الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النمل [27: 56]
{فَمَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ أيْ: بسرعة، ما: النّافية، الفاء تدل على أنّ الجواب جاء مباشرة.
{كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ} : إلا: أداة حصر، أن: مصدرية تفيد التّعليل.
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} : آل لوط: الأهل: الزوجة والأولاد، ومن معانيه: الأتباع، أما قوم لوط: أوسع معنى أوسع من القبيلة والآل من قريتكم: سدوم العاصمة وما حولها من القرى الأربع، والّتي سُمِّيت المؤتفكات والقرية تمثل القرى الأخرى كلها لها نفس الطّابع.
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.
{أُنَاسٌ} : مجموعة من النّاس، أيْ: آل لوط.
{يَتَطَهَّرُونَ} : قالوا ذلك سخرية واستهزاء من آل لوط يتطهرون من القيام بفعل الفاحشة، وأعمال المنكر الأخرى، ويدّعون أو يزعمون أنّهم أطهار.
وإذا قارنا هذه الآية بآية الأعراف (82){وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} نجد الفرق وجود الفاء في مطلع الآية فما كان، ويدل ذلك على وجود انقسام في قوم لوط؛ قسم يريد أن يخرج آل لوط الآن مباشرة، وقسم لا يتعجل بإخراجهم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (82) لمزيد من البيان والسبب.
سورة النمل [27: 57]
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} :
{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، أنجيناه: بسرعة وبقوة ولو قال: ونجيناه تدل على طول زمن النّجاة.
{وَأَهْلَهُ} : انتبه: وقد بيَّنت سورة الذّاريات آية (35-36) بعضاً من ذلك بقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وهو بيت لوط (بيت واحد) فقط.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{امْرَأَتَهُ} : امرأة لوط.
{قَدَّرْنَاهَا} : أيْ: حكمنا عليها أن تكون من الهالكين. وهذا التقدير هي التي فرضته بما اختارت بعملها أن لا تطع الله تعالى، ولوط عليه السلام ، وأما قوله تعالى:{قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 60]: فهي تدل على شدة العقوبة لها، والتأكيد على ذلك، وأما قوله تعالى:{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83]: جاءت في سياق الخبر أو القصة.
{مِنَ الْغَابِرِينَ} : جمع غابر: أي: الباقي، أي: الباقين في العذاب، وكما قال في سورة التّحريم آية (10):{امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} . فخانتاهما: أي: في الدين؛ أي: الكفر والنفاق، وليس في العِرض.
وما دامت بقيت في قريتها فهي من المهلكين، مع قومها، قيل: كانت مشاركة في تلك الجريمة لذلك أصابها ما أصاب قومها.
سورة النمل [27: 58]
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} :
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} : بعد أن جعل عاليها سافلها كما قال تعالى في سورة الحجر الآية (74): {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} .
{مَّطَرًا} : جاءت بصيغة النّكرة أو الإبهام للتهويل وبين نوع المطر في سورة هود الآية (82) فقال: {مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} .
{عَلَيْهِم} : قدَّم عليهم للحصر والقصر، وفي سورة هود الآية (82) قال: عليها على القرية، أو على المؤتفكات فالحجارة أمطرت على القرية بما فيها أهلها ولم يستثنِ أحد، ومن خصائص القرآن أن يستعمل كلمة المطر في سياق الانتقام والعذاب والغيث في سياق الرّحمة.
وقوله: وأمطرنا مشتقة من الفعل الرّباعي أمطر: أيْ: أصابهم بالمطر، أيْ: بالعذاب، ولو قال: ومطروا مشتقة من الفعل الثّلاثي مطر لا تدل على العذاب.
{مَّطَرًا} : للتوكيد.
{فَسَاءَ} : الفاء للتوكيد، ساء من أفعال الذّم والتّقبيح.
{مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} : المنذَرين جمع مُنذَر وأنذروا دائماً وباستمرار، والإنذار: الإعلام والتّحذير والتّخويف، بأن يتجنَّبوا فعل الفاحشة.
وفي سورة هود آية (82-83) وصف هذا المطر بالقول: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} السّجيل المنضود: السّجيل، قيل: طين متحجِّر شديد الصّلابة والتّفسير العلمي يخبرنا أنّ هذه الحجارة قد تكون أحد النّجوم الّتي انفجرت، وتسمَّى النيازك. ارجع إلى سورة الحجر آية (74) لمزيد من البيان.
منضود: متتابع في النّزول من النّضد وهو وضع الشّيء بعضه فوق بعض.
مسومة عند ربك: من سؤم الشّيء علمه بعلامة من السّؤمة العلامة أو السيماء. ارجع إلى سورة هود آية (82-83) لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 59]
{قُلِ} : المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي أمته.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : جاءت بعد ذكر قصص الّذين كفروا وأفسدوا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وطهر الكون منهم، فهذه نعمة تستحق الحمد والشّكر لأنّه أراح العباد والبلاد من شرهم وإهلاك وتدمير المكذبين والمفسدين يُعد عبرة وآية وعظة لغيرهم كي يتجنبوا ما فعله غيرهم، فينجوا من العذاب ومن سخط الله تعالى، وهذه نعمة أخرى تستحق الحمد. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمعرفة معنى الحمد.
فالحمد لله تعني: الّذي أهلك المفسدين أولاً، وكما قال تعالى:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] ونصر رسله وأوليائه ثانياً.
{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} : أيْ: سلام على رسله وأنبيائه الكرام، وتشمل المؤمنين الّذين آمنوا بهم وهم خير البرية. وسلام جاء بصيغة المرفوع ليكون سلام من الله سبحانه على عباده الذين اصطفى دائماً وثابتاً لا يتغير.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} : سلام تحية كأن نقول: وعليهم السلام عند ذكر أسمائهم، وسلام جاءت بصيغة النكرة ليشمل سلام التحية والدعاء بالسلام من الآفات والمكروهات والأمراض وسلام أمن وطمأنينة، وفي الآية تعليم بأن نحمد الله تعالى على جميع أفعاله ونسلم على عباده المصطفين الأخيار.
{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} : مناسبة ذكر هذا الجزء من الآية بعد ذكر قصة موسى وفرعون وثمود ولوط وقصة سبأ أيضاً، وكيف أسلم قومها ونجوا من الهلاك، ثمّ يتبعها بالاستفهام.
{آللَّهُ خَيْرٌ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ وتقرير خير، أيْ: أفضل وأجل وأحسن.
{أَمَّا} : مكوَّنة من أم + ما (أدغمت الميمان) أم المتصلة، ما المصدرية أو اسم الموصول بمعنى الّذي.
{يُشْرِكُونَ} : بالله تعالى من الآلهة والأصنام سواء كانوا أهل مكة أو غيرهم من المشركين، أيْ: هل شركهم خير لهم أم عبادة الله الواحد القهار ولا بُدَّ من الإجابة، والقول الله خير وأجل سبحانه عما يشركون.
سورة النمل [27: 60]
بعد أن سأل سبحانه: أعبادته خير أم عبادة الأصنام. ثمّ يعدِّد سبحانه بعض الآيات الدّالة على عظمة خلقه ووحدانيته والّتي تدعو إلى الإيمان به.
{أَمَّنْ} : مركبة من أم + من، وأدغمت الميمان، أم: الهمزة للاستفهام والتّقرير أم المنقطعة.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : ارجع إلى سورة فصلت الآية (9-12) للبيان، وسورة الأنبياء آية (30)، وسورة الأعراف آية (54)، والبقرة آية (22، 29) للبيان المفصل.
فأعظم المخلوقات العرش، ثمّ يليه خلق السّموات والأرض، ثمّ خلق الإنسان. ارجع إلى سورة هود آية (7) للبيان.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : تشير هذه الآية إلى دورة الماء حول الأرض ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18).
{فَأَنبَتْنَا} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، أنبتنا بصيغة الجمع للتعظيم، ورغم أنّ البعض يشارك في الحراثة والسّقي والزّرع وغيرها، ولكن الإنبات الحقيقي هو من فعله فلا تتوهموا أنّكم من تقومون بالإنبات. ارجع إلى سورة الحج آية (5) وآية (63) وسورة فصلت آية (39) والأنعام آية (99).
أنزل بصيغة الغائب أنبتنا بصيغة المتكلم هذا الالتفات من الغائب إلى الحاضر يفيد التّوكيد ولفت الانتباه.
{بِهِ} : تعود على الماء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
{حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} : حدائق جمع حديقة، وسُمِّيت كذلك لأنّه يُحْدَق عليها، أيْ: محوطة بسور وذكر الحدائق ذات البهجة، ولم يذكر ما هو الضّروري أولاً مثل الزّرع والقمح والحبوب، وانتقل إلى ذكر الحدائق والثّمار والفواكه وهذه من الكماليات ومن يتكفل بالكماليات فلا شك أنّه يتكفل بالضّروريات أولاً، فلا داعي لذكرها.
{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} : ما النّافية، كان تشمل كلّ الأزمنة أن تعليلية، تنبتوا شجرها: ولكن بفضل الله ورحمته هو ينبتها، وهذا تأكيد لقوله: فأنبتنا.
{أَءِلَاهٌ مَعَ اللَّهِ} : استفهام إنكاري يقصد به التّوبيخ والتّهكم أيْ: أإله مع الله سبحانه ساعده أو شاركه على صنع تلك الحدائق ذات البهجة وخلق السّموات والأرض.
{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} : بل للإضراب الانتقالي، قوم يعدلون: قوم يميلون عمداً وينحرفون عن الحق إلى الباطل؛ لأنهم يعلمون أن الله الذي خلق السموات والأرض كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، فرغم علمهم بهذا يجعلون لله عديلاً؛ أي: يعدلون عن ربهم أيْ: يشركون به ويعبدون غيره.
سورة النمل [27: 61]
{أَمَّنْ} : ارجع إلى الآية (60).
{جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} : الجعل يكون بعد الخلق، الخلق أولاً، ثمّ الجعل ثانياً، جعل الأرض قراراً، من قرَّ يقرُّ: أيْ: سكن وثبت بحيث لا تميد ولا تضطرب بأهلها رغم كونها تدور حول نفسها (30) كيلومتراً بالثّانية، وتدور حول الشّمس، وهذا القرار ناتج عن كتلة الحديد الضخمة الّتي تشكل (90%) من لب الكتلة الصلبة للأرض و (9%) من النيكل (1%) من بقية العناصر، وكتلة الأرض تقدر بـ (6) آلاف مليون مليون مليون طن، فلولا ثقل هذه الكتلة لما استقرت الأرض ولترنَّحت حول محورها.
{وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا} : هناك رابطة بين الجبال والأنهار؛ لأن غالبية الأنهار تنبع من الجبال ونزول الماء من الجبال يؤدي إلى شق هذه الأنهار. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (32) والرعد آية (3) لمزيد من البيان.
{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} : الجعل: يكون بعد الخلق فقد خلق الأرض أولاً، ثم جعل لها رواسي، وهي: الجبال الرّواسي وغيرها مما يثبت الأرض من الصفائح تحت البحار، وتسمَّى الصفائح القارية، فلا تضطرب إلا أحياناً مما يؤدي إلى الهزات الأرضية، أو أحياناً البراكين، وكذلك قوى الجاذبية. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (31)، وسورة النّحل آية (15) للبيان، ولمعرفة الفرق بين ألقي فيها رواسي، وجعل لها رواسي ومزيد من البيان.
{وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} : بين البحر العذب والبحر المالح الأجاج حاجزاً بحيث لا يختلط ماؤهما رغم أنّه يظهر للعيان أنّه يختلط، ارجع إلى الآية (53) من سورة الفرقان للبيان، وسورة فاطر آية (12) وسورة الرّحمن آية (19-20).
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : للإضراب الانتقالي، لا يعلمون: كثيراً من هذه الحقائق العلمية من استقرار الأرض رغم دورانها وتشكل الجبال والأنهار وبين البحرين حاجزاً الكثرة لا يعلمون عظمة وقدرة الله تعالى على الخلق والجعل والقلة يعلمون، وهم العلماء والباحثين في علوم الفلك والجيولوجيا، والبحار وعلماء الطبيعة.
سورة النمل [27: 62]
{أَمَّنْ} : ارجع إلى الآية (60).
{يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} : تعريف المضطر: الّذي أصابه الكرب أو البأساء والضّراء، والّذي استنفد الأسباب وأخذ بها، فلم تُجْدِهِ فالمضطر يُجيبه الله سبحانه لا محالة.
{إِذَا} : ظرفية بمعنى حين أو الفجائية.
{دَعَاهُ} : طلب منه المساعدة والرّحمة أو تضرع إليه.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} : مثل المرض والفقر والقحط أو العذاب، والسّوء ما يسوء إلى النّفس أيْ: هو وحده الّذي يزيل أو يرفع السّوء.
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} : ارجع إلى الآية (165) من سورة الأنعام للبيان.
{أَءِلَاهٌ مَعَ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية السّابقة (60) للبيان.
{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} : قليلاً ما تذكرون أنّه كشف عنكم الضّر والسّوء وكثيراً ما تنسون ذلك، ما: للتوكيد، تذكرون: ولم يقل: تتذكرون؛ لأنّ تذكر كشف السّوء والضّر لا يحتاج زمناً طويلاً فمن المفروض أن تذكروا ذلك حالاً؛ لأنّ الاضطرار قليلاً ما يحدث في حياتكم. وبهذا ذكر صفات المشركين بأنهم قوم يعدلون وبأن أكثرهم لا يعلمون وقليلاً ما يذكرون.
سورة النمل [27: 63]
{أَمَّنْ} : ارجع إلى الآية السّابقة (60) للبيان.
{يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : ظلمات اللّيل وظلمات الصّحراء حين تنقطع بكم كلّ وسائل أو سبل الاتصال، ظلمات البحر قد تبين من الدراسات العلمية أن للبحر (10) ظلمات. ارجع إلى سورة النور آية (40) للبيان، وحين تعصف بكم الرّيح وتغشاكم الأمواج من كلّ مكان ولا أحد ينقذكم أو يستطيع الوصول إليكم أو حين تغوصون في البحار.
{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} : تبشر بنزول المطر أو الغيث. ارجع إلى الفرقان آية (48).
{أَءِلَاهٌ مَعَ اللَّهِ} : أيْ: أغير الله يهديكم في ظلمات البر والبحر أو يرسل الرّياح بشراً بين يدي رحمته.
{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : أي: رغم أن الله يهديهم في ظلمات البر والبحر فهم بدلاً من شكره على نعمة الهداية يشركون به سبحانه تنزَّه وتقدَّس الله أن يكون له شريك أو ولي أو ولد فهو الواحد الأحد.
وقوله: تعالى الله عما يشركون هي ردٌّ على كلّ الأسئلة الاستفهامية الثلاثة عشر الّتي ذكرت في الآيات (60-64)، وفي الآية (64) يتحداهم ويقول: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
سورة النّمل [الآيات 64 - 76]
سورة النمل [27: 64]
{أَمَّنْ} : ارجع إلى الآية السّابقة (60) للبيان.
{يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} : هم لا ينكرون أنّ الله هو الخالق للسموات والأرض، والخالق لهم، كما ورد في قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فهم لا ينكرون بداية الخلق، ولكنّهم ينكرون البعث والنّشور بعد الموت، ومع أنّ إعادة الخلق أهون من بداية الخلق فالله سبحانه يبدأ الخلق ويعيده، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]. ويجب الانتباه إلى كلمة بدأ الخلق؛ أي: الخلق الأول؛ أي: النشأة الأولى [الواقعة: 62]، وكلمة يُبدؤ الخلق تدل على تجديد وخلق مستمر في كل عام أو فترة وفترة.
{وَمَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : من السّماء المطر، الشّمس كطاقة شمسية والرّياح تستعمل لتوليد الطّاقة والأرض بالنّبات والزّرع والبترول والغازات والمعادن الذّهب والفضة وغيرها مثل الحديد والنّحاس.
{أَءِلَاهٌ مَعَ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية السّابقة (60) للبيان.
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : بعد أن نزه الله سبحانه ذاته عما يشركون بعد ذكر الأدلة على وحدانيته وألزمهم بالحجة يطلب منهم أن يأتوا بالبرهان، والبرهان: هو الحجة الفاصلة، أو الدليل القاطع؛ إن كنتم صادقين أنّ لله شريك في الملك أو في الخلق أو التّدبير أو الهداية أو الإجابة أو الإحياء والإماتة أو الرزق أو أيِّ شيء، إن شرطية تفيد الشّك أو القدرة على الإيتاء بأيِّ برهان أو دليل.
{كُنتُمْ صَادِقِينَ} : في أن لله شريكاً؛ أي: إنكم كاذبين حين تجعلون مع الله إلهاً آخر.
سورة النمل [27: 65]
بعد أن بيَّن سبحانه بعض مظاهر قدرته الدّالة على وحدانيته وأنّه الإله الحق الّذي يجب أن يطاع ويعبد اتبع ذلك بأنّه عالم الغيب لوحده وعنده علم السّاعة.
{قُلْ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم لهم.
{لَا} : النّافية لكل الأزمنة.
{يَعْلَمُ مَنْ} : من للعاقل واستغراقية تشمل كلّ عاقل في السّموات والأرض.
{فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : في ظرفية تشمل السّموات السّبع والأرض من في السّموات: الملائكة، من في الأرض: الإنس والجن.
{الْغَيْبَ} : كلّ ما غاب عن أعين النّاس وعن إدراك وإحساس النّاس.
{إِلَّا} : أداة حصر، الله سبحانه وتعالى.
لا يعلم من في السّموات والأرض الغيب إلا الله، هذا يسمَّى غيباً مطلقاً لا يعلمه إلا الله وحده، وهو غيب حقيقي اختص به الله لوحده، وهناك من الغيب ما يطلعه أو يظهره الله سبحانه لرسول من رسله، كقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26-27].
{وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} :
{وَمَا} : النّافية.
{يَشْعُرُونَ} : أيْ: كفار مكة وغيرهم من منكري البعث.
{أَيَّانَ} : ظرف زمان، بمعنى متى.
{يُبْعَثُونَ} : يخرجون من القبور للحساب والجزاء.
سورة النمل [27: 66]
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُمْ مِّنْهَا عَمُونَ} :
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الْآخِرَةِ} : أصل الإدراك تدارك سكنت التّاء وأدغمت في الدّال.
والتّدارك: الاضمحلال والفناء وأصله التتابع والتّلاحق، يقال: تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك:
فيكون المعنى الأوّل: اضمحلَّ وتلاشى شيئاً فشيئاً علم المشركين بالآخرة شيئاً، أو الّذين كفروا حتّى كأنّهم لم يعودوا يعلمون شيئاً عن الآخرة. أو لا يريدون سماع أي شيء عن الآخرة؛ لأنّهم لا يؤمنون بها أو لا يريدون الكلام عنها والاستعداد لها فلذلك تلاشى واضمحل علمهم بالآخرة.
المعنى الثّاني: توالى وتتابع الحديث عن الآخرة عند كلّ الرّسل فما أحد منهم وإلا ودعا إلى الإيمان بالآخرة، وتتابع التّذكير بها، ومع ذلك لازالوا في شك من قيامها وحدوثها.
أو عميت أبصارهم وبصائرهم عن دلائل علم القيامة الواضحة والآيات الدّالة على قدرة الله على البعث.
المعنى الثّالث: عندما يرون الآخرة ويرون يوم القيامة يتكامل علمهم بالآخرة، وعندها يعلمون علماً كاملاً ما كانوا يجهلونه في الدّنيا وما كانوا يشكون فيه ولا يصدقونه.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا} : في شك من حدوث الآخرة وقيام السّاعة والشّك يعني تساوي نسبة الإثبات ونسبة النّفي.
{بَلْ هُمْ} : هم للتوكيد.
{مِّنْهَا عَمُونَ} : أيْ: لا يرون علاماتها ودلائلها وأمارتها لاختلال بصيرتهم، عمون: جمع أعمى، أيْ: هو أعمى القلب والبصيرة عن الآخرة.
سورة النمل [27: 67]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} :
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : منكرو البعث من الّذين كفروا.
{أَإِذَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والاستبعاد والهمزة الثّانية همزة إذا الشرطية.
{كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} : بعد الموت.
{أَئِنَّا} : همزة استفهام إنكاري وتكرار الهمزة يفيد في المبالغة والإنكار.
{لَمُخْرَجُونَ} : اللام للتوكيد والنّفي، أيْ: أنخرج من قبورنا أحياء بعد أن تحولت أجسادنا تراباً.
سورة النمل [27: 68]
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{وُعِدْنَا هَذَا} : (الإحياء والبعث) والخروج من القبور.
{نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} : من قبل أن يعدنا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{إِنْ هَذَا} : إن نافية بمعنى ما، وأقوى في النّفي من ما، أيْ: ما هذا الوعد بالبعث.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : أكاذيب الأولين جمع أسطورة أو ما سطَّره الأقدمون من خرافات وأحاديث.
ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية مع الآية (82-83) من سورة المؤمنون. ارجع إلى سورة المؤمنون للبيان.
سورة النمل [27: 69]
{قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} :
{قُلْ} : يا محمّد لهؤلاء الّذين كفروا وأنكروا البعث ويوم القيامة والدّار الآخرة.
{سِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : ولم يقل: سيروا على الأرض؛ لأنّ الغلاف الجوي المحيط بالأرض يعتبر تابع للأرض، أيْ: سيروا في الأرض؛ أي: ديار ثمود (مدائن صالح) ولوط (المؤتفكات) وعاد وفرعون.
{فَانْظُرُوا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، انظروا بأعينكم وانظروا نظرة قلبية فكرية نظرة عبرة.
{كَيْفَ} : للاستفهام والتّعجب.
{كَانَ عَاقِبَةُ} : مصير ونهاية المجرمين، إذ ذكَّر العاقبة أي: استعمل كان بدلاً من كانت فالعاقبة تعني العذاب، وإذا أنث العاقبة كانت عاقبة تدل على الجنة (من خصائص القرآن).
{الْمُجْرِمِينَ} : جمع مجرم، والجرم: الذنب القبيح، والجرم أصله القطع، والمجرم: هو من قطع كل الصلات مع الله أمثال الكافرين المشركين والمنكرين للبعث والمستهزئين بآيات الله وبرسله، أيْ: كيف كان هلاكهم وديارهم الخاوية على عروشها والبئر المعطلة. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (11) في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : نجد الاختلاف في كلمة (ثم انظروا)، ثم: تفيد التراخي في الزمن والتعقيب، والفاء: تفيد المباشرة والتعقيب، والمكذبين والمجرمين؛ ارجع إلى سورة الأنعام آية (11) للبيان.
سورة النمل [27: 70]
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} :
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} : لا النّاهية، تحزن عليهم: لأنّهم لم يسلموا أو يؤمنوا.
تحزن من الحَزن: بفتح الحاء وهو الألم النّفسي أو الغم الشّديد الدّائم الّذي لا ينتهي حتّى الموت، أما الحُزن: بضم الحاء هو الألم النّفسي أو الغم الشّديد المؤقت.
{وَلَا تَكُنْ} : تكرار لا النّاهية للتوكيد.
{فِى ضَيْقٍ} : في حرج ضيق بفتح الضّاد تعني في الصّدر والمكان والضِّيق بكسر الضّاد تدل على سوء الخلق والبخل.
{مِمَّا يَمْكُرُونَ} : مما: من + ما، من: ابتدائية، ما: مصدرية أو اسم موصول بمعنى الّذي، وأوسع شمولاً من الذي.
يمكرون من المكر وهو التّدبير الخفي لإلحاق الضّرر بالغير من دون أن يعلم ويدل على أنّهم يمكرون برسول صلى الله عليه وسلم، كما بيَّن تعالى حين قال:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
لنقارن هذه الآية {وَلَا تَكُنْ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} مع الآية (127) من سورة النّحل {وَلَا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
في سورة النّحل السّياق في مقتل الحمزة في معركة أحد، وكيف مثَّلوا بجثته وحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لينتقم منهم وليمثِّلنَّ بـ (70) من المشركين فجاء الأمر الإلهي بالصّبر والنّهي أن لا يكون في صدره ضيق مهما كان ولو أقل الضيق فحذف النّون من تكن فقال: فلا تك.
أمّا في سورة النّمل السّياق في الحديث عن إنكار البعث من الكفرة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} فجاء النّهي بقوله: {وَلَا تَكُنْ فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} فالسّياق مختلف وأقل شدة وضيق.
ارجع إلى سورة النّحل آية (127) للمقارنة والبيان.
سورة النمل [27: 71]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{وَيَقُولُونَ} : أي: المكذبين ومنكرو البعث والحساب ويوم القيامة، وبصيغة المضارع لتدل على تكرار قولهم وأنّه يتجدَّد ويتكرَّر.
{مَتَى} : للاستفهام الإنكاري والاستبعاد، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الذين آمنوا.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يدل على القرب.
{الْوَعْدُ} : أي: العذاب: متى هذا العذاب يقولون ذلك استهزاءً وسخرية وتهكم، أو متى يوم القيامة أو البعث، وسمَّوه وعداً: سموا الأخبار بالبعث ويوم القيامة أو العذاب وعداً مع أنّه وعيد لهم وليس وعد، والوعد يستعمل للخير إذا أطلق ولم يقيد، وأما إذا قيد قد يطلق على الخير والشر، والوعيد يستعمل للشر عادة.
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والشّك.
{كُنتُمْ صَادِقِينَ} : في أقوالكم أو زعمكم أنّ هناك يومَ بعث وقيامة وحساب.
سورة النمل [27: 72]
{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} :
{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{عَسَى} : من أفعال الرّجاء، أيْ: ما بعدها يكون مرجوَّ الحصول.
{أَنْ يَكُونَ} : أن مصدرية تفيد التّعليل.
{رَدِفَ} : من الرّديف الّذي يركب وراء الفارس وتعني اقترب ودنا.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، لكم خاصة.
{بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} : أيْ: عسى أن يكون ما تستعجلون به من العذاب قد دنا واقترب أو يحل بكم قريباً وحصل لهم ذلك في بدر مثلاً.
سورة النمل [27: 73]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} :
{وَإِنَّ رَبَّكَ} : إنّ للتوكيد.
{لَذُو فَضْلٍ} : اللام للتوكيد، ذو فضل: صاحب فضل وكلمة ذو أشرف من كلمة صاحب وأبلغ في الثّناء والمعنى ذو فضل: الفضل هو الزّيادة على ما يستحقون.
{عَلَى النَّاسِ} : فهو سبحانه يرزقهم ويسبغ عليهم نعمه، وذو فضل عليهم لأنّه رغم كفرهم ومعاصيهم يمهلهم لعلهم يتوبون إليه ويرجعون إلى الصّواب ويمحو عنهم سيئاتهم وذنوبهم.
{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك يفيد التّوكيد.
{أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} : لا يشكرون الله المنعم على إحسانه والقليل من النّاس من يشكره. ارجع إلى سورة الأعراف الآية (10) لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 74]
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} :
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ} : إنّ + اللام للتوكيد.
{لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} : ما تخفيه صدورهم وما يسرون من العداوة والحقد والمكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته.
{وَمَا يُعْلِنُونَ} : من الأقوال والأفعال من الجهر وتكرار ما للتوكيد، وفصل كلاً منهما على حدة أو معاً جميعاً.
سورة النمل [27: 75]
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} :
{وَمَا} : ما النّافية.
{مِنْ} : استغراقية تشمل كلّ غائبة.
{غَائِبَةٍ فِى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : الغائبة: اسم للشيء الغائب؛ أي: ما غاب، وألحقت به التاء للمبالغة في الإخفاء؛ أيْ: جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغاب عن أعينهم، في السّماء أو في الأرض؛ في: ظرفية، السّماء: هي كلّ ما علاك وتشمل السّموات السّبع وما بينهما كظرف ومظروف، والأرض: ما يغيب فيها من كنوز ومعادن وبترول ومن جمادات وحيوانات وحشرات وغيرها كقوله تعالى: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
{إِلَّا} : أداة حصر.
{فِى كِتَابٍ} : في ظرفية، كتاب: اللوح المحفوظ، أيْ: مدوَّن في اللوح المحفوظ.
{مُبِينٍ} : الظّاهر البيِّن لمن ينظر إليه من الملائكة ولا يحتاج إلى تبيان وشرح.
سورة النمل [27: 76]
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب يشير إلى القرآن القريب من كلّ واحد.
{الْقُرْآنَ} : سُمِّي القرآن؛ لأنّه مقروءٌ. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة للبيان.
{يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : بني يعقوب، يقص: يُحدث أو يُخبر أو يتلو عليهم.
{أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ} : للتوكيد.
{فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : فيه: ظرفية، يختلفون: في شأن عيسى عليه السلام وما أحل لهم وحرم عليهم، وفي البعث وفي السّبت وفي كثير من الأمور الشّرعية الّتي نزلت في التّوراة، يختلفون: بصيغة المضارع، أيْ: لا زالوا يختلفون فيها إلى يومنا هذا.
سورة النّمل [الآيات 77 - 88]
سورة النمل [27: 77]
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} :
{وَإِنَّهُ} : للتوكيد، أي: القرآن الكريم.
{لَهُدًى} : اللام للتوكيد، هدىً: أيْ: هو الهدى نفسه أو مصدر الهداية، الهدى الموصل إلى الغاية في الدّنيا والآخرة وهي رضوان الله وجنة الخلد.
{وَرَحْمَةٌ} : الرّحمة هنا تعني الوقاية من الوقوع في المعاصي والذّنوب فهو الرّحمة نفسها أو منبع الرّحمة، والرحمة هي جلب ما يسر ودفع ما يضر، وتعني الإنعام على العبد.
{لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام لام الاختصاص، للمؤمنين خاصة المؤمنين الّذين أصبحت صفة الإيمان عندهم ثابتة ومستقرة في القلب؛ لأنّهم هم الّذين ينتفعون به ويهتدون به.
سورة النمل [27: 78]
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} :
{إِنَّ رَبَّكَ} : إنّ: للتوكيد.
{يَقْضِى بَيْنَهُم} : بين بني إسرائيل.
{بِحُكْمِهِ} : بعدله وبحكمة فلا يحدث حيف أو جور.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَزِيزُ} : صيغة مبالغة على وزن فعيل، أي: القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر والممتنع ولا يرد قضاؤه أو حكمه.
{الْعَلِيمُ} : كثير العلم صيغة مبالغة بمن هو على الحق ومن هو على الباطل، عليم: بمن يقضي له وبمن يقضي عليه، وعليم بما اختلفوا فيه.
سورة النمل [27: 79]
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} :
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : الفاء للتوكيد، توكل على الله: فوض أمرك، أيْ: رُدَّه إلى الله إلى من يملك تدبير الأمور، وهو كافيك والقادر على أن ينفع ويضر راجياً عونه وتوفيقه للوصول إلى الغاية، ولا تبال بمعاداتهم أو عدم إيمانهم بعد أن تقدِّمَ الأسباب المطلوبة منك بالتّبليغ والدّعوة إلى الله. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لبيان معنى التوكل.
{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} : الحق: الدّين الحق هو الإسلام أو على الصّراط المستقيم الموصل للغاية، المبين: البين الواضح لكلّ فرد ولا يحتاج إلى أدلة أو براهين وأل التّعريف في الحق المبين تدل على الكمال.
سورة النمل [27: 80]
{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} :
ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون وتوكل على الله ولا تبال بمعاداة أعداء الدّين لأنّك:
{لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} : أيْ: إنك لن تستطيع أن تسمع هؤلاء الموتى؛ أي: (الكفار) وشبهوا بالموتى وهم أحياء، وشبههم بالصّم؛ لأنّ آذانهم لا تعي وتنتفع بما تسمع، وشبههم بالعمي؛ لأنّهم فقدوا البصيرة وليس البصر فهم عطلوا كلّ حواسهم فهم لا يسمعون ولا يرون ولم يعد ينفعهم نصحك لهم أو تذكيرك أو إنذارك.
{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} : جملة تعتبر توكيد لحال صممهم، فهم لا يكتفوا بتعطيل حواسهم لكي لا يسمعونك ويرونك بل يحاولوا أن يولوا مدبرين، أي: الفرار والهرب منك؛ لأنّهم لا يريدون الجلوس إليك خوفاً من أن تنذرهم بشيء يقضُّ مضاجعهم، ولذلك تراهم يبتعدون عنك ويولوا على أدبارهم خائبين حين يرونك.
سورة النمل [27: 81]
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْىِ} : الواو عاطفة، ما النّافية، أنت بهادي: الباء للإلصاق والتّوكيد، هادي العمي: منقذ أو صارف العمى عنهم، والعُمي: جمع أعمى: عُمي البصيرة وليس عُمي البصر. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (52) في سورة الشورى وهي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : نجد أن المقصود بالهداية في آية الشورى هداية عامة؛ أي: ترشد أو تدل الناس على الإسلام فقط ولكن الهداية الخاصة خاصة بالله تعالى؛ ارجع إلى سورة الشورى (52) للبيان.
{عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} : ولم يقل: عن ضلالهم، الضّلال: اسم جنس يشمل كلّ الضّلالات وضلالتهم تعني: ضلالة واحدة، فأنت لا تستطيع أن تصرف عمي البصيرة ولا حتّى عن ضلالة واحدة إلا أن يشاء الله تعالى.
{إِنْ تُسْمِعُ} : إن: نافية، أيْ: ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} : إلا من يصدق بآياتنا، والسّؤال إذا كان هو يؤمن بآياتنا مسبقاً أو سابقاً فما فائدة سماعه مرة أخرى، الجواب: ليزداد إيماناً مع إيمانه ويستمر على استقامته.
{فَهُمْ مُّسْلِمُونَ} : جملة اسمية تفيد الثّبوت على إسلامهم، مسلمون: مخلصون موحِّدون، مسلمون إسلام الوجه.
سورة النمل [27: 82]
{وَإِذَا} : ظرفية زمانية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} : القول: العذاب أو يوم القيامة على: تفيد العلو والمشقة وكلمة وقع تدل على السقوط فجأة، أيْ: مجيء العذاب فجأة كأنّه يخر عليهم من فوقهم.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} : دابة سماها البعض الجساسة، وقيل: هي فصيل ناقة صالح عليه السلام تخرج من المسجد الحرام، وتعتبر من أمارات السّاعة الكبرى.
{تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} : تكلمُهم فتقول: إنّ النّاس كانوا بآياتنا: لا يوقنون، أيْ: أكثر النّاس لا يؤمنون بالآيات الدّالة على مجيء السّاعة والبعث والقيامة أو لا يوقنون بخروج الدابة. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لبيان معنى يوقنون.
وقيل: تكلمُهُم من الكلم وهو الجرح وقيل: هو الوسم بالخاتم، كما روى الإمام أحمد والبخاري في الكبير تخاطب النّاس خلاف ما عهدوه، قيل: تجول في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب، وتسم كلّ إنسان على جبينه فتميز الكافر من المؤمن.
سورة النمل [27: 83]
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} :
{وَيَوْمَ} : أيْ: يوم القيامة ونكرة للتهويل والتّعظيم.
{نَحْشُرُ} : نجمع، الحشر السّوق + الجمع.
{مِنْ} : ابتدائية استغراقية تستغرق كلّ أمة.
{كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} : الفوج الجماعة الكثيرة، فترتيب الجماعات من القلة إلى الكثرة كما يلي: نفر، رهط، شرذمة، قبيلة، عُصبة، طائفة، ثلة، فوج، فرقة، حزب، زمرة، جيل، كما ورد في فقه اللغة للثعالبي.
{مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} : سواء كانت الآيات القرآنية أو الكونية الدّالة على وحدانية الله وعظمته وقدرته أو المعجزات الدّالة على النّبوة.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : يحبس أولهم حتّى يلحق آخرهم......، أو ينتظر أوّلهم حتّى يلحق آخرهم حتّى يجتمعوا، ثمّ يساقون إلى النّار ويدخلون فيها جميعاً، من الوزع: وهو الكف والمنع، أو حتّى يجتمع التّابع والمتبوع.
سورة النمل [27: 84]
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{إِذَا} : ظرفية زمانية تفيد حتمية الحدوث.
{جَاءُوا} : موقف الحساب يوم القيامة.
{قَالَ أَكَذَّبْتُم بِـئَايَاتِى} : قال تعالى: أكذبتم: الهمزة همزة استفهام وتوبيخ وتقرير، أيْ: كيف كذبتم بآياتي، أيْ: جحدتم بها.
{وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} : لم النّافية، تحيطوا بها: تتأملوها أو تنظروا فيها جيداً أو تدركوا حقيقتها أو ماذا شغلكم عن النّظر فيها أو التّفكر والتدبُّر فيها.
{أَمَّاذَا} : الهمزة للاستفهام للتوبيخ، ذا اسم موصول.
{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : من الأعمال العبثية الأخرى في الدّنيا.
سورة النمل [27: 85]
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} :
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} : أيْ: حل ونزل بهم العذاب: عذاب قيام الساعة وعلى تفيد العلو، وكأنّ العذاب سقط على رؤوسهم فجأة. ارجع إلى الآية السّابقة (82).
{بِمَا ظَلَمُوا} : الباء السّببية أو التّعليلية بسبب ظلمهم وهو الشّرك والتّكذيب بآيات الله.
{فَهُمْ} : للتوكيد.
{لَا يَنْطِقُونَ} : لا النّافية، ينطقون: ليس عندهم أي: اعتذار أو حُجَّة ينطقون بها دفاعاً عن أنفسهم. أو يشغلهم العذاب أو يبهتهم فلا ينطقون بأي كلمة من دهشتهم وحيرتهم.
سورة النمل [27: 86]
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير وتعجُّب.
{يَرَوْا} : رؤية بصرية أو عينية (مشاهدة حقيقية) ورؤية فكرية الآية العظيمة هي تسخير الليل والنّهار لهم.
{أَنَّا} : للتعظيم.
{جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} : اللام لام التّعليل، يسكنوا فيه: من السّكون والانقطاع عن الحركة، يسكنوا: بصيغة المضارع الدّالة على التّجدد والتّكرار أيْ: ينامون فيه وذكر الليل والنّهار يدل على كروية الأرض ودورانها حول محورها وحول الشّمس الّذي ينتج عنه تعاقب الليل والنّهار، وقدَّم الليل على النّهار؛ لأنّ الأصل هو الظلام، أي: الليل.
{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} : ارجع إلى سورة يونس الآية (5) و (67) للبيان، وسورة غافر آية (61) للمقارنة.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ: للتوكيد، في: ظرفية، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد.
{لَآيَاتٍ} : اللام لام الاختصاص، آيات كونية عظيمة تدل على كمال الخالق سبحانه، وكمال قدرته ووحدانيته ونعمته.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : اللام لام الاختصاص، آيات خاصة ينتفع بها القوم الّذين يؤمنون فتزيدهم إيماناً واستقامة على الصراط المستقيم، ثمّ يحذر الله سبحانه عباده من يوم القيامة فيقول:
سورة النمل [27: 87]
{وَيَوْمَ} : تعود على يوم القيامة وتنكيره للتهويل والتّعظيم.
{يُنْفَخُ فِى الصُّورِ} : النّفخة الأولى نفخة الفزع: الفزع يعني: الخوف الشّديد والرّعب والهلع حين يبدأ فجأة من دون سابق إنذار تضطرب فيه القلوب، والكل يفزع، أهل السّموات وأهل الأرض.
{فَفَزِعَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ} : الملائكة.
{وَمَنْ فِى الْأَرْضِ} : الإنس والجن والحيوانات.
{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} : قيل: الملائكة المقربون (الكربيون) وحملة العرش، وقيل: أمثال جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل: الشّهداء والحور العين وحملة العرش، والله أعلم.
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} : صاغرين أذلاء، دخر الشّخص ذل وصغر، الكلّ يتساوى في ذلك اليوم المالك والمملوك والرئيس والمرؤوس والغني والفقير والقوي والضّعيف. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (68) في سورة الزمر وهي قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} : نجد أن آية النمل جاءت في سياق النفخة الأولى التي تبدأ بمرحلة الفزع، وتنتهي بمرحلة الصعق؛ فهي تشمل مرحلتين وهناك من قال أن النفخات (3): الفزع، والصعق، والبعث، فآية النمل تتحدث عن النفخة الأولى (مرحلة الفزع)، وآية الزمر تتحدث عن النفخة الأولى (مرحلة الصعق) أو النفخة الثانية.
سورة النمل [27: 88]
{وَتَرَى الْجِبَالَ} : هذه الآية ليست في سياق الآخرة، كما يظن البعض، إنما هي في سياق الدّنيا، ترى الجبال وأنت لا زلت حياً؛ يعني: إذا نظرت إلى الجبال تظنها جامدة لا تتحرك مع أنها تدور وتتحرك مع حركة ودوران الأرض؛ أي: 30كم/ بالثانية.
{تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} : من الحسب وهي الظّن الرّاجح، أيْ: تعتقد أنّها جامدة لا تتحرك ثابتة في مكانها، وهي تجري جري السّحاب سرعة جريها تقدر 30كم/ بالثانية بسرعة جري الأرض.
{وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} : وهي: أي: الجبال تجري كجري السّحاب الّتي تسيرها الرّياح فالكل يجري ونظنها ساكنة، وهذا من رحمة الله بنا.
{صُنْعَ اللَّهِ} : خلق الله والصّنع هو جودة العمل فالصّنع أخص من العمل فكل صنع عمل وليس كلّ عمل صنع، والصّنع يشمل مقادير النجوم والكواكب وحجمها وبعدها وقربها عن بعضها، وفي مداراتها، أيْ: وكلٌّ في فلك يسبحون، والقياس والشّكل واللون وغيرها.
{أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ} : أبدع خلق كلّ شيء {أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{خَبِيرٌ} : ببواطن الأمور وظواهرها وبما تفعلون فيجازيكم عليها.
{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، وأوسع شمولاً من الذي.
{تَفْعَلُونَ} : من السّيئات والحسنات (الأعمال الصالحة) أو تفعلون من خير أو شر، أو حسن أو قبيح، أو معروف أو منكر، وتفعلون هي جزء من تعملون؛ فالعمل يضم الفعل والقول، وتفعلون تأتي في سياق العاقل وغير العاقل، وتعملون تأتي في سياق العاقل فقط.
سورة النّمل [الآيات 89 - 93]
سورة النمل [27: 89]
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} :
هذه الآية تتمة للآية السّابقة، وهي قوله:{إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} فيجازيكم عليها.
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} : جاء بالحسنة يوم القيامة، الحسنة شرعاً: هي كلّ ما يستحسنه الشّرع ويتمثل بطاعة الله وتجنُّب نواهيه من قول وفعل وكل فعل يورث ثواباً.
{مَنْ جَاءَ} : من شرطية، جاء بالحسنة عمل حسنة في الدّنيا.
{فَلَهُ} : الفاء للتوكيد، له: اللام لام الاستحقاق.
{خَيْرٌ مِّنْهَا} : قيل: الجنة، وقد تعني: يثاب عليها ويجازى عليها خيراً منها {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، ثواباً مضاعفاً يعادل عشر أمثالها، وقد تضاعف إلى (70) أو (700) أو أكثر.
{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} : من ابتدائية، فزع يومئذ: شامل لكل فزع يكون يوم القيامة، وكما قال تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
وقد يصابون بفزع خفيف، أما الفزع الشّديد فهم آمنون منه.
{آمِنُونَ} : من الأمن وهو الأمن الكامل مع زوال الأسباب المؤدِّية إلى عدم الشّعور بالأمن.
سورة النمل [27: 90]
{وَمَنْ} : شرطية جوابها فكبَّت وجوههم في النّار.
{جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} : يوم القيامة، أيْ: عمل السّيئات وقيل: السّيئة مثل الشّرك وأكل الرّبا وقتل النّفس والسّيئة لا تجزى إلا بمثلها من غير زيادة، وهذا من رحمة الله تعالى، وقد تضاعف السّيئة إذا ارتكبت في أماكن الفضيلة مثل الحرم أو في رمضان أو الأوقات الفضيلة.
{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} : الكب: رمي أو إلقاء الشيء التافه أو الذي لا قيمة له، واختار الوجه وهو أشرف جزء في الجسم، وكب الوجه يعني: الكب لجميع الجسم (إطلاق الجزء وإرادة الكل)، والكب فيه معنى الإهانة والإذلال والعنف؛ أي: كبت بعنف؛ أيْ: ألقوا في النّار على وجوههم منكوسين، كقوله تعالى:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65] أو قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ} [الشّعراء: 94] وقيل: الوجه يعني: الذّات؛ أي: يمثل كلّ الأعضاء.
{هَلْ} : استفهام يفيد النّفي، أيْ: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون.
{تُجْزَوْنَ} : من الجزاء، وقد يكون للعمل السّيِّئ أو الحسن.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : تعملون (تشمل الأقوال والأفعال) في الدّنيا، العمل يشمل القول والفعل.
سورة النمل [27: 91]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{أُمِرْتُ أَنْ} : أن حرف مصدري يفيد التّوكيد. أُمرت: أيْ: أمرني ربي أن أعبده.
{أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} : أعبد من العبادة. ارجع إلى الآية (73) من سورة النّحل، إضافة رب للبلدة للتشريف والتّعظيم وهي مكة المكرمة، وخصّها بالذّكر؛ لأنّ فيها البيت الحرام والرّب هو الخالق المدبر الرّزاق والمربي وهو رب هذه البلدة ورب كلّ شيء ومليكه.
{الَّذِى حَرَّمَهَا} : جعلها شرعاً حرماً آمناً يحرم فيها القتال والصّيد في الأشهر الحرم ومن دخلها كان آمناً.
{وَلَهُ كُلُّ شَىْءٍ} : تقديم له وحده تفيد الحصر، كلّ شيء: شيء نكرة تشمل كلّ شيء خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً دون شريك، كلّ شيء في السّموات والأرض وما بينهما له وحده.
{وَأُمِرْتُ أَنْ} : وأمرني ربي، أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد.
{أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : المخلصين الموحِّدين، وفرداً من أفراد هذه الأمة المسلمة، وفي هذا تنويه عن تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (104) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى في الآية (12) في سورة الزمر وهي قوله تعالى:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، فآية النمل تعني من المسلمين من لدن آدم إلى آخر مسلم وأول المسلمين من هذه الأمة، وكذلك أول المسلمين درجة ومرتبة؛ ارجع إلى هذه الآيات لمزيد من البيان.
سورة النمل [27: 92]
{وَأَنْ} : حرف مصدري يفيد التّوكيد.
{أَتْلُوَا الْقُرْآنَ} : أقرأ عليكم القرآن وسُمِّي قرآناً لكونه مقروءاً، أو أتلوا القرآن في الصّلاة والتّبليغ والإنذار والتّعليم والحفظ.
{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} : الفاء: للتوكيد، من: شرطية، اهتدى: بالقرآن، أو بما أنزل الله تعالى من التّوحيد والإيمان والعمل الصّالح.
{فَإِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} : ففائدة هدايته ينتفع بها وحده، تعود لنفسه، اللام لام الاختصاص نفسه ذاته.
{وَمَنْ ضَلَّ} : من شرطية، ضل: تاه وضل الطّريق واتبع هواه والشّيطان ولم يتبع ما أنزل الله تعالى.
{فَقُلْ إِنَّمَا} : الفاء للمباشرة، إنما للتوكيد.
{أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} : أنا لست مسؤولاً عن هدايتكم، وأنا أحد الرّسل المنذِرين، وما عليّ إلا البلاغ والإنذار: الإعلام والتّحذير.
سورة النمل [27: 93]
{وَقُلِ} : الخطاب إلى رسول الله تعالى وبالتالي إلى أمته.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : على نعمة الهداية للإسلام والإيمان والقرآن، والحمد لله على نعمة النّبوة، وعلى نعمه الّتي لا تعد ولا تحصى، الظّاهرة والباطنة ما علمنا منها وما لم نعلم، حمداً مطلقاً ملء السّموات والأرض وما فيهن، وملء عرشه وعدد خلقه ومداد كلماته وزنة عرشه ورضا نفسه. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمزيد من البيان.
{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} : السّين للاستقبال القريب، أيْ: قريباً سترون آياته الكونية والخلقية وأنتم في الدّنيا، آياته الدّالة على عظمة وكمال قدرته ووحدانيته وأنّه هو الحق وما دونه الباطل.
سيريكم آياته: الخطاب للجميع في الآفاق في الكون وفي أنفسكم، سيريكم سيطلعكم على بعض آياته فتعرفونها أنّها من آياته وأنّها من صنعه ويبيِّن لكم أنّ الله هو الحق المبين.
{وَمَا رَبُّكَ} : ما النّافية، ربك، أي: الخالق والمربي والمدبر والرّزاق.
{بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : عما: عن: تفيد المجاوزة والبعد، ما: اسم موصول بمعنى الذي، وأوسع شمولاً من الذي. تعملون: تقولون وتفعلون، وفي الآية وعيد وتهديد. ارجع إلى الآية (52) من سورة فصلت، وهي قوله تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} للمقارنة، وارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان في معنى بغافلٍ عما تعملون.
سورة القصص [28: 1]
سورة القصص
ترتيبها في القرآن (28) وترتيبها في النّزول (49)
{طسم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.
سورة القصص [28: 2]
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} :
ارجع إلى الآية (2) من سورة الشّعراء للبيان.
سورة القصص [28: 3]
{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :
{نَتْلُوا عَلَيْكَ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْ: نقرأ عليك، أو نقص عليك بعضاً من نبأ موسى وفرعون والتّلاوة أخص من القراءة، والتّلاوة تكون من القرآن ويثاب القارئ عليها كلّ حرف بعشر حسنات، فكلّ تلاوة قراءة وليس كلّ قراءة تلاوة، وأصل التلاوة: اتباع الشيء بالشيء؛ أي: تلاوة كلمات يتبع بعضها بعضاً، وأما القراءة: قد تكون لكلمة واحدة، والخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي إلى كلّ من يقرأ القرآن.
{مِنْ نَبَإِ مُوسَى} : من: ابتدائية بعضية، نبأ: الخبر المهم من خبر موسى عليه السلام وفرعون.
{وَفِرْعَوْنَ} : أحد ملوك الفراعنة الّذي ادَّعى الألوهية. وفرعون لقب كان يلقب به ملوك مصر في القديم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون.
{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق، الحق: الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيَّر، نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالصّدق لا تبديل فيه ولا تحريف، والمطابق للواقع أو كما حدث فعلاً.
{لِقَوْمٍ} : اللام لام الاختصاص.
{يُؤْمِنُونَ} : أيْ: تلاوة خاصة لقوم يؤمنون يتجدَّد إيمانهم ويتكرَّر أيْ: ينتفع بها الّذين آمنوا حيث يزيد إيمانهم يقيناً كلما تلوها المرة بعد الأخرى.
سورة القصص [28: 4]
{إِنَّ فِرْعَوْنَ} : إنّ للتوكيد.
{عَلَا فِى الْأَرْضِ} : من العلو: أي: طغى وتجبَّر واستكبر في أرض مصر.
والعلو: هو الشعور بالغرور وبالقوة أو القدرة والفوقية.
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} : طوائف أو جماعات بعضهم لبعض عدو، والشّيعة بالتحديد: هي الجماعة المائلة إلى رجل ما من محبتهم له، وأصلها الحطب الدقيق الذي يُرمى في النار لتشتعل أو تشتد اشتعالاً، أو الطّائفة الّتي لها قيم ومبادئ خاصة بها مثل: طائفة الأقباط، أو بني إسرائيل، أو غيرهم لكي يبقى مستبداً بالحكم مُتبعاً شريعة فرِّق تَسُدْ وتستعبد كل منها الأخرى.
{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ} : أيْ: بني إسرائيل واستضعافه لهم أيْ: يستعبدهم في أعمال البناء والحفر والحرث والخدمات، والسبب في ذلك؛ لأن بني إسرائيل كانوا موالين للذين حكموا مصر وأزاحوا حكم الفراعنة وهم ملوك الرعاة فلما عاد الفراعنة إلى تولي الحكم راحوا يضطهدون بني إسرائيل ومن مظاهر الاستضعاف:
{يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} : المولودين من بني إسرائيل وأسند الذّبح إلى فرعون مع أنّه هو مجرد الآمر وجنود فرعون هم يفعلون الذّبح فهو السّبب.
{وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ} : نساء بني إسرائيل، يُبقي نساءَهم أحياءً للخدمة والإذلال.
ولنقارن هذه الآية بالآية (49) من سورة البقرة: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ، وما قال موسى في سورة إبراهيم آية (6):{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} ، وما جاء في سورة الأعراف آية (141):{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : نجد الاختلاف في كلمتي (يذبحون، ويقتلون)، القتل: أعم من الذبح، فالقتل: يشمل الذبح والإعدام، والقتل بالرصاص، أو المواد السامة، ونجد إضافة الواو لكلمة يذبحون في سورة إبراهيم، والواو تعني: سوء العذاب + الذبح؛ أي: التذبيح غير سوء العذاب (وهذا الكلام هو كلام موسى عليه السلام )، وحذف الواو في آية البقرة دل على التذبيح هو سوء العذاب (وهذا الكلام هو كلام الله سبحانه) فالله سبحانه لم يعدد ويذكرهم بكل المصائب التي مرت عليهم بينما موسى ذكرهم بكل المصائب التي مرت عليهم حين عددها لهم.
{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} : إنّه للتوكيد، كان من المفسدين بسبب كفره وطغيانه وظلمه وتكبره في الأرض وبقتل الأبناء واستحياء النّساء والتشييع.
ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان.
سورة القصص [28: 5]
{وَنُرِيدُ} : بصيغة التّعظيم.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} : نمن: من المن: المن عطاء بلا مقابل أو عوض. قال الأزهري: قال الزجاج: المن كل ما يمن الله تعالى به مما لا تعب فيه ولا نصب، وقيل: أن المن كالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل سهلاً بدون أي تعب أو جهد؛ أيْ: نُنعم على الّذين استضعفوا: أيْ: بني إسرائيل فمن عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون.
{فِى الْأَرْضِ} : في أرض مصر والشام.
{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} : في الدّين ونشر المبادئ والقيم، أئمة: يقتدى بهم، قادة للخير كما قال ابن عباس، أو ولاة وملوكاً كما قال قتادة.
{وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} : للملك وارثين مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى في سورة الأعراف آية (137): {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} في ذلك الزّمان، الوارثين: جملة اسمية تفيد الثّبوت، جمع وارث يرثون فرعون وقومه، أي: الحاكمين والمالكين لكثير من الأرض. وتكرار ونجعلهم مرتين للتوكيد، وفصل كونهم أئمة عنه كونهم الوارثين.
سورة القصص [28: 6]
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ} : بالاستخلاف والحكم والسّلطة وممارسة شعائر دينهم بلا خوف، والتّمكين يتضمن معنى الحرية والقدرة والأمن. ارجع إلى سورة النور آية (55) لبيان معنى التمكين.
{وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} : رؤية بصرية.
{فِرْعَوْنَ} : ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) للبيان.
{وَهَامَانَ} : هامان: ورد اسمه في القرآن (6 مرات)، قيل: كان وزيراً لفرعون زمن نبي الله موسى، وقيل: كان المسؤول عن البناء والعمران، وقيل: كان اسمه هامان، ووظيفته هامان (بناء المشاريع الكبرى)، وكان مقرباً إلى فرعون، وذكر هامان في القرآن يدل على الإعجاز التاريخي للقرآن، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومات غرقاً مع فرعون. ارجع إلى سورة غافر آية (36) لمزيد من البيان.
{مِنْهُم} : من أولئك المستضعفين من بني إسرائيل.
{مَا كَانُوا} : ما اسم موصول بمعنى الّذي، وما: أوسع شمولاً من الذي، وتشمل العاقل وغير العاقل.
{يَحْذَرُونَ} : من هلاكهم على أيدي بني إسرائيل، فقد كان فرعون وهامان وجنودهما على وجلٍ وخوفٍ أن يُقتلوا على أيدي بني إسرائيل.
والحذر: هو توقي الضرر أيْ: دفع الضرر سواء كان مظنوناً أو متيقناً. ويحذرون: بصيغة المضارع يدل على حذرهم كان يتجدَّد ويتكرَّر أي باستمرار.
سورة القصص [28: 7]
{وَأَوْحَيْنَا} : الوحي لغة: إعلام بطريق خفي، شرعاً: ما يُلقي الله إلى رسله من تكاليف وتعاليم دينه (منهج) وآيات ووعد ووعيد بإرسال رسول (جبريل) أو أن يكلمه من وراء حجاب أو بطريق خفي، والوحي إلى أم موسى كان بالإلهام أو برؤيا، ويعتبر ذلك نوعاً من أنواع الوحي. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.
{إِلَى أُمِّ مُوسَى} : الوحي كان بالإلهام.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{أَرْضِعِيهِ} : قيل: أرضعته حوالي ثلاثة شهور، وقيل:(8) أشهر، وقيل: أربعة أشهر؛ فلما ألحَّ فرعون في طلب الولدان من بني إسرائيل لذبحهم بإرسال الجواسيس خافت أم موسى على وليدها.
{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، إذا شرطية تستعمل للشيء المحقق حدوثه بعكس إن تستعمل للأمر المشكوك في حدوثه، خفت على موسى من الذّبح أو أن يعثر عليه جنود فرعون.
{فَأَلْقِيهِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة رابطة لجواب الشّرط إذا.
فألقيه: الإلقاء: هو رمي الشيء من أعلى إلى أسفل برفق ولين، وحين الإلقاء تراه أو ترى مكان الإلقاء، وفي سورة طه آية (39) قال تعالى:{اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ} ، والقذف: هو الرمي بشدة وقوة من غير مهلة حتى لا تراه حيث لا تلقاه، والقذف: أعم من الإلقاء.
{فِى الْيَمِّ} : أيْ: في نهر النّيل. ويستعمل كلمة اليم في سياق الخوف أو العقوبة.
{وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى} : تكرار (لا): يفيد توكيد النّهي وفصل كلّ واحدة الخوف والحزن على حدة أو كلاهما، لا تخافي ـ بعد إلقائه في اليم ـ عليه من الغرق أو الموت، ولا تحزني لفراقه وذهابه عنك.
ولا تحزَني: من الحزَن: الألم أو الغم الدائم الّذي لا يزول.
{إِنَّا} : للتعظيم.
{رَادُّوهُ إِلَيْكِ} : الرّد هو الرّجوع أو العودة إلى المكان الّذي خرج منه بحيث يجبر أو يُكره على الرّجوع وبغير إرادته، والرّجوع هو الخروج من مكان ما أو مدينة مع النّية للرجوع إليها وبرغبته، ومن دون إكراه.
واستعمل رادُّوه؛ لأنّه سبحانه سيحرم عليه المراضع فيردُّه إليك لترضعيه.
{وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} : أي: سنجعله رسولاً إلى بني إسرائيل رسولاً ونبياً.
هذه الآية إذا تأملناها نجد أنّها تشمل على خبرين هما: وأوحينا إلى أم موسى، فإذا خفت عليه، وأمرين هما: أرضعيه وألقيه، ونهيين: لا تخافي ولا تحزني، وبشارتين: رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين يدل على عظيم البيان الرباني.
سورة القصص [28: 8]
{فَالْتَقَطَهُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، والهاء: تعود على التّابوت وفيه موسى من نهر النّيل، والالتقاط: أن نجد شيئاً ما في الطّريق دون قصد أو بحث والذي التقطه آل فرعون.
{آلُ فِرْعَوْنَ} : أتباع فرعون الّذين يعملون في قصره.
{لِيَكُونَ} : اللام لام العاقبة (التّوكيد).
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص لهم خاصة.
{عَدُوًّا وَحَزَنًا} : هذا هو عاقبة الالتقاط أو في نهاية الأمر سيكون لهم عدواً وحزناً. أمّا حين التقطوه، فالتقطوه؛ ليكون لهم ولداً وقرَّتَ عين لفرعون وامرأته ولا أحد يعلم الغيب إلا الله سبحانه.
عدواً: لفرعون وملئه.
وحَزناً: بفتح الحاء الألم النّفسي أو الغم الشّديد الدائم الّذي لا يزول حتّى الموت. بعكس الحُزن بضم الحاء وهو الألم أو الغم غير الدائم المؤقت الّذي يزول مع الزّمن ولو طال.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} : خاطئين: آثمين. وعاصين بالكفر والظّلم، والشّرك أو خاطئين بتقديرهم، لم يخطر ببالهم أنّ موسى هو الّذي سيذهب بملكهم ويكون سبباً لهلاكهم، خاطئين: من خطِئ (الفعل الثلاثي)؛ أيْ: تعمد الخطأ بينما أخطأ (الرباعي) من دون تعمُّد وقصد. وهناك من قال كلاهما يستعمل في العمد وغير العمد، أو كلاهما في غير العمد، وآخرون جعلوا الفعل الثلاثي في العمد، والفعل الرباعي في غير العمد.
ومنه المخطئ من أخطأ؛ أي: الّذي لا يتعمَّد خطأً ولا ذنباً إلا جهلاً أو من دون علم بلا قصد، وخاطئين جملة اسمية تدل على الثّبوت والاستمرار على الخطأ من دون أيِّ محاولة لتصحيحه.
سورة القصص [28: 9]
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} : اختار كلمة امرأة بدلاً من زوجة؛ لأنّ امرأة فرعون تخالف زوجها في الدّين فهي مؤمنة وهو كافر، أو فيها عيب خَلقي لا تنجب، وكلمة زوج تطلق حين يكون تماثل بين الزّوج والزّوجة. من خصوصيات القرآن الكريم. فقال العلماء: كلمة زوجة تطلق حين لا يكون هناك اختلاف بين الزوجة والزوج في الدين، أو لا يكون بينهما اختلاف أسري، أو مشاكل مثل: العقم، أو نشوزاً، أو عدم الاستقرار والسكينة، وتطلق كلمة امرأة حين توجد إحدى المشاكل في العقيدة، في الدين، أو الاختلافات الأسرية، أو النشوز، أو عيب خَلقي أو خُلقي، وكذلك كتبت بالتاء المفتوحة، وليس المربوطة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (30) لمعرفة الفرق.
{قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ} : قرتُ: مشتقة من قرَّ بالمكان أيْ: أقام وثبت وتعني السّكون والارتياح، ومشتقة من القرِّ: البرد الشّديد، والعين الباردة تدل على السّرور والعين السّاخنة تدل على الحزن والألم، أيْ: مبعث سكينة وسرور لي ولك، وقولها: لي ولك بدلاً من لنا، كما رأينا في آية الفرقان (74){هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} تدل على قلة ارتباط امرأة فرعون بفرعون فكلّ منهما له شأنه.
{لَا تَقْتُلُوهُ} : لا النّاهية لا تقتلوه: تؤكد على عدم قتله حيث كان القانون السّاري بقتل كلِّ ولد ذكر من بني إسرائيل؛ لأنّ فرعون رأى في المنام أنّ مصرعه سيكون على يد واحد من بني إسرائيل.
{عَسَى} : فعل من أفعال التّرجي، وتستعمل للمأمول حصوله وتحقُّقه.
{أَنْ} : حرف مصدري للتعليل والتّوكيد.
{يَنْفَعَنَا} يساعدنا أو ننتفع منه في شيء ما.
{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} : نتبناه ويصبح ابناً لنا بالتّبني وقيل: إنّ موسى كان يعرف بابن فرعون فقد ألقى الله سبحانه على موسى محبة منه فكان كلّ من رآه أحبه. ولنعلم: أن فرعون (رمسيس الثاني) كان له أولاد من زوجات أُخر غير هذه الزوجة التي كانت لا تنجب فقالت لفرعون: أوَنتخذه ولداً؟ فابنه منفتاح كان الولد الثالث عشر من زوجة أخرى.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : بعاقبة أمرهم وأنّهم كانوا خاطئين في التقاطه، واتخاذه ولداً لهم، وأنّ هلاكهم سيكون على يديه، أو لا يشعرون أنّه سيكون ولداً أم عدواً.
سورة القصص [28: 10]
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} : الفؤاد قيل: هو القلب وبشكل أدق كما بيَّنت الدّراسات العلمية أن في القلب خلايا خاصة لها خاصية الذاكرة تشبه الخلايا العصبية في جهاز (لمبيك) في الدماغ، وقد يكون هناك اتصال بينهما من خلال الأعصاب الودية وغير الودية. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان.
فارغاً: لها عدَّة معانٍ:
1 -
خالياً من التّفكير في أي شيء سوى ذكر موسى وما حدث له أيْ: لا يغيب عن فكرها وذاكرتها ليلاً ونهاراً.
2 -
أيْ: نسيت ما أوحي إليها حين ألقته ونسيت الوعد {وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
3 -
لم يعد لها عقل (ذهب عقلها) من شدة الخوف والجزع على موسى حين سمعت أنّه وقع في يد فرعون ولا أحد يطمئنها على موسى.
{إِنْ} : للتوكيد.
{كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ} : كاد من أفعال المقاربة، مقاربة حصول الإبداء، تبدي به أيْ: تخبر وتعلن للملأ، وتقول للناس: إنّ موسى ابنها ولكن لم يحصل ذلك بسبب الربط على قلبها.
{لَوْلَا} : حرف شرط.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّوكيد.
{رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} : ألهمناها الصّبر أنزلنا عليها السّكينة، والرّبط يعني الشّد، أيْ: شددنا على قلبها بالصّبر والثّبات كما يربط الشّيء غير الثّابت ليستقر ويثبت ويسكن.
{لِتَكُونَ} : اللام لام التّوكيد والتّعليل.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : من بعضية، المؤمنين: المصدقين بوعد الله وهو قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولم يقل من المؤمنات؛ لأن المؤمنين تعني: المؤمنين والمؤمنات، من المؤمنين؛ أي: ثباتها وصبرها يشابه صبر الرجال بالشدة والقوة، والذين إيمانهم ثابت وراسخ، ولم يقل من الذين آمنوا.
سورة القصص [28: 11]
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ} لابنتها أخت موسى.
{قُصِّيهِ} : من القص: وهو اتِّباع الأثر أي: اتبعي أثره وراقبي إلى أين يذهب وتتبعي خبره ومصيره.
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، جنب: عن بعد أو مكان لا يراها أحد، أو عن جنب راحت تراقب وتنظر باهتمام عن بعد إلى أين سيأخذه اليم وإلى أي مكان وصل بحيث لا يراها أحد.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : وهم: للتوكيد أنّ أخته تتبع أثره، وتراقب أين يذهب وتتقصَّى أثره وأخباره.
سورة القصص [28: 12]
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ} : على موسى تحريم منع لا تحريم شرع، أيْ: منعناه من قبول ثدي أية مرضع، قال تعالى:{الْمَرَاضِعَ} ولم يقل: المرضعات.
{الْمَرَاضِعَ} : جمع مرضع وهي المرأة الصّالحة أو القادرة على الإرضاع، ولكنها لا ترضع الآن حين يأتي وقت الإرضاع ترضع، أمّا المرضعات: جمع المرضعة فتطلق على المرأة الّتي تقوم بعملية الإرضاع الآن والطّفل في حضنها وهي ترضعه.
{مِنْ قَبْلُ} : من قبل أن نرده إلى أمّه ليرضع منها ومن تعني من قريب، أو من قبل تعني حرمنا عليه المراضع اللاتي أحضرن لقصر فرعون ليرضعن موسى من قبل أن تحضر أمّ موسى لترضعه، ومن قبل: أيْ: من سابق علم الغيب من قضاء الله مسبقاً من قبل ولادته وكل المعاني محتملة.
{فَقَالَتْ} : أخته بعد أن انتشر الخبر في المدينة أنّه لا يرضع ولا يقبل ثدي أيِّ مرضع تحضر إليه، قالت وهم لا يعرفون أنّها أخته.
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} : هل استفهامية فيها معنى العرض واللهفة على الدّلالة وأقوى من الهمزة في الاستفهام كقوله: أأدلكم، من أدلكم: أخبركم على أهل بيت يكفلونه: من الكفالة وهي التزام بأداء ما تكفل به إلى صاحب الحق عند المطالبة، يكفلونه لكم: الكفالة: أي: الالتزام بإرضاعه لكم، لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة.
{وَهُمْ لَهُ} : هم: للتوكيد، له: تقديم له يفيد الحصر له تعود على موسى.
