الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان [25: 21]
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} : المكذبون بالبعث والحساب. الرجاء: عادة هو الأمل في وقوع الخير الّذي يعتري صاحبه الشّك أو الظن أو الخشية والخوف في وقوع الشّر الّذين لا يخافون وعيدنا أو لقاء الخالق.
اللقاء: مجرد الرؤية. والمقابلة: اللقاء الحقيقي.
{لَوْلَا} : أداة حثٍّ وحضٍّ.
{أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} : لكي يخبرونا بصدقك أو بنبوتك، أو تشهد لك بالرّسالة (بصدق رسالتك) أو كانوا رُسلاً إلينا بدلاً من البشر.
{أَوْ نَرَى رَبَّنَا} : أو للتخيير نرى ربنا جهرة فيأمرنا باتباعك أو يخبرنا أنّك رسوله.
{لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ} : لقد أظهروا عظم شأنهم فوق ما يستحقون حين طلبوا تلك المطالب.
{لَقَدِ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{اسْتَكْبَرُوا} : الألف والسين والتاء للطلب، أيْ: هم ليسوا أهلاً للتكبر ليس عندهم مؤهلات الكبر، أي: استكبروا من دون حقٍّ.
{وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا} : تجاوزوا أو أفرطوا بالظلم، أي: الضّلال والشّرك والكفر وبالغوا في التّحدي وتجاوز الحدود. والعتو: هو أعلى درجات الطغيان والظلم. والعتو: أشد وأثقل من العتي؛ لأن الواو أثقل من الياء، كما جاء في سورة مريم آية (69){ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} .
عتواً كبيراً: أكد العتو بالمصدر عتواً، ثم وصف المصدر أنه كبير للمبالغة في العتو؛ لأنّهم عتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي على الله سبحانه وتعالى، ولا يقصد أنهم عتوا على بعضهم.
سورة الفرقان [25: 22]
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} : أيْ: هؤلاء الّذين سألوا أو طلبوا إنزال الملائكة عليهم أو رؤية ربهم سوف تتحقق أمانيهم بإنزال الملائكة عليهم، ولكن ليس لإخبارهم بصدق نبوة محمّد، ولكن لقبض أرواحهم عند الموت أو إدخالهم جهنم.
يومَ: نكرة للتعظيم والتهويل يرون الملائكة عند الموت أو يوم القيامة {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} أيْ: لن يكون خبراً ساراً لهم، بل هي بشرى بالعذاب واستعمل كلمة البشرى الّتي تأتي عادة في سياق الخير والسار للتهكُّم والتوبيخ. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.
{وَيَقُولُونَ} : أيْ: تقول الملائكة لهم.
{حِجْرًا مَّحْجُورًا} : حراماً محرماً أن تدخلوا الجنة. من الحجر وأصله المنع محجوراً صفة مؤكدة للمعنى.
وقد تعود كلمة (يقولون) على المجرمين الّذين يقولون للملائكة حجراً محجوراً أي حراماً محرماً عليكم أن تؤذونا.
وكان الرجل إذا لقي من يخافه في الأشهر الحرم يقول حجراً: أيْ: حرام عليك إيذائي.
سورة الفرقان [25: 23]
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} :
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} : أيْ: نظرنا إلى أعمالهم الّتي عملوها في الدّنيا أعمال الخير والصدقات وإغاثة الملهوف وصلة الرحم وإطعام الضيف وأحبطناها وأبطلنا ثوابها؛ لأنّهم كفروا بالله وبرسوله وماتوا وهم كافرون.
من عمل: من: ابتدائية استغراقية تستغرق كلّ عمل صالح.
{فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} : الهباء: هو ما يخرج من الكوة مع ضوء الشّمس يشبه الغبار يسمى الهباء. منثوراً: متطايراً في كلّ اتجاه يصعب جمعه. أيْ: حبطت أعمالهم وأصبحت كالهباء الّذي لا يرى إلا بأشعة الشّمس ولم يعد لها أيُّ وجود أو ثواب أو قيمة.
وفي آيات أخرى شبهها بالـ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِى يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18].
سورة الفرقان [25: 24]
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} :
المناسبة: بعد ذكر ما سيؤول إليه عمل الكافرين، هباء منثوراً.
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34].
يتحدث عن أصحاب الجنة.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} : أصحاب تعني المصاحبة والملازمة، فكأن الجنة لا تحب أن تفارقهم ولا هم يحبون أن يخرجوا منها، وأصحاب تفيد الملكية، فهم مالكوها، والصاحب يعني الّذي يُفيدك وينفعك.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم البعث والحساب أصلها يوم + إذ، يوم ظرف وإذ ظرف بمعنى حين، أيْ: في ذلك الوقت أو حينذاك.
{خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} : خيرٌ منزلة وإقامة وراحة وسكوناً.
{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} : أفضل مكاناً للقيلولة والاستراحة. المقيل: في الأصل مكان القيلولة، ويعني: النوم في منتصف النهار بعد تناول طعام الغداء، وهل في الجنة قيلولة أو نوم؟ الجواب: لا، وإنما الحكمة من ذلك- والله أعلم- أن يذكرهم بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدّنيا. وكلمة خير تعني: أفضل وتستعمل في حالتين: خير يقابله شر وخير يقابله خير أقل منه مثل هذا خيرٌ من هذا.
سورة الفرقان [25: 25]
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} :
المناسبة: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، فردَّ عليهم: تعالوا لأخبركم عن ذلك اليوم الّذي تنزل فيه الملائكة إنه يوم القيامة يوم الحساب.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} : أيْ: انفطرت السّماء كقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وينزل من هذه الشقوق أو من جهة السّماء الغمام وهو سحاب أبيض رقيق يشبه ما أُنزل على بني إسرائيل حين كانوا في التيه، ويملأ ما بين السّماء والأرض.
وقيل: انشقت به: إذا كان عليها أيْ: كأنه هو الآلة الّتي تتشقق بها السّماء، أو انشقت عنه: إذا كان تحتها.
{وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} : أيْ: جماعات جماعات الواحدة بعد الأخرى ليباشروا ما أمرهم الله به.
قال ابن عباس: تتشقق السّماء الدّنيا أولاً فينزل أهلها من الملائكة، ثم تتشقق السّماء الثّانية ثانياً، فينزل أهلها من الملائكة، وهكذا حتى السّماء السابعة.
وكلمة (تنزيلاً): تدل على قوة النزول وجماعة بعد جماعة.
ونظير هذه الآية: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210].
سورة الفرقان [25: 26]
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} :
{الْمُلْكُ} : أي: الحكم فهو الحاكم ومالك الملك له السّموات والأرض وما فيهن وما بينهن، لا شريك له كقوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 24].
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة يوم ذاك أو حينذاك.
{الْحَقُّ} : لأنّه سبحانه هو الملك الحق أي: الثابت الدائم الحي القيوم، وكذلك مُلكه ثابت مستقر لا يزول ولا ينتقل، فهو المالك الحق ومُلكه الحق، وقيل: الحق نعتٌ للمُلكْ. ارجع إلى سورة الحج آية (6)، وآية (62) لمزيد من البيان.
{لِلرَّحْمَنِ} : اللام: لام لاختصاص والملكية والاستحقاق. الرحمن: صيغة مبالغة من الرّحمة على وزن فعلان أي: المليء بالرّحمة. كثير الرّحمة، والرّحمن اسم لله تعالى يجمع كثيراً من صفات الله تعالى، والتي تتمثل بالرّحمة والرأفة والعفو والمغفرة، وتشمل الكافر والمؤمن والطالح والصّالح ورحمة تتجدَّد وتتكرر كلما يحتاجها المخلوق.
{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} : عسيراً شديداً طويلاً لما يحدث فيه من الأهوال والعذاب الّذي يصيب الكافرين وكلمة يوماً نكرة للتهويل والتّعظيم.
وفي هذه الآية تهديد ووعيد للكافرين المكذبين بالآخرة ويوم القيامة والبعث، أما بالنسبة للمؤمنين {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
سورة الفرقان [25: 27]
{وَيَوْمَ} : أيْ: يوم القيامة. يوم يقوم النّاس لرب العالمين. وتنكيره يدل على التهويل والتعظيم.
{يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} : في ذلك اليوم يعض الظالم المشرك أو كلّ من ظلم نفسه وحمل الآثام والذنوب والظالم اسم جنس، وقيل: هو عقبة بن أبي معيط، كما روى ابن عباس وذكر الواحدي في أسباب النزول، أو غيره من الظّالمين، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
وعض الظالم على يديه أو على أنامله كناية تدل على شدة الحسرة والغيظ والندم على ما فرَّط في حياته في جنب الله.
{يَقُولُ يَالَيْتَنِى} : يا: النداء، ليتني: من ليت: أداة للتمني المستحيل الحدوث.
{اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} : سبيلاً نكرة أيْ: أيَّ سبيل مثل سبيل الشهادة لا إله إلا الله، أو الرشد، أو الإيمان أو أي سبيل يؤدي إلى النجاة من عذاب الآخرة، مع الرّسول: في دار الدّنيا أيْ: صدقت به وآمنت بالله، أو اتبعت الرسول وأطعته، وقد وردت كلمة {سَبِيلًا} في سورة الفرقان في ست آيات كلها بصورة النكرة، والسياق يحدد هل هو سبيل الرشد والخير، أو سبيل الغي والضلال؟ وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (4) في سورة الأحزاب نجد أن السبيل بأل التعريف: يعني الإسلام، و {سَبِيلًا}: نكرة تعني: أي سبيل يؤدي إلى الخير، وحسن العاقبة.
سورة الفرقان [25: 28]
{يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} :
{يَاوَيْلَتَى} : دعاء بالويل أصلها يا ويلتي: كلمة تحسر وجزع تستعمل عند وقوع أمر عظيم أو الضيق كأن المتحسر ينادي ويلته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من ينادى، فيقول: هذا أوانك.
{لَيْتَنِى} : ليت أداة تمني للمستحيل الحدوث أو فات الأوان، ولن يحدث ما يتمناه.
{لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} : صديقاً حميماً، وفلاناً: مثل عقبة بن أبي مُعيط، أو أمية بن خلف أو الشّيطان. أو كلّ من أُطيع في معصية الله وأُرضي بسخط الله، وتقول: فلان كناية عن شخص لا تحب حتى ذكر اسمه. والمهم بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.
خليلاً: مشتقة من الخلة يعني: الصداقة. ارجع إلى سورة النساء آية (125) لمزيد من البيان في معنى الخليل.
لماذا يتمنَّى لو لم تكن تلك الخُلَّة والصداقة مع فلان؟ انظر إلى الآية التالية لترى السّبب.
سورة الفرقان [25: 29]
{لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} :
{لَّقَدْ} : اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق.
{أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ} : أيْ: صدني أو منعني عن اتباع الذكر أي: القرآن أو الإيمان بالله وذكره.
{عَنِ} : تفيد المجاوزة والابتعاد.
{الذِّكْرِ} : أيْ: ذكر الله، والإيمان، والقرآن، أو الموعظة، والصلاة وغيرها من أنواع الذكر.
{بَعْدَ إِذْ جَاءَنِى} : يدل على أنه كان ينوي الإسلام والاستماع إلى رسول الله. إذ: ظرف زماني للفجأة. أو بعد إذ جاءني الرّسول صلى الله عليه وسلم به.
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ} : كان تشمل أو تمثل كلّ الأزمنة. الشّيطان: ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة والشّيطان هو إبليس وجنوده من كفرة الجن أو من شياطين الإنس.
{لِلْإِنسَانِ} : اللام: لام التوكيد. الإنسان: أي: الكافر.
{خَذُولًا} : صيغة مبالغة كثير الخذل: الخذل: التخلي عنه عند وقت الحاجة والضرورة كالذي يمد للآخر حبل الأمل، ثم يتخلى عنه وقت الحاجة والضرورة أيْ: يخذله ولا ينصره ولا يعينه على شيء مهما كان بعد أن كان يتوقَّع ذلك منه الوقوف بجانبه رغم أن الشّيطان لا يستطيع ذلك حتى ولو كان قادراً على ذلك، أو شبه خليله من الإنس بالشّيطان الّذي أضله أيْ: خذله، وليس الشّيطان الحقيقي أو تعني كلاهما.
سورة الفرقان [25: 30]
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} :
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ} : استعمل ياء النّداء الّتي تدل على البعد ولم يقل: ربِّ. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رب فقط مرتين في القرآن كله، هذه الآية والآية الأخرى هي قوله:{وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88]. ارجع إلى آية الزخرف للبيان.
{إِنَّ قَوْمِى} : إن: للتوكيد، قومي: فيها معنى الاستعطاف والحنان أضاف إليه القوم؛ لأنّه منهم يعرفونه ويعرفهم، وهذه هي الآية الوحيدة في القرآن الّتي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة قومي.
{اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} : من الهجر يعني: الترك أو قطعوا الصلة به، مثل عدم الاستماع إليه والإصغاء تركوا تدبره وفهمه أو تركوا العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. تركوا تحكيمه إلى أنظمة أخرى، ونسوا قول الحق:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ} [الزخرف: 44].
والسؤال: هل حصلت هذه الشكوى ومتى، أو ستكون في يوم القيامة كما قال بعض المفسرين؟
فمن قال: إن هذه الشكوى ستكون في يوم القيامة حُجَّتهم أن الآيات جاءت في سياق الآخرة. مثل نزول الملائكة وتشقق السّماء وعض الظالم على يديه.
ومن قال: إنها شكوى حدثت وتمت حين كذبه قومه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ولما شكا الرّسول صلى الله عليه وسلم إليه ذلك أنزل الله الآية التالية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} .
سورة الفرقان [25: 31]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ} : أيْ: كما جعلنا لك أعداءً من مشركي قريش جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين. أيْ: من المشركين أو الكافرين والظالمين الطاغين.
من: تشير إلى اسم الجنس. ومن تشمل المفرد والمثنى والجمع.
وهذا القول يفسره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
{عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} : ولم يقل: أعداء: عدواً تطلق على المفرد والجمع.
ويستعمل القرآن عدواً: إذا كانت العداوة سببها واحد، أيْ: إذا كانت العداوة مفردة، أو كانت عداوة لسبب واحد مثل الدِّين.
ويستعمل كلمة أعداء إذا كانت هناك عداوات مختلفة أيْ: عداوات لأسباب مختلفة مثل الدِّين والأرض والمال.
{مِنَ الْمُجْرِمِينَ} : جمع مجرم. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.
{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} : كفى: أي: اكتف بربك أو يكفي ربك هو الهادي والنصير. فلا تحتاج إلى غيره فلا تجزع ولا تخف من قومك أو من المجرمين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لمزيد في بيان معنى المجرمين.
بربك: الباء للإلصاق والتوكيد، توكيد الكفاية.
قال: هادياً ولم يقل: يهدي، هادياً تدل على صفة الهداية عنده ثابتة بينما يهدي جملة فعلية تدل على صفة الهداية عنده متجدِّدة ومتكرِّرة فهو سبحانه هادٍ ويهدي.
وكفى بربك هادياً: إلى الحق وإلى الصراط المستقيم وهو الإسلام الدين القيم.
هاديك إلى شؤون دينك وإلى الحكم بما أنزل الله وإلى كلّ أمر فيه خير الدّنيا والآخرة.
ونصيراً: على كلّ من يعاديك أو يمكر بك.
سورة الفرقان [25: 32]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا} : أداة حضٍّ وحثٍّ.
{نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} : قالوا: نزل ولم يقولوا أنزل لمعرفتهم أنه نزل منجماً؛ أي: هم يريدوا أن ينزل؛ أيْ: دفعة واحدة كما أنزلت التّوراة والإنجيل والزبور بدلاً من أن ينزل منجماً مفرقاً أو بالتدرج، وكأنه في نظرهم عيب أن ينزل القرآن منجماً، أو هم يحاولون أن يجدوا لهم عذراً لكي لا يؤمنوا، أو ليكون لهم حُجَّة واهية على عدم إيمانهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمعرفة الفرق بين أنزل ونزل.
وهم نسوا أن القرآن أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا في ليلة القدر.
وفي آية أخرى قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
{كَذَلِكَ} : تعني: أنزلناه منجَّماً مفرَّقاً. الكاف للتشبيه، و (ذلك) تشير إلى إنزاله منجماً.
{لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} : اللام للتعليل والتوكيد، فهذا سبب وهناك سبب آخر هو {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] أيْ: حتى يتيسر حفظه وتدوينه.
نثبت به فؤادك: الفؤاد القلب، هذه هي الحكمة. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لبيان معنى الفؤاد.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} : الترتيل القراءة أكثر من كلمة، أيْ: رتلنا لك الآيات الآية بعد الأخرى (عن طريق جبريل عليه السلام ) أيْ: شيئاً فشيئاً، ترتيلاً تفيد التوكيد.
سورة الفرقان [25: 33]
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} :
{وَلَا} : لا: النافية.
{يَأْتُونَكَ} : الّذين كفروا.
{بِمَثَلٍ} : كما في الآية السّابقة، وقال الّذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. شبَّه سؤالهم بالمَثَل؛ لأن أكثر هذه الأسئلة سئلت من قبل للأنبياء والرسل الذين جاءوا من قبلك، ثم تكررت كثيراً حتى أصبحت كالأمثال التي تتكرر على ألسنة الناس، أو أسئلتهم عجيبة تشبه الأمثال.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق، والحق: الّذي يدحض قولهم ويبطل حجتهم والحق هو القول الثابت الّذي لا يتغيَّر.
{وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} : أحسن من مَثَلِهم على وزن أفعل التفضيل، أيْ: أبين معنى وأفضل دليلاً وحجة.
ثم أخبر عن مستقرِّهم في الآخرة فقال:
سورة الفرقان [25: 34]
{الَّذِينَ} : أي: الّذين كفروا.
{يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} : يحشرون: الحشر هو السوق والجمع أيْ: يسحبون إلى جهنم تسحبهم الملائكة على وجوههم إلى جهنم.
أو يجرون أو يمشون على وجوههم إلى جهنم، فقد سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: «أليس الّذي مشاه على رجليه في الدّنيا بقادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . رواه البخاري ومسلم.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد الذم يشير إلى الذين ينكرون البعث، والذين قالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة وغيرهم من كفار مكة.
{شَرٌّ مَّكَانًا} : مثوىً وصف المكان بالشر للمبالغة؛ لأنّهم هُمْ الأشرار.
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} : وصف السبيل (الطريق) بالضلال للمبالغة أيضاً.
أضل سبيلاً من غيرهم من الكفار، ولم يقل: أشر مكاناً وأضل سبيلاً؛ لأن كلّ مكان في جهنم هو شر وليس غيره أفضل منه.
في هذه الآية يحشرون على وجوههم إلى جهنم.
في الآية (90) من سورة النمل: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} .
في الآية (66) من سورة الأحزاب: {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} .
في الآية (48) من سورة القمر: {يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
في الآية (97) من سورة الإسراء: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} .
واختِير الوجه؛ لأنّه أشرف الأعضاء الّتي تميِّز الإنسان، وفيه معظم الحواس.
سورة الفرقان [25: 35]
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} :
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{آتَيْنَا مُوسَى} : آتينا وليس أعطينا. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للمعنى ولبيان الفرق بين الإيتاء والعطاء.
{الْكِتَابَ} : التّوراة. التام الكامل.
{وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} : معيناً ومساعداً في تبليغ الرسالة. ارجع إلى الآية (29) من سورة طه للبيان. وفي هذه الآية تعريض بالرد على المشركين الذين قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} ؛ أي: أن موسى لما طلب أن يكون له وزيراً (مساعداً) واستجاب له ربه بهارون، ولم يؤيده بملك من الملائكة كما يقترح كفار مكة، وإنما أيده برسول مثله.
سورة الفرقان [25: 36]
{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} :
{فَقُلْنَا} : إلى موسى وهارون.
{اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : أيْ: قوم فرعون.
انتبه إلى قوله: الّذين كذبوا بآياتنا: كيف وقع التكذيب منهم بآياتنا ولم يحدِّد ما هي الآيات، هل هي الآيات التسع، أم بالآيات الكونية وهم لم يذهبا بعد إلى قوم فرعون.
التكذيب هنا قد يعني بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى، أو الآيات الّتي جاء بها الرّسل من قبلهم، أو يخبرنا الله تعالى بالنتيجة وبأنهم لن يؤمنوا من علمه الأزلي وما في اللوح المحفوظ.
{فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} : بإغراقهم في اليم (البحر) ودمر: قضينا عليهم وأهلكناهم من دون إذن أو سابقة إنذار.
سورة الفرقان [25: 37]
{وَقَوْمَ نُوحٍ} : بالنصب بتقدير: واذكر قوم نوح.
{لَمَّا} : ظرفية زمانية بمعنى حين.
{كَذَّبُوا الرُّسُلَ} : هم كذبوا نوحاً رسولهم، فلماذا قال: كذبوا الرّسل بدلاً من رسولهم؟
لأن الرّسل رسالتهم واحدة، فمن كذب رسولاً فقد كذب كلّ الرّسل، أيْ: تكذيب رسول واحد كتكذيب جمع الرّسل. والرّسل: اسم جنس.
{أَغْرَقْنَاهُمْ} : بالطوفان وهذا كان عذابهم في الدّنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب أليم آخر.
{وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} : اللام: لام الاختصاص، أيْ: للناس كلّ النّاس وقدَّم للناس على الآية بدلاً من وجعلناهم آية للناس، أيْ: جعلناهم آية من الآيات الكثيرة الأخرى الّتي للناس مثل آية قوم لوط وصالح.
أما حين يقول: وجعلناهم آية للناس: أيْ: هي الآية الوحيدة الفريدة أيْ: لم نغرق غيرهم. فقد أغرقنا آل فرعون وغيرهم.
{وَأَعْتَدْنَا} : أيْ: أحضرنا، ويختلف عن الإعداد وهو التهيئة، والإعداد يأتي في المستقبل، أما أعتدنا في الحاضر؛ أي: الحال؛ أي: اغرقوا ففرقوا وماتوا.
{لِلظَّالِمِينَ} : المشركين أو الظالمين بكفرهم وتكذيبهم لرسلهم.
{عَذَابًا أَلِيمًا} : في الآخرة شديد الإيلام لا يقدر أحد على تحمله. ولم يقل: أعتدنا لقوم نوح عذاباً أليماً. وإنما أجمل وأدخل قوم نوح في عداد الظالمين.
سورة الفرقان [25: 38]
{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} :
{وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} : كلها جاءت منصوبة بتقدير: واذكر عاداً وثمودَ.
عاداً: قوم عاد ورسولهم هود سكنوا الأحقاف.
وثمودَ: قوم ثمود ورسولهم صالح. سكنوا الحِجر (مدائن صالح).
وأصحاب الرس: ذكرهم الله تعالى في آيتين هذه الآية والآية الثانية في سورة ق آية (12).
أصحاب الرس: الرس هو البئر، أيْ: أصحاب البئر وقيل: الرس قرية ما اختلف المفسرون في الرس في أيِّ البقاع قيل: في أذربيجان أو قرب اليمامة. وقيل: تسميتها بالرس؛ لأنّهم أرسوا: أيْ: أغرقوا نبيهم، أيْ: أرسوه في البئر حفروا له بئر وألقوه فيها فأهلكهم الله، وقيل: هم الّذين قتلوا حبيباً النجار أغرقوه في بئر لهم، واختلف في زمنهم ومن هم؟ فلا داعي للخوض في قصتهم من دون برهان قاطع.
{وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} : أيْ: بعد قوم نوح وعاد وثمود وقبل أصحاب الرس أو بين عاد وأصحاب الرس أو بين ذلك الّذي ذكرناه أيْ: قروناً بين كلّ هؤلاء.
قروناً: جمع قرن: والقرن يعادل (100 عام) أو قوم عاشوا في نفس الفترة الزمنية.
بين: ظرفية الأصل أن تكون ظرفاً للمكان، وقد تأتي ظرفاً للزمان بحسب ما تضاف إليه.
ذلك: اسم إشارة تشير إلى نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرس.
سورة الفرقان [25: 39]
{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} :
{وَكُلًّا} : تعود على المتقدم ذكرهم من قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً.
والواو قد تشير إلى هؤلاء وغيرهم أيضاً أيِّ الكل.
{ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} : كشفنا لهم الحقائق وبيَّنَّا لهم ما أصاب غيرهم من الهلاك والبلاء وأنذرناهم ووعظناهم وحذرناهم.
{وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} : تكرار (وكلاً): تفيد التوكيد؛ أيْ: مزقناهم كلّ ممزق، أو جعلناهم كأعجاز نخل منقعر أو حصيداً خامدين.
تبرنا تتبيراً: التتبير: التفتيت والتكسير يعني: الإهلاك والدمار. ومنه التبر: فتات الذهب والفضة أو الزجاج.
سورة الفرقان [25: 40]
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية. لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{أَتَوْا} : أيْ: مروا على والضمير يعود على كفار أو مشركي مكة. أيْ: مروا على القرية أثناء رحلاتهم التجارية بين الشام ومكة، أو سفرهم.
{عَلَى} : تفيد العلو والمشقة.
{الْقَرْيَةِ} : معرفة بـ (ال) التعريف، أيْ: قرية سدوم أعظم قرى قوم لوط.
{الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} : أمطرت بالحجارة من سجيل الّتي أشارت الدراسات العلمية الحديثة أنها نتيجة انفجار النيازك المكونة من معادن مختلفة مثل الحديد أو النيكل وغيرها تسقط على الأرض بشكل حجارة، سقطت على قوم لوط بشكل مطر سماه الحق مطر السوء الذي دمرهم وأهلكهم.
من السوء: مصدر ساءه، أيْ: فعل به ما يكره.
{أَفَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتوبيخ والتعجب والتقرير والفاء للتوكيد.
{يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} : في سفرهم ورحلاتهم إلى الشام أو فلسطين، أيْ: أفلم يمروا عليها ويشاهدوها؟ الجواب: نعم.
{بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} : بل: للإضراب الانتقالي. يرجون: من الرجاء. الرجاء تعريفه: الأمل في الخير والخشية والخوف في الشر فهم كانوا لا يخافون أو يخشون البعث والحساب والجزاء.
نشوراً: الإحياء بعد الموت، أيْ: لا يظنون أنهم سيبعثون بعد موتهم ولا يرجون ذلك. ارجع إلى الآية (21) من نفس السورة للبيان.
أيْ: كان من المفروض أن يعتبروا ويأخذوا عبرة ويتعظوا برؤيتهم لقرى لوط، ويصلوا إلى الحقيقة، ولكن ذلك لم يحصل فهم سواء أتوا أو لم يأتوا لا يؤمنون بالنشور والحساب.
سورة الفرقان [25: 41]
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} :
لم يتوقف المشركون والكفار بالتكذيب بالبعث والنشور وعدم الإيمان، بل تعدَّى إلى الاستهزاء والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا رَأَوْكَ} : إذا: ظرفية زمانية وشرطية، تعني: الحتمية الوقوع وإذا {رَأَوْكَ} : في مجلس أو في الطريق أو في عبادة.
{إِنْ} : تعليلية.
{يَتَّخِذُونَكَ} : النون في يتخذونك للتوكيد، أي: الأخذ باللسان يتكلمون فيك باستهزاء.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{هُزُوًا} : الاستهزاء هو تصغير قدر الآخر أو التحقير والاستخفاف أو العيب به، والطعن أمام النّاس أو في خلوتهم ببعض.
{أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} : هذه كانت صيغة الاستهزاء.
أهذا: الهمزة همزة استفهام وتعجب، وفيه معنى التهكم والطعن.
أهذا الّذي بعث الله رسولاً: الّذي اسم موصول، بعث: أرسل الله رسولاً والبعث يختلف عن الإرسال. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لمعرفة الفرق.
أيْ: في نظرهم أن رسول الله غير مؤهل لحمل هذه الرسالة فهم يريدون شخصاً هم يختارونه بأنفسهم، كما قالوا:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
سورة الفرقان [25: 42]
{إِنْ} : شرطية تفيد الندرة أو القلَّة.
{كَادَ} : من أفعال المقاربة، أيْ: قارب أن {لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} : أيْ: يصرفنا عن عبادتها بدعوته للتوحيد، ولم يحصل ذلك.
{لَوْلَا} : شرطية.
{أَنْ} : مصدرية للتعليل والتوكيد.
{صَبَرْنَا عَلَيْهَا} : على عبادتها ولم نطعه ونستمع إليه.
وهذا اعتراف على أن الرّسول كان عالياً وأنّه كفؤ لحمل الرّسالة وأَثر في نفوسهم، وهذا يناقض سخريتهم واستهزائهم به صلى الله عليه وسلم.
{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} : سوف للاستقبال البعيد، والتوكيد.
حين: ظرفية زمانية أو مكانية. يرون العذاب: في الآخرة.
{مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} : من كان أضل سبيلاً هم أم رسول الله والمؤمنون. من للعاقل وتشمل المفرد والجمع.
وفي هذا تهديد ووعيد لهم وحدث جزءٌ منه يوم بدر.
سورة الفرقان [25: 43]
{أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} :
{أَرَءَيْتَ} : استفهام وتعجُّب، أي: انظر وتعجُّب أيْ: أخبرني بكل دراية والرؤية هنا رؤية قلبية فكرية. من: للعاقل بمعنى الّذي {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} : جعل هواه إلهاً لنفسه بأن أطاع هواه معرضاً عن الاستماع إلى الرّسول وإلى ما أنزل الله.
قال ابن عباس: كان أحدهم يعبد الحجر فإذا رأى أحسن من الحجر رمى به وعبد غيره.
فكلما اشتهى شيئاً فعله بلا عقل ولا فكر.
{أَفَأَنْتَ} : الهمزة همزة إنكار. والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} : أيْ: موكلاً ومسؤولاً عنه بتوجيهه ليترك هواه ويتبع الحق.
أو مسؤولاً عن هدايته.
أو حفيظاً عليه تتولى هدايته وعليك أن تخرجه من الضّلال إلى النور وتردُّه إلى الإيمان قسراً وكرهاً.
والجواب: لا طبعاً {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
وتقديم عليه يفيد الاختصاص، عليه خاصة وكيلاً فقط.
ولم يقل: أفأنت تكون وكيلاً عليه (أيْ: عليه وعلى غيره)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى الكثير واستجاب له الكثير، وهو صلى الله عليه وسلم قادر على الهداية إلى الصراط المستقيم {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. والهداية الخاصة لا تكون إلا بإذن الله سبحانه.
سورة الفرقان [25: 44]
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، الهمزة: استفهام إنكاري.
{تَحْسَبُ} : من حسب: من الحساب القلبي والحساب الحسي القائم على النظر والتجربة والحساب وهو الظن الراجح.
{أَنَّ} : تفيد التوكيد.
{أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} : سماع تدبر وتعقل وقبول وانتفاع.
{أَوْ يَعْقِلُونَ} : من عقل الشّيء عرفه بدليله، وفهمه بأسبابه ونتائجه؛ ليصلوا إلى الحقيقة أن الله هو الإله الحق واجب الوجود الواحد الأحد الّذي يجب أن يُعبد ويطاع، وقوله: أنّ أكثرهم، فهناك أقلية تسمع وتعقل.
{إِنْ هُمْ} : إن: نافية تعني: ما هم، وهي أقوى في النّفي من ما. هم: تفيد التوكيد.
{إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} : إلا: أداة حصر، والكاف: للتشبيه كالأنعام، تسمع الصوت ولا تفهم معناه، أيْ: لا يفقهون ما يقال لهم، كالأنعام تأكل وتشرب وتسرح وتمرح وتتوالد.
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي.
{هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} : هم: للتوكيد. أضل: من الأنعام؛ لأن الأنعام تهتدي لمراعيها وتستسلم لأربابها. وتُقبل على المحسن إليها وتفقه ما تسمعه من أصوات الزجر وغيرها من رعاتها. فهم أسوأ حالاً من الأنعام، ولأن الأنعام تسبِّح ربها، وهؤلاء لا يفقهون شيئاً مما نُزل عليهم، ولا يسبحون ربهم، ولا يسمعون ما يعظهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا يخترق آذانهم أصوات الدعاة إلى الله؛ فهم ليسوا كالأنعام، بل الأنعام أفضل فهم، وهم أضل سبيلاً من الأنعام.
سورة الفرقان [25: 45]
في هذه الآية والآيات القادمة يذكر الآيات الكونية العجيبة الدالة على توحيد الألوهية والربوبية.
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام تحمل معنى التقرير. لم: حرف نفي.
{تَرَ} : رؤية عقلية أو فكرية ورؤية بصرية أيضاً؛ أي: ألم تعلم، أو يصل إليك العلم، والخطاب هو لكل من شأنه أن يخاطب؛ أي: النبي وكل الناس.
{إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} : الظل: ما بين الفجر وطلوع الشّمس، والظل: قيل هو خيال الأشياء المادية ذات الحجم الناتج عن عدم اختراق أشعة الضوء المرئي للطبقة الغازية المحيطة بالأرض بشكل مفاجئ، أو بغتة، ولكن بشكل تدريجي ولبعض الأجسام والظل يحمينا من حرارة الشّمس، فهو رحمة من الله، وهو آية تدل على تمام قدرة الله وعظمته وتمام رحمته، ولولا الشّمس ما كان الظل، أي: الشّمس هي سبب الظل. وهناك من فرق بين الظل والفيء:
الظل: قيل هو ما بين طلوع الفجر وشروق الشمس.
وقيل الظل: شيء من النور (بدون شعاع الشمس) كما قال تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30].
وقيل الظل: ظل كل شيء، وظل كل شخص.
وهناك من قال: هو الليل، والمعنى قد يحتمل الجميع.
وأما الفيء: قيل: هو الظل، وقيل: ما كان قائماً لم ينسخه ضوء الشمس، وقيل: الفيء يشمل الظل فكل فيء ظل، وليس كل ظل فيئاً. ارجع إلى سورة يس آية (56) لمزيد من البيان في معنى الظل.
أما تفسير مَدَّ الظل: بما أن الظل كما قلنا بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فالمفروض أن يكون الظل فقط في ذلك الزمن، ولكن الله سبحانه مده؛ أي: طوله (جعله أطول) بحيث يمتد فنراه في أول النهار ممتد، ثم يتناقص وفي آخر النهار يزداد، وإذا كان معنى الظل أيضاً الليل؛ فالليل يطول في الشتاء ويقصر في الصيف، وهذا يذكرنا بقوله تعالى:{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القصص: 71]، {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القصص: 72].
{وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} : أيْ: لا يتحرك بالزيادة والنقصان أو يزول أو يبقى ثابتاً، وذلك بأن تكون الشمس مستقرة ثابتة لا تجري ولا تدور.
أيْ: يجعل ظل الأشياء ثابتاً لا يتغير بالشّمس والزّمن، ولكنه سبحانه جعله يتغيَّر ينقص في أول النّهار شيئاً فشيئاً، ويزداد في آخر النّهار شيئاً فشيئاً ويجعله ساكناً بسكون الشّمس وعدم دورانها فتبقى منطقة ما من الأرض في ظل دائم لا ترى الشمس إلى الأبد، بينما تبقى منطقة أخرى في نهار دائم، وأخرى منغمسة في ليل حالك شديد السواد؛ مما يجعل الحياة مستحيلة على كوكب الأرض، ومن طول الظل وامتداده يمكن معرفة الزّمن، وهذه فائدة ثانية والأولى الحماية من أشعة الشّمس الضارة، وكذلك التخفيف من حرارة الشمس وغيرها.
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} : ثم: تفيد الحال: أيْ: سلَّط الشّمس على الظل أو كأنه نصب الشّمس على الظل دليلاً، فهو يزيد وينقص حسب موقع الشّمس أو يمتد ويتقلَّص.
سورة الفرقان [25: 46]
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} :
{ثُمَّ} : تفيد الترتيب الذكري.
{قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} : حين تطلع الشّمس يكون الظل ممدوداً وطويلاً، ثم كلما ارتفعت الشّمس ينقبض الظل وينقص شيئاً فشيئاً، أيْ: قبضاً يسيراً. جزءاً فجزءاً حتى تصل الشّمس كبد السّماء، ثم يبدأ يزداد فيزداد إلى وقت غروب الشّمس، ولهذا القبض اليسير فوائد في قيام النّاس بأعمالهم وشغلهم.
وقد تعني (إلينا) يوم القيامة نزيله بشكل يسير، وذلك بزوال أسبابه بتكوير الشّمس وزوالها.
سورة الفرقان [25: 47]
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} :
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التوكيد.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم، وتعود على الله سبحانه.
{جَعَلَ لَكُمُ} : الجعل بعد الخلق؛ أي: بعد خلق السموات والأرض وخلق الشمس والقمر جعل أو خلق الليل والنهار وفي ذلك إشارة إلى كروية الأرض؛ أيْ: خلق الليل أولاً والنهار ثانياً وجعل، أيْ: صيَّر لكم: اللام لام الاختصاص، أيْ: لكم خاصة.
{الَّيْلَ لِبَاسًا} : شبَّه ظلام الليل باللباس الّذي يستر ويغطي الجسم من كلّ الجهات، أيْ: يستر الإنسان كما يغطي الثوب الجسم.
وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه على خلقه لما فيها من الفوائد مثل الراحة والسكون. فالظلام ضروري لإفراز هرمون ميلاتونين الّذي يؤدي إلى النوم، والضوء في النهار يثير منطقة في الدماغ تسمى النواة الواقعة فوق التصالب العصب البصري، والتي تؤثر على الغدة لكي تخفض إفراز الميلاتونين.
{وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} : من السبت: لغة هو القطع، أيْ: قاطعاً للحركة، أيْ: للراحة والسكون. والسبات: تشبه مرحلة الوفاة الّتي تسبق مرحلة الموت حيث ينقطع فيها الوعي والإدراك. ويدخل الإنسان في غيبوبة والفرق بين النوم والموت أن النوم هو توقُّف جميع الحركات الإرادية ويُفقد الوعي والإدراك أو التمييز لفترة من الزّمن والروح ما زالت في الجسم، وأما الموت فهو توقف وانقطاع جميع الحركات الإرادية واللاإرادية، انقطاع تام وخروج الروح من الجسم كقوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} : وجعل النهار. ارجع إلى الآية (67) من سورة يونس.
النهار نشوراً: ذا نشور: بعث ويقظة ووعي والبدء بالحركة بعد مرحلة السبات، أي: النوم ويمثل مرحلة صغرى للنشور الحقيقي هو الإحياء بعد الموت، أي: للبعث من القبور للحساب، والليل والنهار من مظاهر قدرة الله تعالى وعظمته ورحمته بالنّاس، وفيه إشارة إلى كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشّمس ولولا تبادل الليل والنّهار لما استقامت الحياة على الأرض.
ويعني كذلك انتشار النّاس في الأرض لابتغاء الرزق والعمل.
سورة الفرقان [25: 48]
{وَهُوَ الَّذِى} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} : الّتي تسوق وتحمل السحاب الّتي تلقح برياح أخرى تحمل هباءات الغبار، فتصبح ذرات بخار الماء ذات كثافة عالية تتحول إلى الماء المطر. أرسل الرياح ولم يقل: الريح؛ لأن من خصوصيات القرآن الكريم أن يستعمل كلمة الريح الّتي تحمل معنى الشر والأذى مثل الفيضانات والدمار. والتي لا يصحبها خير، وكلمة الرياح بصيغة الجمع للتي تدل على الخير والرحمة.
{بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} : بشراً: تبشر من البشارة، وهي الخبر السارُّ، أو الإخبار بما يَسُرُّ.
بين يدي: قبل نزول المطر والرحمة هنا تعني المطر (الماء) وسمي ماء المطر رحمة؛ لأنّه من دونه لا يخرج الزرع ولا الثمر ولا يبقى أيُّ شيء حيٍّ.
