الغير؛ لأنّ الله حفظه كما حدث عام الفيل.
وليطوفوا: طواف الإفاضة أو القدوم أو الوداع، طواف العمرة أو الحج.
سورة الحج [22: 30]
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، (ذلك): ما ذكر من أعمال الحج بأنّها أوامر واضحة.
{وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} : جمع حرمة، والحرمة: كلُّ أمرٍ لله يحرم تركه وكلُّ نهيٍ يحرم فعله أو القيام به، أو ما وجب القيام به وحرم التّفريط به، وتعظيمها: يعني لا يكون لذاتها، وإنما تعظيمها تعظيم لله سبحانه؛ لأنّها من حرمات الله وأوامره وتطبيقها على أتم وجه وبحب وإخلاص.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} : فهو: للتوكيد، أي: التّعظيم خيرٌ له ثواباً عند ربه في الآخرة.
{وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : أي: أحلّ أكلها بعد الذّبح إلا ما تلي عليكم وهي {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3].
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} : الفاء: للتوكيد، اجتنبوا: الاجتناب أشد وأقوى من التّحريم، الرّجس: القذر حساً أو شرعاً أو عقلاً، من الأوثان:(من) ابتدائية استغراقية تستغرق كلّ وثن من تمثال، ويدخل فيها الشّيطان والطّاغوت والأصنام؛ أي: اجتنبوا عبادتها أو دعاءها، وتجنب ذكر غير اسم الله على الأنعام عند الذبح أو ذبحها على النُّصُب وغيرها من أعمال الشّرك. ارجع إلى سورة البقرة الآية (59) للبيان المفصل في معنى الرجس والرجز والفرق بينهما.
{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} : من الازورار: بمعنى الميل، وهو كلّ قول مائل عن الحق؛ أي: القول الكذب الباطل الخبيث. وزوّر الشّيء؛ أي: سوّاه وحسّنه بحيث يظهر سويّاً حسناً، أو أنّه حقّ وصدق، كالقول: إنّ لله ولداً أو شريكاً، وكقولهم: إنّ الله حرّم البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام، مثلاً. كما ورد في سورة المائدة آية (103){مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} .
سورة الحج [22: 31]
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} : جمع حنيف، مأخوذة من: حنف القدم؛ يعني: تقوّسها وانحناءها؛ أي: مائلين عن الباطل والاعوجاج مستقيمين على ملة إبراهيم، مخلصين له الدّين بالتّوحيد وعبادة الله وحده، مائلين عن عبادة الأصنام والشّرك. ارجع إلى الآية (135) من سورة البقرة؛ للبيان.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} : بالله من شيء، من ولد أو شريك أو ندٍّ أو مثيل.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} : من شرطية، يشرك بالله: بأن يجعل له شريكاً أو نداً أو ولداً.
{فَكَأَنَّمَا} : كأنّ: للتشبيه، مؤلفة من كاف التّشبيه وإن، فصارت كلمة واحدة، والتشبيه بكأن أبلغ من التّشبيه بالكاف فقط.
{خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} : سقط من السّماء بسرعة ومن ارتفاع بعيد، فتمزقت أوصاله وصارت الطّير تخطفها قبل أن تصل إلى الأرض.
{أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} : أو: تعني: إنّ لم تخطفه الطير تهوي به الريح، تهوي من: هوى؛ أي: سقط إلى أسفل، تقذفه الرّيح وترمي به إلى أسفل في مكان سحيق بعيد القعر أو عميق، حتّى تتكسر عظامه وتسحق من شدة الصّدمة، فيصبح جثة هامدة لا حياة فيها، فهذا هو حال المشرك الّذي لم يتب فقد وقع في الهلاك. وكلمة ريح في القرآن تأتي في سياق الشر، والرياح تأتي في سياق الخير.
سورة الحج [22: 32]
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد، (ذلك) تستعمل بعد إتمام المعنى والبدء أو الخوض في معنى آخر.
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} : الشّعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، والإشعار هو الإعلام، من شعائر الله: من شعائر دين الله، والشّعائر: هي معالمه الظّاهرة للحواس؛ أي: العلامات؛ أي: مواضع النّسك أو العبادة؛ أي: المعالم المكانية مثل الصّفا والمروة والبُدن من شعائر الله، والشّعائر تطلق على أعمال الحج أيضاً مثل الطّواف والسّعي ورمي الجمرات والوقوف بعرفة والتّكبير والتّعظيم: يعني: إجلالها واحترامها والقيام بها بحبٍّ وإخلاص وأدائها بشكل كامل تام، فهذه العلامات المعالم المكانية أو أعمال الحج (الشّعائر) عظيمة عند الله تعالى وأوصانا بتعظيمها لنيل الثّواب التّام، مثال على ذلك: البُدن من شعائر الله تعظيم هذه الشّعيرة يعني اختيار أحسن البُدن وأكثرها وزناً ولحماً، وسليمة من أيّ عيب أو مرض.
{فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} : أي: تعظيمها من العبادات القلبية.
وأضاف التقوى إلى القلوب؛ أي: تعظيم هذه الشّعائر واحترامها طاعة؛ أي: تقوى؛ أي: عبادة من العبادات القلبية الخاصة بالقلوب؛ أي: تقوم بها القلوب.
سورة الحج [22: 33]
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} :
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، لكم أنتم خاصة.
{فِيهَا} : في الظّرفية تعود إلى الشّعائر مثل البُدن.
{مَنَافِعُ} : من شرب لبنها وركوبها والحمل عليها وصوفها ووبرها.
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إلى زمن معين هو نحرها في يوم العيد أو أيام التّشريق.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} : حيث تنحر، ومحل الذّبح هو منى، والآية تقول: البيت العتيق؛ أي: إذا نحرت في الأماكن المخصصة لها في منى أو غيرها، فكأنما وصلت إلى البيت العتيق والثّواب واحد، والمهم المحافظة على الأمور الصّحية وعدم تأذّي الحجّاج بروائحها أو فضلاتها.
سورة الحج [22: 34]
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} : الأمة:
{جَعَلْنَا مَنْسَكًا} : المنسك: الموضع أو المكان الّذي يُتعبّد الله فيه، أو ما يتقرب به إليه من عمل صالح، فالنّسك هي العبادات أو التّكاليف التّعبدية، ومناسك الحج: تعني الأماكن الّتي تؤدّى فيها الشّعائر مثل عرفات ومزدلفة ومنى، ومكة، كما قال إبراهيم عليه السلام ربنا أرنا مناسكنا: أي: علّمنا كيف نعبدك وأين نعبدك. ارجع إلى الآية (67) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين مَنْسَك بفتح السين مَنْسِك بكسر السين.
{لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} : اللام للتعليل، اسم الله وحده عند نحرها أو ذبحها مثل القول: باسم الله والله أكبر.
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} : الرّزق؛ يعني: أوجدها وذلّلها وملكها أو سخرها لكم.
{مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} : من لبيان الجنس، بهيمة الأنعام: ارجع إلى الآية (28) من السّورة نفسها.
{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : الفاء للتوكيد، إلهكم إله واحد: أي: هو المشرع لكم، ولكلّ أمة ما يناسبها ويصلحها من الشرائع والأحكام.
إلهكم إله واحد: ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.
{فَلَهُ أَسْلِمُوا} : أي: أخلصوا له بالتّوحيد، وقدّم له للحصر، ابتغوا وجهه ولا تشركوا به شيئاً؛ أي: وحّدوه.
لنقارن هذه الآية من سورة الحج: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} ، مع الآية (54) من سورة الزّمر:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} : وله أسلموا: قدّم الجار والمجرور؛ لتفيد الحصر؛ لأنّ المقام مقام توحيد.
وأسلموا له: أخّر الجار والمجرور، المقام مقام استغفار وليس مقام توحيد وعدم القنوط من رحمة الله ووعد وعيد وتهديد بالعذاب.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} : من الخبت؛ والخبت في اللغة: المكان المنخفض من الأرض. المخبتين؛ أي: المتواضعين؛ جمع مخبِت: المطيع المخلص الخاشع المتواضع الذي بلغ ذروة التواضع، والخبت: الاطمئنان، بشّر المخبتين: لم يذكر نوع البشارة، وهي رضوان الله وجنّته، وغيرها من النّعيم، بشّر من البشارة، ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة. ومن صفات المخبتين ما ورد في الآية التالية.
سورة الحج [22: 35]
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : الذين: اسم موصول يفيد المدح. ذكر الله؛ أي: ذُكرت عظمته وقدرته ووعده ووعيده شعروا بالوجل، والوجل: هو أشد درجات الخشية والخوف، الّذي يؤدي إلى اضطراب القلب بازدياد عدد دقّاته وقشعريرة في الجلد أو البكاء؛ فالخوف: توقع أمر مكروه، والخشية: أشد من الخوف؛ خوف يشوبه رهبة وتعظيم، والوجل: أشد من الخوف والخشية.
{وَالصَّابِرِينَ} : جملة اسمية تدل على الثبات. فالصّبر عندهم صفة ثابتة.
{عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} : في الضّراء والمحن والشّدائد والابتلاء.
{وَالْمُقِيمِى الصَّلَاةِ} : بأركانها وشروطها وأوقاتها وخشوعها.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : ارجع إلى الآية (3) من سورة البقرة للبيان؛ أي: من بعض ما رزقناهم ينفقون.
سورة الحج [22: 36]
{وَالْبُدْنَ} : جمع بَدَنة، وهي الجمل أو النّاقة أو ما يساويها من البقرة (البقرة تقوم مقام البدن في الحكم)، والغنم لا تسمى بدنة، وسمّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أن تكون بدينة؛ أي: سمينة.
{جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} ؛ أي: صيّرناها لكم، سخّرناها لكم، اللام لام الاختصاص.
{مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} : من ابتدائية بعضية، من شعائر الله؛ أي: البُدن شعيرة من شعائر الله، وشعائر الله: العبادات الّتي يتقرب بها إلى الله مثل الإحرام شعيرة، والتّكبير شعيرة، والطّواف شعيرة، والسّعي وذبح البدن أيضاً شعيرة.
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} : في الدّنيا بالانتفاع من لبنها أو ركوبها أو حمل الأثقال أو أكل لحومها، ومنافع في الآخرة بنحرها وذكر اسم الله عليها وإطعام البائس الفقير والقانع المعتر. وما في ذلك من ثوابٍ وتقربٍ إلى الله يوم القيامة.
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} : عند نحرها؛ أي: قولوا: باسم الله والله أكبر، صوافّ: وهي واقفة قائمة، صفّت: ربطت رجليها وإحدى يديها، فهي على ثلاث قوائم قبل نحرها.
