الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العنكبوت [29: 46]
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} : الواو استئنافية، لا النّاهية، تجادلوا أهل الكتاب: الجدال هو الحوار الّذي يحدث بين طرفين أو أطراف، ويكون لدفع شبهة أو إثبات حق أو إظهار حُجة، ويجب أن يكون له هدف أو غاية وهي إظهار الحق وإبطال الباطل، وإخراج الإنسان من الكفر إلى الإيمان وليس مجرد جدال لا فائدة منه، أهل الكتاب: أهل التّوراة والإنجيل؛ أي: اليهود والنّصارى.
{إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : إلا تفيد الحصر، فقط جادلوهم بالّتي هي أحسن: أفضل، وهي الحكمة والموعظة الحسنة والرّفق واللين، كما قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : إلا أداة حصر، ظلموا منهم: بالشّرك أو أظهروا لكم العداء والمحاربة، عندها جادلوهم بالمثل.
{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا} : آمنّا؛ أي: صدّقنا وآمنّا بالله وملائكته وكتبه ورسله إيمان عقيدة، والّذي أنزل إلينا؛ أي: بالقرآن.
{وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} : أي التّوراة والإنجيل، ولا يدخل في ذلك ما حرّفوه أو بدّلوه.
{وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} : الإله: مشتقة من أَلَّه؛ أي: عَبَدَ، فيكون الإله هو المعبود، واحد؛ أي: لا شريك له ولا ولد ولا ندَّ ولا مثيل. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : مخلصون موحدون منقادون مطيعون، ومسلمون: جملة اسمية تفيد الثّبوت والاستقامة على ذلك.
سورة العنكبوت [29: 47]
{وَكَذَلِكَ} : أي مثل ما أنزلنا الكتب السّماوية السّابقة الزّبور والتّوراة والإنجيل أنزلنا إليك الكتاب؛ أي: القرآن.
{أَنزَلْنَا} : من أنزل؛ وتعني: جملة واحدة دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، كما أنزلنا الكتب الأخرى التّوراة والإنجيل دفعة واحدة على موسى وعيسى، ولو قال نزّلنا، لكان يعني منجّماً على دفعات. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمعرفة الفرق بين أنزل ونزل.
{إِلَيْكَ} : وليس عليك، ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة للبيان.
{الْكِتَابَ} : أي القرآن، ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : الذين: للجمع أمثال عبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتاب الّذين آمنوا بالرّسول صلى الله عليه وسلم. ولم يقل: فالذين أوتوا الكتاب؛ لأن الذين آتيناهم الكتاب في القرآن تأتي في سياق التكريم والمدح مقارنة بالذين أوتوا الكتاب تأتي في سياق أو مقام الذم.
{يُؤْمِنُونَ بِهِ} : بالقرآن الكريم، يؤمنون تفيد التّكرار والتّجدد والاستمرار؛ يؤمنون بأنه منزل من الله عز وجل، ولا ريب فيه، وآخر الكتب المنزلة؛ يؤمنون بما جاء به من الحق، وتوحيد الله وربوبيته وأسمائه وصفاته، وبالتعاليم والآيات والأحكام إيماناً تاماً، ومصدقاً ومهيمناً على غيره من الكتب السماوية.
{وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} : من: ابتدائية بعضية، وتأتي في سياق المفرد والمثنى والجمع؛ هؤلاء: الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة وتشير إلى أهل مكة، من: اسم موصول بمعنى الّذي، يؤمن به: بالقرآن الكريم أو الكتاب، يؤمن به الآن أو في المستقبل.
{وَمَا يَجْحَدُ} : ما النّافية، يجحد من الجحود: وهو إنكار الشّيء الظّاهر بقصد وتعمد، أمّا الإنكار: فهو يشمل إنكار الشّيء الخفيّ مثل إنكار النِّعم سواء رافقه علم أو بغير علم، ارجع إلى سورة الأعراف آية (51) لمزيد من البيان.
{بِآيَاتِنَا} : الباء للإلصاق، آياتنا: جمع آية: اسم علم مؤنث، والآية لغةً: هي العلامة والعبرة والمعجزة والدليل والأمر العجيب والجماعة والبرهان، ومنها الآيات القرآنية أو الكونية أو الدّالة على نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم أو الرسل والأنبياء، وإضافة الآيات إليه سبحانه للتشريف، وتأتي بصيغة الآيات، آياته، آياتي، آياتنا.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{الْكَافِرُونَ} : جمع كافر: وهو الّذي يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والكفر يعني جحود الوحدانية أو النّبوة أو الشّريعة، والكافرون تشير إلى أن صفة الكفر ثابتة وملازمة لهم، والكافرون تدل على الحدث؛ أي: الفعل وهو الكفر، ولم يقل الكفار التي تدل على صنف من الناس، وفيها مبالغة تشمل الكافرين والمشركين. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لمزيد من البيان.
سورة العنكبوت [29: 48]
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا} : ما النّافية، كنت تتلو: من التّلاوة وهي القراءة من القرآن، ولا تكون إلا من القرآن، واختار (تتلو)؛ لأنّك لا تقرأ إلا ما سمعت من جبريل، وتتلو: أي تقرأ بعد ما سمعت؛ أي: تسمع أولاً ثمّ تحفظ ثانياً ثمّ تقرأ ما حفظت ثالثاً.
والتّلاوة: تعني تتلو آية بعد آية.
{مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} : من قبله: أي من قبل نزول القرآن عليك، من استغراقية، كتاب: نكرة؛ تعني: أيَّ كتاب.
{وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} : يعني الكتابة؛ أي: كفار قريش أو أهل مكة يعلمون سيرتك من قبل نزول القرآن عليك، أنّك ما تلوت قبله أيَّ كتاب وما كتبت بيمينك أيَّ كتاب؛ أي: ما علموا من (40) سنة قبل البعثة لك أيَّ قراءة أو كتابة، ومن الجدير بالذّكر أنّه قد ذكر في التّوراة والإنجيل أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لا يخطُّ ولا يقرأ.
{إِذًا} : حرف جواب.
{لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} : اللام للتوكيد، ارتاب من: الريبة وهي الشّك والاتهام، المبطلون: جمع مبطل وهم الّذين يأتون بالباطل، والباطل هو ما لا وجود له، المبطلون الذين يقولون: هو سحر أو شعر أو كذب أو افتراه، أو يعلّمه بشر أو كان يعلم القراءة والكتابة، والمبطلون: مشركو مكة أو كفار اليهود وغيرهم، فبما أنك كنت لا تتلو قبل القرآن من كتاب ولا تكتب، فلم يعد هناك سببٌ للريبة؛ أي: الشّك واتهامك بالباطل.
سورة العنكبوت [29: 49]
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ أي: القرآن أو الكتاب.
{آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} : آيات قرآنية واضحة بيّنة دالّة على الحق في صدور الّذين أوتوا العلم. ارجع إلى الآية (47) السابقة لبيان معنى آيات.
{فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : في ظرفية، صدور؛ أي: قلوب الّذين أوتوا العلم: من المتقين الحفظة لكتاب الله تعالى، وأوتوا العلم: علم الدّين أو العالمون والحفّاظ من الصّحابة الّذين كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وكونه في صدور الّذين أوتوا العلم فهو محفوظٌ بخلاف الكتب الأخرى، وبما أنّه استقرّ في قلوبهم فقد تحوّل إلى عقيدة وإيمان.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا} : ارجع إلى الآية (47) السّابقة؛ أي: ما يجحد بآيات القرآن.
{الظَّالِمُونَ} : المشركون أو كفار اليهود، أو من يعرفون الحق ثمّ ينكرونه. والظالم: جمع ظالم، وهو من يخرج من منهج الله. ارجع إلى سورة البقرة آية (54) لمزيد في معنى الظالمون.
سورة العنكبوت [29: 50]
{وَقَالُوا} : كفار مكة وكفار أهل الكتاب وغيرهم.
{لَوْلَا} : حرف تخصيصٍ وحثٍّ.
{أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} : أي معجزات أخرى تدل على نبوته مثل {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7-8]، {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} ، {أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ} [الإسراء: 92-93] وغيرها من الآيات.
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
{إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} : إنما كافة مكفوفة للتوكيد، الآيات: المعجزات الّتي تطلبونها ليست عندي وإنما عند الله تعالى، هو القادر على أن ينزلها عليكم إن شاء.
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} : إنما للتوكيد والحصر، أنا نذير (الإنذار: الإعلام والتّحذير)، وفي آية أخرى قال تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [الرعد: 40]، إذن: التبليغ والإنذار فهذه مهمتي، وليس مهمتي إنزال أيِّ آية عليكم، نذير مبين: نذير للكفار وغيرهم ولمن عصى ربه وخالف أمره، مبين: نذير لكلّ فرد بدون استثناء، إنذار واضح لا يحتاج إلى دليل أو حجة أو من يظهره وإنذار تام.
ولم يقل بشير ونذير واكتفى بالإنذار؛ لأنّه يتكلم عن الكافرين والظّالمين والمبطلين وهم أهل باطل وجحود فيناسبهم الإنذار فقط، ولو استجاب لهم رب العالمين وأنزل عليهم تلك الآيات ولم يؤمنوا، لأهلكهم الله كما فعل بالأمم السّابقة. ارجع إلى سورة الفرقان الآية (56) لمزيد في معنى الإنذار.
سورة العنكبوت [29: 51]
{أَوَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري والتعجب، الواو تفيد شدة الإنكار.
{يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} : أولم يكفهم دليلاً على صدقك ونبوتك أنّا أنزلنا، أنّا: للتعظيم، أنزلنا عليك الكتاب؛ أي: القرآن. ارجع إلى الآيات (2-4) من سورة البقرة لمعرفة الفرق بين أنزل ونزل، وعليك وإليك الكتاب، يتلى عليهم: ارجع إلى الآية (48) من السّورة نفسها.
أي: يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بدلاً مما يطلبونه من الآيات الأخرى.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ للتوكيد، في ظرفية، ذلك اسم إشارة للبعد يشير إلى إنزال الكتاب عليك.
{لَرَحْمَةً} : اللام تفيد التّوكيد، رحمة: هي كلّ ما يجلب ما يسرّ ويدفع ما يضرّ؛ أي: وقاية لكم.
{وَذِكْرَى} : تذكرة.
{لِقَوْمٍ} : اللام لام الاختصاص.
{يُؤْمِنُونَ} : أي إنزال الكتاب يكفي آية لقوم يؤمنون ولا يحتاجون معه إلى آية أخرى، وهو أكبر آية أو معجزة نزلت للبشرية وإلى يوم القيامة، وهو كذلك رحمة وذكرى وهدى لأيّ مؤمن بالله، وهو المعجزة الخالدة على مر العصور، ولكل الأجيال، وأما الآيات التي يطلبونها آيات مؤقتة غير دائمة.
سورة العنكبوت [29: 52]
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفار مكة وكفار أهل الكتاب.
{كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} : هذه هي الآية الوحيدة في القرآن التي أخر فيها شهيداً على بيني وبينكم. انظر في ملحق الآية للإجابة على هذا السؤال؛ أي يكفي أن يشهد الله عز وجل أنّي رسوله وأنّ هذا كتابه، شهيداً: ولم يقل شاهداً، الشّهيد فيه مبالغة في الشّهادة؛ أي: يعلم تفاصيل ما حدث بيني وبينكم، بالله: الباء للإلصاق والتّوكيد؛ أي: شهيداً على أنّي رسول الله إليكم، وأنّي قد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، الإنذار المبين، والبلاغ المبين.
{يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي كفى به شهيداً؛ لأنّه سبحانه يعلم ما في السّموات والأرض، ولا أحتاج إلى شهيد غيره.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} : والّذين آمنوا منكم بالباطل. الباطل لغةً: هو الذاهب الزائل، أو الفاسد، وليس له وجود في الأصل، ويطلق على الظلم، والشرك والكذب والإحباط والشيطان، وعبادة الأوثان والأصنام وأشركوا، وكفروا بالله: الباء تدل على كفر العقيدة، جحدوا بوجوده أو وحدانيته مع كلّ هذه الأدلة والبينات.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد البعد.
{هُمُ} : للتوكيد.
{الْخَاسِرُونَ} : لأنفسهم يوم القيامة، وسماهم الخاسرون؛ لأنّهم اشتروا الكفر بالإيمان؛ أي: آمنوا بالباطل وكفروا بالله فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين فهم الخاسرون، ولم يقل هم الأخسرون؛ لأنّ كفرهم وعدم إيمانهم مقتصر عليهم أنفسهم ولم يضلوا غيرهم. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، وهود آية (22)، والحج آية (11) لمزيد من البيان في التفريق بين الخاسرون والأخسرون والخسارة.
انتبه هذه الآية الوحيدة الّتي آخر كلمة (شهيداً) فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} وفي كلّ الآيات المشابهة قدم شهيداً فقال تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] وهذا هو الأصل.
فلماذا خرج عن الأصل في آية العنكبوت؟ الجواب: خرج عن الأصل لكي يُتبع الصّفة موصوفها، الصّفة: يعلم، والموصوف شهيداً: فقال تعالى: شهيداً يعلم، ولو قال تعالى شهيداً بيني وبينكم يعلم، لحدث تأخير بين الصّفة والموصوف مما يدل على ضعف الكلام أو الجملة، وقد يحدث ذلك ويجوز أن يفصل ولو بفاصل طويل إذا كان هناك مبرر أو سبب.
سورة العنكبوت [29: 53]
سبب النّزول كما قال مقاتل قيل: نزلت في النّضر بن الحارث، وقيل: نزلت في أبي جهل كما روى البخاري عن أنس حين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
وقولهم: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16].
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} : السّين والتّاء تعني الطّلب؛ أي: يطلبون منك تعجيل العذاب لهم، وهم كفار قريش أمثال النّضر بن الحارث وأبي جهل، يطلبون ذلك إما لعدم تصديقهم بوقوعه أو استهزاءً وتعنتاً وأنهم لا يخافونه، ولو أيقنوا بوقوعه لخافوا منه وما استعجلوه.
(والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب).
{بِالْعَذَابِ} : الباء للإلصاق، العذاب عذاب يوم القيامة، أو العذاب في الدّنيا مثل يوم بدر.
{وَلَوْلَا} : حرف امتناع لوجود.
{أَجَلٌ مُسَمًّى} : بيّنه الله سبحانه في اللوح المحفوظ متى سيقع وأخّره سبحانه؛ لأنّه غفور حليم ولعلهم يتوبون.
والأجل: زمن، أو هو الوقت المضروب لانقضاء الشّيء أو وقوعه فلكل عذاب أجل ولكل قوم أجل، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، والأجل قد يكون يوم القيامة أو الموت أو البعث حسب السياق.
{لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} : لجاءهم العذاب عاجلاً؛ أي: في الدّنيا والهلاك والتدمير والأوبئة والكوارث الكونية من فيضانات وحرائق ومجاعة وبرد وحر ومرض وهزيمة وخزي وغيره من أنواع العذاب والذي يسمى العذاب الأدنى، أو العاجل، أو عذاب الخزي، واللام في كلمة (لجاءهم) للتوكيد، والمجيء فيه معنى القسوة والمشقة؛ أي: لن يكون سهلاً عليهم.
{وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} : الواو واو القسم، واللام للتوكيد وكذلك النّون لزيادة التّوكيد، وليأتينهم بغتة: فجأة في الدّنيا أو في الآخرة بغتة، وليس حسب ما يرغبون.
{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : هم: للتوكيد، لا: النّافية، هم يشعرون: بوقت إتيانه أو وقوعه؛ ولكن شعورهم لا ينفعهم ولا يُغني عنهم شيئاً.
سورة العنكبوت [29: 54]
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} :
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} : في الدّنيا، وتكرار يستعجلونك توكيد لإصرارهم وتكرار استعجالهم وطلبهم للإتيان به، وجاء بصيغة المضارع؛ ليدل على أن طلبهم لم يتوقف واستمر، والباء للإلصاق والمداومة على طلب إنزال العذاب بهم تعنتاً واستهزاءً.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} : إن للتوكيد، لمحيطة: اللام تفيد زيادة التّوكيد، جهنم: مشتقة من كونها بعيدة القعر كريهة المنظر. ارجع إلى الرّعد آية (18): اسم من أسماء النّار، محيطة بالكافرين: جملة تعليلية؛ أي: كأن جهنم تحيط بهم الآن من كلّ جانب من الأمام والخلف واليمين والشّمال؛ أي: الإحاطة تشمل الأربع جهات، وجاءت الآية التالية (55) للتأكيد على الجهات الأربع، وكذلك لتخبرنا أنها سوف تأتيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم أيضاً، وهم لا يشعرون بها لغفلتهم، وقوله لمحيطة بهم: تعني قرب يوم القيامة، ووقوع العذاب بهم.
سورة العنكبوت [29: 55]
{يَوْمَ} : نكرة للتهويل والتّعظيم؛ أي: يوم القيامة.
{يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} : أي يحيط يهم من كلّ الجوانب والجهات.
{مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} : فوق أو تحت: ظرف مكاني، وتكرار (من) تفيد القرب؛ أي: هم تحت العذاب مباشرة، ومن تفيد التّوكيد وفصل فوقهم عن تحت أرجلهم، فالعذاب يأتيهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم من كلّ ناحية ومن كلا النّاحيتين كقوله تعالى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزّمر: 16]. وتكرار (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) بعد ذكر (جهنم لمحيطة بالكافرين) ذكر الخاص بعد العام؛ لبيان أهميته وتوكيده.
{وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي، وهي أوسع شمولاً من الّذي، أو مصدرية، كنتم: في الدّنيا، تعملون: العمل يضم القول والفعل؛ أي: تقولون وتفعلون، ولم يقل ذوقوا عذاب النّار، وإنما: ذوقوا ما عملتم، كأنَّ العمل نفسه سيتحول إلى نار تحرقهم وفي هذا تهديد ووعيد لهم شديد؛ أي: ذوقوا كفركم وشرككم وذنوبكم.
سورة العنكبوت [29: 56]
{يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ} :
{يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء من الأعلى وهو الرّب الكريم إلى العباد، بعكس الدّعاء: نداء من الأسفل إلى الأعلى؛ أي: من العبد إلى الرّب، استعمل يا النّداء للعبد، عبادي: تشريف للعباد بقوله: (عبادي) وعبادي جمع عابد؛ تعني: الّذين أقبلوا على الله باختيارهم فاختاروا أن يكونوا عباداً لله، وهناك فرق بين عبادي وعبيد وعباد. (انظر في ملحق الآية).
{الَّذِينَ آمَنُوا} : أي آمنوا بالله واليوم الآخر وبما أنزل الله على رسوله، ولازالوا سائرين على درب الإيمان.
{إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ} : أي إن ضاقت عليكم أرضكم فهاجروا منها واعبدوني في أرض أخرى، إن أرضي: إن للتوكيد، أرضي: أي كلّ الأرض هي أرضي، وتسميتها أرضي تشريفاً لها وهي ملكه وحده، واسعة: أي فهاجروا فيها إذا مُنعتم من ممارسة شعائر دينكم في بلد أو أرض إلى بلد آخر أو أرض أخرى، هاجروا في سبيل الله وفرُّوا بدينكم.
فإياي فاعبدون: فإياي أسلوب حصر وقصر وتوكيد، والفاء للتوكيد والمباشرة، فاعبدون: من العبادة. ارجع إلى الآية سورة النّحل آية (73) لبيان معنى العبادة. ولم يقل فإياي فاعبدوا، فاعبدون: الفاء للتوكيد والمباشرة والنّون لزيادة التّوكيد، فاعبدون: بإخلاص وتوحيد (مخلصون موحدون)، اعبدون: جملة اسمية تفيد الثّبات والاستمرار. وارجع إلى سورة ياسين آية (61) لمقارنة فاعبدون وأن اعبدوني (بزيادة ياء المتكلم).
لنقارن هذه الآية (56) من سورة العنكبوت مع الآية (10) من سورة الزّمر وفي قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} .
عبادي تعني: العدد أكبر من عباد، عباد: أقل عدداً، ولكنّهم أعلى درجة وإيماناً وتقوى من عبادي، وعبادي أفضل بكثير من العبيد (منهم الصّالح والطالح)، أرضي واسعة: أوسع من قوله: أرض الله واسعة، فاستعمل عبادي تعني (العدد الكبير) مع أرضي واسعة (الأوسع) واستعمل مع عباد (الأقل عدداً) أرض الله واسعة (الّتي هي أقل وسعاً من أرضي). ارجع إلى سورة البقرة آية (186) للزيادة في معنى عبيد، عبادي، عباد.
سورة العنكبوت [29: 57]
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} :
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} : كلّ للتوكيد، نفس: عليها أن تهاجر في سبيل الله حتّى تتمكن أن تعبد الله سبحانه وتمارس شعائر دينها، ولا تترك الهجرة خوفاً على ضياع أموالها وديارها ولا تضيع دينها فيما لو بقيت في وطنها، أو تهاجر ابتغاء المال وعرض الدّنيا وتضيع دينها وأولادها وعقيدتها في دار الهجرة، والمهم سواء هاجرت أو بقيت ليكن إقامة الدّين لله وحده هو هدفها الأهم، فلا يمنعها الخوف من الموت من الهجرة أو تركها؛ لأنّ الموت قادم لا محالة وستذوقه كلّ نفس سواء هاجرت أو لم تهاجر.
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{إِلَيْنَا} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: إلينا وحدنا.
{تُرْجَعُونَ} : للحساب والجزاء ترجعون قسراً دون إرادتكم.
سورة العنكبوت [29: 58]
المناسبة: بعد أن بيّن الله سبحانه مأوى الكافرين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} يُبين مأوى الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ارجع إلى الآية (7) من السّورة نفسها للبيان.
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} : اللام: للتوكيد، نبوئنهم: من باء الشيء: رجع، عاد به، وباء بذنبه: أقر واعترف بذنبه، وبوأنا: أنزلنا وأسكنا، وأصل الباءة والمباءة: المنزل، وبوأنا لإبراهيم مكان البيت: هيأنا له وأنزلناه، وبوأت له مكاناً: سويته فتبوأ؛ أي لنسكنّنهم، من: ابتدائية، الجنة غرفاً: منازل رفيعة عالية.
ارجع إلى سورة يونس آية (87) وآية (93) لمزيد من البيان عن بوّأنا.
وارجع إلى سورة الفرقان آية (75): لمزيد من البيان عن غرفاً.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود يبدأ من زمن دخولهم إياها وإلى ما لا نهاية.
{نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : نِعم من أفعال المدح العام (أما المدح الخاص مثل حبذا) يطلق على كلّ من تمدحه: تقول: نِعم الأجر، نِعم الطالب، والأجر يكون على العمل على القيام بالتّكاليف المطلوبة منهم.
وفي آية (136) من سورة آل عمران قال تعالى: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أضاف الواو وإضافتها تدل على أنّ أجرهم أعظم من أجر المذكورين في آية العنكبوت.
وفي آية (74) من سورة الزّمر قال تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أضاف الفاء بدلاً من الواو والفاء تدل على أنّ أجرهم أعظم من أجر المذكورين في آية آل عمران، فهم قد أُدخلوا الجنة وهم يتبوؤون من الجنة حيث يشاؤون:
فنِعم أجر العاملين أعظم أجراً من: ونِعم أجر العاملين، ونِعم أجر العاملين أعظم أجراً من: نِعم أجر العاملين (بدون واو)، فالأجر ثلاث درجات أعلاها: فنِعم الأجر، ومتوسطها ونِعم الأجر، وأدناها نِعم الأجر.
سورة العنكبوت [29: 59]
{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} :
{الَّذِينَ صَبَرُوا} : لم يحدد نوع الصبر على ضيق العيش والفقر، أو صبروا على الابتلاء والقهر والذّل وعلى التّعذيب والاضطهاد سواء بالهجرة أو بغير الهجرة، وكذلك صبروا على الطّاعة وتجنّب المعصية.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : وعلى ربهم تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: يتوكلون على ربهم وحده، ارجع إلى الآية (89) من سورة الأعراف لبيان معنى التّوكل.
سورة العنكبوت [29: 60]
{وَكَأَيِّنْ} : مركبة من: ك التّشبيه، وأي الاستفهامية، ومعناها: كم وتفيد التّكثير (مثل كم الخبرية) وتفيد الإبهام.
{مِنْ دَابَّةٍ} : من: الاستغراقية، الدّابة: كل ما يدب على الأرض، والدابة في العرف العام: كل ما يدب على الأرض إنسان وغير إنسان، وفي العرف الخاص تعني: كل كائن يدب على الأرض غير الإنسان، والدابة: اسم فاعل، ويغلب عليها غير العاقل، وتشمل الذكر والأنثى كقوله تعالى:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] تشمل الإنسان وغيره، ولذلك يجب أن ننتبه إلى السياق في الآيات لندرك هل تشمل الإنسان والحيوان، أم الحيوان فقط، وفي هذه الآيات مثلاً الدابة تعني: الحيوان؛ أي: كلّ ما دبّ على الأرض من حيوان.
{لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا} : لا تدّخر طعامها أو شرابها الله يوفر لها طعامها؛ أي: يطعمها كلّ يوم.
{وَإِيَّاكُمْ} : عطف النّاس في الرّزق على الدّواب فقدّم ذكر الدّواب أولاً في الرّزق، مع أنّ الإنسان هو المكرم عند الله تعالى. لماذا هذا التقديم؟
لأنها لا تحمل رزقها (لا تدّخر طعامها ولا شرابها) إلى الغد أو الأيام القادمة فهي تتوكل على الله حق التّوكل أن يوفر لها طعامها وشرابها كلّ يوم، وأمّا الإنسان فهو يدّخر طعامه وشرابه؛ لأنّه يخاف ألا يرزقه الله تعالى، وتوكله على الله في الرّزق قليل، ولذلك قدّم من يتوكل عليه أكثر على من يتوكل عليه أقل، وإذا ظن أحدٌ أنّه يرزق أو يطعم أيّ دابة، فالله سبحانه يرزقها ويرزقكم بحسنتها.
وهو السّميع العليم: وهو ضمير فصل يفيد التّوكيد، المدبّر لأموركم والقيّوم على خلقه.
{السَّمِيعُ} : لأقوالكم حين لا ترزقون وحين ترزقون؛ أي: ما تدعونه، أو تشكرونه، أو لا تشكرونه، أو تقولون كما قال قارون:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص: 78]، أو {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ [أي: شكركم] أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
{الْعَلِيمُ} : بما في قلوبكم ومما تدّخرونه خوفاً من الجوع أو خشية الفقر، والعليم فيمن يتوكل عليه أو لا يتوكل عليه. العليم: صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
سورة العنكبوت [29: 61]
{وَلَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.
{سَأَلْتَهُم مَّنْ} : من استفهامية.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : أي لا يقدر على إنكار ذلك أحدٌ حتّى الكافرون يقولون: الله تعالى، وليقولن: اللام والنّون للتوكيد، و (يقولن) تدل على التّجدد والتّكرار، ولبيان معنى خلق السّموات والأرض وسخر الشّمس والقمر: ارجع إلى الآية (30) من سورة الأنبياء، وسورة فصلت آية (10-11)، والأعراف آية (54).
{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أنّى تعني: كيف ومن أين؟ وتفيد الاستفهام، يؤفكون: من الإفك: وهو الكذب المفترى المتعمد على الله سبحانه.
أي: كيف يصرفون عن الحق ويعترفون ويقرّون بأنّ الله سبحانه هو الّذي خلق السّموات والأرض وسخر الشّمس والقمر، وكل هذه الآيات والأدلة والبراهين على أنّه الإله الحق واجب الوجود، ثمّ ينصرفون إلى الشّرك وعبادة غيره، إن ذلك لشيء عُجاب.
يؤفكون: من أفَكَه عن الشّيء: أي صرفه عنه، وأفكت الأرض: صرف عنها المطر، وقد تعني: قلبه عن الشّيء فانقلب.
ومنها المؤتفكات: جمع مؤتفكة بمعنى: المنقلبة التي يصبح عاليها سافلها.
سورة العنكبوت [29: 62]
هذه الآية كأنها تتمة للآية: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} .
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : أي يوسع ويغني من يشاء من عباده امتحاناً له هل يشكر وينفق من ماله؟
{وَيَقْدِرُ لَهُ} : ثم يضيّق عليه ويفقره امتحاناً له هل يصبر ويعبد الله تعالى؟ أم {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11].
فهو سبحانه الخالق الرّازق يُغني ويُفقر حسب حكمته ومصلحة عبده؛ لأنّه سبحانه عليم بكل شيء يعلم ما فيه الخير والأفضل لعباده، وما يصلح عباده. ارجع إلى سورة الشّورى آية (27): للبيان.
وارجع إلى سورة الرعد آية (26): لمزيد من البيان والمقارنة، وسورة سبأ آية (39).
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : الباء للإلصاق، كلّ شيء عليم: عليم بأحوال عباده من هو غني ومن هو فقير، وعليم بما يصلح كلّ عبد من عباده لا تخفى عليه خافية.
سورة العنكبوت [29: 63]
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ} : ارجع إلى الآية (61) السّابقة.
{نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : نزّل ولم يقل أنزل، نزّل فيها مبالغة وتوكيد أشد من أنزل، نزّل: تعني نزل مرات كثيرة أو تعني بتكرار، أما أنزل تعني مرة واحدة أو القليل. فإذا ما قارنّا هذه الآية من سورة العنكبوت مع الآية من سورة النّحل وهي قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} نجد أنّ آية العنكبوت جاءت في سياق الشّرك والتّكذيب، وهو مقام أشد من آية النّحل الّتي جاءت في سياق تعداد النّعم، فلذلك لا يحتاج إلى توكيد ومبالغة، ولذلك استعمل نزل في آية العنكبوت، وأنزل في آية النحل.
{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، أحيا به الأرض: عادت مخضرّة بعد أن كانت مصفرّة يابسة وخامدة.
{مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} : من للقرب؛ أي: بدون فاصل زمني مباشرة فكلّ سنة يحييها من جديد، ولو قال بعد موتها بدون (من) لدلَّ ذلك على إحياء الأرض بعد فترة طويلة أو قصيرة. ارجع إلى سورة الحج آية (5، 63)، وسورة فصلت آية (39)، والأنعام آية (99) للبيان والمقارنة.
{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : اللام والنّون في (ليقولن) للتوكيد، يقولن: بصيغة المضارع لتدلّ على تجدد وتكرار قولهم هذا بأنّ الخالق هو الله سبحانه.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} : لماذا الحمد هنا؟ لا تعني الحمد لله على أن أكثرهم لا يعقلون، وإنما الحمد لله على إقرارهم بأنّ الله هو الّذي خلق السّموات والأرض، وسخر الشّمس والقمر، ونزّل من السّماء ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، فهم أقاموا على أنفسهم الحجة، ونطقوا بالحق، وأيضاً الحمد لله على خلق السّموات والأرض وتسخير الشّمس والقمر وإنزال الماء من السّماء.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} : الأكثرية لا يعقلون والأقلية يعقلون؛ أي: لا يفهمون أو لا يستعملون عقولهم في فهم الأشياء وأسبابها ونتائجها، والموازنة بينها للوصول إلى الحقيقة وهي: أنّه هو الإله الحق الّذي يستحق أن يُعبد ويُطاع ولا يشرك به شيئاً، أو لا يعقلون هذا التناقض بين اعترافهم بأنّ الله هو الخالق ثمّ يقولون بألوهية غيره.
سورة العنكبوت [29: 64]
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : الواو استئنافية، هذه: الهاء للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب، الحياة الدّنيا: أي السّفلى أو القريبة أو العاجلة، وهذا يدل على أنّ هناك حياة عُليا وحياة آخرة.
{إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} : إلا أداة حصر؛ أي: حصراً لهواً ولعباً، لأنّها مجردة أو خالية من منهج الله تعالى، وعبادته وطاعته، فالحياة المجردة من عبادة الله وطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه هي لهو ولعب.
واللهو: هو عبث، والعبث: حركة أو عمل بلا هدف ولا فائدة، واللعب: يتحول إلى لهو إذا شغل الإنسان عما هو مطلوب منه أو شغله عن القيام بواجبه مثل الصّلاة مثلاً، فإن شغله أمر أو فعل فلم يؤدّها، يعتبر ذلك الفعل أو الأمر لهواً؛ أي: عبثاً.
واللعب للأطفال شيء أو أمر طبيعي ولعب الأطفال هو لهو في الوقت نفسه؛ لأنّ الطّفل غير مكلف بواجب فإذا دخل سن البلوغ ولم يؤدِّ مسؤولياته أصبح لعبه لهواً، وهذه هي الآية الوحيدة التي قدم فيها اللهو على اللعب، وقدم اللعب على اللهو في سورة الأنعام آية (32)، وسورة محمد آية (36)، وسورة الحديد آية (20)، وسبب تقديم اللهو على اللعب في هذه الآية: أنه سبقها أو جاءت في سياق الرزق، وكما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]. ارجع إلى سورة الأنعام آية (32) لمزيد من البيان وسبب تقديم اللهو على اللعب في هذه الآية.
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ} : إنّ للتوكيد، اللام في لهي لزيادة التّوكيد.
{لَهِىَ الْحَيَوَانُ} : اسم لكلّ ما فيه حياة، والحيوان على وزن: فعلان مثل فيضان، مثل غليان، ففعلان تدل على الحركة والاضطراب والتّقلب وعدم الهدوء، لهي الحيوان: أي الدار الآخرة هي دار حركة وتقلب شديد وتغير، وليس فيها نوم وسكون مقارنة بالحياة الدّنيا.
فالحياة الدّنيا بالنّسبة للدار الآخرة تعتبر سكوناً وهموداً رغم ما فيها من حركة، والدّار الآخرة تعني الجنة، ففيها الحركة الحقيقية والتّقلب والحياة الدّائمة الّتي لا انقطاع فيها ولا موت.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : لو شرطية، لو كانوا يعلمون: العلم النّافع، ما جعلوا الحياة الدّنيا لهواً ولعباً وخسروا الآخرة وهي الحيوان؛ أي: الدّار الحقيقية، ولو كانوا يعلمون: قد تعني هم علموا ولكنهم نسوا وتجاهلوا، أو أنكروا ذلك.
وإذا قارنّا هذه الآية (64) من سور ة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} مع الآية (70) من سورة الأنعام: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} ومع الآية (51) من سورة الأعراف: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} :
فآية سورة العنكبوت تبيّن لنا طبيعة الإنسان الّذي يتّخذ هذه الحياة أو يحوّلها إلى لهوٍ ولعب ولا يقوم بواجباته، وأمّا آية سورة الأنعام تتحدث عن الّذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، وهؤلاء النّاس هم الآن في الدّنيا (الآية في سياق الدّنيا).
وأمّا آية سورة الأعراف تتحدث عن الّذين هم في الآخرة (في سياق الآخرة) الّذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عندما كانوا في الدّنيا. فكل آية لها معنى مغاير للأخرى، وحين نتدبّر القرآن نجد أن الحق سبحانه يذكر اللعب أولاً ثمّ اللهو، وهو الأمر الطّبيعي فحياة الطّفولة هي لعب ثمّ ينتقل إلى مرحلة الشّباب والكهولة يتحول اللعب فيها إلى لهو (لأن كلّ لعب يشغل عن واجب يصبح لهواً) فلعب الشباب والكهول هو لهو إذا شغلهم عن واجب وإذا لم يشغلهم يكون لعباً، فاللعب منه المفيد مثل السباحة والرياضة، ومنه اللعب المذموم: وهو كلّ لعب يشغل عن واجب، فالمرحلة الأولى الطّفولة لعب، ومرحلة الكهولة لهو، وهذا هو الأمر الطّبيعي، وفي سورة الأعراف والعنكبوت قدم اللهو على اللعب، وتقديم اللهو على اللعب أبلغ في المعنى وآكد، ويأتي ذلك في سياق الآيات الّتي تتحدث عن الكفار أو المشركين أو المشغولين بالحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، يقدّم اللهو على اللعب (بعكس الأمر الطبيعي) لأنّهم بما يقومون به من فساد أخلّ بالموازين فأصبح اللهو في حياتهم هو شيء عظيم؛ لأنّهم أهملوا وعطّلوا واجباتهم نحو ربهم فأصبحت حياتهم كلها لهواً وأحياناً لعباً.
سورة العنكبوت [29: 65]
وكما أنّ الكفار والمشركين يعترفون ويقرّون بأنّ الله هو الخالق، ثمّ يشركون به ويعبدون غيره وينصرفون من الحق إلى الباطل، وكذلك هذه حالهم عندما يركبون في الفلك يعلمون أنه لا ينقذهم ولا ينفعهم إلا الله وحده فيدعونه فينقذهم وبعد ذلك يشركون به، فذرهم يكفروا بكل هذه الآيات ويتمتعوا بدنياهم وكذلك بنعمة الأمن في الأوطان ولا يروا أنّا جعلنا لهم حرماً آمناً ويُتخطف النّاس من حولهم، فهؤلاء مأواهم جهنم، ومن جاهد في سبيل الله سوف يزيده هدى ويكون مع المحسنين وفي جنات النّعيم.
{فَإِذَا} : الفاء للتوكيد، إذا: ظرفية زمانية وشرطية تفيد كثرة الحدوث وحتمية حصوله.
{رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} : السّفينة، وتطلق على المفرد وعلى الجمع كما في قوله: ويصنع الفلك (وكان نوح يصنع سفينة واحدة) وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنوا أنّهم أحيط بهم.
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : دعوة اضطرار دعوا الله وحده مخلصين له صادقي النّية في دعائهم، لا يدعون إلا إياه؛ لأنّهم يعلمون لا أحد يستطيع أن يكشف عنهم البلاء إلا الله تعالى.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} : الفاء تدل على المباشرة، نجّاهم: ولم يقل أنجاهم.
نجّاهم؛ أي: نجّاهم ببطء أو استغرقت نجاتهم زمناً؛ كي يتضرعوا ولا ينسوا ما حدث لهم، وأمّا أنجاهم تعني بسرعة.
{إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} : إذا ظرفية زمانية تفيد الفجأة.
أي: عادوا إلى شركهم وظلمهم ونسوا ما كان يدعون من قبل، يشركون: بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد شركهم وعودته.
سورة العنكبوت [29: 66]
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} : اللام للتوكيد والاختصاص، وفي هذا تهديد وإنذار لهم ليفعلوا ما يشاؤون فسوف يسألون، وجاءت الآية بصيغة الغائب في قوله: ليكفروا، وليتمتعوا فسوف يعلمون؛ لأن ليس لهم قيمة أو وزن لمخاطبتهم مباشرة، أو هم لا يستحقون المخاطبة مباشرة.
{بِمَا آتَيْنَاهُمْ} : الباء للإلصاق، آتيناهم من نعمة النّجاة من الغرق وغيرها من النّعم.
{فَسَوْفَ} : الفاء للتوكيد، سوف: للتراخي في الزّمن، سوف يعلمون: يوم القيامة أو في الآخرة أو عند موتهم.
{يَعْلَمُونَ} : عاقبة كفرهم وشركهم وهي جهنم وبئس المصير.
ولمقارنة هذه الآية مع الآية (54) من سورة النّحل: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ارجع إلى سورة النّحل للبيان.
سورة العنكبوت [29: 67]
{أَوَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير.
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : أي أولم يعلموا؟ والرّؤية هنا رؤية بصرية عينية ورؤيا فكرية قلبية، والواو في (أولم) للجمع والتّوكيد؛ أي: تجمع بين عدة آيات.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} أهل مكة وغيرهم (يروا) رؤية بصرية وقلبية.
{أَنَّا} : للتعظيم.
{جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} : أي جعلنا مكة بلداً آمناً مصوناً من النّهب والتّعدّي وآمنين من القتل.
{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} : الخطف: الاختلاس بسرعة، أو الاستلاب والأخذ بشدة بالقتل والأسر والخطف: من حولهم من القرى.
{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} : الفاء للتوكيد، والهمزة همزة استفهام إنكاري وتعجب، يؤمنون: أي بالشّرك وعبادة الأصنام اللات والعزى ومناة الثّالثة الأخرى: يصدقون. ارجع إلى الآية (52) من نفس السورة لبيان معنى الباطل.
{وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} : ولم يقل وبالله يكفرون؛ لأنّهم إذا كانوا لا يؤمنون بنعمة واحدة من نِعم الله تعالى الكثيرة ويكفرون بها، فكيف يؤمنون بالله وحده؟
يكفرون جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدّد كفرهم وشركهم. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (28) لمعرفة الفرق بين نعمة ونعمت.
سورة العنكبوت [29: 68]
{وَمَنْ} : استفهام تقريري.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : تعني لا أحد أظلم، فالذي يفتري على الله كذباً هو أظلم النّاس أجمعين. وكذباً: جاءت بصيغة النّكرة؛ تعني: أيّ كذبٍ مهما كان نوعه وصغره، ولم يقل الكذب بـ أل التّعريف الّذي يعني: كذباً معيناً.
وإيراد هذا الخبر بصيغة الاستفهام أقوى في التّقرير والإبلاغ مما لو جاء بالخبر بدون استفهام وقال: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً مثل الولد أو الشّريك والآلهة؛ لأنّ الخبر يأتي من المتكلم، والإقرار يأتي من السّامع، والعرب لا تستعمل الاستفهام إلا حينما تكون واثقة أنّ الجواب سيأتي من المستمع وفق ما يريد المتكلم.
{أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} : لما ظرفية زمانية بمعنى: حين جاءه؛ أي: كذب بالصّدق بالنّبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله أو كذب بالقرآن حين أنزله الله تعالى عليه.
{أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} : أليس استفهام إنكاري وتقرير، أليس: ألا يستحق هؤلاء وأمثالهم ممن كذبوا بآيات الله وبرسوله أن يُلقى بهم في جهنم كمثوى لهم، في جهنم: في: ظرفية، جهنم: مشتق من كونها كريهة المنظر، بعيدة القعر. ارجع إلى الآية (18) من سورة الرّعد، مثوى: هو المكان الضّيق والمطبق والدّائم، ومكان الإقامة الجبرية. ارجع إلى سورة آل عمران آية (151) لمزيد من البيان ومعرفة الفرق بين مثوى ومأوى، للكافرين: اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، الكافرين: الّذي أصبح الكفر صفتهم وسمتهم الثّابتة.
سورة العنكبوت [29: 69]
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} :
لنذكر كيف بدأت السّورة بقوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وها هي السّورة تنتهي بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي: من أجل إعلاء كلمتنا أو ديننا أو نصرة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
جاهدوا فينا: أي من أجلنا؛ أي: سبيلنا مخلصين لوجه الله.
جاهدوا بالقول أو بالفعل أو بالنّفس، أو جاهدوا العدو، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في طاعة الله.
{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} : جمع سبيل: سبل الهداية أو سبل الخير، اللام والنّون في (لنهدينهم) للتوكيد، لنهدينهم: أي لندلنّهم على سبلنا؛ أي: الطّرق الموصلة إلينا؛ أي: للغاية العظمى سعادة الدّارين ورضوان الله تعالى، وهي سبل مثل: سبيل الصّلاة والصّيام والإنفاق، وسبل الخير والصّلاح والطّاعة وكل هذه السّبل تؤدي إلى سبيل واحد؛ أي: دين واحد هو الإسلام وهو الصّراط المستقيم، وكلمة (سبلنا) وردت عشر مرات في القرآن.
{وَإِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} : اللام في (لمع) للتوكيد، ومع: تفيد المعية، ومعية الله سبحانه لا أعظم منها معية. وبدلاً من القول: وإنّ الله لمع المجاهدين، قال: مع المحسنين؛ لأنّ الّذين جاهدوا في الله سبحانه وصلوا وأصبحوا في مقام المحسنين، أو هم فئة من فئات المحسنين. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة للبيان، وارجع إلى الآية (6) من نفس السورة لمزيد من البيان.
سورة الروم [30: 1]
سورة الروم
سورة ترتيبها في القرآن (30) وترتيبها في النّزول (84).