فالرياح وبالتالي رؤية السحاب تبشِّر بقدوم المطر (الرّحمة).
{وَأَنزَلْنَا} : بصيغة الجمع للتعظيم، وهذا الإنزال يعني: دورة الماء على الأرض، ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18) للبيان.
{مِنَ السَّمَاءِ} : وتعريف السماء: هي كل ما علا الإنسان من السحاب وغيره؛ أيْ: من السحب الركامية {مَاءً طَهُورًا} : الطاهر في ذاته والمطهر لغيره. أيْ: طاهر مطهر. ارجع إلى سورة (ق) آية (9) للبيان.
سورة الفرقان [25: 49]
{لِّنُحِْىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} :
{لِّنُحِْىَ} : اللام للتوكيد.
{بِهِ} : بالماء (أو المطر).
{بَلْدَةً مَّيْتًا} : انتبه إلى سكون الياء في (ميْتاً) والتي تشير إلى أن الأرض قد ماتت فعلاً، بينما عدم تشديدها يعني: ما زالت على قيد الحياة، وستموت إذا لم يصلها الماء كما في قوله تعالى:{وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ} [آل عمران: 27]، وقوله تعالى:{سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57].
فهناك فرق بين الميْت بالسكون والميِّت بالتشديد، فالميْت: هو الّذي مات بالفعل، والميِّت: هو الّذي ما زال على قيد الحياة.
{بَلْدَةً مَّيْتًا} : لا نبات فيها أبداً.
{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا} : نسقيه، أيْ: ذلك الماء. مما: مركبة (من وما). من: ابتدائية، ما: لغير العاقل والعاقل وغلب غير العاقل على العاقل لكثرته.
{أَنْعَامًا} : الأنعام ثمانية أزواج الإبل والبقر والغنم والماعز. وأما بهيمة الأنعام فتشمل الأنعام الثمانية وغيرها مما يشبه الأنعام.
{وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا} : جمع إنس أو إنسي وأصلها أناسين، أو أناسيني على وزن أفاعيل، وخففت إلى أناسي، وكلمة إنسان اشتقت من الأنس فهو يأنس بغيره، وكونه يُرى وغير مخفيٍّ كالجن؛ أي: مجموعات من البشر تعيش في تلك البلدة الميتة التي أحياها الله تعالى، ولم يقل ناس؛ لأن كلمة الناس عامة تشمل كثير من البلدان وهو يتكلم عن أهل بلدة أناس تكاثروا فأصبحوا أناس كثيراً، فالله سبحانه أحيا بهذا الماء الطيور والنبات، وأحيا الأنعام، وأحيا الأناسي.
وقدَّم أحياء الأرض الميتة والأنعام على الأناسي؛ لأن حياة الأناسي تعتمد على الغذاء، والغذاء يستمد من الأرض ومن الأنعام، وحياة الأرض والأنعام تعتمد على الماء أو السُّقيا، والسُّقيا تعتمد على ماء المطر، وما يقوم به الإنسان في توفير الماء لها، ولم خصَّ الأنعام عن غيرها؟ لأن غيرها من الحيوانات يمكن أن تحصل على الماء بنفسها من دون الاعتماد على البشر.
وهناك فرق بين سقاه وأسقاه.
سقاه: تعني ناوله ما يشربه الآن.
أسقاه: أعدَّ له ما يستقي منه ولم يشرب بعد. فالآية لا تتحدث عن خزن الماء، وإنما عن استعماله الآن.
سورة الفرقان [25: 50]
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} :
{وَلَقَدْ} : اللام: لام التوكيد، قد: للتحقيق.
{صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} : أيْ: الماء (المطر) صرفناه: من التصريف والتغيير، بينهم: بلاد فيها مطر خفيف وبلاد فيها مطر غزير، وبلاد تشكو من الجفاف والجدب، وبلاد أو أرض خصبة غنَّاء، ورغم ذلك تبقى كمية الماء ثابتة لا تتغير. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18) للبيان المفصل.
{لِيَذَّكَّرُوا} : اللام لام التعليل، يذكروا: تلك النعمة فالذين أصابهم المطر الغزير وأخصبت أرضهم؛ ليذكروا نعمة الله عليهم فيشكروه ويحمدوه.
وأما الّذين مُنع عنهم المطر فيذَّكَّرون ربهم ويتضرعون إليه ويدعونه أن يُنزل عليهم الغيث (صلاة الاستسقاء) ويبادروا بالتوبة والرجوع إليه ويصبروا على هذه المحنة والبلاء.
{فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} : أيْ: لا هؤلاء شكروا ولا هؤلاء صبروا وتضرعوا إلى الله ورجعوا إلى ربهم. إلا: أداة حصر، كفوراً: صيغة مبالغة كثيرو الكفر.
فأبى أكثر النّاس: أيْ: هناك القليل الّذين تذكَّروا وشكروا وصبروا والكثير منهم جحدوا بنعمة الله تعالى، ونسبوا المطر إلى غير الله تعالى وغيرهم لم يصبروا على الابتلاء ولم يدعوا ربهم.
سورة الفرقان [25: 51]
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} :
{وَلَوْ} : شرطية.
{شِئْنَا لَبَعَثْنَا} : اللام: للتوكيد، بعثنا: وأرسلنا. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لبيان معنى بعثنا وأرسلنا والفرق بينهما. {فِى كُلِّ قَرْيَةٍ} .
{نَّذِيرًا} : ليبلغ ويُعلم ويحذّر كلّ جماعة أو كلّ فرد في تلك القرية. نذيراً من الإنذار وهو الإعلام والتحذير والتخويف.
والسؤال هنا: كيف نجمع بين قوله تعالى: {وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وهذه الآية؟
نقول: آية الفرقان جاءت بخصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: لو شئنا لبعثنا في كل قرية التي حولك نذيراً كي نخفف عليك من أعباء الرسالة، ولكن بعثناك إلى جميع القرى؛ لعظم كرامتك ونشأتك وأجرك وأرسلناك مبشراً ونذيراً لكافة القرى.
سورة الفرقان [25: 52]
{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} :
{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.
{تُطِعِ الْكَافِرِينَ} : بما أن الله بعثك إلى كافة القرى فلا تركن إليهم ولا تتبع أهواءَهم واستقم كما أُمرت كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
{وَجَاهِدْهُم} : ابذل قصارى جهدك وطاقتك في إبلاغهم ما أُنزل إليهم من ربهم.
{بِهِ} : بالقرآن.
{جِهَادًا كَبِيرًا} : جهاداً بكل الوسائل الحجج والبراهين، والسلطان والجهاد وغيره إذا احتاج الأمر، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التّوبة: 73].
سورة الفرقان [25: 53]
{وَهُوَ الَّذِى} : ارجع إلى الآية (47).
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} : مرج البحرين: قيل خلَّى بينهما (كما قال الزهري والزجاج)، أو أرسلهما، والتّفسير العلمي للمرج هو الذهاب والإياب لحركة الأمواج الّتي تحدث مع حركة المد والجزر في البحر. مرج أمواج البحر العذب وأمواج البحر المالح.
{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} : هذا: الهاء: للتنبيه وذا: اسم إشارة تشير إلى ماء البحر العذب الفرات وهو الماء العذب الحلو. (وقد يكون من ماء الأنهار العذبة).
{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} : ملح: كثير الملوحة أجاج: المر الطعم. وهو ماء البحر أي: المالح والمرُّ الطعم معاً.
مرج المياه الحلوة العذبة مع المياه المالحة (شديدة الملوحة والمرارة).
أيْ: مرج أمواج البحر العذب بالالتقاء بأمواج البحر المالح الأجاج من دون أن يختلط ماؤهما كما يظن البعض خطأ.
{وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} : لأنّه سبحانه جعل بين الماءين برزخاً: حاجزاً بحيث لا يختلط ماؤهما، ولو نظرنا من أعلى إلى التقاء الماءين لوجدنا أن هناك حاجزاً كأنه برزخ بين الماءين.
{وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} : وأضاف إلى البرزخ حجراً محجوراً لا يدخل في ذلك المكان شيء ولا يخرج منه شيءٌ.
الحجر: يعني: منع الخروج منه.
محجوراً: يعني: منع الدخول إليه أو فيه.
فما هو الحجر المحجور؟
عند التقاء مياه النهر بمياه البحر تتشكل منطقة ثالثة ليست لها خاصية تركيب ماء البحر. الملح الأجاج ولا خاصية تركيب مياه البحر العذب السائغ شرابه (أو ماء النهر) وتسمَّى منطقة المصب هذه المنطقة الثالثة لها خاصيتها الطبيعية والكيماوية، ولها أنواع من الرسوبيات تختلف عن ماء النهر الحلو وماء البحر المالح، وتعيش فيها كائنات حية خاصة بها لو دخلت إلى ماء النهر تموت أو ماء البحر تموت.
وهذه آية من الآيات الكونية، والتي تدل على عظمة الخالق ووحدانيته. ارجع إلى سورة فاطر آية (12) لمزيد من البيان والمقارنة، وسورة الرحمن آية (19-20).
سورة الفرقان [25: 54]
{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} :
{وَهُوَ} : ضمير منفصل يفيد الحصر والتوكيد.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم والمدح.
{خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} : خلقه الله من الماء ماء الذكر كما قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5-7] يعني: المني الحامل للحيوانات المنوية، وماء المرأة الأنثى الحامل للبويضة، وقد يعني الماء الداخل في تركيب جسم الإنسان الّذي يعادل حوالي (70%) من وزنه، وكما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} [الأنبياء: 30]، أو قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، وقد تعني: كلا المعنيين.
بشراً: أي: الأنس مشتقة من البشارة حسن الهيئة وبشرة الجلد الخاصة بالإنسان.
سُمِّي البشر بشراً: لظهورهم على الأرض.
{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} : ثم قسم البشر قسمين نسباً وصهراً ذكوراً وإناثاً، نسباً يأتي عن طريق القرابة عن طريق الدم.
صهراً من المصاهرة تأتي عن طريق تزويج الإناث؛ أي: عن الزواج، فحين يتزوج رجل من بنت رجل آخر يسمَّى الرجل المتزوج صهراً، وقدم النسب على الصهر، أو النسب على المصاهرة؛ لأن قرابة النسب أقرب من قرابة المصاهرة، فالرجل أقرب إلى أبيه وأخيه من قرابته لأهل زوجته.
{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} : على الخلق والجعل والتصريف والإحياء والبعث وعلى كلّ شيء قدير صيغة مبالغة كثير القدرة لا يعجزه شيئاً في السّموات ولا في الأرض.
سورة الفرقان [25: 55]
رغم كلّ هذه الآيات الكونية الدالة على عظمة الخالق ووحدانيته وأنه الإله الحق الّذي يستحق وحده العبودية والحمد والشكر يشركون به.
{وَيَعْبُدُونَ} : آلهتهم وأصنامهم يعبدون، ولم يقل: وعبدوا بصيغة المضارع الّتي تدل على الاستمرار والتجديد والتكرار، أيْ: يشركون بعبادتهم.
{مِنْ دُونِ} : من غير الله.
{مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} : ما: النافية، لا: تفيد توكيد النّفي أيْ: لا تنفعهم إن عبدوها ولا تضرهم إن لم يعبدوها، وتكرار (لا) يفيد التوكيد، وفصل النفع عن الضر أو كليهما معاً.
{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} : كان: تشمل الماضي والحاضر والمستقبل. على: تفيد العلو والمشقة. والظهير: المعين أو المساعد. ظهراً: مشتقة من الظهر؛ أي: عظام الفقار؛ فقد كانوا في الزّمن الماضي يحملون الأحمال على الظهور قبل اختراع آلات الحمل، وإذا أراد أحدهم معاونة الآخر يقول له: أعطني ظهرك يعني: احمل عني أو ساعدني.
والكافر: يراد به الجنس أيْ: كلّ كافر، فكل كافر هو معين للشيطان أو معين لكافر آخر على معصية ربه وعبادتهم للأصنام أكبر معصية لله.
سورة الفرقان [25: 56]
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} :
{وَمَا} : النافية. والواو: استئنافية.
{أَرْسَلْنَاكَ} : ولم يقل: بعثناك. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مُبَشِّرًا} : من البشارة. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان.
{وَنَذِيرًا} : من الإنذار وهي الإعلام المقرون بالتحذير والتخويف.
وكل إنذار إعلام، وليس كلّ إعلام إنذاراً.
والإنذار يتعدَّى إلى مفعولين مثل فأنذرتكم ناراً تلظى.
والإنذار يكون للكفار خاصة، وقد يكون للمؤمنين أيضاً كقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 19].
والإنذار يكون للأمور المنهيِّ عنها (السيئة والقبيحة).
والإنذار إحسان من المنذر للمنذَر؛ لكي يأخذ استعداده، فلا يُفاجأ بالأمر المحذَّر منه أو لكي يغيِّر عمله ويتوب إلى الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبشراً ونذيراً لكافة النّاس جميعاً.
سورة الفرقان [25: 57]
{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{مَا} : النافية.
{أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ} : على التبليغ والإنذار والدعوة إلى الله والقرآن والإيمان.
{مِنْ أَجْرٍ} : من: للتوكيد واستغراقية؛ أيِّ أجر مهما كان نوعه ومقداره مال أو غير المال. ولم يقل: من مال؛ لأن الأجر أعم من المال، والأجر يعني: الثواب. ولنقارن هذه الآية مع قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] نجد أن آية الفرقان أشد توكيداً للنفي على أخذ الأجر من آية الأنعام. ارجع إلى سورة الأنعام آية (90) لمزيد من البيان.
ولم يسأل أيُّ رسول قومَه الأجر أو المال على الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة، والكل قال:{إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109].
والأجر لا يمكن أن يقدِّره إلا الله سبحانه وحده.
وأبعد من ذلك لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة.
{إِلَّا مَنْ} : إلا: أداة حصر، من: ابتدائية استغراقية.
{شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} : شاء أن: للتوكيد والتعليل؛ أيْ: من أراد أن يتقرَّب إلى الله بالإنفاق في سبيله بالتطوع والعمل الصّالح ومساعدة الآخرين وغيره فليفعل ولا أمنعه.
ولنقارن هذه الآية: {قُلْ مَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} مع الآية (90) من سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} .
قوله تعالى: من أجر أوكد وأقوى من قوله: عليه أجراً؛ لوجود (من) الّتي تدل على الاستغراق والتوكيد.
ويستعمل (من) في سياق الدعوة والتبليغ، كما في آية الفرقان (57) بينما آية الأنعام لم تكن في سياق الدعوة والتبليغ، وإنما جاءت في سياق تعداد النعم على الرّسل.
ما: كثيراً ما تنفي الحال والاستمرار والاستقبال وفيها توكيد مقارنة بـ لا: تنفي كلّ الأزمنة فهي مطلقة.
سورة الفرقان [25: 58]
المناسبة: بعد ذكر موقف الّذين لا يرجون لقاء الله تعالى والمكذبين بالبعث والحساب والطلب من رسوله الإبلاغ والإنذار من دون أيِّ أجر يأمره بأن يتوكل عليه في الأمور كلها، فيقول تعالى:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ} : التوكل يعني: تفويض الأمر لله تعالى أيْ: ردُّه إليه راجياً عونه وتيسيره وتوفيقه بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة شرعاً وعقلاً، فهو سبحانه الكافي لمن توكل عليه والموكول إليه تدبير كلّ شيء.
على: تفيد العلو.
الحي الّذي لا يموت: الحي واجب الوجود الباقي الدائم من أزل الأزل إلى أبد الأبد.
والأزل هو دوام الوجود في الماضي.
والأبد هو دوام الوجود في المستقبل.
وكما قال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} : التسبيح هو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بذاته وأفعاله وصفاته وأسمائه. ارجع إلى سورة الحديد آية (1) لمزيد من البيان، وسورة الإسراء آية (1).
فسبحانه هو الكامل في ذاته وأفعاله وصفاته وأسمائه.
بحمده: الباء: للإلصاق والتوكيد، أيْ: بالثناء عليه وشكره.
أيْ: تسبيح مصاحب للحمد والحمد أعم من الشكر.
كأن تقول: سبحانه الله والحمد لله أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} : الباء: للتوكيد والإلصاق؛ أيْ: لا يحتاج سبحانه وتعالى أن يخبره أحدٌ عن ذنوب عباده الآخرين، وهو سبحانه غني أيضاً عن أن يخبره أحدٌ من عباده بما يفعله الآخرون؛ لأنّه سبحانه يعلم بواطن الأمور وخفاياها، ويعلم ظواهرها ولا تخفى عليه خافية أيْ: سبحانه لا يحتاج أن يخبركم عن ذنوب عباده، ولا يحتاج منكم أن تخبروه عن ذنوب عباده؛ لأنّه خبير بها.
سورة الفرقان [25: 59]
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم، أي: الله ربكم الذي:
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : في ستة أيام. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30)، وسورة الأعراف آية (54)، وسورة البقرة آية (22، 29) للبيان، وسورة فصلت آية (10-12).
{وَمَا بَيْنَهُمَا} : حيث اختلط الغلاف الغازي للأرض بمكونات السّماء، ولذلك لم يَصِرْ هذا الغلاف الغازي من الأرض بالكامل، وليس من السّماء بالكامل وظل طبقة فاصلة بين السّماء والأرض.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ثم تفيد التباين بالمرتبة بين الاستواء على العرش وخلق السّموات والأرض، فالاستواء على العرش أكبر وأعظم من خلق السّموات والأرض.
استوى على العرش ارجع إلى الآية (3) من سورة يونس، وسورة هود آية (7) للبيان.
{الرَّحْمَنُ} : من الرّحمة الّتي هي السمة والصفة العامة الّتي تمثل كثيراً من صفاته أو ينطوي فيها كثير من صفاته؛ لأنّه سبحانه كله رحمة، وشريعته رحمة، ونعمه رحمة، وقرآنه رحمة، وكل ما يفعله سبحانه رحمة، وعمّت رحمته العالمين. فهو الرحمن الرحيم. ارجع إلى سورة الحمد آية (3) للبيان.
{فَسْـئَلْ بِهِ خَبِيرًا} : أيْ: إذا أردت أن تسأل عن خلق السّموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والاستواء على العرش، فلا تسأل إلا الله (الرحمن) لأنّه وحده هو يعلم كيف خلق السّموات والأرض، ولم يُطلع على ذلك أحداً سبحانه، كقوله تعالى:{مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 51].
أو إذا كان يهمك معرفة خلق السّموات والأرض وما بينهما والاستواء على العرش، فاسأل به خبيراً، أيْ: من هو خبير بذاته عالم بقدرته وعظمته، أيْ: لا يعلم الله إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعود على أولي العلم أو تعود على علماء الكون والفضاء، أو أيِّ خبير، كلٌّ في اختصاصه، سواء كانت علوم الدِّين أو علوم الدّنيا.
سورة الفرقان [25: 60]
{وَإِذَا} : ظرفية زمانية شرطية بمعنى حين أو حين تقول لهم.
{قِيلَ لَهُمُ} : قيل، من هو القائل؟ مبني للمجهول قد يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره من المؤمنين.
لهم: لكفار قريش أو غيرهم من الّذين لا يؤمنون بالله سبحانه.
{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} : وحده، أيْ: لا تشركوا به شيئاً والسجود يعني: الطاعة والخضوع ويعني: الصّلاة والشكر.
{قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} : ما: استفهامية، فهم يستفهمون عن حقيقته؛ لأنَّهم لم يكونوا يعرفون له هذا الاسم.
فهم إما حقيقة لا يعرفون من هو الرحمن.
أو أنهم كانوا ينكرون أن يكون لله اسمٌ هو الرحمن.
أو قالوا مستكبرين: وما الرحمن؟!
{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} : الهمزة همزة استفهام إنكاري واستبعاد والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لِمَا} : ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} : أيْ: من أنت حتى تأمرنا أن نسجد للرحمن أو كيف يأتي الأمر منك.
{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} : النفور هو الابتعاد عن الشّيء بكُره؛ أيْ: زادهم الأمر بالسجود بُعداً واستنكاراً وإعراضاً عن السجود، وعن الإيمان، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن.
سورة الفرقان [25: 61]
{تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} :
{تَبَارَكَ الَّذِى} : ارجع إلى الآية (1) من سورة الملك.
{جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا} : ارجع إلى سورة الحجر آية (16) وسورة البروج آية (1) للبيان.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} : الشّمس. ارجع إلى سورة يونس آية (5) للبيان المفصل.
{وَقَمَرًا مُّنِيرًا} : كوكباً منيراً بالليل يُضيء بواسطة الأشعة المنعكسة على سطحه من أشعة الشّمس، فهو غير مضيء بذاته كما هو الحال في الشّمس والنجوم. ارجع إلى سورة يونس آية (5) للبيان.
والبروج والشّمس والقمر آيات من آيات الله الدالة على عظمته وقدرته تعالى، وأنه الإله الحق واجب الوجود الّذي يجب أن يطاع ويُعبد.
سورة الفرقان [25: 62]
{وَهُوَ الَّذِى} : هو تفيد التوكيد والحصر. الذي: اسم موصول يفيد المدح والتعظيم.
{جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} : بعد أن خلقهما جعلهما خلفة يخلف أحدهما الآخر، أيْ: يتعاقبان يعقب الليل النهار ويعقب النهار الليل. وهذا يشير إلى كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشّمس. ارجع إلى سورة يونس آية (67) لمزيد من البيان. ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين.
{لِّمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} : فمن أراد أن يتذكر ويشكر في الليل كان له ذلك، ومن أراد أن يتذكر ويشكر في النهار كان له ذلك. ويذكر: يدخل في معناه الصّلاة والعبادات الأخرى والذكر العادي التسبيح والتكبير والتهليل.
يذّكر: فيها مبالغة في التذكر، ويعني: تذكر قلبي عميق يهز النفس ويوقظها من سباتها، وتذكر باللسان.
{أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} : شكوراً صيغة مبالغة من الشكر أيْ: كثير الشكر، وليس مرة واحدة كما هو الحال في شكر أو يشكر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد في معنى الشكر.
سورة الفرقان [25: 63]
بعد أن بيَّن الله سبحانه حال المشركين وإعراضهم عن السجود وإنكارهم للسجود للرحمن، ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم يذكر بالمقابل صفات عباد الرحمن الّذين اختاروا طاعة الله وعبوديته بأنفسهم فنالوا درجة الشرف بأن أطلق عليهم سبحانه أنهم عباد الرحمن ووصفهم بـ (12) صفة.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} : عباد: جمع عابد، وعبيد: جمع عبد، إضافة الرحمن إلى العباد للتشريف والتكريم، وهؤلاء أعلى درجة من غيرهم من العباد أمثال عبادي، عبيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (186) لمعرفة الفرق بين عباد، عبادي، عبيد.
{الَّذِينَ} : اسم موصول فيه معنى المدح والتشريف وتكرار الّذين سبع مرات لتدل على أنهم ليسوا صنفاً واحداً أيْ: عباد الرحمن منهم من يمتاز بهذه الصفة أو تلك الصفة، ولا يعني أنهم يملكون الصفات كلها.
{يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} : يمشون برفق ولِينٍ، أيْ: تواضع لله وسكينة من دون تكبُّر ولا تجبُّر ولا تضعُّف، وليس يعني خنوعاً وذلاً.
انتبه إلى الفرق بين كلمتي الهُون: الذل والعار، كما في قوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17]، بينما الهون: هو الوقار والتواضع والتؤدة.
وهناك فرق بين المشي على الأرض والسير:
المشي: هو مجرد الحركة بهدف أو غير هدف، والمشي يكون ولو خطوة واحدة.
السير: يكون إلى جهة معينة وهدف محدد بغرض الدراسة أو التجارة أو العبرة أو الهجرة، ويكون لمسافات أطول.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} : وإذا: ظرفية زمانية تعني: حتمية الحدوث.
خاطبهم الجاهلون: جمع جاهل، والجاهل: ناقص العلم والمعرفة، والجهل في الاصطلاح: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، أو يعني: عدم المعرفة والاعتقاد بما لا يتفق مع الحقيقة، والجهل المركب كما قال علي: لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، وليس أرض خصبة للعلم والتعلم والاعتبار والنظر.
قالوا سلاماً: سلام المتاركة لا سلام الأمان أو التحية، أو تعني قولاً يسلمون فيه من الإثم بالقول السيِّئ مثل سبِّ وشتم الجاهل.
سلاماً: لا يصدر منهم إلا الكلام الطيب.
ويعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً.
أيْ: يدفع بالتي هي أحسن يقابل السيئة بالحسنة.
سورة الفرقان [25: 64]
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} :
{وَالَّذِينَ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{يَبِيتُونَ} : من البيتوتة: تعني بالليل والبيتوتة لا يشترط فيها كلّ الليل، وقد يكون جزءاً من الليل وسواء نام أو لم ينم، وجاءت بصيغة المضارع لتدل على التجدد والتكرار والاستمرار. والبيتوتة هنا لا تعني النوم والاستراحة، وإنما تعني القيام لرب العالمين والتبتل إليه تبتيلاً.
{لِرَبِّهِمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{سُجَّدًا وَقِيَامًا} : أيْ: يصلون لربهم فمنهم القائم على قدميه ومنهم الساجد على وجهه. سجداً: السجود الظاهري بخشوع أو بدون خشوع. وفي هذه الآية تعريض بأولئك الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] السابقة؛ أي: إذا فريق منهم أعرضوا عن السجود للرحمن فهناك فريق آخر أو عباد يبيتون لربهم سجداً وقياماً.
وقدَّم السجود على القيام: للمبالغة في كثرة السجود، أو لأن العبد يكون أقرب إلى الله سبحانه في حالة السجود.
يعني: إحياء جزء من الليل بالصلاة والذكر والدعاء.
سورة الفرقان [25: 65]
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} :
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح وتكرار الّذين يفيد التوكيد.
{يَقُولُونَ} : أيْ: يدعون ربهم بشكل متكرر ومستمر، يقولون بصيغة المضارع لتدل على التجدُّد والتكرار، وليس مرة واحدة وانتهى الأمر.
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا} : يدعون ربنا اصرف عنا: أيْ: أبعد عنا أو جنِّبنا.
{عَذَابَ جَهَنَّمَ} : النّار.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} : كان ملازماً دائماً لا ينفك أو يخفف أو يُوقف مستمراً، وغراماً مشتقة من الغرام والحب والعشق، أيْ: كمن لا يفارق محبوبته أو من الغريم الّذي يلازم المدين ليأخذ منه دَيْنَه، والغرام في اللغة يعني: أشد العذاب، أيْ: أنَّ عذابها أشد العذاب.
سورة الفرقان [25: 66]
{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} :
{إِنَّهَا} : للتوكيد.
{سَاءَتْ} : من أفعال الذم؛ أيْ: قبُحت. أو بئس المستقر والمقام، سواء أكان دائماً أم مؤقتاً.
{مُسْتَقَرًّا} : هو المكان المؤقت غير الدائم لغير الخالدين في جهنم لمن يطهرون من ذنوبهم، ثم يخرجون منها.
{وَمُقَامًا} : المقام الدائم للخالدين في جهنم أبداً، أي: المستقر الدائم.
أو المستقر: بمعنى المكان للراحة والاستراحة. المكان المؤقت.
ومقاماً: بمعنى المكان للإقامة الدائمة.
سورة الفرقان [25: 67]
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} :
{وَالَّذِينَ} : تكرارها يفيد المدح والتوكيد.
{إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} : الإسراف هو الإنفاق في حِلٍّ، أيْ: ما ينبغي ومجاوزة الحدِّ في الإنفاق. والتبذير هو الإسراف في غير حِلٍّ، أو ما لا ينبغي (في المعاصي)، أو الإسراف مجاوزة الحد في النفقة.
{وَلَمْ يَقْتُرُوا} : التقتير هو التضييق في النفقة إما لتقصير عما لا بد مه، أو منع حق الله. والأفضل التوسط في الإنفاق.
{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} : القوام الوسط. الاعتدال. وسطاً بين الإسراف والتقتير والقوام ما يقوم به الشّيء، والحياة تقوم على الاعتدال: أي: الوسطية.
انتبه إلى قوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} ولم يقل: وكانوا بين ذلك؛ لأن كان تعود على الإنفاق (أيْ: كان إنفاقهم) بين ذلك بين الإسراف والتقتير.
سورة الفرقان [25: 68]
{وَالَّذِينَ} : تكرارها يفيد المدح والتوكيد.
{لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : أيْ: لا يشركون بالله شيئاً الشرك الخفي، ولا يقصد به الشرك العادي، وإلا كيف يدعوهم عباد الرحمن مهما كان، أيْ: هم من الموحِّدين المخلصين.
{وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} : أيْ: لا يقتلون عمداً النفس الّتي حرم الله إلا: أداة حصر.
بالحق: بالقصاص، أيْ: بالقسط والعدل، وبما فرض الله من القصاص من القاتل عمداً أو قتل المرتد عن دينه بعد أن يُستتاب، ويمر بكل المراحل المطلوبة. ارجع إلى كتب الفقه للشروط والأحكام.
{وَلَا يَزْنُونَ} : لأن الزنى فاحشة وساء سبيلاً، وليبقى المجتمع المؤمن على طهر، وخال من الأمراض المُعدية أو السارية، وتكرار لا: تفيد توكيد النفي، ويدعون، ويقتلون، ويزنون: جاءت بنون التوكيد لزيادة التوكيد، ولكن الملاحظ عدم تكرار الذين، ولم يقل والذين لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق والذين لا يزنون (حذف الذين) كي يجعل الثلاثة خصال كأنها خصلة واحدة، ولوحظ اقتران آيات قتل النفس التي حرم الله مع آيات الزنى في سورة الفرقان والإسراء والممتحنة، قد يكون الاقتران إشارة إلى أن الزنى قد ينتج عن الحمل؛ فتلجأ المرأة إلى محاولة الاجهاض؛ لقتل الجنين وتغطية جريمة الزنى أو حتى بعد الولادة أحياناً.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} : من: للعاقل (تشمل المفرد أو المثنى أو الجمع)، وشرطية، يفعل ذلك: الشرك أو القتل أو الزنى واحداً من الثلاثة.
{يَلْقَ أَثَامًا} : أيْ: عقاباً أو يلقى جزاء آثامه، وقد وضح ذلك بقوله: يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهاناً.
سورة الفرقان [25: 69]
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} :
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : قيل: ضعفين أو أضعافاً مضاعفة لا يعلمها إلا الله.
{وَيَخْلُدْ} : من الخلود هو الاستمرار والبقاء في العذاب يبدأ من زمن دخوله فيها إلى ما لا نهاية.
{فِيهِ مُهَانًا} : ذليلاً مستحقراً. مهاناً: اسم مفعول من فعل أهان.
سورة الفرقان [25: 70]
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{مَنْ تَابَ} : من الشرك والقتل والزنى، والتوبة تعني: عدم العودة إلى الذّنب والندم على فعله وإرجاع الحقوق إلى أصحابها والإكثار من العمل الصّالح والنوافل.
{وَآمَنَ} : بما أنزل الله تعالى وما أمر به الرّسول ونهى عنه ومصدقاً باليوم الآخر، وآمن بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر.
{وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} : الفروض والنوافل والباقيات الصالحات مقابل ما فرَّط به.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة.
{يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} : وهذا من أعظم كرمه وجوده ورحمته وإحسانه الّذي لا يتصوره العقل.
{وَكَانَ اللَّهُ} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.
{غَفُورًا} : صيغة مبالغة كثير المغفرة وهي الستر وترك العقوبة والإثابة على الحسنات، ولو كثرت ذنوب العبد أو عظمت فإنه يغفر الذنوب جميعاً إلا الكفر والشرك.
{رَحِيمًا} : بعدم تعجيل العقوبة لهم أو العذاب. رحيماً بالمؤمنين في الدّنيا والآخرة.
رحمته صفة ثابتة لذاته
سورة الفرقان [25: 71]
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} :
{وَمَنْ} : شرطية ابتدائية، أيْ: من تاب من غير هؤلاء المذنبين تاب من دون ارتكاب إثم.
{تَابَ} : توبة إنابة (من دون ارتكاب ذنب أو إثم).
{وَعَمِلَ صَالِحًا} : أيْ: أكثر من الأعمال الصّالحة والنوافل والذكر وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله وصلة الرحم وغيرها من الأعمال الصّالحة.
{فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} : متاباً: مبالغة في التّوبة، أيْ: يتوب إلى الله توبة نصوحاً أو يرجع إلى الله مرجعاً مرضياً أو مرجع صدق، أيْ: يكرمه بدخول الجنة.
سورة الفرقان [25: 72]
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} :
{وَالَّذِينَ} : تكرارها يفيد المدح والتوكيد.
{لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} : الزور في الأصل تحسين الباطل، والزور الميل عن الصدق والحق، لا يشهدون بالكذب والباطل، أيْ: شهادة الزور.
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{مَرُّوا بِاللَّغْوِ} : اللغو كلّ كلام لا فائدة فيه. ارجع إلى الآية (4) من سورة المؤمنون.
{مَرُّوا كِرَامًا} : جمع كريم من فعل كرم معرضين عن مجالسة أهل اللغو مبتعدين عنه، ولم يخوصوا فيه أو يستمعوا إليه. مكرِمين أنفسهم بالغنى عن الاستماع إلى اللغو والخوض فيه.
سورة الفرقان [25: 73]
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} :
{وَالَّذِينَ} : تكرار الّذين يفيد المدح والتوكيد.
{إِذَا} : ظرفية زمانية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : تُليت أو قُرئت عليهم آيات ربهم، أي: القرآن الكريم أو تلَوْها بأنفسهم. استمعوا إليها بآذان واعية يفهمون ما يُتلى عليهم وما هو واجبهم، وكيف يطبِّقونها في حياتهم اليومية.
{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} : الخرُّ هو الكبُّ والسقوط من دون تفكير وفَهم. انتبه: النّفي هنا ليس للخرور، وإنما للصمم والعمى، أيْ: لا يحاولون التولي والإعراض وعدم الإصغاء إليها، بل يقبلون عليها ويكبون عليها بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم حرصاً على سماعها بآذان مُصغية وعيون راعية وأفئدة واعية.
سورة الفرقان [25: 74]
{وَالَّذِينَ} : تكرارها يفيد المدح والتعظيم، هذه المرة الثامنة الّتي يتكرر فيها كلمة الذين.
{يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا} : ارجع إلى الآية (39) من سورة إبراهيم لمعرفة معنى هب.
الهبة: عطية تفضل وتكرم من الله تعالى وليست عطية استحقاق.
{مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} : من: ابتدائية. الأزواج جمع زوج والزوج يطلق على الذكر والأنثى، أيْ: زوجات أو أزواج. فالدعاء بدأ بالأزواج، ثم الذرية؛ لأن الذرية لا تأتي إلا بعد الزواج.
والدعاء جاء بصيغة الدعاء الجماعي، وليس بصيغة الدعاء الفردي لم يقل: رب هب لي؛ لأنّه أفضل وأكثر استجابة.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ} : قرة لها معنيين:
1 -
السكينة والثبات.
2 -
السرور.
مشتقة من القُرِّ: شدة البرودة. والعين الباردة تدل على السرور والعين الساخنة تدل على الحزن والألم (البكاء) والقرُّ يعني: السكون والثبات والهدوء.
أعين: جمع عين الّتي نبصر بها، وعيون جمع عين، وتعني: عيون الماء وعيون الجنة، أعين تعني هنا أعين خاصة، ولا تشمل كلّ الأعين؛ لأنّها فقط أعين المتقين.
أيْ: هب لنا زوجات صالحات وأولاداً ذوي خلق وأدب ودين.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} : هنا أفرد ولم يجمع، ولم يقل: أئمة لأنّهم في حكم الإمام الواحد.
لأنهم يتبعون منهجاً واحداً هو المنهج الرباني الّذي من المفروض أن لا تتحكم فيه الأهواء الفردية والبدع. فالإمام يمثل الأئمة والأئمة تمثل الإمام.
وإماماً: تعني: قدوة صحيحة في الخير والعلم والدِّين. وإمام مشتقة من أم أيْ: قصد، أيْ: نقتدي بالمتقين ويقتدي المتقون بنا.
سورة الفرقان [25: 75]
{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، وتشير إلى عباد الرحمن الّذين تقدَّمت صفاتهم وإلى علو منزلتهم.
{يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} : يجزون من الجزاء والجزاء يعني: الأجر على العمل.
الغرفة: قيل: الجنة، والغرفة اسم جنس وتعني: كلّ بناء مرتفع عال ولا تعني غرفة واحدة، بل غرفاً كثيرة كقوله تعالى:{لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر: 20]، والغرفات تعني: القصور أو المنازل العالية في الجنة.
{بِمَا} : الباء البدلية أو السببية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي وأوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية.
{صَبَرُوا} : بدل صبرهم والصبر أنواع. ارجع إلى الآية (200) من سورة آل عمران. والآية (127) من سورة النحل لبيان مفصل في معنى الصبر.
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} : فيها تعود على الغرف.
{تَحِيَّةً وَسَلَامًا} : من الله سبحانه، ومن الملائكة، ومن بعضهم بعضاً.
تحية وسلاماً: سلاماً: جاء نكرة ليشمل كلّ أنواع السّلام، سلام تحية كالقول السّلام عليكم، وسلاماً من الآفات والأمراض، وكل مكروه وسلام الأمن والاستقرار.
سورة الفرقان [25: 76]
{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} :
{خَالِدِينَ} : من الخلود والخلود هو استمرار البقاء من وقت معين (هو دخولهم تلك الغرف).
{فِيهَا} : تعود على الغرف.
{حَسُنَتْ} : من أفعال المدح، حسنت في نعيمها ومنظرها وطعامها وشرابها ولبسها وفرشها.
{مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} : المستقر: المكان المؤقت للراحة.
والمقام: المكان الدائم للإقامة الدائمة والاستقرار بلا انقطاع، أيْ: لكلا الأمرين.
سورة الفرقان [25: 77]
{قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} :
{قُلْ} : يا محمّد للكافرين والمؤمنين الخطاب عام.
{مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى} : ما: لها عدة احتمالات قد تكون نافية أو استفهامية.
1 -
ما النافية: يعبأ بكم ربي: لا يبالي بكم أو لا يهتم بكم لولا دعاؤكم.
2 -
وما قد تكون استفهامية: للتهويل، تهويل الدعاء والعبادة.
{لَوْلَا} : حرف امتناع لوجود، وجود الدعاء.
{دُعَاؤُكُمْ} : عبادتكم أو دعاؤكم في الشدائد والمحن، لولا أنكم تتضرعون إليه وتدعونه أو تعبدونه ما عَبِئَ بكم، ولكنه سبحانه يعبأ بعبادتكم وبدعائكم. ولو لم يكن يعبأ بكم لما خلقكم وأرسل إليكم رسله وكتبه وملائكته، وهو يعبأ بكم لمصلحتكم ولأجلكم وليس لمصلحته ولذاته؛ لأن عبادتكم لا تزيد ولا تنقص في ملكه شيئاً.
{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد، قد: للتحقيق.
{كَذَّبْتُمْ} : الخطاب قد يكون للذين كفروا من أهل مكة الّذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من الكفار الّذين كذبوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر
أو قد يكون للمؤمنين، وكذبتم تعني: لم تعبدوا الله كما أمركم وتخلصوا له، أو تعني أشركتم في عبادتكم ومجيء الإنذار بصيغة المخاطب يدل على الشدة في الإنذار والوعيد.
{فَسَوْفَ} : الفاء للتوكيد، سوف للاستقبال البعيد والتراخي يعني: يوم القيامة.