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، إذا شرطية تفيد الحتمية، وجبت جنوبها من: وجب الشّيء؛ يعني: سقط سقوطاً قوياً على الأرض، أو وجب الجدار: سقط؛ أي: وقعت أو سقطت على الأرض وفارقت الحياة بعد الذبح.
{فَكُلُوا مِنْهَا} : الفاء: للترتيب والمباشرة؛ أي: الأكل منها أمر مباح.
{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} : القانع: المحتاج الّذي لا يسأل النّاس، قانع بما عنده رغم كونه فقيراً، المعترّ: المحتاج الّذي يسأل ويقف بالطّرقات يسأل الصّدقات.
{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : كذلك؛ أي: مثل ما سخرناها لكم للانتفاع منها في الركوب والأكل والانتفاع بها.
كذلك سخرناها لكم لعلكم: لعل للتعليل، تشكرون المنعم على تسخيرها بالطّاعة والاستقامة والذّكر والشّكر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد في معنى الشكر.
سورة الحج [22: 37]
{لَنْ} : لنفي القريب والبعيد.
{يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} : الله سبحانه غني عن لحوم هذه البُدن وعن نحرها، فلا يصل إليه شيءٌ منها وإنما يناله؛ أي: يصله تقواكم وطاعتكم لما أمركم به وإخلاصكم وتوحيدكم وشكركم إياه. والتّقوى تعني: امتثال وطاعة أوامره وتجنب نواهيه.
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ؛ كذلك: تعني: أيضاً؛ أي: وسخرها لكم أيضاً لتكبّروا الله، اللام لام التّعليل، تكبّروا الله تعالى في الأعياد بالقول: الله أكبر الله أكبر، وبعد النّحر، على ما هداكم: كما علّمكم وأرشدكم ودلّكم على ما فيه.
{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} : بشّر من البشارة، ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة، المحسنين: جمع محسن، وهو الّذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فالله يراه، والذي تعدّى إحسانه إلى غيره ولم يقتصر على نفسه. ولمعرفة معنى الإحسان ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة.
لنقارن الآيتين السّابقتين (36-37):
في الآية (36): قال تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
في الآية (37): قال تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .
سخرناها لكم؛ لأنّ الفائدة عمّت الكلّ؛ لقوله تعالى: فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ.
سخرها: لأنّ الآية تتحدث عن المنعم الّذي سخّر البُدن لتتّقوه وتكبّروا الله على ما هداكم.
سورة الحج [22: 38]
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} :
المناسبة: بعد أن ذكر الّذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام كما حدث في الحديبية، وذكر المشاعر والمناسك والحج، يأذن الله في الآيات التالية بقتال الكفار الّذين يصدون النّاس عن الحج، والدفاع عن المقدسات والضعفاء.
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} : إنّ: للتوكيد، يدافع: صيغة مبالغة من: يدفع، قد تكون مرة واحدة وينتهي الأمر، أمّا (يدافع) تعني باستمرار وتكرار، يدافع عن الّذين آمنوا بقوة واستمرار، سواء في معركة أو إذا أصابهم ظلم وقهر من عدوهم، يدافع عنهم ضد أعدائهم وخصومهم، وهو سبحانه أقوى وأعظم قوة من كلّ عدو لدينه وأوليائه، وفي هذه الآية بشارة للمؤمنين وتطمين لهم، ولكي يدافع الله عن المؤمنين لا بدّ للمؤمنين من إعداد كلّ ما يستطيعون من قوة ورباط الخيل والتّوكل على الله.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} : إنّ للتوكيد، كلّ خوّان: صيغة مبالغة: كثير الخيانة مراراً وتكراراً، والخيانة عظيمة ليست خيانة بسيطة، كفور: صيغة مبالغة: كثير الكفر، أصبح الكفر شغله الشّاغل.
الفرق بين خوّان كما في الآية من سورة الحج، وخائن كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، الخائن: تصدر منه الخيانة مرة واحدة أو خيانة في أمر غير عظيم، أمّا الخوّان: كثير الخيانة، أو يخون خيانة عظيمة أو في أمر هامٍّ جداً أو خيانة متكررة.
سورة الحج [22: 39]
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} :
قال كثير من المفسرين: إنّ هذه هي أوّل آية نزلت في إباحة القتال (الجهاد) ونزلت في المدينة بعد أن أُخرج الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم.
ما هو الفرق بين الجهاد والقتال؟ الجهاد: يشمل قتال الأعداء، ويشمل: جهاد النفس، والشيطان، وجهاد المنافقين.
والجهاد: يكون بالقوة، والحرب، والمال، والنفس، واللسان، والبيان، والحجة، والقلب، وتحمل الأذى، والصبر.
فالجهاد: أوسع من القتال، فالقتال: الجهاد بالسيف، أو القوة، ويعني: الدفاع، وقتال الكفار والمشركين، والجهاد كله بكل أنواعه هو في سبيل الله، ومنه جهاد في الله وفيما أمر أو قدر، وأعظم الجهاد جهاد النفس، وطاعة الله، وسياق الآيات يوضح لنا نوع هذا الجهاد.
والقتال: هو الدفاع عن الدين، والمال، والعرض، والنفس أمام أي عدو كان.
وكما قيل: نزلت هذه الآية بعد نزول أكثر من سبعين آية تنهى المؤمنين عن الجهاد والقتال وتحثهم على الصّبر. وقال جماعة آخرون: إنّ أوّل آية نزلت في القتال هي: {وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وهناك من قال: إنّ أوّل آية هي: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111]، وقد بيّن بعض المفسرين أنّ تشريع القتال والجهاد كان بالتّدرج كما حدث مثلاً في تحريم الخمر، حيث القتال والجهاد أمرٌ شاقٌّ على النّفوس، وقيل: مرّت فرضية الجهاد بمراحل نذكر منها:
1 -
هناك الكثير من الآيات تحثّ على الصّبر وعدم القتال والعفو كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 77].
2 -
ثمّ جاءت آيات مثل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145].
3 -
ثمّ الإذن بالقتال بغير إيجاب الفرض {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39].
4 -
ثمّ الإيجاب؛ أي: أوجب القتال وأصبح فرضاً {وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].
{أُذِنَ} : رُخص أو أُبيح.
{لِلَّذِينَ} : اللام لام الاختصاص.
{يُقَاتَلُونَ} : وهم: النّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (ويستثنى منهم الأعمى والأعرج والمريض)، أُذن لهم أن يدافعوا عن أنفسهم.
{بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} : الباء: للتعليل أو السّببية، أنّهم ظُلموا من قبل الكفار والمشركين من أهل مكة، حيث استمروا في إيذاء المؤمنين والتّصدي لهم بالاضطهاد والسوء.
{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} : (إنّ) واللام في كلمة (لقدير) تفيدان التّوكيد؛ أي: سبحانه قادر على نصر المؤمنين المستضعفين، وقدير: صيغة مبالغة؛ أي: كثير القدرة أو عظيم القدرة، لا يعجزه شيء في السّموات ولا في الأرض وهو القوي العزيز.
سورة الحج [22: 40]
{الَّذِينَ} : أي: المؤمنين محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم من المؤمنين الّذين يجيئون بعدهم.
{أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} : من مكة أو غيرها من الديار، أخرجهم عدوهم.
{بِغَيْرِ حَقٍّ} : الباء: للإلصاق، بغير حق؛ أي: لم يكن لهم ذنب أو سبب حقيقي يستدعي إخراجهم، أو موجب لإخراجهم، وإنما أُخرجوا بالعدوان والظلم والبغي.
{إِلَّا} : أداة حصر، أي: ما أُخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم: ربنا الله؛ أي: إيمانهم بالله أو دينهم وإسلامهم.
{أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} : أن: للتوكيد، يقولوا ربنا الله (وحده لا شريك له)، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدّين.
ومن هنا جاء الإذن بالقتال، وقد أوضحت الآيات الحكمة من مشروعية القتال وأسبابه، ومنها: إخراج المؤمنين من ديارهم وسلب ممتلكاتهم، وإيذاؤهم وطردهم من أوطانهم بسبب دينهم وإسلامهم والدّفاع عن مقدساتهم ودور العبادة، وكذلك حماية المستضعفين من الرّجال والنّساء والولدان، وكذلك عدم تمكن المؤمنين من ممارسة شرائع دينهم والعبادة.
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ} لولا: حرف امتناع لوجود (الدّفع)؛ أي: ولولا الدّفع لهدّمت صوامع، فما هو الدّفع: الدّفع: هو الدّفاع أو القتال في سبيل الله تعالى.
ومعناه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين لغلب المشركون في الأرض وأفسدوا فيها وأهلكوا الحرث والنسل، وهدّمت دور العبادة من صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد، أو: لولا أنّ الله يدفع الكافر بالمؤمن والعاصي بالطّائع، ويدفع الباطل بالحق، لفسدت الأرض ومن عليها ولهدّمت.
{صَوَامِعُ} : معابد وأديرة الرّهبان.
{وَبِيَعٌ} : كنائس النّصارى.
{وَصَلَوَاتٌ} : كنائس اليهود (مشتقة من الصّلاة).
{وَمَسَاجِدُ} : أي: بيوت الله المخصصة للعبادة. والمسجد: هو دار عبادة المسلمين، والذي تقام فيه الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة المفروضة وغيرها، ويطلق عليه اسم جامع، والاسم مسجد مشتق من السجود، والجامع مشتق من صلاة الجمعة، أو لكونه يجمع الناس.
{يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} : فيها: في هذه الأماكن الأربعة، يُذكر اسم الله كثيراً بالصّلاة والدّعاء والخطب والدّروس، وهذا التّرتيب قد يكون من الأدنى إلى الأعلى بالدّرجة، أو الأقل إلى الأكثر عُمّاراً وعُبّاداً.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} : الواو استئنافية، لينصرن: اللام لام التّوكيد، ينصرن: فيها نون التّوكيد، ينصرن بالغلبة والنّصر وكسب المعركة، أو بالشّهادة والقتل في سبيل الله ونيل الحسنى، ولينصرن الله من ينصر دينه ورسله والمؤمنين والمظلومين والضّعفاء، والّذين يعملون على إعلاء كلمة الله؛ لتكون هي العليا وكلمة الّذين كفروا هي السفلى.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} : إنّ للتوكيد، لقوي: اللام للتوكيد، قوي: لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّموات ولا يفوته شيء، عزيز: له عزة القهر والغلبة والقوة، لا يُقهر ولا يُغلب، وله عزةُ الامتناع لا يحتاج إلى أحد من عباده، ولا يناله أحد بأي مكروه، أو سوء، وله عزة العظمة.