{نَاصِحُونَ} : حافظون راعون مشفقون، قال ابن عبّاس: فلما قالت ذلك ظنوا أنّها تعرف موسى وتعرف أهله، فأنكرت ذلك، وغيرت كلامها وبإلهام من الله تعالى: نجت من الفتنة أو المحنة.
وانتبه إلى قوله يكفلونه لكم وهم له ناصحون: يكفلونه: جملة فعلية، وهم له ناصحون: جملة اسمية أقوى من الجملة الفعلية؛ لأنّ الكفالة تعد أمراً سهلاً بالنّسبة للنصح الّذي يعني: الإخلاص والرّعاية والتّربية، فلو اكتفت أخت موسى بالقول يكفلونه لكم، لربما لم تتعرض لهذه الفتنة الّتي سببها حرصها على موسى وشفقتها عليه لكونها أخته.
سورة القصص [28: 13]
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، رددناه: أيْ: نحن للتعظيم، رددناه: ارجع الآية (7) من نفس السّورة للبيان.
{كَىْ} : تستعمل للتعليل الحقيقي أو معرفة الغرض الأوّل الحقيقي للرد الّذي هو أن تقر عينها ولا تحزن، ولم يستعمل اللام كقوله لتقر عينها؛ لأن كي تستعمل لبيان الغرض الحقيقي، واللام تستعمل للتعليل وغير التعليل، فاللام أوسع شمولاً من كي.
{تَقَرَّ عَيْنُهَا} : تطمئن وتسكن وترتاح، وكذلك تسر. ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة لبيان معنى تقر عينها.
{وَلَا تَحْزَنَ} : الحَزَن: الشّعور بالغم الثّقيل والألم الممتد لفترة طويلة على فراقه وغيابه عنها، إذن كي تقر عينها ولا تحزن هو الغرض الحقيقي الأوّل من ردِّه إليها، ولتعلم {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هو الغرض الثاني.
{وَلِتَعْلَمَ} : الواو للتوكيد، واللام للتوكيد.
{أَنَّ} : لزيادة التّوكيد.
{وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : الوعد: هو حين وعدها سبحانه بقوله: إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين.
{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك.
{أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أنّ الله سبحانه لا يخلف وعده أو أنّ وعد الله حق ثابت لا يتغير ولا يتبدل، وهناك القليل من يعلمون ذلك.
ولو قال تعالى: كي تقر عينها ولا تحزن وكي تعلم أنّ وعد الله حق لكان ذلك يعني: أنّها تجهل أنّ وعد الله حق وهي لا تجهل ذلك، ولذلك حذف كي تعلم وأبدلها لتعلم: اللام للتوكيد. ليؤكد لها وعد الله تعالى.
سورة القصص [28: 14]
{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{بَلَغَ أَشُدَّهُ} : أيْ: موسى بلغ أشده بعد أن نشأ وشب في قصر فرعون، وبلغ أشده: أيْ: كامل القوة البدنية قيل: بلغ (30) سنة أو (40) سنة.
{وَاسْتَوَى} : بلغ كامل القوة العقلية قيل: (40) سنة، أو اكتمل شبابه، واكتملت قوته البدنية، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (22) من سورة يوسف وهي قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} ، ولم يذكر واستوى؛ أي: اكتمل شبابه، ولم يقل واستوى التي تدل على القوة البدنية.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} : لمعرفة معنى الإيتاء أو العطاء ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة، حكماً: قيل النّبوة ومعرفة الأحكام الشرعية، وتعني الحكمة وعلماً بالله تعالى وهو أفضل العلوم وبشريعة بني إسرائيل - شريعة إبراهيم ويعقوب.
{وَكَذَلِكَ} : أيْ: مثل ذلك كما آتينا موسى الحكم والعلم، نؤتي المحسنين أمثاله.
{نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} : جمع محسن: نؤتيهم الحكم والعلم بالكتب المنزلة والفقه في الدّين أو آتينا موسى الحكم والعلم؛ لأنّه من المحسنين. ارجع إلى سورة البقرة آية (112) لبيان معنى الإحسان.
سورة القصص [28: 15]
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} : الواو هنا لا تدل على التّرتيب إنما هي لمطلق الجمع، فليس تعني أتيناه الحكم والعلم، ثم دخل المدينة، وإنما تعني دخل المدينة قبل إيتائه النّبوة.
أي: دخل موسى المدينة: قيل: هي مدينة منف تقع على مسافة (28) كم جنوب القاهرة قرب ميت رهينة بالبدرشين بالجيزة، وبها أهرامات سعارة وكانت المدينة الأولى آنذاك.
{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} : حيث كان القبط في بعض المدن المزدحمة بالسّكان يمنعون بني إسرائيل دخول مدنهم، لذلك اختار موسى وقت غفلة النّاس، أيْ: زمن القيلولة حوالي منتصف النهار والنّاس في بيوتهم، وقيل: لكون موسى كان يعيب على قوم فرعون دينهم فكانوا يخافونه وهو يخافهم، فكان لا يدخل إلا مستخفياً، وفي يومٍ دخل موسى المدينة، دخلها وقت القيلولة وهو الأرجح وقت الظّهيرة وقد أغلقت أسواقها وليس في طرقها إلا قلة من المارة، أو وقت بين المغرب والعشاء دخل المدينة بعد مدة طويلة من عدم دخولها ونسوا ذكره.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} : هذا من شيعته: أيْ: من بني إسرائيل، وهذا من عدوه: يعني: من الأقباط، والعدو: يمكن تذكيره للواحد أو الجمع.
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة بعد الدّخول، استغاثه: طلب منه الغوث: أي: العون والمساعدة أو النجدة السّريعة. وكان موسى يتمتع بقوة في البدن، وتبين لموسى أن القبطي هو الذي بدأ بقتال الإسرائيلي فحاول موسى الدفاع عن المظلوم ودرء خطر الظالم عن المظلوم، ولم يتعمد قتل القبطي، والأقباط يومها كانوا يعبدون الأصنام، ولم يكن موسى آنذاك نبياً ولا رسولاً؛ فوكزه موسى: الفاء للمباشرة، الوكز في اللغة: نوع من الضرب بمجمع اليد على الذقن؛ أي: الرأس، وقيل: على الصدر في مكان القلب، فقضى عليه: فمات القبطي مباشرة من أثر الوكز، وندم موسى؛ أي: وكزه ولم ينوي قتله.
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُبِينٌ} : هذا الوكز الّذي أمات هذا الإنسان لم يكن في نيته أو يقصده، ولذلك قال: هذا من عمل الشّيطان: قال موسى عليه السلام معترفاً بأنّ ضربة القبطي كانت من نزع الشّيطان، أيْ: من تهيج وإثارة الشّيطان له.
إنّه عدو مضل مبين: إنّه تعود على الشّيطان للتوكيد عدو لبني آدم، مضل له عن الهدى والصّواب بالخطأ والإضلال بالوسوسة والتّزين والنزع، مبين: ظاهر العداوة كلّ بني آدم يعلمون أنّه عدو مبين وأنّ عداوته لا تخفى على أحد وهي ظاهرة للعيان، لا تحتاج إلى دليل ولا برهان.
عدو مضل مبين: ثلاث صفات وصف بها الشّيطان في آن واحد عدو، مضل، مبين: أسماء فاعل: صفات ثابتة في الشّيطان.
سورة القصص [28: 16]
{قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :
{قَالَ رَبِّ} : موسى، ولم يقل: يا رب؛ لأنّه يعلم أنّ ربه قريب منه فلا يحتاج إلى أداة النّداء للبعد.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{ظَلَمْتُ نَفْسِى} : بقتل هذا القبطي، مباشرة يعترف موسى بذنبه وظلمه لنفسه فيستغفر ربه ويبادر بالتّوبة والاستغفار.
{فَاغْفِرْ لِى} : أي: استر ذنبي ومحوه ولا تعاقبني عليه.
{فَغَفَرَ لَهُ} : بعد توبته.
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : إنّ للتوكيد، وهو للحصر والتّأكيد، وهو الغفور الرّحيم: الغفور صيغة مبالغة كثير المغفرة، الرّحيم بعباده فلا يعذبهم بذنب تابوا منه، والسّؤال: هل أعلم الله سبحانه موسى أنّه غفر له أم لم يعلمه، قال بعض المفسرين أنّ موسى لم يعلم بمغفرة الله له؛ لأنّه لم يكن نبياً بعد، وقد نُبِّئ بعد نبوته، وقول موسى في الآية القادمة:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} لا تشمل أو يقصد بها المغفرة؛ المغفرة على قتل القبطي، وإنما النّعم الأخرى، ومن المفسرين من قال: إنّ موسى علم بمغفرة الله له؛ ولذلك قال: فلن أكون ظهيراً للمجرمين، والله أعلم.
سورة القصص [28: 17]
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} :
{قَالَ رَبِّ بِمَا} : قال موسى: رب بما: الباء للإلصاق والتّعليل، ولم يستعمل ياء النداء للبعد.
{أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} : بالعلم والحكمة والقوة والنّعمة تستوجب الشّكر.
{فَلَنْ} : الفاء للتوكيد، لن حرف نفي تنفي المستقبل القريب والبعيد.
{أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} : مُعيناً لأيِّ مجرم على إجرامه مهما كان سواء كان من شيعته أو من عدوه، وظهيراً مشتقة من الظّهر. ارجع إلى الآية (55) من سورة الفرقان للبيان.
والمجرم هو الكافر أو المشرك المفسد والقاتل أو المهلك للحرث والنّسل، وهذا يدل على أنّ الإسرائيلي الّذي أعانه موسى تبين له أنه كان كافراً، انتبه لم يقل: فلن أكون ظهيراً للمجرمين إن شاء الله، فابتلي به مرة أخرى؛ لأنّه لم يستثنِ كما قال ابن عبّاس كما سنرى في الآية القادمة.
سورة القصص [28: 18]
{فَأَصْبَحَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة.
{فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ} : الّتي قتل فيها القبطي.
{خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} : ينتظر السّوء أو المكروه أو الضرر ينتظر بحذر وقلق ويتوقع أن يقبض عليه ويؤخذ إلى السّجن، أو ينتظر ما سيفعل به والتّرقب هو الانتظار والمراقبة بكل الوسائل لكي لا يفوته شيء.
{فَإِذَا} : الفاء للتوكيد، إذا الفجائية.
{اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ} : طلب النّصرة والعون منه (أي: الإسرائيلي) الألف والسّين وتعني: الطّلب.
{يَسْتَصْرِخُهُ} : يصرخ وينادي على موسى أن ينصره ويُعينهُ مرة أخرى.
{قَالَ لَهُ مُوسَى} : للإسرائيلي.
{إِنَّكَ} : للتوكيد.
{لَغَوِىٌّ} : اللام للتوكيد، غوي: ذو غواية أيْ: حب للفساد والقتل وقطع الطّريق، والغوي عنده عقيدة فاسدة. ارجع إلى سورة الحجر آية (42) لمزيد من البيان.
{مُبِينٌ} : ظاهر الغواية والضّلال والفساد وتحب الإجرام.
غوي مبين: أيْ: غوايتك لا تخفى على أحد، ولا تحتاج إلى دليل وبرهان ظاهرة لوحدها.
سورة القصص [28: 19]
{فَلَمَّا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لما ظرفية زمانية بمعنى حين.
{أَنْ} : مجيء أن الخفيفة بعد لما تفيد الإبطاء وعدم التّسرع؛ أي: فلم يندفع ويسرع كما فعل بالمرة السّابقة، وكان متردداً، ولم يكن عازماً على البطش.
{أَرَادَ} : موسى.
{أَنْ يَبْطِشَ} : أيْ: يضرب بيده.
{بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} : أيْ: بالقبطي الجديد الّذي من قوم فرعون، أو قد تعني بالإسرائيلي الّذي هو من شيعته فهو عدو لموسى لقوله له: إنّك لغوي مبين.
ولما كان خبر قتل موسى للقبطي بالأمس قد انتشر وشاع بالمدينة.
{قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} : القائل قد يكون القبطي الجديد.
وقد يكون القائل هو الإسرائيلي الّذي من شيعة موسى؛ حيث ظن أنّ موسى حاقد عليه لقوله: إنّك لغوي مبين، فقال الإسرائيلي: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، وهذا هو المرجح عند علماء التفسير، وبالأمس تعني: البارحة.
{أَتُرِيدُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} :
بالأمس: أي: البارحة، وقد تعنيك أحياناً الماضي.
{إِنْ} : وتفيد النّفي حرف نفي أي: ما تريد.
{تُرِيدُ إِلَّا} : أداة حصر.
{أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِى الْأَرْضِ} : أن: للتوكيد. الجبار: شديد البطش الّذي يُكْره النّاس على فعل ما لا يرغبون فعله ولا يرحم. والجبار هو أيضاً الذي يتعاظم بالقهر والقتل والتسلط على الناس.
{وَمَا} : النّافية.
{تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} : أيْ: بدلاً من محاولة قتلي لما لا تحاول الإصلاح بيني وبينه وتكون من المصلحين. أو تتجنَّب قتلي كما قتلت نفساً بالأمس، وشاع الخبر في المدينة وعلم الرجل الصالح ذلك، أو وصل الخبر إلى قصر فرعون فعلم فرعون بذلك وتشاور مع ملئه، وكان من بينهم الرّجل الصّالح الّذي جاء من أقصى المدينة يسعى ليخبر موسى بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك.
سورة القصص [28: 20]
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} : جاء من المجيء والمجيء فيه معنى الصّعوبة والمشقة، ولم يقل: وأتى الّذي فيه معنى السّهولة.
{رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} : قيل: كان ابن عم فرعون، وقيل: ولي عهده، وقيل: صاحب الشرطة وقيل: هو الرّجل المؤمن من آل فرعون الّذي يكتم إيمانه، والّذي ورد ذكره في سورة المؤمن (غافر) كما قال ابن عباس، وقال أكثر أهل التفسير، وهو المرجح.
من أقصى المدينة: من أبعد أطرافها وآخرها، المدينة: القرية إذا اتسعت تسمَّى مدينة.
{يَسْعَى} : يُسرع يمشي مسرعاً.
{قَالَ يَامُوسَى إِنَّ} : إن للتوكيد.
{الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} : الملأ: وجهاء القوم أيْ: رؤساء القوم أو الحكام يتشاورون فيك ليقتلوك أو يتأمرون على قتلك، وقال: يأتمرون: لأن كلّ المتشاورين يأمر بعضهم بعضاً بقتلك. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (24) لبيان معنى الملأ.
{لِيَقْتُلُوكَ} : اللام لام التّوكيد.
{فَاخْرُجْ} : الفاء للمباشرة، اخرج الآن من المدينة حالاً.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} : لك خاصة، اللام لام الاختصاص، من: ابتدائية، الناصحين: فاستمع لقولي لنصيحتي بالخروج.
لنقارن هذه الآية (20) من سورة القصص وهي قوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} .
مع الآية (20) من سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} .
الرّجل في سورة القصص جاء ليحذر موسى فقط ليخرج من المدينة والرجل ليس مهدداً بالقتل أو أيِّ خطورة، أما الرّجل في سورة يس فجاء ليحذر القوم باتِّباع المرسلين، فهو جاء للتبليغ والدّعوة وإعلان إيمانه وتأييد الرّسل ومجيئه فيه خطر شديد على نفسه بالقتل.
إذن الرّجل في سورة يس مهدَّد بالقتل ومهمته أهم وأشد من الرّجل في سورة القصص.
كلاهما جاء يسعى مسرعاً أحدهما ليحذر موسى والآخر ليدعو قومه بالإيمان بالرّسل.
وهناك فرق بين: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، وقوله تعالى: وجاء رجلٌ من أقصى المدينة: قدَّم الرّجل في آية القصص الّذي جاء من أقصى المدينة، أيْ: جاء في ذلك اليوم من أقصى المدينة؛ لأنّه كان في ذلك اليوم في أقصى المدينة، ولم يكن يسكن أقصى المدينة، وأما جاء من أقصى المدينة رجلٌ، (فأخَّر كلمة رجل في آية يس)؛ لأنّه كان ساكن في أقصى المدينة، ويحتاج زمناً للخروج من بيته. فقدَّم أقصى المدينة على كلمة رجل في آية ياسين وقدم الرجل على أقصى المدينة في آية القصص.
سورة القصص [28: 21]
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :
{فَخَرَجَ} : الفاء للتعقيب.
{مِنْهَا} : من المدينة. أيْ: موسى.
{خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} : يلتفت يمنةً ويسرةً خوفاً من أن يلحق به أحد أو يراه أحد أو يترقَّب متابعة أحد له.
{قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : أيْ: قوم فرعون وقومه.
سورة القصص [28: 22]
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ} :
{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} : توجَّه: قصداً بوجهه مدين.
أيْ: خرج من مصر هارباً متجهاً إلى مدين في طريق لم يسلكه سابقاً، ومن دون طعام أو شراب ومن دون دابة يركب عليها.
{قَالَ عَسَى} : عسى من أفعال الرّجاء الّتي يتوقع حدوثها بعد الرّجاء.
{رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ} : أن يهديني أفضل الطّرق، أيْ: أوسطها، أي: الطّريق السّهل الّذي يخلو من العقبات لكي لا أضل عن الطّريق، وجاء بياء المتكلم يهديني لأنها هداية خاصة لظرف معين خاص بموسى وهو التوجه تلقاء مدين؛ فهو يطلب هداية كاملة شاملة إلى طريق مدين؛ لأنه لا يعلم الطريق أبداً.
ولمقارنة هذه الآية (22) من سورة القصص وهي قوله: {عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السَّبِيلِ} مع الآية (24) من سورة الكهف، وهي قوله:{عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ارجع إلى سورة الكهف آية (24).
سورة القصص [28: 23]
{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما ظرفية وزمانية بمعنى حين.
{وَرَدَ} : وصل أو جاء.
{مَاءَ مَدْيَنَ} : بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وأنعامهم.
{وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} : أمة جماعة، يسقون مواشيهم أو أنعامهم.
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} : أيْ: بعيداً عن الماء (البئر) وعن النّاس الّذين يسقون امرأتين لوحدهما تنتظران الاقتراب من البئر.
{امْرَأَتَيْنِ} : بنتا شعيب عليه السلام.
{تَذُودَانِ} : تمنعان ماشيتهما عن الشّرب من الحوض لكثرة الزّحام على الماء أو بالاختلاط بمواشي الآخرين والذَّوْد هو الطّرد والدّفع، أي: امرأتين تحبسان من كثرة الزّحام من الاقتراب من البئر.
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} قال: سألهما موسى: ما شأنكما؟ وفيه تعجُّب لماذا تمنعان الغنم من السقيا والشرب؟
والخطب: الأمر العظيم الّذي يكثر فيه السّؤال والجواب.
{قَالَتَا} : أيْ: بنتا شعيب.
{لَا نَسْقِى} لا النّافية، نسقي مواشينا.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} : حتّى ينتهي الرعاءُ من السقي.
يصدر الرعاء: ينصرف أو يرجع الرعاء والمنصرف عن الماء بعد السقاية يقال له صادر والقادم إلى الماء (البئر) للسقاية يقال له وارد.
والرعاء: جمع راعٍ. اسم فاعل من فعل رعى.
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} : شيخ لا يقوى على السّقي لكبر سنه وضعفه، يعني: نحن امرأتان لا نزاحم الرّجال ولا نخالطهم حتّى ينتهوا من سقي مواشيهم، ثم نسقي حين ينصرفون.
وانتبه إلى لفظ كلمة يُصدِر الرّعاء: بضم الياء وكسر الدال؛ أيْ: حين يَرُدُّ الرّعاء غنمهم عن الماء، أما يَصْدُر الرّعاء بفتح الياء وضم الدال فتعني: يرجع الرّعاء عن الماء.
سورة القصص [28: 24]
{فَسَقَى} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب سقى لهما مواشيهما.
{ثُمَّ} : تدل على التّرتيب الذّكري، وليس التّراخي في الزّمن.
{تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} : ذهب وانصرف إلى الظّل يدل على أنّه كان يوماً حاراً، إلى ظل شجرة.
{فَقَالَ} : الفاء تدل على المباشرة، قال دعا ربه.
{رَبِّ} : اختار صفة الرّبوبية؛ لأنّ الرّب هو الّذي يطعم ويسقي ومدبر الأمر والرّزاق، ولم يأت بياء النّداء الدّالة على البعد؛ لأنّه يشعر أنّ ربه قريب منه.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{لِمَا} : ما اسم موصول بمعنى الّذي وأوسع شمولاً من الذي.
أنزلت إلي: سخرت إلي.
{مِنْ خَيْرٍ} من بعضية خير أيْ: طعام.
{فَقِيرٌ} يبدو أنّ الجوع قد عصف به بعد رحلة طويلة شاقة بلا زاد فقد قيل: كان يأكل بقل الأرض وأنزل إليّ من خيرك أيْ: سخر لي عبداً من عبادك يطعمني.
تصوَّر، هذا موسى عليه السلام الّذي قال تعالى عنه:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} [طه: 39]، {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه: 41].
يُبتلى بقتل القبطي فيخرج من مصر هارباً إلى مدين بلا طعام ولا شراب، ويعصف به الجوع فيقول:{رَبِّ إِنِّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وهذا يفسر قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40].
سورة القصص [28: 25]
وبمجرَّد أن انتهى من الدعاء {رَبِّ إِنِّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .
{فَجَاءَتْهُ} : الفاء للمباشرة والتّوكيد.
{إِحْدَاهُمَا} : البنت الصّغيرة أو الكبيرة لم يصرِّح من هي، جاءته إحداهما.
{تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} : استحياء (مصدر من الفعل استحى) على وزن استفعال مجهدةً نفسها على: تفيد الاستعلاء والمشقة؛ أي: على التزام الحياء أو كأن الحياء مَركب أو سفينة، وهي متحكِّمة به تسير كيف تشاء، وقيل: كانت واضعة كم درعها على وجهها حياء، أو تمشي برفق وأدب، والاستحياء يظهر عليها، ولم يقل تمشي مستحية، وعلى استحياء أشد من مستحية، ومنهم من قال: على استحياء تعني: ليس فقط المشي، بل قد تعني القول أيضاً؛ أي: على استحياء في المشي والقول، والمعنى يحتمل كلا الأمرين.
{قَالَتْ} : لموسى.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} : اللام لام التّعليل، التّوكيد إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.
{فَلَمَّا} : الفاء للتعقيب، لما: أيْ: حين جاء موسى إلى شعيب.
{وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} : القَصَصَ: مصدر يطلق على ما يُروى من الأخبار؛ أي: فلما جاءه وقص عليه أخباره وحدثه بها، والقص: هو تتبع ما حدث بالفعل، لا لَبْس فيه ولا خيال؛ أي: أصدق القَصَص، قص موسى ما حدث له في مصر بصدق وأمانة. ارجع إلى سورة يوسف آية (3) لمزيد من البيان.
{قَالَ لَا تَخَفْ} قال شعيب لموسى: لا: النّاهية، أي: اطمئن واهدأ.
والخوف: هو توقُّع الضرر المشكوك في حصوله..
{نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : أي: من قوم فرعون، الظّالمين: المشركين أو المجرمين ـ أيْ: لن يصلوا إليك
…
سورة القصص [28: 26]
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ} : نداء فيه حنان وعطف واستعملت ياء النّداء.
{اسْتَـئْجِرْهُ} : اطلب منه أن يعمل لنا أجيراً كي يقوم مقامنا في السعي وسقي الماشية.
{إِنَّ خَيْرَ} : إن: للتوكيد، أفضل من استأجرت.
{الْقَوِىُّ} : كيف عرفت أن موسى قوي أمين، قوي حين أزاح الصّخرة الّتي كانت على فتحة البئر ليسقي لهما ولا يقدر على إزاحتها عدة أشخاص.
{الْأَمِينُ} : حين سألها أن تسير خلفه وهي عائدة معه إلى أبيها، ولم يبدُ منه أيُّ سوء.
سورة القصص [28: 27]
{قَالَ إِنِّى} : قال شعيب لموسى، إني: للتوكيد.
{أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} : أريد أن أزوجك، أن: حرف مصدر يفيد التّعليل والتّوكيد.
{إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ} : هي سألت أبيها أن يستأجره فجاء الأب باقتراح أو حلٍّ آخر ـ وهو الأفضل ـ أن يتزوج موسى بإحداهما لكي يحلُّ له الدّخول والخروج والإقامة مع عائلته فلا حلَّ إلا الزّواج.
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ} : حجج: جمع حجة: اسم للعام، وبادر شعيب بسؤال موسى عن ذلك فاستجاب موسى بالقبول بعد أن بيَّن شعيب المهر أو الصّداق لموسى وهو أن يعمل موسى أجيراً عند شعيب لمدة (8) سنوات أو حجج على الأقل. ولماذا اختار كلمة حجج بدلاً من عام، أو سنة؟ انظر في نهاية الآية.
{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} : أراد شعيب أن يرفع من قيمة ابنته فقال فإن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك، أتممت عشراً: بدلاً من ثمانٍ، من عندك: أي: تفضلاً منك لا إلزاماً عليك.
أي: اختر ما شئت (8) أو (10) حجج.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ} : ما النّافية، أريد أن: للتوكيد.
{أَشُقَّ عَلَيْكَ} : أي: بالعشر.
{سَتَجِدُنِى} : السّين للاستقبال القريب.
{إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، من الصّالحين: ارجع إلى (130) من سورة البقرة للبيان.
لماذا اختار كلمة ثماني حجج بدلاً من سنة أو عام، الحج يتم مرة في العام فالحج ينوب عن كلمة عام وسنة.
واستعمل حججاً؛ لأنّ شعيب يعلم أنّ موسى عليه السلام سيعود إلى مصر، ولن يبقى في مدين فهو كالحاج الزّائر لا بُدَّ أن يعود إلى بلاده، وقيل: إنّ موسى أتم العشر أبعدَ الأجلين.
سورة القصص [28: 28]
{قَالَ} : موسى.
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى العرض الّذي عرضه عليه شعيب بالعمل له ثماني حجج، فإن أتم عشراً فمن عنده وله الخيار.
{بَيْنِى وَبَيْنَكَ} : أي: قبلت به.
{أَيَّمَا} : أيما مركبة من (أي + ما) أيَّ شرطية هنا وليست استفهامية، وما: للتوكيد. كقوله: {فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50].
{الْأَجَلَيْنِ} : ثماني حجج أو عشر حجج.
{قَضَيْتُ} : أتممت ذلك فقد برئتُ من العهد.
{فَلَا عُدْوَانَ عَلَىَّ} : الفاء للتوكيد، لا النّافية، عدوان عليَّ: لا حرج عليَّ وليس لك أن تطالبني بزيادة على ذلك.
{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} : أي: شهيد ورقيب وكافٍ، قيل: هذا من قول موسى، وقيل: هذا من قول شعيب، لا يهم من القائل المهم المقولة.
ومن الملاحظ أن الآيات لم تذكر شيئاً مما حدث لجوع موسى، وقد ذكر بعض المفسرين أنّ شعيباً قدَّم لموسى الطّعام فأبى موسى أن يأكل إذا كان الطّعام مقابل ما سقى لهما فقال موسى: نحن قوم لا نبيع الآخرة بالدّنيا، فقال شعيب: نحن من أهل بيت يطعمون الطّعام ونقري الضّيف وليس مقابل ما سقيت لنا، عندها أكل موسى عليه السلام.
سورة القصص [28: 29]
{فَلَمَّا} : الفاء، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} : قضى: أتم، موسى الأجل: هو الوقت المضروب لانتهاء مدة الاستئجار أي: أتم موسى العمل عند شعيب عشر سنوات فهو قد قضى أقصى الأجلين.
{وَسَارَ بِأَهْلِهِ} : سار: من السّير أي: سار راجعاً إلى مصر من مدين، والسير قد يكون لغرض أو هدف وباتجاه معين، وأما المشي: هو مجرد الانتقال من مكانه وليس هناك هدف محدد له؛ بأهله: الباء للإلصاق، أهله: زوجته وابنه وتابعه، وتسمَّى الزّوجة الأهل؛ لأنّها تقوم بكثير من المهام والأعمال تغني عن كثير من أهل الرجل.
{آنَسَ} : شعر وأحس بشيء يؤنسه ويريحه ويطمئنه ضد التّوجس.
{مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} : أي: رأى ناراً منبعثة من جانب الطّور: الطّور الجبل، ولكن الطّور أقل حجماً من الجبل وهو طور سيناء، موسى رأى ناراً أي: ظنها ناراً، ولكنّها في الحقيقة نورٌ يتلألأ من الشجرة الخضراء.
ارجع إلى سورة النّمل آية (8) للبيان.
{قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} : قال موسى لأهله: امكثوا: انتظروا هنا.
{إِنِّى آنَسْتُ نَارًا} : إني: للتوكيد، أنست ناراً.
{لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} : لعلي: فيها معنى الرجاء والأمل وعدم التّيقن والجزم؛ لأنّه غير متأكد فقد تنطفئ النّار أو تخمد بينما لو قال: سآتيكم منها بخبر: تدل على الجزم والتّأكد، فقد يبدأ الإنسان بكلمة لعلِّي، ثم يتحول إلى الجزم أو بالعكس.
{بِخَبَرٍ} : لكونه ضل الطّريق، وقيل: كانت ليلة باردة ممطرة وغير متأكد من الاتجاه، فهو بحاجة إلى من يدلُّه على الطّريق وبحاجة إلى شيء يتدفؤون به من البرد القارس.
{أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} : جمرة من النّار وهو ما يبقى من الحطب المشتعل بعد أن يخمد اللهب، الجذوة جمرة تكون من دون لهب، أو الجذوة قد تكون قبساً أو غير قبس.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} : لعلكم من لعل للترجي والتّعليل، تصطلون: من الاصطلاء، وهو الدّنو من النّار للدفء يقال: اصطلى، يصطلي إذا استدفأ؛ أي: لعلكم تتدفؤون.
ولو قارنا بعض هذه الآيات من سورة القصص مع بعض الآيات من سورة النمل تجد في سورة القصص: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [آية: 29]، في سورة النمل:{إِنِّى آنَسْتُ نَارًا} [آية: 7].
في سورة القصص: {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [آية: 29]، في سورة النمل: لم يقل امكثوا.
في سورة القصص: {لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} [آية: 29]، في سورة النمل:{سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [آية: 7].
في سورة القصص: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [آية: 29]، في سورة النمل:{لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [آية: 7].
هذه الاختلافات لا تدل على تناقض في أقوال موسى، وإنما هي أقوال قالها رداً على الحوار والأسئلة التي حدثت بينه وبين أهله في موقف واحد مثلاً قال:(سآتيكم منها بخبر)، قالوا: سنأتي معك، قال لهم:(امكثوا هنا)، قال:(سآتيكم منها بخبر) بكل تأكيد، ثم رجع عن قوله بالقول (لعلي)؛ لأنه غير متأكد، قال:(شهاب قبس) ملتهبة، ثم قال:(إذا لم أجد آتيكم منها بجذوة)، فالله سبحانه ينقل لنا الصورة الحقيقية لما حدث في تلك الليلة. ارجع إلى سورة النمل، وسورة طه لمزيد من البيان والمقارنة.
سورة القصص [28: 30]
{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، لما.
{أَتَاهَا} : من الإتيان، المجيء بسهولة، ولازال في طريقه للوصول إلى المكان المقصود لم يصل بعد، ولم يقل: فلما جاءها: المجيء فيه صعوبة والمجيء أعم ويعني قد وصل إلى المكان المقصود.
والطّريق إلى الطّور قسم منه قد يكون سهلاً، وقسم قد يكون صعباً ووعراً.
{نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} : من شاطئ الوادي الأيمن بالنّسبة لموسى أو القادم إلى الطّور. والشاطئ: اسم للبر الملاصق للبحر.
{فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} : البقعة: اسم للجزء من الأرض، وفي سورة طه آية (12) قال تعالى:{إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} .
{أَنْ يَامُوسَى} : أن تفيد التّوكيد واليقين.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{أَنَا اللَّهُ} : أنا: بصيغة المفرد للدلالة على التّوحيد، الله: اسم العلم الدّال على ذات الله العليَّة واجب الوجود، اسمه الجامع لكل صفاته وأسمائه الحسنى.
{رَبُّ الْعَالَمِينَ} : رب بصيغة توحيد الرّبوبية والرّب الخالق الرّزاق والمدبر والمربي، فهو سبحانه جمع بين الألوهية والرّبوبية معاً واصفاً ذاته العلية قبل أن يوحي إلى موسى ما أوحى، وفي ذلك تثبيت لقلب موسى في ذلك المقام الرهيب.
ولو قارنا هذه الآية من سورة القصص مع آيات سورة النمل لوجدنا اختلافات أخرى مثل:
في سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [آية: 30]، في سورة النمل:{فَلَمَّا جَاءَهَا} .
في سورة القصص: {نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى} [آية: 30]، في سورة النمل:{نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [آية: 8].
في سورة القصص: {إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [آية: 30]، في سورة النمل:{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آية: 9].
تفسير ذلك: أتاها (وهو في طريقه لم يصل بعد): {نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، ولما جاءها (وصل إلى النار):{نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
سورة القصص [28: 31]
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} : وأن: تدل على البطء، وعدم التسرع، ورأينا هذا في سورة الأعراف الآية (117):{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، بينما في سورة النمل قال تعالى لموسى:{وَأَلْقِ عَصَاكَ} التي تدل على المباشرة في النداء بدون استعمال (أن).
{فَلَمَّا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لما بمعنى حين.
{رَآهَا} : رأى العصا قد تحولت إلى حية تهتز كأنّها جانٌّ تتحرك كالجان أو حركة الجان، أي: بسرعة شديدة يمنة ويسرة.
{وَلَّى مُدْبِرًا} : انصرف راجعاً مولِّياً ظهره للحية.
{وَلَمْ يُعَقِّبْ} : ولم يلتفت إلى الوراء.
{يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} : ناداه ربه: يا موسى ارجع ولا تخف من الحية، وكان ذلك في أول اختبار لموسى مع العصا حيث ظهرت عليه علامات الخوف، وولى هارباً كما رأينا في سورة طه آية (20)، وسورة النمل آية (10).
{إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} : إنّك: للتوكيد. الآمنين: جمع آمن والآمنين جملة اسمية تفيد الثّبوت، أي: أمان ثابت مستمر.