{يَكُونُ لِزَامًا} : أيْ: يكون العذاب لزاماً عليكم، أو ثابتاً حقاً لكم لا يفارقكم، أو واقع بكم لا محالةَ، ولن ينجوَ منكم أحدٌ.
سورة الشعراء [26: 1]
سورة الشعراء
سورة الشّعراء [الآيات 1 - 19]
ترتيبها في القرآن (26)، وترتيبها في النزول (47).
{طسم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
سورة الشعراء [26: 2]
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} :
{تِلْكَ آيَاتُ} : اسم إشارة واللام للبعد، تشير إلى الآيات في هذه السّورة أو الآيات الّتي وردت في السّور الّتي نزلت قبل هذه السّورة أو آيات القرآن بشكل عام والآية لها بداية ولها نهاية، وتتكون منها سور القرآن، ولا ننسى أيضاً أنّ كلمة آيات قد تعني أيضاً الآيات الكونية أو المعجزات الّتي تثبت صدق نبوة الرّسل.
{الْكِتَابِ} : أي: القرآن وسُمِّي كتاباً؛ لأنّه مكتوب في السّطور، ويُسمَّى قرآناً؛ لأنّه يقرأ. والكتاب يعني: الجمع والضم الجمع الحسي للحروف والكلمات في السطور والقراءة أو التلاوة الجمع الصوتي لحروف وكلمات القرآن في الصدور والقراءة والكتابة ضرورية لحفظ كلام الله من التحريف والتبديل على مر العصور. ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{الْمُبِينِ} : الواضح، لكلّ فرد أنّه من عند الله والمبين لكلّ شيء يحتاجه هذا الإنسان في الأرض من الهداية والوقاية للوصول إلى الغاية من خلقه وخلافته.
سورة الشعراء [26: 3]
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} :
{لَعَلَّكَ} : لعلَّ للتعليل، والكاف للخطاب والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} : اسم فاعل قاتل أو مهلك نفسك من شدة الحرص على إيمانهم وتلهقاً على نجاتهم؛ باخع أصل هذه الكلمة من البخاع، وهو وريد دم قريب من عظام الفقرات في الرّقبة، وباخع: اسم فاعل بخع: أي ذبح؛ أيْ: أنت حريص على إيمانهم وقاتل نفسك كمن يذبح نفسه حتّى يصل الذبح إلى البخاع، أيْ: إلى فقرات عظام الرقبة وكما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
{أَلَّا} أن ولا: أن مصدرية تعليلية، ولا النّافية.
{يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} : أيْ: لعدم إيمانهم وتصديقهم برسالتك، أيْ: لا تكلف نفسك فوق طاقتها فإنما عليك البلاغ.
سورة الشعراء [26: 4]
{إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} :
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو الشّك.
{نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} : نشأ: من المشيئة هي ابتداء العزم على الفعل. والمشيئة مُلزمة ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ أي: واجبة؛ أي: واقعة، ولا تتغير، وتختلف عن الإرادة؛ ارجع إلى سورة الحج آية (14) لمزيد من البيان. آية من السماء مثل صاعقة أو صيحة أو نار أو ريح مدمرة ترغمهم على الإيمان بالقسر والإكراه، وإذا تأملنا الآية نجد الفعلين (نشأ، ننزل) بصيغة المضارع، بينما (فظلت) بصيغة الماضي؛ أي: كيف عطف الماضي على المضارع عطف مغاير يدل على أن الآية قد نزلت وخضعت لها أعناق المشركين، وفي هذا تهويل وتهديد لكي يرجعوا إلى رشدهم.
{فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} خاضعين: جمع خاضع (اسم فاعل) من الفعل خضع من الخضوع وهو اللين والانقياد ويكون في البدن؛ أي: يظهر على البدن، فليس المهم هو خضوع العنق، بل خضوع صاحب العنق (أيْ: قلبه) وخص الأعناق بدلاً من الذوات والأنفس لأن من تلوي عنقه تقطع عنه الهواء، فيختنق ويموت بأقل من عدة دقائق (3-5 دقائق) وفي هذا تهديد شديد لكل عاصٍ، ويدل على عظمة وقدرة الخالق العزيز الجبار. وأصل الكلام فظلت أعناقهم لها خاضعة، وقال تعالى خاضعين؛ أي: وصف الأعناق بالخضوع الذي هو صفة العقلاء فهو يريد الأعناق أن تخضع ومن ورائها أصحاب الأعناق أن يخضعوا.
والمعنى: أنت لا تستطيع أن تكره النّاس أو تجبرهم وربك يستطيع، ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك فهو ترك لهم أن يختاروا لعل قلوبهم وأعناقهم تخضع باليقين والإرادة والمحبة وكما قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].
سورة الشعراء [26: 5]
{وَمَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} :
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.
{يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ} : من ابتدائية، ذكر أي علم كالآية التي تذكرهم بما ينفعهم أو يضرهم.
{مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} : من ابتدائية، محدث ولم يقل جديد؛ المحدث: لم يكن معروفاً من قبل، أو إيجاد شيئاً لم يكن، والجديد: فيه معنى الاستمرار للقديم؛ أي: حدث له تغير أو تجديد بأمر أو نهي أو تكليف.
{إِلَّا} : أداة حصر، عنه: تعود إلى الذكر.
{كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} معرضين: جمع معرض اسم فاعل من أعرض: أي: ابتعد عن ولم يتقبل ذلك أو يبالي به أو يهتم به، معرضين: جملة اسمية تدل على الثّبوت، أي: الإعراض صفة أو سمة ثابتة لهم مستمرة وقديمة. ولنقارن ما جاء في هذه الآية مع ما جاء في الآية (2) من سورة الأنبياء، وهي قوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} .
ففي سورة الشّعراء قال: {مِنَ الرَّحْمَنِ} ولم يقل: من ربهم كما في سورة الأنبياء؛ لأن المخاطب في سورة الأنبياء كفار مكة الّذين إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن فجاء ليذكرهم بأن الرحمن رغم كونه الرحمن فلا تغرنَّكم رحمته، فإنه قادر على يقهر أعناقكم فتظلوا له خاضعين، وأيضاً آية الأنبياء سبقها قوله تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} فيها تهديد ووعيد، فناسبها ذكر (من ربهم)؛ لأنه سبحانه رب العالمين، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 3]، وآية الشعراء سبقها قوله تعالى:{إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} ولم يشأ سبحانه؛ لأنه (الرحمن).
سورة الشعراء [26: 6]
{فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :
فقد: الفاء للتوكيد وقد للتحقيق والتوكيد أيضاً.
{كَذَّبُوا} : بآيات ربهم والرّسول وبما أنزل إليهم من ربهم.
{فَسَيَأْتِيهِمْ} : الفاء للتوكيد، سيأتيهم: السّين للاستقبال القريب، فسيأتيهم وهم في الدّنيا.
{أَنبَاؤُا} : جمع نبأ وهو الخبر العظيم المهم.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي، وما أوسع شمولاً من الذي.
{كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} سيعلمون عن قريب عاقبة تكذيبهم واستهزائهم بالله وآياته، أيْ: بالقرآن ورسوله وعبر عن الاستهزاء بصيغة المضارع الّذي يدل على التّجدد والتّكرار واستمرار استهزائهم. بينما في الآية السابقة (5){كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} معرضين: يدل على استمرار ورسوخ إعراضهم وأنه أمر قديم.
وإذا قارنا هذه الآية (6) من سورة الشّعراء: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} مع الآية (5) من سورة الأنعام: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} ، سوف: أبعد في الاستقبال من السّين أيْ: تدل على التّراخي في الزّمن سوف يأتيهم العذاب في الآخرة، والسّين للاستقبال القريب سوف يأتيهم العقاب أو العذاب في الدّنيا، إذن هم مروا بثلاث مراحل مرحلة الإعراض، ثمّ التّكذيب، ثمّ الاستهزاء.
وسيأتيهم عاقبة تكذيبهم (قريباً أيْ: في الدّنيا) وسوف يأتيهم وعاقبة استهزائهم في الآخرة أيْ: في الدّنيا والآخرة في كلاهما.
سورة الشعراء [26: 7]
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} :
{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري، والواو في كلمة أولم تدل على شدة إعراضهم وإنكارهم، ولم يقل: ألم يروا أيْ: هم يرون ما تنبت الأرض من كلّ الأزواج والثّمرات والزّرع، ومع ذلك ينكرون قدرة الخالق ووحدانيته. أولم يروا تدل على شيء مرئي ورغم ذلك ينكرونه.
{يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ} : رؤية بصرية أو عقلية فكرية وقلبية يروا إلى الأرض.
يروا تعود على المكذبين بالآيات وما أنزل إليهم من ربهم وبرسوله وغيرهم من الناس ومنهم العلماء.
{كَمْ} : خبرية تفيد الكثير.
{أَنبَتْنَا فِيهَا} : بصيغة الجمع أيْ: للتّعظيم. ولكونهم يشاركون في عملية الإنبات الإخراج، وتشمل عملية الحرث والبذر والسقاية وغيرها، والنبات يضم الزرع والشجر؛ أي: ماله ساق أو غير ساق.
{مِنْ} : استغراقية.
{كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} : الزّوج الصّنف والزّوج يعني: الذّكر والأنثى. وقد أحصى العلماء (391، 000) سلالة نباتية.
كريم: البالغ في الجودة وكثير النّفع وفيه البركة، أيْ: أصروا واستمروا في إعراضهم وتكذيبهم، ولم ينظروا إلى عجائب نباتات الأرض الدّاعية للإيمان والوحدانية. وفي الآية إشارة إلى أن الله سبحانه خلق كل شيء في زوجين ليبقى متفرداً بالوحدانية وحده. وإذا قارنا هذه الآية (من كل زوج كريم) مع الآية (5) من سورة الحج، وهي قوله تعالى:{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ؛ أي: الحسن والبهجة؛ الحُسن: أي يدخل البهجة والسرور على النفوس لما فيه من الزينة كالزهور وألوان النباتات؛ ارجع إلى سورة الحج آية (5)، وآية (63)، وسورة فصلت آية (39)، والأنعام آية (99) للبيان.
سورة الشعراء [26: 8]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ للتوكيد، في آية الإنبات {أَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد.
{لَآيَةً} : اللام لام التّوكيد، آية: لكفار مكة دلالة واضحة أو آية كونية تدل على قدرة الله وعظمة الخالق ووحدانيته، ومع ذلك لم يعتبروا أو يتعظوا أو يؤمنوا.
{وَمَا كَانَ} : الواو حالية تفيد التّوكيد، (توكيد النّفي بما).
كان: تشمل كل الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.
{أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} : استمروا في كفرهم وتكذيبهم، وهناك القليل من آمن منهم.
سورة الشعراء [26: 9]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
{وَإِنَّ رَبَّكَ} : إنّ للتوكيد، ربك: الخالق والمدبر والمربي.
{لَهُوَ} : اللام للتوكيد، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.
{الْعَزِيزُ} : أي: القوي الّذي يَقهر ولا يُقهر ويَغلب ولا يُغلب والممتنع له العزة جميعاً، القادر على قهر وجبر خلقه على ما أراده، ولكنه لم يفعل؛ لأنّه هو الرحيم.
{الرَّحِيمُ} : يؤخِّر عنهم العذاب لعلهم يتوبون، ولا يعذبهم وأنت فيهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمزيد من البيان.
ثمّ يذكرُ الله سبحانه لرسوله ما حدث للرسل الّذين سبقوه، مثل موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب.
سورة الشعراء [26: 10]
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} : إذ ظرف زماني، أيْ: واذكر يا محمّد حين نادى ربك موسى، ناداه سبحانه من جانب الطّور الأيمن في البقعة المباركة. ارجع إلى سورة القصص الآية (29 ـ 30).
{أَنِ} : مصدرية تفيد التّعليل.
{ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : ائتِ: من الإتيان: وهو المجيء إلى القوم الظّالمين: المشركين والظّالمين لأنفسهم والظّالمين لغيرهم، الّذين أصبح الظّلم صفة ثابتة لهم.. قوم فرعون.
سورة الشعراء [26: 11]
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} :
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} : ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون الأب أم الابن.
{أَلَا} أداة استفتاح وتنبيه وحضٍّ واستفهام، فيها معنى الإنكار والعجب في إفراطهم في الظّلم والكفر.
{يَتَّقُونَ} : يطيعون أوامر الله ويجتنبوا نواهيه، ويجتنبوا سخطه وغضبه وناره. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (32) وهي قوله تعالى:{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : نجد أن فرعون هو المبعوث إليه أولاً وملئه أو قومه هم تبع له؛ ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24)، وآية (33) لبيان معنى الملأ.
سورة الشعراء [26: 12]
{قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} :
{قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ} : قال موسى: رب إنّي للتوكيد، أخاف: من الخوف وهو غمٌّ في النفس ناتج عن توقُّع الضّرر المشكوك في وقوعه، الخوف الّذي سببه تكذيب قوم فرعون الّذي يؤدِّي إلى ضيق في الصّدر وعدم انطلاق اللسان، كما سنرى في الآية القادمة.
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.
{يُكَذِّبُونِ} : لا يصدِّقون أيَّ شيء مما أقوله لهم وأصلها أن يكذبونني: حذفت منها النّون والياء لتدل على سرعة تكذيبهم له أيْ: مجرد إخبارهم سيكذبونه وحذف الياء؛ لأنّ هناك من النّاس سيصدِّقونه ويؤمنون به مثل السّحرة وغيرهم، فلن يكذبه الكلّ، ولو يكذبه الكلّ لقال: يكذبوني.
سورة الشعراء [26: 13]
{وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} :
{وَيَضِيقُ صَدْرِى} : قُرئت بالضّم وقُرئت بالفتح، ويضيق صدري بتكذيبهم إياي، والضّيق همٌّ وغمٌّ عارض يصيب الإنسان لأسباب مختلفة.
{وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِى} : بسبب الخوف والضّيق، وفي سورة طه آية (27) بين أن هناك عقدة من لسانه، وسئل الله سبحانه فقال:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِّسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِى} ، وأحياناً الخوف والضيق قد يؤدِّي إلى إفراز بعض الهرمونات مثل أبينفرين ونور أبينفرين الّتي تؤدِّي بالتّالي إلى عدم القدرة على التّفكير والحيرة والتوتر وارتفاع الضغط مع العلم أن موسى عليه السلام كان عنده عقدة في لسانه كما بين ذلك في سورة طه الآية (27-28):{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِّسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِى} .
{فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} : الفاء للتوكيد والمباشرة، أرسل جبريل إلى أخي هارون يبلغه ليكون لي ردءاً يصدقني سورة القصص الآية (34) أيْ: معيناً أو وزيراً فهو أفصح مني لساناً إنّي أخاف أن يكذِّبون، وفي سورة طه آية (29) قال موسى عليه السلام :{وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى} ، فكيف نجمع بين الآيتين؟ أي: أرسل إلى هارون أخي ليكون وزيراً لي أشدد به أزري وأشركه في أمري.
سورة الشعراء [26: 14]
{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} :
{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} : اللام لام الاختصاص، هم تعود إلى قوم فرعون.
عليَّ: تفيد العلو والمشقة، ذنب: جرم عظيم نكرة للتهويل، لم يبيِّن ما هو الذّنب في هذه الآية، وقد بيَّنه في سورة القصص الآية (33)، {قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} ، فقد قتل موسى رجلاً حين كان بمصر قبل ذهابه إلى مدين. ارجع إلى سورة القصص آية (15) للبيان.
{فَأَخَافُ} : الفاء للترتيب والتّعقيب.
{أَنْ يَقْتُلُونِ} : بالقصاص مني.. أن مصدرية تفيد التّعليل. ويقتلون ولم يقل: أن يقتلونني؛ لأن القتل قد يعني العذاب بالسجن وغيره من أنواع العذاب، وقد يصل إلى حدِّ القتل.
سورة الشعراء [26: 15]
{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} :
{قَالَ كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، أي: اطمئن ولا تخف أن يقتلوك أو يضيق صدرك أو لا ينطلق لسانك.
{فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، اذهبا أنت وأخوك بآياتنا (العصا واليد) إلى فرعون وملئه.
{إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} : إنا معكم: للتعظيم بالرّعاية والحماية والعون والنّصر معكم مستمعون: لما يقول فرعون وملئه، ولما تقولانه، وما يقال لكم.
مستمعون: جمع تعظيم من فعل استمع وتنزَّه سمعه عن سمع البشر.
سورة الشعراء [26: 16]
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} : فرعون: ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون. ادخلا عليه بصيغة المثنى من الإتيان: المجيء بسهولة.
{فَقُولَا} : بصيغة المثنى.
{إِنَّا رَسُولُ} : بصيغة المفرد ولم يقل: إنا رسولا ربك بالتّثنية كما ورد في سورة طه الآية (47) وهي قوله: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} ؛ لأن كلمة رسول في اللغة يمكن تأتي للمفرد والمثنى والجمع ومصدر حسب ما يقتضيه السياق، ولأنّ رسالة موسى وهارون رسالة واحدة، وكان موسى عليه السلام رسولاً نبياً، أمّا هارون فكان نبياً فكلّ رسول نبي وليس كلّ نبي رسول، أمّا من حيث الاصطفاء فالكلّ اختارهم الله سبحانه، والكلّ أرسلوا إلى أقوامهم بأمر من الله سبحانه ولمعرفة الفرق بين الرّسول والنّبي. ارجع إلى سورة النّساء آية (164).
سورة الشعراء [26: 17]
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.
{أَرْسِلْ مَعَنَا} : أيْ: أنا وأخي هارون. والمخاطب هو فرعون، أرسل معنا: أيْ: خلِّ سبيل بني إسرائيل.
{بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : دعهم يخرجون إلى الأرض المقدسة، قيل: هذه كانت مهمة موسى الأساسية هي إنقاذ بني إسرائيل من العبودية وتحريرهم من فرعون والهجرة بهم إلى الأرض المقدسة، أمّا هداية فرعون وقومه ودعوته إلى التّوحيد فهي مهمة ثانية. ولنعلم أن هناك من بني إسرائيل من ترك مصر سابقاً وهاجر إلى فلسطين وبقي الكثير منهم.
سورة الشعراء [26: 18]
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} :
{قَالَ أَلَمْ} : قال فرعون: ألم: استفهامية استفهام تقريري تدل على شيء غير مرئي وتنكره. وقوله ألم نربك فينا: تدل على أن فرعون هذا هو ابن فرعون (رمسيس الثاني)؛ أي: هو منفتاح (فرعون الخروج) كما تدل الأدلة أو قد يكون القائل الأب رمسيس الثاني وابنه حاضر.
{نُرَبِّكَ فِينَا} : من التّربية بعد أن التقطه آل فرعون ونشأ وتربَّى في بيت فرعون.
{وَلِيدًا} : صبياً صغيراً، الوليد: المرحلة بعد الولادة.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} : عشت معنا وأقمت معنا سنين من عمرك (18) سنة كما قال ابن عبّاس أو غير ذلك، وقيل: كان موسى يُدعى ابن فرعون لجهل النّاس.
سورة الشعراء [26: 19]
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} : أيْ: قتلت ذلك القبطي ففرعون الابن أصبح عالماً بما فعله موسى قبل خروجه إلى مدين.
{الَّتِى فَعَلْتَ} : للتوكيد، فَعْلَتك وجاء بها بصيغة التّعظيم والتّهويل بفتح الفاء، ولم يقل: فِعلتك بكسر الفاء الّتي تدل المرة الواحدة، ومن دون تهويل.
{وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} : أي: الجاحدين المنكرين (الكفر في اللغة هو السّتر) لنعمتنا عليك بالتّربية أو الكافرين بألوهية فرعون أو من الكافرين بقتلك القبطي؛ لأنّه ما كان يحل لك قتله فأصبحت من الكافرين.
سورة الشّعراء الآيات [20 - 39]
سورة الشعراء [26: 20]
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} :
{قَالَ} : موسى لفرعون.
{فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} : فعلتها إذاً؛ إذاً: حرف جزاء وجواب، والأصل في الجملة إذا فعلتها أنا من الضالين، والسؤال: لماذا تأخرت إذاً عن الفعل (فعلتها)؟ لكي تدل على سرعة الإقرار بما فعل، وقوة توكله على الله سبحانه، وعدم خوفه من فرعون وأنه أخطأ، ولم يقل: فعلتها وأنا من الكافرين، نفى موسى عن نفسه الكفر بكلّ أنواعه.
الضّالين: عن الصواب، أو المخطئين: أيْ: قتل بغير تعمُّد. النّاسين فالضلال هنا يعني النسيان والجاهلين: (من الجهل بعواقب الأمور)، أيْ: لم أظن أنّ الوكز سيقتله، وألبس نفسه صفة الضّلال وليس الضّلال في الدّين وإنما الخطأ وعدم الحذر. وموسى عليه السلام قتل القبطي قبل النبوة، وربما كان لا يدري جزاء عقوبة القتل.
سورة الشعراء [26: 21]
{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْمًا وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ} :
{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ} : الفرار هو: الهرب المصحوب بالخوف والذّعر، ومن دون اللجوء إلى التستر كالفرار من أرض المعركة، أما الهروب: فقد يسبقه تفكير وتخطيط ومحاولة التستر كالهروب من السّجن.
{لَمَّا} ظرفية زمانية بمعنى حين.
{خِفْتُكُمْ} : من الخوف، خفت على نفسي من القتل بعد أن قتلت القبطي خطأً.
{فَوَهَبَ لِى رَبِّى} : الفاء للتوكيد والمباشرة، فوهب أو الهبة عطاء تفضل من الله سبحانه، وليس عطاء استحقاق، وليس خاضعاً لقانون أو أسباب حتّى ولو توافرت الأسباب في ذاتها قد تكون هبة مالاً أو غير مال، وتشمل النّبوة والعلم والولد وغيرها
…
{حُكْمًا} : النّبوة أو العلم والفقه في الدّين وأحكام التّوراة.
{وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ} : من أنبيائه المرسلين. جمع مرسل، أيْ: من الأنبياء والرّسل.
سورة الشعراء [26: 22]
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} : تلك: اسم إشارة واللام للبعد تشير إلى النّعمة الّتي ربيتني وليداً، وذكر بعض المفسرين أنّ هناك همزة استفهام محذوفة تفيد الإقرار والإنكار، وتقديرها: أتلك نعمة تمنها علي بالتربية وأنت قد استعبدت بني إسرائيل قومي وذبحت أبناءَهم واستحييت نساءَهم.
{أَنْ عَبَّدْتَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : أنْ مصدرية تفيد التّعليل، عبدت بني إسرائيل: اتخذتم عبيداً فأيُّ نعمة تلك أو أتلك نعمة.
سورة الشعراء [26: 23]
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} :
يسأل فرعون موسى بعد أن قال موسى وهارون إنا رسول رب العالمين.
{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} : ما: ولم يقل ومن رب العالمين، ما: تستعمل لغير العاقل، وتستعمل لصفات العقلاء، وتأتي للاستفهام الحقيقي، والتفخيم والتعظيم الّذي قلت: إنّك رسوله، ما حقيقته.
سورة الشعراء [26: 24]
{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} :
{قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : قال موسى: خالق ومالك وحاكم السّموات والأرض وما بينهما.
ارجع إلى سورة الفرقان آية (59) للبيان.
{إِنْ كُنْتُمْ} : تفيد الشّك أو الاحتمال.
{مُوقِنِينَ} : جمع موقن، واليقين: هو العلم بالحق أي: العلم الثابت الّذي لا يتغيَّر أيْ: ليس هناك غيره، أيْ: إن كنتم ترجون الهداية وتعلمون الحق فعليكم أن تؤمنوا بربِّ (أيْ: بخالق) السّموات والأرض وما بينهما وتعبدوه وتوحِّدوه.
سورة الشعراء [26: 25]
{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} :
قال فرعون لمن حوله: ألا أداة حضٍّ وحثٍّ جاءت بمعنى الاستنكار والتعجُّب، أيْ: ألا تعجبون من قول موسى أن هناك رباً هو رب السّموات الأرض وما بينهما، فسارع موسى إلى شرح وبيان من رب السّموات والأرض وما بينهما. وأُريد بهذا الاستفهام المنفي بـ (ألا) إثارة نفوسهم أيضاً، ونفي الاستماع لما قاله موسى عليه السلام رغم أنهم سمعوه؛ أي: لا تستمعوا إليه.
سورة الشعراء [26: 26]
{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} :
قال موسى: ربكم ورب آبائكم الأولين: أي: خالقكم وخالق آبائكم الأولين أو ربكم ورب آبائكم الأولين، رب الأمم والأقوام الخالية الّتي جاءت قبلكم، وهذا تخصيص أو ذكر الخاص بعد ذكر العام (عطف الخاص على العام) العام رب السّموات والأرض وما بينهما، والخاص ربكم ورب آبائكم الأولين.
سورة الشعراء [26: 27]
{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} :
لم يعد عند فرعون حُجَّة يجادل بها موسى وشَعَر بأنّه خسر الجدال أو استاء من موسى فاتَّهم موسى بالجنون.
{قَالَ} : فرعون لمن حوله.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ} : يبدو أنّ فرعون أخطأ بهذه اللفظة أو أنطقه الله بالحق، فقال: رسولكم، أي: اعترف فرعون بموسى بكونه رسولاً. أو قال ذلك سخرية من موسى بأنه رسول مجنون.
{لَمَجْنُونٌ} : اللام لام التّوكيد، مجنون: مخبول، فقد عقله. أيْ: لا يعلم أو يدرك ما يقوله.
سورة الشعراء [26: 28]
{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} :
{قَالَ} : قال موسى محاولاً للمرة الثالثة أن يهدي فرعون أو يصف له من هو رب العالمين.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : رب المشرق والمغرب أيْ: خالق المشرق والمغرب، وهذا يدل على كروية الأرض، ويأتي بالشّمس من المشرق ويجعلها تغيب، ولكل بقعة على الأرض لها مشرق ولها مغرب، وفي سورة الرحمن آية (17) قال تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} .
وفي سورة المعارج آية (40) قال تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} .
ارجع إلى سورة الرحمن للبيان.
{إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} : جاء بها رداً على قول فرعون إنّه لمجنون، أيْ: أنا لست مجنوناً. إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الشّك.
{إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} : من عقل الشّيء عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه: أيْ: لو فكرتم لأدركتم الحقيقة أن لله سبحانه هو الإله الحق واجب الوجود الّذي يستحق، ويجب أن يُعبد ويطاع وليس فرعونَ.
سورة الشعراء [26: 29]
{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} :
لم يعد فرعون قادراً على تحدِّي موسى بأي قول أو حُجَّة فلجأ إلى التهديد واستعمال القوة بالقهر والتّعذيب، فهدَّد موسى بالسّجن والعذاب، فقال فرعون:
{لَئِنِ} : اللام لام التّوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال.
{اتَّخَذْتَ} : يا موسى إلهاً غيري أيْ: عبدت أو دعوت إلهاً غيري.
{لَأَجْعَلَنَّكَ} : اللام لام التّأكيد، والنّون في أجعلنك لزيادة التّوكيد.
{مِنَ الْمَسْجُونِينَ} : من ابتدائية، المسجونين: جمع سجين أيْ: تلقى في السّجن، والسّجن: هو الحبس.
سورة الشعراء [26: 30]
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍ مُبِينٍ} :
{قَالَ} : موسى لفرعون.
{أَوَلَوْ} : الهمزة همزة استفهام وتعجب، لو شرطية، والواو للتوكيد.
{جِئْتُكَ} : أيْ: أتسجنني أو تلقي بي في السّجن إذا جئتك.
{بِشَىْءٍ مُبِينٍ} : أيْ: دليل أو آية أو حُجَّة أو برهان على صدق دعواي أنّي رسول من رب العالمين والباء للإلصاق، والشّيء هو أقل القليل وشيء هنا نكرة للتهويل. والشّيء كل ما يُعلم ويخبر عنه سواء كان حسياً أو معنوياً.
بشيء مبين: واضح لكلّ فرد، ولا يحتاج إلى من يبينه أو يوضِّحه فهو بيِّن بذاته على صدق ما أقول..
سورة الشعراء [26: 31]
{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :
استجاب فرعون لطلب موسى بإرادة الله تعالى ليقيم عليه الحُجَّة فقد كان باستطاعة فرعون الرّفض وإلقاء القبض على موسى وإلقائه في السّجن مباشرة وانتهت القصة.
{فَأْتِ بِهِ} : أحضره. قال فرعون لموسى: أحضر ذلك الشّيء.
{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك أيْ: إنّك قادر على ذلك، من الصّادقين: أيْ: أظنك من الكاذبين أو أشك أنّك صادق.
سورة الشعراء [26: 32]
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} :
{فَأَلْقَى عَصَاهُ} : الفاء للتعقيب، ألقى طرح عصاه على الأرض.
{فَإِذَا} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، إذا الفجائية.
{هِىَ} : للتوكيد.
{ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : الثّعبان هو ذكر الحيات، حية عظيمة ضخمة مخيفة، مبين: ظاهر للعيان، وليس من نوع السّحر وملامحه وشكله لا تدعو إلى الشّك أنّه ثعبان مُرعب، وجاء ذكر الثعبان مرتين في القرآن وكلاهما أمام فرعون، ولم يأتي ذكر جان مع فرعون أو ملئه ربما لأن حركات الحية وهي تهتز كالجان ليست مخيفة أو مثيرة كما هي الحال في الثعبان المبين، ولم يقل: كأنها جان (حية سريعة الحركة والخفاء)، ولا حية تسعى؛ ارجع إلى الآية (107) من سورة الأعراف لمزيد من البيان، ومعرفة الفرق بين الحية والثّعبان والجان؛ كان هذا الموقف قبل المجيء بالسحرة يوم الزينة وأمام فرعون، ولم يذكر الخوف أو يعقب كما في سورة طه آية (20)، والقصص آية (31)، والنمل آية (10).
سورة الشعراء [26: 33]
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} :
{وَنَزَعَ يَدَهُ} : أخرج يده بقوة وسرعة من جيبه فإذا هي بيضاء تشع من غير سوء، أيْ: أدخل يده في جيبه، ثمّ أخرجها ولم يُبن أنّه أدخلها؛ لأنّه مفهوم من السّياق فكيف يخرجها من دون إدخال.
{فَإِذَا} : الفاء للمباشرة، إذا فجائية.
{بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} : أيْ: بيضاء من غير سوء ليس فيها مرضاً أو عيباً كالبرص وغيره من الأمراض الجلدية تبرق كالبرق لها شعاع كشعاع الشّمس.
سورة الشعراء [26: 34]
{قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} :
{قَالَ} : فرعون.
{لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} : الملأ هم أشراف القوم وسادتهم وممثلوهم والملأ مشتقة من كونهم يملؤون عيون النّاس أيْ: من كثرة رؤية النّاس لهم أصبحوا كأنّهم يملؤون عيون النّاس فسُمُّوا بالملأ. وفي الزّمن الحاضر هم ممثلو الشّعب ومن يختارهم الشّعب للبرلمان أو مجلس الشّعب. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24) لمعرفة الفرق بين الملأُ والملأِ.
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب يشير إلى موسى.
{لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} : اللام للتوكيد، ساحر: اتُّهم موسى بالسّحر، وفي الآية (27) بالمجنون، ساحر: أيْ: يأتي بالسّحر لأوّل مرة، عليم: صيغة مبالغة عليم في صنع السّحر أو علم السّحر، وفي سورة الأعراف آية (109){قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ولم يذكر اسم فرعون؛ لأن الملأ هم أتباع فرعون.
وفي الآية (37) من سورة الشّعراء قال: سحار عليم، سحار: صيغة مبالغة لساحر، أيْ: من أصبحت حرفته ومهنته السّحر يأتي بالسّحر بكل فنونه وفي كلّ مرة وأصبح يُعلم السّحر لغيره.
سورة الشعراء [26: 35]
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} :
قال فرعون مهيجاً الملأ حوله ومثيراً لهم ضد موسى ويتهم موسى أنّه يريد السّيطرة والاستيلاء على أرضهم وطرد أهلها منها بواسطة سحره.
{بِسِحْرِهِ} : الباء للإلصاق، باء السّببية أيْ: بسبب سحره، واتهموا موسى بالسحر؛ لأنه جاء بأمر خارق للعادة، أو قد أثر في أنفسهم، وفي سورة الأعراف آية (110):{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} حذف كلمة سحره؛ لأن هذا كلام الملأ من قوم فرعون، وأما كلام فرعون فقد قال بسحره ليحرضهم ضد موسى، وقد قال فرعون في سورة طه آية (57):{أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى} .
{فَمَاذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، ماذا استفهامية أشد استفهاماً من (ما).
{تَأْمُرُونَ} : فعله أو ماذا نفعل، وهل هذا إله الّذي لا يعرف ماذا يفعل، ويستثير النّاس ويسألهم ماذا تأمرون، ويخاف من ساحر أن يخرج قومه من أرضهم.
سورة الشعراء [26: 36]
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} :
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} : أخِّر أمر موسى وهارون، من الإرجاء: وهو التّأخير، انتظر قليلاً.
{وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} : من البعث هو الإرسال بتحريض وإثارة والبعث هو أشد من الإرسال، ابعث رسلك أو جنودك إلى المدن المختلفة، حاشرين: من الحشر هو السّوق والجمع، أيْ: يجمعوا ويسوقوا إليك كلّ ساحر، وفي سورة الأعراف الآية (111) قالوا: أرسل في المدائن حاشرين، بدلاً من ابعث ولمعرفة الفرق بين البعث والإرسال. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة.
وكيف نفسر ذلك: قسم من الملأ قالوا: ابعث. وقسم قالوا: أرسل. ولا تعارض بين الآيتين.
سورة الشعراء [26: 37]
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} :
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ} : يأتوك: يُحضروا إليك، بكلّ: الباء للتوكيد، كلّ سحار: أيْ: لا يتركوا أحد من السّحار إلا أتو به، وسحار وليس ساحر، السّحار: الخبير بعلم السّحر والسّحر حرفته أو قادر على أن يُعلم السّحر لغيره، فهم يطلبون إحضار السّحار العظام لعلهم يُطمئِنوا قلب فرعون فهم يريدون له النّصر على موسى، وكلمة سحار تناسب كلمة ابعث، وأما أرسل جاءت في سياق الملأ من قوم فرعون، وناسبها {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 112].
سورة الشعراء [26: 38]
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} :
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ} : جيء بالسّحرة للاجتماع الموعود في يوم الموعود (المحدد) الّذي اختاره موسى وهو يوم الزّينة وفي وقت الضّحى، وفي مكان سوى يستطيع الوصول إليه كل النّاس.
وورد ذلك في سورة طه الآية (59): {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} .
{لِمِيقَاتِ} : الميقات يقصد به الزّمان والمكان، لميقات: اللام لام التّوقيت لدخول الزّمن أو لام الانتهاء. ومن المفسرين من قال اللام لام التعليل؛ أي: لأجل ذلك اليوم، والدلالة على عظمته، ولم يقل {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} كما ورد في سورة الواقعة آية (50) إلى تدل عموم الغايات.
سورة الشعراء [26: 39]
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} :
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ} : أيْ: أخذ فرعون وجنوده وملؤه يحثون النّاس ويدعوهم للحضور والاجتماع ومشاهدة عمل السّحرة، وما سيحدث لموسى، ولمن ستكون الغلبة.
{هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} : هل استفهام، أنتم: للتوكيد، مجتمعون: أيْ: يجب حضوركم جميعاً والالتقاء معاً. والاجتماع في المكان المحدد.
مجتمعون: جمع مجتمع، ومجتمعون: تعني في مكان واحد أو تحت سقف واحد.
سورة الشّعراء الآيات: [40 - 60]
سورة الشعراء [26: 40]
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} :
{لَعَلَّنَا} : لعلَّ للتعليل أو لكي.
{نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} : نتبع سحرة فرعون أيْ: ننظر كيف يتغلب سحرة فرعون على موسى أو نتبع السّحرة على طريقتهم أو ملتهم إن كانوا هم الغالبين ولا نتبع موسى وأخاه على ما جاؤوا به.
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والشّك.
{كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} : هم للتوكيد، الغالبين: أيْ: كان النّاس يشكون في تغلب السّحرة على موسى أو غير واثقين بالسّحرة.
سورة الشعراء [26: 41]
{فَلَمَّا} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، لما: ظرف زماني بمعنى حين متضمن معنى الشّرط.
{جَاءَ السَّحَرَةُ} : من دون تأخير لدعوة فرعون وملئه لهم.
{قَالُوا لِفِرْعَوْنَ} : قال السّحرة لفرعون قبل الشّروع في السّحر.
{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} : الهمزة همزة استفهام، لنا لأجراً: اللام للتوكيد، أيْ: هم غير واثقين أنّ لهم أجراً.
{إِنْ كُنَّا} : شرطية تفيد الاحتمال أو الشّك.
{نَحْنُ} : تفيد الحصر والتّوكيد.
{الْغَالِبِينَ} : يسألون فرعون: ألنا أجراً؛ لأنّهم كانوا لا يأخذون على السّحر أجراً أو كانوا يأخذوا شيئاً قليلاً، أيْ: أَئِنَّ لنا جائزة إن كنا نحن الغالبين.
لا بُدَّ من مقارنة هذه الآية {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} وقولهم في الآية (113) من سورة الأعراف: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} : إنّ لنا لأجراً في الأعراف فيها حتمية أيْ: (واثقين) حتماً إنّ لنا أجراً فهي غير استفهامية، أَئِنَّ لنا لأجراً في الشّعراء تدل على الشّك والظّن وهي استفهامية.
قسم من السّحرة قال: أَئِنَّ لنا لأجراً وقسم آخر قال: إن لنا لأجراً....
سورة الشعراء [26: 42]
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} :
{قَالَ نَعَمْ} : قال فرعون: نعم لكم أجراً.
{وَإِنَّكُمْ} : تدل على التّوكيد.
{إِذًا} : حرف جواب وجزاء، أي: ما بعدها مشروط حصوله بحصول ما قبلها، أي: لكي تكونوا من المقربين يجب أن تغلبوا وتدل على قوة الوعد وتوكيده.
{لَمِنَ} : اللام للتوكيد، ولم يقل: إنّكم من المقربين، بل أكَّد لهم؛ مما يدل على حرص فرعون على التّغلب على موسى وقهره، وكأنه يقول: اغلبوه ولكم ما تريدون، ويريد أن يشجعهم ويغريهم لكي لا يدَّخروا وُسعاً في هذه المعركة مع موسى.
سورة الشعراء [26: 43]
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ} :
في سورة الأعراف الآية (115){قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِىَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} .
وفي سورة طه الآية (65){قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِىَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} .
وفي سورة الشّعراء الآية (43){قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ} .
من قراءة هذه الآيات معاً تبدو أنّ رغبة السّحرة في أن يلقي موسى عصاه أولاً وهم يريدون أن يلقوا بعد ذلك، وبعد أن بدت الحيرة والتردُّد بينهم، وحين سألوا موسى ألهمه الله سبحانه أن يقول لهم: ألقوا أنتم أولاً حتّى تلقفْ عصاه ما يؤفكون، وهذا ما حدث ألقوا أولاً، ثمّ ألقى موسى بعد ذلك.
سورة الشعراء [26: 44]
{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} :
{فَأَلْقَوْا} : الفاء تدل على المباشرة، ألقوا: طرحوا على الأرض.
{حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} : أدوات سحرهم حبال مطلية بالزّئبق أو العصي المحشوة بالزّئبق (داخلها الزّئبق) فحين تقع عليه أشعة الشّمس ترى الأعين الحبال والعصي أنها تتحرك وتملأ السّاحة.