لنقارن آية البقرة (251) قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
مع هذه الآية (40) من سورة الحج: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} .
نجد آية البقرة جاءت تعقيباً على فرضية الجهاد على بني إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} .
ونجد آية الحج جاءت تعقيباً للإذن للمؤمنين بالجهاد في سبيل الله؛ أي: فرض لمنع الفساد في الأرض وتحقيق الأمن، ومنع هدم أماكن الصّلاة والعبادة الّتي هي من أسباب منع الفساد في الأرض وتحقيق الأمن.
سورة الحج [22: 41]
{الَّذِينَ إِنْ} : إن: تفيد الاحتمال، شرطية.
{مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ} : التمكين: يعني: القدرة على ممارسة شعائر دينهم بدون خوف أو اضطهاد من الآخرين، والقدرة على إعلاء كلمة الله والشعور بالأمن وتوفر سبل العيش والحرية.
{أَقَامُوا الصَّلَاةَ} : إقامة الصّلاة على الوجه الأكمل، وإقامتها بأركانها وشروطها وأوقاتها، والدّوام عليها والخشوع.
{وَآتَوُا الزَّكَاةَ} : الواجبة. ارجع إلى سورة البقرة آية (43) لبيان معنى الزكاة.
{وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} : ما أمر به الشّرع.
{وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} : ما نهى عنه الشّرع. ارجع إلى سورة آل عمران آية (104) لمزيد من البيان عن المعروف والمنكر.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} : ولله وحده لا لغيره، عاقبة الأمور: انتبه إلى قوله: (ولله)، ولم يقل وإلى الله، (لله) أي: الحكم النّهائي لله في كلّ الأمور إما إلى الجنة وإمّا إلى النّار، (ولله) كأنّ الأمور وصلت إليه تعالى وانتهت. (الآية جاءت في سياق الآخرة)، أمّا قوله:(وإلى الله عاقبة الأمور) لا زالت في طريقها (الآية في سياق الدّنيا).
سورة الحج [22: 42]
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} :
{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال.
{يُكَذِّبُوكَ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد وتكرار وتكذيب قومه له، وإن يكذبوك في العلن وأمام النّاس، ارجع إلى الآية (33) من سورة الأنعام، والآية (184) من سورة آل عمران للمقارنة والبيان بين يكذبوك وكذبوك.
{فَقَدْ} : الفاء جواب الشّرط، قد: للتحقيق والتّوكيد.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} : أي: مشركو مكة وكفارها، كذبت قبلهم، ولم يقل من قبلهم؛ لأنّ (قبلهم) تعني الزّمن القريب أو البعيد، قوم نوح وعاد وثمود.
{قَوْمُ نُوحٍ} : كذبوا نبيهم نوح عليه السلام وقالوا: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9].
{وَعَادٌ} : كذبوا نبيهم هود عليه السلام وقالوا له: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53].
{وَثَمُودُ} : كذبوا نبيهم صالح عليه السلام ، وقالوا:{وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].
سورة الحج [22: 43]
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} :
قوم إبراهيم: كذبوا إبراهيم عليه السلام {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا} [مريم: 46].
وقوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
سورة الحج [22: 44]
{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} : كذبوا نبيهم شعيباً وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} [هود: 88].
{وَكُذِّبَ مُوسَى} : أي: قوم فرعون كذبوا موسى.
{فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} : الفاء: للترتيب والتّعقيب، أمليت للكافرين: من هذه الأمم؛ أي: أمهلتهم وأخّرت عنهم العذاب حتّى تمادوا في الكفر والطّغيان والعصيان.
{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن، أخذتهم بالعذاب، والأخذ يعني: بشدة وقوة.
{فَكَيْفَ} : استفهام فيها معنى التّقرير والتّعجب.
{كَانَ نَكِيرِ} : أي: كيف كان عاقبة إنكارهم وتكذيبهم لرسلهم، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، وأهلكناهم بذنوبهم فلا ناصر لهم. ولهم في الآخرة عذاب أليم. ارجع إلى سورة الرعد آية (32) لمقارنة فكيف كان نكير، وكيف كان عقاب.
سورة الحج [22: 45]
{فَكَأَيِّنْ} : الفاء: استئنافية، كأيّن: مركبة من (كاف) التّشبيه و (أي) الاستغراقية، تفيد التّكثير (مثل كم الخبرية)، وتفيد الاستفهام والتّفخيم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (146) لمزيد من البيان.
{مِنْ قَرْيَةٍ} : من الابتدائية، قرية: تعني أهل القرية، وهي أصغر من المدينة، قرية: نكرة؛ تعني: أيّ قرية.
{أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ} : انظر: هذه الآية تشير إلى أمرين: الأول: استعمال فكأين (فيها؛ أي: التي تشير إلى الكثرة). الثاني: أهلكناها وهي ظالمة بدون ذكر أي إمهال؛ أي: انظر إلى كثرة القرى التي أهلكناها بدون تأخير أو إمهال؛ أهلكناها بسبب ظلم أهلها وكفرهم وتكذيبهم، وارتكابهم المعاصي والشّرك والطّغيان، أهلكناها: من الهلاك؛ يعني: الموت أو زوال السلطان أو إهلاك الحرث والنسل، فالهلاك قد يصيب الإنسان والحيوان والزرع والقرى. وليس بالضرورة يعني العقاب. ارجع إلى الأعراف آية (4) لمزيد من البيان.
{فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى} : بعد إهلاك وقتل أفرادها، فهي:(هي) ضمير يفيد التّوكيد، بقيت غير مسكونة من بعدهم إلى أن سقطت سقوف أبنيتها ثمّ تلتها الجدران، خاوية: ساقطة أو خاوية من السّكان، على عروشها: سقوفها وجدرانها.
{وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} : بئر مهجورة متروكة معطلة بسبب موت أهلها، مما أدى إلى غور مائها وذهابه، ولا زالت آثار البئر قائمة.
{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} : أصل الشّيد: الجِصّ، قصر مجصّص، ومعطّل: غير مسكون خالٍ من ساكنيه، ولم يذكر في هذه الآية أنّه أملى لهذه القرى؛ لأنّه قال تعالى في الآية السّابقة:{فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
سورة الحج [22: 46]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : أفلم: الهمزة للاستفهام والتّعجب والتّوبيخ، والفاء للتوكيد بمعنى الأمر؛ أي: لِمَ لا يسير كفار مكة الّذين كذّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يسيروا في الأرض: أي يسافروا في الأرض إلى ديار قوم صالح وقوم لوط وقوم هود وغيرها؛ للسياحة والاعتبار ليجدوا ديارهم خالية وآبارهم معطلة ومنازلهم خاوية على عروشها.
فيدركون بعقولهم أنّ تكذيبهم لنبيّهم قد يسبب لهم هلاكهم كما حدث لهذه الأقوام، ويسمعون بآذانهم أخبار من سبقهم من الأمم.
{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} : القلوب قيل: هي العقول؛ لأنّ التفكير يكون بالعقل ولولا القلب لتعطل العقل؛ لأنّه يضخ الدّم للعقل، وكذلك هناك اتصال بين المخ والقلب بواسطة اللنف والمجال الكهربائي والأعصاب وغيره، وعضلة القلب فيها خلايا تسمى كارديوميوسايت في البطينة والأذينة وفيها مستقبلات تسمى ادرينورجك، وخلايا عصبية لها شأن في الذاكرة والعاطفة يطلق عليها أحياناً: الفؤاد أو القلب، وهذا ما يفسر قوله تعالى:(لهم قلوب لا يفقهون بها)، أو كقوله تعالى:(فتكون لهم قلوب يعقلون بها)، أو قوله:(قد شغفها حباً)[يوسف: 30]، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10].
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} : أي: لم تعمَ أبصارهم آنذاك فقد كانت تبصر وترى، وما أصابهم هو عمى البصيرة عمى القلب.
{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} : لكن: حرف استدراك.
تعمى: من عمى البصيرة. والعمى: عادة هو فقدان البصر العادي، وقد وردت كلمة العمى بمعنى: فقدان البصيرة؛ كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، والعمى يشمل العَمَه: وهو عمى البصيرة، والتردد، والحيرة الذي يصيب القلب والعقل، وهو أشد من عمى البصر.
القلوب الّتي في الصدور كما بينّا سابقاً.
سورة الحج [22: 47]
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} : كان منكرو البعث من كفار مكة يطلبون من النّبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب الّذي يعدهم به؛ طغياناً وعناداً وعدم تصديق بما ينذرهم به كقولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 25].
فجاء الرّد عليهم في كثير من الآيات منها هذه الآية (47) من سورة الحج، والآية (53) من سورة العنكبوت:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ، والآية (33) من سورة الأنفال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} : (لن) لنفي القريب والبعيد، (يخلف الله وعده)؛ أي لا محالة سيحل بكم العذاب عاجلاً أم آجلاً.
{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} : أي: اليوم ليس (24) ساعة، وإنما هو (1000) سنة أرضية.
سورة الحج [22: 48]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ} :
جاءت هذه الآية لتؤكد الإمهال والإملاء وإن طال الزّمن، وأنّ الهلاك قادم لا محالة.
{وَكَأَيِّنْ} : الواو عاطفة. ارجع إلى الآية (45) للبيان.
ولنقارن الآية (45){فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ} ، والآية (48){وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ} . في الآية (45) ذكر كثرة القرى المهلكة بظلم بدون ذكر الإمهال أو التأخير. في الآية (48) ذكر كثرة القرى المهلكة بظلم مع ذكر الإمهال رغم أن أهلها يستعجلونك بالعذاب.
الآية (45) سبقها قوله: (فأمليت للكافرين) فلم يذكر الإملاء في تلك الآية، وذكر الهلاك الّذي يكون عادة بعد الإملاء، أمّا الآية (48) سبقها قوله:(ويستعجلونك بالعذاب) فذكر (أمليت لها)(أي: لم أعجل عليهم العقوبة رغم استعجالهم بالعذاب) ثمّ الهلاك، فكلا القريتين وصفت بظلم أهلها، إحداهما أعطيت فترة الإملاء؛ أي: الإمهال، ثمّ كلاهما أهلكت في النهاية فالنتيجة واحدة.
{وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا} : ارجع إلى الآية السّابقة (45) للبيان، أخذتها: أهلكتها. والأخذ يوحي بالعنف والشدة وعدم القدرة على الإفلات.
{وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ} : النّهاية التي ستكون الوقوف بين يدي الله سبحانه للحساب.
سورة الحج [22: 49]
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم، يا أيها: يا النّداء، والهاء للتنبيه، النّاس: الثّقلين الإنس والجن، البشرية عامة.
{إِنَّمَا} : وهذه الآية تدل على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ إلى النّاس عامة وإلى المسلمين خاصة، (إنما) كافة مكفوفة تفيد الحصر.
{أَنَا} : ضمير منفصل يفيد التّوكيد والحصر.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، لكم: للمؤمن والكافر والإنس والجن للذكر والأنثى.
{نَذِيرٌ مُبِينٌ} : نذير من الإنذار: وهو الإعلام مع التّحذير من العقاب والهلاك، مبين؛ أي: لكلّ واحد لكلّ عبد، وإنذاري واضح وكامل وبيّن شامل ولا يحتاج إلى من يُبيّنه (يوضحه).
وانتبه إلى قوله تعالى في نهاية الأمر: (نذير مبين) وأحياناً لا يذكر ذلك فيقول تعالى: (إن أنا إلا نذير) بدون (مبين) فالآية الأولى تأتي في سياق الدّعوة إلى الله والتّبليغ، والثّانية تأتي في سياق الوحي عادة كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
وفي هذه الآية لم يقل إنما أنا لكم بشير ونذير؛ لأنّ الآية جاءت في سياق منكري العذاب، فهؤلاء ليس لهم بشارة، ولذلك اقتصر على القول: نذير.
وقوله: إنما أنا لكم نذير مبين: أي إنما عليَّ البلاغ المبين فقط، ولست مسؤولاً عن هدايتكم وحسابكم، وما أنا عليكم بوكيل.
سورة الحج [22: 50]
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} :
{فَالَّذِينَ} : الفاء: للتفصيل، الّذين: اسم موصول يفيد المدح.
{آمَنُوا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفرائض والنّوافل، وعملوا الصّالحات تشمل الأقوال والأفعال التي تضم شعب الإيمان.
{لَهُمْ} : اللام لام الاستحقاق.
{مَّغْفِرَةٌ} : لما سلف من ذنوبهم وسيئاتهم، والمغفرة تعني: ستر الذنب بإيجاب التوبة، ثم المحو والعفو والثّواب لما فعلوه من حسنات.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : كثير مبارك حلال، ويعني الجنة وغيرها، والرّزق يشمل المال والصّحة والعلم، والأهل والجاه والعمل والأخلاق وغيرها.
سورة الحج [22: 51]
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} :
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم.
{سَعَوْا} : من السّعي: وهو السّير الدّؤوب بجد واهتمام.
{فِى آيَاتِنَا} : لإبطالها وتكذيبها، وقولهم: أنّها شعر وسحر وأساطير الأولين وإفك. وآياتنا تشمل الآيات القرآنية أو المعجزات أو الآيات الكونية.
{مُعَاجِزِينَ} : أي: للأنبياء والرّسل والمؤمنين، ويصدون النّاس عن دينهم وإظهار الحق، والمجادلة بالباطل وعدم السّماع لآيات الله والإعراض عنها، ويظنون أنّهم يعجزون ربهم. ومعاجزين: جمع معاجز: اسم فاعل من الفعل عَاجَزَ على وزن مفاعل، وعَاجَزَ: غير عجز؛ أي: لم يقدر عليه. عاجز: تعني: تحداه أو غالبه، والمعاجزة تحتاج إلى اثنين؛ أي: يظنون أنهم يعجزوننا؛ أي: يسبقونا فلا نقدر عليهم أو يفوتوننا بالهرب.
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} : أولئك: اسم إشارة يفيد البعد في المنزلة، أصحاب الجحيم (أصحاب) مشتقة من: الصّحبة، والصّاحب؛ أي: الملازم، الجحيم: اسم من أسماء النّار مشتقة من: الجحوم؛ أي: الاضطراب والتأجج فلا تخمد أبداً، وقيل: هي دركة من دركات النّار. فهم لا يفارقون جهنم ولا جهنم تفارقهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لمزيد من البيان.
سورة الحج [22: 52]
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.
{أَرْسَلْنَا} : ولم يقل بعثنا، ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان والتّفصيل في معنى أرسلنا.
{مِنْ قَبْلِكَ} : من استغراقية.
{مِنْ رَسُولٍ} : من ابتدائية، رسول: الرّسول: من بُعث بشرع جديد، وكلّ رسول نبي وليس كلّ نبي رسولاً.
{وَلَا نَبِىٍّ} : تكرار لا: يفيد التّوكيد وفصل كلٍّ من الرّسول، من النّبي، أو كلاهما معاً.
والنّبي: من بُعث لتقرير شرع من قبله من الأنبياء والرّسل والعمل به، ولم يأت بشرع جديد. ارجع إلى سورة النّساء آية (164) لمزيد من البيان عن الرّسول والنّبي.
{إِلَّا إِذَا} : إلا أداة حصر. إذا: شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} : تمنى: لها معنيين: الأول: بمعنى: قرأ وتلا من القراءة والتّلاوة؛ أي: يمكن للشيطان أن يتدخل في فهم الآيات والتّأثر بها ويضع الوسواس في عقول النّاس؛ ليصدّهم عن اتباع ما يقرأه ويتلوه النّبي ويوسوس لهم أنّه سحر، أو (تمنى) من التّمني المعروف، وهذا هو المعنى الثاني؛ كالقول: ليت كان كذا وليت لم يكن، وقد يقع على الماضي والمستقبل؛ فهو معنى في النفس، ويعني: المحبة، ولكن المحبة لا تقع إلا على المستقبل؛ أي: أحب الشّيء وتمنّاه، وهو تمنّيه إسلام كلّ فرد من أمته، فكلّ رسول أو نبي يتمنّى أن يؤمن كلّ أفراد قومه أو أمته، ويتمنّى أن يصدقوه ويؤمنوا بما جاء به، فيأتي الشّيطان فيوسوس في صدور بعض النّاس أو أكثر النّاس، ويزين لهم ويعمل على إغرائهم، ليصدّهم عن اتباع النّبي وعن الإيمان والدّخول في دين الله، أو يمنع نفوذ القرآن إلى قلوب النّاس ويضع العراقيل والعقبات في دعوة الرّسل والأنبياء؛ حتّى لا يتم للنبي أو الرّسول ما يتمنّاه من إيمان أفراد أمته؛ أي: يقف حائلاً بين الرّسول أو النّبي وما يتمنّاه.
{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} النسخ: هو الإزالة. ارجع إلى سورة البقرة آية (106) لمزيد من البيان. يمحو الله سبحانه ويزيل كلّ ما يلقي الشّيطان في كتاب الله من تبديل وتحريف أو باطل، فلا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا خلفه، وينسخ الله؛ أي: يزيل من قلوب المؤمنين الشّك والرّيبة، ويثبت الله سبحانه آياته في قلوب الّذين آمنوا، فتصبح وساوس الشّيطان أو ما يلقيه الشّيطان إليهم لا قيمة له ولا وزن.
{ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} : ثمّ للترتيب الذّكري، يُحكم الله آياته: أي: يجعلها محكمة غير منسوخة، فلا يصيبها تبديل ولا تحريف.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : عليم بأفعال الشّيطان وأحواله وأقواله، وعليم بأحوال النّاس وأقوالهم وأفعالهم وبما أوحى إلى رسله، ويعلم ظواهر الأمور وبواطنها، حكيم: من الحكمة والحكم، فهو سبحانه أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء في خلقه وشرعه وأفعاله وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لبيان معنى حكيم.
سورة الحج [22: 53]
{لِّيَجْعَلَ} : اللام: لام التّعليل.
{مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : قال تعالى في الآية السّابقة: فينسخ الله ما يلقي الشّيطان. والنّسخ هو: الإزالة، كما بينّا في الآية السّابقة.
وفي هذه الآية يقول: (ليجعل ما يُلقي الشّيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم)، فيكون المعنى: فينسخ الله ما يلقي الشّيطان؛ أي: من قلوب الّذين آمنوا؛ لأنّهم أصلاً لا يتبعون خطوات الشّيطان ولا وساوسه ولا إغواءه، فالله سبحانه يساعد هؤلاء على إلغاء كلّ ما يلقي الشّيطان في قلوبهم.
أمّا بالنّسبة للذين في قلوبهم مرض؛ أي: المنافقين والقاسية قلوبهم، فهؤلاء يجعل؛ أي: يترك الله سبحانه ما يلقي الشّيطان في قلوبهم فتنة لهم، وليكون عليهم حجة، وهذه الفتنة ليبين لهم المؤمن من المنافق والصّادق من الكاذب، فالفتنة قد تكون خيراً إذا فازوا بالاختبار وشراً لهم إذا استمروا في غيّهم وضلالهم، للذين في قلوبهم مرض: أي المنافقين، والقاسية قلوبهم: من الأعراب أو كفار اليهود والنّصارى وغيرهم من النّاس.
{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} : إنّ للتوكيد، الظالمين: المشركين أو الكافرين، لفي: اللام تفيد التّوكيد أيضاً، شقاق بعيد: في عداوة وخلاف دائم وعناد وعصيان مستمر لله ورسوله، وبُعد عن الحق والصّواب، من الصّعب الرجوع عنه. ارجع إلى سورة البقرة آية (35) لبيان معنى الظالمين.
سورة الحج [22: 54]
هذه هي العلة الثّانية لماذا لم ينسخ الله كلّ ما يلقيه الشّيطان؟ العلة الأولى: كانت لفتنة الّذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والعلة الثّانية: وليعلم الّذين أوتوا العلم أنّه الحق من ربك فيؤمنوا به
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : اللام للتوكيد، الّذين أوتوا العلم: هم المؤمنون وهم أهل القرآن والتوحيد.
{أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : لأنّه سبحانه نسخ كلّ ما ألقى الشّيطان ولم يسمح لأيِّ مخلوق أو كائن مهما كان أن يتدخل في كتابه العزيز، فلا يجدون فيه تحريفاً ولا زيغاً ولا تبديلاً، فيعلمون بذلك أنّه الحق من ربهم؛ أي القرآن والحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل أبداً منذ نُزّل على قلب رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم.
{فَيُؤْمِنُوا بِهِ} : أي: بالله وبكتابه، أي: يزداد إيمانهم بالله وبكتابه العزيز.
{فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} : الفاء للتوكيد، تخبت: تطمئن قلوبهم له أو تلين وتسكن وتخشع.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : إنّ للتوكيد، واللام في كلمة (لهاد) لزيادة التّوكيد، هاد الّذين آمنوا: دالٌّ ومعينٌ، إلى صراط مستقيم: هو الإسلام دين الله، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمّد: 17].