{الم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
سورة الروم [30: 2]
{غُلِبَتِ الرُّومُ} :
{غُلِبَتِ} : بضم الغين؛ أي: هُزمت الروم من قِبل الفرس (المجوس) الّذين كانوا يعبدون النّار، والروم: اسم سلالة لرجل اسمه: روم بن عيص، من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، ويقال لهم: بنو الأصفر.
وهم أبناء عم بني إسرائيل، وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافث بن نوح، بنوا مدينة دمشق، والروم هم من أهل الكتاب.
وكان المسلمون يودون غلبة الروم على الفرس.
سورة الروم [30: 3]
{فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} :
{فِى أَدْنَى الْأَرْضِ} : أدنى: أقرب لأرض العرب (أرض الجزيرة العربية)، وقيل: كان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة بخمس سنوات، وقيل: بسنة واحدة، وأدنى الأرض: هي بين أذرعات وبصرى الشام؛ وهي أدنى أقرب أرض الشام إلى أرض العرب (مكة)، وقيل: أدنى الأرض؛ تعني: الأردن وأرض فلسطين، أو بين العراق والشام.
{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} : وهم: تعود على الروم، من بعد غلبهم؛ أي: هزيمتهم، سيغلبون: السّين للاستقبال القريب. سيغلبون الفرس؛ أي: المجوس، فكانت هذه بشرى للمسلمين الّذين كانوا أقرب إلى الروم منهم إلى الفرس من ناحية العقيدة والدين، فالروم من أهل الكتاب والفرس (المجوس) كانوا يعبدون النّار.
سورة الروم [30: 4]
{فِى بِضْعِ سِنِينَ} : في: ظرفية زمانية، بضع سنين: تعني من (3-9) سنين، وقيل: كان في سبع سنين، وكان نصر الروم على الفرس في يوم بدر كما روى الترمذي وابن جرير وغيرهم. وقيل: كان في عام الحديبية السنة السادسة للهجرة.
وهذا النبأ من أنباء الغيب ومعجزة دالة على أنّ القرآن هو تنزيل من رب العالمين، ودليل على نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النبأ بمثابة بشارة أثارت فرحة المؤمنين.
{لِلَّهِ الْأَمْرُ} : لله: اللام للاختصاص. لله الحكم في تقرير من هو الغالب والمغلوب.
{مِنْ قَبْلُ} : أي من قبل أن تُغلب الروم (أي تُهزم).
{وَمِنْ بَعْدُ} : أي من بعد أن تنتصر الروم.
وانتبه إلى قوله: (من قبلُ ومن بعدُ) بالضم، ولم يقل من قبلِ ومن بعدِ بالكسر. فالضم يدل على زمن معين قد يطول أو يقصر، ولكنه زمنٌ معلومٌ ومقدَّرٌ، والكسر يدل على زمن غير معين، أو معلوم أو لا يُعلم.
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} : أي يوم تَغلبُ الرومُ الفرسَ (المجوس). يومئذ: يوم ظرف أضيف إلى (إذ)(بمعنى حين)؛ أي: حينئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله تعالى للروم على الفرس.
سورة الروم [30: 5]
{بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
النصر: يكون بقتال أو حرب أو عُدة.
أما الفتح: يكون بدون قتال أو حرب أو عُدة.
{بِنَصْرِ اللَّهِ} : أي يفرح المسلمون بنصر الله للروم على الفرس. الباء: السببية.
{يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} : من عباده، من: ابتدائية.
{وَهُوَ} : تفيد التّوكيد.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، القادر على إنجاز وعده.
{الرَّحِيمُ} : بعباده الصالحين أو بالمؤمنين، صيغة مبالغة؛ أي: كثير الرّحمة. ارجع إلى سورة الحمد آية (2) لمزيد من البيان.
سورة الروم [30: 6]
{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :
{وَعْدَ اللَّهِ} : أي هذا النبأ بأنّ الله سينصر الروم على الفرس (المجوس) في بضع سنين، وهو وعد من الله سبحانه، والوعد إذا أُطلق يعني الخير، والوعيد يكون في الشر خاصة، والوعد إذا قيّد قد يكون للخير أو الشر، وإذا جاء في سياق الشر يفيد التهكّم والاستهزاء.
والوعد: يقتضي الإنجاز.
{لَا} : النّافية لكل الأزمنة.
{يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} : أي وعد الله سبحانه كائنٌ محققٌّ لامحالة.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن: حرف استدراك؛ أي: قليلٌ من النّاس يعلمون أنّ الله منجز وعده، أو كثير من النّاس لا يعلمون أن الله لا يخلف وعده. أو لا يعلمون أمور دينهم وآخرتهم، أو لا يعلمون بواطن الأمور وإنما يعلمون ظاهراً واحداً من جملة الظواهر؛ وهو ظاهر الحياة الدّنيا.
سورة الروم [30: 7]
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} :
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أي العلوم المادية من زراعة وصناعة، وتجارة وهندسة وحساب وغيرها؛ أي: يعلمون شيئاً من علوم الدّنيا أو يعلمون متاع الدّنيا وزينتها وملاذّها.
{وَهُمْ} : للتوكيد، {عَنِ}: تفيد المجاوزة والمباعدة.
{الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} : تكرار (هم) لزيادة التّوكيد، هم غافلون: عن حقيقة الحياة الدّنيا، وأنها مزرعة الآخرة وأنها متاع الغرور. ساهون عمداً غير متيقظين وغير حذرين البعث والحساب والجزاء، وغافلون: جملة اسمية تدل على أن الغفلة أصبحت عندهم صفةً ثابتةً راسخةً. ارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان.
سورة الروم [30: 8]
المناسبة: لماذا هم غافلون عن الآخرة؟ لمَ لا يتفكرون في أنفسهم وفي خلق الله السّموات والأرض وما بينهما، فلعلهم بالتفكر يستيقظون من غفلتهم ويؤمنون بالله ولقائه ووحدانيته، ويؤمنون بالآخرة والبعث والحساب والجزاء.
{أَوَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري، والواو: تفيد شدة الإنكار؛ أي: كيف لا يتفكرون. ولم: حرف نفي.
{يَتَفَكَّرُوا فِى أَنْفُسِهِمْ} : يتفكروا؛ أي: ينظروا في الدلائل ومنها: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} بالحق؛ أي: بنظام محكم ودقة فائقة لا تتغير وثابتة وتسير في نظام ثابت في أفلاكها ومستمرة إلى يوم القيامة، وأنها لم تخلق عبثاً أو بغير غاية وحكمة. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (19) لمزيد من البيان، وسورة البقرة آية (23-29) والأنبياء آية (30) وفصلت آية (9-12) لبيان معنى خلق السموات والأرض.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} : ارجع إلى سورة الفرقان آية (59).
{إِلَّا} : أداة حصر.
{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق والإلزام.
{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} : وهو قيام الساعة؛ أي: لابد أن تنتهي الأرض والسموات وتزول، فلكل شيء أجل مسمى كقوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].
فالتفكر في هذه الدلائل لابد أن يوصل إلى الحقيقة أن الله سبحانه واجب الوجود، هو الإله الخالق وحده، وأنه الّذي يستحق أن يُعبد وأن البعث والحساب والجزاء والدار الآخرة حق.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَائِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} : رغم كل هذه الأدلة والبراهين على وجوب لقاء الله تعالى والبعث والحساب، لازال الكثير من النّاس بلقاء ربهم كافرين. وهناك فرق بين {كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} ، وقوله تعالى:{أَكْثَرَ النَّاسِ} فأكثر تعني: أكثر من كثير.
{بِلِقَائِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} : أي غير مصدقين أو لا يؤمنون، أو يجحدون. إن واللام في (لكافرون) تفيدان التّوكيد، وأما الأقلية فهم بلقاء ربهم يؤمنون.
سورة الروم [30: 9]
{أَوَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري، والواو: لمطلق الجمع. ارجع إلى الآية السّابقة لمزيد من البيان. ولم يقل: أفلم يسيروا؛ الفاء: تستعمل إذا كان ما قبلها سبباً لما بعدها، وتسمى فاء السببية، أو تذكر الفاء مع الأشد توكيداً.
{يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : السير في الأرض؛ أي: السفر في الأرض، ولم يقل على الأرض؛ لأن الطبقة الغازية المحيطة بالأرض هي جزء من الأرض، وفي: ظرفية مكانية.
{فَيَنظُرُوا} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ أي: يسافروا من ديارهم للسياحة ومشاهدة آثار وديار الّذين جاؤوا من قبلهم فينظروا بأعينهم وببصيرتهم نظرة اعتبار، وهناك فرق بين يسيروا في فينظروا، أو ثم ينظروا، فينظروا: الفاء: تدل على المباشرة والترتيب، ثم: تدل على التراخي في الزمن؛ أي: يسيروا في الأرض لسبب ما مثل التجارة أو الدراسة وبعد ذلك يقوموا بزيارة الأماكن الأثرية التي تركها قوم عاد وثمود ولوط وفرعون وغيرهم.
{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : كيف: استفهام، وتذكير العاقبة دائماً في القرآن تعني العذاب؛ أي: كيف كان هلاك وعذاب الّذين من قبلهم من الأقوام كقوم عاد وثمود ولوط وفرعون، ولم يقل كيف كانت؛ لأن تأنيث العاقبة يعني: العاقبة الحسنة في القرآن.
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} : كانوا أشد منهم؛ أي: من كفار قريش وغيرهم. أشد قوة في الجسم (البنية) والعدد والعتاد وطول العمر.
{وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} : أي زرعوا الأرض وعمروها بالإنشاء والتعمير والبنيان، واتخذوا من الجبال بيوتاً وبنوا في كل ريع آيةً، والمصانع والقصور.
{وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} : أي أكثر من عمارة أهل مكة.
{وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : وجاءتهم، ولم يقل وجاءَهم، جاءتهم (تاء التأنيث) تدل على الكثرة، وجاءَهم بالتذكير تدل على قلة الرّسل.
رسلهم: جمع رسول مرسل من الله، ولم يقل رسلنا؛ لأن (رسلنا) تدل على شدة الأحكام والتكاليف.
بالبينات: الباء للإلصاق، بالدلائل والبراهين والمعجزات الدّالة على صدق نبوتهم، وعلى وجوب الإيمان بالله وحده وترك الشرك.
{فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} : الفاء: للتوكيد، وما: النّافية، ليظلمهم: اللام لتوكيد نفي الظلم؛ أي: لم يظلمهم الله شيئاً ولو مثقال ذرة؛ لأنه سبحانه غني عن ذلك.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : ولكن: حرف استدراك وتوكيد. كانوا: في الماضي المنقطع. أنفسهم: حصراً وقصراً، يظلمون أنفسهم بالخروج عن منهج الله تعالى، حيث كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى، وأعرضوا وعصوا رسلهم، وتمادوا في بغيهم وطغيانهم ومعاصيهم، فظلموا أنفسهم حيث أوردوها التّهلكة والدمار، وقدّّم (أنفسهم) على (يظلمون)؛ أي: ظلموا أنفسهم خاصة.
سورة الروم [30: 10]
{ثُمَّ} : للترتيب الذكري.
{كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ} : ذكر العاقبة (باستعمال كان عوضاً من كانت) فقال: (كان عاقبة) وتذكير (العاقبة)؛ يعني في كل القرآن العذاب، وتأنيث العاقبة مثل:(كانت عاقبة) يدل على الجنة.
{الَّذِينَ أَسَائُوا} : الذين: اسم موصول. أساؤوا إلى أنفسهم أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
{السُّوأَى} : أي جهنم، والسُّوأى: مؤنث الأسوأ؛ أي: الأقبح، كما أن الحسنى: مؤنث الحسن.
{أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : أن: تعليلية.
{كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : القرآنية والكونية والمعجزات، والباء للإلصاق والاستمرار. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (47) لمزيد من البيان في الآيات.
{وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} : الاستهزاء: الطعن بها وتحقيرها، أو الاستخفاف بها والتصغير.
سورة الروم [30: 11]
{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :
{اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} : يبدأ تعني: الله بدأ الخلق الأول النشأة الأولى، ومازال يخلق (ومازال يبدأ الخلق) فآلاف الولدان يولدون كل يوم، وفي كل عام نرى الأرض تعود مخضرّة، فهو بذلك يبدأ الخلق. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (20)، وآية (19) لبيان الفرق بين بدأ يبدؤا يُبْدئ الخلق.
{ثُمَّ} : للتراخي في الزّمن والترتيب.
{يُعِيدُهُ} : يوم القيامة بالبعث من القبور.
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : ثم إليه حصراً ترجعون للحساب والجزاء، ترجعون قسراً وبغير إرادتكم.
سورة الروم [30: 12]
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} :
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} : الساعة: ساعة تهدّم النظام الكوني الحالي، يُبلس: من: أبلس الرجل؛ أي: سكت وانقطعت حجته، والإبلاس: اليأس من الخير، والمبلِس: الساكت المنقطع الحجة اليائس من الخير؛ أي: يسكت المجرمون الكافرون المشركون والعاصون وتنقطع حجتهم، ولا يجدون ما يقولونه من شدة الأهوال. ارجع إلى سورة الأنفال آية (8) لبيان معنى المجرمون.
سورة الروم [30: 13]
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاؤُا وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} :
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاؤُا} : لم يجدوا أحداً من الّذين اتخذوهم شركاء لله تعالى في الدنيا؛ ليشفعوا لهم في الآخرة أو ليقرّبوهم زلفى، لم يحضروا ليشفعوا لهم ويمنعوهم من العذاب أو يخففوا عنهم يوماً من العذاب.
{وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} : جاحدين منكرين أو متبرّئين. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].
سورة الروم [30: 14]
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} :
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : الساعة: ساعة تهدُّم النظام الكوني الحالي: وتكرار يوم تقوم الساعة يدل على التهويل والترويع.
{يَوْمَئِذٍ} : توكيد ليوم؛ أي: حينئذٍ.
{يَتَفَرَّقُونَ} : أي يتفرق المؤمنون والكافرون بعد الحساب: فريق في الجنة وفريق في السعير؛ لقوله في الآية (15) القادمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.} . {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.} .
سورة الروم [30: 15]
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} :
{فَأَمَّا} : الفاء: استئنافية؛ أداة شرط وتفصيل.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ} : للتوكيد. فهم: الفاء رابطة لجواب الشرط؛ هم: تفيد التوكيد.
{فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} : في جنة، في روضة من رياض الجنة، الروضة: المكان المليء بالأشجار والخضرة والزهور، يحبرون: من الحبور؛ أي: في السرور والفرح ينعَّمون ويكَّرمون.
يحبرون: تدل على تجدد وتكرار حبورهم وسرورهم الّذي لا ينقطع.