وعند إلقائها {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} الباء باء القسم أقسموا بعزة فرعون أي: قوته الّتي لا تُقهر ولا تُغلب، وهي عزة كاذبة باطلة عزة بالإثم وهي عزة تقهر وتغلب وكان ذلك ظنهم الخاطئ، ولربما أخذتهم العزةُ بالإثم، حين قالوا ذلك.
{إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} : إنا للتوكيد، واللام لزيادة التّوكيد، الغالبون: أيْ: على موسى. يحاولون بثَّ روح الشّجاعة في أنفسهم.
سورة الشعراء [26: 45]
{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} :
{فَأَلْقَى} : الفاء للترتيب والتّعقيب، والمباشرة، ألقى: طرح موسى عصاه الّتي كانت في يمينه، وكانت عصا ليست من جنس العُصي، قال في هذه الآية: فألقى عصاه، وفي طه قال: ألق ما في يمينك (ولم يذكر ما هي).
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، وإذا ظرف زماني للفجاءة.
{هِىَ تَلْقَفُ} : العصا تحوَّلت إلى حية حقيقة راحت تبتلع كل ما ألقاه سحرة فرعون وجاءت تلقفُ بالضّم الّتي تدل على اللقف كان يحدث آنذاك وتلقف تعني: تبتلع وتلتهم بسرعة وبقوة، وقد تأتي تلقفْ بالسّكون الّتي تدل على أن الأمر لم يقع بعد، وإنما سيقع في المستقبل.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الذي وهي أوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية.
{يَأْفِكُونَ} : من الإفك وهو الكذب وقلب الحقائق والسّحر هو كذب وقلب للحقائق. ارجع إلى سورة طه آية (58) لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 46]
{فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} :
أي: خرُّوا لله ساجدين حين رأوا ما جاء به موسى ليس سحراً، بل حقيقة وأنّهم على باطل، خرُّوا على وجوههم سجداً لله قبل أن يعلنوا إسلامهم وإيمانهم، وبعد أن خرُّوا أعلنوا إيمانهم.
والأمر الطّبيعي أن يعلنوا إيمانهم أولاً، ثمّ يخروا سجداً لله وهم فعلوا العكس من شدة دهشتهم وتأثرهم بما حدث، حيث وصل نور الإيمان إلى قلوبهم قبل أن يصل إلى ألسنتهم.
سورة الشعراء [26: 47]
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :
ارجع إلى الآية (121) سورة الأعراف للبيان.
سورة الشعراء [26: 48]
قدَّم موسى على هارون؛ لأنّهم قالوا سابقاً: آمنا برب العالمين {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ارجع إلى الآية (122) سورة الأعراف للمقارنة.
سورة الشعراء [26: 49]
المناسبة: لما رأى فرعون تغلب موسى على السّحرة لجأ مرة أخرى إلى التّهديد والوعيد وإلى عزته الكاذبة الخاطئة.
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ} : أيْ: صدقتم بموسى واللام في له لام الاختصاص ويعني: الاتباع أي: اتبعتم موسى، بينما لو قال: آمنتم به، أيْ: إيمان اعتقاد، فالضمير يرجع إلى رب العالمين، وهناك من قال يرجع إلى موسى عليه السلام ؛ لأن الإيمان بموسى عليه السلام يعني إيمان بالله تعالى؛ أي: إيمان بالله.
{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} : أن: تعني المستقبل وتفيد التّعليل، حيث كان يظن في نفسه أنّه هو الحاكم المطاع ولا أحد يستطيع أن يفعل أي شيء من دون إذنه.
{آذَنَ لَكُمْ} : أي: اسمح لكم.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} : إنّه للتوكيد، واللام في كلمة لكبيركم لزيادة التّوكيد، وكبيركم أي: موسى الّذي علمكم السّحر أي: فعلتم ذلك بالتواطؤ مع موسى مع العلم أنّ موسى عليه السلام لم يجلس مع أو يرى ساحراً.
{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : الفاء للترتيب والمباشرة سوف ترون مباشرة ما سأفعل بكم، واللام في كلمة لسوف لزيادة التّوكيد، وسوف هنا لا تدل على التّرتيب والتّراخي، وإنما تفيد التّوكيد، أي: الأمر كائن لا محالة تفيد في زيادة التّهديد والوعيد، وتستعمل في سياق القتل والانتقام فهي تدل على الموت والهلاك.
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ} : اللام للتوكيد والنّون لزيادة التّوكيد في لأقطعن، أي: قطع اليد اليمنى والرّجل اليسرى أو قطع اليد اليسرى والرّجل اليمنى، وهذا من أشد وأسوأ فنون التّعذيب الّتي ابتدعها فرعون، والموتُ أفضل من ذلك.
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} : واللام والنّون للتوكيد، الصّلب بعد القطع والتّعذيب، أجمعين: تفيد التّوكيد. ارجع إلى الآية (124) من سورة الأعراف لمعرفة الفرق بين هذه الآية وآية الأعراف: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} .
سورة الشعراء [26: 50]
{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} :
{قَالُوا} : أي: السّحرة بعد أن سمعوا تهديد ووعيد فرعون لهم بالقطع والصّلب.
{لَا ضَيْرَ} : لا: النافية للجنس؛ أي: لا ضير علينا.. أو لا ضرر علينا، أو لا نبالي إن قتلتنا أو قطعتنا أو صلبتنا، ضير: مصدر لفعل ضاره أو أضر به الأمر.
{إِنَّا} : للتوكيد.
{إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} : منقلبون: من الانقلاب وهو الرّجوع، ولكن ليس إلى الحالة الّتي كانوا عليها من قبل، وإنما إلى مصير جديد مختلف فهم انقلبوا مؤمنين، وكانوا قبل مجيئهم كفرة، وقالوا:{إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} في سورة الأعراف آية (125)، ولكن في الشعراء أضافوا لا ضير؛ لأن الوعيد والتهديد كان أشد في الشعراء فقالوا لا ضير، وفي سورة الزخرف آية (14){وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} هذا دعاء السفر.
ارجع إلى سورة التّوبة آية (95) لمعرفة الفرق بين الرجوع والانقلاب.
سورة الشعراء [26: 51]
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} :
{إِنَّا نَطْمَعُ} : إنا للتوكيد، نطمع: الطمع: الأمل الّذي يمكن حصوله وربما بسهولة بينما الأمل يستعمل في الأمر المستبعد حصوله، وأمّا الرّجاء فهو بين الأمل والطّمع. الرّاجي يخاف أن لا يحصل مأموله.
{أَنْ} : مصدرية تعليلية.
{يَغْفِرَ لَنَا} : الغفر هو السّتر ومحو الذّنب والإثابة على العمل الصّالح.
{خَطَايَانَا} : ذنوبنا وسيئاتنا.
{أَنْ كُنَّا} : أن تعليلية.
{أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: أوّل المؤمنين من قومنا أو أوّل المؤمنين بموسى.
سورة الشعراء [26: 52]
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} :
{وَأَوْحَيْنَا} : من الوحي والوحي لغة: هو إعلام بخفاء، وشرعاً: إعلام من الله تعالى إلى رسول من رسله بمنهج أو خبر أو تكليف. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.
{إِلَى مُوسَى أَنْ} : أن: مصدرية تعليلية.
{أَسْرِ بِعِبَادِى} : الإسراء هو السّير ليلاً، وتعني في المستقبل (فيها متسع من الوقت). مقارنة بقوله تعالى:{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا} أي: تعني في تلك الليلة المحددة. ارجع إلى سورة الدخان آية (23) للبيان.
عبادي: أي: الّذين آمنوا من بني إسرائيل وهناك فرق بين عبيد وعبادي وعباد. ارجع إلى سورة البقرة آية (186) وسورة الفرقان آية (63) للبيان.
{إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} : إنّكم للتوكيد، متبعون: أي: سيتبعكم فرعون وجنوده، قيل: كان خروجهم من مصر بعد (430) سنة، وقيل: كان عددهم حوالي (600، 000) ستمئة ألف، كما قال السيوطي في الدر المنثور، وابن جرير، ولنعلم أن ليس كل بني إسرائيل خرجوا مع موسى فهناك من بقي مثل العاملين في قصور فرعون والخدم والحرس وغيرهم ممن أرادوا البقاء.
سورة الشعراء [26: 53]
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} :
{فَأَرْسَلَ} : الفاء للمباشرة أي: حين علم فرعون بنية موسى للخروج، ببني إسرائيل من أرض مصر.
أرسل {فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ} : جمع مدينة وهي أعظم من القرية.
{حَاشِرِينَ} : أي: لا تتركوا بني إسرائيل يخرجوا من ديارهم أو يهاجروا، أو للحثِّ على التّطوع للتصدي لبني إسرائيل حين خروجهم ومنعهم من الخروج حيث كان عدد بني إسرائيل يزيد على (600. 000) فلا بُدَّ من حشر (جمع) أكبر عدد من الجنود لمقاومة المهاجرين.
سورة الشعراء [26: 54]
{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} :
{إِنَّ} إنّ واللام في كلمة لشرذمة تفيدان التوكيد.
{هَؤُلَاءِ} : الهاء للتنبيه أولاء، تعني: بني إسرائيل وتفيد التّحقير.
{لَشِرْذِمَةٌ} : شرذمة: عصابة أو طائفة، جماعة مشتقة من ثوب شراذم، أي: ثوب تقطع وبلي، عصابة بالية هالكة.
ولو نظرنا إلى ترتيب الجماعات من القلة إلى الكثرة فهي كما يلي: نفر، رهط، شرذمة، قبيلة، عُصبة، طائفة، ثلة، فوج، فرقة، حزب، زمرة، جيل كما جاء في فقه اللغة للثعالبي.
{قَلِيلُونَ} : العدد مقارنة بعدد جنده، أو يريد أن يقلل من شأنهم ويقوي عزيمة جنده، ويبثَّ فيهم الشجاعة للتصدِّي لهم.
سورة الشعراء [26: 55]
: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} :
{وَإِنَّهُمْ} : إن واللام في لغائظون تفيدان التّوكيد.
{لَنَا} : اللام لام الاختصاص لنا خاصة.
{لَغَائِظُونَ} جمع غائظ: اسم فاعل من غاظ، والغيظ: هو الغم أو الهيجان الّذي فيه غضب وحقد كامن في نفس العاجز عن الانتقام أو التّشفي. وقيل: هاجر عدد من بني إسرائيل إلى أرض فلسطين قبل خروج موسى من مصر، وكان هؤلاء مصدر إزعاج لفرعون وجنوده.
غائظون: جملة اسمية تفيد الثّبوت، أيْ: غائظون لنا دائماً وباستمرار.
ارجع إلى سورة التّوبة آية (15) لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 56]
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} :
{وَإِنَّا} إنا واللام في لجميع تفيدان التّوكيد.
{حَاذِرُونَ} : جمع حاذر: اسم فاعل من فعل حذر. في حالة استعداد للتصدي لهم إذا خرجوا من دون أمرنا أو حذرون من دون ألف، والحذر: التّيقظ والاستعداد، والتأهب، وقيل: حاذرون: أولي أو أصحاب أسلحة، وقيل: الحَاذر: المستعد والحذر: المتيقظ.
سورة الشعراء [26: 57]
{فَأَخْرَجْنَاهُم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :
أيْ: لم ينفعهم حذرهم واستعدادهم.
{فَأَخْرَجْنَاهُم} : الفاء تدل على المباشرة، أخرجناهم: أيْ: فرعون وملأه وجنوده.
{مِنْ جَنَّاتٍ} : بساتين وحدائق على جانبي النّيل.
{وَعُيُونٍ} : أنهار وينابيع الماء.
سورة الشعراء [26: 58]
{وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} :
{وَكُنُوزٍ} : جمع كنوز والكنز ما يدفن تحت الأرض أو التراب من ذهب أو فضة أو المال واللؤلؤ وغيرها. أيْ: كنوز الذّهب والفضة وغيرها الّتي يخفونها تحت الأرض.
{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} : المنازل والقصور الواسعة ورغد العيش والتّرف.
سورة الشعراء [26: 59]
{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :
{كَذَلِكَ} : أيْ: مثل ذلك.
{وَأَوْرَثْنَاهَا} : أيْ: مثل ما أورثنا آل فرعون، أورثنا بني إسرائيل جنات وعيون وكنوز ومقام كريم أيْ: من الخيرات، والأموال والعقار والمساكن، كيف أورثها الله سبحانه بني إسرائيل؟ هناك عدة تفسيرات هي:
أولاً: من تبقى من بني إسرائيل في مصر (ليس كل بني إسرائيل خرجوا مع موسى) بعد خروج فرعون وملأه وجنوده للحاق بموسى وبني إسرائيل ورث من تبقى من بني إسرائيل فرعون وملئه وجنوده بعد أن أغرقوا.
ثانياً: هناك من قال: إن بني إسرائيل عادوا إلى مصر في زمن سليمان وورثوا الديار والكنوز والمقام الكريم، وفي سورة الدخان آية (28) قال تعالى:{وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} ؛ أي: بني إسرائيل، ولكن حذف ذكر بني إسرائيل، وقال: قوماً آخرين؛ لأنه سبحانه ذكر بني إسرائيل في الآية (30) من سورة الدخان فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} .
سورة الشعراء [26: 60]
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} :
{فَأَتْبَعُوهُم} : الفاء للمباشرة والتعقيب، أتبعوهم: أيْ: لحقوا بهم، أيْ: فأتبع فرعون وجنوده بني إسرائيل حين خرجوا من مصر.
{مُّشْرِقِينَ} : وقت شروق الشّمس، أيْ: حين طلعت.
سورة الشّعراء الآيات [61 - 83]
سورة الشعراء [26: 61]
{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} :
{فَلَمَّا} : ظرف زماني بمعنى حين متضمن معنى الشّرط.
{تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} : الجمعان: جمع بني إسرائيل وجمع فرعون رأى بعضهما بعضاً وهذا يدل على تقاربهما في المكان.
{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} : من بني إسرائيل.
{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} : إنا واللام في لمدركون للتوكيد، مدركون: لأنّهم شعروا أنّ البحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم، فلا منفذ ولا مهرب فأصابهم الذّعر والهلع.
مدركون: جمع مُدرك من أدرك، أيْ: لحق به، وكان ذلك عند شروق الشّمس.
سورة الشعراء [26: 62]
{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} :
{قَالَ} : موسى.
{كَلَّا} : كلا لن يدركونا، ولن يلحقوا بنا.
{إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} : لماذا لم يقل إن معنا ربنا وقال: {إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} خص نفسه بالمعية فقط دون غيره من بني إسرائيل؛ لأن نجاتهم وهم في هذه الحالة من الغرق ومن الهلاك على يدي فرعون وجنوده لا يتم أو يحصل إلا بمعجزة خارقة لا تقع إلا على يدي رسول، وإنه كليم الله تعالى؛ إنّ معي ربي بالرعاية والحفظ والهداية، أو لكونهم أتباعه فهو يمثلهم وهم يمثلوه؛ أي: هو منهم، وقد يكون حذف الياء من سيهدين؛ لأن الهداية لا تخص موسى وحده (أي: النجاة ومجاوزة البحر) بل تعني: وهو ومن معه من بني اسرائيل فهي شاملة، ولو قال سيهديني؛ أي: هداية خاصة به وحده؛ أي: ينجو هو وربما لا ينجو غيره.
سيهدين: أيْ: يدلني على طريق النّجاة والسّين للاستقبال القريب قريباً حالاً سيهدين.
سورة الشعراء [26: 63]
{فَأَوْحَيْنَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، أيْ: أوحينا بسرعة إلى موسى بعد أن قال: إنّ معي ربي سيهدين، فأوحينا. ارجع إلى الآية (163) من سورة النّساء لبيان معنى أوحينا والوحي هو إعلام بخفاء أيْ: أمرناه.
{أَنِ} : تفسيرية أو مصدرية تفيد التّعليل.
{اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} : فضرب. فانفلق: انحصر الماء على الجانبين، أي: انشق البحر حتّى بدا قاع البحر يابساً، فكان كلّ فرق كل جزء كلّ جانب كالطّود: أي: الجبل العظيم؛ أي: الطود أعظم من الجبل، والطور: أقل من الجبل طولاً وارتفاعاً، وكأن الماء تجمَّد، ولم يبيِّن الله سبحانه إلى كم فلقة انفلق: ومن المفسرين من يقول: إنّه انفلق اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط بحيث يعبر كلّ سبط من طريق للسرعة، وبعد عبورهم البحر ووصولهم إلى الجانب الآخر.
أراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى طبيعته كي يسد الطّريق في وجه فرعون وجنوده، فنهاه الله سبحانه عن ذلك بقوله:{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدّخان: 24]، كي يحاول فرعون وجنوده العبور وعندها يُطبق البحر عليه وعلى جنوده.
ارجع إلى سورة الدخان آية (24) لبيان التفصيل.
سورة الشعراء [26: 64]
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} :
{وَأَزْلَفْنَا} : من الزّلف: وهو القربة يقال: أزلفه أيْ: قربه وأزلفنا: أيْ: قربنا.
ثَم: بفتح الثاء وليس بضم الثاء (ثُم): ثَم اسم يشار به إلى المكان البعيد وتعني: هنالك في ذلك المكان، وأما ثُم: بضم الثاء فهي المستعملة دائماً وتشير إلى التّرتيب والتّراخي في الزّمن أو التباين في الصفات وغيرها
…
{الْآخَرِينَ} : فرعون وجنوده؛ أي: وقرَّبنا فرعون وجنوده من موسى وقومه حتّى دخلوا على إثرهم مداخلهم في البحر ظانين أنّهم أصبحوا قاب قوسين من موسى وقومه.
سورة الشعراء [26: 65]
{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} :
{وَأَنجَيْنَا} : ولم يقل: ونجينا، أنجينا تعني بسرعة وبقدرة عظيمة لا يقدر عليها إلا الواحد القهار، ولم يدم طويلاً وقت النجاة، ولو قال: ونجينا: لكان يعني وقت النّجاة دام زمناً طويلاً.
{وَمَنْ مَعَهُ} : ومن: اسم موصول تعني الواحد أو الاثنين أو أكثر، ومن معه: تعني القلة مقارنة بالقول والذين معه التي تعني الكثرة.
معه: أيْ: ومن معه من بني إسرائيل.
{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد.
أيْ: كلّ من كان مع موسى ولم يغرق منهم أحد أو يهلك منهم أحد في عملية النّجاة.
سورة الشعراء [26: 66]
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} :
{ثُمَّ} : لا تدل على التّراخي، وإنما على تباين ما حدث لموسى وبني إسرائيل من النّجاة من الغرق وما حدث لفرعون وجنوده ولم ينجُ أحدٌ.
{أَغْرَقْنَا} : فرعون وجنوده.
إذن هناك ثلاث خطوات تمت: الإزلاف، ثمَّ نجاة موسى ومن معه، ثمَّ إغراق فرعونَ وجنودِه.
{الْآخَرِينَ} : ذكرها مرتين للتوكيد (وتعني: فرعون وجنوده).
سورة الشعراء [26: 67]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : للتوكيد، في ظرفية، ذلك اسم إشارة واللام للبعد تشير إلى نجاة موسى ومن معه وإغراق فرعون وجنوده.
{لَآيَةً} : اللام للتوكيد، آية: معجزة خارقة للعادة وعبرة تدل على عظمة الله تعالى وقدرته ووحدانيته وتوجب الإيمان به، وتدل على صدق رسالة موسى عليه السلام ؛ لأية: لموسى ولقومه ولكل مؤمن ومن يقرأ كتاب الله تعالى.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} : ما النّافية، كان أكثر قوم فرعون مؤمنين، وأمّا الأقلية أمثال امرأة فرعون والمؤمن من آل فرعون وغيرهم فقد آمنوا، ولذلك قال تعالى:{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} ولم يقل: وما كانوا مؤمنين؛ أي: الكل، وإنما أكثرهم، وأكثر تعني: العدد الكبير منهم، وهذا يدل على عدل الله تعالى وقسطه.
سورة الشعراء [26: 68]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة للبيان.
سورة الشعراء [26: 69]
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} :
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} : أي: اقرأ على قومك يا محمّد نبأ إبراهيم (الخبر الهام العظيم) الّذي فعله إبراهيم عليه السلام في قومه.
وما يلفت الانتباه جاء بذكر إبراهيم عليه السلام بعد ذكر موسى عليه السلام مع أنّ إبراهيم سبق موسى في التّرتيب الزّمني، فالمسألة ليست مسألة زمن فقط وإنما حكمة وعبرة، فموسى أرسل إلى فرعون الطّاغية الّذي قال للملأ: أنا ربكم الأعلى، وهذا قمة الكفر والشّرك، وإبراهيم أرسل إلى قوم يعبدون الأصنام فهؤلاء أقل سفاهة وضلالاً وجهلاً من قوم فرعون، فهؤلاء كانوا يظنون أنّ هذه الأصنام تقربهم عند الله زلفى أو تشفع لهم بينما قوم فرعون يعبدون الآلهة ويعبدون فرعون نفسه، فلذلك كان نبأ موسى أهم من نبأ إبراهيم بالنّسبة للدعوة إلى التّوحيد والتّحدي.
سورة الشعراء [26: 70]
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} :
{إِذْ} : ظرفية للمضي بمعنى حين قال لأبيه.
{لِأَبِيهِ} : آزر. وقيل: آزر: هو تارح فقد قيل: إن لوالد إبراهيم عليه السلام اسمين تارح وآزر، كما روى الطبري في جامع البيان مثل إسرائيل هو يعقوب، وقال كثير من المفسرين: إن أبا إبراهيم اسمه بالسريانية تارح، وبغير السريانية اسمه آزر. وأبيه قيل: كان عمّه. ارجع إلى الآية (74) من سورة الأنعام للبيان المفصل، لأبيه: اللام لام الاختصاص، وقدم أبيه على قومه؛ لأنّ الأب أو العم هم أقرب النّاس إليه والدّعوة عادة تبدأ بالأقرب فالأقرب.
{وَقَوْمِهِ} : رجال ونساء. وقيل: القوم هم الرجال فقط.
{مَا} : أداة استفهام للسؤال عن ذات غير العاقل، وقد تستعمل لصفات العقلاء وللسؤال عن حقيقة الشّيء وعادة يبدأ الاستفهام بـ ما، ثمّ يتطور إلى ماذا، وماذا تستعمل للاستفهام عن الأمور الّتي هي أشد استفهاماً وإنكاراً أو توبيخاً من (ما) فهي أبلغ وأوكد في الاستفهام من ما، كما ورد في سورة الصافات آية (85) وهي قوله تعالى:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} فهو عليه السلام يعلم ما يعبدون، وهذا ليس استفهاماً حقيقياً، وإنما هو استفهام إنكاري للتوبيخ يدل على ذلك ما جاء في الآية (86) من سورة الصافات، وهي قوله تعالى:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} .
{تَعْبُدُونَ} : إبراهيم عليه السلام يعلم ما يعبدون فهو يريد أن يظهر لهم بطلان عبادتهم، ويعبدون من العبادة: وهي طاعة العابد للمعبود فيما أمر به أو نهى عنه، وجاء بصيغة المضارع للدلالة على التّجدد والاستمرار لعبادتهم تلك الأصنام.
ارجع إلى سورة النحل آية (73)، وسورة الأنبياء آية (106) لمزيد من البيان في معنى العبادة.
سورة الشعراء [26: 71]
{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} :
{قَالُوا} : نعبد أصناماً جواباً للسؤال السابق في الآية (70) ما تعبدون، وكان يكفي القول قالوا أصناماً وقولهم نعبد يدل على توكيد عبادتهم والافتخار بها.
{قَالُوا} : أيْ: قوم إبراهيم عليه السلام.
{نَعْبُدُ} : العبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر به أو نهى عنه.
{أَصْنَامًا} : الأصنام هي تماثيل تجسد كائناً حياً سواء كان إنساناً أو حيواناً تصنع من الحجارة أو الخشب أو الذهب أو الحديد ـ وقيل: الصنم هو ما كان له جسم أو صورة يُعبد من دون الله، ومن النّاحية الشرعية لا فرق بين الصنم والوثن. والوثن أعم من الصنم فكل صنم وثن.
ارجع إلى سورة العنكبوت آية (17) لمزيد من لبيان.
{فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} : قائمين على عبادتها ليلاً ونهاراً، عاكفين: من عكف: وعكف على الشّيء أقبل عليه مُواظباً، والاعتكاف فيه معنى الاحتباس، وبدأ إبراهيم عليه السلام يجادلهم ويحاول إظهار بطلان عبادتهم لها.
سورة الشعراء [26: 72]
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} :
{قَالَ} : إبراهيم عليه السلام.
{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} : هل استفهام إنكاري وتوبيخ، أقوى من الهمزة في الاستفهام، كما لو قال: أيسمعونكم. والنّون في يسمعونكم للتوكيد ولم يقل يسمعوكم.
{إِذْ} : ظرف زماني بمعنى حين.
{تَدْعُونَ} : أيْ: حين تعبدونها أو تدعونها: تطلبون منها النّفع والعون.
سورة الشعراء [26: 73]
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} :
{أَوْ} : للتقسيم أو التّخيير.
{يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} : هل ينفعونكم إن عبدتموهم أو يضرونكم إذا كفرتم بها ولم تعبدوها، والنّون في ينفعونكم أو يضرون للتوكيد على عدم النّفع وعدم الضّر، والجواب واضح لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون فهي حجارة أو ما شابه، ولذلك أجابوا على سؤاله بجواب آخر يلقون فيه الذّنب على آبائهم وأنّهم يقلدون آباءَهم.
وانتبه: إلى قوله: ينفعونكم أو يضرون ولم يقل: ينفعوكم أو يضرونكم، فقد أطلق الضّر وخص النّفع، فقال: ينفعونكم أنتم، أو يضرون، أيْ: أنتم أو غيركم أو مهما كان، أيْ: لا يضرونكم ولا يضرون عدوكم، فلماذا تعبدونها، فالإنسان يخشى الضّر على نفسه، ولكنه يريد الضّر لعدوه، ولذلك أطلق كلمة الضّر.
سورة الشعراء [26: 74]
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} :
{قَالُوا بَلْ} : بل للإضراب الانتقالي، وجدنا آباءنا.
{كَذَلِكَ} : أيْ: مثل ذلك يفعلون.
{يَفْعَلُونَ} : ولم يقل: يعملون؛ لأنّ يفعلون تخص العاقل وغير العاقل، أمّا يعملون فهي تخص العاقل فقط؛ كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].
(العمل يخص ذوي العقول..)، إذن هم لم يفكروا أو يعقلوا ونسبوا الأمر إلى آبائهم فالمسألة مسألة فساد في العقل والعقيدة معاً. وهذا يذكرنا بقول قريش حين قالوا:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
سورة الشعراء [26: 75]
{قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} :
{قَالَ} : إبراهيم لقومه.
{أَفَرَءَيْتُم} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ، والفاء للتوكيد، رأيتم رؤية قلبية فكرية، أيْ: أخبروني عن حال ما تعبدون.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي وتشير إلى غير العاقل، أي: الأصنام.
{كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} : كنتم تعني هنا: وجدتم (في الماضي وما زلتم) تعبدون.
سورة الشعراء [26: 76]
{أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} :
{أَنتُمْ} : للتوكيد.
{وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} : أيْ: أجدادكم الغابرون؛ لأن الجد في القرآن قد تعني الأب؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (133) للبيان.
سورة الشعراء [26: 77]
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} :
{فَإِنَّهُمْ} : الفاء للتوكيد، أيْ: ما تعبدون من الآلهة كلها عدوٌّ لي.
{عَدُوٌّ لِّى} : انتبه إلى قوله: فإنّهم (بصيغة الجمع) وعدوٌّ لي (بصيغة المفرد) ولم يقل: أعداء لي؛ لأنّ عداوتهم أو (عداوة كلَّ الآلهة) تمثل عداوة واحدة هي الشّرك بالله. فلذلك قال: عدو لي.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{رَبَّ الْعَالَمِينَ} : أي: الخالق والمدبر والرازق والحاكم.
العالمين: جمع عالم، ومنها عالم الإنس والجن والملائكة، وباقي العوالم ومنها النبات والحيوان والجماد.
سورة الشعراء [26: 78]
{الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم يعود إلى الرب، ونلاحظ جاءت كلمة الرب في سياق الهداية؛ لأنه سبحانه هو الهادي والمربي والمرشد، وفي سياق العبادة نلاحظ مجيء اسم الله سبحانه بدلاً من الرب.
{خَلَقَنِى} : من نطفة، ثمّ من علقة، ثمّ من مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، أو خلقني من طين، والخلق من العدم أو من شيء أو بعض الشّيء، والخلق يعني التّقدير.
{فَهُوَ} : الفاء للتوكيد، هو: يدل على الحصر والتّوكيد.
{يَهْدِينِ} : إلى الدّين أو كلّ ما يُصلح لي دنياي وآخرتي أو خير الدّنيا والآخرة وإلى النّجاة من النّار. والفوز بالجنة.
انتبه إلى قوله: الّذي خلقني: ولم يقل: الّذي هو خلقني؛ لأنّ عملية الخلق لا يشاركه فيها أحد الكلّ يعلم أنّ الخالق هو الله حتّى الكافر {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25]، فلا حاجة لاستعمال هو، أمّا في مسألة الهداية فقد يشارك فيها آخرون، ولكي يبيِّن أنّ الله وحده هو الهادي لا غيره استعمل هو.
كذلك استعمل هو في الآيتين (79) و (80) ولم يستعمل هو في الآية (81) وهي قوله تعالى: {وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} .
فقال إبراهيم:
سورة الشعراء [26: 79]
{وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} :
جاء بضمير الفصل (هو) للحصر والتوكيد؛ لأن الإطعام والسقي والشفاء قد يشارك بها الإنسان؛ أي: أن الله هو وحده الشافي والمطعم والساقي.
وقال إبراهيم:
سورة الشعراء [26: 80]
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} :
استعمل في هذه الآيات الثّلاث: ضمير الفصل هو ليدل على التّوكيد والحصر، أنه هو سبحانه وحده الهادي والمطعم والشّافي، واستعمل هو حتّى لا يظن أحد أنّه الهادي أو المطعم أو الشّافي؛ لأنّ هناك من قد يدَّعي القدرة على الإطعام والهداية والشّفاء.
وقال إبراهيم:
سورة الشعراء [26: 81]
{وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} :
لم يأت بضمير الفصل (هو) في هذه الآية؛ لأنّه سبحانه وحده الّذي يحيي ويميت، ولا يشاركه أحد في هذه الخاصة أو يدعي أنّه يحيي ويميت، وفي هذه الآية عطف الإحياء (يحيين) على الموت (يميتني) بحرف ثمّ الّتي تدل على التّراخي في الزّمن، بينما في الآية (80) عطف الشفاء (يشفين) على المرض (مرضت) باستعمال الفاء الّتي تدل على المباشرة والسرعة؛ لأن الشّفاء يعقب المرض بلا زمان فاصل. بينما الآية (79) عطف الإسقاء (يسقين) على الإطعام (يطعمني) باستعمال الواو الّتي هي لمطلق الجمع وتقديم الطّعام على الشراب جائز.
وانتبه إلى قوله: وإذا مرضت فهو يشفين: نسب إبراهيم المرض إلى نفسه تأدباً مع الله سبحانه رغم أنّ الله سبحانه هو الّذي يُمرض ويشفي والحقيقة أنّ كثيراً من الأمراض بسبب التّفريط في الطّعام والشّراب وعدم الوقاية واتباع الوصايا الصّحية لمنع انتشار العدوى، واستعمل إذا الشّرطية الّتي تدل على حتمية الحدوث وبكثرة.
وزيادة الياء في يميتني تدل أو تفيد التخصص (الموت ينتهي بالبعث) والإمامة: تكون من فعل الله تعالى ومن فعل غيره بينما يحين بحذف الياء تدل على فعل الله وحده – لا يشاركه أحد فيه وفيه معنى الاستمرار.
سورة الشعراء [26: 82]
{وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} :
{وَالَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم لله تعالى.
{أَطْمَعُ} : الطمع: الأمل الممكن حصوله.
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.
{يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} : خطيئتي: هو صغائر الذنوب يوم الحساب، يغفر لي خطيئتي: يسترها ويمحوها. انظر كيف جاءت خمس آيات تعدد بعض نعم الله تعالى الآية (78، 79، 80، 81، 82)، ثلاثة منها جاء فيها الضمير (هو) للتوكيد والحصر، وأما الآية (78)، والآية (82) لم يذكر فيها ضمير الفصل (هو)؛ لأن الموت والحياة والغفران خاصة بالله وحده.
وهذا هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الرّحمن يدعو ويقول: أطمع وهذا هو أدب الأنبياء، فمهما قدَّم الإنسان من الأعمال الصّالحة فهو دون ما يستحق الله من العبادة، وإذا قيل: ما نوع الخطيئة الّتي يتحدَّث عنها إبراهيم عليه السلام فهناك من قال: إنّها حين أخطأ وقال لقوله: إنّي سقيم أو حين قال: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله أنّ سارة أخته وليست زوجته، والله أعلم. هذا ما قاله مجاهد، وروى البخاري عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» .
سورة الشعراء [26: 83]
{رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} :
{رَبِّ} : نداء يدل على القرب، حذف ياء النّداء الّتي تدل على البعد.
{هَبْ لِى} : الهبة عطاء من دون مقابل، لمن يستحق أو لا يستحق.
وكأنّه يقول: هب لي ربي فأنا لا أستحق ذلك. ارجع إلى الآية (21) من نفس السّورة لبيان معنى الهبة.
{حُكْمًا} : قيل: النّبوة أو المعرفة بأحكام الله تعالى وحدوده وشرعه.
{وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} : الباء للإلصاق، الصّالحين: وهذا مظهر آخر من مظاهر تواضع إبراهيم الأوّل قال: أطمع والثّاني ألحقني بالصّالحين أيْ: بالقدوة الصّالحة من الأنبياء والرّسل وفقني للأعمال الصّالحة حتّى أكون في زمرة الصّالحين.
مع العلم أن خليل الرّحمن من أولي العزم من الرّسل، وانظر كيف استوهب ربه الحكم أولاً، ثمّ طلب الإلحاق بالصّالحين؛ لأن الحكم كما قلنا العلم بالأحكام والفقه في الدِّين والعلم بالحق مقدَّم على العمل حتّى يكون العمل الصّالح وفقاً أو حسب المنهج الرباني، والعلم مقدَّم على الصلاح.
سورة الشّعراء الآيات [84 - 111]
سورة الشعراء [26: 84]
{وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الْآخِرِينَ} :
{وَاجْعَل لِّى} : الجعل: التّصيير، لي: اللام لام الاختصاص والاستحقاق لي خاصة.
{لِسَانَ صِدْقٍ} : اللسان سبب الذّكر، فاللسان مجاز عن الذّكر، أي: اجعل لي ذكراً مقبولاً حسناً جميلاً ـ أو ثناء أو سمعة حسنة.
في ظرفية، الآخرين: الأجيال القادمة الّتي تأتي من بعد.
مثال على ذلك حين نقول في التشهد الأخير: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
ويجب أن نميز بين قوله تعالى: {فِى الْآخِرِينَ} ، كما في هذه الآية بكسر الخاء، وقوله تعالى:{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} كما في الآية (66) من نفس السورة. الآخِرين: بكسر الخاء الذين يأتون بعدهم بزمن طويل بعد أجيال، وأما الآخَرين: بفتح الخاء الذين يعاصروهم أو يعيشوا معهم.
سورة الشعراء [26: 85]
{وَاجْعَلْنِى مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} :
{مِنْ} : ابتدائية.
{وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} : الجنة تُورث أو تُدخل بفضل من الله تعالى ورحمته، والعمل والطّاعة والتّقوى لتؤهل العبد لنيل هذه الرّحمة. ارجع إلى سورة يونس آية (9)، وسورة الزخرف آية (71-72) للبيان.
سورة الشعراء [26: 86]
{وَاغْفِرْ لِأَبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} :
لأبي: أيْ: عمي وهو الأرجح. ويعني: آزر، وهناك من المفسرين من قال هو اسم والده. ارجع إلى الآية (70) من نفس السورة، والآية (74) من سورة الأنعام للبيان المفصل.
دعا هذا قبل أن يتبيَّن له أنّه عدو لله، وبعد أن تبين له ذلك تبرأ منه.
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} : إنّه للتوكيد، كان من الضّالين: أي: المشركين؛ لأنّه كان يعبد الأصنام أو التماثيل.
سورة الشعراء [26: 87]
{وَلَا تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} :
{وَلَا تُخْزِنِى} : لا النّافية، تخزني: أيْ: لا تفضحني ولا تذلني يوم البعث لما حدث مني من تقصير أو خطأ.
سورة الشعراء [26: 88]
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} :
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ} : يوم القيامة يوم الحساب لا ينفع المال للدفع كفدية من العذاب ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ومثله معه.
{وَلَا بَنُونَ} : ولا ينفع المرء أولاده: للشفاعة له ولا دفع العذاب عنه، أو إعطائه حسنة واحدة، أو تحمل سيئة عنه.
وتكرار لا يفيد توكيد النّفي ونفي كل واحدة لا هذه ولا تلك ولا كلاهما.
وقدم المال على البنين: لأن الكل يملك المال؛ أي: قدم الأعم على الأقل.
سورة الشعراء [26: 89]
{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} :
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَنْ} : ابتدائية.
{أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} : أيْ: خال من الشّرك والنّفاق والشّك، بقلب الباء للإلصاق والملازمة.
في هذه الآية من سورة الشّعراء قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وفي الآية (84) من سورة الصّافات قال تعالى: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الفرق بينهما بكلمة أتى وجاء، وجاء تعني المجيء بمشقة وصعوبة وتعني الوصول، أتى تعني القدوم بسهولة ولم يصل إلى المكان المرجو بعد.
فهو استعمل أتى؛ لأنّ الآية تتحدث عن المستقبل، أتى في المستقبل فلا زال في الأمر متسع، بينما استعمل جاء؛ لأنّ الآية تتحدث عن إلقاء إبراهيم في النّار والموت جاء الآن؛ لأنّه ظن أنه سيموت بعد إلقائه، فالموقف أشد وأصعب في سورة الصّافات.
سورة الشعراء [26: 90]
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} :
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} : أزلفت قربت وأدنيت بحيث يرونها وهم في الموقف، تقرب منهم قبل أن يدخلوها ليطمئنوا بها ويُهوِّن عليهم من شدة الموقف ويفرحوا بها وأنها سهلة الوصول، وفي آية أخرى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] في هذه الآية أزلفت الجنة أي: الجنة تأتيهم وتقرب منهم أكثر فأكثر، وفي سورة الزّمر الآية (73) {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أيْ: هؤلاء يساقون إلى الجنة بعد أن يروها، وحين يصلوا إليها يجدوا أبوابها قد فتحت لهم ترحيباً.
في سورة الشّعراء: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أيْ: تقرب إليهم.
في سورة ق: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أيْ: تقرب إليهم أكثر فأكثر.
وفي سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} يساقون إليها ليدخلوها زمراً زمراً.
سورة الشعراء [26: 91]
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} :
بعد ذكر الجنة يذكر الجحيم، وهذا يسمى فن المقابلة في بديع اللغة.
البروز: هو الظهور.
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} : جعلت الجحيم بارزة ظاهرة للغاوين والجحيم اسم من أسماء النّار من جحم جحوماً؛ أي: أشعل النار إشعالاً؛ أي: التّأجيج فلا تخمد أبداً، والتي لا يمكن السيطرة عليها. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) للبيان المفصل في النار وأسمائها ودرجاتها.
{لِلْغَاوِينَ} : اللام لام الاختصاص، الغاوين: جمع غاوٍ؛ أيْ: ضال فقد يغوي نفسه، وقد يغوي الآخر. ارجع إلى سورة الحجر الآية (42) للبيان.