ولو قارنا هذه الآية من سورة القصص مع آيات سورة النمل؛ لوجدنا اختلافات أخرى مثل:
في سورة القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [آية: 31]، في سورة النمل:{وَأَلْقِ عَصَاكَ} [آية10].
في سورة القصص: {يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [آية: 31]، في سورة النمل:{يَامُوسَى لَا تَخَفْ} [آية: 10].
في سورة القصص: {وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [آية: 31]، في سورة النمل:{إِنِّى لَا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ} [آية: 10].
أحداث ومشاهد لموقف واحد. ارجع إلى سورة النمل وسورة طه للمزيد من البيان والمقارنة.
سورة القصص [28: 32]
هذه آية أخرى إلى فرعون وملئه.
{اسْلُكْ} : أدخل يدك في جيب قميصك (وهو الشّق الّذي يدخل معه الرّأس في الثّوب ليلبس) فتحة القميص العليا، والّتي تكون للرقبة يدخل منها الرّأس، وهكذا كان اللباس القديم. اسلك: أسهل من أدخل، واستعمل سلك؛ لأنه كان يعتري موسى الخوف، ولأنه يريد أن يخفف عنه، فقال: اسلك بدلاً من أدخل التي تدل على الصعوبة.
{تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} : بيضاء ناصعة منورة (وموسى أسمر اللون).
{مِنْ} : ابتدائية، غير سوء: من غير مرض مهما كان نوعه حتّى لا يظن النّاس أنّها برص أو مرض أزال الله هذه الفرضية فقال: من غير سوء.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} : الجناح جناح الإنسان عضده وساعده، واضمم إليك جناحك (العضد والسّاعد) وهو الجناح إلى صدرك يذهب عنك الخوف وتعود يدك لا نور فيها أي: اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء هذا هو الجزء الأول.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} : (طرفك العلوي) إلى صدرك يختفي الرّعب والخوف وتعود يدك إلى لونها العادي.
ولو قارنا هذه الآية من سورة القصص مع آيات سورة النمل لوجدنا اختلافات أخرى مثل:
في سورة القصص: {اسْلُكْ يَدَكَ} [آية: 32]، في سورة النمل:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} [آية: 12]. ارجع إلى سورة النمل، وسورة طه لمزيد من البيان والمقارنة.
{فَذَانِكَ} : الفاء للتوكيد، ذانك: اسم إشارة للمثنى والكاف للخطاب إشارة على معجزتي العصا واليد، فذانك تقرأ مخففة مثنى ذاك أو تقرأ مشدَّدة مثنى ذلك.
{بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} : البرهان: الحُجَّة القاطعة هو أعلى درجات الإثبات، ويتضمن حسن عرض الحُجَّة، برهانان على قدرة الخالق الحق وعلى صدق نبوة موسى.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : ولم يقل: إلى فرعون وقومه؛ لأنّ الملأ هم أشراف القوم وسادتهم؛ أي: المحيطون بفرعون هم الملأ وهم أقل دائرة أو أصغر بكثير من دائرة القوم التي هي أوسع؛ أي: أكثر عدداً، فإذا آمنوا هم بموسى أولاً فالقوم أتباع لرؤسائهم، فهم سيؤمنون كذلك ورؤية البرهانين يسهل تنفيذه أمام فرعون وملئه مقارنة بفرعون وقومه.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} : أي: فرعون وملئه كانوا فاسقين خارجين عن طاعة الله تعالى. الفاسقين: جملة اسمية تفيد الثّبوت والاستمرار. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لبيان معنى الفسق والفاسقين.
سورة القصص [28: 33]
{قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} :
{قَالَ} : موسى.
{رَبِّ إِنِّى} : إني للتوكيد.
{قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا} : أي: الّذي وكزه حين دخل المدينة على غفلة من أهلها منذ أكثر من عشر سنوات. ارجع إلى الآية (15) من نفس السّورة فهو لا يزال يذكر ذلك ولا يزال خائفاً.
{فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} : الفاء للتوكيد، أخاف: إذا رأوني، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، يقتلون: أي: يقتصون مني فيقتلون، ولم يقل: يقتلوني؛ لأنّ موسى قوي البنية ولا يتوقع أن يقتل، ولو كان ضعيفاً، ولا يستطيع أن يقاوم لقال: يقتلوني. ارجع إلى الآية (150) من سورة الأعراف للمقارنة.
سورة القصص [28: 34]
{وَأَخِى هَارُونُ هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا} : أَبْيَنُ وأطلقُ مني لساناً في الكلام وإقامة الحُجَّة والبرهان للدعوة وتبيان الحق وتبليغ الرسالة.
{فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا} : الفاء للتوكيد والمباشرة، أرسله: حتى يكون معاوناً مساعداً لي أي: مُعيناً لي حين أذهب إلى فرعون وملئه، الرّدء المعين يقال: ردَأت الحائط دعمته بخشب أو حجارة لئلا يسقط.
{يُصَدِّقُنِى} : لا يعني أن يصدق أخيه، فهذا لا فائدة منه ولا يقول أمام الملأ لأخيه: صدقت.
وإنما يصدقني يعني: يوضِّح ويبيِّن ما أقوله لهم إذا احتاج الأمر ويجادل ويبلغ معي رسالتك.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{أَخَافُ} : الخوف: هو الشّعور الّذي ينتاب النّفس من توقُّع الضرر أو العقاب المشكوك في وقوعه.
{أَنْ يُكَذِّبُونِ} : حذف الياء؛ لأنّ هناك من سيصدقه وأكبر دليل على أنّ السّحرة آمنوا له، وكذلك بنو إسرائيل ومؤمن آل فرعون وامرأت فرعون ولو كذبه الكل لقال: أخاف أن يكذبوني.
سورة القصص [28: 35]
{قَالَ} : سبحانه لموسى.
{سَنَشُدُّ} : السّين للاستقبال القريب.
{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} : العضد من الكتف إلى المرفق: وقوة اليد مستمدة من قوة العضد كلما قوي العضد تقوى اليد، وقوة اليد تعني الغلبة، فقوله تعالى: سنشد عضدك بعضد أخيك، أي: سنقويك أو سنعينك بأخيك هارون، الباء للإلصاق والمصاحبة، وكلّ مُعين يعتبر عَضُداً، ولن نكتفي بذلك وسنؤيدك بآياتنا.
{وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} : هو الحجة القوية التي لا تدحض لقوة دلالتها، والسّلطان هو إما سلطان الحُجَّة والبرهان أو سلطان القوة والقهر، والسّلطان هنا يعني سلطان الحُجَّة والبرهان، أي: اذهبا بآياتنا اليد والعصا وغيرهما فهي سلطان لكما. فتكونا أنتما ومن اتبعكما الغالبين.
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّافية.
{فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} : بسوء أو أذى أو قتل، حين يرون تلك المعجزات يخافون أن يمسوكم بسوء.
{بِآيَاتِنَا} : الباء باء السّببية أو التّعليل بآياتنا.
{أَنْتُمَا} : موسى وهارون.
{وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا} : من المؤمنين.
{الْغَالِبُونَ} : المنصورون الغالبون على عدوكم بالحُجَّة، كما قال تعالى:{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات: 116].
سورة القصص [28: 36]
{فَلَمَّا} : الفاء للمباشرة، لما: ظرفية بمعنى حين.
{جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} : بالآيات التّسع: العصا واليد، والسنين والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع والدّم، ونقص في الثمرات.
{قَالُوا مَا هَذَا} : ما: النّافية، الهاء للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب.
{إِلَّا} : حصراً.
{سِحْرٌ مُّفْتَرًى} : سحر: ارجع إلى الآية (58) من سورة طه.
{مُّفْتَرًى} : مختلق كذب وليس آية أو بينة أي: سحر افتريته كسائر أنواع السّحر؛ لأنّه أثر في نفوسهم وكانت آيات خارقة للعادة، وكانوا يظنون كلّ شيء خارقاً للعادة سحراً أو يشبه السّحر.
{وَمَا} : تكرار ما يفيد توكيد النّفي.
{سَمِعْنَا بِهَذَا} : بالذي تدعونا إليه إلى عبادة الله وحده (أي: بالتّوحيد)، والباء بهذا: للتوكيد.
{فِى آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} : في ظرفية، أيْ: ما سمعنا أحداً من آبائنا على هذا الدّين أو يتكلم بما تقول فهم قد حاروا وضاقت بهم الحجج للإجابة على هذه الآيات إلا بزعمهم الكاذب أنّها سحر أو أنهم ما سمعوا بهذا التوحيد الذي يدعوهم إليه من آبائهم.
سورة القصص [28: 37]
قال موسى راداً على قولهم: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا، قال: ربي أعلم بمن جاء بالهدى.
{وَقَالَ مُوسَى} : بدلاً من القول قال موسى جاء بالواو: للتوكيد، على قول موسى: أنّه الحق، وما زعم فرعون ومَلَؤُهُ أنّها سحر هو الباطل.
{رَبِّى أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} : لم يقل موسى ويعلن لهم أنا جئتكم بالحق وأنتم على ضلال أو أنا على حق وأنتم على باطل، وإنما قال: ربي أعلم بمن هو على الهدى، وبمن هو على الباطل، وهذا أسلوب من أساليب الدّعوة إلى الله، وخطاب النّاس والحوار باللين والرّحمة فهو أطلق القول وترك للعقول أن تميز وتختار ما تشاء، أعلم بمن: الباء للتوكيد، من: اسم موصول بمعنى الّذي، ولم يقل: يعلم، بل قال: أعلم بصيغة المبالغة، جاء بالهدى من عنده؛ أي: من عند الرب فهو أعلم من هو المهتدي ومن جاء بالحق ولم يقل لهم: أنا جئت بالهدى مع العلم أنّه جاء بالهدى من عند ربه، من عنده: ولم يقل: منه، من عند أخص وأقرب. ومنه تستعمل للشيء العام والهدى شيء خاص ومهم جداً، ولذلك استعمل من عنده وأحياناً يستعمل من لدنه.
{وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} : من: بمعنى الّذي أنا أم أنتم، تكون له عاقبة الدّار: الدّار الآخرة أي: الجنة، فالدّار الدّنيا مزرعة للحسنات والسّيئات والعاقبة إما الثّواب أي: الجنة أو العقاب والعذاب.
{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : إنّه للتوكيد، لا يفلح: لا النّافية، يفلح: لا يفوز بعاقبة الدّار (الجنة) الظّالمون: الكافرون أو المشركون، الظّالمون: جملة اسمية تفيد الثّبوت والاستمرار.
والظالمون: جمع ظالم والظالم كلّ من يخرج عن منهج الله يعتبر ظالماً لنفسه.
سورة القصص [28: 38]
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ} : وقال فرعون: ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون. يا النّداء، والهاء: للتنبيه، الملأ: أعيان القوم ورؤساؤهم وزعماؤهم ممثلو الشّعب. ارجع إلى سورة الشّعراء آية (34).
{مَا} : النّافية.
{عَلِمْتُ لَكُمْ} : لكم تفيد الخاصة، اللام لام الاختصاص، والعلم هو اعتقاد فرعون الباطل أنّه هو الإله وليس هناك إله آخر، ولم يقل: ما عرفت لكم. العلم يتعلق بالصفات أو الأوصاف والمعرفة بالذوات.
{مِّنْ} : ابتدائية للتوكيد.
{إِلَهٍ غَيْرِى} : معبود سواي.
{فَأَوْقِدْ لِى يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} : هامان: ارجع إلى الآية (6) من نفس السورة للبيان.
أوقد لي يا هامان على الطّين: أي: اصنع الأَجُر المشوي.
{فَاجْعَل لِّى صَرْحًا} : أي: ابن لي قصراً عالياً أو برجاً عالياً، وكما قال تعالى في سورة غافر آية (36-37):{يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} .
{لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} : لعلِّي للتعليل، وفيها معنى عدم التّأكد وغير جازم لعلِّي أصعد إليه أو أقف عليه وأنظر إلى إله موسى الّذي يدعيه، وأراد بذلك القول التّهكم والاستهزاء بموسى.
وقبل بناء الصّرح وقبل أن يحاول أن يرى إله موسى حكم على موسى بأنّه من الكاذبين.
{وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ} : إنّي للتوكيد، لأظنه: اللام لزيادة التّوكيد، أظنه: الظّن هنا يعني اليقين أو الاعتقاد الرّاجح في عقل فرعون أنّ موسى من الكاذبين.
{مِنَ الْكَاذِبِينَ} : من ابتدائية، الكاذبين: في قوله أنّ هناك إلهاً آخر غيري أو في إثباته أنّ هناك إلهاً غيره. والكاذبين: جملة اسمية تفيد الثّبوت، أيْ: صفة الكذب ثابتة وملازمة لأقواله وأفعاله.
والسّؤال: هل بنى هامان له الصّرح؟ طبعاً لا، وإنما قال ذلك افتراء وسخرية من موسى ليصرف أنظار الملأ عن موسى عليه السلام، وهو أيْ: فرعون يعلم أنّ له رباً خالقه وخالق غيره، ويعلم بصحة قول موسى عليه السلام، ولكن استكباره هو الّذي منعه من تصديق موسى عليه السلام.
ولنقارن هذه الآية مع آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ} [غافر: 36 ـ 37].
في سورة القصص قال: وإني لأظنه من الكاذبين.
وفي سورة غافر قال: وإني لأظنه كاذباً، ما هو الفرق: من الكاذبين أقوى في التّوكيد من كاذباً. لأنّه طلب من هامان بناء الصرح أمام الملأ فأكَّد بقوله: من الكاذبين، أمّا في سورة غافر فحين طلب من هامان بناء السّد لم يكن الملأ حاضراً.
طلب فرعون من هامان ببناء الصّرح يدل على مدى جهل فرعون بالله وصفاته، ودل على غباوته حيث ظن أنّ الله سبحانه في مكان ما وأنّه يستطيع رؤيته من ذلك الصّرح، ويدل على غباوة ملئه حيث كانوا يصدقونه فهو جاهل وهم أجهل منه؛ لأنّه يستخف بعقولهم.
سورة القصص [28: 39]
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الْأَرْضِ} : استكبر فرعون وجنوده في أرض مصر من دون مبرر للكبر، استكبروا لأنّهم ظنوا أنه لا بعث ولا حساب ولا عقاب، وأنّهم لا يُرجعون، والاستكبار هو إظهار عظم شأنهم فوق ما يستحقون.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} : أيْ: بالباطل والإثم والعدوان، والقتل والفساد والظّلم، وهل هناك استكبار بحق ربما مثلاً حين يستكبر إنسان ما لحماية الضّعيف أو يفعل ذلك لكف ظالم عن ظلمه، والاستكبار الحق لله تعالى وحده.
{وَظَنُّوا} : فرعون وجنوده، من الظّن: والظّن هو الاعتقاد أو الظّن الرّاجح. المبني على الباطل ومن دون دليل وبرهان.
{أَنَّهُمْ إِلَيْنَا} : أنّهم للتوكيد، إلينا: تقديم إلينا للحصر، إلينا وحدنا.
{لَا يُرْجَعُونَ} : لا النّافية، يُرجعون: للمحاسبة ونيل العقاب، يرجعون رغم أنوفهم وبغير إرادتهم (بعكس لا يَرْجعون بفتح الياء الّتي تدل على إرادة الرّجعة إلى الله من دون إكراه، أيْ: برغبة.
سورة القصص [28: 40]
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} : الفاء للتوكيد، أخذناه: الأخذ يعني: الانتقام بشدة وبقوة؛ أي: بالغرق أهلكناه وجنوده أي: الأخذ شمل الجميع فرعون وجنوده.
{فَنَبَذْنَاهُمْ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، النّبذ: هو إلقاء الشّيء، استهانة به واستغناء عنه؛ لأنّه ليس له أهمية؛ أي: أغرقناهم.
{فِى الْيَمِّ} : في البحر.
{فَانظُرْ} : الفاء للترتيب والمباشرة، انظر نظرة قلبية فكرية.
{كَيْفَ} : للاستفهام والتّعجب.
{كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} : حين يذكر العاقبة في القرآن يعني: العذاب بأن يقول كان عاقبة، وحين يؤنث العاقبة بأن يقول كانت عاقبة يعني: حسن العاقبة أو الجنة، الظّالمين: المشركين الكافرين، الظّالمين: جملة اسمية تفيد الثّبوت. جمع ظالم والظالم هو كلّ من خرج عن منهج الله.
سورة القصص [28: 41]
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} :
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} : أيْ: في الدّنيا قادة في الكفر أو قدوة أو دعاة أيْ: فرعون وملأَه، أئمة: جمع إمام وهو من يؤتم به. وعادة يكون إماماً في الخير ويدعو إلى الحق، وليس إماماً في الشّر ويدعو إلى الباطل والضلال.
{يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} : أي: الرؤساء يدعون أولياءَهم أو أتباعهم ليسلكوا طريقهم في الكفر والشّرك والمعاصي، أيْ: هم أئمّة ودعاة إلى النّار في الدنيا، وهذه الإمامة سوف تستمر في الآخرة كما قال تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98].
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} : لا يجدون ولياً ولا نصيراً، ينصرهم أو يمنعهم من العذاب أو يحميهم أو يدافع عنهم.
سورة القصص [28: 42]
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} :
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} : أيْ: طردناهم وأبعدناهم عن رحمتنا في الدّنيا فانتهى بهم الأمر إلى الغرق، وأتبعناهم قد تعني كلّ من جاء خلفهم لعنهم في هذه الدّنيا، لعنة باقية دائمة.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ} : للتوكيد، من المقبوحين: المطرودين أيضاً عن رحمة الله في الآخرة ومأواهم جهنم وبئس المصير، إذاً أتبعناهم في هذه الدّنيا لعنة ولعنة أخرى يوم القيامة.
{مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} : جمع مقبوح ومبعد مطرود عن الخير أو رحمة الله، وقد تعني مشوَّهين الخلقة. كقوله تعالى:{وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102].
{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104]. وانظر إلى مجيء الجملة الفعلية (واتبعناهم) ثم مجيء الجملة الاسمية بعدها (من المقبوحين) للدلالة على أن اللعنة انتهت بهم إلى الغرق، وأما القبح الذي سيحصل لهم يوم القيامة سيكون دائماً ثابتاً لا يزول.
سورة القصص [28: 43]
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، قد: للتحقيق.
{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : آتينا: ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة معنى الإيتاء والعطاء، الكتاب: التّوراة.
{مِنْ بَعْدِ} : من ابتدائية، وتعني: القرب.
{مَا} : النّافية.
{أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} : قوم نوح وعاد وثمود ومدين ولوط.
{بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} : جمع بصيرة؛ أي: البينات والآيات الكاملة العلم والمعرفة التي توضح أو تميز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والرشاد من الغي؛ أيْ: كتاب التّوراة فيه بصائر لبني إسرائيل، وليس بصيرة واحدة، يبصرون فيه كلّ ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم؛ أي: وفيه آيات واضحة دالة على وجود الخالق الحق ووحدانيته وربوبيته وأسمائه وصفاته. ارجع إلى سورة الجاثية آية (20) لمزيد من البيان في معنى بصائر.
{وَهُدًى} : مصدر هداية، يهدي للحق وللغاية.
{وَرَحْمَةً} : وقاية من الوقوع في المعاصي أو لدفع الضّر وجلب ما يسر.
{لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} : لعلَّ للتعليل، يتذكرون: أيْ: لعلهم لا ينسون ما أنزل عليهم في التّوراة من المنهج والعمل بها وعدم الغفلة عن الأوامر والنّواهي والأحكام.
سورة القصص [28: 44]
{وَمَا كُنْتَ} : ما النّافية، كنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً (ولو مجرَّد الحضور).
{بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ} : من البقعة المباركة من الشّجرة بجانب الطور الغربي الذي تم فيه الميقات.
{إِذْ} : ظرف زماني للماضي. بمعنى حين.
{قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} : قضى بمعنى أمرنا أو أعلمنا موسى، أيْ: كلمنا موسى بالرّسالة وبالذّهاب إلى فرعون وملئه ودعوتهم للإيمان، ومن معاني قضى: حتم، أمر، صنع، حكم، أعلم، انتهى.
{وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} : جمع شاهد والشّاهد للشيء يعني: عالماً به، أيْ: لم تكن عالماً بما أمرنا موسى وأعلمناه، أيْ: لم تكن حاضراً ولا شاهداً حينما كلم الله سبحانه موسى، والفرق بين حاضر وشاهد فقد تكون حاضراً وغير منتبه لما يحدث حواليك أو مراقباً، وأمّا الشّاهد فهو يعلم ما يحدث حواليه ويراقب، وتكرار ما كنت لتوكيد النّفي وفصل كلّ من الحضور والشّهادة أو كلاهما معاً.
سورة القصص [28: 45]
{وَلَكِنَّا} : الواو استئنافية، لكنا: لكن: للاستدراك، والنّون في لكنا: نون الجمع، نون التّعظيم.
{أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} : الإنشاء هو الإيجاد والصّنع وفيها معنى التّكوين والنّمو والتّطور من بعد موسى، قروناً: عديدة وليس قرناً واحداً، جمع قرن والقرن: القوم الّذي يعيشون في زمن واحد، والقرن يعادل (100) عام، فتطاول عليهم العمر: أي: انقطع الوحي عنهم لأمد طويل أو طالت أعمارهم فنسوا العهود والشّرائع الّتي جاء بها أنبياؤهم.
انتبه هنا حدث حذف المستدرك بعد لكن، وهو فأرسلناك أو جئنا بك رسولاً إلى كافة النّاس بشيراً ونذيراً، وجاء بالسّبب على إرسال الرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم بدلاً من المستدرك، فيكون تقدير الكلام: وما كنت بجانب الغربي وما كنت من الشّاهدين، ولكنا أرسلناك إليهم كافة بعد أن تطاول انقطاع الوحي عنهم ونسيانهم العهود والشّرائع الّتي جاء بها أنبياؤهم من قبل، ثمّ ذكر تعالى استدراكين آخرين بعد ذلك فقال: وما كنت ثاوياً في أهل مدين وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا، وأوحينا إليك، أيْ: أعلمناك بما جرى لموسى في مدين، وبما جرى له بجانب الطّور.
فأنَّى لك العلم بذلك لأنك ما كنت ثاوياً في أهل مدين:
{وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} : مقيماً. والثواء: الإقامة مع الاستقرار، والمثوى: مكان الإقامة.
{تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} : أيْ: تقرأ عليهم آياتنا الّتي أُخبرت بها عن النّبي شعيب وما قال قوم شعيب وحدث لهم.
{وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} : ولكنا أرسلناك وأخبرناك بقصتهم أو بما حدث لهم لتكون برهاناً ودليلاً على صدق نبوتك ورسالتك.
سورة القصص [28: 46]
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَّحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} : ما كنت: ارجع إلى الآية (44) السابقة. بجانب الطور: بجانب الجبل الذي كلمه الله سبحانه موسى، والطور: أقل من الجبل حجماً وارتفاعاً. إذ: ظرف للزمن الماضي بمعنى حين نادينا موسى، ولكن نحن أخبرناك بذلك، وأرسلناك وكلا الأمرين رحمة من ربك.
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} اللام لام التّعليل والتّوكيد، قوماً ما (النّافية)، أتاهم من نذير أتاهم: العرب أو أهل مكة.
{مِنْ قَبْلِكَ} : أيْ: لم يُرسَل إليهم رسول من قبلك ينذرهم، وهذا هو الثّابت، فلم يأت العرب رسولٌ بعد إسماعيل إلا أنت لتنذرهم كما أنذر آباؤهم.
والإنذار: هو الإعلام مع التّحذير.
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} : لعلهم: للتعليل، لعلهم يتذكرون ما أنذروا به ولا ينسونه مرة أخرى، ولعلَّهم يتذكرون ما حدث لموسى وفرعون وملئه والأقوام الّتي أُهلكت من بعدهم ولا ينسون ذلك، فيؤمنون بالله ويتوبون إليه.
سورة القصص [28: 47]
{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُّصِيبَةٌ} : الواو عاطفة، لولا: حرف امتناع لوجود، امتنع إنزال العذاب بهم لعدم إرسال رسول إليهم من قبلك ينذرهم ويحذرهم ويبيِّن لهم ما هو مطلوب منهم.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : الباء تعليلية، ما قدَّمت أيديهم: أي: ما قدَّمت أيديهم يؤهلهم لأن تصيبهم مصيبة إنزال العذاب بهم، ولكنا لم نفعل ذلك لأننا ما أرسلنا إليهم رسولاً، ولو عذَّبهم الله تعالى دون إرسال رسول إليهم لكانت حُجَّة لهم لعدم إرسال الرّسول.
{فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} لولا: أداة حضٍّ وتحريضٍ وحثٍّ، أيْ: هلا أرسلت إلينا رسولاً يبيِّن لنا المطلوب منا ويبيِّن لنا الإيمان والتّوحيد.
{فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} : أيْ: نؤمن بك ونعمل بهديك ونكون من المؤمنين، وقد قيل: لا عقوبة إلا بتجريم ولا تجريم (الشعراوي) وذكرته الكثير من القوانين الدولية؛ إلا بنصٍّ ولا نصَّ إلا بإعلام، ولا يعذر أحد بالجهل بالقانون، ولا يُعفى من العقاب.
سورة القصص [28: 48]
{فَلَمَّا} : الفاء للتوكيد، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} : الرّسول صلى الله عليه وسلم الّذي كانوا ينتظرونه؛ أي: هو صلى الله عليه وسلم الحق لا غيره.
{قَالُوا} : أيْ: أهل مكة والمشركون الّذين لم يأتهم رسول من قبلك كما ادعوا على وجه التّعنت والاستكبار، وليكون حُجَّة لهم على استمرارهم على الشّرك والكفر.
{لَوْلَا} : أداة حضٍّ وحثٍّ.
{لَوْلَا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ مُوسَى} : لولا أوتي محمّد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي موسى من المعجزات والآيات الكثيرة كالعصا واليد والمن والسّلوى وشق البحر أو التّوراة جملة واحدة.
{أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِىَ مُوسَى} : أو لم: استفهام إنكاري، والواو في أولم لزيادة إنكارهم بما أوتي موسى، لم: النّافية، يكفروا بما أوتي موسى في التّوراة في نعت وصفات محمّد صلى الله عليه وسلم، أو يكفر أمثالهم من اليهود بما أوتي موسى في تلك الآيات، ولم يؤمنوا بها.
{مِنْ قَبْلُ} في زمن موسى أو حين أخبر بعض مسلمي أهل الكتاب مشركي مكة أن نعت محمّد صلى الله عليه وسلم في التّوراة، فلم يؤمنوا به وقالوا: سحران تظاهرا.
{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} : قالوا: أي: مشركو مكة ومن قبلهم قوم فرعون، قالوا: القرآن والتّوراة سحران تظاهرا: انتشرا وتعاليا وصدق كلّ منهما الآخر، وإنا بكل من القرآن والتّوراة كافرون أو بمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بسحر، وموسى عليه السلام جاء بسحر.
سورة القصص [28: 49]
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْ: للكافرين بالقرآن والتّوراة: إن لم تؤمنوا وتصدِّقوا بالقرآن والتّوراة.
{فَأْتُوا} : الفاء للتوكيد، أتوا: من الإتيان: أحضروا إليّ أو أنزلوا عليَّ.
{بِكِتَابٍ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ} : بكتاب ثالث: الباء للإلصاق، كتاب نكرة، أيْ: كتاب على شرط أن يكون من عند الله أوّلاً.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{أَهْدَى مِنْهُمَا} : الشّرط الثّاني أهدى من كلاهما كي أتبعه.
{أَتَّبِعْهُ} : أي: كي أتبعه وأدين به إن كان أبلغ وأهدى من القرآن إن كنت من الصادقين.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن: شرطية تستعمل للأمر المشكوك فيه؛ أي: صادقين أنّهما سحران تظاهرا.
سورة القصص [28: 50]
{فَإِنْ} : الفاء للتوكيد، إن: شرطية تفيد الشّك والاحتمال والنّدرة، أيْ: يستجيبوا لك.
{لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} : يستجيبوا لطلبك بالإتيان بكتاب هو أهدى منهما ومن عند الله تعالى. وانتبه إلى كيف فصل بين فإن وبين لم في هذه الآية بينما جمع بين فإن وبين لم في سورة هود آية (14) فقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ، وقيل في تفسير ذلك: أنه فصل بينهما؛ لأن المخاطب في آية القصص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده {فَإِنْ لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} ، والسياق في الإتيان بكتاب أهدى من القرآن والتوراة. وأما في آية هود المخاطب الجمع لقوله {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ، (ولم يقل لك)، والسياق في أمر واحد (10 آيات) وليس أو بين؛ فريما جمع بين فإن ولم فقال: فإلم لهذه الأسباب والله أعلم.
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا} : الفاء للمباشرة، أنما: كافة ومكفوفة تفيد الحصر والتّوكيد.
{يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} : جمع هوى، والهوى: ما تميل إليه النفس باطلاً وبلا دليل، وبعيد عن الحق، والهوى: يغلب عليه الذم، ويختص بالأداء والاعتقادات.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} : من استفهامية بمعنى النّفي، أيْ: لا أضل منه أحد، أو ليس هناك أشد ضلالاً ممن اتبع هواه.
{بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} : بغير حُجَّة أو دليل من كتاب من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : إنّ للتوكيد، لا يهدي: لا النّافية لكلّ الأزمنة، يهدي القوم الظّالمين: أيْ: هداية الإيمان والتّقوى، أيْ: إنّ الله لا يهدي هؤلاء الّذين اختاروا طريق الضّلالة والشّرك واستقاموا عليه وابتعدوا عن طريق الإيمان والتّقوى بعيداً، ولم يتوبوا وينيبوا إلى الله فلا تتوقع أن يهديهم الله سبحانه بعد أن ضلوا ضلالاً بعيداً. ارجع إلى سورة الجمعة آية (5) لمزيد من البيان.
سورة القصص [28: 51]
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} :
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق، وصلنا: بالتّشديد وهناك من قرأها بالتّخفيف أيْ: ربطنا آيات القرآن بعضها ببعض، أو أنزلناه بشكل متواصل بلا انقطاع يتبع بعضه بعضاً على مدة (23) عاماً.
{لَهُمُ} : اللام لام الاختصاص قريش والعرب.
{الْقَوْلَ} : القرآن. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (68) لمزيد من البيان في معنى القول.
{لَعَلَّهُمْ} : للتعليل. الضمير يعود على قريش أو أهل الكتاب.
{يَتَذَكَّرُونَ} : يتعظون ويتذكرون فلا ينسون، ولعل تكرار التّذكرة لهم يفيدهم فيؤمنون ويصدقون بربهم. يتذكرون، ولم يقل تتذكرون، بتاء واحدة؛ لأنهم لا يحتاجون إلى طول تذكر (زمن أطول) لاتباع أو تذكر ما أنزل إليهم من ربهم؛ لأننا أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً بشكل متواصل.
سورة القصص [28: 52]
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} :
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : الّذين اسم موصول، آتيناهم الكتاب:(أي: اليهود والنّصارى) كتاب التّوراة والإنجيل من الّذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ قَبْلِهِ} : أيْ: من تفيد الزّمن القريب، قبله: تعود إلى القرآن أيْ: من قبل نزوله.
{هُمْ بِهِ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، هم: أمثال عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من أهل الكتاب، به: بالقرآن أو بمحمّد صلى الله عليه وسلم أو كلاهما فمن يؤمن بأحدهما يؤمن بالآخر.
{يُؤْمِنُونَ} : يصدقون به لكونه مطابقاً لما ذكر في كتبهم التّوراة والإنجيل.
سورة القصص [28: 53]
{وَإِذَا} : ظرف زماني، يتضمن معنى الشّرط ويفيد الحتمية.
{يُتْلَى} : يقرأ القرآن عليهم أيْ: على المؤمنين من أهل الكتاب، وهناك فرق بين التّلاوة والقراءة التّلاوة من القرآن فقط ولها أجر كلّ حرف بعشر حسنات والتّلاوة تعني: قراءة الآية تلو الأخرى؛ يتلى عليهم بشكل متجدد ومتكرر.
{قَالُوا آمَنَّا بِهِ} : أعلنوا إيمانهم وتصديقهم بالقرآن وبما أنزل فيه، ولم يقولوا به آمنا تقديم به يفيد الحصر؛ لأنه عليهم أن يؤمنوا بالقرآن وبالله وبرسله وكتبه.
{إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} : إنّه: للتوكيد وتعود على القرآن وعلى محمّد صلى الله عليه وسلم، الحق: أي: الوحي الأمر الثّابت الّذي لا يتغير المنزل من الله تعالى.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} : إنا: للتوكيد والمدح من قبل نزول القرآن أو من قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعني كلا الأمرين.
{مُسْلِمِينَ} : لله وحده ومخلصين موحدين ومسلمين: جملة اسمية تدل على الثّبوت.
سورة القصص [28: 54]
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد وتشير على مؤمني أهل الكتاب الّذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم ويؤمنون بما أنزل إليهم من التّوراة والإنجيل.
{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} : الإيتاء هو العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
الأجر: مقابل العمل الأجر: الثّواب، مرتين: أيْ: أجرهم مضاعف؛ لأنّهم آمنوا بما أنزل إليهم وآمنوا بالقرآن، أو لأنّهم آمنوا بموسى وبمحمّد عليهم السلام.
{بِمَا صَبَرُوا} : الباء للإلصاق أو السّببية، صبروا: على إيذاء قومهم وعلى طاعة ربهم وإيمانهم.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} : الدّرء: الدّفع بسرعة أي: لا ينتظرون زمناً طويلاً بعد فعل السّيئة حتّى يفعلوا الحسنة، كقوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، ويكون ذلك بالتّوبة والإنابة إلى الله بسرعة، أما الفرق بين الدّفع والدّرء فهو: أن الدّفع يكون بقوة وشدة، والدّرء يكون بسرعة.
ويدرؤون بالحسنة السّيئة قد تعني: يقابلون المسيء إليهم بالقول الحميد والعمل الصّالح ولا يقابلون السّيئة بالسّيئة.