سورة الحج [22: 55]
{وَلَا} : الواو استئنافية، لا النّافية.
{يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ} : المِرية: هي الجدال والشّك بعد ظهور الحق.
لا يزال: أي سيبقى ويستمر الّذين كفروا يجادلون في القرآن وآياته، والملحدون في مرية في وجود الخالق من بعد ما تبيّن أنّه الحق من ربك، ولا يؤمنون به، وفي مِرية منه؛ أي: من القرآن أو الخالق أو الرسول حتّى تأتيهم السّاعة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} : حتّى: حرف نهاية الغاية، تأتيهم السّاعة بغتة: فجأة بدون سابقة إنذار، السّاعة ساعة تهدّم النّظام الكوني الحالي، أو ساعة موتهم، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم.
{يَوْمٍ عَقِيمٍ} : كيوم بدر أو يوم القيامة، وسمّي بهذا الاسم (يوم عقيم)؛ لأنّه لا رحمة فيه ولا خير ولا فرج للكافرين والمشركين، أو لكونه لا يأتي يوم بعده أو ليس له ليلة.
ويوم عقيم كيوم بدر (غزوة بدر) ووصف بالعقيم؛ لأنّ كثيراً من النّاس يُقتلون فيه فتصبح أمهات هؤلاء الّذين يُقتلون كأنهنّ عقيمات لم يلدن (لأن أولادهن قُتلوا وماتوا).
سورة الحج [22: 56]
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} : الملك: الحكم يومئذ (يوم القيامة) لله وحده، فهو الحاكم والمالك، وهو مالك الملك في الدّنيا والآخرة سبحانه.
{يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} : بين النّاس وبني الأمم وبين الرّسل وأممهم، وبين الظّالم والمظلوم، ولا يحتاج إلى بينة ولا شهود؛ لأنّه سبحانه على كلّ شيء شهيد.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : الفاء للتفصيل، الّذين آمنوا وعموا الصّالحات: ارجع إلى الآية (50) من السّورة نفسها. في جنات النّعيم: جنات الفردوس وعدن والمأوى. ارجع إلى سورة يونس آية (9) لبيان معنى جنات النعيم.
سورة الحج [22: 57]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} :
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم.
{كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : جمعوا بين الكفر والتّكذيب ولم يؤمنوا أو يصدقوا بآياتنا القرآنية أو الكونية، أو المعجزات الّتي أرسلت إلى رسلهم، الباء للإلصاق والمصاحبة.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة يفيد البعد عن رحمة الله تعالى.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} : عذاب أمام الخلق فيه الذّل والإهانة.
سورة الحج [22: 58]
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول.
{هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : تركوا ديارهم وأموالهم في سبيل الله؛ أي: ابتغاء مرضاة الله كهؤلاء الّذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
{ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} : ثمّ للترتيب الذّكري العددي، قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فُرشهم دون جهاد؛ لأنّهم هاجروا في سبيل الله.
{لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} : ليرزقنهم: اللام والنّون للتوكيد وزيادة التّوكيد، ليرزقنهم الله عوضاً عمّا فاتهم وما تركوه خلفهم من مال وأهل، رزقاً حسناً: الرّزق الحسن هو الرّزق الدّائم الّذي لا ينقطع، وقيل: هو الجنة، وقيل: الرّزق الحسن: هو ليدخلهم مدخلاً يرضونه.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} : إنّ للتوكيد، لهو: اللام للتوكيد أيضاً، خير الرّازقين: جمع رازق كون العبد يوصف بأنّه رزاق هو من فضل الله على عبده ورحمته وكرمه، فهو سبحانه يصفه بما يصف به ذاته، ولكنه سبحانه هو الرزاق الحقيقي والدائم؛ فهو خير من يرزق وهم يرزقون من رزقه فسبحانه ما أكرمه.
سورة الحج [22: 59]
{لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} :
{لَيُدْخِلَنَّهُم} : اللام للتوكيد، والنّون في (يدخلنهم) لزيادة التّوكيد، والضّمير (هم) يعود على الّذين هاجروا في سبيل الله، ثمّ قتلوا أو ماتوا.
{مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} : أي: الجنة، وأيُّ مُدخل أفضل من ذاك المُدخل، يرضونه: الرّضا هو القناعة وما تبغي النّفس، والمدخل: يمكن أن يكون؛ أي: المكان، فيدخلون مدخلاً، أو يمكن أن يكون مصدراً؛ أي: ليدخلنهم إدخالاً يرضونه.
{وَإِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.
{لَعَلِيمٌ} : اللام للتوكيد، عليم: صيغة مبالغة من: عالم؛ أي: كثير العلم بكلّ أحوال خلقه وكونه، عليم بما يستحق كلّ إنسان من ثواب وعقاب. وعليم بمن هاجر ومن جاهد في سبيله، وعليم بنياتهم وأحوالهم، ومن مات ومن قتل.
{حَلِيمٌ} : لأنّه لا يعجل له العقوبة أو العذاب لعباده؛ لعلهم يتوبون إليه ويستغفرونه فيغفر لهم ذنوبهم ويتجاوز عن سيئاته. وحليم بمن لم يهاجر ويجاهد في سبيله.
سورة الحج [22: 60]
{ذَلِكَ} : اسم إشارة يشير إلى ما وعده الله سبحانه لمن هاجر في سبيله وقتل في سبيل الله أو مات، وتستعمل بعد إتمام المعنى والبدء أو الخوض في معنى آخر.
{وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ} : من ابتدائية، عاقب بمثل ما عوقب به؛ أي: قاتل المشركين كما قاتلوه، كقوله تعالى:{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
{ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} : أي: ظُلم أو أُجبر على الهجرة مثلاً، أو انتقموا منه؛ لأنّه قاتلهم، لينصرنه الله.
{لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} : اللام: للتوكيد، والنّون في ينصرنه: لزيادة التّوكيد، والنصر يختص بالمونة على الأعداء، أو يكون بالحجة والدليل.
{إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} : إنّ: للتوكيد، لعفو: اللام: للتوكيد؛ العفو: عدم العقوبة على الذّنب، غفور: صيغة مبالغة من: غفر؛ أي: كثير الغفران، ويعني: ستر الذّنب والعفو عنه، فلا يعاقب عليه ويثيب المغفور له على حسناته.
سورة الحج [22: 61]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} : ذلك: ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد تستعمل بعد إتمام المعنى والبدء والخوض في معنى جديد أو آخر؛ أي: للبدء بآية جديدة.
أي: ذلك نصر الله سبحانه لعباده المظلومين وهو آية من آيات قدرته وعظمته.
أيضاً كونه هو الّذي يولج الليل في النّهار ويولج النّهار في الليل، الولوج: الدّخول أو التداخل. من الناحية العلمية الولوج يعني: كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشّمس، والذي يؤدي إلى تبادل الليل والنهار الضروريين لاستقامة الحياة على هذه الأرض. ومن النّاحية اللغوية يعني: تداخل الليل في النّهار والنّهار في الليل بحيث إذا طال أحدهما نقص الآخر، كما يحدث في فصلي الصيف والشتاء.
{وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : وأنّ للتوكيد، سميع: للأقوال والأصوات لا يخفى عليه شيء من قول أو نجوى أو سر أو أخفى من السّر، بصير: بالأفعال ويرى الأشياء ظاهرها وباطنها.
سورة الحج [22: 62]
{ذَلِكَ} : اسم إشارة يشير إلى القدرة على إيلاج الليل في النّهار والنّهار في الليل، والبدء والخوض في معنى جديد بعد إتمام المعنى السّابق.
{بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} : الباء باء التّوكيد أو السّببية والإلصاق، (هو) تفيد الحصر والتّوكيد، الحق: واجب الوجود وكلّ شيء ينسب إليه حقٌّ، فالمولج الليل في النّهار والنّهار في الليل هو الحق، الإله الحق الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدل، وبما أنّ الله هو الحق والحق هو الّذي يعلو ولا يُعلى عليه، فهو العلي الكبير.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} : أنّ: للتوكيد، ما: لغير العاقل، يدعون من دونه: يعبدون من دون الله سبحانه، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْبَاطِلُ} : هو الزّائل، ما لا وجود له حقيقة؛ ويعني: الشّرك، والباطل يطلق على الكذب ويطلق على الإحباط كقوله:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} ويطلق على الظّلم، ارجع إلى سورة الأنبياء الآية (18).
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} : وأن للتوكيد، (هو) للتوكيد والحصر، العلي: علوّ الجلال والكمال والإطلاق، العلي سلطانه وقدرته وإحاطته بكلّ شيء، علوّ الذّات والصّفات والأسماء، الكبير: العظيم الشّأن الكبير في عظمته وكبريائه، فهو أكبر وأعلى وأعظم من كلّ شيء، ارجع إلى سورة الرّعد الآية (9) للبيان.
ولنقارن هذه الآية (62) وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} ، مع الآية (30) من سورة لقمان وهي قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} .
نجد أنّ الاختلاف فقط بإضافة كلمة (هو) في سورة الحج للتوكيد؛ لأنّ السّياق في سورة الحج في الهجرة والقتل والموت والتّكذيب بالآيات وصراع أهل الباطل، أمّا السّياق في سورة لقمان فهو في اتباع ما أنزل الله تعالى أو اتباع الشّيطان، سياق جدال لإظهار الحق من الباطل، فهو أقل شدة وقوة؛ ولذلك أكد في سورة الحج بإضافة (هو) ولم يؤكد في سورة لقمان.
سورة الحج [22: 63]
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير.
{تَرَ} : رؤية بصرية ورؤية علمية؛ أي: ألم تعلم.
{أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : أن: للتوكيد. من السماء: كل ما علا الإنسان يُعد سماء، فالسحب تسمى سماء؛ أي: من السُّحب الركامية. هذه الآية تشير إلى دوران الماء حول الأرض، والذي يتشكل من بخار الماء من البحار والمحيطات واليابسة بمقدار (600، 000 كم3) سنوياً، والذي تحمله الرياح ويشكل السُّحب الطباقية، والّتي تتراكم لتشكل السُّحب الركامية الّتي تنزل المطر بعد التّلقيح برياح أخرى.
{فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} : الفاء للترتيب والتّعقيب، الأرض مخضرّة؛ أي: ذات خضرة بعد أن كانت هامدة يابسة، ثمّ اهتزت وربت بالماء وأنبتت من كلّ زوج بهيج، قال (فتصبحُ) بالضم بدلاً من فتصبحَ بالفتح؛ لأنّه سبقها استفهام بألم، فبذلك أثبت الاخضرار، أو عطف المضارع المستقبل (تصبح) على الماضي (أنزل) لحكاية الحال؛ أي: لاستحضار تلك الصورة الجميلة (الأرض مخضرة) والدالة على قدرة الله تعالى، وربما تدل على استمرار اخضرار الأرض لزمن طويل؛ يعني: أصبحت فبذلك أثبت الاخضرار، فالتربة تحوي ملايين الكائنات الخامدة أو الراكدة، وبمجرد نزول المطر تحيا هذه البذور وتنمو بامتصاص الغذاء الّذي أذابه الماء، فتمتصه بجذورها وتخرج السويقة ثمّ الأوراق الّتي فيها مادة اليخضور. ارجع إلى الآية (5) من السّورة نفسها، وسورة الأنعام آية (99) لمزيد من البيان.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} : إنّ للتوكيد.
لطيف: اللطيف؛ يعني: يعلم أدق الأشياء والأمور والمخلوقات الّتي يصعب رؤيتها بأيِّ وسيلة ومهما لطفت؛ أي: صغرت ودقّت يعلم أماكنها وأحوالها وأسرارها أينما كانت ووجدت، وهو سبحانه لا تدركه الأبصار؛ لأنّه لطيف يصل علمه إلى كلّ خفي أو ظاهر. لطيف بعباده يبرّهم ويحسن إليهم.
لطيف: لها معانٍ عدَّة منها: أنّه يعلم أدقّ وألطف المخلوقات أو الأشياء والأمور مهما دقّت وصغرت، والّتي يصعب رؤيتها بالعين وتناهت في الصغر يعلم أين توجد وكيف يجدها، ويعلم أسرارها وأحوالها وأماكنها.
خبير: يعلم بواطن الأمور وظواهرها، وذوات الصّدور، خبير بمصالح العباد وبالمقادير.
سورة الحج [22: 64]
{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} :
{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: له وحده سبحانه ما في السّموات وما في الأرض.
{مَا} : لغير العاقل والعاقل.
{فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : في ظرفية، السّموات السّبع؛ أي: السّموات نفسها وما تضم من مخلوقات من ملائكة مقربين وغير مقربين، ما في السّموات من كواكب ونجوم وأفلاك ومجرات وما فيها من شموس وأقمار، وما في الأرض؛ أي: الأرض وما تضم من كنوز وبحار وجبال وأشجار وحدائق وإنس وجنّ ورياح وسُحب، وتكرار كلمة (ما في) لأنّ هناك أشياء أو مخلوقات في السّموات لا توجد على الأرض وبالعكس.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} : إنّ للتوكيد، واللام في (لهو) لزيادة التّوكيد، وللواو هنا دلالة كبرى فهي تفيد التّكثير من غناه، ومعنى ذلك: ولو ذهب ملك السّموات وملك الأرض سيبقى هو الغني المطلق لا أغنى منه.
الغني: عن كلّ ما سواه، ولا يحتاج إلى شيء، ويغني من يشاء من غناه.
الحميد: من الحمد، المحمود بحق في كلّ الأحوال في الغنى والفقر، المحمود لذاته ولصفاته ولأفعاله، الحميد وله الحمد على خلقه وشرعه وقدره وقضائه، يحمده كلّ من في السّموات والأرض؛ لأنّه هو المستحق للحمد لفضله وإحسانه وكرمه وعطائه.
سورة الحج [22: 65]
{أَلَمْ تَرَ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير، ترَ: الرّؤية هنا رؤية قلبية وعلمية وبصرية؛ أي: ألم ينتهِ علمك أو تفكر.
{أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ} : أنّ: للتوكيد، (سخر لكم) أيها النّاس سخر؛ أي: ذلَّل لكم، وهيَّأ لكم الأرض للعيش عليها، وذلك بخلق الجبال وعوامل التّعرية وشقّ الفِجاج والسُّبل. ما: تشمل كلّ شيء ما في الأرض في ظاهرها وفي باطنها، من ثمار وزروع وطاقة ومعادن وبترول وكنوز؛ للانتفاع بها وللدلالة على رحمته بكم وقدرته وعظمته.
{وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} : السّفن والفلك (جمع أو مفرد)؛ أي: هو سبحانه الّذي جعل لماء البحر صفات كيميائية وطبيعية تشكّل ما يسمى: ظاهرة التوتر السطحي، الّتي تمثل شدة تماسك جزيئات الماء مع بعضها البعض؛ لتساعد على حمل هذه الفلك العملاقة القادرة على حمل ملايين الأطنان، تجري في البحر لنقل الرّكاب والبضائع، تجري بتسخيره وتسييره من بلد إلى آخر، فتتم التّجارات، وتبادل الحوائج والمنافع ويحصل التّعاون كما قال تعالى:{رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66].
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} : يُبقي السّماء بما فيها من كواكب ونجوم وشموس وأقمار مترابطة بنظام الجاذبية والقوى النووية بنظام دقيق كلٌّ يجري في مداره الخاص الثّابت، ولو شاء الله لأذن للسماء أن تسقط على الأرض فيهلك كلّ من في الأرض، ولكن من رحمته ورأفته بالنّاس يبقي قوانين الجاذبية قائمة بدون أي تغيير. فلا تصطدم الكواكب ببعضها وتسقط على الأرض فتدمرها.
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ} : إنّ للتوكيد، بالنّاس: الباء للإلصاق، ولولا رحمته لما شعرتم بالأمن والاستقرار.
{لَرَءُوفٌ} : اللام للتأكيد، رؤوف: الرّأفة من الرّحمة، ورؤوف بالنّاس: لا يحمّلهم ما لا يطيقون. ارجع إلى سورة النّحل آية (47) لمزيد من البيان.
{رَحِيمٌ} : لأنّه يمسك السّموات أن تقع على الأرض، ولأنّه يُزجي الفلك في البحر، ولأنه سخّر لكم ما في السّموات والأرض جميعاً منه. بالمؤمنين رؤوف رحيم.
سورة الحج [22: 66]
{وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} :
{وَهُوَ الَّذِى} : هو: ضمير منفصل للحصر والقصر.
{أَحْيَاكُمْ} : في الأرحام بنفخ الرّوح، ثمّ يخرجكم طفلاً.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} : عند انتهاء آجالكم، (ثمّ) تفيد التّرتيب والتّراخي في الزّمن.
{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} : عند البعث للحساب والجزاء، أليس ذلك بكافٍ لتؤمنوا به وحده؟
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} : إنّ واللام في (كفور) تفيدان التّوكيد، لكفور: جاحد لنعم ربه، كفور: صيغة مبالغة من: كافر: كثير الكفر؛ كفر إيمان وعقيدة وكفر لنعمه، والكفر يعني: السّتر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (51) وكما بيّن في سورة النّحل آية (83){يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} .
سورة الحج [22: 67]
{لِكُلِّ أُمَّةٍ} : جماعة من النّاس تجمعهم عقيدة ما بغضِّ النّظر عن الحيز الجغرافي والعدد.
{جَعَلْنَا} : صيّرنا.
{مَنْسَكًا} : المنسك: كلّ ما يتقرّب به إلى الله من شريعة ومنهاجاً للعبادة، وشاع استعمال المناسك في أعمال الحج، منسكاً: من مَنْسَك: بفتح السّين بمعنى: الأفعال كالطّواف والسّعي والذّبح والرّمي، مَنْسِك: بكسر السّين: المكان الّذي تقام عندها الأفعال مثل: الكعبة وعرفات ومنى والصّفا والمروة والحجرات.
والمناسك: هي أعمال الحج الّتي تؤدّى في أمكنة محددة معينة وأزمان محددة.
{هُمْ نَاسِكُوهُ} : هم: للتوكيد، ناسكوهُ: يتعبدون به أو يتقربون به إلى الله تعالى.
{فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِى الْأَمْرِ} : الفاء: للتوكيد، لا النّاهية، والنّون في (ينازعنك) للتوكيد، والخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فِى الْأَمْرِ} : في الدّين أو الأحكام؛ أي: فلا ينازعنّك، والنزاع: هو الخصام والجدال؛ أي لا ينازعنّك المشركون في أمر الذبائح حين قالوا: كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؛ أي: الميتة؟! فلا تنازعهم ولا ينازعونك ولا تتبع أهواءهم.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} : دين ربك وعبادته وتوحيده والإخلاص له.
{إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} : لعلى: اللام للتوكيد، على هدى مستقيم: دين الحق؛ أي: الإسلام، الدّين القيّم السّوي الموصل إلى الغاية بأقصر السّبل وأيسرها، (على) تفيد العلوّ والثّبات.
سورة الحج [22: 68]
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} :
{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.
{جَادَلُوكَ} : من الجدال: هو الحوار الّذي يحدث بين طرفين، أو عدة أطراف، ويكون لإظهار حُجة، أو لدفع شبهة أو إثبات حق، والجدال أشد من الحوار حدّةً ومخاصمةً؛ أي: جادلوك بعدما تبيّن لهم الحق في أمر الذّبائح أو أمر من أمور الدّين، وبعد أن حاولت تجنّبهم ومنازعتهم وأبوا إلا أن يجادلوك عندها فقل لهم: الله أعلم بما تعملون.
{فَقُلِ اللَّهُ} : أي: ردّهم إلى الله سبحانه.
{أَعْلَمُ} : صيغة مبالغة ولم يقل عالم بل: أعلم؛ أي: يعلم كلّ نواياكم وأعمالكم.
{بِمَا تَعْمَلُونَ} : الباء للإلصاق والحجة، ما: اسم موصول بمعنى الّذي وأوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية: أعلم بأعمالكم، تعملون: تضم الأقوال والأفعال، وفي الآية نوع من الوعيد.
سورة الحج [22: 69]
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} :
لاحظ قوله تعالى: يحكم بينكم، ولم يقل يحكم بيننا وبينكم. هذا يدل على أنّ الجدال أو الخلاف القائم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوقف؛ لأنّه على الحق وهم على الباطل، ولأنّه أمر رسوله بالإعراض عنهم وردّهم إلى الاحتكام إلى الله وحده سبحانه، كما في الآية السّابقة، وتدل على أنّ الخلاف بينهم سيستمر حتّى يحكم الله بينهم يوم القيامة في الأمور الّتي اختلفوا فيها؛ لأنّهم اتبعوا الهوى والباطل، ولو اتبعوا ما أنزل الله لما حدث الاختلاف.