سورة الشعراء [26: 92]
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} :
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ} : قيل لهم: اللام لام الاختصاص وتعني: الغاوين.
أين: للاستفهام التّوبيخي والتّبكيت (أين: استفهام مجازي).
{مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} : أين هذه الآلهة أو الأصنام الّتي كنتم تعبدونها في الدّنيا، أين هي لتشفع لكم أو تنفعكم؟
سورة الشعراء [26: 93]
{مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} :
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.
{هَلْ} : للاستفهام والتّبكيت.
{يَنصُرُونَكُمْ} : النّون للتوكيد، هل ينصرونكم من العذاب، أي: يدفعون عنكم أو يمنعونكم من العذاب.
{أَوْ يَنْتَصِرُونَ} : لأنفسهم أو للتقسيم، أي: هم لا يستطيعون نصر أنفسهم فكيف ينصرونكم.
سورة الشعراء [26: 94]
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ} :
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا} : الفاء للتوكيد، الكبكبة: هي الإلقاء على الوجه المرة بعد الأخرى على وزن فعللة الدّالة على التّكرار، أي: كلما قام كب على وجهه مرة أخرى، فيها: في النّار.
{هُمْ وَالْغَاوُنَ} : هم والغاوون، أي: الّذين أغووهم وأضلوهم، أي: التّابعون والرّؤساء (المتبوعين) أو الأصنام وعبادها، الغاوون. ارجع إلى سورة الحجر الآية (42) يدخلوها معاً حتّى لا يظن كلا الطّرفين أنّ أحدهما أفضل من الآخر أو يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر.
سورة الشعراء [26: 95]
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} :
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} : كفرة الجن والإنس، أتباع إبليس كبكبوا فيها أيضاً.
{أَجْمَعُونَ} : للتوكيد.
سورة الشعراء [26: 96]
{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} :
أيْ: {الضُّعَفَاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر: 47]، أو {الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166]، أو {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39]، فالله سبحانه يجعل الأصنام تنطق وتكلم عبدتها أو الكفرة يتخاصمون مع بعضهم بعضاً.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يَخْتَصِمُونَ} : الخصام: هو الجدال بشدة والمعاداة.
كما سنرى في الآيات التالية يحاول كل طرف أن يتهم الطرف الآخر بكونه السبب فيما يحدث له من العذاب. وفي سورة غافر آية (47) قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ} والحجاج يحدث أولاً أو يحدث قبل الخصام.
سورة الشعراء [26: 97]
{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
{تَاللَّهِ} : تاء القسم وهي أقوى أدوات القسم.
{إِنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{كُنَّا} : في الدّنيا.
{لَفِى} : اللام للتوكيد، في ظرفية، الدّنيا.
{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : ابتعاد عن المنهج والصراط المستقيم ونسيان وظلمات الجهل، مبين: ضلال واضح وبيِّن لكلّ فرد، وضلال واضح بين لا يحتاج إلى دليل أو برهان أو حُجَّة؛ فهم يحلفون بالله ويعجبون من كونهم كانوا منغمسين في الضلال، ووصفوه بالمبين ويعترفون بضلالهم.
سورة الشعراء [26: 98]
{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{إِذْ} : ظرفية.
{نُسَوِّيكُمْ} : من التّسوية نجعلكم سواء برب العالمين سبحانه في العبادة والطّاعة والحب والصدقات والدعاء.
{بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : الباء للإلصاق، أي: نعبدكم كما نعبد رب العالمين رب الملائكة والثّقلين الجن والإنس.
سورة الشعراء [26: 99]
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} :
{وَمَا} : النّافية.
{أَضَلَّنَا} : أبعدنا عن طريق الحق والصّواب والهداية (الصراط المستقيم).
{إِلَّا} : أداة حصر.
{الْمُجْرِمُونَ} : المشركون: دعاة الشّرك والظّلم أو الكفرة. والمجرمون: المذنبون، والجرم: أصله القطع، والمجرم: من قطع كل الصِّلات مع الله تعالى.
المجرمون: جملة اسمية تدل على الثّبوت، أي: الإجرام أصبح صفة ثابتة عندهم. ارجع إلى سورة الأنفال آية (8) لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 100]
{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} :
{فَمَا لَنَا} : الفاء للتوكيد، ما النّافية.
{شَافِعِينَ} : جاءت بصيغة الجمع، وتدل على كثرة الشافعين من الإنس والأنبياء حتى الملائكة، ولكن لا يوجد من يشفع لهم برغم كثرة الشّفعاء، والشّفاعة في الآخرة تتطلب أمرين الإذن من الله تعالى، أي: إلا لمن أذن له والطّلب الثّاني لمن ارتضى؛ أي: للشافع والمشفوع له. ارجع إلى سورة الأنعام آية (51) لمعنى الشفاعة.
سورة الشعراء [26: 101]
{صَدِيقٍ} : جاءت بصيغة المفرد، وكلمة صديق قد تأتي في اللغة للمفرد والمثنى والجمع، وهذه الآية تدل على قلة الأصدقاء أو الصديق، وأصعب من ذلك العثور على الصديق الحميم يستحق أن يضحي من أجلنا أو يشفع لنا أو يدفع عنا العذاب.
حميم: من حم الأمر: أي: حار في صداقته يفدي صديقه بالروح والمال تفوق القريب. والحميم تعني: القريب. أي: صديق ودود من الّذين كنا نظنهم أصدقاء حميمين، جاء بصيغة المفرد لقلة العثور على الأصدقاء هناك، وقدم الشافعين على الصديق الحميم للضرورة والاحتياج أو للكثرة، وإذا كان الصّديق الحميم لا ينفع فما بالك بالصّديق العادي.
سورة الشعراء [26: 102]
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
{فَلَوْ} : الفاء للتوكيد، لو: شرطية بمعنى التّمني.
{أَنَّ} : للتوكيد.
{لَنَا} : اللام لام الاختصاص.
{كَرَّةً} : رجعة أو عودة إلى الدّنيا.
{فَنَكُونَ} : الفاء السّببية.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : من ابتدائية، المؤمنين: وجواب هذا التّمني جاء في سورة الأنعام الآية (28){وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
سورة الشعراء [26: 103]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة، والآية هنا تعني ما حدث لقوم إبراهيم بسبب تكذيبهم إبراهيم واستمرارهم على الشّرك، وما سيحدث لهم من الكبكبة في جهنم ومخاصمة. آية: عبرة لمشركي مكة وغيرهم.
سورة الشعراء [26: 104]
: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة.
سورة الشعراء [26: 105]
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} :
بعد أن ذكر الله طرفاً من قصة موسى وطرفاً من قصة إبراهيم أتبعه بذكر طرفاً من قصة أبي البشر نوح عليه السلام، ثمّ تلاها بذكر طرف من خبر هود وصالح ولوط وشعيب ليبيِّن سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ما حدث للرسل السّابقين من قبله، وما حدث لأقوامهم ليكون عبرة وعظة ودروساً للمؤمنين.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ} : القوم سموا قوماً؛ لأنّهم يقومون بمعظم أو أغلب الأمور وهم الرّجال غالباً، وقال تعالى:{كَذَّبَتْ} بدلاً من كذب قوم نوح المرسلين؛ لأنّ كلمة قوم يمكن أن تذكر أو تؤنث. كذبت: تدل على الكثرة؛ كثرة الأقوام الذين كذبوا رسلهم.
{نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} : هم كذبوا رسولهم نوحاً عليه السلام، ولكن قال المرسلين: قيل: لأنّ الرّسول يمثل الرّسل والرّسل يمثلون الرّسول؛ لأنّ رسالتهم واحدة، إذن جعل الله سبحانه تكذيب رسول واحد كتكذيب جميع الرّسل.
والرّسل يعتبرون رسول واحد؛ لأنّهم جميعاً يدعون إلى نفس المبدأ وهو مبدأ التّوحيد، فقوم نوح لو جاءهم كذلك بعد نوح عيسى ومحمّد عليهم السلام لكذبوهم كما كذبوا نوح عليه السلام، أو قيل: المرسلين: جاء بصيغة الجمع تعظيماً لنوح أو الرّسول، أو مجاز مرسل من قبيل إطلاق الكلّ وإرادة البعض.
سورة الشعراء [26: 106]
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} :
{إِذْ قَالَ لَهُمْ} : إذ ظرف زماني، أي: واذكر إذ قال، أو واذكر حين قال لهم أخوهم نوح.
{أَخُوهُمْ} : أخوهم لأنّه كان من القوم فهم يعرفون أصله ونشأته وليس غريباً عنهم، أو أخوهم في النّسب فالأخوة (3) أنواع: إخوة في الدّين وهي الأقوى، وأخوة في النّسب أو الدّم، وإخوة في القبيلة، أي: واحد منهم.
{نُوحٌ أَلَا} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ على عدم التّقوى والتّعجب، ألا: أداة حثٍّ وتنبيه وحضٍّ، وتحمل معنى الأمر.
{تَتَّقُونَ} : ربكم تأتمروا بأوامره وتجتنبوا نواهيه، هذه الموعظة جاءت على لسان كلّ الرّسل قالها كلّ رسول إلى أمته أوّل ما بُعث أو أرسل إليهم.
سورة الشعراء [26: 107]
{إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} :
{إِنِّى لَكُمْ} : إنّي للتوكيد، لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة.
{رَسُولٌ أَمِينٌ} : رسول من الله، أمين: على إبلاغكم بكل ما أرسلت به إليكم من دون زيادة أو نقصان.
سورة الشعراء [26: 108]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} :
كرَّر أمر التّقوى مرة ثانية بعد أن حثَّهم على التّقوى في الآية (106) فقال: ألا تتقون.
كرَّر التّقوى للتوكيد على أهمية التّقوى، وليدل على طول الزمن في التبليغ أو طول الدعوة، وكرر الآيات (107، 108، 109) خمس مرات مع خمس رسل: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، فكل من هؤلاء الرسل قالوا لأقوامهم:{إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، {وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وهناك فرق بين التّقوى والطّاعة، الطّاعة: الانقياد لمطلوب الشّارع بما أمر به واجباً كان أم مستحباً، والتّقوى كف النّفس عما نهى عنه الشّارع حراماً كان أم مكروهاً، والتقوى: خصلة، أو جزء من الطاعة؛ فالطاعة أعم.
ارجع إلى سورة المائدة آية (2) لمزيد من البيان في معنى التّقوى.
وقدَّم التّقوى على الطّاعة: لأنّها الأصعب فالطّاعة تؤدِّي إلى منع العقوبة. والتّقوى لا تطلق إلا على من يستحق الثّواب (الكليات) اللغات.
{وَأَطِيعُونِ} : ولم يقل: وأطيعوني. أطيعون فقط بما جئتكم به من ربكم. ولا تشمل طاعته الذّاتية، أي: لا يسألهم أن يطيعوه في كل شيء، أما وأطيعوني فتشمل كل أمر صغير وكبير.
سورة الشعراء [26: 109]
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ} : ما النّافية، أسألكم عليه من أجر، من استغراقية تستغرق أيَّ أجر على تبليغ الرَّسالة.
{أَجْرٍ} : الأجر: يكون مقابل العمل والأجر ثواب على عمل ويستعمل في النّفع دون الضّرر.
{إِنْ} : إن: نافية، وإن أقوى في النّفي من ما. أي: ما أجري إلا على الله.
{أَجْرِىَ إِلَّا} : أداة حصر.
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} : رب الملائكة والإنس والجن، رب السّموات ورب الأرض وما بينهما، ومن الجدير بالذّكر أنّ كلّ الرّسل قالوا هذه المقولة، وهي: وما أسألكم عليه من أجر لأقوامهم إلا إبراهيم وموسى؛ لأنّ إبراهيم دعا أباه (آزر أو عمّه) فكيف يطلب من أبيه أو عمه الّذي رباه أجراً وكذلك موسى الّذي رباه فرعون في بيته، فكيف يطلب منه أجراً، وأجره كبير لذلك لا يطلبه إلا من الله تعالى، ومهما دفعوا له فهو قليل.
ارجع إلى سورة الفرقان آية (57) لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 110]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} :
كرَّر الأمر بتقوى الله وطاعته لطول مكثه فيهم (950 سنةً) وعدم استجابتهم له وبدلاً من أن يقولوا: سمعنا وأطعنا قالوا:
سورة الشعراء [26: 111]
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} :
أي: كيف نتبعك أو نصدقك وما نراك إلا بشراً وما نراك اتبعك {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ} [هود: 27].
{قَالُوا} : أي: قوم نوح الكفرة.
{أَنُؤْمِنُ لَكَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، نؤمن لك: أي: نصدقك ولم يقولوا: نؤمن بك هذا هو الإيمان الحقيقي العقائدي. لك: اللام الاختصاص. أنؤمن لك: أي: أنستجيب لك، ولا تعني الإيمان الحقيقي؛ كقوله تعالى على لسان فرعون:{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه: 71].
{وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} : جمع أرذل وهو الرّديء السّيِّئ؛ أي: الفقراء أو الأقل جاهاً ومالاً، وما يؤيد معنى الأرذلون الفقراء بادي الرّأي والّذين لا حرفة لهم ولا عمل، قوله بعد ذلك ما علمي بما يعملون (الآية 112) القادمة.
سورة الشّعراء الآيات [112 - 136]
سورة الشعراء [26: 112]
{قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :
{قَالَ} نوح رداً على قومه: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون.
{وَمَا} : ما النّافية. إضافة الواو للتوكيد بعدم علمه بما كانوا يعملون.
{عِلْمِى بِمَا} : الباء للإلصاق والتّوكيد، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، وأوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية.
{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : يعملون: تضم الأقوال والأفعال، لا أعلم ما يعملون من الحِرف أو الأعمال اليدوية البسيطة البدائية، أو كيف يكسبون لقمة عيشهم أو لا أعلم ما يفعلون في حياتهم أو معيشتهم، لم أكلف إلا تبليغهم بعبادة الله وحده.
سورة الشعراء [26: 113]
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ} :
{إِنْ حِسَابُهُمْ} : إن النّافية بمعنى ما، حسابهم: أي: جزاؤهم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ} : لو شرطية، تشعرون لو عندكم حواس وبصر وبصيرة ما قلتم أنّهم أراذلكم، ولكنكم قوم تجهلون.
سورة الشعراء [26: 114]
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} :
هذا جوابه بالرّفض لطلبهم أن يطرد الّذين آمنوا الّذين وصفوهم بالأراذل وبادي الرّأي طلبوا ذلك لتكبرهم لكي يستمعوا إليه.
سورة الشعراء [26: 115]
{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
{إِنْ} : نافية أقوى نفياً من ما.
{أَنَا} : للتوكيد.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{نَذِيرٌ مُبِينٌ} : من الإنذار: وهو الإعلام والتّحذير والتّخويف، مبين: نذير لكلّ فرد منكم، وإنذاري بين واضح لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى من يوضحه أو يبيِّنه.
وإذا قارنا هذه الآية من سورة الشّعراء: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، مع الآية (9) من سورة الأحقاف {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، نجد أنّ التّوكيد أشد في آية الشّعراء من آية الأحقاف، وذلك لئن آية الشّعراء جاءت في سياق دعوة نوح قومه إلى التّقوى وتوحيد الله تعالى، وفي مرحلة التّحدي بعد أن قالوا له: لئن لم تنتهِ يا نوح لتكوننَّ من المرجومين، وأمّا آية الأحقاف فجاءت في سياق الرّسول صلى الله عليه وسلم ومقام الدّعوة الهادئة، ولم يكن هناك تحدٍّ.
سورة الشعراء [26: 116]
{قَالُوا لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} :
{قَالُوا} : الّذين كفروا.
{لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ} : يا نوح لئن: اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الشّك والاحتمال، تنتهِ: تكف عن دعوتنا لترك آلهتنا وعن دعوتنا لعبادة الله وحده وطاعته.
{لَتَكُونَنَّ} : لتكونن: اللام للتوكيد والنّون لزيادة التّوكيد.
{مِنَ الْمَرْجُومِينَ} : من ابتدائية، المرجومين: الرّجم له معنيان القتل بالرّجم بالحجارة، أو اللعن والسّب والشّتم.
ولم يقولوا: لنرجمنك، أي: لوحدك وإنما من المرجومين، أي: أنت ومن اتبعك، فهذه الآية فيها تهديد لنوح، ومن اتبعه وليس له وحده.
سورة الشعراء [26: 117]
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ} :
{قَالَ رَبِّ إِنَّ} : نوح رب إنّ: تفيد التّوكيد.
{قَوْمِى كَذَّبُونِ} : أصروا واستمروا على تكذيبي ولم يسمعوا قولي أو دعائي، كذبون: أصبحت صفة التّكذيب عندهم ثابتة، قال: كذبون ولم يقل: كذبوني: لم يكذِّبه كلّ فرد هناك من آمن له. وما آمن معه إلا قليل، ولذلك قال: كذبون ولم يقل: كذبوني الّتي تعني الكل كذَّبه. وقوله عليه السلام : إن قومي، ولم يقل: إن القومَ: تدل على مدى عطفه وشفقته على قومه رغم أنهم كذبوه.
سورة الشعراء [26: 118]
{فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِى وَمَنْ مَّعِىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
{فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} : الفاء تدل على التّوكيد، افتح بيني وبينهم فتحاً: الفتح هو الحكم، أي: احكم بيني وبين قومي حكماً يُبيِّن الحق أو اقضِ بيني وبينهم بالحق، والفتح هو النّصر من دون قتال أو سلاح والفتح نوعان: فتح حسي مثل {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ} [يوسف: 65] أو فتح معنوي: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
{فَتْحًا} للتوكيد.
{وَنَجِّنِى وَمَنْ مَّعِىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : من كيدهم مثل الرّجم أو القتل أو المكر.
سورة الشعراء [26: 119]
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} :
{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء تدل على المباشرة بعد أن دعا وقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، أنجيناه: أيْ: بسرعة وقوة، ولم يقل: نجيناه الّتي تدل على بطء النّجاة واستغراقه وقتاً طويلاً.
{وَمَنْ مَعَهُ} : تدل على قلة الّذين نجوا معه، ولو قال: وأنجيناه والّذين معه لدلت على الكثرة.
{فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : في ظرفية، الفلك المشحون: الفلك تطلق على المفرد والجمع، والفلك: السّفن والفلك يجوز فيها التّذكير أو التّأنيث كقول: الفلك المشحون أو فأنجيناه وأصحاب السّفينة، الفلك المشحون: الفلك المملوء بالنّاس والحيوانات، ولم يعد هناك مكانٌ خالٍ، واختلف في عدد الّذين نجوا معه، وقيل: كانوا أقل من (80)، وقيل: لا يتجاوز الثلاثين.
سورة الشعراء [26: 120]
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} :
{ثُمَّ} : لا تدل على التّرتيب والتّراخي، وإنما على تباين المنزلة بين النّاجين والباقين.
{أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} : أغرقنا من بعد نجاة نوح ومن معه، من بقي من قومه، الباقين: الكافرين الّذين لم يركبوا معه في الفلك، الباقين على كفرهم الباقين في مكانهم.
سورة الشعراء [26: 121]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة، الآية هنا نجاة نوح ومن آمن معه وصدقه، وإغراق جميع من بقي من قومه.
{لَآيَةً} : معجزة، تدعو إلى العبرة والتّأمل للوصول إلى الحق وهي قدرة الله سبحانه وعظمته ووحدانيَّته، وأنّه هو الإله الحق واجب الوجود المستحق العبادة، ولكن من سيعتبر بعد غرق الباقين، قيل: هي آية لكلّ الأمم الّتي تأتي من بعدهم وتقرأ قصة نوح.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} : أيْ: قوم نوح، أو مشركو مكة، كان: تستعمل لكلّ الأزمنة.
سورة الشعراء [26: 122]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة.
وهكذا لاحظنا، وسنلاحظ تكرار بعض الآيات في مطلع كلّ قصة من قصص الأنبياء، وفي ختام كلّ قصة فقد يسأل سائل: ما سبب ذلك أو ما فائدته، للإعلام أنّ رسالتهم واحدة وهي ألا تتقون الله أولاً.
وثانياً: تكرار الحث والدّعوة إلى طاعة الله تعالى والمواظبة عليها، وتجنب ما نهى عنه، وتوحيد الإلوهية والرّبوبية، الصّفات والأسماء.
وثالثاً: التأكيد أن من يكذِّب أحدهم فقد كذب الكلّ والواجب هو الإيمان بالرّسل جميعاً.
ورابعاً: أنّ الكلّ أمناء على رسالة الله، ولم يسألْ أحدُهم أجراً على تبليغ الرّسالة.
وخامساً: أنّهم جاؤوا منذرين لأممهم وإن اختلفت رسالاتهم.
وسادساً: التّذكير بنعم الله والتّحذير من مخالفة أوامر الله تعالى، وفي التّكرار وعظ وتذكير وطرق الأذان والقلوب والعقول بها المرة بعد المرة وسماع الآيات نفسها لعلَّ بعض الأنفس تصحو من سباتها وبعض القلوب الغلف تنفجر أو تتصدع أو تهبط من خشية الله تعالى.
ثمّ أخبرنا الله تعالى بالنّتيجة رغم تلك الآيات ما كان أكثرهم مؤمنين، ولا زال ربك هو العزيز الرّحيم سبحانه وتعالى.
سورة الشعراء [26: 123]
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} :
{كَذَّبَتْ عَادٌ} : أيْ: كذبت. ارجع إلى الآية (105) من نفس السورة. قبيلة عاد، وعاد هو في الأصل اسم أبي القبيلة، ويعبر عن اسم القبيلة باسم الأب وأنَّث ولم يقل: كذب عاد المرسلين وقال: كذبت، يقصد بها قبيلة عاد، وكانوا يسكنون الأحقاف قرب حضرموت قرب اليمن في جبال رملية، وكانوا أولي بأس شديد وذوي رخاء ونعيم بسبب كثرة أموالهم، وهم من بقايا قوم نوح لقوله:{إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَص ْطَةً} [الأعراف: 69]. الذين هاجروا من مكة إلى جنوب جزيرة العرب وسكنوا حضرموت.
{الْمُرْسَلِينَ} : بصيغة الجمع بدلاً من المرسل وهو هود. ارجع إلى الآية (105) للبيان.
سورة الشعراء [26: 124]
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} :
{إِذْ} : أي: وذكر أو وذكر حين.
{قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} : أي: أخوهم هود؛ أي: هو واحد منهم ليس غريباً عنهم يعرفونه ويعرفهم أخوهم في القبيلة وقال أخوهم؛ ليرقق قلوبهم ويسمعوا إليه ولا يكذبوه.
ارجع إلى الآية (106) من نفس السّورة لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 127]
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
قالها نوح، وقالها غيره من الأنبياء إلا إبراهيم وموسى. ارجع إلى الآية (109) من نفس السّورة.
هو لا ينفي عدم أخذ الأجر وليس تكبراً ولقلة قيمته، وإنما طمعاً في أن يأخذ أجره من الله، ومهما أعطوه من الأجر فلن يكون كافياً لما يقدمه إليهم من الدعوة إلى الله والهداية وبالتالي النجاة والفوز بالجنة.
سورة الشعراء [26: 128]
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} :
{أَتَبْنُونَ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والإنكار والتّعجب على هذا التّكبر والعلو في الأرض. أتبنون: من البناء أو العمارة والتشييد.
{بِكُلِّ رِيعٍ} : الباء للإلصاق والرّيع هو المكان المرتفع من الأرض، ويعني: ارتفاع البناء، أو الارتفاع في كل شيء؛ أي: أتبنون بكل مكان مرتفع آية، والآية: شيء عجيب.
{آيَةً} : قصور شامخة عالية مشيدة في غاية الإبداع والجمال والاتساع تدل على الفن المعماري، وهذا ما يحدث في عصرنا الحاضر من حيث التقدم والتطور في العمران والمفاخر.
{تَعْبَثُونَ} : من العبث: وهو ما لا فائدة فيه أصلاً في الدنيا ولا في الآخرة، ولا غاية ولا قيمة أو نفع؛ أي: المقاصد التي يبغيها قوم عاد مقاصد غير سامية حيث تشيدون هذه القصور العالية ولا تسكنونها طويلاً، فقط للتفاخر، وتريدون أن تصدوا غيركم عن سبيل الله.
والمباهاة بينكم فهذه الآية: البناء بكلّ ريع تدل على العلو في الأرض واتخاذ المصانع، آية تدل على إرادتهم الخلود والبقاء في الأرض وآية البطش تدل على الظّلم والقوة والغلبة.
سورة الشعراء [26: 129]
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} :
{مَصَانِعَ} : قيل: هي الحصون أو القلاع المنيعة، وقيل: حياض للمياه والبرك والأحواض لتجميع المياه.
{لَعَلَّكُمْ} : لعلَّ للتعليل والكاف للخطاب.
{تَخْلُدُونَ} : راجين أو آملين البقاء أحياءً والخلود والإقامة أعواماً طويلةً على وجه الأرض.
سورة الشعراء [26: 130]
{وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} :
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{بَطَشْتُم} : بالخلق، والبطش: الضّرب أو الأخذ بالعنف والشّدة كما قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12]، وربما القتل وتدل على الغلبة فقد أعطاهم الله القوة في الجسم.
{بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} : بطشتم للتوكيد، جبارين: من دون رحمة أو شفقة، جبارين جمع جبار وهو الّذي يضرب ويقتل بغير حقٍّ أو المتسلط الظّالم، والمتعالي على الآخرين، والظلم كأنهم يمثلون القوة العظمى في ذلك الزمن. وجبارين تعني: لا تلين أو ترق قلوبهم بعد البطش بالآخرين؛ أي: قلوبهم خالية من أي رحمة.
سورة الشعراء [26: 131]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} :
فهذه الأمور الثلاثة: البطش، واتخاذ المصانع، والبناء بكل ريع آية تدل على أنهم يريدون العلو في الأرض والفساد، ولذلك قال لهم: فاتقوا الله كفُّوا عما نهاكم عنه، مثل البطش والتّكبر، وارجعوا إلى خالقكم واعبدوه وحده خير لكم، وكرَّر أمر التّقوى والطّاعة لله وللرسول لأنّهم لم يستجيبوا له.
سورة الشعراء [26: 132]
{وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} :
{وَاتَّقُوا} : أطيعوا الّذي أمدَّكم وانتهوا عما نهى.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{أَمَدَّكُمْ} : من المدِّ، وهو الزّيادة في العطاء، ومن خصوصيات القرآن أن يستعمل الفعل (مدَّ) في سياق الخير و (أمدَّ) في سياق الشر.
{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي.
{تَعْلَمُونَ} : تعرفونه جيداً، ولم يحدد ما أنعم الله عليهم؛ لأنّه لا يُعد ولا يحصى وتركه لهم أن يعدوه ويحصوه، كقوله:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. أمدكم بالصحة والمال والسمع والبصر والشمس والقمر والقوة والغلبة وغيرها، نِعم لا تحصى ولا تُعد.
سورة الشعراء [26: 133]
{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} :
ثمّ بيَّن بعض المدِّ والعطاء.
{بِأَنْعَامٍ} : الباء للإلصاق والملازمة والأنعام ثمانية أزواج من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الغنم اثنين ومن المعز اثنين.
{وَبَنِينَ} : الذّكور كثرة الذّكور.
سورة الشعراء [26: 134]
{وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :
الجنات: أي: البساتين الخضراء والعيون جمع عين، منابع المياه والأنهار.
وعين جمعها أيضاً أعين، أي: الّتي نبصر بها.
سورة الشعراء [26: 135]
{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :
{إِنِّى} : للتأكيد.
{أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : إن كفرتم بالله وأشركتم به وجحدتم نعمه عليكم.
يوم عظيم: هو يوم القيامة، وهكذا استعمل هود أسلوب التّرغيب والتّرهيب ودعاهم إلى الإيمان وترك الشّرك وذكرهم بأنعم الله عليهم.
سورة الشعراء [26: 136]
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} :
{قَالُوا} : الّذين كفروا واستكبروا من قوم عاد، قالوا لهود.
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا} : أيْ: يستوي عندنا وعظك أو عدمه.
{أَوَعَظْتَ} : الهمزة للاستفهام والتّسوية، والوعظ هو النّصح بالطّاعة والعمل والصّلاح والإرشاد إلى الخير بما يلين القلوب ويتضمن التّحذير والأمر والنّهي بأسلوب التّرغيب والتّرهيب والوعظ بالتزام الخير والبعد عن الشّر.
أيْ: سواء وعظت الآن أم لم تعظ أو وعظت في المستقبل أو لم تعظ {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53].
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام. أم (المتصلة) للإضراب الانتقالي.
{لَمْ} : نافية.
{تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} : أم لم تعظنا لا يهمنا، ثمّ بيَّنوا سبب عدم إيمانهم.. إن هذا إلا خلق الأولين. الواعظين: جمع واعظ.
سورة الشّعراء الآيات [137 - 159]
سورة الشعراء [26: 137]
{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} :
{إِنْ} نافية بمعنى ما.
{هَذَا} : اسم إشارة تفيد القرب والهاء للتنبيه.
{إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} : إلا: أداة حصر، خُلق: أيْ: عادتهم وشأنهم هكذا كانوا يعيشون ويعبدون آلهتهم، ويعتقدون ليس هناك بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار، أيْ: ما جاءت به يا هود هو خُلُقُ الأولين، أيْ: عادة من سبقك من الرّسل وما تقوم به ليس أمراً جديداً.
وتفسير ثانٍ: إن هذا الّذي نحن عليه هو خُلُق الأولين، ملة الأجداد ونحن على آثارهم مقتدون، فنحن سنستمر على ذلك، وما نحن لك بمؤمنين.
وتفسير ثالث: لمن قرأ خُلُقُ الأولين: خَلْق الأولين: بمعنى: الاختلاق والكذب؛ أي: ما جئتنا به إلا من اختلاق الأولين وكذبهم.
سورة الشعراء [26: 138]
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} :
ردّاً على قوله: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا ما نحن بمعذبين فليس هناك بعث وحساب وعذاب.
{وَمَا} : النّافية.
{نَحْنُ} : للتوكيد.
{بِمُعَذَّبِينَ} : الباء للإلصاق معذبين في الآخرة. يقولونها بكل توكيد وثقة وكأنهم أعطوا العهد من الله بعدم عذابهم.
سورة الشعراء [26: 139]
{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء للترتيب والتّعقيب للترتيب والتّعقيب، كذبوا هود ولم يؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به.
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ} : الفاء للتّعقيب والمباشرة بسبب تكذيبهم وإعراضهم، وكان إهلاكهم بالرّيح الصّرصر العاتية، كما ورد في سورة الحاقة آية (6 ـ 8).
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً} : إنّ واللام للتوكيد، لآية: لعبرة وموعظة لهؤلاء المكذبين من قريش وغيرهم من النّاس؛ لكي يتوبوا إلى ربهم ويستغفروه، وينجوا من العذاب أليم.
ورغم هذه الآيات {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} وما كان أكثر قوم هود ولا غيرهم مؤمنين.
سورة الشعراء [26: 140]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
{وَإِنَّ} : اللام في لهو للتوكيد.
{رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} : الّذي لا يُغلب ولا يقهر والمنتقم من كل جبار متكبر لا يؤمن بيوم الحساب والممتنع لا يضره أحد من خلقه.
{الرَّحِيمُ} : لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، ثمّ اهتدى، الرّحيم لا يعجل لهم العذاب؛ لعلهم يتوبون ولا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
سورة الشعراء [26: 141]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} :
تتوالى قصص الأولين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعد قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد، تأتي قصة صالح مع قومه ثمود.
{ثَمُودُ} : كانوا عرباً يسكنون مدينة الحجر على طريق مكة بين الشّام والمدينة شمال الحجاز تعرف اليوم بمدائن صالح، وقبيلة ثمود من بقايا قوم عاد الّذين عادوا إلى مكة بعد هلاك الكافرين منهم، ثمّ تكاثروا وهاجروا إلى شمال الحجاز ونبيهم صالح عليه السلام وهو من العرب.
{الْمُرْسَلِينَ} أيْ: نبيهم صالح. ارجع إلى الآية (105) من نفس السّورة للبيان.
سورة الشعراء [26: 142]
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} :
ارجع إلى الآية (106) السّابقة.
سورة الشعراء [26: 145]
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
ارجع إلى الآية (109) السّابقة.
سورة الشعراء [26: 146]
{أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} :
{أَتُتْرَكُونَ} : الهمزة استفهام إنكاري وتوبيخي، أيْ: لا يعقل أن تتركوا إلى الأبد.
{فِى مَا هَاهُنَا} : أيْ: في هذا المكان المليء بالنّعم والخيرات.
{آمِنِينَ} : مطمئنين غير خائفين، من الله سبحانه، وأنتم على شرككم وكفركم وجحدكم للمنعم، ولا تتوبون إليه ولا تستغفرونه ولا تشكرونه.
ثمّ فسر هذا النّعيم بقوله:
سورة الشعراء [26: 147]
{فِى جَنَّاتٍ} : جمع جنة، وشبه مزارعهم بالجنات لكثرة خيراتها وثمارها وأشجارها.
أي: بساتين وحدائق ومنابع المياه والأنهار والآبار التي تسمى العيون، وليس الأعين؛ لأن الأعين: جمع عين، وتعني: الأعين التي نبصر بها، وكذلك عين تجمع على عيون، وتعني: عيون الماء، وهذا يسمَّى تفصيلاً بعد إجمال.
ارجع إلى الآية (134) للبيان.
سورة الشعراء [26: 148]
{وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} :
{طَلْعُهَا هَضِيمٌ} : الطلع: الثمر، هضيم: أيْ: ناضج كالرّطب عذق التّمر والنّخيل من الزّروع وخص النّخيل بالذّكر؛ لأنّه من أهم الثّمار الّتي كانوا يعيشون عليها، ومنهم من فسر طلعها هضيم، يعني: طلع النّخلة ناعم لين.
سورة الشعراء [26: 149]
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} :
{وَتَنْحِتُونَ} : من النّحت أصلها البُراية يقال: نحته، أيْ: براه والنّحت يشبه الحفر.
{مِنَ الْجِبَالِ} : من بعضية، أيْ: من بعض الجبال بيوتاً.
وفي سورة الأعراف الآية (74) قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي: كأنهم ينحتون كل الجبال بيوتاً حين كان النحت على أشده في بداية النّهضة، أو الحركة العمرانية كما قال تعالى:{تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف: 74]، الكل يبني وينحت، ثمّ بعد تلك المرحلة قلَّ النّحت فقال تعالى:{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} ، وحدث تقدم في مجال الزراعة كما قال تعالى:{فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 147-148] وكذلك كنتم {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف: 74]، مما يدل على حالة الازدهار والنمو والتقدم في النواحي الحياتية في بداية حضارتهم التي ما زال آثارها قائماً إلى اليوم.
{بُيُوتًا} : المنازل أو الدّور. ارجع إلى سورة النّور آية (27) للبيان.
{فَارِهِينَ} : بطِرين فرحين بنحتها ومغرورين متكبرين، وفارهين جمع فاره: وهو النشيط الأشر (لسان العرب)، وأصبحت صفة الفَرَهِ ثابتةً لهم، ولا تزال مدائن صالح تشهد لهم بذلك النشاط في البنيان والعمران.
سورة الشعراء [26: 150]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} :
يؤكد ويُعيد تذكيرهم بتقوى الله وطاعته وشكره على تلك النعم. ارجع إلى الآية (108) من نفس السّورة.
سورة الشعراء [26: 151]
{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} :
لا: النّاهية.
المسرف المتجاوز الحدِّ بالظّلم أو ارتكاب المعاصي والكبائر. أمثال التسعة رهط الّذين وصفهم في الآية التالية (152) بالمفسدين.
والإسراف: أن تتجاوز ما أحله الله فتدخل فيه الحرام، أو لا تقف عند حدود الحلال وتتعداها إلى الدخول في حدود الحرام لكي تكسبه، والإسراف يشمل الكسب، أو الإنفاق في الحرام، وكما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
سورة الشعراء [26: 152]
{الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} :
{الَّذِينَ} اسم موصول يفيد الذمَّ.
{يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ} : بالقتل والسّرقة وقطع الطّريق وانتهاك المحارم؛ لكي يأكلوا أموال الناس بالباطل. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لبيان معنى: الفساد.
يفسدون: صيغة المضارع الّتي تدل على تكرار فسادهم واستمراره ولم ينقطع أو يتوقف.
{وَلَا يُصْلِحُونَ} : للتوكيد؛ لأن يفسدون تعني: لا يصلحون. ولا يصلحون: لا يقومون بأي إصلاح، الإصلاح: لغة ضد الفساد والإصلاح يشمل العقيدة التوحيد ونبذ الشّرك وإصلاح السّلوك، والبعد عما حرم الله تعالى، وعدم الإسراف. ولا يصلحون: تدل على تجدد وتكرار هذا الفساد الذي هو دأبهم.
سورة الشعراء [26: 153]
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} :
{قَالُوا} : أي: الّذين كفروا من قومه لصالح.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{أَنْتَ} : للتوكيد والحصر.
{مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} : من ابتدائية، جمع مُسحَّر، وهي صيغة مبالغة تدل على أنك يا صالح سُحرت عدة مرات، وليس مرة واحدة (مسحور) مغلوب على عقلك، ولا يُسمع لقولك ولا يؤبه لنصحك، فمن الأقوام مَنْ وصفوا نبيهم إما هو نفسه ساحر أو مسحور أو من المسحَّرين؛ لكي يصدوا غيرهم من تصديقه والاستجابه له.
سورة الشعراء [26: 154]
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :
{مَا أَنْتَ} : ما النّافية، أنت للتوكيد وحصراً، وإذا قارنا (ما أنت) في قصة صالح، والآية (186) في قصة شعيب وهي قوله:(وما أنت) بزيادة الواو العاطفة نجد (ما أنت) في قصة صالح قد سبقها (إنما أنت من المسحرين) فجاءت (ما أنت) بدل من (إنما أنت من المسحرين)، أما في قصة شعيب الواو عاطفة؛ أي: بالإضافة إلى كونهم وصفوه من المسحرين سألوه بأن يأتي لهم بآية أو معجزة، بينما قوم صالح لم يطلبوا ذلك وكانوا أقل عناداً وعتواً.
{بَشَرٌ مِّثْلُنَا} : فما الّذي جعلك أفضل منا أو أعطاك صفة النّبوة لتكون رسولاً إلينا.
{فَأْتِ بِآيَةٍ} : إن كنت تدَّعي النّبوَّة فائْتِ لنا بآية معجزة تدل على صدق نبوَّتك أو دليل قاطع.
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والشّك، أيْ: نشك أنك من الصادقين.
{كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : الصادقين على صحة نبوَّتك أو الصّادقين بما جئتنا به، أيْ: من المستبعد أن تكون قادراً على الإتيان بآية.
سورة الشعراء [26: 155]
{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} :
وبعد أن سألهم: ما نوع الآية الّتي يريدونها قالوا له أن تخرج لنا من هذه الصّخرة الصّماء ناقة عشراء تمخض، وقبل أن يأتي بها أخذ عليهم العهد ليتقوا الله ويطيعوه.
ثمّ دعا صالح ربه فاستجاب له فتحركت تلك الصّخرة وتصدعت عن تلك الناقة؛ لتكون آية على نبوَّة صالح، وبعد أن شاهدوا ذلك بأم أعينهم طلب منهم أن يتركوها تشرب وترعى في يوم لوحدها، وفي اليوم التّالي يكون لشرب أنعامهم ومواشيهم ولا تشاركهم النّاقة، أيْ: يوم للناقة ويوم لمواشيهم.