ارجع إلى سورة البقرة آية (201) لمزيد من البيان في معنى الحسنة.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : من بعضية أيْ: من بعض ما رزقناهم، ينفقون: بالصّدقات والزّكاة والإنفاق على أعمال الخير، ومما رزقناهم ينفقون أوسع وأشمل من القول ويؤتون الزّكاة، يؤتون الزّكاة تنطوي تحت آية {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: وبصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والاستمرار.
سورة القصص [28: 55]
لازالت الآيات تتحدث عن مؤمني أهل الكتاب وغيرهم من المؤمنين (العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب).
{وَإِذَا} : ظرف زماني للماضي والحاضر والاستقبال وشرطية تفيد حتمية وقوع ما بعدها؛ أي: تستعمل للشيء المحقق حدوثه.
{سَمِعُوا اللَّغْوَ} : سمعوا الكلام السّقط الّذي لا فائدة منه، واللغو: السّب والشّتم والكلام السّيِّئ القبيح.
ارجع إلى سورة المؤمنون آية (3) لبيان معنى اللغو.
{أَعْرَضُوا عَنْهُ} : لم يصغوا إليه أو حاولوا تجنبه والابتعاد عنه.
{وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} : أيْ: أعرضوا عنه ولم يشاركوا فيه، ولم يكتفوا بذلك وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، أي: لا تزر وازرة وزر أخرى، أو لكم دينكم ولنا دين، أيْ: يتبرؤون مما يعمله الآخرون من الشّرك أو اللغو أو الباطل أو الكلام المحرم.
{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ} : سلام توديع ومفارقة وليس سلام تحية، سلام عليكم: لأصحاب اللغو كقول إبراهيم لآزر: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى} [مريم: 47]، لا نبتغي الجاهلين: لا النّافية، أيْ: لا نريد صحبتهم ولا الجلوس إليهم أو الاستماع إلى لغوهم، ولا نريد أن نكون من أمثالهم فنكون من الجاهلين، أي: أصحاب السّفه والطّيش. ارجع إلى سورة الفرقان آية (63) لبيان معنى الجاهلين، وارجع إلى سورة الزمر آية (64).
سورة القصص [28: 56]
أسباب النّزول: كما في الصحيحين، وأجمع المفسرون أنّ هذه الآية نزلت في أبي طالب عم الرّسول صلى الله عليه وسلم حين طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يشهد أن لا إله إلا الله فلم يفعل أبو طالب، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
{إِنَّكَ} : للتوكيد والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَا تَهْدِى} : لا النّافية، تهدي: هداية الدّخول في الإسلام والشّهادة، هداية الإيمان والتّوفيق، أي: الهداية الخاصة، أمّا هداية الدّلالة والإرشاد فهذه يمكن القيام بها، مثلاً: تدل إنسان على الإسلام وتبيِّن له محاسنه ومكارمه وشروطه، ولكن لا تستطيع أن تدخله في الإسلام هذا بيد الله تعالى. إذن هداية التّوفيق بيد الله تعالى، وهداية الدّلالة والإرشاد فهذه بيد الرّسول صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين؛ لقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
{مَنْ أَحْبَبْتَ} : من: ابتدائية، أحببت إشارة إلى أن النّبي صلى الله عليه وسلم يحب عمَّه أبا طالب، أيْ: لا تهدي من أحببت هدايته رغم أنك تحبه.
{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك للتوكيد.
{اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ} : يهدي هداية التّوفيق والمعونة الهداية خاصة من استغراقية كلّ من يشاء.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} : وهو للتوكيد أعلم على وزن أفعل، بالمهتدين من خلقه في الماضي والحاضر والمستقبل.
لنقارن هذه الآية (56) من سورة القصص والآية (52) من سورة الشّورى وهي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : الآية في سورة القصص تتحدث عن الهداية الخاصة هداية الدّخول في الإسلام والآية في سورة الشّورى تتحدث عن الهداية العامة، والدّعوة إلى التّعريف بالإسلام والتّبليغ. ارجع إلى سورة الشورى آية (52) لمزيد من البيان.
سورة القصص [28: 57]
{وَقَالُوا} : أيْ: ناس من قريش كما قال ابن عباس.
{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك؛ أي: تستعمل في الأمر المشكوك في حدوثه. نتبع الهدى معك: إن دخلنا في دينك وآمنا بك واتبعناك وخالفنا العرب ونحن قلة.
{نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} : ولم يقولوا نُخطف من أرضنا، وإنما نتخطف مبالغة في الخطف، والتخطف: الانتزاع بسرعة؛ أيْ: نخاف أن ننتزع بسرعة من أرضنا وندخل في حرب مع أعدائك، وقد نُقتل أو نؤسر، وهذا مجرَّد ظن وحُجَّة لعدم إسلامهم وعذر باطل؛ لأننا مكنا لهم حرماً آمناً، ويدل على شدة خوفهم من الهلاك أو الأسر. من أرضنا: من مكة.
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} : أو لم استفهام للإنكار عليهم والتّقرير، والواو للتوكيد، نمكن: من التّمكين ويعني الاستخلاف والحكم والقدرة على ممارسة شعائر الدّين والأمن والغنى في مكة، كقوله تعالى:{حَرَمًا آمِنًا} : الحرم المكي، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ} : يجبى: من جبى الماء أيْ: جمعه، تحمل إليه وتجمع فيه كلّ أنواع الثّمار من سائر البلدان وكلّ أصناف الطّعام والشّراب والرّزق والمتاع، وتقديم إليه يفيد الحصر.
{رِّزْقًا مِنْ لَدُنَّا} : رزقاً خاصاً من عند الله، من لدنا ولم يقل رزقاً منا؛ لأنّ هذا الرزق رزق عام.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن للاستدراك والتّوكيد، أكثرهم: قريش وغيرهم، لا يعلمون: أنّ الرّزق والأمن والقتل والموت والحياة كلّه بيد الله ومن عند الله، ولو علموا ذلك لما خافوا الفقر والتّخطف، ولما قالوا ذلك ولكن علتهم الجهل بعظمة الله والشّرك. وهناك القلة الذين يعلمون ذلك.
سورة القصص [28: 58]
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : الواو استئنافية، وكم هنا هي كم الخبرية وتفيد الكثرة، أيْ: كثير من القرى أهلكناها والقرية تعني: البنيان وأهل القرية معاً.
{مِنْ قَرْيَةٍ} : من ابتدائية.
{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} : أي: كفرت بأنعم الله، والبطر: قيل: هو سوء استعمال النّعمة وعلى رأسها عدم شكر المنعم أو استعمال النّعمة في معصية الله، أو أن يرى النّعمة أقل من مستواه أو تتجبر أو تتكبر على النّعمة فلا ترضى بها، وتطلب أعلى منها، والبطر: يشمل التّبذير والتّمرد والطّغيان، والأكل من رزق الله وعبادة غيره.
{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} : الفاء للتوكيد، تلك: اسم إشارة واللام للبعد، مساكنهم: منازلهم.
{لَمْ تُسْكَن مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} : لأنّهم لم يخلفهم أحد بعد هلاكهم من ولد ولم يتركوا أحداً يسكن فيها، إلا أداة حصر قليلاً؛ أي: المسافرون ومارُّ الطريق كما قال ابن عباس.
{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} : نحن ضمير منفصل يفيد التّوكيد، الوارثين: أيْ: لم يتركوا من يرثهم وكنا نحن الوارثين بقيت مهجورة وخراباً.
سورة القصص [28: 59]
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ} : ما النّافية، كان ربك: أيْ: من السنن الكونية الثّابتة ما كان مهلك أهل قرية من القرى حتّى يبعث فيها رسولاً يتلو عليم آيات الله، وهذا هو الشّرط الأوّل، وأمّا الشّرط الثّاني: أن يكون أهلها ظالمين.
{مُهْلِكَ الْقُرَى} : أيْ: مهلك أهلها. ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لبيان معنى الهلاك.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا} : البعث يكون لإحياء منهج موجود سابقاً وذلك ببعث رسول أو نبي، أمّها: في العاصمة أو أمّ القرى، أو أعظم القرى. في أمها: ولم يقل: إلى أمها؛ فهذا يدل على البعث المتواصل، وأكثر من رسول أحياناً.
ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لبيان معنى البعث.
{رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} : ولهدايتهم وتبيان ما أنزل الله تعالى إليهم ودعوتهم للإيمان؛ لإلزام الحُجَّة وإقامتها عليهم وقطع المعذرة والإنذار بالهلاك.
{آيَاتِنَا} : الآيات التّشريعية أو آيات الكتاب والآيات الكونية والمعجزات أو البينات وإضافة الآيات إليه: تشريف لها وتعظيم لقدرها.
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى} : ما: النافية لكل الأزمنة. كنا: في الماضي والحاضر والمستقبل. مهلكي: حذف النون للإيغال في النفي بدلاً من مهلكون؛ أيْ: حال كونهم ظالمين، وتكرار ما يفيد توكيد النّفي. القرى: جمع قرية أيْ: أهلها. وقوله مهلك القرى، ثم قوله تعالى مهلكي القرى: تدل على التوكيد الشديد لن يهلك الله سبحانه قرية أو قوماً بظلم أبداً.
{إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} إلا: أداة حصر؛ أي: ما كنا مهلكي القرى في كل حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين، لم يقل: يظلمون: ظالمون أيْ: أصبح الظّلم صفة ثابتة عندهم، يهلكهم حين يتمادون في ظلمهم ويستمرون عليه، ولا يتوبون، والظّلم يعني: الشّرك وفعل المعاصي والطّغيان والكبائر، والخروج عن منهج الله تعالى. ولا ننسى قوله تعالى في سورة الأنعام آية (131) {ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}؛ أي: الإهلاك لا يقع مع الغفلة، بل لا بد أن يسبقه إرسال الرسل.
وقوله تعالى في سورة هود آية (117): {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ؛ أي: الإهلاك لا يقع أبداً في حال كون أهل القرية مصلحين.
سورة القصص [28: 60]
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ} : ما شرطية، أوتيتم من الإيتاء وهو العطاء من دون تملك. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان والفرق بين الإيتاء والعطاء، من: استغراقية تشمل كلّ شيء، وشيء نكرة يشمل المال والأولاد والزّينة والزّخارف والأنعام والخيل المسومة والمركبات والحدائق والدّور والقصور.
{فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : متاع: تعريفه كلّ ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه، ويتمتع به من أثاث البيت والسّلعة والأداة وهو متاع زائل.
{وَزِينَتُهَا} : الزّينة تشمل المال والذّهب والحلي والفضة والزّينة الشّيء الزّائد عن الضّروريات، أيْ: إنّ الدّنيا وما فيها متاع وزينة كلّ ذلك زائل وفانٍ أو مجرَّد متاع وزينة مؤقتة وزائلة كقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20].
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} : ما: اسم موصول تستعمل للشيء غير محدد من الرضوان ورؤية وجهه الكريم، وما عنده من جنات النعيم وما فيها من الطّعام والشّراب والفاكهة والزّينة والقصور والحدائق (من نعيم الجنة)، خير وأبقى: أفضل ودائم لا ينقطع ولا ينفد ولا يزول ولا يقل.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري وتوبيخ على عدم التّعقل وتعجب من ترك التّفكير، ألا: أداة تحمل معنى التّنبيه والحضِّ وبمعنى الأمر أي: اعقلوا، والفاء في أفلا: للتوكيد، تعقلون: لأنّ الإنسان إذا فكر وعقل وتذكر وتدبَّر فسوف يصل إلى الحقيقة، ومن عقل الشّيء عرفه بدليله ومنهجه بأسبابه ونتائجه، أفلا تعقلون تفهمون وتدركون أنّ ما عند الله خير فاسعوا إليه قبل فوات الأوان.
لنقارن هذه الآية (60) من سورة القصص مع الآية (36) من سورة الشّورى، وهي قوله تعالى:{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} :
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ} : استعمل الواو استئنافية.
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ} : الفاء في سورة الشّورى تفيد التّعقيب.
في القصص: ذكر ثلاثة أمور بطرت معيشتها وزينتها، ثمّ ذكر زينة قارون {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ} وانتهت الآية {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} لأنّ الآية في سياق قوم فرعون وقارون وأمثالهم.
في الشّورى: لم يذكر الزّينة على الإطلاق، لأنّ الآية في سياق الّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فهؤلاء ليس غايتهم زينة الحياة الدّنيا.
سورة القصص [28: 61]
{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام تفيد إنكار التّسوية بين الّذي وعدناه وعداً حسناً والذي هو يوم القيامة من المحضرين في العذاب.
{وَعَدْنَاهُ} : من الوعد والوعد يعني: بالخير إذا أطلق ولم يقيد، وإذا قيد قد يأتي في سياق الخير أو العذاب؛ أي: المؤمن الّذي يعمل الصّالحات.
{وَعْدًا حَسَنًا} : الوعد الحسن الوعد بالجنة.
{فَهُوَ لَاقِيهِ} : الفاء للتوكيد، وهو للتوكيد أيضاً، لاقيه: مدركه حاصل عليه محقِّقه.
{كَمَنْ} : الكاف للتشبيه، من اسم موصول بمعنى الّذي وتفيد العاقل.
{مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : مُتِّع بشيء فانٍ وزائل أو يزول عن قريب أو متاع الغرور.
{ثُمَّ} : للبعد بين الوعدين الزّائل الفاني والباقي الدّائم، وقد تعني للترتيب والتراخي في الزمن.
{هُوَ} : يفيد التّوكيد.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} : في العذاب وفي جهنم جمع مُحضر مرغم على الحضور من قِبل الملائكة تحضره للحساب والجزاء. وكلمة المحضرين لا تأتي إلا في سياق العذاب في كل القرآن، وكلمة من المحضرين تعني أيضاً لكي لا يظن أن بإمكانه الهرب.
سورة القصص [28: 62]
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :
{وَيَوْمَ} : نكرة للتهويل والتّعظيم (يوم القيامة).
{يُنَادِيهِمْ} : أي: الّذين أشركوا بالله.
{فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ} : إضافة فيقول للتوكيد والاهتمام بما سيأتي خبره وكان بالإمكان حذفها والقول ويوم يناديهم: أين شركائي الّذين كنتم تزعمون، أين: استفهام إنكاري للتوبيخ والتّهكم، شركائي: من الأصنام أو الأوثان أو الطّواغيت والملائكة وغيرهم.
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذم.
{كُنتُمْ} في الدّنيا.
{تَزْعُمُونَ} : أنّهم شركائي لي، تزعمون: من الزّعم وهو القول الّذي ليس له دليل وأقرب إلى الباطل والكذب أو ادِّعاء العلم، أو تزعمون أنّهم سيشفعون لكم أو ينصرونكم أو يقربونكم إلى الله زلفى.
سورة القصص [28: 63]
{قَالَ الَّذِينَ} : أيْ: أئمّة الضّلال، الرّؤساء أو المتبوعين الّذين أضلوا غيرهم وأغووهم.
{حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} : أيْ: وجب وثبت لهم العذاب في المستقبل ولم يقع بعد.
{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ} : الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للقرب، الآن يعترفون بربهم ويقولون: ربنا: نداء استعطاف.
{الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} : الّذين اسم موصول، أغوينا: في الدّنيا، أيْ: أضللناهم في العقيدة والدِّين، والفساد والعدول عن الحق. ارجع إلى سورة الحجر الآية (42) للبيان، أغوينا.
{أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} : لنكون سواء في الخسران أغويناهم بالوسوسة والتزيين والضلال وليس بالقسر والقهر ولا فرق بين غيِّنا وغيِّهم هم غووا باختيارهم ونحن غوينا باختيارنا فنحن سواء.
{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} : تبرأنا إليك من عبادتهم وطاعتهم إيانا ومن أعمالهم وعقائدهم.
{مَا كَانُوا} : ما النّافية، كانوا في الماضي.
{إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} : بل كانوا يعبدون أهواءَهم ويقلِّدون آباءَهم.
سورة القصص [28: 64]
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} : لينصروكم أو يدفعوا عنكم العذاب أو ينقذوكم من الذّل والخسران، والقصد من هذا السؤال هو التّوبيخ والتّقريع.
{فَدَعَوْهُمْ} : بالفعل نادوا عليهم فلم يستجيبوا.
{وَرَأَوُا الْعَذَابَ} : بأعينهم فاشتدت حسرتهم وبرزت الجحيم للغاوين، وودُّوا لو كانوا في الدّنيا مهتدين.
{لَوْ} : حرف شرط وتمنٍّ.
{أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} : أنّهم: أن للتوكيد، كانوا: في الدّنيا، يهتدون: أيْ: تمنوا لو اهتدوا ولو بعض الهداية، أو لو كانوا مسلمين كقوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].
سورة القصص [28: 65]
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} :
ارجع إلى الآية (62) للبيان.
{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} : استفهام وتقرير وتقريع ماذا كان جوابكم للرسل الّذين أرسلوا إليكم، عن التّوحيد ولا إله إلا الله وعبادة الله تعالى هل آمنتم به واتبعتموهم أم كذبتموهم وحاربتموهم، الغرض من تكرار هذه النّداءات للتوبيخ والتّقريع.
توبيخهم وتوبيخ الّذين عبدوهم واتبعوهم من دون الله.
{الْمُرْسَلِينَ} : الرسل والأنبياء، ومن يكذب رسولاً أو نبياً فكأنما كذب كل الرسل؛ لأن رسالتهم واحدة هي:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 50].
سورة القصص [28: 66]
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} :
{فَعَمِيَتْ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، عميت: من عمى البصيرة لم يعد يستطيعوا التّفكير أو يتذكروا، أيْ: حُجَّة أو معذرة أو قول والتزموا السّكوت.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ} : أصلها عموا عن الأنباء؛ أي: لم يهتدوا إليها، لا بل أسوء من ذلك جعل الأنباء لا تهتدي إليهم؛ أي: كأن الأنباء لها أعين لا تبصر بها، فلذلك لا تهتدي إليهم للإشارة إلى شدة الموقف آنذاك.
{عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ} : الحجج.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم العرض والحساب، يومئذ: ارجع إلى سورة الحاقة آية (15) للبيان.
{فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} : لا يملكون إلا الصمت ولا يسأل بعضهم بعضاً، ولا يدري ما يقول بعضهم لبعض؛ لأنّهم علموا أنّهم صالو الجحيم.
سورة القصص [28: 67]
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} :
{فَأَمَّا مَنْ} : الفاء للتوكيد، أما: شرطية، من: ابتدائية.
{تَابَ} : من هؤلاء المشركين أو غيرهم في الدنيا ورجع عن ضلاله وشركه وكفره. ارجع إلى الآية (18) من سورة النّساء لمعرفة التّوبة أنواعها أركانها.
{وَآمَنَ} : آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
{وَعَمِلَ صَالِحًا} : الفرائض والنّوافل وغيرها من الباقيات الصّالحات.
{فَعَسَى} : الفاء للتوكيد، عسى: أداة رجاء تسبق الرّجاء الّذي غالباً ما يحصل ويتم تحقيقه.
{أَنْ يَكُونَ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل.
{مِنَ} : ابتدائية.
{الْمُفْلِحِينَ} : الفائزين: بالجنة والناجين من النّار.
ارجع إلى سورة البقرة آية (5) للبيان.
سورة القصص [28: 68]
المناسبة: بعد ذكر المشركين وشركائهم وسؤالهم ليشفعوا لهم ولينصروهم يوم القيامة فلا يستجيبون لهم ويتبرؤون منهم وتعمى بصائرهم يوم القيامة فهم لا يتساءلون، وما يشاؤون ويختارون كله باطل لا وجود له، وما يشاء الله سبحانه ويختار هو الحق.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} : ما للعاقل وغير العاقل وما تستعمل للشيء غير المحدد، أيْ: تشمل كلّ شيء يخلقُ، ويختار ما يشاء وليس لأحدٍ الأمر والاختيار فهو يخلق ما يشاء خلقه ومشيئته مقرونة بالحكمة فهو لا يخلق عبثاً.
الاختيار يكون من بين أشياء غير متشابهة، ولذلك لم يقل: يصطفي (الاصطفاء من أشياء متشابهة) فهو يختار الرّسل ويختار الأنبياء والملائكة والرّسل ويختار من الشّهور والأيّام والليالي والجبال والأماكن ما يشاء.
{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} : ما: نافية، كما قال ابن عباس وأكثر المفسرين؛ أي: ما كان لهؤلاء المشركين ولا لأصنامهم حق الاختيار؛ لأنهم لا يخلقون شيئاً، ولا أصنامهم تخلق شيئاً، ولا تختار أيضاً، والله وحده له حق الاختيار المطلق، وليس لأحد غيره؛ لأنه هو الخالق وحده، ولكونه الحكيم لا يفعل إلا الصالح والأصلح، وهو الذي يحدد ما هو صالح أو أصلح، وليس نحن الذين نحدد؛ لأنه يعلم ونحن لا نعلم. الخيرة: تعني: الاختيار في شيء؛ الخيرة: اسم مصدر بمعنى: الاختيار.
{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : التسبيح: تنزيه الله سبحانه من أي نقص، أو مشابهة المخلوقين وتعالى عن إشراكهم. ارجع إلى الآية (1) من سورة الحديد والآية (1) من سورة النّحل لمزيد من البيان في معنى التسبيح.
سورة القصص [28: 69]
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} :
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا} : أيْ: كلّ شيء. ما: تشمل؟؟؟؟؟؟
{تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} : من الكنِّ وهو الإخفاء والكتمان، ما تكنُّ صدروهم من الشّرك والحقد والعداوة والكيد والنفاق.
{وَمَا} : اسم موصول، وتكرار ما للتوكيد، وفصل كلا الأمرين الإكنان والإعلان.
{يُعْلِنُونَ} : يقولون بألسنتهم ويظهرون من الأفعال ويعلم ما تكنُّ صدورهم وما يعلنون بشكل دائم ومستمر. وما يتكلمون في آنٍ واحدٍ، وبشكل جماعي.
سورة القصص [28: 70]
{وَهُوَ اللَّهُ} : هو للتوكيد، الله واجب الوجود المعبود الحق. الواحد الأحد
…
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة للبيان.
{لَهُ} : له حصراً وقصراً.
{الْحَمْدُ فِى الْأُولَى} : أي: له الحمد في الدّنيا؛ لأنّ كلّ ما في الدّنيا هو خلقه ومن فضله وإنعامه من أرض وسماء وشمس وقمر وطعام وشراب وحياة وحركة وسكون، فكلّ ذلك يوجب الحمد المطلق الدائم حمداً دائماً.
ارجع إلى سورة الحمد آية (2) لمزيد من البيان
…
{وَالْآخِرَةِ} : وله الحمد في الآخرة على رحمته ولمغفرته وفضله وإحسانه للنجاة من النّار والفوز بالجنة، نحمده على الآخرة، ونحن لا زلنا في الدّنيا عسى أن يرحمنا ويكفِّر عنا سيئاتنا ويدخلنا مع الأبرار.
{وَلَهُ الْحُكْمُ} : تكرار وله يفيد التّوكيد والحصر والقصر، الحكم: فهو الحاكم المطلق فلا راد لحكمه ولا مبدل لحكمه في الدّنيا ولا في الآخرة، وهو الحكم: العدل.
{وَإِلَيْهِ} : تقديم إليه يفيد أيضاً الحصر.
{تُرْجَعُونَ} : للحساب والجزاء، ترجعون إليه سبحانه بغير إرادتكم أو اختياركم قسراً.
سورة القصص [28: 71]
المناسبة: ذكر هذه الآية والّتي تليها دلائل أخرى على عظمته وقدرته الموجبة للعبادة والوحدانية.
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{أَرَءَيْتُمْ} : أي: أخبروني بشيء من العلم والتّوكيد، الرّؤية هنا رؤية قلبية فكرية ورؤية حقيقية بصرية.
{إِنْ جَعَلَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو الأمر المشكوك في حدوثه؛ أيْ: على سبيل الافتراض، جعل: صيَّر.
{اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : سرمداً دائماً لا ينقطع، والسّرمد دوام الزّمان من ليل ونهار أي: الدّائم المستمر الذي لا ينقطع، أي: جعل الليل دائماً بلا انقطاع أو من دون نهار على طوال حياتكم، واستمر ذلك إلى يوم القيامة.
وهذا يعني أنّه لا تستقيم أي حياة على الأرض ولن يستطيع أي مخلوق أن يقاوم ذلك.
{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ} : من استفهامية تفيد التّوبيخ والتّقرير فلما لا تعبدونه وتقرون بعظمته ووحدانيته، غير الله: سوى الله يأتيكم بضياء (نور أبيض + حرارة) صادر عن الشّمس، أغلب أشعة الشّمس مثل الأشعة السينية وفوق البنفسجية وتحت الحمراء، وغيرها من أشعة الشّمس لا تصل إلينا بفضل نطق الحماية حول الأرض، وما يصل إلينا هو حزمة من الأشعة تسمَّى حزمة الضوء المرئي الّتي هي عبارة عن ألوان الطيف السبعة (الأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر والنيلي والبرتقالي والأصفر) هذه الحزمة متى وصلت إلى الغلاف الغازي للأرض تمتزج بها فيطلع لنا النور الأبيض المسمَّى ضياءً.
وما يصدر عن القمر والكواكب المشابهة هو نور فالضوء أو الضياء يختلف عن النّور، الضياء أو الضوء هو كلّ إضاءة صادرة عن مصدر مشتعل كالشّمس أو النجوم أو نار ملتهبة، وإذا سقط هذا الضوء على جسم معتم كالقمر انعكس وأصبح نوراً، ولذلك يقول سبحانه:{هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، فالقمر لا يضيء، وإنما يعكس أشعة الشّمس.
جواب الاستفهام محذوف، أيْ: لا أحد.
{أَفَلَا تَسْمَعُونَ} : أفلا: الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ على عدم السّماع والتّعجب من ترك السّماع والفاء للتوكيد، ألا: أداة تنبيه وحضٍّ للاستماع والاستفادة بما نسمع من آيات ومواعظ ووعيد، سماع فهم وتدبُّر وقبول وعمل بما نسمع وقوله: أفلا تسمعون، تعني: اسمعوا، واختار السّمع لليل؛ لأن آلة السّمع وهي الأذن لا تغلق وتبقى تسمع في اللّيل، أمّا العين في اللّيل بسبب الظّلمة فتعطل ولا عمل لها، ولذلك لم يقل: أفلا تبصرون.
سورة القصص [28: 72]
قدَّم في الآية السّابقة الليل على النّهار؛ لأنّ الليل هو الأصل أو الظّلام.
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : النّهار: النّهار في القرآن يعني: من طلوع الشّمس حتّى غروبها، ويعادل (12) ساعة.
النّهار: اسم للضياء والحاصل من سقوط أشعة الشّمس على الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض الّتي تجعلها تضيء.
ارجع إلى الآية (67) من سورة يونس لبيان معنى النّهار.
أيْ: جعل الله عليكم النّهار سرمداً: أيْ: مستمراً دائماً بلا انقطاع؛ أي: بلا ليل.
{تَسْكُنُونَ فِيهِ} : من السّكن وهو الانقطاع عن الحركة أو الحد منها والرّاحة والنّون في تسكنون للتوكيد، فيه ظرفية زمانية، أيْ: خلال الليل. ولولا جعل الليل والنّهار (أي: خلق الليل والنّهار) الضروريان لما استقامت الحياة على هذا الكوكب فأغلب الكائنات الحية لا تتحمل العيش في الظلام باستمرار ولا في النّور باستمرار، فهذه الآية تبادل الليل والنّهار من أعظم الآيات الكونية الدّالة على عظمة الخالق وقدرته ووحدانيته الّتي تشير أنّه الإله الحق الّذي يجب أن يطاع ويُعبد، وإذا نظرنا في الآية: نجد أنه سبحانه قيد الليل فقال: تسكنون فيه، بينما أطلق النهار (الضياء) ولم يقيده بصفة؛ لكثرة فوائده، وما يجري فيه من حركة وسعي، ولنعلم السنين والحساب.
{أَفَلَا} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{تُبْصِرُونَ} : من البصر والبصيرة، البصر يتم بالعين وهو الرّؤية، والبصيرة الرّؤية القلبية الفكرية وهي ناتجة عن تكامل العلم والمعرفة.
واختار العين وهي آلة البصر في النّهار فقال: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} فيها حثٌّ وحضٌّ على البصر في آيات الله وتأملها والنّظر فيها بتدبُّر وفهم وعمل بما نبصر بتكرار وتجدُّد واستمرار، وليس مرة واحدة، تبصرون بصيغة المضارع لتجديد البصر والتّفكر بآيات الله.
سورة القصص [28: 73]
{وَمِنْ رَّحْمَتِهِ} : ومن: الواو: استئنافية؛ من: ابتدائية بعضية؛ أي: ومن آثار رحمته تعالى، والرّحمة: هي جلب كلّ ما ينفع ودفع كلّ ما يضر.
{جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} : خلفه، يخلف كلّ منهما الآخر أيْ: يتعاقبان، لا الليل سابق النّهار ولا النّهار سابق الليل. وفي هذا إشارة إلى كروية الأرض ودورتها حول محورها، فالجزء المقابل للشّمس والحاوي للغلاف الغازي حين تسقط عليه حزمة الضوء المرئي من أشعة الشّمس (ألون الطيف السبعة) تضيء، ويبدأ النّهار، وأما الجزء غير المقابل للشّمس فيكون ليلاً، فتعاقب الليل والنهار من أكبر الآيات الكونية الدّالة على عظمة الله تعالى ومقدرته الداعية للإيمان به وتوحيده.
{لَكُمُ} : اللام لام الاختصاص، خاص بكم وقدَّم الليل على النّهار؛ لأنّه هو الأصل (الظّلام هو السّائد والأصل في الكون) فالليل لتسكنوا فيه والنّهار لتبتغوا من فضله.
والليل {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} : اللام لام التّوكيد، تسكنوا فيه: ارجع إلى الآية (72) السّابقة.
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : واللام للتوكيد، تبتغوا من فضله: أيْ: تطلبوا وتبحثوا عن رزقكم، الفضل هو الزّيادة على الاستحقاق، أيْ: لترتاحوا في الليل من التّعب، ثم تعودوا في النّهار لمزاولة أعمالكم بنشاط.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : الواو: واو الجمع؛ أي: لعلكم تشكرون الله على هذه النعمة (نعمة الليل والنهار) وغيرها من النعم. لعلكم: للتعليل، تشكرون: المنعم على نعمه الّتي لا تعدُّ ولا تحصى، ومنها اختلاف الليل والنّهار، كقوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].
وإذا قارنا هذه الآية {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} والآية {وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].
سكناً: جملة اسمية تدل على الثّبوت ولتسكنوا فيه: جملة فعلية تدل على تكرار وتجدُّد هذه النّعمة نعمة الجعل. أيْ: جعل نعمة الليل ثابتة وتتجدَّد وتتكرَّر في نفس الوقت. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان في معنى الشكر.
سورة القصص [28: 74]
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :
ارجع إلى الآية (62) للبيان.
والسّؤال هنا: لماذا كرَّر سبحانه النّداء في الآية (62) والآية (65) والآية (74).
أولاً: هذا ليس تكراراً كما قد يظن البعض.
فالآية (62) هو نداء أو سؤال للذين أشركوا: بإحضار شركائهم، فكان الرّد على النّداء: فدعوهم فلم يستجيبوا لهم.
والآية (65) هو نداء أو سؤال للذين أشركوا: ماذا أجبتم المرسلين فكان الرّد: فعميت عليهم الأنباء فهم لا يتساءلون.
والآية (74) هو نداء وسؤال الّذين أشركوا: هاتوا برهانكم على صدقكم، فكان الرّد: وَضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون، أيْ: كان كلّ ذلك كذباً وافتراء على الله تعالى، كما سيرد في الآية.
سورة القصص [28: 75]
{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} : نزعنا أخرجنا بشدة كقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشّعراء: 33].
{مِنْ كُلِّ} : من: استغراقية، كلّ: للتوكيد.
{أُمَّةٍ شَهِيدًا} : أيْ: رسولها أو نبيها الّذي يشهد عليها بالتّبليغ، أو ليكون شاهداً عليها كقوله تعالى:{وَجِااءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69].
{فَقُلْنَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، قلنا بصيغة الجمع للتعظيم.
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} على أنّ لله شركاء أو أنداداً، مع العلم أن رسلي أنذروكم أن لا تشركوا بي شيئاً.
والبرهان: هو الحُجَّة القاطعة على صحَّة أن لله سبحانه شريكاً أو ولداً.
{فَعَلِمُوا} : والفاء للترتيب والمباشرة أيْ: علموا علم اليقين مباشرة آنذاك أن الحق: الحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر، أي: الألوهية لله وحده، أو هو الإله الواحد الأحد ولا إله إلا هو لا شريك له ولا ولد.
لله: اللام لام الاختصاص والملكية والاستحقاق.
{وَضَلَّ عَنْهُم} : ضل: غاب عنهم ولم يجدوا برهاناً ولا شريكاً ولا وليّاً ولا نصيراً ينصرهم ولا يشفع لهم ولا يعترف بعبادتهم.
{مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : ما اسم موصول تستعمل للشيء غير المحدَّد وتشمل غير العاقل والعاقل؛ تشمل أنواع الافتراء، يفترون: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، ما كانوا يكذبون عمداً باطلاً في الدّنيا، بأن لله شركاءَ وولداً أو وليّاً أو صاحبةً. يفترون بصيغة المضارع الدالة على التجدد والتكرار.
سورة القصص [28: 76]
{إِنَّ} : للتوكيد.
{قَارُونَ} : قيل: هو ابن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
{كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} : قيل: هو ابن عم موسى كما ذكر ابن عباس وقتادة وجرير وكثير من أهل العلم، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة، ولذلك قال: إنما أوتيته على علم عندي؛ أي: استحقاقي لذلك، وقيل: علم الكيمياء؛ أيْ: من عشيرة موسى، من قوم موسى، أيْ: من بني إسرائيل، ولم يقل: من بني إسرائيل، واكتفى بالقول من قوم موسى، وهذا القول يعني أقرب بني إسرائيل إلى موسى، وكان من الغريب أن يكون جاحداً لنعم الله عليه وأن يكون مصيره أغرب من مصير فرعون، وقيل: إنّ فرعون أسند إليه الإمارة على بني إسرائيل.