سورة الروم [30: 16]
{وَأَمَّا} : أداة شرط وتفصيل.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : بالله ووحدانيته، وجحدوا نعمه.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : أي: بالأدلة والبراهين الدالة على وجوب الإيمان بالله ووحدانيته والبعث مثل: الآيات القرآنية أو الكونية، أو المعجزات الدّالة على نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم.
{وَلِقَائِ الْآخِرَةِ} : البعث والحساب والجزاء والعرض على الله.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة للبعد والذم.
{فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} : جمع محضر؛ من الحضور ضد: الغياب. محضرون: جمع مُحضَر: اسم فاعل من: حضر يحضر: مَنْ يُحضر رغماً عن أنفه، أو تحضرهم الملائكة قسراً سواء رضوا بالحضور أم لم يرضوا. يحضرون إلى العذاب ليجزوا ما كانوا يعملون. وكلمة محضرون لا تأتي إلا في سياق العذاب (في كل القرآن).
سورة الروم [30: 17]
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} :
المناسبة: حتى تكونوا من أهل الروضة الّذين يُحبرون كما ورد في الآية (15)؛ أي: أهل الجنة، وحتى يتحقق وعد الله، عليكم بالتسبيح في دار الدنيا؛ أي: تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله أن يكون مثله شيءٌ. وقيل: التّسبيح يعني: الصّلاة فحين نقول: سبحان ربي الأعلى وسبحان ربي العظيم، فهذا جزء من الصّلاة، من باب إطلاق الجزء على الكل. ولبيان معنى التسبيح: ارجع إلى سورة الإسراء آية (1)، والحديد آية (1).
{حِينَ} : ظرف زمان غير محدد.
{تُمْسُونَ} : تدخلون في المساء، ويعني: صلاة المغرب والعشاء؛ أي: صلوا صلاة المغرب والعشاء.
{وَحِينَ تُصْبِحُونَ} : تدخلون في الصباح، ويعني: صلاة الصبح؛ أي: الفجر، وقدم تمسون على تصبحون؛ لأنه سبقها الحديث عن الساعة، والساعة تأتي أو تقوم في آخر الدنيا، وتمسون من المساء يأتي آخر النهار.
وكذلك سبحانه حين يتوفّى بلايين الأنفس حين منامها تنزيهاً لعظمته وقدرته، وحين تصبحون؛ أي: وسبحانه حين يرسل بلايين الأنفس أو يبعثها إلى أجل مسمى.
سورة الروم [30: 18]
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} :
انتبه كيف فصل سبحانه بين: تمسون وتصبحون، وعشياً وحين تظهرون، وجاء بآية: وله الحمد في السّموات والأرض، فالسياق هو: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وعشياً وحين تظهرون؛ لأن (عشياً) معطوفة على (حين تصبحون) أو على (وله الحمد عشياً وحين تظهرون).
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر؛ أي: له وحده الحمد في السّموات والأرض، في: ظرفية زمانية ومكانية في أيِّ زمان ومكان في السّموات والأرض؛ أي: هو المحمود من أهل السّموات (الملائكة) والأرض الحمد المطلق.
أما الحكمة في المجيء بآية الحمد بين الصلوات فهي: إما تذكير بعدم نسيان حمده بين الصلوات أو في كل الأوقات فهو ذو الفضل العظيم، أو حتى يعلمنا التسبيح أولاً والحمد ثانياً، كما نقول: سبحان الله والحمد الله، أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، أو الحمد على أنّي سبّحت الله تسبيحاً، أو لأنّ الصّلاة هي تسبيح وحمد لله، والآية تحمل كل المعاني.
{وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} : عشياً؛ أي: صلاة العصر، والعشيّ: وقت العشيّ أو العشاء وهو شدة الظلام.
{وَحِينَ} : زمن تظهرون صلاة الظهر. تظهرون وسط النهار أو وقت الظهيرة.
فهذه الأوقات الخمسة هي أوقات الصلوات الخمس.
{وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} : عشياً يمثل الليل، وحين تظهرون يمثل النهار؛ أي: وله الحمد ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً وعلى مدار الزّمن.
سورة الروم [30: 19]
مناسبة ذكر الحي من الميت والميت من الحي بعد قوله: (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)؛ لأن: تمسون من: المساء؛ أي: الليل والسكون والهمود، وبالتالي النوم الّذي يمثل صورة من صور الوفاة كما قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
وتصبحون يمثل النهار والبعث والحياة والنشور؛ أي: النوم يمثل الموت والاستيقاظ يمثل البعث.
يقول: {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ويخرج الميت من الحي: ارجع إلى سورة آل عمران آية (27) للبيان.
وقوله: يخرج: تدل على التجدد والتكرار، وهذا ما نراه في كل يوم، وفي آية (95) من سورة الأنعام قال تعالى:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} جاء باسم الفاعل؛ ليدل على الثبوت، ثبوت صفة الإخراج. ولمزيد من البيان عن هذه الآية ارجع إلى سورة الأنعام آية (95).
{وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : وموت الأرض ذُكر في سورة يس آية (33){وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} .
وموت الأرض يعني: كونها هامدة وخاشعة، كما ذكر ذلك في سورة الحج آية (5):{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
وفي سورة فصلت آية (39): {أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وإحياء الأرض يكون بالماء كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} [الآنبياء: 30].
{وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} : هذا الإخراج بيّنته أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد جاءت الأحاديث مخبرة بأنه يسبق نفخة البعث (النفخة الثانية) نزولُ ماء من السّماء فتنبت به أجساد العباد، كما ورد في (صحيح مسلم) ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطراً كأنه الطَّلّ فتنبت منه أجساد النّاس.
وهذا الإنبات: إنبات الأجساد يكون من وصول هذا الماء الطَّلّ إلى القبور وإلى بقايا عظم عجب الذنب، وهو يسمى في علم التشريح: عظم العجز فالماء يؤدي إلى تكاثر الخلايا التي بقيت حية وقادرة على التكاثر، وهي من الخلايا الجذعية المسماة: كاملة القدرات، القادرة على تكوين الجنين، وهكذا ينمو ويعود الإنسان كما ينبت النبات بعد نزول الماء من السّماء ومن بذرة صغيرة تكون في الأرض ساكنة حتى يصلها الماء فتتحرك بالحياة، وهذه البذرة موجودة في عجب الذنب.
ففي (صحيح البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل من السّماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس في الإنسان شيء إلا بلي، إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، منه يُركَّب الخلق يوم القيامة).
وقد وردت أحاديث مشابهة بروايات أخرى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركَّب) أخرجه البخاري وأحمد في المسند، ومالك في الموطأ. وفي رواية أخرى لأبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يُركَّب يوم القيامة، قالوا: أي عظم يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب) رواه البخاري والنسائي وابن ماجه وأحمد.
وهذان الحديثان يشيران إلى أن في عجب الذنب خلايا تبقى حية وقادرة على التكاثر، ومن نوع الخلايا الجذعية المسماة: كاملة القدرات، القادرة كل منها على تكوين الجنين لوحدها، وهذه معجزة علمية خالدة تشهد بأن رسول الله عليه الصلاة والسلام حقٌّ، وعجب الذنب يسمى في علم التشريح: عظم العجز، وقد تبين من الدراسات الجنينية أن هذا العظم يتشكل مما يسمى: الشريط الأول، وهو جزء محوري يظهر في أوائل الأسبوع الثالث ويضمر في نهاية الأسبوع الرابع، ويحوي على خلايا جذعية من مختلف الأنواع، والاستنساخ يعتمد على نظرية أن الإنسان يمكن تكوينه من خلية واحدة تحوي (46) كروموسوماً، وبذلك يمكن تفسير أن البعث يوم القيامة أهون من الخلق الأولي، وهذا ما يذكره العلماء، والله أعلم.
وقد وردت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم في تشبيه البعث والنشور بإحياء الأرض بعد موتها بعد نزول الغيث.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 56]{وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9].
سورة الروم [30: 20]
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} :
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : من ابتدائية بعضية؛ أي: من بعض آياته الخلقية الدّالة على قدرته وعظمته ووحدانيته وحكمته. وقوله: (من آياته)، ولم يقل (ومن الآيات): تدل على أنها آيات خاصة عظيمة الدلالة.
{أَنْ} : للتعليل.
{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} : قد تعني: عند بدء الخلق خلقكم من تراب؛ أي: خلقكم من أبيكم آدم وآدم من تراب؛ لأن آدم هو الأصل فكل فرد فيه ذرات من آدم وآدم كان خلقه من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه؛ أو قد تعني: خلقكم من سلالة من طين؛ أي: من نطفة ثم علقة ثم مضغة، والنطفة (الحيوان المنوي) مركبة من مواد بروتينية أو عضوية جاءت من الغذاء، والغذاء أصله من نبات الأرض أو الحيوان الّذي يأكل النبات أيضاً، فلو نظرنا في تركيب الإنسان لوجدنا في جسمه أكثر من (16) معدناً مثل الكالسيوم والحديد والمغنيزيوم والبوتاسيوم والصوديوم وغيرها، وكلها موجودة في التراب، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12-13].
{ثُمَّ} : تدل على الترتيب والتراخي.
{إِذَا} : ظرفية فجائية.
{أَنْتُمْ بَشَرٌ} : مشتقة من البشرة، وهي: ظاهر جلد الإنسان، فهي بشرة خاصة به تميزه عن غيره، ومن البشارة وهي: حسن الهيئة، أو بشرٌ لظهورهم بعكس الجن المستورين أو المختفين.
{تَنْتَشِرُونَ} : من الانتشار وهو: الامتداد والتوزع في الأرض يعيشون في هذا البلد أو ذاك، أو هذه القرية أو المدينة أو الضاحية أو الصحراء، فهذا الانتشار آية من آيات الله؛ لأن كل واحد راض عن مكان إقامته ولا يتذمّر، بل يحب وطنه وأرضه ومستعد أن يدافع عنها.
تنتشرون: بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار واستمرار الانتشار.
سورة الروم [30: 21]
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ومن: الواو: عاطفة، من: ابتدائية بعضية؛ أي: من بعض آياته، ولبيان معنى آياته ارجع إلى الآية (20) من نفس السورة، وإلى سورة العنكبوت آية (47).
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
{خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} : أي من جنسكم ونوعكم البشري، والمخاطب هنا الذكر والأنثى. و (الأزواج) تعني: الزوج ومعه مثله.
والأزواج تطلق على الذكر والأنثى، أو الزوج تعني: اثنين مفرد معه مثله.
خلق لكم: خاصة من أنفسكم أزواجاً؛ ليحدث التكامل الّذي أراده الله تعالى في الطباع والعادات، ويحدث التكاثر والتناسل من بني الإنسان؛ لتعمر الأرض. فالذكورة والأنوثة آيتان من آيات الله تعالى كما هي آية الليل والنهار.
{لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} : بالزواج الشرعي، اللام: لام التّعليل والتّوكيد، تسكنوا إليها: والسكن من السكون؛ أي: الراحة، وسكن إليه؛ أي: استأنس به واستراح إليه واطمأن به، وتعني: السكن في دار واحدة والعيش معاً، والسكن يعني: الراحة وقوف الحركة (المعاني الجامع)، والسكون لتسكنوا إليها؛ أي: تميلوا إليها وتألفوها، أو ليأوي إليها وبما فيها من معنى السكينة النفسية والاستقرار والحماية والأمن والوقاية من الأوبئة والسرور وتبادل الحب والرحمة، والسكينة الجنسية التي تحصل بين الزوجين بعد الثورة الجنسية التي تحصل بينهما، وإنجاب الأطفال الذين هم زينة الحياة وزهرتها.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً} : حباً أولاً، فالمحبة تسبق المودة؛ أي: تتجلى آثار المحبة بالمودة فكل مودة محبة وليس كل محبة مودة، فالمودة تشمل المحبة الإخلاص والوفاء وغيرها من المظاهر.
{وَرَحْمَةً} : تظهر خاصة في النصف الأخير من الحياة الزوجية، فعلى الزوج أن يرحم زوجته والزوجة ترحم زوجها إذا قصرت في واجباتها، وإذا فقدت الرّحمة فالبيت أصبح في خطر، ولابد من الصبر والتحلي بأعلى الأخلاق.
إذن ثلاثة أهداف للزواج: السكن، والمودة، والرحمة.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إن: للتوكيد، في ذلك لآيات: اللام في (لآيات) للتوكيد أيضاً.
{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : اللام لام الاختصاص، قوم يتفكرون: في هذه الآيات والدلائل؛ ليصلوا إلى عظمة الخالق وقدرته ووحدانيته والإيمان به، ويتفكرون بحكمته الجلية علينا في كل لحظة وساعة من ساعات الحياة الدنيا.
سورة الروم [30: 22]
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ارجع إلى الآية (20) للبيان، وتكرار (ومن آياته) (6 مرات): تدل على التوكيد وأهمية كل آية.
{خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : بالحق وخلق السّموات والأرض وما فيهما من آيات كثيرة مثل: خلق السّموات بلا عمد ترونها، وخلقه سبعاً طباقاً، وإمساك السّماء أن تقع على الأرض، وجعل السّماء سقفاً محفوظاً، والشّمس والقمر والنجوم والجبال والأرض هو أكبر من خلق النّاس. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30)، وسورة فصلت آية (9-12)، وسورة الأعراف آية (54) لبيان معنى الخلق.
{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} : لغاتكم ولهجاتكم والقدرة على تعلُّم أكثر من لغة والنطق بها، والقدرة أن يتفاهم بعضكم مع بعض.
{وَأَلْوَانِكُمْ} : الأبيض والأسود والأسمر والأحمر والأصفر.
وباختلاف الألسنة (اللغات) والألوان يحدث التمايز بين النّاس بالشكل والصورة، وكل هذا التمايز الظاهري ليس له قيمة عند الله إلا التمايز الحقيقي، الّذي هو مبني على التقوى والتقوى فقط، وكما قال سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} : إن واللام: في الآيات للتوكيد.
للعالمين: اللام لام الاختصاص، للعالمين؛ أي: في ذلك دلالات على قدرته تعالى للعالمين.
للعالمين: عندنا قراءتان متواترتان.
للعالَمين: جمع عالَم مثل: الحمد لله رب العالمين (عامة الإنس والجن)
للعالِمين: ولم يقل علماء، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} أي: هذه الآيات الواضحة لا تحتاج إلى علم كبير أو كثرة علم، ويمكن إدراكها ومعرفتها بعلم قليل، فهي واضحة للعالَمين، أو للعالِمين الّذين هم قمة في العلم أيضاً.
سورة الروم [30: 23]
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ارجع إلى الآية (21).
{مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : أي البعض ينام بالليل والبعض ينام بالنهار، وجمع الاثنين وقدّم الليل على النهار؛ لأن الأكثرية تنام بالليل.