{لَهَا شِرْبٌ} : لها نصيب من الماء أو حظ من السّقي.
{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} : فلا تشارك النّاقة في الشرب، وإذا كان يومها شربت من الماء ما تشاء.
سورة الشعراء [26: 156]
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :
{وَلَا} : النّاهية.
{تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} : المس هو أخف حالات اللمس: مجرد اللمس، بسوء: الباء للإلصاق، بأيِّ سوء مهما كان، الباء باء التّعليل، سوء نكرة أيِّ سوء، والسّوء أعم من العقر، ويشمل كل أنواع السّوء.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : فيأخذكم: الفاء: تدل على الترتيب والمباشرة، ويأخذكم من الأخذ؛ أي: بشدة، وعنف، ويعني: العقاب. فيحل عليكم عذاب يوم عظيم إذا اعتديتم عليها أو عقرتموها أو منعتموها، ففي الآية تهديد ووعيد. عذاب يوم عظيم: عظيم قد ترجع إلى اليوم أو إلى العذاب أو كلاهما. وفي الآية (73) من سورة الأعراف قال تعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفي الآية (64) من سورة هود:{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} ؛ نحن نعلم أن العذاب العظيم هو أشد وأفظع من العذاب الأليم، ففي آية الأعراف هددهم بالعذاب الأليم، وكان ذلك في بداية العصيان والتحدي لإيقاع الأذى بالناقة، وفي آية الشعراء هددهم بالعذاب العظيم بعد أن تمادوا بالعصيان والتحدي، وفي آية هود هددهم بالعذاب القريب بعد أن عقروا الناقة.
سورة الشعراء [26: 157]
{فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} :
{فَعَقَرُوهَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، عقروها: من العقر وهو الجرح أو قطع عضو من أعضائها، عقروها: ذبحوها، فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب بصيغة الجمع والّذي عقرها هو قدار بن سالف، كما تشير الروايات، ولكن الّذين اشتركوا في مؤامرة العقر تسعة رهط، كما قال تعالى:{وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
{فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} : حين رأوا العذب وندموا حين لا ينفع الندم ـ فهو ندم الخائفين من العذاب أن يحل بهم ـ وليس ندم التائبين. وأنه قد جاء أمر ربك.
سورة الشعراء [26: 158]
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} : فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} : ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة.
وما كان أكثرهم: أيْ: ما كان أكثر قوم صالح مؤمنين.
سورة الشعراء [26: 159]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة للبيان.
سورة الشّعراء الآيات [160 - 183]
سورة الشعراء [26: 160]
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} :
ارجع إلى الآية (150) من نفس السّورة للبيان.
سورة الشعراء [26: 161]
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} :
ارجع إلى الآية (106) للبيان.
ولوط قيل: هو لوط بن هارون بن آزر، ولوط ابن أخي إبراهيم عليه السلام. واسم لوط باللغة يعني: المصلح.
سورة الشعراء [26: 164]
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ارجع إلى الآية (109) للبيان.
سورة الشعراء [26: 165]
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} :
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} : كناية عن الفاحشة، وهي وطء الرّجال (عمل قوم لوط)، أتأتون: الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والإنكار، وفي سورة الأعراف آية (80) قال تعالى:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} .
الذكران: جمع ذكر؛ أي: الذّكور. والفرق بين الذّكور والذّكران: الذّكران تدل على القلة والذكور تدل على الكثرة والذكران تشمل الشباب والشيوخ والأطفال، كقوله تعالى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49].
{مِنَ الْعَالَمِينَ} : من النّاس، من بني آدم: إذ كانوا يعملون الفاحشة مع الغرباء إذا نزلوا ديارهم بصورة عامة، حيث كانت مسألة أو خصلة انفردوا بها دون العالم كله لم يمارسها في عالمهم أو زمانهم كله إلا هم فقط.
وفي آية أخرى قال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80].
سورة الشعراء [26: 166]
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} :
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} : تتركون فروج نسائكم وترغبون في أدبار الرّجال، لكم: اللام لام الاختصاص.
{مِّنْ أَزْوَاجِكُم} : خلق لكم ربكم من أزواجكم: فيها إبهام مراعاة للأدب الرباني. من فروجهنَّ بالنّكاح الشّرعي. من: للبيان، أو للتبعيض، وفيه إشارة غلى قوله تعالى:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
{بَلْ} : حرف إضراب انتقالي.
{أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} : جمع عادٍ متجاوز حدَّ الحلال إلى حدِّ الحرام بالفاحشة وهي (عمل قوم لوط)، أيْ: قوم تجاوزتم الحدود الشّرعية الفطرية إلى حدود ما حرَّم الله تعالى، عادون: أيْ: أصبحت صيغة التّجاوز ومخالفة شرع الله ثابتة عندكم ومستمرة.
سورة الشعراء [26: 167]
{قَالُوا لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} :
{قَالُوا} : أيْ: قوم لوط.
{لَئِنْ لَّمْ} : لئن: مركبة من اللام وإن، اللام لام التّوكيد، إن الشّرطية تفيد الشّك أو الاحتمال، لم حرف نفي.
{تَنْتَهِ يَالُوطُ} : تكفَّ عن نهينا ووعظنا وتحذيرنا.
{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} : من المطرودين من قريتنا، أنت ومن اتبعك، الكل مطرودون من قريتنا، واللام في لتكونن، والنون: لزيادة التوكيد على طرده من قريتهم. بينما قال قوم نوح لنوح عليه السلام : {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} ، بينما قال قوم لوط للوط عليه السلام :{لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} ؛ لأن لوط عليه السلام هاجر إليهم وليس منهم، وليس له نصير أو عشيرة، وإخراجه أمر سهل بدلاً من قتله.
سورة الشعراء [26: 168]
{قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} :
{قَالَ} : لوط.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{لِعَمَلِكُمْ} : الفاحشة، اللام للتوكيد والاختصاص.
{مِنَ الْقَالِينَ} : جمع القالي اسم فاعل، القلى: أشد البغض مع النفور، القالين: المبغضين أشد البعض، لعَمَلِكم، أيْ: أكرهه وأكره من يعمله، مبالغة في إنكاره عليهم، أيْ: هذا الفعل موجب للبغض الشديد والكره.
سورة الشعراء [26: 169]
{رَبِّ نَجِّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} :
لما رأى لوط إصرار قومه على فعل هذه الفاحشة، لم يجد له مخرجاً إلا اللجوء إلى الله تعالى يطلب منه النّجاة ولأهله.
{مِمَّا يَعْمَلُونَ} : من ابتدائية، ما اسم موصول بمعنى الّذي يعملون أو مصدرية من عملهم الفاحشة والمنكر، يعملون: تضم الأقوال والأفعال.
ويعملون تشير إلى استمرار عملهم الفاحشة، ولم ينقطع.
سورة الشعراء [26: 170]
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} :
{فَنَجَّيْنَاهُ} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، نجيناه: ببطء.
{وَأَهْلَهُ} : ابنتاه.
{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد.
سورة الشعراء [26: 171]
{إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{عَجُوزًا} : أي: امرأته الّتي كانت غير مصدقة لرسالة لوط وراضية عن عمل القوم للفحشاء، وقيل: كانت تنقل الأخبار إلى قوم لوط وتساعدهم.
{فِى الْغَابِرِينَ} : في ظرفية زمانية ومكانية، الغابرين: الباقين في العذاب أو الهالكين، يقال: غبرت في عذاب الله، أيْ: بقيت.
سورة الشعراء [26: 172]
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب الذّكري العددي.
{دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} : من التّدمير يعني: الهلاك التام والإبادة من دون سابق إنذار لهم.
ويشمل الدّمار الكل الصّغير والكبير والذّكر والأنثى والبنيان والشّجر والحيوان وكل شيء، الآخرين: أيْ: من قوم لوط. ارجع إلى سورة الإسراء آية (16) لبيان معنى الدمار.
سورة الشعراء [26: 173]
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} :
بعد أن جعل عاليها سافلها وائتفكت: انقلبت بواسطة جبريل عليه السلام.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} : وأمطرنا: نسب المطر إليه سبحانه للدلالة على هول المطر ولم يسبق له مثيل، ومن خصائص القرآن أن يستعمل كلمة المطر للدلالة على المطر الذي يحمل العذاب والهلاك والدمار والفيضانات، ويستعمل كلمة الغيث التي تدل على الخير والنفع؛ أمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، سجيل طين: متحجِّر. ارجع إلى سورة الحجر آية (74) لبيان المعنى العلمي للمطر.
{مَّطَرًا} : للتوكيد.
{فَسَاءَ} : من أفعال الذّم؛ أي: بئس مشتقة من ساءه الأمر؛ أي: أحزنه.
{مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} : المنذرين بالهلاك والمنذرين اسم للجنس. أي: قوم لوط.
سورة الشعراء [26: 174]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
{إِنَّ} للتوكيد، واللام في لآية للتوكيد، أيْ: ما حدث لقوم لوط آية وعبرة ودلالة على إهلاك وتدمير لكل من يعمل تلك الفاحشة في الدّنيا والعقاب الأشد هو في الآخرة.
سورة الشعراء [26: 175]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة.
سورة الشعراء [26: 176]
{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْـئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} :
{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْـئَيْكَةِ} : وقيل: أصحاب لَيْكَة عباد الأيكة، والأيكة: شجر كثيف ناعم ملتف على نفسه، وقيل: كانوا قرب مدين.
{الْمُرْسَلِينَ} : كذبوا شعيباً. ارجع إلى الآية (105) للبيان.
سورة الشعراء [26: 177]
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ} :
لم يقل: أخوهم شعيباً؛ لأنّ شعيباً لم يكن يعرفهم، وكان غريباً عنهم أرسله الله سبحانه إليهم وإلى مدين من قبل. وحين يذكر قوم مدين يقول: أخاهم شعيباً.
ارجع إلى الآية (106) من نفس السّورة للبيان.
سورة الشعراء [26: 180]
{وَمَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
ارجع إلى الآية (109).
سورة الشعراء [26: 181]
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} :
{أَوْفُوا} : أتموا.
{الْكَيْلَ} : الشّيء الّذي يكال به؛ أي: المكيال والكيل. مثل الطّعام (الحب أو الشّعير أو القمح أو الرز....) وكَالَ: المُعطي. اكتال: الآخذ.
{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} : لا: النّاهية، المخسرين: جمع مخسر من فعل أخسر، تكونوا من المخسرين: أي: المنقصين للكيل حين البيع، والمخسر هو الّذي يكون السّبب أو يتسبب في خسارة الآخر.
ففي هذه الآية أمر بإتمام الكيل، وهذا هو الواجب، ونهى عن التّطفيف:{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ارجع إلى سورة المطففين الآية (1-3).
وأما إذا أراد أن يزيد في الكيل للمشتري تكرماً منه فلا مانع فقد أحسن في فعله.
سورة الشعراء [26: 182]
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} :
وزنوا حوائجكم بالقسطاس: بالميزان المستقيم العادل السّوي؛ أي: بأعدل الموازين. ارجع إلى سورة الإسراء آية (35) لمزيد من البيان.
سورة الشعراء [26: 183]
{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} :
{وَلَا} : لا النّاهية.
{تَبْخَسُوا} : من البخس، النّقص بأيِّ نوع سواء كان بالغصب أو الظلم أو التلاعب والغش أو التسلط أو البغي والطّغيان أو الرّشوة؛ أي: لا تنقصوهم ظلماً، وأما الفرق بين البخس والنقصان؛ النقصان: يكون بالظلم وغير الظلم، وأما البخس: لا يكون إلا بالظلم.
{النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أيْ: حقوقهم أو سلعهم أو موادهم.
{وَلَا} : لا النّاهية تكرارها للتوكيد وفصل البخس عن العثو في الأرض.
{تَعْثَوْا} : من عثا؛ أي: أفسد. العثو: هو أشد الفساد، فهم كانوا متمادين في الفساد في الأرض أي: لا تفسدوا في الأرض كل هذا الفساد، ولا يعني الفساد القليل مسموح به، وإنما انتهوا عن الفساد بكل أشكاله.
{مُفْسِدِينَ} : للتوكيد. قوله تعالى: لا تعثوا: لا تفسدوا في الأرض. مفسدين؛ أي: بقصد أو نية أو بدون قصد أو بنية.
ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان.
سورة الشّعراء الآيات [184 - 206]
سورة الشعراء [26: 184]
{وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} :
{وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ} : أطيعوا أوامر الّذي خلقكم أي: الله العزيز الحكيم وكفوا عما نهاكم عنه. الذي: اسم موصول مختص بالمفرد المذكر ويفيد التوحيد.
{وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} : الّذي خلقكم وخلق الجبلة الأولى: أوائل الأولين أوائل الخلق ذوي الجبلة، أي: الخلقة الطّبيعية القوية كقوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَص ْطَةً} [الأعراف: 69]، كانوا كأنهم الجبال القوية لشدتهم مثل: قوم عاد الذين قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
الجبلة: الأمة أو الجماعة من الخلق مشتقة من الجبل ففيه صفات القوة والفخامة، أو اتقوا الّذي خلقكم والجبلة الأولين السّابقين الأولين الّذي جبلوا على العناد والتّكذيب لرسلهم أو كانوا كالجبال في قوتهم وشدتهم، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس: 62].
سورة الشعراء [26: 185]
{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} :
ارجع إلى الآية (153) من نفس السّورة.
سورة الشعراء [26: 186]
{وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} :
{وَمَا أَنْتَ} : الواو: واو العطف (تعاطف النعوت)؛ أيْ: ما أنت إلا بشر مثلنا وما أنت إلا من المسحرين، وإن نظنك لمن الكاذبين. ارجع إلى الآية (154) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين (ما أنت)(وما أنت).
أي: ما أنت إلا بشر مثلنا سُحر مرات عديدة، وكاذب.
{أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} : أنت: للتوكيد، إلا: للحصر، بشر مثلنا: ليس عندك شيء يميزك علينا.
{وَإِنْ} : الواو للتوكيد، إن: تعليلية.
{نَظُنُّكَ} : من الظن: وهو الاحتمال الراجح.
{لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} : اللام للتوكيد، من ابتدائية، الكاذبين: فيما تدعونا إليه من الإصلاح وتستمر في ذلك ولا تتوقف، والكاذبين: جمع كاذب، وتدل على أن صفة الكذب ثابتة عندك مخاطبين شعيب، وفي سورة الأعراف آية (66) قال قوم عاد لهود:{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} إضافة اللام (لنظنك) مما دل على أن تكذيب قوم عاد أشد من تكذيب أصحاب الأيكة لشعيب.
سورة الشعراء [26: 187]
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :
إن كنت صادقاً فادعوا الله أن يسقط علينا كسفاً من السّماء: مفردها كِسْفة مثل قطع وقطعة، أي: قطعاً من العذاب من عذاب السّماء مثل البرق أو النّار أو ريحاً عاتية فهم لا يصدقون أن شعيباً مرسل من ربه.
{كِسَفًا} : بفتح السّين قطعاً عديدة، أما كِسْفاً: بسكون السّين، أي: قطعة واحدة كبيرة أو قطعة واحدة مهما كان حجمها. وقد تبين من الأبحاث الفلكية أن هناك (200-400) مادة، أو أشياء تسقط على الأرض كل عام، وهناك أكثر من (170 مليون) قطعة من حطام الكواكب وغيرها تحاول اختراق الطبقات المحيطة بالأرض، وكثير من الأجسام أقل (1 ملم) وهناك (30، 000) أكبر من الطابة، وحوالي (1000) حجمها حجم المركبات الفضائية، وتشكل خطراً حقيقياً لأهل الأرض، ولكن معظمها يسقط في البحار والمحيطات؛ لأنها تشكل أكثر من (70%) من الأرض.
{إِنْ} : شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال.
{كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : صادقاً في ادِّعائك النّبوَّة أو صادقاً فيما تعدنا من العذاب.
سورة الشعراء [26: 188]
{قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} :
قال شعيب لأصحاب الأيكة:
{رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، تعملون: العمل يشمل القول والفعل، أي: تقولون وتفعلون مثل: نقصان الكيل والميزان، والإفساد في الأرض، والظلم، وقطع الطريق.
أي: رب أعلم بأحوالكم ويعلم نواياكم وما تخفي صدوركم وما إذا كنتم تستحقون العذاب العاجل أو الآجل وإسقاط الكِسْف، أو غير ذلك فله الحكم، وإليه ترجع الأمور.
سورة الشعراء [26: 189]
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :
{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء للتوكيد، كذبوا شعيباً، واستمروا على تكذيبه ولم يعد هناك الأمل في إيمانهم أو توبتهم.
{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} : أي: أهلكناهم بالظّلة (بالسحابة أو الكِسفة) كما طلبوا أن يسقط عليهم كِسَفاً من السّماء، فكان بعذاب يوم الظّلة. قال كثير من المفسرين: سلط الله سبحانه عليهم شدة الحر في الليل والنّهار فأخذ أنفاسهم لا ظل ولا ماء ولا ريح تهب عليهم، فأرسل الله تعالى نحوهم غمامة فيها البرد والنّسيم فاجتمعوا تحتها جميعاً فأنزل الله عليهم برقاً وناراً فصعقوا بها.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : يوم شديد الهول؛ حيث كان يعمُهم الفرح والأمل في التخلص من الشدة والكرب الذي أصابهم بسبب الحر الشديد؛ فإذا هم يفاجؤون بالنار المحرقة والصواعق من السماء التي أهلكتهم، ونجى شعيب والذين آمنوا معه.
سورة الشعراء [26: 190]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} :
ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة.
{لَآيَةً} : اللام للتوكيد، دلالة على نبوَّة شعيب وصحَّة ما دعاهم إليه وعبرة لأهل مكة وغيرهم من الكفار بأن يصدِّقوا برسولهم وما أنزل إليه من ربه.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم} : أصحاب الأيكة أو غيرهم من الناس.
{مُّؤْمِنِينَ} : رغم كل هذه الآيات.
سورة الشعراء [26: 191]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة.
سورة الشعراء [26: 192]
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} : إن واللام في كلمة لتنزيل توكيدان على صحَّة نزول القرآن من عند الله على محمّد صلى الله عليه وسلم.
وأنّه: هاء الضّمير تعود إلى القرآن.
{لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : تنزيل: تفيد العلو، أي: مُنزل من رب العالمين.
رب: أي: الخالق والمربي والمدبر والحاكم والمسيطر والرّزاق.
العالمين: جمع عالم يشمل عالم الإنس والجن والملائكة.
سورة الشعراء [26: 193]
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} :
{نَزَلَ بِهِ} : نزل بالقرآن الكريم بالتّدريج.
{الرُّوحُ الْأَمِينُ} : جبريل عليه السلام، وسمِّي روحاً كما سمَّى الله سبحانه القرآن روحاً حيث قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
سورة الشعراء [26: 194]
{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} :
نزل به الرّوح الأمين على قلبك يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
نزل بالقرآن الكريم على قلبك مباشرة ولم يقل: على سمعك أو أذنك أي: تجاوز أداة السّمع رغم كونها وسيلة للوصول إلى القلب؛ لأنّه ليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَعِ القلب ما تسمع الأذن، والقلب بما يضخ من الدّم والأوكسجين هو سبب حياة كل عضو وما دام نزل به على القلب فقد استقر وأصبح عقيدة راسخة والقلب ليس فقط مضخة للدّم، كما كان يعتقد، بل هو الفؤاد.
ارجع إلى سورة الحج آية (46) للبيان.
{لِتَكُونَ} : اللام تعليلية.
{مِنَ الْمُنذِرِينَ} : من الإنذار، وهو الإعلام مع التّحذير قبل وقوع الأمر المحذور منه أو الشّر وحين يقع العذاب أو الشّر، فلا جدوى عندها من الإنذار، المنذرين: جمع منذر، أي: الرّسل والدّعاة إلى الله تعالى والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة الشعراء [26: 195]
{بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ} :
نزل به جبريل (الروح الأمين) بلسان عربي، بلغة عربية هي لغتك ولغة قومك والباء للإلصاق، أو بلسان قريش اللسان العربي المبين؛ لتنذر به وذكرى للمؤمنين.
{مُبِينٍ} : واضح لكل فرد يتكلم ويفهم اللغة العربية وجلي واضح بنفسه لا يحتاج إلى دليل أو برهان.
سورة الشعراء [26: 196]
{وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} :
{وَإِنَّهُ} : أي: القرآن الكريم، وقيل: قد تعني أيضاً الرّسول صلى الله عليه وسلم والمرجَّح هو القرآن.
{لَفِى} : اللام للتوكيد، في ظرفية مكانية وزمانية.
{زُبُرِ} : جمع زبور، والزّبور يعني: كتاب سماوي مسطور.
ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان في معنى زُبُر.
{الْأَوَّلِينَ} : أي: الكتب السّماوية السّابقة كالتّوراة والإنجيل وغيرها. ومعنى ذلك أن القرآن مذكور في سائر الكتب السّماوية التي جاءت قبله ومبشر به.
سورة الشعراء [26: 197]
{أَوَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :
{أَوَلَمْ} الهمزة همزة استفهام توبيخي، والواو تدل على شدة إنكار مشركي مكة أنّ القرآن منزل من عند الله عز وجل.
{يَكُنْ لَّهُمْ آيَةً} : لهم: اللام لام الاختصاص، أي: لكفار مكة أو مشركيها أو غيرهم من المكذبين.
{أَنْ يَعْلَمَهُ} : أي: القرآن أو محمّد صلى الله عليه وسلم، والآية تحتمل المعنيين.
ألا تكفِي كفار مكة وغيرهم آية كون القرآن مذكوراً في الكتب السّماوية السّابقة مثل التّوراة والإنجيل، ويعلم علماء بني إسرائيل ذلك آية، أي: علامة أو دليلاً واضحاً على كونه حقاً، وأنه منزل من ربك وأن النّبي حقٌّ ونبوَّته حقٌّ، وأنه أيضاً مذكور في كتبهم.
{عُلَمَاؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : أمثال عبد الله بن سلام وأسد وأسيد وثعلبة وابن يامين وغيرهم، كما ذكر السيوطي في الدر المنثور الجزء السادس. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (43) في سورة العنكبوت، وهي قوله تعالى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} : نجد أن علماء جمع تكسير، وعالمون جمع مذكر سالم؛ علماء: تشمل الكل كل العلماء، وطلاب العلم الذين يدرسون عدة علوم، والعالمون: الفئة الخاصة التي اختصت بعلم ما، أو تبحرت في علم من العلوم.
سورة الشعراء [26: 198]
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} :
{وَلَوْ} : شرطية.
{نَزَّلْنَاهُ} : أي: القرآن نزلناه منجماً مفرقاً.
{عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} : بعض الأعاجم: الأعجمي: هو من لا يُحسن اللغة العربية وإن كان عربياً، والعجمي: من أصله عجمي (غير عربي) ولو أجاد اللغة العربية، أي: لو نزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم (من لا يُحسن اللغة العربية) فقرأه على كفار مكة أو قريش ما صدَّقوا به واتهموه ولم يتبعوه لفرط عنادهم وتكبرهم.
سورة الشعراء [26: 199]
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} :
فقرأه: أي: تلاه عليهم، والفاء للمباشرة، أي: لكفروا به بحُجَّة أنّهم لا يفقهوا ما يقرؤه عليهم من القرآن؛ لأنّه أعجمي.
سورة الشعراء [26: 200]
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} :
{كَذَلِكَ} : أي: مثل ذلك.
{سَلَكْنَاهُ} : السّلك الإدخال بسهولة، أي: لو قرأه عليهم أعجمي أو قرأه عليهم محمّد صلى الله عليه وسلم نفس الشّيء سيكذبون به، ويستمرون على ذلك حتّى يروا العذاب الأليم.
أو سلكناه في قلوب المجرمين (المشركين) كأنّهم عجم لا يفهمون منه شيئاً، ولا يؤمنون به حتّى يروا العذاب الأليم. ولو قارنا هذه الآية مع الآية (12) من سورة الحجر وهي قوله تعالى:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} نجد آية الحجر جاء فيها بالفعل المضارع (فسلكه) الذي يدل على التجدد والاستمرار والتكرار الذي يشير إلى استمرار إرسال الرسل إلى أقوامهم، وأما آية الشعراء: جاء بالفعل الماضي (سلكناه) الذي يشعر إلى حدث انتهى ومضى، وهو إنزال القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{الْمُجْرِمِينَ} : جمع مجرم. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) للبيان.
سورة الشعراء [26: 201]
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} :
{لَا} : النّافية، لا يؤمنون بالقرآن ويستمرون على تكذيبهم به حتّى يموتوا وعندها يروا العذاب الأليم ويعلموا أنّه الحق من ربك.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} : وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم ولا هم ينظرون.
سورة الشعراء [26: 202]
{فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :
{فَيَأْتِيَهُم} : الفاء تدل على المباشرة، أي: يأتيهم بسرعة من دون تأخير، يأتيهم: أي: كفار مكة وغيرهم من ملَّة الكفر.
{بَغْتَةً} : فجأة في الدّنيا أو الآخرة أو الموت.
{وَهُمْ} : للتوكيد.
{لَا} : النّافية.
{يَشْعُرُونَ} : لا يتوقعون نزوله.
سورة الشعراء [26: 203]
{فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} :
{فَيَقُولُوا} : أي: المجرمون أو المشركون حين يأتيهم العذاب الأليم.
{هَلْ} : استفهام تحمل معنى التّحسر والطّمع في الإمهال.
{نَحْنُ} : ضمير منفصل للمتكلم المعظم نفسه أو معه غيره.
{مُنْظَرُونَ} : مؤخَّرون أو ممهلون لنؤمن بالقرآن ونصدِّق به ونعمل صالحاً، يقولون ذلك حسرة على ما فاتهم من الإيمان، ولاستدراك ما فرطوا به وإصلاح ما أفسدوا، والجواب: كلا.
سورة الشعراء [26: 204]
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} :
{أَفَبِعَذَابِنَا} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي، الفاء للتوكيد، والمخاطب كفار مكة ومشركيها وغيرهم من الكفار. أفبعذابنا: نسب العذاب سبحانه إليه ليدل على هوله وشدته، وللتحذير منه.
{يَسْتَعْجِلُونَ} : أي: إن استجبنا لهم وأخَّرنا عنهم العذاب ليقُولُنَّ بعد ذلك ما يحبسه، وإن نزل بهم يقولون: أنظرنا وأمهلنا إلى أجل قريب.
{يَسْتَعْجِلُونَ} : تدل على التّكرار والتّجديد والاستمرار.
سورة الشعراء [26: 205]
{أَفَرَءَيْتَ إِنْ مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} :
{أَفَرَءَيْتَ} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي، الرؤيا قلبية فكرية.
{إِنْ} : شرطية.
{مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} : أي: لم نهلكهم وأطلنا أعمارهم ووسعنا أرزاقهم كما طلبوا فعاشوا السّنين الطويلة، جواب الشّرط محذوف دال عليه الاستفهام، أي: لن يغني ذلك عنهم شيئاً.
سورة الشعراء [26: 206]
{ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي. جاءَهم: المجيء فيه معنى الصعوبة والشدة.
{جَاءَهُمْ مَا} : أي: العذاب. ما: أي: الذي يوعدون من العذاب والهلاك أو الموت. وما: أوسع شمولاً من الذي.
{كَانُوا يُوعَدُونَ} : في الدّنيا.
سورة الشّعراء الآيات [207 - 227]
سورة الشعراء [26: 207]
{مَا أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} :
أي: لو استجبنا لهم وأخرناهم وأطلنا أعمارهم ومتعناهم متاع الحياة الدّنيا سنين طويلة، ثمّ جاءهم العذاب.
{مَا} : النّافية.
{أَغْنَى عَنْهُم} : لا ينفعهم أو لا يجدي كل ذلك لأنهم لن يتوبوا ويؤمنوا ولن يزيدهم عندئذٍ زيادة المتاع والرّفاهية وطول العمر شيئاً عذاباً فوق العذاب؛ لأنّهم سينسونه ولن يمنعهم من العذاب أو يخفف عنهم شيئاً.
سورة الشعراء [26: 208]
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} :
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} : ما النّافية، أهلكنا: الموت والفناء.
ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لمزيد من البيان.
من قرية: من استغراقية، أي: أهل قرية وبما فيها المنازل والدّور. قرية: نكرة، أي: قرية ظالمة.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{لَهَا مُنْذِرُونَ} : جمع مُنذر، أي: رسُلٌ منذِرون، أي: لا نهلكها إلا بعد أن يتم إنذارها بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وتبين عاقبة كفرها وشركها وإقامة الحُجَّة عليها، كقوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقوله تعالى:{وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
سورة الشعراء [26: 209]
{ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} :
{ذِكْرَى} : تذكرة وموعظة نذكرهم لكي نوقظهم من غفلتهم ونذكرهم بذنوبهم لعلهم يتوبون ويرجعون، وإذا لم يذّكروا ويرتدعوا ويتوبوا ويكفُّوا عن طغيانهم أخذناهم بالعذاب.
{وَمَا كُنَّا} : ما النّافية.
{ظَالِمِينَ} : بإنزال العذاب بهم.
سورة الشعراء [26: 210]
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} :
{وَمَا} : ما النّافية.
{تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} : به: أي: القرآن. الشياطين: هم كفرة الجن ردّاً على زعمهم وافترائهم أنّ الشّياطين تجيء بالقرآن وتلقيه على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم، كما تنزل الشّياطين على الكهنة، وكما قال تعالى:{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42].
سورة الشعراء [26: 211]
{وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} :
{وَمَا} النّافية.
{يَنبَغِى لَهُمْ} لهم: تعود إلى الشّياطين، أي: لا يحتاجون أن يقوموا بإنزاله ولا يصح ولا يجوز لهم ذلك.
{وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} : أي: ولو أرادوا ذلك، تكرار ما يفيد التّوكيد وفصل الابتغاء عن الاستطاعة؛ لأنّهم محجوبون عن الاستماع إلى الملأ الأعلى (الملائكة) بالشّهب والحرس، كما قال تعالى:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8].
سورة الشعراء [26: 212]
{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} :
{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} : الاستماع للوحي من السّماء والملائكة.
{لَمَعْزُولُونَ} : محجوبون بالشّهب، اللام لام التّوكيد.
سورة الشعراء [26: 213]
{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} :
{فَلَا تَدْعُ} : الفاء للتوكيد. الخطاب لكل من يعقل ويسمع القرآن.
{تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : أيْ: لا تعبد مع الله إلهاً آخر، أيْ: لا تشرك بالله شيئاً، الخطاب وإن كان موجَّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو موجَّه إلى الّذين يشركون بالله ويجعلون معه إلهاً آخر، أو تحذير لسائر البشر من الشّرك بالله تعالى.
{فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} : أيْ: رغم أنك أكرم الخلق، فلو اتخذت إلهاً آخرَ غيري لعذَّبتك.
سورة الشعراء [26: 214]
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} :
{وَأَنذِرْ} : يا محمّد والإنذار هو الإعلام مع التّحذير قبل وقوع الشّر أو الأمر المحذور وهو عدم الشّرك بالله والإخلاص لله والتّوحيد وبين يدي عذاب شديد.
{عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} : وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب. فالإنذار يبدأ بالأقرب فالأقرب.
فقد روى البخاري ومسلم وأحمد والنّسائي والتّرمذي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما لما أنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى الصّفا فصعد عليها، ثمّ نادى: يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني لؤي أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تُغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وما رواه الإمام أحمد ومسلم عن عائشة قالت: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة بنت محمّد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم. وفي لفظ آخر ما أُغني عنك من الله شيئاً.
سورة الشعراء [26: 215]
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
{وَاخْفِضْ} : انتبه إلى أنّه سبحانه في الوقت الّذي دعاه لينذر عشيرته أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وخفض الجناح كناية عن اللين والعطف والحنان والتّواضع، كما يفعل الطّائر الّذي يحنو على ذريته.
{لِمَنِ} : اللام لام الاختصاص، من استغراقية، لكلّ من اتبعه من المؤمنين، ويتضمَّن ذلك عشيرته وغيرها من المؤمنين، وقوله: لمن اتبعك تكفي، من المؤمنين: للتوكيد أو خاصة المؤمنين. أو تعني: ذكر الخاص بعد العام: للتوكيد.
وإذا قارنَّا هذه الآية (215) من سورة الشّعراء مع الآية (88) من سورة الحجر {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أيْ: لكلّ المؤمنين عامة ومن اتبعك من المؤمنين خاصة.
سورة الشعراء [26: 216]
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} :
{فَإِنْ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، إن شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال.
{عَصَوْكَ} : ولم يتبعوك الأقارب أو غيرهم، فلا تتردد بالقول إنّي بريء مما تعملون: أي: لي عملي ولكم عملكم.
{مِمَّا} : أصلها من ابتدائية بعضية، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
{تَعْمَلُونَ} : تضم الأقوال والأفعال، مما تعملون من الشّرك أو الظّلم أو المعاصي.
سورة الشعراء [26: 217]
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} :
{وَتَوَكَّلْ} : أي: فوِّض أمرك إلى الله تعالى، أي: ردَّه إليه راجياً عونه وتيسيره وتوفيقه بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة شرعاً وعقلاً، فهو سبحانه الكافي، ومن يملك تدبير كلّ الأمور وتصريفها، أي: وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن شركهم وتوكل على الله سبحانه حتى يكفيك شرهم.
{الْعَزِيزِ} : القوي القادر على قهر الأعداء ودحرهم. والذي لا يُغلب ولا يُقهر، والبالغ أمره ولا يضره شيء، والغني عن عباده؛ فالعزة يحتاج إليها للقدرة على نفع المتوكل.
{الرَّحِيمِ} : لا يعجِّل لهم العقوبة لعلهم يتوبون؛ الرحيم بالمؤمنين خاصة في الدّنيا والآخرة. وفي سورة الفرقان آية (58): {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لَا يَمُوتُ} ، فالتوكل يحتاج إلى من له الصفات الأربع: الحي الذي لا يموت، العزيز، الرحيم.
سورة الشعراء [26: 218]
{الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{يَرَاكَ حِينَ} : حين ظرفية زمانية، يراك: المطلع عليك.
{تَقُومُ} : للصلاة مع المصلين جماعة أو لوحدك في جوف الليل صلاة التّهجد، ويراك في كل حالاتك حين تقوم من فراشك أو مجلسك، وهذا يدل على أنّك بأعيننا، فليطمئن قلبك.
سورة الشعراء [26: 219]
{وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ} :
{وَتَقَلُّبَكَ} : ونراك في تقلبك في القعود والقيام والرّكوع والسّجود.
{فِى} : ظرفية زمانية ومكانية ولم يقل: مع، في تعني أنت واحد منهم وليس مضافاً إليهم، أي: أنت منهم وهم منك الكلّ وحدة إيمانية متجانسة.
{السَّاجِدِينَ} : أي: في المصلين حين تكون إمامهم، السّاجدين: جمع ساجد، أي: مصلٍّ، عبَّر عن الصّلاة بجزء منها (أي: إطلاق الجزء وإرادة الكلّ). الساجدين: جمع ساجد السجود الحقيقي مع الخشوع.
وتقلبك قد تعني أيضاً: تقلُّب بصرك فيمن يصلي خلفك، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(أتموا الرّكوع والسجود فو الله إنّي لأراكم من خلف ظهري إذا ركعتم وسجدتم) حديث متفق عليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحذر صحابته من أن يسبقوه في الرّكوع أو السّجود والقيام والقعود؛ ظنّاً منهم أنّه لا يراهم.
سورة الشعراء [26: 220]
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{السَّمِيعُ} : لما تتلوه عليهم وتعظهم وتخبرهم، صيغة مبالغة في السّمع والسميع لأقوالهم في السر والعلن.
{الْعَلِيمُ} : صيغة مبالغة في العلم، العليم بما تعمله وتنويه والعليم بكلّ أحوالك وأحوال عباده لا تخفى عليه خافية في السّماء ولا في الأرض.
سورة الشعراء [26: 221]
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} :
جاءت هذه الآية تتمة للردِّ على المكذبين الّذين افتروا أنّ القرآن تنزلت به الشّياطين، وألقته على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم، ففي الآية (210 ـ 212) بيَّن سبحانه سبب استحالة نزول الشّياطين به، وفي هذه الآية يُبين سبحانه على من تنزل الشّياطين، فيقول:
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} : هل وزيادة الهمزة كلاهما أداة استفهام واقتران هل بالهمزة تفيدان على توكيد ما يخبر به الله تعالى وهو على من تنزل الشّياطين والنّبأ هو الخبر العظيم المهم، أي: هل أنبئكم النّبأ اليقين الحق.
{عَلَى مَنْ} : على تفيد العلو والمشقة، ومن تفيد الاستغراق.
{تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} : تنزل حذف التّاء: ولم يقل: تتنزل، تنزل تعني: القلة أو النّدرة، أمّا تتنزل فتعني الكثرة والاستمرار.
سورة الشعراء [26: 222]
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} :
{تَنَزَّلُ عَلَى} : على تفيد العلو والمشقة.
{كُلِّ} : تفيد التّوكيد.
{أَفَّاكٍ} : على وزن فعال، أفاك صيغة مبالغة من الإفك وهو الكذب وقلب الحقائق، وأفاك كثير الكذب أو الإفك.
{أَثِيمٍ} : على وزن فعيل، صيغة مبالغة في ارتكاب الإثم، كثير الإثم والذّنوب، مثل الكاهن أو الكهنة، ومن يدَّعون علم الغيب، تنزل الشّياطين على أوليائها.
سورة الشعراء [26: 223]
{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} :
{يُلْقُونَ} : تعود على الشّياطين.
{يُلْقُونَ السَّمْعَ} : يصغون أشد الإصغاء إلى الملأ الأعلى (الملائكة) لكي يسترقوا منهم شيئاً يسمعونه لكي يلقوه على الكهنة، ألقى السّمع: أي: يحرص على الاستماع.
{وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} : تعود على الكهنة وتعود على الشّياطين كلاهما كاذبون، فهم يخلطون الخبر الصّادق بأخبار كاذبة، ومن عدل الله سبحانه قال: أكثرهم واستثنى القليل منهم؛ لأنّ بعضهم قد يصدق، وقد يسأل سائل: لِمَ يحدث ذلك بإذن الله، الجواب: لكي يكون فتنة أو ابتلاء للناس والكهنة والشّياطين.
سورة الشعراء [26: 224]
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ} :
المناسبة: بيّن الله سبحانه أنّ هذا القرآن هو تنزيل من رب العالمين نزل به الرّوح الأمين على قلب محمّد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذرين وبيّن سبحانه ما تنزلت به الشّياطين، وبيّن لماذا وما ينبغي لهم، ولأنّ رسول الله ليس من الكهنة الّذين يستمعون إلى الشّياطين، وهنا ينفي أيضاً أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشّعراء، كما يفتري مشركو وكفار قريش فالشّياطين يتبعهم الكهنة، كما قال تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41].
والشّعراء يتبعهم الغاون.
والذين آمنوا يتبعون الحق من ربهم.
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ} : الغاوون: جمع غاو، وأصل الغي الفساد، والغاوون: الفاسدون في الرّأي والعقيدة والخائبون والضّالون عن الحق بعد معرفته.
ارجع إلى سورة الحجر آية (42) لمزيد من البيان.
وكان الشُّعراء في القديم يمثلون وسيلة من وسائل الإعلام المهمة، يتّبعهم: بالتّشديد ولم يقل: يتبعهم لتدل على المبالغة في الاتِّباع من اتبع على وزن افتعل ليس مجرد اتِّباع عادي.
سورة الشعراء [26: 225]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} :
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام توبيخي.
{تَرَ} : رؤية قلبية فكرية؛ أي: ألم تعلم.