{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} : على بني إسرائيل، البغي: هو أخذ حق الغير بقهر وقوة وتعسف أو بغى عليهم بسبب ماله وتجبر وتكبر، أيْ: ظلم وتجاوز الحدِّ في الظّلم، وأصبح عدواً لموسى وأتباعه.
{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} : جمع كنز وهو المال المدَّخر. من الذهب والفضة والمال
…
{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِى الْقُوَّةِ} : ما إن: ما: اسم موصول بمعنى الّذي، إنَّ: للتوكيد.
مفاتحه: مفردها مَفْتح: أيْ: خزانة، ومفاتحه: الخزائن المليئة بالكنوز وليس مفاتحه تعني مفتاح؛ لأنّ مفتاح جمعها مفاتيح.
ومنهم من قال: مفتح لها معنيان: مفاتح خزائن، ومفتح ما يُفتح به الباب باب الخزائن.
{لَتَنُوءُ} : اللام للتوكيد، من ناء الشّيء ينوء: ثقل عليه.
{بِالْعُصْبَةِ} : الباء للإلصاق والمصاحبة، العصبة (10-40 رجلاً) وقيل: من (3-10) أفراد، والعصبة كلمة مشتقة من جماعة يتعصب بعضها لبعض لمبدأ من المبادئ ويُعين بعضهم بعضاً كأنّهم يدٌ واحدة.
{أُولِى الْقُوَّةِ} : أصحاب القوة، إذن خزائن لا يقدر على حملها العصبة حوالي (10 أفراد) من أولي القوة أو يثقل عليهم حملها أو حمل مفاتيحها للدلالة على كثرتها.
{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي بمعنى حين.
{قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} : قومه من بني إسرائيل من المؤمنين منهم وليس من الفراعنة، لا النّاهية تفرح بأموالك، والفرح نوعان فرح بحقٍّ وفرح من دون حقٍّ. والفرح المذموم هو البطر، والمرح وهو شدة الفرح.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} : جمع فرح، من فرح: بطر، لا يحب البطرين. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنوعه، وارجع إلى الآية (58) من نفس السّورة لبيان معنى البطر.
سورة القصص [28: 77]
{وَابْتَغِ} : اقصد، اطلب.
{فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} : أنفق وتصدق في سبيل الله مما أنعم الله عليك من المال والخير الكثير، وتقرب إليه بذلك وبالشّكر، فابتغ بها ما عند الله من الثّواب والأجر والحسنى، وابتغ الحلال في كلّ الأمور، وتجنب الحرام مثل التّبذير والإسراف والبطر والمن.
{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} : استمتع بالحلال بما أنعمنا عليك وبما يرضاه الله فنحن لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك فكل واشرب والبس واسكن واركب وعلى الموسع قَدَرُه.
أو المعنى: اعمل لآخرتك؛ لأنّ الدّنيا مزرعة للآخرة ونصيبك في الآخرة ما عملته في الدّنيا من الأعمال الصّالحة أي: الحسنات، وقيل: لا تنسَ أن نصيبك من الدّنيا هو الكفن الّذي تخرج به، أو ما تأخذه إلى القبر، هذا هو نصيبك
…
إذن نصيبك من الدّنيا ما تتمتع به من الحلال، أو ما فعلته من الحسنات.
{وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} : أحسن إلى عباد الله بالصدقة والزّكاة ومساعدة الفقير وإغاثة الملهوف، أنفق مما جعلك الله مستخلفاً فيه.
{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ} : الفساد هنا يعني: إمساك حق الفقراء من الزّكاة والصدقة؛ مما قد يؤدِّي إلى السرقة بسبب الجوع والفقر والجريمة، وبالتالي نشر الفساد، والظلم كذلك يعني: الفساد والبغي.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} : إن للتوكيد، الله لا يحب: لا النّافية، المفسدين: جمع مفسد، وهو الّذي يعمد إلى ما خلق الله تعالى فيحدث فيه تغييراً ليفسده، وأما إذا غيَّره ليُحدث فيه إصلاحاً فلا مانع أو يتركه على حاله كما خلقه الله تعالى.
ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لبيان معنى الفساد.
سورة القصص [28: 78]
في هذه الآية يردُّ قارون على نصائح قومه له، فيقول:
{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة تفيد التّوكيد.
{أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى} : أوتيته بجهدي وعلمي وكسبي أو معرفتي، قيل: كان عالماً بالتّوراة والتّجارة وصناعة الذّهب ولم ينسب أيَّ نعمة أو علم إلى فضل الله عليه، وكأنّه يقول: الله أعطاني ذلك المال: لأنّي أستحقه، قال ذلك بطراً والبطر الطغيان في النّعمة وعدم شكرها.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو للتوكيد أَوَلَمْ يعلم من قراءته للتوراة حيث كان يعلم التّوراة أن الله أهلك الكثير من القرون من قبله.
{أَنَّ اللَّهَ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل.
{قَدْ} : حرف تحقيق.
{أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} : جمع قرن والقرن جماعة من النّاس عاشوا في زمن واحد والقرن (100) سنة.
{مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} : القوة هي القدرة الّتي يتمكن بها الحيُّ من مزاولة أفعاله.
{وَأَكْثَرُ جَمْعًا} : للمال وأكثر جماعة وعدداً.
{وَلَا يُسْـئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} : المجرمون هم الكافرون أو المشركون والظّالمون ومرتكبو الكبائر وكل من قطع كلّ روابطه بربه. ارجع إلى سورة الأنفال آية (8) لبيان معنى المجرمون.
{وَلَا يُسْـئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ} : لأنّ الله مطلع على ذنوبهم وأعمالهم فلا يحتاج إلى سؤالهم سؤال استفهام أو عتاب، وإنما قد يسألون سؤال توبيخ وتقريع أو تقرير، وقيل: القيامة مواطن يسألون في موطن دون موطن أو في حال دون حال.
سورة القصص [28: 79]
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} : ولم يقل: فخرج إلى قومه.
{عَلَى} : تفيد الاستعلاء والتّكبر، خرج على هيئة المتكبر أو المتعالي، وعادة تقول: خرجت إلى المسجد.
{فِى زِينَتِهِ} : في موكب عظيم يوم العيد والنّاس ينظرون إليه وهو يتقدَّم الموكب أو العرض وقيل: خرج معه عدد كبير من الجنود على خيولهم المزينة بالأرجوان.
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} : يبغون الحياة الدّنيا: أيْ: يتمنون الحياة الدّنيا بزخارفها وزينتها وأموالها وعرضها ومتاعها، يريدون: بصيغة المضارع الدّالة على التّجدُّد والتّكرار.
{يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ} : يا ليت: أداة تمنٍّ تستعمل للأمور المستحيل حدوثها أو تحقيقها.
{مِثْلَ مَا} : ما اسم موصول بمعنى الّذي ما أوسع شمولاً من الّذي تشمل كلّ شيء
…
{أُوتِىَ قَارُونُ} : الإيتاء هو العطاء – وهناك اختلاف بين الإيتاء والعطاء. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) للبيان
…
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{لَذُو} : اللام للتوكيد.
{حَظٍّ عَظِيمٍ} : نصيب وافر من المال والدّنيا، أيْ: هو محظوظ.
والحظ يأتي غالباً في سياق الخير والنصيب يكون في المحبوب والمكروه
…
سورة القصص [28: 80]
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : العلم الشّرعي أو المعرفة في الدِّين، ولم يخاطبهم بالذين آمنوا أو المتقين؛ لأنهم يمتازون بالإيمان والتقوى+ العلم؛ أي: العلماء المتقون ومخاطبتهم بأولي العلم فيها مدح وثناء الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} [فاطر: 28]. خاطبوا أولئك الذين تطلعت قلوبهم إلى مال قارون.
{وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} : ويلكم من الويل: وهو العذاب. وتعني: الهلاك والدّمار للذين يخالفون ويتجاوزون حدود الله.
{ثَوَابُ اللَّهِ} : أي: الجنة ورضوانه. وقدم ثواب الله على الإيمان والعمل الصالح للاهتمام؛ أي: التشويق للثواب، وتمكين الثواب في عقول السامعين.
{خَيْرٌ} : أفضل من الدّنيا ومتاعها وزينتها.
{لِّمَنْ} : اللام للتوكيد، من: اسم موصول بمعنى الّذي.
{آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} : ارجع إلى الآية (67) من نفس السّورة. وقدم ثواب الله على لمن وعمل صالحاً ليكون الثواب هو المطمع الحقيقي الذي يجب أن يتطلع إليه المرء.
{وَلَا} : لا النّافية.
{يُلَقَّاهَا} : يفهمها أو يلقاها يوفق لها ويُرزَقها، أي: الجنة فهي المثوبة.
{إِلَّا الصَّابِرُونَ} : إلا أداة حصر، الصابرون: عن المعصية وعلى ما أصابهم في سبيل الله من الفقر والبأساء والضّراء، وعلى طاعة الله تعالى وتجنب نواهيه، أهل الإيمان الّذين أصبح الصّبر صفة ثابتة وراسخة فيهم.
سورة القصص [28: 81]
{فَخَسَفْنَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، خسفنا: جعلنا الأرض تنشق وتبتلع قارون وحاشيته، قيل: حدث بعد فترة من يوم خروجه في زينته انتقاماً منه لكفره وبطره وكبريائه.
{بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} : أيْ: به وبكنوزه وخزائنه وممتلكاته، ولم يكتف بقول: به، بل زاد على ذلك وبداره وكل من شارك معه في البغي والإجرام.
{فَمَا} : الفاء للتوكيد ما النّافية.
{كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ} : من بعضية، فئة نكرة، أيْ: جماعة يمنعونه من الهلاك بالخسف أو يدفعون عنه عذاب الله وينصرونه أو يشفعون له.
{وَمَا كَانَ} : تكرار ما يفيد توكيد النّفي.
{مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} : من استغراقية، أيْ: لم يكن قادراً على أن ينجي نفسه من الخسف، أو ينقذها بأن يفتدي بكل ما لديه من مال ومتاع. أيْ: من الناجين من عذاب الله رغم قوته وجمعه، يقال: نصره من عدوه، أيْ: منعه منه.
سورة القصص [28: 82]
{وَأَصْبَحَ} : بمعنى صار ولا يقصد بها الزّمان.
{الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ} : أي: الّذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون.
{بِالْأَمْسِ} : أيْ: منذ زمن قريب ولا تعني البارحة. وهذا يدل على أن الخسف لم يحدث في نفس الزّمن أو اليوم الّذي تمنى به الّذين تمنوا مكانه، فالخسف حدث بعد فترة زمنية.
{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ} : ويكأن مركبة من كلمتين وي + كأن، وي: اسم فعل مضارع بمعنى أعجب، ولها معنى كيف، فالمعنى (عجباً كيف).
{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} : أيْ: عجباً كيف يبسط الله الرّزق لمن يشاء من عباده ويقدر أو تدل على الحسرة والنّدم على ما حدث منهم عندما تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون.
وبعد أن شاهدوا ما حدث لقارون من الخسف ندموا وعلموا أنّهم أخطؤوا. أيْ: عجبوا كيف بسط الله الرّزق لقارون بهذا الوسع، ثم خسف به وبداره الأرضَ.
{اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} : (مثل قارون)، ويقدر؛ أي: يُضيق أو يقبض لو شاء عليه، ولكنه لم يفعل، ولكن خسف به الأرض، ولم يقل له؛ لأنه سبحانه لو شاء لفعل ذلك، ولكن خسف به الأرض؛ أي: عاقبه عقوبة أشد من التضيق، وحرمه من العيش ولو يوماً واحداً.
هذه الآية خاصة بقارون بسط الرّزق له، ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر. ارجع إلى سورة سبأ آية (36) و (39) للمقارنة.
{لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} : لولا شرطية، أن: حرف مصدري، يفيد التّعليل، من الله علينا: رحمنا ولم يعاقبنا ولم يصبنا مثل ما أصاب قارون، لخسف بنا: أي: الأرض كما خسف بقارون، والمن يكون في العطاء أو المنع وهو هنا بمنع وقوع الخسف بهم
…
{وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} : أيْ: وليس عجباً، لا يفلح الكافرون: أمثال قارون أو ليس عجباً كيف لا يفوز الكافرون بالنّجاة من النّار ويدخلون الجنة.
سورة القصص [28: 83]
{تِلْكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يفيد التعظيم، ويشير إلى الجنة أو دار الآخرة.
{نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ} : فجعلها دار الخلد، للذين اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الْأَرْضِ} : علوّاً على عباد الله بالتّكبر والظّلم والبغي: كلّ علوٍّ فساد، وليس كلُّ فساد علوّاً.
والعلو: الغرور بالقوة والمال والجاه والزّينة.
{وَلَا فَسَادًا} تكرار (لا) يفيد النّفي أولاً العلو وثانياً الفساد.
فالفساد هو ثمرة العلو، الفساد: هو إهلاك الحرث والنّسل وارتكاب الكبائر والمعاصي. ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لبيان معنى الفساد.
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} : والعاقبة الحسنة، أي: الجنة، للمتقين: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، للمتقين: جمع متقٍّ، وهو من أطاع أوامر الله وتجنب نواهيه واستمر على ذلك، المتقين: جملة اسمية تدل على الاستقامة والثّبات والاستمرار على التّقوى لنيل العاقبة.
سورة القصص [28: 84]
{مَنْ} : شرطية.
{جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} : الحسنة: هي كلّ عمل خير من قول أو فعل يورث ثواباً، جاء بالحسنة: أيْ: عملها والباء للإلصاق والمصاحبة.
{فَلَهُ} : الفاء للتوكيد، له: لام الاختصاص والاستحقاق.
{خَيْرٌ مِّنْهَا} : أحسن منها، فهذا خير من هذا وكلاهما فيه خير، أو أخير، أو أحسن والحسنة بعشر أمثالها أو أكثر؛ لأنّ ثوابها هو خير دائم لا ينقطع.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} : ارجع إلى مقدم الآية نفسها، السّيئة: المعصية أو بالأمر المنهي عنه أو كلّ ما يسيء إلى النفس.
{فَلَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط تفيد التّوكيد، لا النّافية.
{يُجْزَى} : من الجزاء، ويكون مقابل العمل الصّالح أو السّيِّئ والمكافئ له؛ أي: مثله.
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} : الذّنوب الصغيرة أو الكبائر، وتكرار عملوا، ويعملون: يدل على التوكيد، ولم يقل ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلا ما كانوا يعملون.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَا} : أي: الّذي أو مصدرية. وأوسع شمولاً من الّذي تشمل كلّ شيء.
{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ولم يقل: ومن جاء بالسّيئة فله أشرُّ منها أو أسوأ منها قياساً على الحسنة؛ لأنّه سبحانه لا يضاعف السّيئة، كما يضاعف الحسنة، وهذا من رحمته فهو يجازي بمثلها جزاءً وفاقاً، أيْ: على قدرها. ويعملون: بصيغة المضارع تدل على حكاية الحال؛ أي: تحضر ما كانوا يعملون أمام عينيك الآن لترى بشاعته.
وما كانوا في الدّنيا يعملون: العمل يضم الأقوال والأفعال.
سورة القصص [28: 85]
سبب النّزول: إنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة، ونزل الجحفة بين مكة والمدينة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله تعالى جبريل بهذه الآية. كما رُوي عن مقاتل.
{إِنَّ الَّذِى} : إن للتوكيد، الذي: اسم موصول.
{فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} : أنزل عليك القرآن وسمَّى إنزال القرآن فرضاً لما في القرآن من تكاليف أوجب العمل بها، أيْ: فرض العمل بها.
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} : اللام لام التّوكيد، معاد: اسم مكان من فعل عاد، ومعاد الرّجل: البلد الّذي كان فيه ورسول الله كان في مكة، لرادك إلى مكة منتصراً فاتحاً (فتح مكة) بعد الهجرة، والرّد هو الرجوع أو العودة مجبراً من دون اختيار بينما الرّجوع يكون باختيار العبد.
ارجع إلى الآية (7) من نفس السّورة للبيان.
أيْ: سنردك إلى المكان الّذي تحن إليه، أيْ: مكة، وقد يكون معادك إلى الجنة ولا مانع من احتمال المعنيين والمرجح مكة، والفرق بين معاد وميعاد: الميعاد للزمان والمكان ومشتق من الوعد زمن التّواعد أو مكان التّواعد، المعاد للمكان فقط.
وهذا الوعد بردِّه إلى معاده من أنباء الغيب، وفيه بشارة وليطمئن قلب النّبي صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ رَّبِّى أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : وقل لهم إذا اتهموك بأنك صبأت عن دين آبائك، أي: خرجت عن دين آبائك.
قل لهم: {رَّبِّى أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} : الله أعلم ولم يقل: يعلم، أعلم على وزن أفعل صيغة مبالغة في العلم، من: اسم موصول بمعنى الذي، جاء بالهدى: من عند الله؛ أي: النّبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : من: اسم موصول بمعنى الّذي، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد. في: ظرفية، ولم يقل: ومن هو من الضالين؛ لأن في: تعني منغمس في الضلال، وراسخ فيه سابقاً، وفي ضلال مبين: جملة اسمية تدل على الثبوت، وشدة ضلالهم وإحاطة ضلالهم بهم من كل جانب؛ أيْ: أنتم أيها المشركون الضّالون، في ضلال مبين، ضلال مبين: انحراف وبعد عن الصّواب والحق، ضلال مبين: واضح وبين لكل فرد ينظر فيه ومبين لنفسه لا يحتاج إلى دليل وبرهان.
سورة القصص [28: 86]
المناسبة: هوِّن عليك واطمئن يا محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تستبعد أن نردك إلى مكة فاتحاً منتصراً، فهل كنت ترجو أو تتوقَّع أن يُلقى إليك الكتاب، أيْ: ينزل عليك القرآن أو الوحي قبل بعثتك.
{وَمَا كُنْتَ} : ما النّافية، كنت قديماً.
{تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} : ترجو من الرّجاء هو الظّن بوقوع الخير أو تأمل أن تكون رسولاً أو نبياً إلى النّاس كافة، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل، يُلقى إليك الكتاب: أي: القرآن، يُلقى: يُنزل، ويلقى: فيها معنى أن يقرأ أو يُتلى على سمعك، أو ما كنت تتوقع أو تأمل أن يقرأ (يلقي) جبريل إليك القرآن.
{إِلَّا} : أداة حصر وقصر.
{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} : رحمة: رحمة لك وللعباد وللمسلمين وللمؤمنين وللعالمين، والرّحمة معناها بشكل عام هي جلب ما يَسُرُّ ودفع ما يَضُرُّ. فالقرآن رحمة للعالمين، أيْ: فيه الخير والفائدة وفيه ما يقيهم ويدفع عنهم ما يضرهم، وكما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
{مِنْ} : ابتدائية.
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية.
{تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} : الخطاب وإن كان موجَّهاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المقصود به أمته صلى الله عليه وسلم والنّون في تكونن للتوكيد أيضاً ظهيراً للكافرين: عوناً أو معيناً للكافرين بأيِّ حال من الأحوال، أو تلين لهم طمعاً في إيمانهم، أو تساعد أحداً على ارتكاب معصية أو تضله عن دينه أو تمنعه من فعل الخير.
ظهيراً: مشتقة من ظهر. ارجع إلى الآية (55) من سورة الفرقان لمزيد من البيان.
سورة القصص [28: 87]
{وَلَا} : لا النّاهية.
{يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} : أيْ: لا يمنعك أو يصرفنك والصّد هو المنع عن قصد والمنع قد يكون قصداً أو غير قصد، يصدنك: أصلها يصدونك والنّون للتوكيد وحذفت الواو لالتقاء السّاكنين، عن آيات الله: عن تلاوتها وتبليغها للناس أو العمل بها.
ارجع إلى سورة الشّعراء آية (2) لبيان معنى الآيات.
{بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} : بعد إذ: ظرف للزمان الماضي، أنزلت إليك من ربك: إليك ولم يقل: عليك. ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة لمعرفة الفرق.
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} : أيْ: إلى سبيل ربك (إلى دينه) موحِّداً ومخلصاً له الدّين من دون رياء وبالحكمة والموعظة الحسنة والخطاب وإن كان موجَّهاً إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المقصود به أمته؛ لأنّه حاشا للرسول أن يكون من المشركين.
{وَلَا تَكُونَنَّ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : سماعاً لهم أو مخالطاً لهم حين تدعوهم إلى ربك، ولا في الولاية والنصرة.
سورة القصص [28: 88]
{وَلَا تَدْعُ} : لا النّاهية، تدع: تعبد مع الله إلهاً آخر، أو تشرك به شيئاً.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا معبود إلا هو سبحانه. ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة.
{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ} : كلّ شيء للتوكيد، شيء نكرة تشمل كلَّ شيء وجنس على الأرض.
{هَالِكٌ} : ميِّت، والهلاك ليس بالضّرورة عقوبة، ويشمل الإنس والجن والنّبات والحيوان.
ويعني هالك كانت له حياة تناسبه، فكل شيء له حياة خاصة به، هالك أيْ: فانٍ أو ميِّت.
ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لبيان معنى هالك.
{إِلَّا وَجْهَهُ} : حصراً وقصراً وجهه سبحانه وتعالى، أي: ذاته سبحانه والوجه وهو أكرم أعضاء البدن، ويمثل الذّات (إطلاق الجزء وإرادة الكل).
{لَهُ الْحُكْمُ} : في الدّنيا والآخرة. يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبين المؤمنين والكافرين فيما اختلفوا فيه من المعتقدات والشرائع.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : للحساب في الآخرة والجزاء إليه جار ومجرور، وتقديم إليه يعني: حصراً وقصراً إليه وحده ترجعون، تُرجعون: رغماً عن عدم إرادتهم أيْ: قسراً، ولم يقل: إليه ترجعون: بفتح التاء، أيْ: بإرادتكم ومشيئتكم.
سورة العنكبوت [29: 1]
سورة العنكبوت
ترتيبها في القرآن (29)، وترتيبها في النّزول (85).
{الم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
سورة العنكبوت [29: 2]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} :
{أَحَسِبَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ، حسب: اعتقد، وحسب؛ يعني: الظّن الرّاجح، وتشمل الحساب الحسي والقلبي القائم على النّظر والتّجربة والحساب.
{النَّاسُ} : الإنس والجن (الثّقلان)، والنّاس مشتقة من: النّوس وهو كثرة الحركة.
{أَنْ يُتْرَكُوا} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل، يتركوا بلا فتنة.
{أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} : أن: تكرارها يفيد التّوكيد، أن يقولوا آمنا: بالقول فقط أو القول والفعل معاً، أو باللسان أو بالقلب صدقاً أم كذباً.
{وَهُمْ} : هم لزيادة التّوكيد.
{لَا يُفْتَنُونَ} : لا النّافية، يفتنون: من الفتنة: والفتنة لغة: أصلها عرض الذّهب على النّار حتّى تزول منه الشّوائب فيزداد صفاءً وجودةً، واصطلاحاً: هي نوع من البلاء والاختبار يجريه الله تعالى على عباده لاختبار صدق إيمانهم وحقائق نفوسهم، ومعرفة مدى صلاحهم أو فسادهم وشدة تحملهم للتكاليف وصبرهم وصدقهم وكذبهم.
والفتنة أشد من الاختبار وأبلغ وتكون في الخير والشّر، فهي لا تذم ولا تمدح إلا بالنّتيجة، والفتنة تكون في الدّين والإيمان والمال والولد والشّهوات والشّبهات وغيرها.
ويفتنون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على أنّ الفتنة سوف تتجدد وتتكرر في حياة النّاس، والفتنة في القرآن لها معانٍ مختلفة منها: الاختبار والابتلاء، ومنها القتل والشّرك والحُجة وغيرها حسب السّياق.
سورة العنكبوت [29: 3]
{وَلَقَدْ} : الواو عاطفة، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{فَتَنَّا} : من الفتنة، ارجع إلى الآية السّابقة (الفتنة أشد وأبلغ من الاختبار).
{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من الأمم السّابقة فالفتنة سنَّة قديمة جارية على كلّ الأمم وبأنواع وأشكال مختلفة من الكوارث الجوية أو الجدب أو الفيضانات، أو المرض أو القتل. من قبلهم، ولم يقل قبلهم:(من) تفيد قرب الزّمن، و (قبلهم) لا يحدد قد يكون منذ زمن طويل أو بعيد أو زمن قريب.
{فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} : الفاء للتوكيد، واللام والنّون لزيادة التّوكيد، فليعلمن الله: الله سبحانه يعلم منذ الأزل وقبل خلقهم من الّذين صدقوا ومن هم الكاذبون، وليس هو بحاجة لفتنتهم وإنما فتنتهم أو اختبارهم هو لإقامة الحُجة عليهم وليطّلعوا على نتيجة اختبارهم بأنفسهم؛ حتّى لا يدَّعوا يوم القيامة ويقولوا: ربنا لو فتنتنا لكنّا من الصابرين أو الصادقين أو من المجاهدين أو غيرها، فالله يفتنهم في الدّنيا ليريهم عاقبة أعمالهم في الدّنيا أو في الآخرة.
{الَّذِينَ صَدَقُوا} : أي هل صدقوا في إيمانهم أو ما وعدوا الله ورسله والنّاس أجمعين؟
{وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} : كذبهم في إيمانهم وغيره، وتكرار (وليعلمن) للتوكيد، وفصل كلاهما عن الآخر، أو ليعلمن الصّادق منهم من الكاذب.
والسّؤال: لماذا قال: الّذين صدقوا (جملة فعلية) والكاذبين (جملة اسمية)، ولم يقل الّذين صدقوا والّذين كذبوا؟
الّذين صدقوا: جملة فعلية في الماضي تعبّر عن قوم حديثي العهد بالإسلام، والّذين آمنوا برسول الله في بداية الإسلام، وكانوا كفاراً فهم لا زالوا سائرين في طريق الصّدق؛ ليصبحوا صادقي الإيمان في النّهاية وقد يستقيموا على الإيمان أو يرتدّوا، وأما الكاذبين: جملة اسمية تدل على الثّبوت؛ أي: الكذب عندهم ونزلت في كفار قريش فهم استمروا على كذبهم قبل الإسلام وبعد مجيئه.
سورة العنكبوت [29: 4]
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي والتّوبيخ، وأم (المنقطعة)
{حَسِبَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (2).
{الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} : يعملون صيغة مضارع تدل على التّجدد وتكرار ارتكابهم السّيئات. والسيئات: جمع سيئة. قيل: هي الصغائر التي تحتاج إلى تكفير، وأما الذنوب: هي الكبائر التي تحتاج إلى توبة ومغفرة كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{يَسْبِقُونَا} : ينجوا من عذابنا، مشتقة من: السّبق وهو الفوت؛ أي: الهرب فلا ننتقم منهم.
{سَاءَ} : أصل ساء: يسوء؛ فعل من أفعال الذّم مثل بئس: تستعمل للذم العام، وساء: تستعمل للذم الخاص.
{مَا يَحْكُمُونَ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أو مصدرية؛ أي: بئس أو ساء حكمهم وهو ظنهم أنّهم يفوتون من عذاب الله تعالى فلا يحاسبهم على أعمالهم.
سورة العنكبوت [29: 5]
{مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :
{مَنْ} : شرطية للعاقل وتشمل المفرد والمثنى والجمع.
{يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ} : يرجو: من الرّجاء وهو الظّن بوقوع الخير الّذي يعتري صاحبه الشّك فيه، وغالباً ما يقرن بالخوف أو بأحد معانيه، أو يرجو: يأمل لقاء الله، لها معانٍ عدّة: اللقاء الحقيقي: الاجتماع والمواجهة والتّحدث، والحساب أو الثّواب.
{فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} : الفاء وإنّ، واللام في لآت كلها للتوكيد، وآت: صيغة اسم الفاعل للتوكيد أربع توكيدات على حصول الأجل، أجل الله: الموت أو البعث والحشر، الأجل: الوقت المضروب لانقضاء عمر الإنسان، أجل الإتيان وهو المجيء بسهولة، واختار لآت؛ لأنّه لم يأت بعد.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{السَّمِيعُ} : لأقوال العباد في السّر والعلن والجهر والنّجوى.
{الْعَلِيمُ} : بأعمالهم وما في صدورهم وما يعلنون بنياتهم ونجواهم وأسرارهم، والسّميع العليم: صيغ مبالغة، كثير السّمع وكثير العلم لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في السّماء ولا في الأرض.
وفي هذه الآية حث على الاستعداد للقاء الله تعالى القادم لا محالة بالقول الطّيب والعمل الصّالح.
سورة العنكبوت [29: 6]
{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} :
{وَمَنْ} : شرطية.
{جَاهَدَ} : الجهاد لغةً: بذل أقصى الطاقات؛ أي عمل أقصى ما في وسعه من الجهد للقيام بما أمره الله به، والجهاد نوعان: جهاد النّفس: بالصّبر على الطّاعات وتجنّب المنهيات والصّبر على الابتلاءات، وجهاد العدو: إذا اعتدى على الدّيار أو الأموال أو الأعراض، وجهاد الشيطان، والجهاد في الله كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ أي: جهاد لمعرفة الله تعالى؛ أي: جهاد المقاصد الذي يؤدي إلى الإحسان، جهاد باللسان والقلب والمال، وبذل الطاقة والزمن لنيل رضاه.
{فَإِنَّمَا} : الفاء للتوكيد، إنما: كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} : اللام في (لنفسه) لام الاختصاص والاستحقاق؛ أي: يجاهد لفائدة نفسه ومنفعتها؛ أي: إنقاذها.
{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} : إنّ: للتوكيد، لغني عن العالمين: اللام في (لغني) لزيادة التّوكيد؛ أي: إنّ الله ليس بحاجة لجهاد أيّ إنسان كقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، لغني عن عباده وعبادتهم وعن كلّ من في السّموات ومن في الأرض وليس هو فقط غني عنهم بل سبحانه يُغنيهم ويمدّهم من فضله. وانظر إلى هذه الآية التي بدأت بها سورة العنكبوت:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وإلى الآية (69) التي انتهت بها سورة العنكبوت وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
سورة العنكبوت [29: 7]
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول.
{آمَنُوا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفرائض وما أمر الله به، وقدّم الإيمان على العمل الصّالح؛ لأنّه الأصل، فالعمل الصّالح بدون الإيمان والتّوحيد لا جدوى منه، وحين يقول: الّذين يعملون الصّالحات تعني: الاستمرار في عمل الصّالحات والتّجدد والتّكرار والارتقاء في العمل الصّالح.
{لَنُكَفِّرَنَّ} : اللام للتوكيد، وكذلك النّون لزيادة التّوكيد، كان بالإمكان القول لنكفر عنهم سيئاتهم، والتّكفير يعني السّتر؛ أي: يسترها على العبد في الدّنيا؛ أي: يمحوها ولا يعاقب عليها في الآخرة.
{عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ} : ولم يقل من سيئاتهم، (عنهم سيئاتهم) تشمل كلّ السّيئات: جمع سيئة؛ أي: الصغائر (صغائر الذنوب)، وأما الكفر والشّرك والكبائر، فلا بد من التوبة (بأركانها)، والسيئة: وهي المعصية أو الأمر المنهي عنه، أمّا قوله:(من سيئاتهم)؛ أي: بعض سيئاتهم كقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّـئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} : اللام والنّون كلاهما للتوكيد.
{أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} : فالله سبحانه لا يقف عند محو السّيئات والعفو بل يجازيهم: يثيبهم على فعل الحسنات ولا يطرح السّيئات من الحسنات، وهذا من كرمه وتفضله، الّذي كانوا يعملون؛ أي: في الدّنيا، (الّذي) هنا تحمل معنى شيء محدد، ولم يقل أحسن ما كانوا يعملون، كما في سورة النّحل آية (97){أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{الَّذِى} : تستعمل للعاقل وغير العاقل وتستعمل للأشياء المحددة، و (ما) تستعمل لغير العقلاء وصفات العقلاء وتستعمل للأشياء العامة غير المحددة.
ولمقارنة هذه الآية (7) من سورة العنكبوت مع الآية (97) من سورة النّحل، ارجع إلى سورة النّحل للبيان.
وأمّا الفرق بين قوله: (بأحسن) سورة النّحل الآية (97) و (أحسن) سورة العنكبوت الآية (7): الباء للإلصاق تفيد التّوكيد، وأحسن تعني: الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر من ذلك إلى (70) أو (700) ضعف.
فالذين آمنوا في سورة النّحل أكثر إيماناً وأشدّ من الّذين آمنوا في سورة العنكبوت.
سورة العنكبوت [29: 8]
أسباب النزول: روى مسلم وغيره والواحدي في أسباب النزول: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه لما أسلم قالت له أمه: يا سعد بلغني أنك صبوت، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير فيقال يا قاتل أمه، وكان باراً بأمه، فأبى سعد فصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب، ولم تستظل بظل حتى خشى عليها، فأتى سعد النبي صلى الله عليه وسلم وشكا ذلك إليه فأنزل هذه الآية، وقال سعد إليها: يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما آيست منه أسلمت وأكلت.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ} : ووصّينا: من وصّى، وصّينا: ألزمنا، كلّفنا، وهناك فرق بين وصّى وأوصى، ووصّى: تستعمل لما هو أهم مثل أمور الدّين والأمور المعنوية، ويستعمل أوصى للأمور المادية، إلا في آية واحدة:{وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31]، لاقتران الصّلاة بالزّكاة. ارجع إلى سورة النساء آية (11) لمزيد من البيان.
{بِوَالِدَيْهِ} : الباء باء الإلصاق، وقوله:(بوالديه) فيها تغليب أو تذكير بالوالدة (الأمّ) على الوالد، ولم يقل بأبويه؛ فيه تغليب الأب على الأم، ولو كان الأمر يتعلق بالأب لجاء بكلمة أبويه. وانتبه عندما يوصي الله تعالى الأولاد بالوالدين يقول:(ووصينا الإنسان بوالديه)، يأتي بالباء الّتي تفيد الإلصاق والمصاحبة؛ أي: الاستمرار والدّوام أو التّوكيد ويستعمل كلمة وصَّى.
وحينما يوصي الله تعالى الوالدين بالأولاد لا يأتي بالباء مثال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، ويستعمل كلمة أوصى، ولم يقل بأولادكم؛ لأنّ الوالدين أو الأبوين لا يحتاجان إلى التّوكيد؛ لأنّ الوصية وحبهما لأولادهما أمر ثابت في قلوب الآباء للأبناء.