{وَابْتِغَاؤُكُم مِنْ فَضْلِهِ} : بالليل والنهار؛ أي: البعض يشتغل بالليل والبعض يشتغل بالنهار؛ أي: يسعى وراء رزقه، فالليل والنهار آيتان من آيات الله، والنوم واليقظة كذلك من آيات الله سبحانه. فكل هذه الآيات تشير إلى قدرة الله ورحمته بكم.
منامكم بالليل أو النهار لتسكنوا فيه سواء بالليل أو بالنهار، وتنقطعوا عن الحركة فترتاح أجسامكم وتصبح قادرة على السعي والعمل بعد أخذ نصيب من الراحة.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إن واللام في (لآيات) تفيدان التّوكيد.
{لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} : اللام لام الاختصاص، يسمعون: سماع تدبُّر وفهم وفائدة، لا مجرد سمع، واختار كلمة (يسمعون) هنا؛ لأن السمع أو آلية السمع عند النوم تبقى مفتوحة ولا تغلق رغم الظلام المحيط بنا كما يحدث للأعين.
سورة الروم [30: 24]
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ارجع إلى الآية (21) للبيان.
الرعد والبرق: الناتج عن تصادم السحب السالبة والسحب الموجبة الحاملة للشحنات الكهربائية العالية، وهذا التفريغ الكهربائي يؤدي إلى أكسدة كثيرٍ من عناصر الغلاف الغازي للأرض، وينزل المطر على شكل أحماض تتفاعل مع عناصر التربة وتتحول إلى أسمدة تغني الأرض بخيراتها.
{يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} : لما يصحبه من صواعق كهربائية وأمطار غزيرة تسبب الفيضانات وانقطاعاً في التيارات الكهربائية.
{وَطَمَعًا} : في الغيث وإنبات الزرع والفاكهة.
{وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} : أي من السحب الركامية، {مَاءً}: أي ماء المطر.
{فَيُحْىِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : إحياؤها بالماء وبالنبات بعد موتها، ولم يقل من بعد موتها.
بعد موتها: الإحياء في هذه الآية يكون بعد فترة طويلة غير محددة بزمن قد يطول أو يقصر، أما لو قال: من بعد موتها، تدل على المباشرة بعد فترة قصيرة أو كل عام.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إن واللام تفيدان التّوكيد. لآيات: تدل على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته.
{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : اللام لام الاختصاص، يعقلون: من: عقل الشيء: فهم الشيء، عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه، ووصل وأدرك. فهذه الآيات وحدها كافية لمن يعقل أن يصل إلى الحقيقة؛ وهي أن الله سبحانه هو الإله الخالق المستحق للعبادة، أو المعبود الحق والإيمان به وبلقائه ووحدانيته.
سورة الروم [30: 25]
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : الدّالة على عظمة قدرته وخلقه وألوهيته ووحدانيته هي:
{أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ} : أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد. تقوم السّماء: تقوم بلا عمد وتبقى قائمة لا تزول ولا تتغير ولا تتشقق ولا تتصدع، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65] والسّماء: تشمل السّموات السبع وكل ما علا الأرض من سحاب أو طبقات غازية.
{وَالْأَرْضُ} : قائمة تدور حول نفسها وحول الشّمس في فلك خاص بها ولا تتغير في دورانها، فلا تزيد سرعتها ولا تنقص، ولا تقترب من الشّمس أو تبتعد. وجاء الفعل (تقوم) بصيغة المضارع؛ للدلالة على التجدد والاستمرار.
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} : ثم للترتيب والتراخي في الزّمن. إذا: شرطية تفيد حتمية الدّعاء، دعاكم دعوة من الأرض؛ أي: حين ينفخ إسرافيل في الصور نفخة القيام والبعث للخروج من القبور دعاكم: طلب منكم الخروج، ولم يقل أمركم؛ لأن في الأمر ترغيباً في الفعل.
{إِذَا} : الفجائية وهي ظرفية زمانية وشرطية.
{أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} : تبعثون: تنسلون من الأجداث. وأنتم: تفيد التّوكيد إذا الكل يخرج بلا استثناء. ارجع الآية (19) من السّورة نفسها؛ لبيان كيفية هذا الإخراج.
سورة الروم [30: 26]
{وَلَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} :
{وَلَهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : له وحده وحصراً خلقاً وملكاً وتدبيراً وحكماً.
{مَنْ} : للعاقل عادة، وتستعمل لإنزال الغير عاقل منزلة العاقل كما في هذه الآية.
{فِى السَّمَاوَاتِ} : في ظرفية، السّموات؛ أي: الملائكة والنجوم والكواكب والمجرات، فالكل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والبقية مسخَّرة.
ومن في الأرض؛ أي: أهل الأرض (الإنس ـ والجن: الثقلان) ومنهم الكفرة والمشركون والعاصون، ومنهم الموحدون المطيعون أيضاً.
كلٌّ له قانتون، والقنوت: هو الطاعة والانقياد لله تعالى، وبالخضوع قسراً كالكافرين والمشركين يبقى هؤلاء خاضعين لله مقهورين بالمرض وحوادث الحريق والكوارث الجوية والموت، فالكل قانت خاضع لجبروته.
سورة الروم [30: 27]
{وَهُوَ} : الواو عاطفة، هو: تعني الله سبحانه وحده، أو تدل على واجب الوجود، وهو (ضمير الغيبة) لا يصح أن يطلق إلا على الله وحده؛ لأنه سبحانه قال: هو الله. ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم والسمو.
{يَبْدَؤُا الْخَلْقَ} : أي بدأ الخلق ولايزال يبدؤا الخلق ويخلق خلقاً جديداً متى شاء وقدّر، (يبدأ الخلق) تدل على التجدد والاستمرار، ففي كل ثانية يولد مئات أو آلاف الأولاد مثلاً، وملايين الحيوانات والنباتات.
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي في الزّمن.
{يُعِيدُهُ} : أي يُعيد خلقه مرة بعد مرة، ويتجدد ويتكرر خلقه ويستمر ولا يتوقف.
أي: يبدأ الخلق ثم يميته ثم يعيده كما بدأه، وهكذا يستمر حتى النفخة الأولى نفخة الصعق، وبعدها تكون آخر إعادة لكل الخلق ويكون يوم البعث.
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : ولم يقل وهي أهون عليه؛ هي أهون عليه تعني: عملية الإعادة، بينما (هو أهون عليه) تعني الشيء الّذي يريد إعادته، وكلمة (أهون عليه) لا تدل على أن هناك أشياء أو أموراً صعبة على الله تعالى وهناك أشياء سهلة أبداً، فالكل متساوٍ عنده، ولكنه سبحانه يخبرنا بهذه العبارات؛ أي: بمفهوم الذات البشرية وليس بمفهوم الذات الإلهية، ويخاطبنا على قدر عقولنا فيقول:(أهون عليه). {هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] وهو أهون عليه؛ أي: إعادة الخلق مقارنة ببدء الخلق حسب قانون البشرية.
{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي لا مثيل له، ليس كمثله شيء، له صفات الكمال والجلال لا إله إلا هو ولم يكن له كُفواً أحد، هو الواحد الأحد الغفور الحليم بعباده، سبحانه عما يصفون.
{وَهُوَ} : ضمير يفيد التّوكيد.
{الْعَزِيزُ} : أي القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر والممتنع.
{الْحَكِيمُ} : أحكم الحكماء وأحكم الحاكمين. الحكيم في خلقه: لا يخلق شيئاً عبثاً، والحكيم في كونه وشرعه وتدبيره لكل الأمور. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة الروم [30: 28]
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا} : ضرب من الضرب، واختار هذه الكلمة وكأن قائل (المثل) يريد أن يترك أثراً في المضروب له فيقرع أذنيه بقول:(مثل) يصل إلى أعماق نفسه، وضرب المثل يعني صوغ المثل كما تصاغ العملة الفضية، والغاية من ضرب المثل هو التوضيح وتقريب المعاني للأفهام كأن يضرب شيئاً معنوياً بشيءٍ حسيٍ.
{ضَرَبَ لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، لكم خاصة.
{مَثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ} : المثل: هنا يعني تشبيهاً يراد به المقارنة والموازنة والمفاضلة؛ للتفكر وللوصول إلى الحقيقة، وهي وحدانية الله تعالى. من: ابتدائية. أنفسكم: مثلاً تعرفونه من جنسكم تشاهدونه وتعيشونه، أو مثلاً غير بعيد عنكم.
{هَلْ لَكُمْ} : هل: للاستفهام والتقرير، لكم: اللام لام الاختصاص، لكم خاصة.
{مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} : من: للتبعيض. ما ملكت أيمانكم؛ أي: من عبيدكم أو العاملين عندكم أو الخدم.
{مِنْ شُرَكَاءَ} : من: تفيد التّوكيد، واستفهامية المقصود منها النّفي؛ أي: مما ملكت أيمانكم تجعلونهم شركاء في أموالكم، ولهم الحق في التصرف في أموالكم كما يشاؤون، وأنتم وهم في المال سواء.
{فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ} : من أموال وعقارات وأراضٍ.
{فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} : أي متساوون فيما بينكم في الحقوق.
{تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} : تخافونهم؛ أي: بدل أن يخافوكم تصبحون أنتم من يخافونهم في أن تتصرفوا في أموالكم إلا بإذنهم، والسماح لكم، أو تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء الحقيقيون.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : أي مثل هذا التفصيل بضرب الأمثال نفصّل الآيات: نبيّنها بالإتيان بأمور متعددة ومواضيع مختلفة؛ لكي تصلوا إلى الحقيقة والغاية: أنّ الله هو الإله الحق لا شريك له.
{لِقَوْمٍ} : اللام لام الاختصاص.
{يَعْقِلُونَ} : يعرفون الدلائل ويفهمون الأسباب والنتائج ويصلون إلى الحقيقة وهي: كيف ترضون لرب الأرباب أن تجعلوا له من عبيده شركاء له وأنتم أنفسكم لا ترضون بذلك؟!
سورة الروم [30: 29]
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أي أشركوا.
{أَهْوَاءَهُم} : جمع هوى، والهوى: هو ما تميل إليه النفس باطلاً بما لا ينبغي ولا دليل له، وبعيد عن الحق والهوى يغلب عليه الذم، وغالباً ما يكون في الأداء والاعتقاد.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : جاهلين أنهم سائرون على طريق الضلال (أو جاهلين أنهم يجهلون).
{فَمَنْ يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} : فمن: استفهامية تفيد النّفي، أضل الله: أي من شاء أن يضل نفسه ويبتعد عن منهج الله بعيداً، فالله سبحانه يتركه وشأنه. وجواب الاستفهام محذوف؛ أي: لا أحد يقدر على هدايته.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} : ما: النّافية، لهم: خاصة، من: استغراقية، ناصرين: في الدّنيا والآخرة من عذاب الله وسخطه؛ مثل: الملائكة والأنبياء وصالحوا المؤمنين أو الأصنام أو الآلهة أو الأفراد، وكذلك ما لهم من العلم والحجة والبرهان أو الدليل، أو أي سلطان. إذن إذا قارنا (ما لهم من أنصار): التي تعني فقط ما لهم من شركاء أو أنداداً أو أفراداً أو آلهةً تنصرهم مع (ما لهم من نصير): فيها مبالغة، وتعني: ما لهم من أنصار وما لهم من أي سلطان أو دليل أو برهان أو حجة ايضاً فهي تشمل المعنيين معاً.
سورة الروم [30: 30]
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} : من الإقامة؛ أي: الأخذ به كاملاً، والخطاب موجَّهٌ إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم وإلى أمته.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} : الوجه: دليل الذات، فالوجه يعني الذات (مجاز مرسل) والوجه أشرف الأجزاء، فأقم وجهك للدين: تعني الإقبال عليه والأخذ به كاملاً (فلا تؤمن ببعض وتكفر ببعض) والاستقامة والثبات عليه والإخلاص لله بالتوحيد، وإسلام الوجه.
{حَنِيفًا} : مسلماً؛ أي: مائلاً عما دون الله أو غير الله.
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} : الفطرة هي: الإسلام؛ أي: الزم فطرة الله التي فطر النّاس عليها، والفطرة هي: الخِلْقة التي خلق الله عليها النّاس فطرة الإيمان بالله تعالى والإسلام.
أي: اتبع الدين القيّم، واتبع فطرة الله تعالى التي فطر النّاس عليها.
{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} : لا تبديل لدين الله بالشرك أو البدع، أو لا تبدلوا خلق الله بالبَتْك أو التغيير.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد يفيد المدح.
{الدِّينُ الْقَيِّمُ} : المستقيم الذي لا انحراف فيه والحق. والقيم لغةً: جمع كلمة قيمة، والقيم: الذي لا تقوم الحياة إلا به، هو مجموعة من التشريعات الربانية المشتملة على الأخلاق؛ دين الله دين الإسلام، الدين القيّم؛ أي: الحق.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن: للتوكيد، لا يعلمون التوحيد والإسلام وأنه الدين القيّم الحق، وضرورة الاستقامة عليه، وفطرة الله.
سورة الروم [30: 31]
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :
هذه بعض الوسائل لإقامة الوجه للدين القيّم.
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} : الإنابة هي: سرعة التوبة والرجوع إلى الله.
{وَاتَّقُوهُ} : أي واتقوا الله، والتقوى: امتثال أوامر الله بطاعة أوامره وتجنب نواهيه؛ كي تجعلوا وقاية بينكم وبين غضبه وسخطه والنار.
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : أتمّوها بكل شروطها وأركانها وخشوعها ولأوقاتها.
{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : يعني الشرك الخفيّ أو الرياء.
سورة الروم [30: 32]
{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} :
ولا تكونوا من المشركين، من الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً.
{مِنَ الَّذِينَ} : من: ابتدائية، الذين: اسم موصول.
{فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} : أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو فرقوا دينهم إلى مذاهب شتى واعتقادات باطلة، أو جعلوا دينهم فِرَقاً وطوائف مختلفة وبدعاً ما أنزل الله بها من سلطان.
وكانوا شيعاً: فِرقاً، وشيعة الرجل: الجماعة التي يميل إليها ويعتنق أفكارها وقيمها، وأصلها من: الشياع؛ وهي الحطب الدقيق الذي يجعل مع الجزل في النّار لتشتعل.
{كُلُّ حِزْبٍ} : كل جماعة رأيهم ونزعتهم واحدة.
انتبه إلى هذا التدرج من القلة إلى الكثرة: نفر، رهط، شِرذمة، قبيلة، عصبة، طائفة، ثلَّة، فوج، حزب، زمرة، فئة (فقه اللغة للثعالبي).
{بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} : ارجع إلى سورة المؤمنون آية (53).
سورة الروم [30: 33]
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث؛ أي: تستعمل للشيء المحقق حدوثه، وهو أن يمس الناس ضره.
{مَسَّ} : المسُّ هو اللمس الخفيف، أو الإصابة الطفيفة أو الخفيفة.