{أَنَّهُمْ} : للتوكيد تعود على الشّعراء.
{فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} : في كلّ وادٍ: وادي الذّم والمدح والفجور والفخر والجنون، أي: ليس لهم واد معين، يهيمون: من هامَ، أي: سار على غير هدى ومن دون هدف، وحائر لا يدري إلى أين يسير، كمن هامَ وتاهَ في الصّحراء على وجهه، أي: شعرهم خيالات وأوهام وأباطيل. تشمل أبواب المدح والّذم والفجور، وغيرها.
سورة الشعراء [26: 226]
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} :
{وَأَنَّهُمْ} : للتوكيد.
{يَقُولُونَ} : بصيغة المضارع لتدل على تجدُّد أقوالهم وتكرارها.
{مَا لَا يَفْعَلُونَ} : ما اسم موصول، لا النّافية، أي: تخالف أفعالهم وأقوالهم، فهم يصفون أنفسهم بالشّجاعة وهم جبناء وبالكرم وهم بخلاء أو يحثون النّاس على الشّجاعة ولا يحثون أنفسهم وعلى العطاء وهم أشحاء. ويمدحون غيرهم. كي يُعطوا المال أو ينالوا منفعة دنيوية.
سورة الشعراء [26: 227]
{إِلَّا} : أداة استثناء، أي: يُستثنى من هؤلاء الشّعراء الّذين في كلّ واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} : فهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم ويتقبَّل منهم أعمالهم الصّالحة.
{وَانْتَصَرُوا} : أمثال حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك انتصروا للإسلام، ودافعوا عنه، وعن الرّسول صلى الله عليه وسلم وردُّوا بشعرهم على الكفار المشركين وردُّوا السّيئة بالسّيئة والجهر بالسّوء من القول.
{مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} : من بعد ما ظُلموا من أعداء الدّين ومن الكفار.
{وَسَيَعْلَمُ} : السّين للاستقبال القريب، أي: سيعلمون عن قريب (بعد موتهم وإن طال أجلهم فهو قصير وفجأة) أو سيعلمون في دنياهم قبل موتهم كما حدث في معركة بدر وحنين وفتح مكة.
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أي: الّذين أشركوا بالله أو الكفار وظالمو النّاس وأنفسهم بإعراضهم عن آيات الله وذكره، وبقولهم أنّ القرآن شعر أو قول كاهن.
{أَىَّ} : للاستفهام والإبهام.
{مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} : منقلب مصير أو مرجع أو حالة إليها ينقلبون.
وهناك فرق بين المنقلب والمرجع، المرجع: هو العودة إلى الحال الّتي كان عليها قبل وقوع الحدث، والمنقلب: هو العودة إلى الحال غير الحال الّتي كان عليها قبل وقوع الحدث، والمنقلب قد يكون سيِّئاً أو حسناً.
وتنكير المنقلب وإبهامه للتهويل والتّعظيم، ليترك للعقل أن يتصور كلّ أنواع السّوء الّتي سيصير إليها، وفي الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الّذين ظلموا للكف والتّوبة والرّجوع إلى الله.
ولا بُدَّ في الختام من القول أنّ الإسلام يفرِّق بين الشّعر المحرَّم والشّعر المباح: فالشّعر المحرم هو الّذي يخالطه الشّرك والهجاء والشّتم والنّياحة والفحش والخبث والفجور أو الخنى والكذب والباطل، وأمّا الشّعر المباح فهو الّذي يحثُّ على الجهاد والوطن والفضيلة والدّار الآخرة.
سورة النمل [27: 1]
سورة النمل
سورة النّمل [الآيات 1 - 13]
ترتيبها في القرآن السّورة (27)، وترتيبها في النّزول السّورة (48).
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} :
{طس} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
{تِلْكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد، لبيان علو شأن ورفعة الآيات.
{آيَاتُ} : أي: الآيات التّالية أو الآيات القادمة أو آيات القرآن بشكل عام، والآيات تقسم إلى ثلاثة أنواع الآيات القرآنية أو الكونية أو المعجزات الّتي تدل على النّبوة.
{الْقُرْآنِ} : بأل التّعريف للدلالة على الكمال، وسُمِّي قرآناً: لأنّه يُقرأ من الكتاب ويقرأ من الصدور أو مقروءاً.
{وَكِتَابٍ} : ويسمَّى كتاباً؛ لأنّه مكتوب في السّطور وكتاب: نكرة للتفخيم والتعظيم. وجمع بين الوضعين القرآن وكتاب مبين؛ للدلالة على الكمال والقراءة والكتابة لحفظ كلام الله من التحريف والتبديل، فالكتاب يعني: الجمع الحسي، أو الضم لحروف القرآن وكلماته، وأما القراءة أو التلاوة: جمع صوتي لحروف القرآن وكلماته.
{مُبِينٍ} : واضح أنّه منزل من عند الله تعالى ومحيط بكل شيء، ويبيِّن لكل إنسان ما يحتاجه للقيام بوظيفته الخلافة في الأرض وجلي ومبين بأحكامه وآياته، ولا يحتاج إلى غيره للوصول إلى الغاية.
ولنقارن هذه الآية من سورة النّمل قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} .
مع الآية (1) من سورة الحجر قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} .
ففي آية النّمل عطف الكتاب على القرآن، وفي آية الحجر عطف القرآن على الكتاب فهما شيء واحد وليس تكراراً.
سورة النمل [27: 2]
{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} :
{هُدًى} : هو الهدى أو مصدر الهدى أو الهادي للحق، وإلى الصّراط المستقيم الموصل للغاية وهي السّعادة والكمال في الدّارين.
هدىً: نكرة، أيْ: يشمل كلّ أنواع الهدى يهدي للحق وللخير والرّشد والصّواب والتي هي أحسن، ويهدي للنجاة من النّار والفوز بالجنة هدى عامة لكل البشر وهدى خاصة لمن أراد وطلب الهداية.
{وَبُشْرَى} : من البشارة وهي الخبر السّار عادة، ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان.
{لِلْمُؤْمِنِينَ} : اللام لام الاختصاص، المؤمنين: أي: الّذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، المؤمنين: جملة اسمية تدل على الثّبوت أي: أصبح الإيمان عندهم صفة ثابتة.
هدى وبشرى: ينتفع بها الكل وخاصة بالمؤمنين وبشرى للمؤمنين بالجنة والنّجاة من النّار.
لنقارن هذه الآيات:
في سورة البقرة الآية (2){هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} .
في سورة النّمل الآية (2){هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
في سورة لقمان الآية (3){هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} .
وفي سورة النّحل الآية (64){وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وفي سورة النّحل الآية (102){وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
فالقرآن هدى لهؤلاء جميعاً كل طبقة من هؤلاء تجد هدايتها في هذا القرآن.
فالدّرجات من الأدنى إلى الأعلى:
الإسلام (مسلمون)، الإيمان (مؤمنون)، التّقوى (المتقون)، الإحسان (المحسنون)، ثمّ أعلى درجة وهي إسلام الوجه والإخلاص {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النّساء: 125].
ولكل من هؤلاء صفاتهم الخاصة بهم، المتقي عمله يقتصر على نفسه والمحسن يتعدَّى بعمله وإحسانه إلى الغير، وهم درجات عند ربهم درجات القربى من الله عز وجل، ولهم درجات عند ربهم (درجات الجنة).
سورة النمل [27: 3]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} :
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.
{يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} : يؤدُّون الصّلاة بأركانها وسننها وآدابها وأوقاتها وخشوعها والمحافظة عليها والدّوام عليها؛ أي: إقامتها ظاهراً وباطناً، واستحضار القلب أو العقل.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : من الإيتاء لم يقل يعطون الزّكاة. والإيتاء أعم من العطاء.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{بِالْآخِرَةِ} : الباء للإلصاق والملازمة والاستمرار أن يقينهم ملازم لهم ثابت لا ينفك عنهم.
وتقديم الآخرة ولم يقل: وهم يوقنون بالآخرة: تقديم الآخرة للاهتمام لأنّ الإيمان بالآخرة والبعث من أصعب الأمور؛ لذلك قدَّم الآخرة للمبالغة والتّوكيد.
{هُمْ} تكرار هم يفيد التّوكيد، وإذا كان هناك من يوقن بالآخرة فهم في طليعتهم، فهم يوقنون حق الإيقان والإيقان عندهم مستمر وثابت.
{يُوقِنُونَ} : من اليقين وهو العلم بالحق والعلم بأن ليس هناك غيره والذي يتمثل بالإيمان الراسخ في القلب، فلا يتغيَّر ولا يتبدل وله درجات هي علم اليقين عين اليقين، حق اليقين. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من بيان معنى اليقين.
انتبه إلى مجيء يقيمون ويؤتون بصيغة الفعل المضارع تدل على التّجدد والاستمرار أي: في الصّلاة والزّكاة بينما وهم بالآخرة جملة اسمية تدل على الثّبات وهم يوقنون جملة فعلية لتدل على التّجدد إضافة إلى الثّبات معاً.
مقابل هؤلاء المؤمنين الّذين ذكرهم في الآية (2-3) هناك الّذين لا يؤمنون بالآخرة.
سورة النمل [27: 4]
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} :
{إِنَّ الَّذِينَ} : إن للتوكيد، الّذين: اسم موصول يفيد الذم.
{لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : لا النّافية، لا يؤمنون بالآخرة:(بالبعث والحساب والجنة والنّار) وهم الكفار.
{زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} : لم يذكر من هو المزيِّن، فقد يكون هو الله سبحانه للابتلاء والاختبار، والتّزيين من الله للأشياء المباحة والحلال، والمزين قد يكون الشّيطان إبليس وذريته في الأمور المحظورة، ويكون ذلك بالوسوسة والنّزغ والغواية، أو رؤساء الضّلال من شياطين الإنس، والتّزيين: بأن يروا أعمالهم السّيئة أعمالاً حسنةً مثل طول العمر وسعة الرّزق، فيظنون أن الله سبحانه راضٍ عنهم فيتمادون في الطغيان وفي الإسراف والتّبذير والضّلال، وإنّما هذا الإمداد ليزدادوا إثماً.
{فَهُمْ} : الفاء: للتوكيد، هم ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يَعْمَهُونَ} : من العمى وهو عمى البصيرة، الّذي يؤدي بهم إلى التّردُّد والحيرة، يعمهون عن الرّشد؛ مما يؤدِّي بهم إلى الخطأ في الرّأي فهم يتحيَّرون بين الظّن بأنّ أعمالهم حسنة تارة وسيئة أو قبيحة تارة أخرى، ويتحيَّرون في ضلالهم فهم لا يهتدون إلى الصراط المستقيم ويتحيَّرون بين نفع أعمالهم وضرها.
سورة النمل [27: 5]
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد يشير إلى الّذين لا يؤمنون بالآخرة.
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد التّوكيد.
{لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} : لهم اللام للاختصاص، سوء العذاب: في الدّنيا بالقتل والأسر والهزيمة وضنك العيش والمرض والفقر، وسوء مشتق من كونه يسيء إلى النّفس ويسوء إظهارُه أو سيِّئُ العاقبة. وسوء: اسم مصدر لا يجمع، والسوء كلمة عامة، وأما السيئة جمعها سيئات، وسيئات تعني: الصغائر والكبائر، وهي خاصة مقارنة بالسوء.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{فِى الْآخِرَةِ} : في ظرفية.
{هُمُ} : لزيادة التّوكيد.
{الْأَخْسَرُونَ} : من فعل أخسر على وزن أفعل، مبالغة في الخسران، أيْ: أشد النّاس خسراناً يوم القيامة وهم أشد خسارة من الخاسرين جمع خاسر؛ لأن الخسارة في الآخرة متفاوتة الدرجات وأعظمها خسارة المشركين والكافرين. ارجع إلى سورة النّساء آية (119) لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 6]
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} :
{وَإِنَّكَ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} : اللام للتوكيد، تُلقى: من إلقاء القول وهو المشافهة المرة بعد المرة تتلقاه من جبريل عليه السلام أي: يتلوه عليك.
{مِنْ لَّدُنْ} : من ابتدائية، لدن: لم يقل من عند، لدن تستعمل للأمور الخاصة والأقرب إلى الله عز وجل وأعز مثل النّبوة، ولو قال: منا فهي تستعمل للأمور العامة مثل الرّحمة.
{حَكِيمٍ} : حكيم مشتقة من الحكمة فهو سبحانه أحكم الحكماء وأحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة هود آية (1).
{عَلِيمٍ} : صيغة مبالغة من عالم، عليم بما ينزل على عبده وبمصالح عباده وعليم بالغيب وما يجري في كونه من صغيرة وكبيرة لا تخفى عليه خافية.
سورة النمل [27: 7]
قبل البدء بذكر الآيات التي وردت في سياق موسى علينا أن نعلم أنها آيات مبنية على الإيجاز مقارنة بالآيات التي وردت في سورة القصص أو طه أو الشعراء.
{إِذْ} : ظرف زمان للماضي، بمعنى حين، أيْ: واذكر إذ قال موسى لأهله، أو اذكر حين قال موسى لأهله في طريق عودته من مدين إلى مصر.
{لِأَهْلِهِ} : تعني: الزّوجة والأولاد، اللام لام الاختصاص.
{إِنِّى آنَسْتُ نَارًا} : إني للتوكيد، آنست، أيْ: رأيت شيئاً يؤنسني (أي: النّار الّتي رآها من بعيد).
{سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} : السّين للاستقبال القريب وعد فيه شعور بالثّقة بالنّفس والتّأكد والقطع، ولم يقل: لعلي آتيكم: وعد فيه نوع من الخوف والتّرجي وعدم التّأكد، كما ورد في سورة طه والقصص فقد يكون قد انتابه الشعور بالخوف وعدم التأكد، ثمّ عاد ليؤكد ويطمئن أهله واعتراه الشعور بالثقة بعد ذلك فهو قال كلا المقولتين.
{بِخَبَرٍ} : عن الطريق لكونه تاه ولم يعد مطمئناً في تلك الليلة. بخبر من خبرت الشّيء، أيْ: عرفت حقيقته.
{أَوْ} : للتخيير.
{آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} : الباء للإلصاق شهاب هو شعلة من النّار ملتهبة فيها لهب.
{قَبَسٍ} : ما تقتبسه من النّار سواء كان جذوة أو شهاب والمجيء بشهاب قبس: أحسن وأفضل؛ لأنّ فيه استنارة (ضوءاً) وفيه دفء.
{لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} : لعل للتعليل، تصطلون: تستدفئون فقد كان الزّمن زمن شتاء وبرد، والاصطلاء: القرب من النّار للإحساس بالدّفء أصلها تصتلون أبدلت التّاء طاء لقرب المخرجين وسهولة النّطق.
انتبه: استعمل أو بدل الواو، كان باستطاعته القول: سآتيكم منها بخبر وآتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون، واستعمل أو بدلاً من الواو، أيْ: إذا لم يظفر بحاجياته على الأقل يظفر بواحدة.
سورة النمل [27: 8]
{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، لما ظرفية زمانية بمعنى حين.
{جَاءَهَا} : أي: وصل إليها بمشقة وصعوبة جاء فيها معنى المجيء بمشقة وصعوبة بعكس أتاها: فيها معنى المجيء بسهولة، ومعنى آخر هو أتى تعني هو في طريقه ولم يصل بعد مقارنة بقوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص: 30].
{نُودِىَ} : النّداء خطاب مباشر.
{أَنْ} : للتوكيد والتّعليل.
{بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ} : بورك أصلها بارك أو تبارك أبدلت الألف واو لسكونها وتحرك ما قبلها، وكما روي عن ابن عباس في قوله: بورك؛ يعني: تبارك وتعالى من في النار؛ النار: قيل ليست ناراً وإنما نوراً، وقيل: نورَ رب العالمين وقالوا: من في النّار: من ابتدائية، وفي ظرفية، النّار أي: تبارك موسى عليه السلام من في النار وهو الأعم، وقد تشمل أيضاً كلّ شيء وقع عليه نور الله الشّجرة والطّور والوادي حتّى العصا الّتي في يد موسى والبقعة المباركة الّتي ذكرها في سورة القصص. وقيل: أيضاً الملائكة.
وإذا قيل: إنّ النّار هي حقيقة نار فهي نار لا تحرق؛ لأنّه سبحانه وتعالى نزع منها خاصية الإحراق، وأبقى لها خاصية الإضاءة؛ لأنّه سبحانه على كلّ شيء قدير، فسواء كان ذلك نوراً، أو ناراً فهو يدل على عظمة الله سبحانه وقدرته، ولذلك أعقبها بالقول: وسبحان الله ربِّ العالمين.
{وَمَنْ حَوْلَهَا} : أي: الملائكة الكرام، وبعضهم قال موسى عليه السلام الذي كان من حولها.
{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : تنزَّه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عن كلّ عيب ونقص وما لا يليق بجلاله وكماله. ارجع إلى سورة الحديد الآية (1) لمزيد من البيان، رب العالمين: الخالق والمربي والمدبر، العالمين: الملائكة والجن والإنس ورب السّموات والأرض وما بينهما ورب كلّ شيء.
سورة النمل [27: 9]
{يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
{يَامُوسَى} : نداء من الأعلى إلى الأدنى.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{أَنَا} : ضمير الشأن الدال على التعظيم، وللدلالة على الوحدانية.
{اللَّهُ} : واجب الوجود اسم ذاته العلية يحمل في طياته كلّ صفاته وأسمائه الأخرى.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُقهر ولا يُغلب مشتقة من العزة عزة القوة والقهر والامتناع والغلبة.
{الْحَكِيمُ} : أي: الحاكم حاكم السّموات والأرض وما فيهن صيغة مبالغة تعني: أحكم الحاكمين، وحكيم مشتقة من الحكم أحكم الحكماء في تدبير شؤون خلقه وكونه وشرعه.
سورة النمل [27: 10]
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} : قول مباشر من رب العالمين لموسى عليه السلام ، وفي سورة القصص آية (31):{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} : نجد إضافة أن في آية القصص، وتسمى المصدرية، أو المفسرة؛ أي: ناداه ربه أن ألق عصاك؛ أي: بإلقاء عصاه.
لو نظرنا إلى الأحداث في هذه السّورة نجدها جاءت مجملة ومختصرة مقارنة مع سورة طه وسورة القصص وغَلب عليها طابع التّكريم، إضافة إلى الإيجاز، ولم يقل له سبحانه: وما تلك بيمينك يا موسى وألق عصاك.
{فَلَمَّا رَآهَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لما ظرفية زمانية بمعنى حين.
{تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} : أي: فلما ألقاها انقلبت إلى حية تهتز كأنها جان، أيْ: في الحركة والسّرعة؛ كان ذلك مظهراً آخر للاختبار الأول لموسى مع العصا، كما رأينا في سورة طه آية (20).
{وَلَّى مُدْبِرًا} : انصرف خائفاً، أو هرب خوفاً منها.
{وَلَمْ يُعَقِّبْ} : لم يلتفت وراءَه، ولم يرجع إلى مكانه. يعقب مشتقة من عقب القدم: أي: يدور على عقبه ويرجع.
{يَامُوسَى لَا تَخَفْ} : لا النّاهية، لا تخف من الحية، أو هذا الثّعبان، أو مما ترى أمامك. ارجع إلى سورة طه آية (20) لمزيد من البيان وسورة الأعراف آية (107).
{إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ} : إني للتوكيد، لدي: ولم يقل: مني المرسلون؛ لأنّ المرسلين يخافون من الله كلّ الخوف ويخشونه، أيْ: لا يخاف لدي، أيْ: عندي أو في حضرتي، ولكن استعمل لدي؛ لأنّها تحمل معنى التّكريم والقرب بينما عندي تستعمل للعامة.
سورة النمل [27: 11]
{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
{إِلَّا} : قيل: إلا في هذه الآية ليست أداة استثناء أو حصر، كما هي في غالب الحالات، وإنما وقعت بمنزلة الواو العاطفة فيكون التفسير الأول؛ أيْ: لا يخاف لدي المرسلون، ومن ظلم ثمّ بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم.
وأما التفسير الثاني: (إلا) قد تفسر بكلمة وكذلك، فتكون الآية: لا يخاف لدي المرسلون، وكذلك لا يخاف لدي من ظلم، ثمّ بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم، وهذه الآية عامة؛ أي: حكم عام ليس خاصاً بأحد، تشمل جميع المكلفين من إنس وجن {مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
واستعمل: ثمّ لتباين وتباعد الصّفات بين الظّلم والإحسان أو عمل سوءاً: إثماً أو ذنباً أو قبيحاً، ثمّ تاب وأناب إلى ربه وعمل حسناً، أيْ: عمل عملاً صالحاً فإنّي غفور رحيم.
سورة النمل [27: 12]
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} : هذه هي الآية الثّانية، أدخل يدك في جيبك: الجيب فتحة الثّوب فتحة الرّقبة مكان دخول الرّأس في الثّوب هكذا كان الثّوب يلبس في ذلك الزّمن، أدخل يدك والإدخال يستعمل في مواطن المشقة والصّعوبة مقارنة بكلمة {اسْلُكْ يَدَكَ}: كما في الآية (32) من سورة القصص، والّتي تستعمل في مواطن السّهولة وزمن الخوف ففي زمن الخوف تريد أن يكون الأمر سهلاً، ويكفي الخوف نفسه فيستعمل اسلك يدك.
{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : أي: يتغيَّر لونها بعد إدخالها في الجيب من اللون الأسمر إلى الأبيض النّاصع الّذي بشع كالنّور، وحتّى لا يظن أحدٌ أنّ هذا التّغيير في اللّون ناتج عن البرص أو مرض جلدي أزال الله سبحانه ذلك الظّن فقال: من غير سوء، أيْ: من غير مرض.
{فِى تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} : أي: هذه آية في جملة تسع آيات وهنَّ: اليد والعصا والطّوفان، والجراد والقمل والضّفادع، والدّم والسّنين ونقص الثّمرات.
إلى: حرف غاية يفيد عموم الغايات سواء البداية أو النّهاية أو ما بينهما، فرعون وقومه: القوم هم الرجال دون النّساء أو قد تعني الرّجال والنّساء معاً. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (32) في سورة القصص وهي قوله تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : نجد أن القوم أعم؛ فالقوم تعني: الملأ وغيرهم من الناس، وهذا أن يكون من قبيل ذكر العام بعد الخاص، أو الخاص بعد العام ليشمل الكل في الأهمية الكل يجب أن يبلغ الرسالة؛ ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} : إنّهم للتوكيد، قوماً فاسقين؛ لأنّهم أطاعوا فرعون الّذي قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى} [القصص: 38]، وما قاموا به من الفساد في الأرض خارجين عن طاعة الله، فاسقين: مشتقة من فسقت الرّطبة، أي: خرجت من غلافها ارجع إلى الآية (26) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 13]
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} :
{فَلَمَّا} : الفاء: للترتيب والتّعقيب. لما: ظرفية بمعنى حين.
{جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا} : أي: الآيات التسع: اليد والعصا والطوفان، والجراد والقمل والضفادع، والدم والسنين ونقص الثّمرات.
جاءتهم: أيْ:: قوم فرعون.
{مُبْصِرَةً} : واضحة أو دالة على وجود الخالق الحق ووحدانيَّته ونبوة موسى.
{آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} : أيْ:: كأن الآيات هي الّتي تبصر؛ أي: تهدي إلى الخالق والإله الحق الواحد، وهم لا يبصرون أو هم يبصرون بسببها؛ أي: لو آمنوا بها، فلولا هذه الآيات لما قدروا على الاهتداء.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه ذا اسم إشارة للقرب.
{سِحْرٌ مُبِينٌ} : سحر واضح لكل فرد أو الكل يعرف أنّه سحر. ارجع إلى سورة طه آية (58) لبيان معنى السّحر.
واعتبروها سحراً؛ لأنّها كانت آيات خارقة للعادة. وكل شيء يؤثر فيهم وخارق للعادات يعتبرونه سحراً؛ لأنّهم لا يريدون الإيمان به. ولو نظرنا إلى الاختلافات بين سورتي النمل والقصص لوجدناها كثيرة جداً تعود إلى أن سورة القصص جاءت قصة موسى فيها مفصلة، بينما قصة موسى في سورة النمل جاءت مختصرة نذكر بعض الأمثلة:
في سورة النمل: {إِنِّى آنَسْتُ نَارًا} [آية: 7]، في سورة القصص:{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [آية: 29].
في سورة النمل: {يَامُوسَى} [آية: 10]، في سورة القصص:{أَنْ يَامُوسَى} [آية: 30].
في سورة النمل: {لَا تَخَفْ} [آية: 10]، في سورة القصص:{أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [آية: 31].
في سورة النمل: {إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ} [آية: 10]، في سورة القصص:{إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [آية: 31].
نجد في سورة القصص يشيع فيها جو الخوف، وسورة النمل ليس فيها خوف.
سورة النّمل [الآيات 14 - 22]
سورة النمل [27: 14]
{وَجَحَدُوا بِهَا} : هناك فرق بين الجحود والإنكار. الجحود هو إنكار الشّيء الظّاهر والآيات التّسع أشياء ظاهرة للعيان، والإنكار يشمل إنكار الشّيء الظّاهر والشّيء الخفي مثل إنكار النّعمة والإنكار قد يرافقه علم أو غير علم.
{وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ} : الواو حالية (تفيد التّوكيد)، والاستيقان فيه مبالغة في اليقين أيْ: هم علموها (علم اليقين) ورأوها بأمّ أعينهم (عين اليقين) وأيقنوها بقلوبهم وضمائرهم أنّها جاءت من عند الله أو من صنع الله سبحانه وتدل على صدق دعوة موسى، ومع ذلك لم يؤمنوا وأعرضوا عنها ظلماً وعلواً.
وتشير الدراسات الحديثة على الجاحدين بالله حين يُسألون عن الله أو الرّب أن أجوبتهم بألسنتهم لا توافق أو تكون مغايرة وتخالف ما تكن صدورهم من الحق أو الصّدق، وتم رصد ذلك باستعمال أجهزة خاصة لكشف الكذب المستعملة في كشف الحقائق والصدق في حالات القتل والحالات الجنائية.
{ظُلْمًا} : شركاً بسبب شركهم، وعلواً: تكبراً بسبب تكبرهم بغير حق وقولهم أنّها سحر مبين. والعلو: الشعور بالاقتدار والفوقية والغرور بالقوة.
{فَانظُرْ كَيْفَ} : فانظر يا محمّد صلى الله عليه وسلم، وانظر أيها القارئ نظرة فكرية قلبية، أيْ: نظرة بصيرة والفاء للتوكيد، كيف: استفهام غرضه التّحذير والتّعجب.
{كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} : كيف كان مصيرهم الغرق والتّدمير (ما كان يصنع فرعون وما كانوا يعرشون).
قال تعالى: كان عاقبة، ولم يقل: كانت عاقبة، كان عاقبةُ؛ تعني: العذاب في كلّ القرآن، كانت عاقبة تعني الجنة والعاقبة الحسنة فالتذكير يدل على العذاب وصيغة التأنيث تدل على الجنة.
وجاءت كلمة عاقبة: نكرة للتهويل والتّعظيم وليتصورها بكل صورها المؤلمة، المفسدين: ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان.
ثمّ ينتقل الحق سبحانه من ذكر موسى وفرعون إلى ذكر داود وابنه سليمان.
سورة النمل [27: 15]
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} : الإيتاء هو أعم من العطاء، ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة الفرق بين الإيتاء والعطاء، داود: من ذرية يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وسليمان: هو ابن داود عليه السلام .
{عِلْمًا} : نكرة؛ لأنّه يشمل كثير من العلوم مثل علم الدّين والأحكام والقضاء والتّوراة ومنطق الطّير وصناعة السّابغات وأهم العلوم علم الدّين.
والجدير بالذكر أن الله سبحانه آتى داود وسليمان الملك العظيم وسخر لداود الجبال وألان له الحديد وصنع السّابغات، وأعطى سليمان ملكاً لم يعطه لأحدٍ من قبله وسخَّر له الرّيح والجن وعلمه منطق الطّير وغيره، فلم يذكرها في هذه الآية، وإنما ذكر فقط العلم؛ لأنّه أهم وأفضل عطاء.
فالعلم بالله والدّين هو المنة والنّعمة الحقيقية الّتي يحب أن يفرح بها المؤمن وهو أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن المال والجاه والملك كلّه زائل بالموت.
{وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى} : الّذي اسم موصول يعود إلى الله سبحانه، والحمد أعم من الشكر.
{فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} : بالنّبوة والعلم وغيرها من النّعم، وقوله: فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، ولم يقل: فضلنا على عباده المؤمنين فكأن هناك من هم أفضل منهم من الرّسل والأنبياء أمثال أولو العزم من الرّسل، وهذا من أدب النّبوة والتّواضع، والحمد لله: المنعم علينا وعلى عباده الآخرين جملة اسمية تدل على الثّبوت. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمزيد من البيان عن الحمد.
سورة النمل [27: 16]
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} : أيْ: ورث النّبوة والعلم والملك ولا تعني وراثة المال أو المتاع، فقد قال ابن القيم: أجمع أهل العلم والتفسير أن وراثة سليمان لم تكن وراثة مال؛ لأنه كان لداود (19) ولداً وإنما ورث؛ أي: أخذ عن أبيه العلم والنبوة والحكم (الملك) بالإضافة إلى ما أتاه الله من العلم، وسليمان لم يأت بعد داود فقد كانا في عصر واحد أو زمن واحد، وسمى ذلك وارثه.
{وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} : قال سليمان: علمنا منطق الطّير: علمنا تعود على سليمان وحده بصيغة التّعظيم أو تعود عليه وعلى أبيه منطق الطّير لغة الطّير ولغة الحيوان، فلكلّ حيوان منطق ولغة تتفاهم بها مع غيرها من الحيوانات وتسبّح وتصلي، فهم أمم أمثالنا، ويحاول البعض في عصرنا الحديث أن يتعلَّم لغة الطّير وعاداته، وغيره من الحيوانات.
{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ} : أيْ: من كلّ النّعم، من ابتدائية لبيان الجنس.
من كلّ شيء مثل النّبوة والملك والرّيح ومنطق الطّير والجن، شيء نكرة تشمل أيَّ شيء أي أعطيناه وسخرنا له ما يحتاجه، ولمعرفة معنى الإيتاء ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى الإيتاء.
{لَهُوَ} : اللام للتوكيد.
{الْفَضْلُ الْمُبِينُ} : الفضل هو الزّيادة عما يستحق العبد، المبين: أي: الواضح الظاهر الفضل الّذي يعلمه ويقرُّه كلّ فرد ولا ينكره، والواضح لا يحتاج إلى إثبات وبيان.
سورة النمل [27: 17]
{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} :
{وَحُشِرَ} : الحشر هو الجمع في مكان واحد.
{لِسُلَيْمَانَ} : اللام لام الاختصاص، سليمان بن داود.
{جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ} : كلّ صنف لوحده، ولم يقل جنده؛ لأن الجنود تعني من أجناس مختلفة، ولكل وظيفته الخاصة به.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : أصل الوزع هو الكف والمنع، والمنع أن يسبق بعضهم بعضاً إلى سليمان، فلذلك لا بُدَّ من أن يحبس أوّلهم حتّى يحضر آخرهم ولتكون الصّفوف منتظمة، لا بُدَّ من وازع وهو كالمسؤول أو الرّئيس والقائد لكل فرقة.
سورة النمل [27: 18]
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{إِذَا} : ظرفية زمانية للماضي.
{أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} : أيْ: أتى سليمان وجنوده، أتوا ولم يقل جاءوا؛ القرآن يستعمل المجيء للمجيء الذي فيه صعوبة ومشقة، ويستعمل الإتيان للمجيء بسهولة؛ أي: قدموا أو انحدروا على واد النّمل فقوله: أتوا على تدل على أنّهم أتوا من أعلى الوادي، جاؤوا الوادي من أعلى الجبل، وادي النّمل، وأتوا: لم يصلوا بعد فهم في طريقهم.
{قَالَتْ نَمْلَةٌ} : نادت نملة، وكأنها تمثل الحارسة لمساكن النّمل في تلك البقعة من الوادي قالت بلغتها الخاصة التي فهمها سليمان محذِّرة باقي النّمل بالدّخول إلى المساكن.
{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} : يا النّداء، أيها: الهاء للتنبيه العام لتسمع كل نملة ولم تقل يا نمل، ادخلوا مساكنكم: خطاب للعقلاء الذين يسمعون النصيحة ولم تقل: ادخلن مساكنكن، مساكنكم: أيْ: كلّ واحدة تدخل مسكنها وتستقر فيه (لكل نملة مسكن أو خلية خاصة بها).
{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} : تدل على أن النّملة عرفت سليمان هو الحاكم عرفته بالإلهام، يحطمنكم: من التّحطيم وهو التّكسير؛ لأنّ جسم النّملة اكتشف أنّه يحتوي على مادة السّليكون المستعمل في صناعة الزّجاج، وهذا من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والتّهشيم يكون لكسر الشّيء الرّطب أو اليابس، والتّحطيم يكون فقط للشيء اليابس كالزجاج، سليمان وجنوده: أيْ: لكي لا يدوسوا عليكم بأقدامهم خطأً. وأكدت ذلك بقولها (لا يحطمنكم) نون التوكيد.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : أيْ: عن غير قصد ليس عمداً لكونهم لا يشعرون بكم، سليمان وحده سمع قول هذه النّملة قبل أن يقترب هو وجنوده من مساكن النّمل.
سورة النمل [27: 19]
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} : الفاء تدل على المباشرة أيْ: فما إن سمعها تقول للنمل: ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، تبسم من قولها وضحك وابتسم: الضّحك ناتج عن سرور وهناك تبسم من دون ضحك، وقيل: أكثر ضحك الأنبياء تبسم، تبسم ضاحكاً متعجباً من هذه النّملة الّتي خافت منه وتحذِّر غيرها من النّمل. وقد يسئل سائل في الآية (16) وقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} وهنا يقول نملة، وهل النمل من أنواع الطيور؟ والحقيقة قوله علمنا منطق الطير لا تعني الحصر؛ أي: فقط لغة الطير؛ أي: علمنا منطق الطير وغيره من لغات الحيوانات والعلوم الأخرى.
وعندها شعر سليمان بفضل الله تعالى ونعمه عليه فدعا ربه قائلاً:
{أَوْزِعْنِى} : من الوزع وهو الكف والمنع، أي: امنعني أن أغفل أو أنسى أن أشكر نعمتك على الدّوام، أيْ: أظل شاكراً لك أو كُفني عما يباعد عن شكرك، وقيل: أوزعني من الإيزاع، أي: الإغراء بالشّيء أو مولع بشيء، أيْ: مولع بشكرك دائماً.
{نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} : الوالد هو داود.
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} : أيْ: وألهمني أن أعمل صالحاً، أن للتعليل والتّوكيد، مقابل تلك النّعم يَسر لي العمل الصّالح الّذي ترضاه، أيْ: وفقني وساعدني على القيام به.
{وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} : رغم النّبوة وكلّ تلك النّعم ما زال متواضعاً لم يعط نفسه درجة على غيره، ولم يورثِّه كلُّ ذلك المُلك والفضل الغرورَ والتّكبرَ، ورغم أنّه أعطي ملكاً، لم يعطِ الله لأحدٍ مثله، وأدخلني برحمتك بسبب رحمتك، باء السّببية فاجعلني واحداً من هؤلاء العباد الصّالحين ولم يقل: وأدخلني في رحمتك: في الظّرفية، أي: اجعلني من بين الّذين رحمتهم؛ لأنّه يعلم أنّه داخل في رحمة الله؛ لأنّه أعطي النّبوة فهذه أكبر رحمة من الله تعالى.
وتعني أنّه كان في رحمة الله تعالى، ويريد أن يدخل في رحمة جديدة هي أن يكون من بين الصّالحين. من جاء ذكرهم في سورة الفرقان الآية (63-74){وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا........... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} .
سورة النمل [27: 20]
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِىَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} :
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} : بحث عن الطّير والطّير اسم جنس يشمل كلّ الطيور.
{فَقَالَ مَا لِىَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} : ما للتعجب من عدم رؤية الهدهد ظناً منه أنّه حاضر أو محجوب عنه.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} : فلما تأكَّد من خلوِّ مكانه بين الطّيور قال عندها: أم كان من الغائبين، فلا بُدَّ من معاقبته.
سورة النمل [27: 21]
{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :
{لَأُعَذِّبَنَّهُ} : اللام لام التّوكيد والنّون في أعذبنَّه لزيادة التّوكيد، تعذيبه بنتف ريشه الّذي يزهو به فلا يستطيع الطّيران أو حبسه.
{أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ} : واللام والنّون للتوكيد في لأذبحنه أو ليأتيني.
{أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : السّلطان، أي: الحُجَّة القوية لا تدحض لقوة دلالتها، أو عُذر مؤكد واضح بنفسه لا يحتاج إلى من يوضحه.
في هذه الآية نرى تدرج في العقاب من العذاب الشّديد إلى الذّبح وأعظم من الذّبح الإتيان بسلطان مبين.
سورة النمل [27: 22]
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} : الفاء للتعقيب والتّرتيب، غير بعيد: أي: استغرق غياب الهدهد عن سليمان زمناً يسيراً غير طويل.
{فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ} : ثمّ عاد الهدهد ليخاطب سليمان عليه السلام ؛ فقال: الفاء للتّعقيب والمباشرة، أحطت: الإحاطة هي العالم بالشّيء من جميع جهاته إحاطة تامة كالبحر المحيط أيْ: علمت شيئاً لا تعلمه ورأيت شيئاً عجيباً أنت عنه غافل.
{وَجِئْتُكَ} : المجيء لم يكن بسهولة لكون الهدهد لم يحصل على النّبأ بسهولة ولم يقل أتيتك: الإتيان يكون بسهولة بعكس المجيء.
{مِنْ} : ابتدائية.
{سَبَإٍ} : نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، له (10) أولاد (6) منهم كانوا في اليمن و (4) رحلوا إلى الشام، وسبأ يمكن يكون اسماً للقبيلة أو المكان أو جد القبيلة، وسُمِّيت مدينة مأرب فيما بعد، وهي قريبة من صنعاء.
{بِنَبَإٍ} : الباء للإلصاق والنّبأ هو الخبر العظيم أو الهام.
{يَقِينٍ} : أيْ: حق ثابت وصدق لا ريب فيه، والنّبأ هو ما ذكر في الآيات (23-24). وقول الهدهد:(أحطت بما لم تحط به): فيه دعوة لسليمان للاستماع لما سيقوله له؛ كي يعيره الاهتمام ويخبره بما رآه، ولم يخبر الهدهد سليمان مباشرة بالخبر.
سورة النّمل [الآيات 23 - 35]
سورة النمل [27: 23]
{إِنِّى وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} :
{إِنِّى وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} : إنّي للتوكيد، امرأة تملكهم: هي بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان كان أبوها ملك اليمن وكان مجوسياً يعبد الشّمس تملكهم: أيْ: تحكمهم، وكتبت امرأة بالتاء المربوطة، وليس بالتاء المبسوطة أو المفتوحة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (30) لمعرفة الفرق.
{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ} : من أسباب الدّنيا، الآلة والعدة والمال والخير الكثير، أوتيت: أعطيت ولمعرفة الفرق بينهما ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة، من ابتدائية، كلّ شيء للمبالغة، أيْ: من متاع الدّنيا ولكنها لم تؤتَ النّبوة أو الحكمة أو الدّين، وهذا هو الإيتاء الدّائم والأفضل من غيره من الإيتاءات.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} : اللام في لها للاختصاص، كرسي الملك، عرش عظيم: مقارنة بعروش الملوك في زمنها، وعظمة العرش تقدر بسعة رقعة الحكم والعدد والعدة في الأفراد والثّروات.