{حُسْنًا} : أي تقول لهم قولاً حسناً أو تعاملهم معاملة حسنة، وقيل: الحُسن بضم الحاء: هو الاسم الجامع لكلّ معاني الحُسن، وأمّا الحَسن بفتح الحاء هو البعض من معاني الحُسن، والإحسان أعلى درجات البر والحُسن. والإحسان أمكن من حسناً وأعلى درجة وأقوى؛ تعني: معاملة حسنة وزيادة. ارجع إلى سورة البقرة آية (112) لمعرفة معنى الإحسان.
{وَإِنْ} : شرطية تحمل معنى الاحتمال والشّك؛ أي: تستعمل للأمر المشكوك في حدوثه وهو الشرك في هذه الآية.
{جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى} : أي لنفرض أنّهما والدان كافران غير راضيين عنك لأنّك أسلمت، فإن جاهداك؛ أي: بذلا أيّ جهد لحملك لتشرك بالله أو العودة إل الكفر والشرك، فلا تطعهما.
بينما في سورة لقمان الآية (15) قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : ففي هذه الآية الوالدان يشترطان على الولد الشّرك، فالمجاهدة هنا أشد وأقوى مقارنة بالمجاهدة في آية العنكبوت، ولذلك جاء بكلمة (على) لتفيد المشقة والعلو.
{فَلَا تُطِعْهُمَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية، تطعهما: في كلا الحالتين، أو في أيّ أمر يخالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا طاعة لمخلوق مهما كان في معصية الخالق.
{إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} : يوم القيامة. وقدم إلي: للحصر؛ أي: إليه وحده مرجعكم. مرجعكم: اسم مكان أو زمان من فعل رجع وقد يكون مصدراً.
{فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : الفاء: للتوكيد والمباشرة؛ أنبئكم: أخبركم؛ بما: ما اسم موصول أوسع شمولاً من الذي كنتم تعملون في الدّنيا، وتضم ما كنتم تقولون وما كنتم تفعلون من خطأ أو صواب أو حق وباطل، الباء: للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
لنقارن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} ، مع الآية (83) من سورة البقرة:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وبقية الآيات المشابهة في سورة النّساء الآية (36) والأنعام الآية (151) ولقمان الآية (14-15) والإسراء الآية (23-25) والأحقاف الآية (15) للمقارنة، ولمعرفة أوجه الاختلاف في كل الآيات التي توصي الإنسان بوالديه.
سورة العنكبوت [29: 9]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ} :
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ارجع إلى الآية (7) السّابقة.
{لَنُدْخِلَنَّهُمْ} : اللام والنّون للتوكيد على إدخالهم.
{فِى الصَّالِحِينَ} : في ظرفية؛ أي: هم الآن في الدّنيا من الصّالحين وسنلحقهم في الصّالحين في الآخرة وهذه بشارة حسنة أو وعد من الله تعالى للذين لم يشركوا بالله ويطيعوا آباءهم الذين أمروهم بالشرك بأن يدخلهم في الصالحين عوضاً عما حدث لهم من جفاء وتفرقة بينهم وبين آباءهم بسبب إيمانهم بالله تعالى. والصالحين: جمع صالح. ارجع إلى سورة البقرة آية (130) لبيان معنى الصالحين.
سورة العنكبوت [29: 10]
{وَمِنَ النَّاسِ} : الواو استئنافية، من: ابتدائية بعضية، النّاس: تشمل الإنس والجن، وكلمة النّاس مشتقة من كلمة: النّوس؛ أي: كثرة الحركة.
{مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} : من اسم موصول بمعنى الّذي، يقول آمنا بالله: أي إيمان عقيدة ودين، وكلمة (يقول) ولم يقل قال: تدل على تجدد قوله وتكراره وهو: آمنت بالله، وهو كما سنرى إيمان بالقول واللسان فقط وليس إيماناً في القلب.
{فَإِذَا} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، إذا: ظرفية شرطية تدل على حتمية الحدوث.
{أُوذِىَ فِى اللَّهِ} : أصابه أذى من قول أو فعل بسبب إيمانه بالله من قِبَل الكفار والمشركين أو غيرهم.
{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ} : صيّر فتنة النّاس؛ أي: العذاب أو الأذى الّذي يلحق به بسبب إيمانه، يصده عن الإيمان والثّبات عليه، الكاف: كاف التّشبيه؛ أي: خاف من عذاب النّاس، أو أعتقد أن فتنتهم مساوية لعذاب الله تعالى، ولذلك ارتدّ أو نافق وهو تقدير أو قياس خاطئ؛ لأنّ عذاب الله بسبب ارتداده أو نفاقه أشد وأبقى من عذاب النّاس مهما طال واشتدّ؛ لأن عذابه سيكون دائماً، وفتنة الناس أو عذابهم زائل غير دائم يزول بالموت، والمؤمن الصّادق يصبر ويثبت على ما أصابه في سبيل الله تعالى؛ لأنّ ما عند الله خير وأبقى.
وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 22].
{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} : اللام في (لئن) للتوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الشك، جاء نصر من ربك: النّصر: الغلبة على العدو بالقتال والغنيمة، وأمّا الفتح الغلبة بدون قتال.
{لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} : ليدعي بالوقوف إلى جانبكم وأيدكم على عدوكم أو أليس نحن إخوانكم في الدّين، أو لم نقف ضدكم فأعطونا نصيباً من الغنيمة.
{أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير، والواو في (أوليس) للتوكيد، بأعلم: الباء للإلصاق، أعلم صيغة مبالغة من علم.
{بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، في صدور العالمين: من كذب ونفاق وكفر أو صدق وإخلاص، والجواب على أوليس؟ بلى.
سورة العنكبوت [29: 11]
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} :
وليفتنهم في الدّنيا بما قدّر عليهم من ابتلاءات؛ ليريهم أعمالهم في الآخرة، فتكون حجة لهم أو حجة عليهم، وليظهر علمه سبحانه فيهم كما سبق منذ الأزل فيجازيهم بما ظهر منهم ويتبيّن الّذين آمنوا منهم ويتبيّن المنافقين.
وإذا قارنّا الآية (3){فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
والآية (11){وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .
الآية (3) جاءت في سياق الإيمان الظاهر بالقول والعمل (والكاذبين)، والآية (11) جاءت في سياق الإيمان بالقلب (والنفاق) الإيمان الباطن.
أو الآية (3) جاءت في سياق الصدق والكذب في الإيمان.
والآية (11) جاءت في سياق الإيمان بالقلب أو بلسان (النفاق).
سورة العنكبوت [29: 12]
هذه الآية مظهر من مظاهر فتنة بعض المسلمين عن دينهم من زعماء قريش، وتحذر الآية من الاستماع لكذبهم.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : من زعماء قريش دعاة الكفر والضّلال.
{لِلَّذِينَ آمَنُوا} : من أهل مكة، آمنوا بالله ورسوله كما قال مجاهد.
{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} : أي ديننا، ارجعوا عن دينكم الّذي جاء به محمّد واتبعوا ديننا ودين آبائكم وأجدادكم.
{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} : اللام في (لنحمل) للتوكيد، خطاياكم: ذنوبكم عنكم، فقد كانوا يفترون عليهم الكذب فليس هناك بعث ولا حساب، فإن كان هناك بعث أو حساب وكان عليكم إثم أو ذنب، فسوف نحمله عنكم.
فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ} : ما النّافية، هم: للتوكيد، بحاملين من خطاياهم: من ابتدائية، خطاياهم: جمع خطيئة، من شيء: من استغراقية تستغرق أيّ شيء، وشيء نكرة؛ أي: لن يحملوا عنهم لا خطيئة ولا لمماً ولا سيئةً ولا إثماً ولا ذنباً.
{إِنَّهُمْ} : إن للتوكيد.
{لَكَاذِبُونَ} : اللام للتوكيد، كاذبون جملة اسمية تعني: صفة الكذب صفة ثابتة لهم؛ أي: لا يتوقفون عن كذبهم؛ كذبهم مستمر.
سورة العنكبوت [29: 13]
{وَلَيَحْمِلُنَّ} : اللام والنّون للتوكيد.
{أَثْقَالَهُمْ} : أي أوزارهم: ذنوبهم وخطاياهم.
{وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} : أي أوزاراً مع أوزارهم (وهي أوزار الّذين يضلونهم). ارجع إلى سورة البقرة آية (286) لبيان الأوزار، وسورة النحل آية (25).
{وَلَيُسْـئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : اللام والنّون للتوكيد، سؤال توبيخ وتقريع.
{عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : عما (عن + ما) عن تفيد المجاوزة؛ أي: بعد مرور زمن ليسئلن، ما: اسم موصول بمعنى الذي أو مصدرية، ليسئلن عن هذا الكذب وغيره.
كانوا يفترون: الافتراء هو اختلاق الكذب المتعمد؛ أي: ليسئلن يوم القيامة عما كانوا يختلقون من الكذب المتعمد (عما كانوا يكذبون). يفترون: تدل على التجدد والتكرار وأن افترائهم لم يتوقف.
سورة العنكبوت [29: 14]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} : ارجع إلى الآية (25) من سورة هود.
نوحاً: هو ابن لامك بن متوشلح بن إدريس من ولد شيث بن آدم، كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون كما في صحيح البخاري عن ابن عباس.
{فَلَبِثَ فِيهِمْ} : اللبث: أي أقام يدعوهم في زمن محدد (اللبث: الإقامة المحددة بزمن) أما المكث: الإقامة غير محددة بزمن.
يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده وترك عبادة الأصنام الّتي انتشرت في زمانه.
{أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} : ولم يقل ألف سنة إلا خمسين سنة، كلمة سنة في القرآن، تستعمل في سياق الشّدة والبأساء مثل القحط والفقر فهي لا تحمل في معناها الخير، وأمّا كلمة عام في القرآن تستعمل في سياق الخير والبركة والمطر والنّعمة فنوح عليه السلام عاش (950) سنة وكانت كلها سني شدة؛ لما لاقاه من قومه من تكذيب وتحدٍّ وإعراض، ثمّ عاش (50) عاماً بعد الطّوفان أعوام أمن ورخاء وسراء، ولذلك سماها عاماً بدلاً من سنة.
فقد قيل: بعث نوح على رأس (53 سنة) ودعا قومه (950) سنة وعاش بعد الطّوفان (60) عاماً.
وقد قيل: بعث على رأس (53) ودعا قومه (950) سنة وعاش بعد الطّوفان (47) عاماً، وهناك أقوال أخرى.
وقال تعالى: (ألف سنة إلا خمسين عاماً) بدلاً من تسعمائة وخمسين سنة كاملة.
استعمل رأس العدد ألف؛ لأنّه أوقع في النّفس؛ من القول تسعمئة وخمسين سنة، ولكي يبين زمن الفترة التي عاشها نوح بعد ذلك وأنها كانت مغايرة لما سبقها.
{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} : الأخذ معناه العذاب أو الهلاك وفيه معنى الأخذ بشدة، الطّوفان: ما طاف وأحاط بكثرة وغلبة، وهو هنا المطر الشّديد الّذي أدى إلى الغرق والهلاك، أو ما يسمى: تسونامي نتيجة البركان الّذي حدث.
{وَهُمْ} : للتوكيد.
{ظَالِمُونَ} : لأنفسهم بالشّرك جمع: ظالم، والظّلم هو الشّرك؛ أي: وهم مشركون أو كافرون، ظالمون: جملة اسمية تفيد الثّبوت، ثبوت صفة الظّلم؛ أي: الشّرك عندهم، فقد كانوا يعبدون الأصنام الّتي ذكرت في سورة نوح آية (23).
سورة العنكبوت [29: 15]
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} :
{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء للترتيب والتّعقيب؛ أي: مباشرة من الطّوفان أنجينا نوحاً، أنجيناه تدل على السّرعة والقوة الّتي تمت فيها عملية الإنجاء، ولم يقل فنجّيناه الّتي تدل على البطء والزّمن الطّويل. كما في سورة يونس آية (73){فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} التي تدل على النجاة من قومه بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
{وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} : الّذين ركبوا معه فيها سمّاهم أصحاب السّفينة، وقيل: كان عددهم (30-80) ولأنّ السّفينة صنعت من أجلهم فهي ملكهم جميعاً، فقال: أصحاب السّفينة؛ وهم نوح وأولاده الثّلاثة: سام وحام ويافث، ومن آمن معه، وكما قال تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
{وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} : وقد اكتشفت هذه السّفينة في شرقي تركيا على جبل الجوديّ في عام (1948) وكان طولها يقارب (300) ذراع وعرضها (20) ذراعاً، آية وعبرة ودلالة ومعجزة تدل على عظمة الله وقدرته، فهي أول سفينة تصنع على الأرض، للعالمين: اللام لام الاختصاص، للعالمين: للمؤمن وللكافر.
وقدّم آية على العالمين؛ لأنّها الآية الوحيدة الّتي سيتعظ بها كلّ النّاس أو عبرة للعالمين؛ لأنه يتحدث عن السفينة، ولم يقل للعالمين آية كما قال تعالى في سورة الفرقان آية (37){وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} فتقديم الناس على الآية في هذه؛ لأنه يتحدث عن إغراق قوم نوح كما أغرق غيرهم من الناس. ارجع إلى سورة الفرقان آية (37) للبيان.
وإذا قارنا هذه الآية {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 24].
قوله تعالى: (آية للعالمين) لأنّ السّفينة بقيت في مكانها تراها الأجيال بعد الأجيال وأثرها باقٍ إلى اليوم في بعض المتاحف.
أما قوله تعالى: (لآيات لقوم يؤمنون) لأنّ إحراق إبراهيم عليه السلام ونجاته في ذلك الوقت كان عبرة لمن شاهده وآمن به، ونحن نؤمن بذلك؛ لأنّ الله تعالى أخبرنا بذلك فهي آيات وليست آية وخاصة بالمؤمنين.
سورة العنكبوت [29: 16]
{وَإِبْرَاهِيمَ} : الواو عاطفة؛ أي: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه وأرسلنا إبراهيم. حذف كلمة أرسلنا؛ لأنّ المعنى مفهوم من سياق الآيات.
{إِذْ} : ظرف زماني بمعنى حين، أو اذكر إذ قال لقومه.
{قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} : اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه: أي أطيعوا أوامره وتجنبوا نواهيه؛ أي: اتقوا سخطه وغضبه اتقوا نار العزيز الجبار. وقد يسئل سائل كيف يقول لقومه في هذه الآية: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ، وفي سورة الزخرف آية (26){وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ، ولنعلم أن آية العنكبوت جاءت في سياق قومه الذين آمنوا بعد الهجرة، وإسماعيل وذريته الذين كانوا في مكة، والذين دعا الله أن يرزقهم من الثمرات. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (37)، وأما آية الزخرف (26) جاءت في قومه وأبيه قبل الهجرة من العراق إلى الشام.
ولمعرفة معنى العبادة ارجع إلى سورة النّحل آية (73).
والتقوى لغةً: الوقاية والحماية من عضب الله وسخطه وبالتالي من النار، وذلك باتباع أوامره وطاعته سبحانه واجتناب نواهيه، والعبادة تؤدي أو ثمرتها التقوى كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
في هذه الآية عطفت التّقوى على العبادة؛ أي: اعبدوا الله تعالى؛ لتتقوا غضب الله وسخطه وناره، أو اعبدوا الله وحده واتقوه؛ أي: اتقوا أن تشركوا به؛ لأن التّقوى: هي كفُّ النّفس عما نهى عنه الشّارع.
{ذَلِكُمْ} : العبادة والتّوحيد والتّقوى، ولم يقل ذلك وإنما قال: ذلكم؛ للمبالغة وأهمية العبادة والإخلاص والتقوى، ولأنّ الأمر يشمل عدة أمور و (ذلك) تستعمل للأمر الواحد والأقل توكيداً.
{خَيْرٌ لَّكُمْ} : أفضل لكم (على وزن أفعل) من عبادة الأوثان والأصنام أو عبادة غير الله تعالى، لكم: اللام لام الاختصاص؛ أي: لكم خاصة.
{إِنْ كُنتُمْ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.
{تَعْلَمُونَ} : ما فيه صلاحكم وفلاحكم ونجاتكم، أو ما هو خير لكم.
سورة العنكبوت [29: 17]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر والتّوكيد.
{تَعْبُدُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على الاستمرار على عبادتهم للأوثان.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.
{أَوْثَانًا} : جمع وثن، الوثن: كلّ ما يُعبد من غير الله، وليس له جسم أو صورة، فإن كان له جسم أو صورة إنسان أو حيوان فهو صنم.
الأوثان: كلمة عامة تشمل الأصنام، فكل وثن صنم وليس كلّ صنم وثناً.
وقيل: الصنم يصنع من خشب أو معدن كالذهب والفضة والنّحاس، أما الوثن من الحجارة، وما ذبح على النصب هي حجارة؛ أي: أوثان.
{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} : الإفك هو الكذب المتعمد، وتخلقون إفكاً: أي ذا إفك وباطل وتخلقون إفكاً: حين تسمون الأوثان آلهة أو تصفونها بأنها آلهة، وهي ليست بآلهة، وأنها شركاء وتشفع وتقرب من الله، فكل ذلك كذب مختلق ومتعمد.
{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : إن للتوكيد، الّذين تعبدون من دون الله:(من غير الله) من هذه الآلهة والأوثان، وبدل القول ما تعبدون وقال:(الّذين تعبدون)؛ أي: أعطى الأوثان صفة العاقل؛ لأنّهم يعبدونها كأنها تعقل.
{لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} : لا النّافية لكل الأزمنة، يملكون لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة، رزقاً: رزقاً نكرة؛ أي: لا يقدرون على رزقكم بأيّ نوع من أنواع الرّزق (الطّعام والشّراب والمال) لأنّهم لا يملكون القدرة على أيّ شيء، لا يملكون في السّابق ولا الحاضر ولا في المستقبل.
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} : أي اطلبوا من الله وحده الرّزق فهو الرّزاق الكريم، والفاء للتوكيد، وعرّف الرّزق بأل التّعريف؛ أي: رزق الله تعالى. والرّزق لا يعني المال فقط وإنما يشمل العلم والصحة والأهل والولد والأخلاق وغيرها. انظر كيف نكَّر الرزق ثم عرَّفه، نكَّره ليشمل كل أنواع الرزق، وعرَّفه؛ أي: كله من عند الله وحده، وفي سورة الذاريات آية (75) قال تعالى:{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ؛ أي: هو سبحانه غني عنكم وأنتم الفقراء إليه ليرزقكم.
{وَاعْبُدُوهُ} : وحده؛ لأنّه خلقكم فهو ربكم.
{وَاشْكُرُوا لَهُ} : فعل أمر، ولم يقل واشكروه، وإنما قال اشكروا له: اللام في (له) تفيد الاختصاص والإخلاص؛ أي: اشكروا نعمة الله لله؛ أي: لذاته اشكروا المنعم بغضّ النّظر عن كونه أنعم عليكم تلك النّعمة أم لا فهذا هو الأكمل، فشكر النّعمة لا بأس به ولكن شكر الله أفضل وأدوم، وما دام الله فالنّعمة تدوم وتصل إليكم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10): لمزيد من البيان في معنى الشكر.
{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : إليه تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: إليه وحده لا إلى غيره تُرجعون: بضم التاء؛ أي: لا خيار لكم ولا إرادة، تُرجعون إليه بعد البعث للحساب والجزاء. ولو قال تَرجعون: بفتح التاء لكان ذلك يعني الرجوع بإرادتكم ومحبتكم. وهناك فرق بين تُرجعون وقوله تعالى: {تُقْلَبُونَ} كما سيأتي في الآية (21) من نفس السورة. ارجع إلى الآية (21) للبيان.
سورة العنكبوت [29: 18]
{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والشّك.
{تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} : إن تكذبوا بما أعظكم، فلا يضرني تكذيبكم؛ لأنّه قد كذّب أمم من قبلكم، (فقد) الفاء رابطة لجواب الشّرط تفيد التّوكيد، (قد) للتحقيق.
{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ} : ما النّافية. على الرسول: أو الرسل.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : البلاغ: هو إعلامكم بما أنزل إليكم ربكم. والمبين: يعني الواضح البيّن والكامل التام.
انتبه إلى قوله: {فَقَدْ كُذِّبَ} ولم يقل فقد كذبت، كذب تدل على القلة، وكذبت تدل على الكثرة، فلماذا استعمل كذب الّتي تدل على القلة؟ الجواب: لأن الأمم الّتي سبقت قوم إبراهيم قلة مثل قوم نوح وعاد وثمود.
القاعدة: جمع التّذكير يدل على القلة وجمع التّأنيث يدل على الكثرة كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 12-14].
سورة العنكبوت [29: 19]
{أَوَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، والواو في (أولم) تدل على شدة الإنكار (إنكار البعث).
{يَرَوْا} : الرّؤية هنا قلبية؛ أي: يعلموا.
{كَيْفَ} : اسم استفهام وعادة تستعمل للسؤال عن الحال.
{يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} : في كلّ عام أو كلّ مرة كيف يحيي الله الأرض بعد موتها، فمن هو قادر على أن يحيي الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى. ارجع إلى الآية (20) القادمة لبيان الفرق بين بدأ ويُبدئ الخلق.
{ثُمَّ يُعِيدُهُ} : تدل على التّراخي في الزّمن.
{يُعِيدُهُ} : يعيد خلقه أو إحياءه من جديد.
{إِنَّ ذَلِكَ} : إن للتوكيد، ذلك: اسم إشارة يفيد البعد ويشير إلى أن إعادة الخلق (البعث) على الله يسير.
{عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : هيّنٌ وسبحانه، ليس عنده ما هو هيّنٌ أو ما هو صعب فالكل متساوٍ (الخلق أو إعادة الخلق) وذكر يسير أو هيّن هو تبيان للناس على قدر ما تفهم عقولهم، وقوله:(إن ذلك على الله يسير) يقصد بها إعادة الخلق فهم يقرّون بالخلق الأوّل كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزّخرف: 87]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
ففي ميزان البشر إعادة الخلق هو أهون من بدء الخلق، فلمَ يقرّون بأنّ الله قادر على بدء الخلق وليس إعادته!
سورة العنكبوت [29: 20]
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{سِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : السّير الانتقال، الارتحال من مكان إلى مكا ن للسفر والسّياحة، سيروا في الأرض ليس سيروا على الأرض؛ لأنّ الغلاف الجوي المحيط بالأرض يعتبر جزءاً من الأرض.
{فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} : الفاء للترتيب والمباشرة؛ أي: سافروا للتأمّل والتّفكر والعبرة، فانظروا نظرة تأمل وتفكر نظرة قلبية كيف بدأ الخلق؛ أي: لأوّل مرة؛ أي: النشأة الأولى؛ أي: الخلق الأوّل منذ ملايين السّنين، أما لو قال كيف يبدأ الخلق؛ يعني: يكرر ويجدد، وإعادته بعد الخلق الأول كما نرى في إحياء الأرض بعد موتها كلّ عام. ارجع إلى سورة الأنعام آية (11)؛ للمقارنة بين قوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [النمل: 69]، وقوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام: 11].
{ثُمَّ اللَّهُ} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} : يعني البعث: بعث الخلائق يوم القيامة للحساب، وهذه كذلك نظرة قلبية؛ لأنها ستحدث في المستقبل.
الخلاصة عندنا ثلاثة أنواع:
1 -
الخلق الأوّل (بدء الخلق).
2 -
يبدأ الخلق (يعني إعادة الخلق كلّ عام أو كلّ زمن كما في إحياء الأرض، وخلق البشر المستمر).
3 -
النّشأة الآخرة هي البعث للحساب.
وانتبه إلى قوله تعالى: (كيف بدأ الخلق) أضمر أو حذف ولم يذكر الله فقال: (كيف بدأ الخلق)؛ لأنّ الكل ومنهم الكافرون يؤمنون بأن الله هو الخالق كما بيّنّا في آية الزّخرف (87) ولقمان (25) ولكن المصيبة هي عدم إيمانهم بالبعث أو النّشأة الأخرى ولذلك ذكر وأفصح عن اسمه فقال: (ثمّ الله ينشئ النّشأة الآخرة).
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد، على كلّ شيء قدير. ارجع إلى الآية (20) من سورة البقرة للبيان. لا يعجزه خلق أو بعث أو إعادة.
سورة العنكبوت [29: 21]
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} :
كما ورد في الآية السّابقة ينشئ النّشأة الآخرة؛ أي: يبعث الله العباد للحساب والجزاء على أعمالهم فيعذب أهل الكفر والشّرك والمكذبين بالله ورسله والعصاة إذا لم يتوبوا، ويرحم أهل طاعته أو الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات. وبدأ بذكر العذاب في هذه الآية قبل ذكر الرّحمة، وكذلك قدم العذاب على المغفرة في آية أخرى فقط في سياق السارق والسارقة، فقال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]. ارجع إلى تلك الآية لمزيد من البيان. بينما في آيات أخرى يقدّم المغفرة على العذاب كقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]، وقدّم العذاب في هذه الآية؛ لأنّها جاءت في سياق المكذبين بالبعث والمعرضين عن آيات الله، فناسب ذكر العذاب قبل الرّحمة لإنذار هؤلاء الأشقياء.
{وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} : أي وإليه ترجعون.
1 -
تقديم إليه (بدلاً من القول تقلبون إليه) تقديم الجار والمجرور للحصر والقصر؛ أي: إليه وحده تقلبون للحساب والجزاء.
2 -
استعمل (تقلبون) بدلاً من ترجعون؛ لأنّ الرّجوع يكون عودةً للحالة الأولى الّتي خرج فيها أو كان فيها، أما (تقلبون) ففيه معنى الرّجوع ولكن إلى حالة جديدة غير الحالة الأولى، فهم كانوا في الدّنيا وبعد البعث يقلبون للعذاب أو للرحمة إما النّار وإما الجنة، ولو أنّهم يرجعون إلى الدّنيا لقال إليها يرجعون. وأما قوله تعالى:{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للحساب والجزاء، وهكذا قد يكون في الدنيا، أو في الآخرة.
3 -
تقلبون: بغير إرادتكم أو مشيئتكم؛ أي: قسراً وقهراً.
سورة العنكبوت [29: 22]
{وَمَا أَنْتُمْ} : الواو استئنافية، ما النّافية، أنتم: للتوكيد والمخاطب المكذبين الكافرين والمعرضين والعاصين.
{بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ} : الباء للإلصاق والاستمرار، معجزين: جمع معجز وهو الّذي يُعجز غيره؛ أي: يفلت من غيره، وما أنتم بمعجزين في الأرض: نفى عنهم، ليس فقط القدرة على الهرب، بل نفى عنهم حتّى التّفكير بالهرب، فالهرب ليس وارداً بحقهم من أقطار الأرض ولا في الأرض نفسها.
{وَلَا فِى السَّمَاءِ} : تكرار (لا) يفيد توكيد نفي العجز عن كلّ واحدة لا في الأرض ولا في السّماء ولا كلاهما، السّماء: تشمل السّموات السّبع وكل ما علا الإنسان.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} : وما لكم: الواو: عاطفة. ما: نافية. لكم: خاصة المكذبون بالبعث والآخرة في زمن إبراهيم من غير الله تعالى. من: استغراقية تستغرق كل ولي ونصير، والولي: هو القريب الّذي يُعينك ويُكِنّ لك المحبة والمودة، النّصير: هو الّذي ينصرك بالقوة ويدافع عنك، فقد يكون هناك من هو ولي ولا يستطيع أن ينصرك، أو هناك من هو نصير وليس ولياً لك، فالنّفي شمل كلاهما. ارجع إلى سورة البقرة آية (107) لمزيد من البيان.
أوّلاً: لنقارن هذه الآية (22) من سورة العنكبوت: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} مع الآية (31) من سورة الشّورى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} :
نجد أولاً: في سورة العنكبوت أضاف كلمة السّماء إلى الأرض، أما في سورة الشّورى اقتصر على كلمة الأرض، السّبب: الآية في سورة العنكبوت جاءت في خطاب قوم إبراهيم وفي النّمرود الّذي كان يظن أنّه قادر على الصّعود إلى السّماء، فالتحدي في آية العنكبوت أشد من التّحدي في سورة الشّورى، ولذلك أضاف السّماء في العنكبوت وحذفها في الشّورى (خطاب عام).
ثانياً: وفي آية العنكبوت إشارة إلى الصّعود إلى السّماء، وقد رأينا هذا منذ حوالي (50) عاماً حتّى الآن، كيف يصعد روّاد الفضاء إلى السّماء ورغم ذلك فهم غير معجزي الله وهم تحت رحمة الله، وبإذنه يصعدون، وكم تحطم الكثير من المركبات الفضائية ولم ينجو أحد منها.
ثالثاً: إذا نظرنا إلى الآية {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وهناك آية أخرى مشابهة {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} سورة الشّورى الآية (8): فالاختلاف يعود إلى (من دون الله) فحين يذكر (من دون الله) فالآية في سياق الدّنيا والخطاب إلى الأحياء، وحين لا يذكر (من دون الله) فالآية في سياق الآخرة؛ أي: المخاطبون هم أهل الآخرة؛ لأن في الآخرة ليس هناك سواه سبحانه حتّى يتخذوا ولياً أو نصيراً، فلا داعي لذكر (من دون).
سورة العنكبوت [29: 23]
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذم.
{كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : القرآنية والكونية والمعجزات الدّالة على نبوة الرّسل، كفروا: أي لم يؤمنوا بها أو يصدقوها، والباء للإلصاق والتّمسك بالكفر.
{وَلِقَائِهِ} : أي كفروا بالبعث والحساب والدّار الآخرة، ولقاء الله سبحانه والعرض عليه كقوله تعالى:{أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]، وقوله تعالى:{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48].
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد البعد ويفيد الدنو.
{يَئِسُوا مِنْ رَّحْمَتِى} : يئسوا من اليأس: وهو انقطاع الأمل والرّجاء. من رحمتي: عفوي ومغفرتي أو من جنتي.
والمؤمن لا ييأس من روح الله مهما حدث ولا من رحمة الله؛ لأنّه لا ييأس من روح الله (فرج الله) إلا القوم الكافرون كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
{وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : إعادة (أولئك) للتوكيد، لهم عذاب أليم، لهم: اللام لام الاستحقاق والاختصاص، عذاب أليم: في الدّنيا والآخرة شديد الإيلام لا يستطيع أن يطيقه أو يتحمله أحد.
سورة العنكبوت [29: 24]
{فَمَا كَانَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب وما النّافية.
{جَوَابَ قَوْمِهِ} : بعد أن دعاهم لعبادة الله وحده ونهاهم عن عبادة الأصنام، وقوله لقومه: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون، فقد كان جواب قومه جواب المتكبر الجبار الّذي ليس لديه ما يقوله من حجة أو برهان إلا التّهديد والبطش والقتل.
فما كان جواب قومه: أي فما كان رأي قومه؛ لأنّه لم يكن هناك سؤال أصلاً، وإنما جاء رأي قومه الّذي أجمعوا عليه في صورة الجواب.
{إِلَّا} : للحصر.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{قَالُوا} : قال بعضهم لبعض، أو قال أحدهم واستمع الآخرون، أو قال بعضهم: اقتلوه، وبعضهم قالوا: حَرِّقوه، المهم كانوا جميعاً شركاء في الجريمة (القتل أو الحرق).
{اقْتُلُوهُ} : القتل هو هدم بنية الجسم بحيث يصبح غير صالحٍ لسكن الرّوح، فتجبر الرّوح على مفارقة البدن فيحدث الموت.
{أَوْ حَرِّقُوهُ} : (أو) هنا قد تكون للتخيير وقد تعني الإضراب الإبطالي؛ أي: بل حرّقوه.
فأيهما أشد وأبلغ القتل أو الإحراق؟: القتل حتماً نتيجته الموت، والإحراق قد يؤدي إلى الموت أو يبقى الإنسان حياً بعد معالجته.
وأيهما أشد عذاباً طبعاً الإحراق؛ لأنّ ألمه شديد وقد يطول وهو أبشع وسائل القتل.
وحرّقوه، وليس أحرقوه؟ حرّقوه فيها مبالغة في الإحراق؛ أي: أوقدوا له ناراً شديدة لتحرقه، إحراقاً كاملاً رأسه وجسمه ووجهه ويديه ورجليه يؤدي إلى الموت.
{فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} : الفاء للمباشرة؛ أي: أنجاه الله سبحانه مباشرة بعد أن ألقوه في النّار، أنجاه: تدل على سرعة النّجاة، فليس هناك متسع من الزّمن، ولم يقل فنجّاه الّتي تدل على البطء.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إنّ: للتوكيد، في: ظرفية، ذلك اسم إشارة يفيد البعد، لآيات: اللام لزيادة التّوكيد، ولم يقل لآية وإنما آيات: جمع آية؛ أي: عجائب ودلائل وعبر كثيرة خارقة للعقل في إحراق إبراهيم ونجاته من النّار، وكيف أصبحت برداً وسلاماً على إبراهيم، والسّؤال ألم يكن سبحانه قادراً على أن ينجيه قبل حرقه بالهجرة أو بالهرب مثلاً، وكذلك ألم يكن سبحانه قادراً على أن يطفئ النّار حين أشعلوها ولكنه لم يفعل وإنما كانت الآية أنّه سلب من النّار قدرتها على الإحراق وأبدلها ببرد وسلام وهذا في دلالة أكبر على عظم قدرته سبحانه والنّار آية وجند من جنود الله سبحانه.
آيات: دلالات وبينات تدعو إلى الإيمان والتّوحيد وتدل على قدرة وعظمة الخالق، وأنّه هو الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد ويُحمد.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : اللام لام الاختصاص، يؤمنون: ينتفع بها المؤمنون خاصة فتزيدهم إيماناً مع إيمانهم، وقد بيّن الله سبحانه في سورة الصّافات الآية (97-98) كيف تمَّ إحراقه فقال تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} .
سورة العنكبوت [29: 25]
{وَقَالَ} : إبراهيم بعد أن أنجاه الله من النّار ورجع يدعو قومه إلى الإيمان مرة أخرى: إن لم تؤمنوا بكل هذه الآيات الدّالة على عظمة وكمال قدرة الله تعالى.