{النَّاسَ ضُرٌّ} : ضرٌّ جاء بصيغة النكرة؛ تعني: أيَّ ضرٍّ من فقر ومرض وبلاء، أو نقص في الأموال والأولاد. والضُّر: اسم جامع لكل ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله. ارجع إلى سورة يونس آية (12) لمزيد من البيان.
أما الضَّر: ضد النفع: ما تضر به آخر وتنفع نفسك؛ أي: إذا مسَّ النّاس ضرٌّ يسيرٌ خفيفٌ.
{دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} : دعوا ربهم لكشف الضرِّ عنهم. مخلصين إليه؛ أي: علموا أن لهم رباً فلجؤوا إليه ساعة الضيق والضر، ورجعوا إلى طاعته وقطعوا ما بينهم وما بين الشرك؛ لينجوا؛ أي: أخلصوا في طاعتهم وأصبحوا موحّدين، وهذه تعتبر إنابة اضطرار بسبب الشدة والضيق.
{ثُمَّ إِذَا} : أذاقهم منه رحمة. (ثم) تدل على تباعد وتباين بين (منيبين إليه) و (يشركون).
{إِذَا} : ظرفية فجائية.
{أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً} : أذاقهم مشتقة من: الذّوق فقط مجرد إذاقة؛ أي: التناول الخفيف.
{مِّنْهُ} : تعالى، تقديم (منه) على الرّحمة: يدل على الاهتمام وعلى قدرته وعظمته؛ أي: خلّصهم من الضر وأذاقهم بدل الضّر رحمةً مثل: الصحة والرخاء والغنى والأمن، رحمة: نكرة، أيّ رحمة.
{إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم} : إذا: ظرف زماني يدل على الفجأة. فريق منهم؛ أي: من الّذين كشف عنهم الضر.
{بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} : فريق منهم عادوا إلى شركهم بربهم وظلمهم وعنادهم، وفريق منهم آمنوا واتقوا ربهم واستمروا على ذلك.
وإذا قارنّا هذه الآية (33) من سورة الروم: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} مع الآية (65) من سورة العنكبوت: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، نجد في آية الروم: فريق منهم أشركوا فقط، بينما الكل أشركوا في آية العنكبوت؛ وسبب ذلك أن الّذين دعوا ربهم في آية الروم كانوا على اليابسة؛ أي: البر، وأما الّذين دعوا ربهم في آية العنكبوت كانوا في البحر، الكل كان سيغرق.
سورة الروم [30: 34]
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :
{لِيَكْفُرُوا} : اللام لام الاختصاص والتّوكيد، والتوبيخ والتقريع، أو لام العاقبة، أو تسمى لام الأمر وتفيد التهديد والوعيد.
{بِمَا} : الباء للإلصاق والإلزام، ما: بمعنى: الّذي آتيناهم، و (ما) أوسع معنىً من (الّذي) وتشمل كل شيء.
{آتَيْنَاهُمْ} : من الإيتاء وهو: العطاء بدون تملك. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان.
{فَتَمَتَّعُوا} : انتبه إلى تحويل الخطاب من الغائب (ليكفروا) إلى خطاب الحاضرين (فتمتعوا)؛ للإنذار والتهديد الشديد، ولم يضف إليها اللام؛ أي: لم يقل فليتمتعوا؛ لأنه ليس لها حاجة للتأكيد فهم يسمعون مباشرةً.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : الفاء للتوكيد، سوف تدل على الاستقبال والتراخي في الزّمن. تعلمون: عاقبةَ كفركم، والإنذار والتهديد هنا على كفرهم بالله وبالنعمة معاً.
سورة الروم [30: 35]
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} :
هذه الآية متصلة بالآية (29) وهي قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أو أنزل عليهم سلطاناً؛ أي: كتاباً يأمرهم بالشرك والضلال، وتقديرها: أهم اتبعوا أهواءهم أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون؟
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام والإنكار، أم: للإضراب الانتقالي.
{أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ} : أنزلنا دفعة واحدة، والإنزال يكون من الأعلى إلى الأسفل، و (على) تفيد العلو والاستعلاء، و (أنزلنا) بصيغة الجمع للتعظيم والإنذار الشديد.
{سُلْطَانًا} : السلطان: هو الحُجة القوية التي لا تدحض، والسلطان يقسم إلى: سلطان الحجة والبرهان أو سلطان القوة والقهر.
والسلطان هنا: سلطان الحجة والبرهان، والحق: لم ينزل عليهم لا حجة ولا سلطاناً ولا كتاباً ولا آية تبيح لهم الضلال والشرك.
{فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} : أي يشهد بشركهم وبصحّته ويقول: اتبعوا أهواءكم أو أشركوا، فليس هناك بعث ولا حساب ولا جزاء!
{بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} : الباء للإلصاق، وقد تكون سببية؛ أي: يتكلم بالأمر الّذي بسببه يشركون. أو يتكلم بالبرهان أو السلطان الّذي بسببه يشركون.
سورة الروم [30: 36]
{وَإِذَا} : الواو: عاطفة، إذا: شرطية تدل على حتمية الحدوث وبكثرة.
{أَذَقْنَا} : مجرد الإذاقة باللسان خفيفة، والإذاقة تكون في الخير والشر وهنا جاءت في سياق الرّحمة، ولو قال: أنعمنا، يكون الإنعام فقط في الخير.
{النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} : الفرح يعني السرور. رحمة: جاءت بصيغة النكرة؛ تعني: الصحة والمال والولد والخصب والرخاء. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : إن: شرطية تدل على قلة الحدوث أو الاحتمال. سيئة: نكرة؛ تعني: الشدة والمرض أو الفقر والجذب، والسيئة: ما يسيء إلى النفس. ارجع إلى سورة هود آية (9) لمزيد من البيان.
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : الباء تعليلية أو سببية، استعمل (أيديهم)؛ لأن معظم المعاصي والذنوب تُرتكب بالأيدي، ولم يقل: كسبت أيديكم؛ لأن الكسب حالة خاصة من ما قدمت الأيدي، وتأتي في سياق الرزق والربح والخسارة.
{إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} : إذا: ظرفية فجائية، هم: ضمير يفيد التّوكيد. يقنطون: من القنوط: وهو أشد اليأس، والقنوط أخص من اليأس؛ أي: ييأسون بشدة من الفرج، وذلك بسبب كفرهم؛ أي: يقنطون حين تصيبهم سيئة وينسون الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
انتبه في هذه الآية أولاً: استعمل (إذا) مع الرّحمة فقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ} وإذا تدل على الكثرة، واستعمل (إن) مع السيئة فقال:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} و (إن) تدل على القلة؛ لأن المصائب والسيئات التي يبتلي بها الله العباد أقل بكثير من النعم التي ينعمها الله على عباده.
ثانياً: لم يذكر السبب في إذاقة الرّحمة؛ لأن الرّحمة غالباً هي فضل وإحسان من الله على عباده والناس ليسوا أهلاً لها، وأما المصيبة فذكر العلة أو السبب (بما قدّمت أيديهم) حتى لا يظن أحد أن المصيبة أو السيئة تنزل بالعبد إلا بما قدّمت يداه وليس ظلماً.
سورة الروم [30: 37]
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الهمزة للاستفهام والتقرير والإنكار، والواو في (أولم): للتوكيد والجمع، أو مطلقة. لم: للنفي والإنكار، معناه: نفي ودخول نفي على نفي فهو إثبات، فمعناها: فليروا أن الله يبسط. يروا: رؤية بصرية أو رؤية فكرية قلبية؛ وتعني: يعلموا؛ أي: أولم يعلموا؟! والعلم أوسع من الرؤية.
{أَنَّ} : حرف مصدري يفيد التّوكيد.
{اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} : يبسط: يوسع ويغني أحداً من عباده ويقدر: يضيق ويفقر عبداً آخر، وفي كلا الحالتين الغنى أو الفقر فتنة وابتلاء للعبد، وقد تكون فتنة الغنى أشد من فتنة الفقر.
ارجع إلى سورة الرعد آية (26) للمقارنة بالآيات المشابهة لهذه الآية وسورة سبأ آية (36) وآية (39).
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : إن واللام في (لآيات) للتوكيد. آيات: بينات ودلالات واضحة على قدرة الله وعظمته، وأن الغنى آية من الآيات والفقر آية من الآيات، فالغنى يستوجب الشكر، شكر المنعم، والفقر يستوجب الصبر.
{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : اللام لام الاختصاص؛ أي: يستفيد منها الّذين يؤمنون؛ أي: يتجدد إيمانهم ويتكرر ويؤمنون؛ أي: هم سائرون على درب الإيمان ولم يقل لقوم مؤمنين؛ أي: الّذين ثبت عندهم الإيمان وأصبح صفةً ثابتةً لهم.
(قوم مؤمنين) أعلى درجة أو إيماناً من (قوم يؤمنون).
ولنقارن هذه الآية (37) من سورة الروم مع الآية (52) من سورة الزمر وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . ما الفرق بين (يروا) وبين (يعلموا): العلم أوسع من الرؤية، فالعلم يتناول الموجود وغير الموجود (الحاضر والغائب). والرؤية ثلاثة أنواع: قد تعني رؤية قلبية فكرية أو رؤية تعني الظن ورؤية قد تعني الرؤية الحقيقية البصرية (رؤية العين).
سورة الروم [30: 38]
المناسبة في الآية السّابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء، فجاءت هذه الآية (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل)؛ لكي تحثّ مَنْ بسط الله رزقه على الإنفاق في سبيل الله؛ ليكون من المفلحين.
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} : ارجع إلى سورة الإسراء آية (26) للبيان.
والفاء في (فآت): للتوكيد، وتعني: تَنبَّه أيها العبد فآت ذا القربى.
{ذَلِكَ خَيْرٌ} : ذلك اسم إشارة يفيد البعد ويشير إلى إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، خير: أفضل وأنفع وأحسن.
{لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : اللام لام الاختصاص، لمن يقصدون بإيتائهم وجه الله: مرضات الله وثوابه ورضوانه؛ أي: لا يريدون سمعة ولا رياءً ولا شهرة إلا الإخلاص والإيتاء لوجه الله فقط.
{وَأُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد والكاف للخطاب، تفيد العلو.
{هُمُ} : للتوكيد.
{الْمُفْلِحُونَ} : الفائزون بالجنة والناجون من النّار. ارجع إلى سورة البقرة آية (5) للبيان.
ثم ذكر نوعين من الإيتاء: الإيتاء الأول المحرّم أو القبيح وهو: الربا، وأما الثاني فهو الحسن والمقبول وهو: الزّكاة.
سورة الروم [30: 39]
{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: شرطية.
{آتَيْتُم مِنْ رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ} : آتيتم في لغة العصر تعني: توظيف الأموال أو استثمار الأموال الزائدة عن حوائجكم.
{مِنْ رِّبًا} : من لبيان الجنس؛ أي: من جنس الربا، والربا ربا النسيئة وربا الفضل. والربا في اللغة: الزيادة والنمو، واصطلاحاً: عند الفقهاء: إما ربا الجاهلية (ربا القرض): وهو الزيادة في الدين مقابل التأجيل سواء اشترطت عند حلول الأجل أو في بداية الأجل، و (إما ربا البيوع) وهو نوعان: الأول: ربا الفضل: وهو الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنساً. الثاني: ربا النسيئة: وهو تأخير القبض في أحد البدلين الربويين المتفقين في علة الربا وليس أحدهما نقداً. وباختصار الربا: كل زيادة مشروطة مقدماً على رأس المال مقابل الأجل وحده.
{لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ} : تعني: توظفوا أموالكم أو تستثمرونها عند من تطمعون أن يردّها إليكم بأكثر منها؛ أي: بأكثر من رؤوس أموالكم؛ (أي من يتداولون بالربا) ربا النسيئة أو ربا الفضل.
{لِّيَرْبُوَا} : اللام لام التّعليل والتّوكيد.
{فِى أَمْوَالِ النَّاسِ} : في أموال النّاس؛ لأن أموال الّذين يتعاملون بالربا كالبنوك وشركات الأسهم هي من أموال النّاس وليست أموال فرد معين أو أموالهم؛ أي: ما تستودعونه أو تضعونه في البنوك أو شركات الأسهم وغيرها؛ ليزداد ويكثر في تلك الأموال الربوية.
{فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} : أي لا يزكو ولا يبارك الله فيه ويضاعفه، وقد يربو عندك بالزيادة التي تأخذها من الفائدة أو الأرباح الكاذبة.
{وَمَا آتَيْتُم مِنْ زَكَاةٍ} : ما: شرطية كالسابقة، التكرار للتوكيد، آتيتم: أعطيتم أو أنفقتم، من: ابتدائية بعضية.
{تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} : تبغون رضا وثواب الله، وبدون قصد الشهرة والسمعة أو الرياء.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة يفيد البعد؛ أي: العلو والمدح.
{هُمُ} : للتوكيد.
{الْمُضْعِفُونَ} : جمع: مضعف، اسم فاعل من الفعل الرباعي: أضعف؛ أي: صار ذا ضعف؛ أي: المضعفون ثوابهم وأجرهم، أو ذوو الأضعاف الكثيرة من الحسنات، وكما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] أو تعني: الّذين يخرجون أو يتصدقون بنسبة تفوق نسبة الزّكاة نسبة تصل إلى (5% أو 10%) من أموالهم أو أكثر.
انتبه إلى كيفية كتابة الربا في هذه الآية، فهذه الآية هي الوحيدة أو المرة الواحدة فقط التي كتبت بهذا الشكل الربا، بينما في باقي الآيات كتبت بالشكل التالي الربوا، وتبين أن كتابة الربا بهذا الشكل تعني: أقل أنواع الربا، أما كتابة الربوا بهذا الشكل تعني: الربا الّذي فيه كثرة وزيادة، والله أعلم.
ملاحظة أخرى: يدخل في الربا أن يهدي الرجل للرجل شيئاً ويقصد أن يثيبه عليه أكثر من ذلك. هذا قول ابن عباس.
ملاحظة أخرى: الانتقال من صيغة المخاطب (وما آتيتم من زكاة)، (فأولئك) بصيغة الغائب: للفت الانتباه؛ أي: المضعفون ليسوا فقط هم الّذين يزكون أموالهم فهناك غيرهم المضعفون ممن يعملون الصالحات.
سورة الروم [30: 40]
بعد أن توقف عن السؤال (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) يستأنف السؤال من جديد لتقرير عقيدة التوحيد والتنديد بالشرك.
{اللَّهُ الَّذِى} : الله: الاسم الدال على واجب الوجود؛ أي: الإله المعبود، الذي: اسم موصول يفيد التعظيم والمدح.
{خَلَقَكُمْ} : في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، والخلق لغة يعني: التقدير، ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدَّكم.
{ثُمَّ رَزَقَكُمْ} : ثم تفيد الترتيب والتراخي.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} : بعد انقضاء آجالكم.