سورة النمل [27: 24]
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : يدل على أنّ الهدهد يفهم مبادئ العقيدة والإيمان والتّوحيد، كما هداه الله سبحانه، وكما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
{يَسْجُدُونَ} : يعبدون الشّمس ويعظمونها، من دون الله: من غير الله وكأنّه يستنكر ويتعجب من سجودهم لغير الله وشركهم بالله الخالق.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} : قدَّم الجار والمجرور لهم للحصر، أي: المزين الوحيد لهم هو الشّيطان زين لهم الشّرك والباطل، أيْ: حبَّبه إليهم.
{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} : الفاء للتوكيد، صدهم عن السّبيل: عن الاهتداء إلى طريق الحق وهو الإيمان بالخالق وحده وعبادته والدين.
{فَهُمْ} : الفاء للتوكيد، هم لزيادة التّوكيد.
{لَا يَهْتَدُونَ} : لا النّافية، يهتدون إلى طريق الحق وإلى عبادة الخالق ووحدانيته.
سورة النمل [27: 25]
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} : ألا أداة حضٍّ وحثٍّ أصلها أن: التّعليلية والتّوكيد، لا النّافية، أيْ: زين لهم الشّيطان أعمالهم ألا يسجدوا لله.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الخبء مصدر خبأ: للمبالغة في تصوير إخراج ليس للشيء المخفي فقط وإنما للخفاء نفسه، وخبأ الشّيء أيْ: أخفاه والخبء يشمل كلّ شيء غائب مستور في السّموات والأرض مثل الماء والنّبات والكنوز والمعادن والبترول والغازات والخيرات الخفية والثمينة فهو الّذي يخرجها للناس، أيْ: يجعلهم قادرين على اكتشافها، وبالتّالي استعمالها والفائدة منها.
{وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} : الإخفاء: يشمل الأمور المادية والمعنوية، والإخفاء يضم الكتمان، تعلنون: تبدون أو تظهرون أو تجهرون، أيْ: يعلم ما تخفون في نفوسكم وما تعلنون بألسنتكم، واختار الهدهد هذه الصّفة من بين الصّفات الأخرى الكثيرة لله تعالى؛ لأنّ الهدهد وحده الّذي يرى الماء المدفون في باطن الأرض والله سبحانه هو الّذي أعطى الهدهد هذه القدرة العجيبة فالله وحده الّذي يعلم ما تخفون وما تعلنون، وهذا يدل على وحدانيَّته.
سورة النمل [27: 26]
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} :
{اللَّهُ} : الاسم الأعظم الّذي تفرد به سبحانه واختصه لنفسه الدّال على واجب الوجود الجامع لجميع صفات الكمال الإلهية. الإله: المألوه المعبود وحده.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة للبيان.
{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : العظيم تعود إلى الرّب وقد تعود إلى العرش، خالق العرش العظيم والقائم على تدبيره، ووصف العرش بالعظيم؛ لأنّه أعظم مخلوقات الله تعالى على الإطلاق يفوق خلق السّموات والأرض ويفوق خلق الإنسان. ارجع إلى سورة التّوبة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 27]
{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} :
{قَالَ سَنَنْظُرُ} : قال سليمان للهدهد: سننظر: السّين للاستقبال القريب أيْ: سنعلم عن قريب أو نرى رؤية قلبية وتجريبية إذا كنت صادقاً أم كاذباً.
{أَصَدَقْتَ} : الهمزة همزة استفهامية، فيما أنبأتنا به أو أخبرتنا: جملة فعلية تدل على التّجدد والتّكرار.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} : جملة اسمية تدل على الثّبوت ثبوت صفة الكذب في الهدهد.
سورة النمل [27: 28]
{اذْهَب بِّكِتَابِى هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} :
{اذْهَب بِّكِتَابِى} : أيْ: كتب سليمان رسالة إلى الملكة الحاكمة في سبأ وقومها وطلب من الهدهد أن يطير بهذا الكتاب، وسنرى في الآية (30-31) نص الرّسالة أو الكتاب.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب.
{فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} : أي: احمله وألقه إليهم ولم يقل: عليهم: إليهم، أيْ: لينتهي أو يصل إلى يدي الملكة. إليهم: تشمل عليهم أولاً، أيْ: ألقه عليهم أولاً وثانياً يصل إلى أيديهم.
{ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} : ثمّ انصرف إلى مكان آخر.
{فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} : أي: انظر ماذا سيكون جوابهم أو ردهم على كتابي، الفاء للتعقيب والمباشرة، انظر مباشرة ماذا سيكون جوابهم.
سورة النمل [27: 29]
{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} :
{قَالَتْ} : قالت الملكة للملأ حولها؛ أيْ: أعضاء الحكومة من الوزراء ومستشاريها وممثليهم.
{يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا} : نداء من الأعلى إلى الأسفل والهاء للتنبيه إلى الملأ. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24) لمزيد من البيان.
{إِنِّى} : للتوكيد، ولم تقل: إنّه، وقالت: إنّي؛ ليشير إلى تحملها المسؤولية.
{أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ} : لم تعرف من ألقى الكتاب في قصرها فلم يذكر كيف دخل الهدهد القصر، وكيف ألقى الكتاب، واين كانت الملكة حين ألقى الكتاب، وأين وجدته، وكم استغرق الهدهد من الزمن للوصول إلى سبأ وغيرها من التساؤلات العديدة؛ لأن كل ذلك ليس هو موطن الاهتمام والعبرة، ووصفت الكتاب به كتاب كريم.
{كِتَابٌ كَرِيمٌ} : وكيف عرفت أنّه كتاب كريم؛ لأنّه من سليمان وسمعت أنّه ملك كريم أو لأنّه مكتوب بشكل جميل وحسن أو لأنّه مختوم أو لأنّه بدأ باسم الله الرّحمن الرّحيم.
سورة النمل [27: 30]
{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} :
كأنّها لما قالت: إنّي ألقي إليّ كتاب كريم قيل لها: من أرسله؟ فقالت: إنّه من سليمان، ثمّ قرأته: وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم.
سورة النمل [27: 31]
{أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} :
{أَلَّا} : أصلها أن المصدرية وتفيد التّعليل والتّوكيد، لا النّافية.
{تَعْلُوا عَلَىَّ} : لا تتكبروا عليَّ. والعلو هو الشّعور بالفوقية والاقتدار بالغرور بالقوة.
{وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} : أيْ: أسلموا.
سورة النمل [27: 32]
{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا} : قالت الملكة، يا النّداء والنّداء من الأعلى إلى الأسفل بعكس الدّعاء من الأسفل إلى الأعلى، الملأ: مستشاريها من أعضاء الدولة والوزارات، أو ممثليهم، الملأ: مشتقة من كونهم تراهم العيون دائماً يتحدثون باسم القوم. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24) للبيان.
{أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} : الفتيا: هنا تعني: أشيروا عليّ برأيكم من الشّورى، في أمري: مع أنّ الكتاب كان موجه إلى الكلّ لقوله: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]، فالأمر يهم الجميع، ولكنها نسبت الأمر إلى نفسها؛ لأنّها وقومها يد واحدة فأمرهم أمرها وأمرها أمرهم، ويدل على رعيتها.
{مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} : متخذةً قراراً أو مبرمة أمراً أو قاضية بحكم.
{حَتَّى تَشْهَدُونِ} : حتّى حرف نهاية الغاية، تشهدون: تحضرون، تشهدون الجلسة وتدلون بآرائكم، وحذف الياء يدل على أنها شهادة مؤقتة لظرف معين، وليست دائمة تنتهي بانتهاء الحرب أو الاستسلام لسليمان.
سورة النمل [27: 33]
فجاء الرّد منهم على الفتوى بما يلي:
{نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} : أيْ: أصحاب (أو ذوو: للمفرد بمعنى صاحب) قوة، أيْ: في العدد والعدة قيل: كان عدد القواد (312) كلّ قائد يمثل عدداً كبيراً من المقاتلين يقدر بـ (10. 000) أو أكثر.
{وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} : تكرار أولوا يفيد التّوكيد، أيْ: وذوو بأس شديد، أيْ: ذوو أو أصحاب بلاء وشجاعة في الحرب؛ لأنّ هناك الكثير ممن يملكون العدد والعدة، ولكنهم جبناء فالقوة عامة تكون في الحرب أو غير الحرب، البأس: يعني في الحرب، أيْ: نحن نملك الأمرين العدة والعتاد والشّجاعة والجرأة.
{وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ} : أيْ: أنت صاحبة الرأي أو متخذة القرار والحكم أو نحن نوكل إليك اتخاذ القرار، فانظري: الفاء للتوكيد، أيْ: تأملي الأمر وفكري به وأخبرينا، وماذا: أداة استفهام أقوى وآكد من ما، تأمرين: ما هو واجبنا لتنفيذه والشّروع به.
سورة النمل [27: 34]
{قَالَتْ} : قالت الملكة رداً على فتواهم: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين:
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} : بالقوة أو القتال.
{أَفْسَدُوهَا} : بإهلاك الحرث والنّسل والقتل والتّخريب وإشاعة الخوف والرّعب.
{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} : أشراف القوم أذلة بالضّرب والإهانة والأسر حتّى لا يجرأ أحد على المقاومة.
{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} : وكذلك تعني: ومثل ذلك يفعلون، قيل: هذا من كلام الملكة بلقيس أو من قول الله سبحانه مصدقاً لقولها: إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وكذلك يفعلون، وهذا هو المرجَّح، أيْ: هذا الإفساد هو من عادتهم المستمرة الثّابتة الّتي لا تتغير.
سورة النمل [27: 35]
{وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} :
{وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} : إنّي: للتوكيد، مرسلة إليهم بهدية: لسليمان.
{فَنَاظِرَةٌ} : ما سيفعل بها، ثمّ اتخذ القرار، أيْ: إن أخذ الهدية وقبلها فهو من أهل الدّنيا أو ملك من ملوك الدنيا الذين يأخذون الهدايا ويفرحون بها فنقاتله بعدها، وإن ردَّ الهدية فهو نبي فلن يرضى إلا باتباع دعوته ودينه فنتَّبعه، وقد أحست بلقيس ميل قومها إلى القتال، ولكنّها هي جنحت للسلم لأنّها أشارت إلى أخطار الحرب والدّمار.
{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} : وهذا يعني أنها أرسلت مجموعة من الرسل؛ أي: وفد من الناس يحملون الهدية، وهذا يشير أيضاً إلى عظيم الهدية وكبرها، وهي تنتظر عودة الرسل ليخبروها بما قال لهم سليمان أو فعل بالهدية.
سورة النّمل [الآيات 36 - 44]
سورة النمل [27: 36]
{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، لما: ظرف زماني بمعنى حين.
{جَاءَ سُلَيْمَانَ} : فلما جاء الوفد المرسل من ملكة سبأ بالهدية إلى سليمان، الهدية: الذّهب والجواهر واللآلئ (أي: المال).
{قَالَ أَتُمِدُّونَنِ} قال سليمان للوفد القادم بالهدية: أتمدونن: من أمدَّ يمدُّ إمداداً، أي: الإعانة والتّقوية والإمداد في القرآن يأتي عادة بالخير، أما المد فقد يكون بالشّر هو الزّيادة (في العذاب أو الطّغيان)، والهمزة في أتمدونن للاستفهام الإنكاري والتّعجب والتّوبيخ، والنّون للتوكيد، وقال: أتمدونن بحذف ياء المتكلم ولم يقل: أتمدونني؛ لأنّه يستحيي أن يُخبر بذلك ويريد قصر الخبر وكأن الهدية فضيحة أو رشوة، وهو لم يطلب مالاً أصلاً ولا حاجة له بهذا المال وكان همه مجيئهم إليه مسلمون، وهو إمداد لا حاجة له به مقارنة بما أمده الله من العطاء مثل: تسخير الرياح، والجن، والطير، ولم يقل: أتمدوننا؛ لأنّ الهدية هي خاصة بسليمان فقط وليس قومه.
{بِمَالٍ} : الباء للإلصاق.
{فَمَا} : الفاء للتفصيل، ما: اسم موصول بمعنى الّذي وأوسع شمولاً من الذي.
{آتَانِيَ اللَّهُ} : من الإيتاء وهو العطاء، ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة الفرق بين الإيتاء والعطاء، آتاني الله من المال، وحذف الياء في أتان؛ لأن هدية ملكة سبأ لا يقارن بما أتاه الله تعالى من المال خيرٌ من الهدية وهذا الإيتاء هو جزء مما أتاه الله من الملك والنبوة وتسخير الرياح والجن والطير أتان: يقصد به المال وأما لو قال أتاني: يقصد به الإيتاء الكامل من النبوة والملك وغيرها، مقارنة بقوله تعالى:{وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] أو قوله تعالى: {آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا} [مريم: 30]؛ فالنبوة والكتاب من أعظم الإيتاء.
{خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُم} : خيرٌ: أفضل مما، من: ابتدائية، ما: بمعنى الذي أتاكم؛ أي: المال وعرض الدينا، فلا حاجة لي بهديتكم.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} : أنتم للتوكيد، والباء للإلصاق، بهديتكم تفرحون: الفرح المذموم، والفرح أعم من السّرور والفرح شيء يحدث في النّفس ونقيضه الغم، أما السّرور فنقيضه الحزن. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه.
انتبه: أضاف الهدية إليهم فقال: بهديتكم ولم يضفها إلى نفسه، أيْ: أنتم تفرحون إن جاءتكم هدية من أحد أو تفرحون بهديتكم إن قبلتُها منكم.
والسّؤال: لِمَ لمْ يقبل سليمان الهدية مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية فيما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها ولا يقبل الصّدقة؟
الجواب: الهدية هذه تعتبر كرشوة من بلقيس لسليمان والرّشوة حرام وخاصة حين تهدى إلى الحاكم أو ولاة الأمور، ويكون من ورائها مصلحة ذاتية في الحاضر أو المستقبل، والهدية حين تكون لوجه الله تعالى مباحة، ولكنها نادرة ولا شك أنّ الهدية تورث المحبة والمودة، وهذه الهدية ليست فقط فيها شبه الرّشوة، بل هي هدية تدعو إلى الصّد عن سبيل الله والدّخول في الإسلام وبيع الآخرة بعرض فانٍ وهو المال.
سورة النمل [27: 37]
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} : قال للرسول والوفد المرافق: ارجع إليهم ولم يقل: ارجع إليها، ارجع إلى قومك، ارجع إليهم بهديتهم.
{فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} : الفاء للتوكيد واللام والنّون في لنأتينَّهم لزيادة التوكيد، وأخبرهم أنا قادمون بجنود، ولم يقل: بجند؛ لأنّهم مزيج من الإنس والجن والشّياطين. الّذين سخرهم الله لطاعة سليمان، ولو كانوا من جنس البشر فقط لقال: بجند.
{لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} : لا النّافية، أيْ: لا يستطيعون مقابلتها، أي: التّصدي لها أو القدرة عليها، ولا طاقة لهم على مقاومتها. ولنقارن هذه الآية مع قوله تعالى:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249]، فالطاقة: هي غاية أو أقصى مقدرة القادر، واستفراغ ما في وسعه من قدرة، والقدرة: القدرة أو القوة التي يتمكن بها المرء من أداء الأمور، والاستطاعة: أخص من القدرة، فكل مستطيع قادر، وليس كل قادر بمستطيع.
{وَلَنُخْرِجَنَّهُم} : اللام والنّون كلاهما للتوكيد.
{مِّنْهَا} : من أرضهم من سبأ (مأرب).
{أَذِلَّةً} : بعد هزمهم ودحرهم أذلة بعد أن كانوا أعزة؛ لأنّه سيسلبهم مُلْكَهُم ويصبحون عبيداً.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{صَاغِرُونَ} : من الصَّغار وهو الأسر والذل والاستعباد.
وأدركت بلقيس أنّ هذا إنذار بالحرب من سليمان وهي نفسها تميل إلى السّلم، ولذلك أذعنت وانقادت لطلب سليمان، وبدأت بالاستعداد للقدوم إلى سليمان لإعلان إسلامها مع قومها.
سورة النمل [27: 38]
{قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} :
علم سليمان بنية بلقيس وقومها وأنّهم قادمون إليه لإعلان إسلامهم عندها قال:
{يَاأَيُّهَا الْمَلَؤُا} : يا النّداء، الهاء للتنبيه، الملأ: أشراف وسادة القوم ورؤسائهم المقربين إليها (سادة الإنس والجن) بعد أن دعاهم للاجتماع. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24) لبيان معنى الملؤا، والفرق بين الملؤا والملأ.
{أَيُّكُمْ} : الهمزة للاستفهام.
{يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} : لماذا طلب سليمان (الإيتاء بعرشها)؟؟ فعل ذلك كأية معجزة ليدل بلقيس على صدق نبوته كما فعل الأنبياء والرّسل السّابقين، قبل أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد، يأتوني: النّون للتوكيد، قبل أن يصلوا إلينا، مسلمين: لإعلان إسلامهم، فهو حدَّد زمن الإتيان بهذا العرش قبل أن يأتوني مسلمين، فلا بُدَّ من الذّهاب إلى العرش، ثمّ الإتيان به حمله كقطعة واحدة أو عدة قطع، والله أعلم.
سورة النمل [27: 39]
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} : العفريت هو الخبيث الماكر من الجن ذو القوة الخارقة، وكلمة عفريت اشتقت من التّعفير بالتّراب، فقد كانوا حينما يتسابقون في العَدْو بالخيل أو غيرها يحاول الفارس أن يثير الغبار أو التّراب في وجه المتسابقون الآخرون لكي لا يروا الطّريق.
{أَنَا آتِيكَ بِهِ} : بالعرش.
{قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ} : قبل الانتهاء من مجلسك للقضاء، وكان يجلس للقضاء من الغداة إلى منتصف النّهار، أيْ:(4-5) ساعات، فإذا كان هذا العفريت من الجن يملك هذه القدرة ويقطع مسافة تقارب (5000-6000كم) ذهاب وإياب بين سليمان والملكة في اليمن، فما بالك بقدرة الله الّذي خلق الملائكة والجن، وما بالك بسرعة الملائكة الّذين يعرجون في السّماء، وما قدروا الله حق قدره.
{وَإِنِّى} : للتوكيد.
{عَلَيْهِ} : أي: العرش.
{لَقَوِىٌّ} : اللام للتوكيد، قوي قادر على حمله.
{أَمِينٌ} : على ما فيه من الذّهب والجواهر والدّر (لكونه مرصعاً بها) ولن أبدِّد منه شيئاً، أو أمين لا آتيك إلا به وليس بغيره أو مثله.
سورة النمل [27: 40]
اختلف العلماء في هذا الّذي عنده علم من الكتاب: قالوا: هو سليمان نفسه الّذي عنده علم من الكتاب، فسليمان عليه السلام يعلم الكتاب (التّوراة) أكثر من غيره، فلما قال عفريت من الجن ما قاله ردَّ عليه سليمان بأنّه قادر على إحضاره بطرفة عين، وقالوا: هو رجل من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا، وكان وزيراً لسليمان، وهو رجل صالح كان يعرف اسم الله الأعظم الّذي إذا دُعي به استجاب، ومع العلم أنّ عنده علم من الكتاب، من (بعضية) أيْ: بعض العلم، ويكفي أن يكون علم اسم الله الأعظم فهو لم يحضره بنفسه وإنما دعا الله سبحانه فاستجاب له (كما في قصة الخضر) فالقدرة هي قدرة الله تعالى الّتي أودعها في اسمه الأعظم وعلمها هذا الإنسان.
والمراد بقوله: قبل أن يرتد إليك طرفك، ليس الزّمن هو الّذي يجب أن ننظر إليه، وإنما إلى القدرة الإلهية الّتي لا تقدَّر بأي زمن أو طاقة أو سرعة، أو تحدُّ بحدود؛ لأنّه سبحانه خالق الزّمن، وهو خالق السّرعة، ولنعلم أن سرعة الضوء (300، 000كم في الثانية).
{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} : الطّرف هو الجفن، أيْ: قبل إطباق الجفن كلمح البصر قبل أن تغمض عينيك أو قبل أن تفتح عينيك، ولنعلم أن هناك من حاول تفسير هذه المعجزة من خلال النّظريات العلمية الحديثة المتعلِّقة بالذرة، وكلها تحتاج إلى توثيق.
{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والمباشرة، لما ظرف زماني بمعنى حين.
{رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} : أيْ: رأى العرش مستقراً عنده بين يديه أمامه.
{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى} : قال سليمان: هذا الإحضار من فضل ربي وإحسانه. هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقريب، ويشير إلى الإحضار هو من فضل ربي.
{لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} : اللام: للتوكيد، يبلوني: من الابتلاء. والابتلاء يكون بالشّر والخير فتنةً، أأشكر: الشّكر يعني: نسب النّعمة إلى المنعم والشّكر باللسان والقيام بالعبادات، أم: للإضراب الانتقالي، أكفر: ويعني ستر النّعمة وعدم إسناد النّعمة على المنعم وإخفاءها.
{وَمَنْ} : شرطية.
{شَكَرَ} : الله باللسان والفعل وتتضمن العبادات والصّدقات.
{فَإِنَّمَا} : الفاء للتوكيد، إنما كافة مكفوفة للحصر.
{يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} : كقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]؛ أيْ: نفع أو فائدة الشّكر تعود إليه، ويشكر جاءت بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار لكلّ نعمة.
{وَمَنْ كَفَرَ} : من شرطية، كفر: ستر النّعمة ولم يسندها إلى الخالق الرّزاق، وقال: إنما أوتيته على علم عندي كما فعل قارون.
{فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ} : غني عن شكره وليس بحاجة إلى شكر أي عبد من عباده.
{كَرِيمٌ} : لا يقطع إنعامه على من لم يشكره، أو لا يعبده، وإنما يستمر في عطائه وكرمه، ارجع إلى الآية (12) من سورة لقمان للمقارنة.
سورة النمل [27: 41]
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} :
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} : قال سليمان: غيِّروا بعض معالم عرشها وبعض ألوان أحجاره أو نقوشه، التّنكير ضد التّعريف جعل الشّيء لا يُعرف إلا بصعوبة.
{نَنظُرْ أَتَهْتَدِى} : نختبرها وننظر نظرة قلبية ونظرة بصرية، أتهتدي إلى معرفة عرشها، أو لا تهتدي أو تهتدي للجواب الصّواب أم لا.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} : والغاية من إحضار العرش وتنكيره لعلَّها إن رأت هذه المعجزة تسلم وتدخل في الإسلام هي وقومها.
سورة النمل [27: 42]
{فَلَمَّا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لما: ظرف زماني بمعنى حين.
{جَاءَتْ} : بلقيس.
{قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} : سُئلت أهكذا: الهمزة همزة استفهام وتقرير وإخبار، ولم يقل: أهذا عرشك: هذا القول يوحي إليها بالجواب أنّه عرشها.
{قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} : ولو قالت: هو، لسألوها كيف جاء العرش والمسافة كانت تستغرق حوالي شهرين مشياً على الأقدام، ولو قالت: ليس هو، لقيل لها: كيف تجهلين عرشك فكانت ذات دهاء وحكمة فقالت: كأنّه هو.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} : هذا قول سليمان عليه السلام : وأوتينا العلم بالدّين من قبلها بفضل الله ودخلنا في الإسلام من قبل أن تُسلم أو تدخل في الإسلام، وكنا مسلمين: جملة اسمية تفيد الثّبوت، أي: الإسلام صفة ثابتة مستمرة لا تتغيَّر عندنا.
سورة النمل [27: 43]
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} :
{وَصَدَّهَا} : الصّد هو المنع عن قصد الشّيء خاصة، أيْ: منعها؛ أي: أضلها ما كانت تعبد من دون الله (أي: عبادة الشّمس أو الشّيطان أضلها عن عبادة الله).
{إِنَّهَا} : للتوكيد.
{كَانَتْ مِنْ} : تكرار كانت مرتين للتأكيد على تمكن الكفر منها؛ لأنها نشأت وترعرعت في قوم كافرين، من ابتدائية.
{قَوْمٍ كَافِرِينَ} : جاحدين بوجود الله تعالى، أيْ: غير مؤمنين بالله تعالى.
سورة النمل [27: 44]
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ} : طلب منها أو سُئلت أن تدخل الصّرح، الصّرح: القصر العظيم وقد كان له مدخل أو بهو كبير مصنوع من قوارير، أيْ: زجاج.
{فَلَمَّا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لما: ظرف زماني بمعنى حين.
{رَأَتْهُ} : رأت المدخل القصر أو بهو القصر.
{حَسِبَتْهُ} : من حسب وهو الظّن الرّاجح يقوم على الحساب الحسي والقلبي والنّظر والتّجربة وحسبته: اعتقدت.
{لُجَّةً} : مجمع للماء في مدخل القصر، وكان أرضه مصنوعة من زجاج شفاف وأجري تحته الماء وفيه أسماك وأمواج المياه، فمن يراه لأول مرة يحسبه لجة. من لجة البحر؛ أي: تردد أمواجه وعودتها إلى الاصطدام بالشاطئ أو بالصخر المرة بعد الأخرى بلا انقطاع.
{وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} : لتخوض في اللجة.
عندها {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} : قال: سليمان لها: إنّه مصنوع من الزجاج.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} : قالت: بلقيس رب إنّي للتوكيد، ظلمت نفسي بالكفر أو بعبادة الشّمس من دونك.
{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} : ولم تقل: وأسلمت لسليمان، وإنما أسلمت مع سليمان، أيْ: أنا وهو كلانا عبدٌ لله سبحانه رب العالمين، ولو قالت أسلمت لسليمان تعني أنها أشركت بالله.
سورة النّمل [الآيات 45 - 55]
سورة النمل [27: 45]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} : ارجع إلى الآية (23) من سورة المؤمنون للبيان.
{إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} : ارجع إلى الآية (73) من سورة الأعراف للبيان.
{أَنِ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{اعْبُدُوا اللَّهَ} : وحده ولا تشركون به شيئاً.
{فَإِذَا} : الفاء للتوكيد، إذا الفجائية.
{هُمْ} : للتوكيد.
{فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} : فريق مؤمن وفريق كافر، يختصمون لم يبيِّن نوع الخصومة في هذه الآية، ولكن بيَّنها في سورة الأعراف الآية (75-76):{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} .
ولم يقل: فريقان يختصمان: لأن كلّ فريق يشمل عدد من الأعضاء وعند الاختصام والمحاربة الكلّ يشترك، وهذه الخصومة في الدّنيا بين الفريق المؤمن والكافر أمّا في الآخرة فتتحول إلى خصومة بين الكافرين أنفسهم، الأتباع والمتبوعين أو القادة والأتباع.
سورة النمل [27: 46]
{قَالَ} : نبيهم صالح، يا قوم: يا النّداء يا قوم: متودداً إليهم.
{لِمَ} : أداة استفهام إنكاري، ما الاستفهامية، حذف ألفها لدخول حرف الجر عليها، وهو اللام.
{تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} : حين قالوا: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، قال: يا قوم لم تستعجلون بالسّيئة: بالعذاب، والسّيئة: تعني هنا كلّ ما يسيء النّفس ومنها العذاب والبلاء والعقوبة، والضّرر، قبل الحسنة: لغوياً: هي كلّ ما يستحسنه الإنسان من صحة وغنى وخير في الدّنيا وفي الآخرة الجنة والرّضوان، شرعاً: هو كلّ ما يستحسنه الشّرع ويتمثل بطاعة الله وتجنب نواهيه من قول أو فعل يورث ثواباً.
تستعجلون: بصيغة فعل المضارع ليدل على تكرار استعجالهم فهم لم يستعجلوا مرة، بل مرات متكرِّرة.
{لَوْلَا} : أداة طلب وحضٍّ وحثٍّ.
{تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} : الاستغفار يسبق التّوبة، أيْ: لِمَ لا تطلبون المغفرة من ربكم بدلاً من استعجالكم بالعذاب.
{لَعَلَّكُمْ} : لعل للتعليل.
{تُرْحَمُونَ} : ارجع إلى سورة الإسراء آية (8) للبيان.
سورة النمل [27: 47]
{قَالُوا} : أي: الّذين استكبروا وكفروا من قوم ثمود قالوا لصالح.
{اطَّيَّرْنَا بِكَ} : اطيرنا: من التّطير وهو التّشاؤم ـ مأخوذ من الطّير فقد كان الواحد في زمن الجاهلية إذا أراد أن يسافر أو يفعل شيئاً يُمسك بالطّائر، ثمّ يدعه يطير فإن طار عن يمين الّذي أرسله تفاءل، وقام بما ينوي أو سافر وإن طار من ناحية الشّمال تشاءم وامتنع عن القيام بما ينويه.
{اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} : أن تشاءمنا بك وبمن اتبعك؛ لأنّه أصابهم القحط والجوع، وفيها تضعيف وتنكير يفيد المبالغة والمبالغة في اطيرنا أشد وأقوى من تطيرنا بك.
وإذا قارنا هذه الآية {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} والآية (18) من سورة يس {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} نجد التّشاؤم أشد وأقوى في قوم صالح مما دعاهم إلى التّهديد بقتل صالح وأهله مقارنة بالتّهديد والإنذار في آية يس. ارجع إلى آية يس (18) للبيان.
{قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} : أي: سبب شؤمكم وما يصيبكم من الشّر والبأساء هو قدر من الله تعالى وقضائه كتبه عليكم لابتلائكم، وليس تطير كما تزعمون، وما يصيبكم وينالكم هو بما قدَّمت أيديكم وسوء أعمالكم.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} : بل: للإضراب الانتقالي، أيْ: ما يصيبكم هو فتنة وليس له علاقة بالتّطير، تفتنون بالشّر والخير لتكون عليكم حُجَّة ولينظر هل تتوبون أم تصرون على ما تفعلون.
سورة النمل [27: 48]
{وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} :
{وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ} : مدينة الحجر.
{تِسْعَةُ رَهْطٍ} : الرّهط جماعة عددها من (3-10) أفراد بينهم شيء من القرابة أو عبارة عن تسعة عشائر ولكلّ عشيرة زعيم، إذن في المدينة تسعة رجال كرهط، وهناك من قال: كان في المدينة تسعة عشائر أو قبائل أو أسراً. وقيل: كان زعيمهم قدار بن سالف (عاقر النّاقة).
{يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ} : عمل هؤلاء الرّهط الفساد في الأرض بالقتل وإهلاك الحرث والنّسل والكفر والمعاصي وقطع الطّريق ونشر الرّعب والخوف، يفسدون: بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار.
{وَلَا يُصْلِحُونَ} : لا النّافية، لا يصلحون: تعني يفسدون فلماذا ذكر ذلك؟ أيْ: لا يُصلحون؛ لأنّ الإنسان قد يفسد في شيء ويصلح في آخر مثل الّذي يخلط عملاً سيئاً وآخر صالحاً، فهؤلاء التّسعة رهط كانوا أهل فساد دائم في الأرض، ولا يقومون بأيِّ عمل فيه إصلاح.
سورة النمل [27: 49]
{قَالُوا} : أيْ: تسعة رهط.
{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} : أيْ: أقسموا بالله، الباء: باء القسم كلّ واحد أقسم للآخر؛ أي: ابتدأ بالقول أحدهم قائلاً لهم تقاسموا وهو يريد المشاركة معهم في القسم، ودل على ذلك قوله:{لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ} فلما توافقوا على الأمر فصار الجميع في حكم القائل. انظر إلى هؤلاء المفسدون في الأرض يقسمون بالله سبحانه ليقتلن نبيهم (صالح) ويظنون أنّ الله سبحانه غافلاً عما يعملون ولن يقيَه شرهم.
{لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} : اللام لام التّوكيد، لنبيتنه: لنقتلنَّه وأهله وقت البيتوتة، أيْ: في الليل أو لنقتلنَّه بغتة أو نباغتنَّه بياتاً، وكذلك نقتل أهله في نفس الزّمن، فهم لم يكفيهم أن عقروا الناقة بل تمادوا في غيهم وفسادهم ويريدوا قتل صالح عليه السلام وأهل بيته.
{ثُمَّ} : للترتيب الذّكري، أيْ: بعد قتله في الصّباح.
{لَنَقُولَنَّ} : اللام لام التّوكيد، والنّون لزيادة التّوكيد.
{لِوَلِيِّهِ} : لولي دم صالح (أقربائه) من الذين يطالبون القصاص أو الدية.
{مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} : ما النّافية، شهدنا: ما علمنا من قتل أهله فكيف نعلم من قتل صالح، ولم يقولوا: ما شهدنا مهلكه، ما شهدنا مهلك أهله؛ لكي يبعدوا الشّبهات عنهم، فإذا لم نشهد مهلك أهله من باب أولى ما شهدنا مهلكه (مقتله) ولا نعرف شيئاً عن قتله.
{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} : اللام للتوكيد، لصادقون: لأنّهم يعلمون أنّ أوليائه وأتباعه لن يصدقوا ما سيقال لهم بشأن قتله وقتل أهله، وسيقولون لهم: وإنا لصادقون فيما نخبركم به، وهم يعلمون في أنفسهم أنّهم كاذبون، ونسوا أنّ الله معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول ولن يترك رسوله يقتل.
سورة النمل [27: 50]
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} : المكر مأخوذ من الشّجر الكثيف الأغصان الملتف على بعضه فلا يستطيع أن تميز بعضاً عن بعض كلها مستترة، فالمكر هو التّدبير الخفي لإلحاق الضّرر بالخصم من دون أن يعلم ويدلُّ على ضعف من يمكر بالآخرين.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا} : أيْ: دبروا بالخفاء لقتل نبيهم صالح وأهله، وذلك بعد أن عقروا النّاقة وهددهم صالح بعذاب الله، {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
{وَمَكَرْنَا مَكْرًا} : أي: انتقمنا منهم بنصر نبينا صالح والّذين آمنوا معه، والله سبحانه وتعالى القوي العزيز ليس بحاجة إلى المكر وليس من صفاته المكر، وإنما ذكر ذلك للمشاكلة في اللفظ فهو قادر على أن يهلكهم ويهلك من في الأرض جميعاً.
فهم لم يكتفوا بعقر النّاقة ومكروا مكراً على قتل صالح وأهله؛ لأنّهم بعد أن عقروا النّاقة وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين حين أصابهم الجنون وعمى البصيرة عندها اجتمعوا في تلك الليلة ودبروا ذلك المكر لقتل صالح وظنوا أنّهم إذا قتلوا صالحاً سوف ينجوا من عذاب الله.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : وهم: الواو حالية، هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، لا يشعرون: أنّا دبرنا لهم أن نأخذهم بالصّيحة (نهلكهم) كما قال تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67].
سورة النمل [27: 51]
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} :
{فَانظُرْ} : الفاء للتوكيد، انظر نظرة تأمل وتفكر بعقل وبصيرة، وليس نظرة بالعين؛ لأنّ الهلكى ليس أمام النّاظر، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّ مؤمن ومؤمنة كيف كان عاقبة مكرهم هل تحقق مكرهم أم كان وبالاً عليهم.
{كَيْفَ} : استفهام وتعجب كيف كانت نهاية ذلك المكر.
{كَانَ عَاقِبَةُ} : إذا ذكر العاقبة وقال: كان عاقبة بدلاً من: كانت عاقبة، تدل على العذاب وإذا أنث العاقبة تدل على الجنة.
{مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} : أنّا: للتوكيد، دمرناهم: من التّدمير من دون سابقة إنذار والدّمار يشمل الإفراد والحيوان والدّيار وما يملكون.
{دَمَّرْنَاهُمْ} : التّسعة رهط وقومهم أجمعين، أجمعين للتوكيد أيْ: لم ينجو منهم أحداً أبداً. ارجع إلى سورة الإسراء آية (16) للبيان.
سورة النمل [27: 52]
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :
{فَتِلْكَ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة، تلك: اسم إشارة واللام للبعد.
{بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} : خالية ليست مسكونة خراباً تهدَّمت جدرانها وخرَّت سقوفها. ارجع إلى سورة النّور آية (27) لبيان معنى البيوت.
{بِمَا ظَلَمُوا} : الباء باء السّببية أو البدلية أو التّعليلية، ظلموا: أيْ: كفروا وأشركوا وأفسدوا.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن: للتوكيد، في: ظرفية، ذلك: اسم إشارة يشير إلى الصيحة والدّمار والخراب، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31].
{لَآيَةً} : اللام للتوكيد. لآية: عبرة وموعظة ودلالة.
{لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : اللام في لقوم لام الاختصاص، قوم يعلمون: يعلمون تعني: فكروا فيما حدث لقوم صالح وتدبروا لأصبحوا يعلمون ما هي نهاية كلّ ظالم ومشرك يخرج عن منهج الله عز وجل.
سورة النمل [27: 53]
{وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :
{وَأَنجَيْنَا} : تدل على سرعة النّجاة وبقوة، ولم يقل: ونجينا الّتي تدل على طول زمن النّجاة.
{الَّذِينَ آمَنُوا} : أيْ: صالحاً والّذين آمنوا معه، وكلمة الّذين تدل على كثرة النّاجين. قيل: كان عددهم (4000) أربعة آلاف، آمنوا بالله وبما أنزل وبرسله. أنجيناهم من الصّيحة (الرجفة)، وأما الذين كفروا {فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
{وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : كانوا يطيعون أوامر الله ويتجنبون نواهيه ويتقون عذاب الله، وذلك بطاعة الله ورسوله، ويتقون: جاءت بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد والتّكرار؛ لأنّ التّقوى تتجدَّد وتتكرَّر، أما كلمة آمنوا فجاءت بصيغة الماضي؛ لأنّ الفرد متى آمن لا يرجع عن إيمانه، ومما يلفت الانتباه أنّه سبحانه لم يذكر شيئاً عن النّاقة في هذه الآيات.
سورة النمل [27: 54]
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} :
{وَلُوطًا} : أيْ: وأرسلنا لوطاً إلى قومه.
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} : إذ: واذكر إذ قال لقومه أو حين قال.
{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} : أتأتون: أتفعلون، أو تقومون بالفاحشة: تعريفها: كل ذنب قبيح أو معصية قبيحة مثل: إتيان الرجال شهوة من دون النّساء، الهمزة همزة استفهام إنكاري توبيخي، أتأتون الذّكور دون الإناث.
{وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} : أيْ: يُبصر بعضكم بعضاً القيام بها، أو أنتم تعلمون أنّها فاحشة، تبصرون بمعنى النّظر كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتواً وتمرُّداً، وبلا حياء وخجل.
سورة النمل [27: 55]
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} :
{أَئِنَّكُمْ} : زيادة الهمزة للدلالة على الإنكار والتّوبيخ ووصفهم بالجهل وهو أشد من الإسراف.
{لَتَأْتُونَ} : اللام للتوكيد والنّون لزيادة التّوكيد. تأتون: تفعلون المنكر.
{الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} :
{بَلْ} : بل للإضراب الانتقالي.
{أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : عاقبة فعلكم، عاقبة عصيانكم، وأنكم تجاوزتم حدود الله وماذا سيحل بكم والجهل معناه السّفه أيضاً أو تفعلوا فعل الجاهلين أيْ: أنتم قوم سفهاء. ارجع إلى سورة الفرقان آية (63) للمزيد في بيان معنى الجهل. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (81) في سورة الأعراف وهي قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} ، وفي سورة الحجر آية (58) وصفهم بالقوم المجرمين؛ أي: هم اتصفوا بالجهل والإسراف معاً والإجرام؛ أي: بالجهل والحمق والإجرام بأن الله سبحانه جعل لهم من أنفسهم أزواجاً.
سورة النّمل [الآيات 56 - 63]