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أي يقضي بينكم (الحكم هنا يعني القضاء) وليس الفصل؛ لأنّ الحكم يستعمل بين أفراد الأمة الواحدة، كما هو الحال في هذه الآية، والفصل يكون بين الأمم المختلفة أو بين الأنبياء والأمم، والفصل: يعني الحكم بأن يذهب فريق إلى الجنة وفريق إلى السّعير. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لمزيد من البيان.
{فِيمَا كُنتُمْ} : في الدّنيا.
{فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : من أمور الدّين، وهذا أدب ومنهاج يعلّمه الله سبحانه لعباده كيف يردّوا على من يجادلهم في أمور دينهم، وما ينبغي من جداله إلا إضاعة الوقت وعدم الاستماع إلى الحق، والسّمعة والرّياء بعدم مناظرته والابتعاد عنه والقول له: الله أعلم بما تعمل.
سورة الحج [22: 70]
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : استفهام يراد به التّقرير، أسلوب من أساليب البيان. الله سبحانه هو المتكلم وهو يخبر بذلك، ولكن الله يريد أن يكون الخبر من المخاطب وليس منه، ويكون إقراراً من العبد ليكون حُجة على العبد.
الهدف من ذكر هذه الآية هنا: أنّها تحمل الوعد والوعيد، الوعيد بالشّر للذي يجادل في أمور الدّين والآيات بعدما تبيّن له الحق، وهذا يسمى المِراء، والوعد بالخير للذي هو على هدى مستقيم، وما دام الله سبحانه سيحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون، فاطمئنوا إلى حكمه سبحانه؛ لأنّه سبحانه يعلم ما يجري ويحدث في السّماء والأرض ولا يحتاج إلى شهود ولا أيّ أدلة، والحاكم يجب أن يكون على علم، فهو سبحانه يعلم ما في السّماء والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة، حتّى الورقة حين تسقط يعلمها ويعلم مستقرها ومستودعها، وهو أعلم: صيغة مبالغة على وزن (أفعل) لا أعلم منه سبحانه.
{إِنَّ ذَلِكَ فِى كِتَابٍ} : إنّ: للتوكيد، ذلك: اسم إشارة يشير إلى ما تعملون وتجادلون وتختلفون فيه، في كتاب: أي مدوّن في كتاب أعمالكم وفي اللوح المحفوظ، معلوم لله سبحانه أزلاً من قبل أن تُخلقوا ومن قبل أن تفعلوه، ومجيء الأشياء يكون حسب ما كتبه الله سبحانه سابقاً في اللوح المحفوظ، فالذي كتب الشّيء قبل أن يكون ثمّ جاء الشّيء موافقاً لما كتب، أكبر دليل على علمه سبحانه وإحاطته بكلّ شيء، وكتابة أعمالكم من قبل الملائكة؛ لتكون حجة عليكم يوم القيامة، ولكي تقرأ كتابك بنفسك كما قال تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : إن: للتوكيد. ذلك: اسم إشارة يشير إلى الكتابة والحفظ، والإحاطة وعلمه، كلّ ذلك على الله يسير، وليس هناك شيء صعب ولكن في تقديركم صعب وبالنّسبة له يسير، وإنما يذكر ذلك ليقرّبه إلى عقولنا، فالكل على الله يسير.
سورة الحج [22: 71]
المناسبة: بعد ذكر (لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه) أي: منهجاً واضحاً كيف يعبدون الله وحده ويتقرّبون إليه، ألا تعبدوا إلا الله وحده، استمرّ بعضهم يعبدون غير الله، وجاء بصيغة المضارع يعبدون؛ لتجدّد عبادتهم واستمرارهم على الشّرك بدلاً من القول: وعبدوا من دون الله.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ} : غير الله؛ أي: الأصنام والأوثان وغير ذلك.
{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : ما: اسم موصول؛ أي: الّذي، و (ما) أوسع شمولاً من (الذي). ويعبدون الّذي لم ينزل به أيُّ دليل أو برهان في الكتاب أو الوحي، أو يجبرهم على ذلك بسلطان القوة والقسر.
{وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} : أي: وما ليس لهم به من علم، أو اجتهاد مستنبط من نص قاطع أو ظني أو علم استدلال، وتكرار (ما) لتأكيد النّفي وفصل العلم عن السلطان أو كلاهما.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} : ولم يقل: وما للظالمين من أنصار؛ ما للنفي، للظالمين: لام الاختصاص، والاستحقاق، للظالمين: للمشركين، جمع ظالم: والظالم هو كلّ من يخرج عن منهج الله هو ظالم لنفسه. من ابتدائية استغراقية، نصير: أي: ناصر أو معين: من يشفع لهم أو يدفع عنهم العذاب أو يكون عليهم وكيلاً. من نصير: من: استغراقية، نصير: صيغة مبالغة أقوى من ناصر، وتعني: الظالمين بالشرك وأنواعه. وما للظالمين من أنصار: تعني: الظالمين بأمور غير الشرك. ارجع إلى سورة البقرة آية (270) للبيان.
انظر إلى قوله في سورة الحج الآية (71): {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، وقوله في سورة الزّخرف الآية (20):{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .
الآية في سورة الحج: جاءت في سياق عبادة الأصنام الأوثان، والذين عبدوها عندهم شيء من العلم ولكنه علم قليل.
الآية في سورة الزّخرف: جاءت في عبادة الملائكة؛ أي: في سياق هؤلاء من عبدوا الملائكة وقالوا: إنّها إناث {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} [الزخرف: 20]. هؤلاء ليس عندهم أدنى أو أقل علم، فهم أغبياء جداً يحتاجون إلى مقدار كبير من العلم، فقوله تعالى:{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} آكد وأقوى من قوله تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، ولذلك قال:(إن هم إلا يخرصون)؛ لأنّ هؤلاء أوّلاً أشركوا بالله، وثانياً افتروا على الله الكذب بالقول: لو شاء الله ما عبدناهم، وثالثاً: زعموا أنّهم يعلمون الغيب بالقول: إنّ الملائكة إناث.
سورة الحج [22: 72]
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : وإذا: الواو عاطفة، إذا: ظرف زماني متضمن معنى الشّرط، ويفيد الحتمية أو كثرة الوقوع. تتلى عليهم آياتنا بينات: إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم من رسول الله أو الصّحابة. (ارجع إلى الآية (43) من سورة سبأ): {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} . عليهم؛ أي: الّذين يجادلون في آيات الله.
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} : تظهر الكراهية على وجوههم (بالغضب أو الانفعال أو العبوس)، المنكر: هنا يعني الإنكار: إنكار ما يسمعون؛ أي: عدم تصديقه واتباعه.
{يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} : يكادون: من: كاد وهو من أفعال المقاربة (لمقاربة حصول الفعل)؛ أي: قارب الحصول ولم يحصل، يَسطون من: السّطو: وهو الفتك والبطش؛ أي: يبسطون إليهم أيديهم بالسّوء من شدة الغيظ والعنف، وأصل السّطو: القهر؛ أي: يكادون يبطشون ويفتكون بقتل هؤلاء الّذين يتلون آيات القرآن عليهم لهدايتهم وصلاحهم.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم، الفاء: للتوكيد، الهمزة استفهامية وإنكار، أفأنبئكم: من النّبأ: هو الخبر العظيم، بشرٍّ: من الّذي تكرهون سماعه مثوبةً عند الله: مَنْ لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت، (من ذلكم) ولم يقل من ذلك، من: ابتدائية (ذلكم) أعظم وآكد من (ذلك)، تستعمل للأمر العظيم أو العدد الكبير من الأمور.
قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: هل أنبئكم بشرٍّ مما تكرهون سماعه (من آيات الله).
النّار: نار جهنم.
{وَعَدَهَا} : الوعد: إذا أطلق يحمل معنى الخير، وإذا قُيّد يمكن أن يُحمل معنى الشر أو الخير، وهنا قُيّد فهو يحمل معنى الشر، وفيه معنى التهكّم والاستهزاء بهم.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : بآيات الله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر.
{وَبِئْسَ} : فعل ذم؛ أي: قَبُح أو ساء.
{الْمَصِيرُ} : النّهاية والمرجع والمآل.
سورة الحج [22: 73]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : نداء إلى كافة النّاس الجنِّ والإنس، والهاء للتنبيه، وياء النّداء: نداء تحدٍّ.
{ضُرِبَ مَثَلٌ} : وضرب المثل يكون لإيضاح أمراً غير مفهوم أو غامض، والضّرب فيه معنى التهييج والتّأثير في نفس السّامع؛ لكي يصل ما يقوله ضارب المثل إلى أعماق نفس المستمع لعله يتأثر ويفكّر ويتدبّر فيما يقوله ضارب المثل.
ضُرب: بصيغة المجهول؛ لأنّ المهم هو المثل. ارجع إلى سورة النّحل آية (74) لمزيد من البيان في معنى المثل.
{فَاسْتَمِعُوا لَهُ} : أي: أنصتوا إليه وافهموه جيداً.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : إنّ للتوكيد، الّذين تدعون: تعبدون، من دون الله: من غير الله أو سوى الله، مثل الأصنام أو الأوثان، أو الأولياء أو عيسى أو عزير أو الملائكة أو الطاغوت، من: نزِّلت منزل العقلاء؛ وتعني الأصنام الّتي عبدوها وغيرها.
{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} : لن: لنفي المستقبل القريب أو البعيد؛ أي: لن يخلقوا ذباباً في المستقبل القريب أو البعيد، ذباباً: اسم جنس واحدته: ذبابة، يقع على الذّكر والأنثى، ولو: شرطية، اجتمعوا له: ولو تعاون واجتمع لهذه المهمة العلماء وغير العلماء ومن في الأرض، أو تضافرت جهودهم وكان بعضهم لبعض ظهيراً. هذا التّحدي استعمل كمثل وأصبحت الآية كمثل يراد به تحدي قدرة علماء الأرض قاطبة على خلق ذبابٍ مهما تقدموا في العلم أو اكتشفوا واخترعوا.
{وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} : وإن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك، يسلبهم الذّباب شيئاً بعد أن تحدّاهم بخلق ذبابٍ، وعلم سبحانه أنّهم لن يقدروا على ذلك، تحدّاهم بأقل من الخلق؛ وهو إعادة ما سلبهم الذّباب من طعام لا يستنقذوه منه: لا النّافية لكلّ الأزمنة، أي: لا يستطيع أحد أيضاً أن يُعيد ما أخذه الذّباب من طعام؛ لأنّ الله سبحانه أعطى القدرة لهذه الذبابة أن تفرز مادة من فمها مجرد أن تمتص أو تسلب أيَّ شيء هذه المادة المفرزة، لها القدرة على تحويل المادة المسلوبة إلى مادة أخرى تناسب معدة الذبابة قبل وصولها إلى معدتها ولم تعد نفس المادة الّتي سلبتها، ويستحيل إعادتها إلى أصلها، ومن هنا كان التحدي بأقل من الخلق.