{إِنَّمَا} : للتوكيد والحصر والقصر على اتخاذ الأوثان من أجل المودة لإظهار حمقهم وسفاهة عقولهم، وكذلك تكبرهم وعنادهم.
{اتَّخَذْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي إنما عبدتم هذه الأوثان مودة بينكم؛ أي:
1 -
لتتوادوا من دون الله، أو للألفة بينكم والتّحابّ لاجتماعكم على مذهب واحد وعقيدة واحدة باطلة هي عبادتها وتعظيمها.
2 -
أو تعني: اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم؛ أي: تودون بعضكم بعضاً بسبب الأوثان.
3 -
أو اتخذتموها مودة لتودّوا آباءكم الأولين وسيراً على منهجهم.
4 -
أو تحبوها حباً شديداً لا أنها لا تضر ولا تنفع.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ} : أي هذه المودة بينكم وبين بعض، بينكم وبين هذه الأوثان أو بينكم وبين آبائكم الأولين، وكلّ هذه الصّلات والرّوابط في هذه الحياة الدّنيا ستزول وتنقطع يوم القيامة ولا يقف الأمر عند ذلك بل سيكفر بعضكم ببعض؛ أي: سيتبرأ بعضكم من بعض؛ أي: القادة من الأتباع أو الّذين استكبروا من الّذين استضعفوا.
{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} : يلعن الأتباع المتبوعين ويلعن الرؤساء الضعفاء، ويلعن عبدة الأوثان الأوثان، واللعن: الدّعاء بالبعد والطّرد من الخير أو رحمة الله والدّعاء عليهم بالعذاب.
{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} : مكانكم ومستقركم ومنزلكم النّار، والمأوى اسم مكان من: أوى يأوي، والمأوى: المنزل.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} : ناصرين: جمع نصير، نصير: صيغة مبالغة، والنصير: أقوى من الناصر. ما للنفي، لكم: اللام لام الاختصاص، لكم عبدة الأوثان، من: استغراقية تستغرق؛ أي: تشمل كل نصير؛ أي: لا نصير ولا ناصر ينصرونكم من عذاب الله؛ أي: يمنعونكم أو يشفعوا لكم أو يخففوا عنكم العذاب، وكما قال في آية أخرى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزّخرف: 67]. فالمودات تنقلب إلى عداوات إلا المحبة في الله فهي التي تدوم في الدّنيا والآخرة.
سورة العنكبوت [29: 26]
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، آمن له مباشرة بعد أن نجا من النّار، آمن له: ولم يقل آمن به، آمن له تعني: صدّقه، صدّق نبوته؛ أي: صدّق لوط بإبراهيم مباشرة وهو أوّل من آمن بإبراهيم، وقيل: كان لوط ابن أخيه.
{وَقَالَ إِنِّى} : أي إبراهيم، قال إنّي: للتوكيد.
{مُهَاجِرٌ} : قال ذلك بعد أن نجا من النّار، مهاجر: يعني أنّه لم يهاجر برغبته وإنما آذاه قومه فاضطر إلى الخروج؛ أي: مرغم على الهجرة، أما هجر تعني: تركها برغبته ولم يُجبر على الخروج.
{إِلَى رَبِّى} : إلى حيث أمرني ربي أو مهاجراً امتثالاً لأوامر ربي الّذي أمرني بالهجرة، مهاجر من الكوفة في العراق إلى بلاد الشّام وكان عمره حوالي (75) ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، وقيل: هو أوّل من هاجر في سبيل الله.
{إِنَّهُ هُوَ} : إنّه للتوكيد، هو: للتوكيد والحصر.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر والممتنع.
{الْحَكِيمُ} : في تدبير شؤون خلقه وكونه، والحكيم من الحكمة فهو أحكم الحكماء وأحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) للبيان المفصل.
سورة العنكبوت [29: 27]
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} : الواو: واو العطف والجمع؛ أي: وهبنا لإبراهيم إسماعيل من قبل، ووهبنا له إسحاق ويعقوب، وإسحاق ابن إبراهيم، ويعقوب الحفيد (ابن إسحاق)، الهبة: عطية تفضُّل من الواهب إلى الموهوب له، الواهب هو الله تعالى، الموهوب إبراهيم عليه السلام؛ لأنّ سارة كانت عجوزاً عقيماً. ارجع إلى سورة ص آية (30) وسورة إبراهيم آية (39): لمزيد من البيان.
{وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} : كلّ الأنبياء والرّسل الّذين جاؤوا من بعد إبراهيم كانوا من ذرية إبراهيم ومنهم إسماعيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب: اسم جنس يعني التّوراة والإنجيل والقرآن والزّبور كلها أنزلت بعده، وأنزلت على ذريته من الأنبياء والرسل.
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} : وآتيناه: من الإيتاء وهو: العطاء بدون تملك والإيتاء للأشياء المادية والمعنوية، لمعرفة الفرق بين الإيتاء والعطاء ارجع إلى (251) من سورة البقرة للبيان. أجره في الدّنيا؛ والأجر: هو جزاء على العمل في الدعوة والتبليغ بالصلاة عليه والثّناء الحسن والذّرية الطّيبة والنّبوة وعلوّ القدر، الأجر في الدّنيا يكون مقابل التّبليغ والدّعوة، وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين: إنّه للتوكيد، واللام في (لمن) لزيادة التّوكيد. الصالحين: ارجع إلى سورة البقرة آية (130) لبيان معنى الصالحين. وإذا قارنا هذه الآية: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا} ، وقوله تعالى في الآية (122) من سورة النحل:{وَآتَيْنَاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} : نجد هناك اختلافين: الأول: الأجر مقابل الحسنة، والثاني: تقديم الأجر على الدنيا، وتقديم الدنيا على الحسن أولاً الأجر أعم من الحسنة؛ الحسنة نوع من أنواع الأجر، وجاء الأجر في آية العنكبوت في سياق الدعوة إلى الله والتبليغ، وجاءت الحسنة في النحل لكونه شاكر لأنعم الله، وتقديم الدنيا على الحسنة؛ أي: حسنة تخص الدنيا، أو ينالها في الدنيا، وأما الأجر فليس خاص بالدنيا فقط، بل الدنيا والآخرة.
سورة العنكبوت [29: 28]
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} : أي واذكر إذ قال لوط لقومه أو حين قال لوط لقومه.
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} : إنكم تفيد التّوكيد، واللام في لتأتون لزيادة التّوكيد.
{الْفَاحِشَةَ} : إتيان الرجال شهوة من دون النساء.
{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} : ما النّافية، سبقكم بها: ما فعلها أو قام بها أحدٌ من قبلكم، من: استغراقية، أحد: للتوكيد، من العالمين: الإنس والجن.
سورة العنكبوت [29: 29]
{أَئِنَّكُمْ} : الهمزة للاستفهام والإنكار والتّوبيخ على فعلهم الفاحشة، وتكرار أئنّكم لتأتون الفاحشة أئنكم لتأتون الرّجال: توكيد لتقبيح عملهم وذمهم وتوبيخهم، أنكم: للتوكيد.
{لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} : اللام في لتأتون لزيادة التّوكيد، تأتون الرّجال شهوة.
{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} : تقطعون الطّريق على المارّة بالاغتصاب وسلب أموالهم، أو بالفاحشة أو قطع النّسل للعدول عن النّساء إلى الرّجال.
{وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} : النّادي: مشتقة من الفعل ندا، يندو: مجلس تجمّع القوم للحديث واللعب والمشاورة وغيرها، المنكر: كلّ ما خالف الشّرع يقال له: منكر من قول وفعل مثل: فعل الفاحشة مجاهرة، وسوء الخلق والعُري، والسّخرية من المارة والصفير، وتشبّه الرجال بالنّساء والنّساء بالرّجال وغيرها من الأعمال الّتي تخالف الفطرة السّليمة من العادات القبيحة.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} : الفاء تدل على المباشرة، ما النّافية، جواب قومه: ردّ قوم لوط.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} : قالوا ذلك استهزاءً وكفراً وتحدياً للوط عليه السلام، وظناً منهم أنّ الله لم يحرّم عليهم تلك الفاحشة أو تلك الفواحش والمنكرات.
{إِنْ كُنْتَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو النّدرة.
{مِنَ الصَّادِقِينَ} : فهم غير متأكدين من صدقه، ولذلك لم يُخفهم التّهديد والوعيد بالعذاب. وفي سورة النمل آية (56):{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، كيف نجمع بين الآيتين، نجمع بينهما بالقول عند التشاور، قال فريق: أخرجوه من قريتكم، وفريق قال: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.
سورة العنكبوت [29: 30]
{قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} :
قال لوط: ربّ انصرني على القوم المفسدين في الأرض بفعل الفاحشة والمجاهرة بها وارتكاب المعاصي وقطع السّبيل، على: تفيد الاستعلاء والمشقّة، المفسدين: جمع مفسد، بقطع الطّريق وارتكاب المعاصي والفاحشة والمنكر، والمفسدين: جملة اسمية تدل على ثبوت فعل الفساد فيهم، فهم كانوا فاسدين في أنفسهم ومفسدين غيرهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (251): للبيان.
سورة العنكبوت [29: 31]
{وَلَمَّا} : ظرفية زمانية بمعنى: وحين، متضمن معنى الشّرط.
{جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} : بالبشرى بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب (الحفيد)، رسلنا: أي ملائكتنا، ولم يذكر البشرى في هذه الآية وإنما ذكرها في آيات أخرى فقال تعالى:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذّاريات: 28]، بالبشرى: والبشرى هي الخبر السّار لأوّل مرة. ارجع إلى سورة النّحل آية (89) لمزيد من البيان.
{قَالُوا} : أي رسلنا (الملائكة).
{إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} : إذن هم جاؤوا لإهلاك قرى لوط، وفي طريقهم مروا على إبراهيم عليه السلام وبشروه بإسحاق ويعقوب، وأخبروا إبراهيم بما سيحل على قوم لوط من العذاب، القرية هنا قرية سدوم وهي المركز أو العاصمة لقوم لوط وتمثل بقية قرى قوم لوط، والتي سماها الله سبحانه (المؤتفكات) [الحاقة آية: 9]، وفي سورة النجم آية (53) سماها (المؤتفكة أهوى).
مهلكو أهل القرية بما قدمت أيديهم حين خرجوا عن منهج الله وارتكبوا الفاحشة الّتي ما سبقهم بها من أحد من العالمين.
{إِنَّ أَهْلَهَا} : إنّ للتوكيد، أهلها: سكان هذه القرية.
{كَانُوا ظَالِمِينَ} : لأنفسهم بارتكاب الفاحشة الّتي حرمها الله على العالمين والفساد في الأرض بقطع الطّريق وإتيان المنكر في ناديهم. ظالمين: جملة اسمية تفيد الثبوت؛ أي: مستمرين بالظلم.
سورة العنكبوت [29: 32]
{قَالَ} : قال إبراهيم للملائكة.
{إِنَّ فِيهَا لُوطًا} : ولوط عليه السلام لم يكن من أهل هذه القرية بل كان مهاجراً إليها وهو فيها الآن حاضراً؛ لذلك لم تشمله الآية السّابقة (مهلكو أهل هذه القرية) ويبدو أنّ إبراهيم عليه السلام شُغل بقصة لوط ولم يسأل عن البشرى.
{قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ} : قالوا: الملائكة (الرّسل)، نحن أعلم: على وزن أفعل، وصيغة مبالغة للعلم.
{بِمَنْ فِيهَا} : الباء للإلصاق، من اسم موصول بمعنى الّذي فيها؛ وهو لوط، وفيها: ظرفية مكانية.
{لَنُنَجِّيَنَّهُ} : اللام والنّون للتوكيد؛ أي: لوط وأهله.
{وَأَهْلَهُ} : ابنتيه.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : امرأته: إذن هي من أهله، ولكنه استثناها منهم وقال امرأته، ولم يقل زوجته. ارجع إلى سورة القصص آية (9) للبيان. الباقين في العذاب في حكم الله وعلمه الأزلي، ارجع إلى سورة النّمل الآية (57): للبيان.
سورة العنكبوت [29: 33]
{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين متضمنة الشّرط.
{أَنْ} : هنا تدل على طول الزّمن أو التّراخي في الزّمن؛ أي: كأنه كان ينتظر بفارغ الصبر وقد طال الانتظار لمجيء هؤلاء الرّسل لإهلاك قوم لوط الّذين تمادوا في فعل الفاحشة.
{جَاءَتْ رُسُلُنَا} : أي الملائكة الّذين قدموا من عند إبراهيم.
{لُوطًا سِاءَ بِهِمْ} : أي أصابه السّوء بمجيئهم حين رآهم قادمين عليه، أحزنه، ساءه مجيئهم بدل أن يفرح ويسعد بهم (لأنّه لا يعلم أنّهم ملائكة) لأنّهم قدموا عليه بصورة بشر شبان حسان المنظر.
{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} : أي اشتد عليه الشّعور بالضيق في صدره من مجيء الرسل إليه والخوف عليهم من قومه وظن أنه غير قادر على حمايتهم من قومه عندئذٍ أخبروه بقولهم: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]. وأصل ضاق ذرعاً؛ أي: ذراعه ليصل إلى شيء فلم يستطع.
{وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} : الخوف هو توقع الضّرر المشكوك في وقوعه، لا: النّاهية، تخف من قومك علينا؛ لأنّهم لن يصلوا إليك، ولا تحزن: الحزن: هو الألم النّفسي المستمر، وتكرار لا يفيد توكيد النّفي بعدم الحزن وبعدم الخوف وبكلاهما.
{إِنَّا} : بصيغة الجمع للتعظيم.
{مُنَجُّوكَ} : من النّجاة، منجّوك تدل على الثّبوت، وهناك فرق بين النّجاة والفوز، فالنّجاة: هي الخلاص من المكروه، وأمّا الفوز فهو الخلاص من المكروه والوصول أو الحصول على المحبوب.
{وَأَهْلَكَ} : الأهل: عادة تطلق على الزوجة والأولاد، وهنا استثنى الزّوجة.
{إِلَّا امْرَأَتَكَ} : إلا أداة استثناء، وقال: امرأتك بدلاً من (زوجتك) لأنّ: الزوج يطلق على الذكر والأنثى وهما زوجان، وهما زوج كلّ؛ أي: منهما يماثل الآخر.
ولأنّها كانت تخالف لوطاً في الدّين والإيمان ولذلك بدل اسم الزّوجة إلى امرأة. من خصوصيات القرآن استعمال كلمة المرأة إذا كانت الزوجة تخالف زوجها في الدّين أو العادات ويستعمل الزّوجة إذا كانت تحاكي زوجها في الدّين وغيره وليس فيها مرض أو عيب خَلقي. ارجع إلى سورة القصص آية (9) لمزيد من البيان.
{كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : الباقين في العذاب من: غبر، ولها معنيان:
الأول: مضى، والثاني: بقي، فما دامت بقيت مع أهل قريتها فهي أصبحت من الهالكين.
سورة العنكبوت [29: 34]
{إِنَّا} : بصيغة الجمع للتعظيم، الملائكة يخبرون لوطاً بما سيفعلون بأهل هذه القرية والقرى الأخرى المماثلة.
{مُنْزِلُونَ} : الله سبحانه هو المنزل وهم رسل الله تعالى.
{عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} : سدوم وأخواتها (المؤتفكات).
{رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} : الرّجز: العذاب من السّماء وهو إنزال الحجارة من سجيل منضود، رجزاً بصيغة النّكرة للتهويل. ارجع إلى سورة الحجر آية (74)، وسورة هود آية (82).
{بِمَا كَانُوا} : الباء للإلصاق والملازمة، باء السّببية، ما مصدرية.
{يَفْسُقُونَ} : الفسق: هو الخروج عن طاعة الله تعالى بفعل الفاحشة، وبصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد وتكرار الفسق. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لبيان معنى الفاسقين.
سورة العنكبوت [29: 35]
{وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام لام التّوكيد، قد: للتحقيق.
{تَّرَكْنَا مِنْهَا} : تركنا منها: أي من القرية بعض الآثار الدّالة على تدمير قوم لوط الّتي تعتبر:
{آيَةً بَيِّنَةً} : دليلاً وبرهاناً واضحاً على أنّ عذابه هو العذاب الأليم الشّديد، قيل: إنّ جبريل اقتلع القرية من جذورها من الأرض، ثمّ رفعها إلى عنان السّماء، ثمّ قلب عاليها سافلها، ثمّ تركها تهوي على الأرض، ثمّ أمطر الله سبحانه عليها؛ أي: على أهلها، حجارة من سجيل منضود.
ولنعلم أنّ الدراسات الحديثة بيّنت أن هناك بعض الآثار الدّالة على تلك الحجارة من سجيل الّتي اكتشفت في ديار قوم لوط كما يظن بعض علماء الآثار، وتبيّن من تركيبها أنّها حجارة لا تخصّ الأرض. كريات من حجر الكبريت الخالص مدفونة في منحدرات صخرية على خواف البحر الميت، ووجود عظام محروقة هائلة العدد قد يكون لها علاقة بقوم لوط، أو لا الله أعلم.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : اللام لام الاختصاص، يعقلون: يتفكرون بالأسباب والنّتائج فيدركون الحقيقة فيتجنبوا تلك الفاحشة؛ لئلا تكون عاقبتهم مثل عاقبة قوم لوط، ارجع إلى سورة الحجر الآيات (74-77): لمزيد من البيان.
سورة العنكبوت [29: 36]
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} : أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً، ارجع إلى الآية (84) من سورة هود للبيان. اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، والعبادة: هي طاعة الله (المعبود) فيما أمر ونهى عنه ولا تكون إلا للخالق، ارجع إلى الآية (73) من سورة النحل لمزيد من البيان.
{وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} : أي آمنوا باليوم الآخر بالبعث والحساب واستعدّوا له وخافوه من سيئات أعمالكم وخافوا أهواله وأحداثه.
{وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} : لا النّاهية، تعثوا: من العثي: وهو أشد الفساد؛ أي: لا تبغوا الفساد في الأرض وتتمادوا فيه بإنقاص المكيال والميزان والبغي والكفر وارتكاب المعاصي، وإهلاك الحرث والنّسل انتهوا خيراً لكم، وقوله:(ولا تعثوا في الأرض) تعني: لا تفسدوا قليلاً ولا كثيراً؛ أي: لا تفسدوا في الأرض بكل أشكال الفساد وبنية أو بغير نية؛ أي: قصد، وقوله:(مفسدين): حال مؤكدة، ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للمزيد من البيان.
سورة العنكبوت [29: 37]
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :
{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، كذّبه قومه ولم يصدّقوا ويطيعوا ما أمرهم به أو نهاهم عنه، وأصرّوا على ذلك ولم يتوبوا.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : الأخذ يعني: الانتقام بشدة وبقوة، والأخذ يعني: الهلاك؛ أي: أهلكتهم الرّجفة الزّلزلة الشّديدة العظيمة، والفاء: تعليلية أو سببية.
انتبه إلى الفرق بين الرّجفة والزّلزلة: الرّجفة: هي الزّلزلة الشّديدة الّتي يصاحبها انفجار شديد في باطن الأرض، فالزّلازل ثلاثة أنواع أو أشكال حسب تحرك الصّفائح القاريّة تحت البحار.
الزّلازل السّطحية أقل من (60) كم والمتوسطة يتراوح عمقها (60-300) كم والعميقة الّتي يصل عمقها إلى (700) كم.
{فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : الفاء للمباشرة، أصبحوا: صاروا، في: ظرفية، دارهم: بلدهم أو ديارهم؛ أي: مساكنهم أو منازلهم، جاثمين: جمع جاثم: اسم فاعل من فعل جثم، والجاثم: هو من لزم مكانه فلم يبرحه، لم يكن هناك أيّ زمن حتّى ليتحرك خطوة إلى الأمام أو الخلف ليحاول النّجاة أو الهرب، فظل على حاله هلك وهو واقف أو قاعد أو نائم.
سورة العنكبوت [29: 38]
{وَعَادًا وَثَمُودَ} : وعاداً: الواو لمطلق الجمع وليس للترتيب؛ لأنّ عاد وثمود جاؤوا قبل مدين.
{وَعَادًا وَثَمُودَ} : أي وأهلكنا عاداً وثموداً، أو اذكر عاداً وثموداً؛ أي: قبيلة عاد: قوم هود ونبيهم هود عليه السلام، سكنت جنوب اليمن حضر موت (الأحقاف)، وقبيلة ثمود: قوم صالح ونبيهم صالح عليه السلام، سكنت في الحجر في بلاد الأردن شمال الحجاز.
{وَقَدْ} : قد: للتحقيق والتّوكيد.
{تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَّسَاكِنِهِمْ} : تبيّن لكم من مساكنهم الخالية أو الخاوية على عروشها، إهلاكهم؛ أي: ظهر لكم يا أهل مكة وغيرهم من آثارهم كيف فعلنا بهم وانتقمنا منهم.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} : من الكفر والشّرك والمعاصي، زين: من التّزيين: ارجع إلى الآية (4) من سورة النّمل للبيان. زين لهم الشّيطان أعمالهم بالوسوسة والتّزيين؛ لكي يرى الباطل حقاً والحق باطلاً والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، وزيّن لهم الفاحشة والمعاصي باللذة الزّائلة، والشّرك والفساد في الأرض، وجحد نِعم الله عليهم والظّلم والطّغيان.
{فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} : الإيمان بالله تعالى وطاعته وتوحيده ودينه.
{وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} : جمع مستبصر من فعل: استبصر، كانوا ذوي عقول وبصائر ومعرفة ببناء المدن والمصانع والقصور، ولكن لم يستفيدوا من عقولهم وبصائرهم فعموا وصمّوا، أو لم يعلموا عاقبة أمرهم من العذاب الّذي ينتظرهم.
سورة العنكبوت [29: 39]
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} : أي وأهلكنا قارون وفرعون وهامان، وقارون: أهلكناه بالخسف، خسفنا به وبداره الأرض؛ لبغيه في الأرض وكفره، وقدّم قارون على فرعون وهامان؛ لأنّه كان عالماً بالتّوراة وابن عم موسى وكان من المستبصرين أيضاً، ولكن كلّ ذلك لم ينفعه، وفرعون وهامان: أغرقناهما. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون (الأب رمسيس الثاني) أم الابن فرعون (الخروج)؟ ويبدو في هذه الآية أنه فرعون الخروج؛ أي: الابن، وارجع إلى سورة القصص آية (6) للتعرف على هامان.
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} : بالآيات التّسع والحجج الدّالة على قدرة الله وعظمته ووحدانيته، الباء للإلصاق والملازمة.
{فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، استكبروا؛ أي: أظهروا تكبّرهم وعظم شأنهم فلم يؤمنوا بموسى وآياته بل طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وقال فرعون: يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.
{وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} : ما النّافية، كانوا سابقين: جمع: سابق، من: سبق وتسابقا وسابقوا، والسّابق يقتضي مسبوقاً، فالله سبحانه سابق كلّ حي أو كائن؛ أي: لا يفوته شيءٌ ولا أحدٌ من العالمين بالهرب أو الإفلات من الحساب، أو البعث والجزاء والعذاب أو العقاب، فقارون وفرعون وهامان وغيرهم لم يكونوا فائتين من العذاب أو معجزين أو ناجين.
سورة العنكبوت [29: 40]
{فَكُلًّا} : الفاء للتوكيد، كلّاً؛ أي: كلّ واحد ممن ذكروا من المكذبين، والتّنوين عوضٌ عن القول: وكلّ واحد ممن ذكروا.
{أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} : أهلكناه وعاقبناه بذنبه، الباء للإلصاق باء السّببية أو البدلية بسبب ذنبه، والأخذ فيها معنى القوة والشّدة؛ وتعني: العقاب بشدة وبقوة، وتقديم المفعول على الفعل للاهتمام وبدلاً من القول: وأخذنا كلاً بذنبه قال: فكلاً أخذنا بذنبه.
{فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} : أمثال قوم لوط قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34]، وكذلك الرّيح العقيم العاصف حينما تهبُّ تحمل الحصى والحجارة وتقلع النّاس.
{وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} : ومنهم من أهلكته وقضت عليه، الصّيحة: صوت الانفجار الّذي يصاحَبَ الرّجفة كما حدث لثمود ومدين. ارجع إلى سورة الأعراف آية (78): لبيان معنى الصّيحة.
{وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} : كقارون.
{وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} : كفرعون وقوم نوح.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ} : ما النّافية. كان: تشمل كل الأزمنة.
{لِيَظْلِمَهُمْ} : اللام لام التّعليل؛ أي: ليعذّبهم بدون ذنب أو سبب.
{وَلَكِنْ} : حرف استدراك وتوكيد.
{كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : يظلمون أنفسهم بالشّرك والكفر وارتكاب المعاصي والكبائر، والفساد والبغي في الأرض بغير حق، يظلمون: بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد والتّكرار.
سورة العنكبوت [29: 41]
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} : المثل: الصفة كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]؛ أي: صفة الجنة، وتضرب الأمثال لإزالة الغموض، فمثل الكفار أو المشركين الّذين اتخذوا أولياء مع الله؛ أي:(شركاء آلهة أو أصناماً).
{كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ} : (الأنثى دون الذّكر) هي المسؤولة عن بناء بيت العنكبوت المنسوج من خيوط الحرير الّتي تصنعها بنفسها من مادة الحرير، فقد اكتشفت العلماء أنّ للعنكبوت غدتين: غدة تفرز الحرير لتصنع منها خيوط الحرير، وغدة أخرى تفرز مادة سامة جداً تقتل بها الحشرات أو ما تصطاده.
{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : فقد كانوا يظنون قديماً أنّ بيت العنكبوت هو أوهن البيوت؛ أي: أضعف البيوت؛ لأنّ الرّيح إذا هبّت عليه يتطاير ويتهدّم ولا يقي من أذى الحر أو البرد، وأنّ حشرة العنكبوت ضعيفة، وتبيّن حديثاً أنّ كلّ هذه المعلومات غير صحيحة وبالعكس إنّ حشرة العنكبوت لها أكثر من (30 ألف) نوع من العناكب (تقرير من العلوم الحية)، وأنّ الأنثى تفرز مادة سامة تؤثر في فريستها فتصيب الجهاز العصبي مما يؤدي إلى شلل الفريسة بعد أن تُصعق ثمّ تموت، ثمّ تقوم حشرة العنكبوت بإحضار الفريسة إلى العش وبالتّالي تتغذى بها، وتبين أنّ خيوط الحرير الّتي تنسجها لصناعة العش من أقوى الخيوط، فهي تعادل (5) أضعاف الفولاذ؛ أي: الحديد، وتبين أنّ الله سبحانه وصف بيت العنكبوت بأوهن البيوت؛ لأنّ الأمّ أنثى العنكبوت بعد أن تبني بيتها وتلد ويكون لها أولاد وزوج؛ أي: عائلة، إذا ضاقت عليها السّبل ولم تجد ما تأكله تفترس أولادها وزوجها بعد أن تصعقهم بسمها القاتل وتقضي عليهم، فأيّ بيت أوهن وأقبح من هذا البيت الّذي ليس فيه سكن وأمن وطمأنينة؟!
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : لو كان هؤلاء الّذين يتخذون من دون الله أولياء يعلمون أنّ حالهم في عدم الانتفاع من أوليائهم كحال أنثى العنكبوت، الّتي سرعان ما تقضي على أولادها ورب بيتها لتتغذى بهم حين تضيق بها سبل العيش وتكون سبب هلاكهم وخسرانهم وضياعهم.
سورة العنكبوت [29: 42]
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
ليعلم، أو إن قل للكفرة والمشركين والّذين اتخذوا أولياء من دون الله.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد. الله سبحانه واجب الوجود الإله الحق المعبود.
{يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} : يعلم ما يعبدون من دونه وما يشركون به، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أو استفهامية، وما: أوسع شمولاً من الذي.
{مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ} : من ابتدائية من غيره، من شيء: من استغراقية تستغرق وتشمل كلّ شيء مهما كان نوعه (شيء نكرة) وشيء هو أقل القليل. شيء؛ أي: صنم أو وثن.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، وله العزة جميعاً عزة القوة وعزة الغلبة وعزة القهر.
{الْحَكِيمُ} : أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين في كلّ ما قضى وأمر ووصى ونهى، وأحيا وأمات، وأهلك وعفا وغفر، في خلقه وكونه وشرعه أحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة العنكبوت [29: 43]
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} :
{وَتِلْكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.
{الْأَمْثَالُ} : جمع: مثل، والمثل تعريفه: ارجع إلى الآية (74) من سورة النّحل.
{نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} : اختار سبحانه كلمة (نضربها) بدلاً من نتلوها أو نقصّها؛ لأنّ الضّرب فيه تهييج للنفوس والتّأثير فيها، وكأن ضارب المثل يقرع به آذان السّامع وينفذ بعد ذلك أثره إلى القلب أملاً في تنبيه وهداية السّامع إلى الصّراط المستقيم، وتبيان الحق، وإزالة الغموض.
{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} : العالمون: جمع عالم، والعالمون أعلى درجة وأشرف، وهم قمة العلم، وأمّا العلماء وهي: جمع عالم أيضاً، ولكنهم علماء بجزئية معينة أو واحدة، أو يعلمون ظاهراً من الحياة الدّنيا.
ما النّافية، يعقلها: أي ما يفهم ويدرك حقيقتها ومعناها وما تنطوي عليه من أسرار الخلق وعظمة الخالق وقدرته إلا العالمون، إلا: أداة حصر، العالمون: العالمون بالله سبحانه أو العالمون بدين الله وكتابه وشريعته وأحكامه، والعالمون جمع مذكر سالم، والعلماء جمع تكسير، ومعلوم لدينا أن جمع المذكر السّالم هو أفضل وأشرف وأعلى من جمع التكسير.
سورة العنكبوت [29: 44]
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} :
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق والمصاحبة، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدل؛ أي: بالدقة الفائقة والقوانين الثّابتة الّتي تحكم السّموات والأرض وما فيها من أجرام ومجرّات ونجوم وكواكب ثابتة لا تصطدم ببعضها رغم اختلاف حجمها وأبعادها منذ (13، 5 مليار سنة) وهذا عمر الكون كما قدره علماء الفلك، وعمر الأرض قدره علماء الفلك بـ (4، 5 مليار سنة). ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30)، وسورة الأعراف آية (54)، وفصلت آية (10-11).
{إِنَّ} : للتوكيد.
{فِى ذَلِكَ} : أي في خلق السّموات والأرض بالحق لآية للمؤمنين.
{لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام لام التّوكيد والتّعليل، للمؤمنين: اللام لام الاختصاص؛ أي: كونه خلق السّموات والأرض فهذه علامة ودلالة واضحة وبينة على أنّه هو الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد ويُطاع، وما دونه هو الباطل.
سورة العنكبوت [29: 45]
{اتْلُ} : اتلُ من: التّلاوة وهي القراءة من كتاب الله الكلمة بعد الأخرى، والفرق بين التّلاوة والقراءة: التّلاوة تكون من الكتب المنزلة، وهي أخص من القراءة فكلّ تلاوة قراءة وليس كلّ قراءة تلاوة، والتّلاوة لها أجر كلّ حرف بعشر حسنات، والقراءة العادية ليس لها أجر، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أمته صلى الله عليه وسلم.
{مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أوحي إليك: أوحي إليك عن طريق جبريل عليه السلام، والوحي في اللغة: الإعلام بالخفاء، وفي الشّرع: ما يُلقي الله سبحانه من آيات وتعاليم ووعد ووعيد، ارجع إلى سورة النّساء آية (163): لمزيد من البيان في معنى الوحي.
{مِنَ الْكِتَابِ} : من ابتدائية استغراقية، الكتاب: القرآن وسمي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في السّطور. و (ما) أعم وأشمل من (الّذي) فالوحي قد يشمل القرآن وغيره مثل الأحاديث القدسية وغيرها. وأل التعريف تدل على الكمال.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} : أي أتمم وأكمل الصّلاة بشروطها وأركانها وواجباتها، وسننها وخشوعها ولأوقاتها.
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} : إنّ للتوكيد، الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: هذا مقصد من مقاصد إقامة الصّلاة وهدف وثمرة من ثمراتها؛ أي: أنّ صلاة العبد تذكِّره وتنهاه عن فعل الفحشاء. والفحشاء: هي كلّ ما اشتد قبحه من الأفعال والأقوال، أو كلّ معصية لها حد في الدّنيا، والبدعة والزّنى والمعاصي، والمنكر: كلّ ما أنكره الشّرع وأنكره الطّبع السّليم مثل الشّرك، والبدعة، ويستحق فاعله النّار فإذا لم تنهه عن ذلك فصلاته فيدل ذلك على أنها لم تؤثر في سلوكه، فيجب التوبة إلى الله ومراقبة الله والخوف منه.
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} : الذّكر أي الصّلاة أو الذّكر العادي من تسبيح وحمد وتهليل وثناء، وذكر الله له عدة معانٍ:
أوّلها: ذكر الله لعبده أكبر من ذكر العبد لربه كقوله: اذكروني أذكركم، فذكر الله لعبده في الملأ الأعلى (الملائكة) وذكر الله لعبده بالثّواب والرّحمة والأجر أكبر وأعظم من ذكر العبد لربه.
ثانياً: ذكر الله تعالى في الأوقات خارج الصّلاة أكبر من ذكر الله في الصّلاة؛ لأنّك في الصّلاة مستعد ومهيَّأ، ولكن حين تذكر الله تعالى في أوقات الشّغل والحركة وأوقات التّعب أكبر، أو أكثر ثواباً ودرجة عند الله تعالى.
ثالثاً: ولذكر الله تعالى أكبر من كلّ شيء آخر من سائر الأعمال الأخرى؛ أي: هو أفضل الطّاعات.
رابعاً: ولذكر الله تعالى أكبر عند الهمِّ بفعل الفاحشة أو المنكر ثمّ الامتناع عن القيام بها؛ لأنّه ذكر ربه و {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23]، وقد تعني كلّ هذه المعاني معاً.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} : ولم يقل يعلم ما تعملون أو تفعلون؛ لأن فعل الفحشاء والمنكر وارتكاب المحرمات يحتاج إلى خبرة وجرأة وحيلة، فهي أفعال نادرة ليست عادية، وشبهها بالصنعة الّتي تحتاج إلى من يتقنها.