{ضَعُفَ الطَّالِبُ} : إشارة إلى الإنسان غير القادر على استرجاع ما يسلبه الذباب.
{وَالْمَطْلُوبُ} : هي المادة الّتي سلبتها الذبابة: ضعُفت؛ لأنّها لم تبقَ على حالها الأصلية وتحولت إلى مادة ضعيفة، حيث أصبحت أقل تركيزاً وأسهل هضماً للذبابة، ولو كان الإنسان قادر على استرجاع ما سلبته الذباب لاسترجع شيئاً آخر غير المطلوب.
سورة الحج [22: 74]
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} :
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : ما: النّافية، قدروا الله حقّ قدره: ما عرفوا قدر الله تعالى، ما عظّموه وذكروه حقَّ ذكره، وعبدوه حقَّ عبادته، ولو عرفوا وعلموا عظمته وقدره ما عبد هؤلاء الّذين لا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً ولا يستطيعون أن يستنقذوا ما يسلبهم الذّباب، وكذلك آلهتهم العاجزة أيضاً أن تخلق ذباباً ولا تستطيع إرجاع ما يسلبه الذّباب منهم، فالله سبحانه غني عنهم وعن آلهتهم؛ لأنّه سبحانه هو القوي العزيز.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} : إنّ للتوكيد، لقويٌّ: اللام للتوكيد، قويّ: لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء من خلق أو تدبير أو يفوته شيء، العزيز: الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، والممتنع لا يناله أحد بسوء، فهو الإله الحق واجب الوجود الّذي يستحق أن يُعبد وحده ولا يُعصى؛ لأنّه هو القوي العزيز وغيره الضعيف العاجز.
سورة الحج [22: 75]
{اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} :
{اللَّهُ يَصْطَفِى} : أي: يختار، وتقديم الفاعل على الفعل بدلاً من قوله يصطفي الله، قال:(الله يصطفي) يفيد الاختصاص؛ أي: هذا الفعل خاص بالله وحده وليس أنتم تختارون. ارجع إلى سورة الأعراف آية (144) لمزيد في معنى الاصطفاء والاختيار.
{مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} : من: اسم جنس؛ أي: من جنس الملائكة رسلاً، لتبليغ الوحي وغيره، مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
{وَمِنَ النَّاسِ} : أي: من جنس النّاس؛ أي: الأنبياء والرسل.
وتقديم (من الملائكة)(ومن النّاس) تفيد الحصر؛ أي: حصراً من الملائكة أو حصراً من النّاس.
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} : إنّ: للتوكيد، سميع: لما يُقال، والسّمع متعلق بالأصوات والأقوال، بما في ذلك في السر والنجوى والعلن والخفاء.
{بَصِيرٌ} : متعلق بالأفعال؛ أي: بما يفعلُه خلقهُ، وبصير بما يجري في سمواته وأرضه لا تخفى عليه خافية.
سورة الحج [22: 76]
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : أي: الرسل من الملائكة والنّاس الّذين اصطفاهم، يعلم أحوال الرسل والملائكة والرّسل من الناس، ما بين أيديهم: أي ما سيفعلونه ويقومون به، وقد تعني: ما قدّموه.
{وَمَا خَلْفَهُمْ} : ما فعلوه في الماضي، وما خلفهم قد تعني: ما هو قادم.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} : تقديم (إلى الله) يفيد الحصر؛ أي: حصراً إلى الله ترجع الأمور؛ للفصل فيها وإصدار الحكم والحساب.
سورة الحج [22: 77]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد بتكليف جديد للذين آمنوا، استعمل فيها ياء النّداء، والهاء للتنبيه.
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} : أي: صلُّوا؛ لأنّ ذكر الرّكوع والسّجود كناية عن الصّلاة.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} : من العبادة، ارجع إلى الآية (106) من سورة الأنبياء أو سورة النّحل آية (74).
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} : ارجع إلى الآية (73) من سورة الأنبياء.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة.
في هذه الآية تدرّج من الأقل إلى الأكثر، الرّكوع ثمّ السّجود ثمّ العبادة ثمّ فعل الخيرات، وفي هذه الآية ترى عطف العام ـ وهو فعل الخيرات ـ على الخاص العبادة ومنها الصّلاة؛ للأهمية.
سورة الحج [22: 78]
{وَجَاهِدُوا} : الجهاد نوعان:
1 -
في الله: ويشمل جهاد النفس، والشيطان، والهوى، والظلم.
2 -
وفي سبيل الله: ويعني: القتال قتال الأعداء.
{فِى اللَّهِ} : في: للتعليل، في الله: خالصاً لوجهه؛ أي: من أجل رضاه ومعرفته حق المعرفة.
{حَقَّ جِهَادِهِ} : أي: جهاد النفس وكبحها عن المعاصي والوقوع فيه؛ جهاد الطاعة، طاعة أوامر الله واتباع الأخلاق الحميدة، ويشمل الجهاد لمعرفة الله، والعلم بأوامره وأحكامه أقصى ما استطعتم وكما أمركم وبيّن لكم، وتشريفاً لهذه الطّاعة، ولا ننسى جهاد النّفس والهوى هو الجهاد الأكبر.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ} : (هو) ضمير فصل يفيد التّوكيد، يعود على الله.
اجتباكم: اصطفاكم لدين الإسلام واتباع ملة إبراهيم.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} : الحرج: يعني الضيق والمشقة في أيّ تكليف لا تقدرون عليه، (من) استغراقية تستغرق أيّ حرج مهما كان. ارجع إلى سورة البقرة، آية (286) للبيان.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} : شريعة إبراهيم عليه السلام ، وهل إبراهيم هو أبَ هذه الأمة، نحن نعلم أنّ إبراهيم هو أبو إسماعيل، وإسماعيل عليه السلام هو جد الرّسول، فيمكن القول: إنّ إبراهيم هو أبو هذه الأمة، وكما نعلم أنّ إبراهيم هو أبو الأنبياء الّذين جاؤوا بعده.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} : (هو) ضمير فصل للتوكيد تعود على الله سبحانه، هو الّذي سمّانا المسلمين من قبل في الكتب السّماوية السّابقة، أو في الأمم السّابقة، أو من قبل نزول هذا القرآن.
{وَفِى هَذَا} : (في) ظرفية، (هذا) الهاء للتنبيه، (ذا) اسم إشارة للقرب؛ أي: وفي هذا القرآن سمّاكم المسلمين أيضاً ـ كما قلنا ـ هو يعود إلى الله سبحانه وليس إبراهيم؛ لأنّ الأفعال السّابقة المذكورة في هذه الآية كلّها راجعة لله تعالى؛ لقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج)، أمّا من قال: إنّ الضّمير يرجع إلى إبراهيم: قول ضعيف، رجّح ذلك بحجّة أنّ الضّمير يرجع إلى أقرب مذكور؛ أي: إبراهيم.
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} : ليكون الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم: اللام لام التّعليل، شهيداً عليكم: ولم يقل شاهداً عليكم، الشّهيد: صيغة مبالغة مقارنة بالشّاهد، ولذلك سمّى ربنا نفسه بالشّهيد. الشّاهد: يرى الشّيء أو الحادثة فيشهد بما يراه ويسمعه فقط، ولكن لا يعرف الملابسات والأسباب أو غيرها، أمّا الشّهيد: هو أكثر علماً من الشّاهد؛ يعلم خفايا الحادثة وكلّ صغيرة أو كبيرة. شهيداً عليكم؛ أي: على أمته شهيداً في الآخرة؛ أي: أنّه بلّغهم شرع الله، أو يشهد على أعمالهم.
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} : شهداء للأنبياء على أممهم يوم القيامة أنّهم قد بلّغوا رسالات ربهم، فيقول الله للأنبياء أو يقال لهم: من يشهد لكم؟ بعد أن تكذّبهم أممهم، فيقولوا: محمّد وأمته. فتقول الأمم: كيف عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله سبحانه لنا في كتابه وعلى لسان نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم فإذا أخبرنا الله سبحانه في القرآن بشيء، يكون أفضل مما لو رأيناه بأمِّ أعيننا أو رأيناه بعين اليقين.
{عَلَى النَّاسِ} : وليس شهداء للناس، (على) تعني الفوقية على أعمالهم الّتي سيُحاسبون عليها سواء كانت أعمالاً صالحة أو سيئة، وأمّا شهداء للناس؛ أي: تشهدوا لخير النّاس فقط، وهذا غير صحيح.
كما روى أبو سعيد الخدري عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: يجيء النّبي يوم القيامة ومعه الرّجل، ويجيء النّبي ومعه الرجلان، ويجيء النّبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال: محمد وأمته، فيشهدوا أن الرسل قد بلغوا
…
إلى نهاية الحديث الّذي أخرجه البخاري والإمام أحمد والتّرمذي والنسائي وابن ماجه.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : يعود سبحانه إلى ذكر الصّلاة مرة أخرى، ففي الآية السّابقة قال:(يا أيها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا) كناية عن الصّلاة، فأقيموا الصّلاة بأركانها وشروطها وسننها، وخشوعها وأوقاتها والدّوام والمحافظة عليها؛ لأنّها الفريضة الملازمة للمؤمن، وعماد الدّين، وفيها تكرار الولاء لله سبحانه في اليوم خمس مرات، وبها يستمر ذكر الله.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : وذكر الزّكاة مع الصّلاة؛ لأنّها من أهم العبادات. ارجع إلى سورة البقرة آية (43) لمزيد من البيان في معنى الزكاة.
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} : بالله: الباء للإلصاق والاستمرار، التجِؤوا إليه في جميع أموركم وحوائجكم، وتمسّكوا بدينه وشرعه وبكتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
{هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} : هو: للحصر والتوكيد؛ هو الرّب المتولّي أموركم والمدبّر شؤونكم وناصركم، وما دام هو مولاكم: فنِعم المولى ونِعم النّصير، الفاء: للتوكيد.
نِعم المولى ونِعم النّصير: تكرار فعل المدح (نعمَ) مرّتين؛ ليكون كلٌّ منهما منفصلاً عن الآخر؛ أي: له كمال الأمرين أو الصّفتين: الولاية والنّصر.