{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} : يوم البعث.
{هَلْ} : للاستفهام الإنكاري والنفي.
{مِنْ شُرَكَائِكُمْ} : من: استغراقية تشمل كل الشركاء الّذين اتخذتموهم شركاء لله تعالى.
{مَنْ يَفْعَلُ} : من: استفهامية للتعليل، يفعل: تفيد التجدد والتكرار والاستمرار.
{مِنْ ذَلِكُمْ} : من: للتوكيد ونفي الجنس، ذلكم؛ أي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء، (ذلكم) ولم يقل ذلك؛ للتعظيم والمبالغة، ولأن (ذلكم) تشير إلى عدة أمور هي: الخلق والرزق والإماتة والإحياء.
{مِنْ شَىْءٍ} : من: للتوكيد، شيء: الشيء: هو كل ما يُعلم ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً، وهو أقل القليل، وشيء: نكرة؛ تعني أيَّ شيء ولو قلَّ.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : تنزّه وتقدّس في ذاته وصفاته وأفعاله، وتعالى وتعاظم أن يكون له شريكٌ أو ندٌّ أو ولدٌ.
سورة الروم [30: 41]
{ظَهَرَ الْفَسَادُ} : ظَهَرَ: بان وانتشر وأصبح ظاهراً للعيان.
و (ظهر) يعني: كان موجوداً بالفعل ولكننا كنا لا نراه، أو يستحي من يفعله أن يخبروا عنه أو يطلعوا النّاس عليه. أما الآن فالكل يراه ويعلم به ويفعلونه جهراً وعلناً.
{فِى الْبَرِّ} : في: ظرفية، البر: في الأرض.
الفساد يعني: القتل وإهلاك الحرث والنسل، والشرك وارتكاب المعاصي، والفواحش، والظلم، والربا، والزنى، وشرب الخمور والفجور، والفسوق، والعصيان.
{فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : في الأرض، و (في البحر) في الفلك، وعلى شواطئ البحار، والمتنزهات والجزر.
{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى} : الباء: للإلصاق باء السببية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، ما: للعاقل وغير العاقل.
كسبت: (كسبت) ولم يقل اكتسبت؛ لأن ارتكاب المعاصي والفواحش أصبح شيئاً سهلاً يمارس بكثرة وبلا جهد أو حياء، وكأنه أصبح أمراً عادياً أمراً مباحاً يمارسه الكثير علناً وبلا خوف أو رادع.
{أَيْدِى النَّاسِ} : اختار الأيدي؛ لأن معظم المعاصي والسيئات تُرتكب بالأيدي، أو هي الوسيلة للقيام بالفساد مثل القتل والظلم والربا، ولم يقل عملت أيدي النّاس، قال:(بما كسبت)؛ لأن السياق في الآيات التي تتحدث عن الربا والزكاة والمال سياق في الكسب؛ تعني: ما فعلوه من معاصي وآثام وفواحش وظلم وطغيان وهو زيادة (أو كسب) على ما لم يفعلوه من عدم الطاعة كالصلاة والإنفاق في سبيل الله والصيام وغيرها من العبادات.
{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا} : اللام: للتوكيد والتّعليل، يذيقهم بعض الّذي عملوا: يذيقهم في الدّنيا قبل الآخرة؛ أي: عاقبة بعض أعمالهم وليس كلها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعل: للتعليل، يرجعون: يتوبون إلى الله ويعودون إلى الطاعة والصلاح، ويرجعون عن ارتكاب المعاصي.
سورة الروم [30: 42]
هذه الآية تتمة للآية السّابقة: (ليذيقهم بعض الّذي عملوا لعلهم يرجعون) ولمَ لا يسيرون في الأرض فينظروا بأنفسهم كيف كان عاقبة الّذين من قبل.
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} . ارجع إلى الآية (9) من السّورة نفسها للبيان.
{مِنْ قَبْلُ} : تعني منذ زمن قصير ليس زمناً بعيداً.
{كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} : والقليل كانوا من المؤمنين. كان: قد تدل على الزّمن الماضي أو الحاضر. مشركين: باتخاذ الآلهة أو بأنّ لله ولداً أو الملائكة بنات الله وغيرها.
سورة الروم [30: 43]
هذه الآية متصلة بالآية السّابقة (كان أكثرهم مشركين) فلا تكونوا أمثالهم، فأقيموا وجوهكم للدين القيّم.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} : الفاء: للتوكيد.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} : ارجع إلى الآية السّابقة رقم (30) للبيان، والخطاب وإن كان موجّهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود منه أتباعه من المؤمنين.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} : بالإخلاص والتوحيد توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والاستقامة على دين الإسلام.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} : أي من قبل أن يأتي يوم القيامة الّذي لا يقدر على ردِّه أو دفعه، أو تأخيره أو منع عذابه وأهواله أحد. أو أن الله سبحانه إذا قضى الأمر لا يعود ولا يرجع فيه.
{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} : أي يتصدّعون؛ أي: يتفرّقون، مشتقّة من: تصدّع البناء؛ أي: تشقّق؛ أي: ينفصل بعضهم عن بعض: المؤمن عن الكافر، فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير.
سورة الروم [30: 44]
{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} :
{مَنْ كَفَرَ} : من: شرطية، ومن تصلح للمفرد والمثنى والجمع، كفر بالله تعالى وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر.
{فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} : الفاء: للتوكيد، عليه: على تفيد الاستعلاء والمشقة والعلو؛ أي: فعليه وبال كفره أو عليه وزره.
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} : من: الشّرطية كالسابقة، عمل صالحاً: الفروض والنوافل.
{فَلِأَنفُسِهِمْ} : الفاء: للتوكيد، أو رابطة لجواب الشرط، واللام لام الاختصاص والاستحقاق. له: تفيد النفع.
{يَمْهَدُونَ} : مأخوذة من المهد وهو: فراش الطفل، ومهَّد فراشه؛ أي: وطّأه، يوطّئون لأنفسهم منازل في الجنة. مهد لنفسه الطريق إلى الجنة، أو مهد لنفسه بعمله الصالح؛ أي: سهّل لنفسه دخول الجنة.
انتبه إلى قوله (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً) جاءت بصيغة المفرد، أما قوله:(فلأنفسهم يمهدون) جاءت بصيغة الجمع ولم يقل فلنفسه يمهد، قالوا: لأن ثواب عمله الصالح الّذي يعمله لنفسه كذلك تستفيد منه ذريته. كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . [الطور: 21].
ولماذا قدّم الكفر على الإيمان فقال: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم) أي: قدّم الكافر على الّذي يعمل صالحاً؛ لأنّ سياق الآيات في الحديث عن الفساد في البر والبحر كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [آية: 41]، وكذلك قوله تعالى في الآية (42):{قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} ، وكذلك لكثرة الكافرين مقارنة بعدد المؤمنين.
ولماذا قال: (من عمل صالحاً) ولم يقل آمن وعمل صالحاً؛ لأن العمل الصالح لا يُقبل إلا بالإيمان؛ أي: لا يُقبل إلا إذا كان مقترناً بالإيمان فلا داعي لذكر الإيمان، أو لأنه ذكر الإيمان في الآية القادمة (45).
سورة الروم [30: 45]
هذه الآية متصلة بالآية السّابقة: (فلأنفسهم يمهدون) ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصالحات.
{لِيَجْزِىَ} : اللام: لام التّعليل والتّوكيد.
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : قرن العمل الصالح بالإيمان فلا يكفي أحدهما على حدة، وقد يتعرض العمل الصالح إلى محبطات كثيرة تجعل كثيراً من الأعمال الصالحة هباءً منثوراً وعلى رأسها الشرك.
{مِنْ فَضْلِهِ} : الفضل: الزيادة عما يستحقه من الأجر، فمن فضله وكرمه يُدخلُ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة، ولا يدخلونها بعملهم مهما كان.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} : الكافرين: أي الّذين أصبح الكفر صفةً ثابتةً عندهم، وقوله:(لا يحب الكافرين) فيها تهديد ووعيد لهم.
في هذه الآية نلاحظ أنه قدّم الّذين آمنوا وعملوا الصالحات على الكافرين؛ لأنّه أسند الجزاء إلى نفسه، قدّم المؤمن على الكافر إظهاراً لكرمه ورحمته وحبه للمؤمنين، وفي هذه الآية إيجاز وحذف مع ظهور المعنى بدلالة السياق، فمثلاً:
ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله وليجزي الّذين أساؤوا بما عملوا إنه لا يحب الكافرين.
ولا يظن أحد مهما عمل من عمل صالح وأخلص لوجه الله وسعى أنه يوجب على الله سبحانه أيَّ أجر أو جزاء مهما كان؛ لأنه سبحانه غني عن العالمين وعن إيمانهم، حتى ولو كانوا على أتقى قلب رجل في الدّنيا.
سورة الروم [30: 46]
المناسبة: (ومن آياته) هذه المرة السابعة التي يعيد ذكر (ومن آياته)(كما رأينا في الآيات: 20-25) الدّالة على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته، والبعث وقدرته وعظمته. أو هذه الآية متصلة بقوله تعالى:(ليجزي الّذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله)، ثم ذكر سبحانه (من فضله علينا أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله).
{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ارجع إلى الآية (20)
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} : التي تحمل السحاب وتبشّر بنزول المطر الّذي يُحيي الأرض بعد موتها، وبالتالي يخرج به الزرع والحب والنخيل والأعناب. يرسل: تفيد التجدد والتكرار. مبشرات: من البشارة؛ أي: الخبر السار. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) وسورة النحل آية (89) للبيان.
من خصائص القرآن أن كلمة (الرياح) تحمل في معناها الخير، بينما كلمة (الريح) تحمل في معناها الشر والدمار؛ أي: يستعمل الرياح في سياق الخير ويستعمل الريح في سياق الشر.
{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَّحْمَتِهِ} : اللام للتوكيد والتّعليل، من: بعض رحمته؛ أي: من خيره بنزول المطر الّذي يؤدّي إلى الخصب وسعة الرزق والغنى.
{وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} : اللام للتوكيد والتّعليل، الفلك: السفن في البحر تجري بسبب الرياح، والله هو الّذي يُزجي الفلك في البحر.
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : اللام للتوكيد والتّعليل بنقل التجارة في البحر والصيد والسياحة وغيرها من أنواع الفضل، والواو في (ولتبتغوا من فضله) بجريان الفلك وغيرها من وسائل ابتغاء الرزق، وزيادة الواو في كلمة ولتبتغوا: تدل على منافع، أو نعم أخرى لم تذكرها الآية.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعلكم: للتعليل، تشكرون: المنعم على فضله ونعَمِه وتؤمنوا به وتوحّدوه، ومجيء الواو في (ولعلكم) تعني: لعلكم تشكرون هذه النِّعم وغيرها من النِّعم التي لم تُذكر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان في معنى الشكر.
سورة الروم [30: 47]
المناسبة: بعد ذكر الآيات الدّالة على عظمته وقدرته ووحدانيته، وعلى قدرته على البعث والإحياء، يذكر أمراً آخر وهو: إرسال الرّسل والأنبياء وما حدث لمن كذبهم.
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، وقد: للتحقيق.
{أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا} : أرسلنا، ولم يقل بعثنا، لمعرفة المعنى والفرق بينهما ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة.
{مِنْ قَبْلِكَ} : تعني منذ زمن غير بعيد، والخطاب موجَّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{رُسُلًا} : الرّسل هنا تعني: الأنبياء والرّسل فالكل رسل من الله، وإن كان هناك فرق بين الرسول والنبي. ارجع إلى سورة النساء آية (164) للبيان.
{إِلَى قَوْمِهِمْ} : كل رسول أرسل إلى قومه؛ لكونه يعرفهم ويعرفونه وليس غريباً عنهم.
{فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : الفاء: تدل على المباشرة، بالبينات؛ أي: الأدلة والبراهين الدّالة على صدق الأنبياء وصدق نبوتهم ودعواهم إلى الإيمان والتوحيد. الباء في (بالبينات) تدل على الإلصاق والاستمرار.
{فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} : حذف ما حدث بعد المجيء بالبينات ولم يقل فكذبوهم وأعرضوا، ولم يؤمنوا وتمادوا بعد ذلك بالتحدي والإنكار والضلال، وانتقل إلى:(فانتقمنا منهم) بصيغة الجمع والتعظيم؛ للدلالة على شدة الانتقام؛ أي: أهلكناهم جميعاً.
{مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} : أي من الّذين كفروا وأشركوا وعصوا وقتلوا أنبياءهم وحاربوا دينهم. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55) لبيان معنى أجرموا.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} : وكان: كان تشمل كل الأزمنة، حقاً: من الحق وهو: الأمر الثابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل؛ أي: وعداً علينا نصر المؤمنين على الكافرين بإهلاك الكافرين وتدميرهم، وإنقاذ المؤمنين من شرهم وأذاهم.
سورة الروم [30: 48]
{اللَّهُ} : سبحانه {الَّذِى يُرْسِلُ} .
{الرِّيَاحَ} : في القرآن تدل على الخير، و (الريح) تدل على الشر والدمار. ارجع إلى الآية السّابقة (46) من السّورة نفسها.
{فَتُثِيرُ سَحَابًا} : السحاب: عبارة عن بخار الماء المتبخر من البحار والأرض، وله أربعة أنواع:
1 -
السحب الضبابية: تشكل الضباب.
2 -
السحب المبسوطة: أي المتصلة ببعضها.
3 -
الكسف: جمع كِسفة: أي قطعة ثم يجعله كِسفاً؛ أي: قِطعاً وتحمل المطر.
4 -
السحب الركامية: تسبب المطر والرعد والبرق والثلج.
{فَتَرَى الْوَدْقَ} : المطر.
{يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} : من هذه الكسف أو القطع.
{فَإِذَا} : ظرفية للمستقبل؛ تستعمل للشيء المحقق حدوثه.
{أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : هطل المطر على من يشاء من عباده.
{إِذَا} : الفجائية.
{هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} : بنزول المطر الّذي يخرج به الزرع والحب والخصب، والثمر والحصاد والرزق.
ارجع إلى الآية (43) من سورة النور لمزيد من البيان.
سورة الروم [30: 49]
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} :
{وَإِنْ} : للتوكيد.
{كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} : كانوا تعود على (عباده)، من قبل: من: ابتدائية، قبل: ظرف زماني؛ أي: قبل إرسال الرياح وإنزال المطر.
{أَنْ} : للتوكيد.
{يُنَزَّلَ عَلَيْهِم} : الودق أو المطر.
{مِنْ قَبْلِهِ} : من: ابتدائية، قبله: أي من قبل نزول المطر.
{لَمُبْلِسِينَ} : اللام للتوكيد، مبلسين: جمع مبلس، والإبلاس: القنوط والسكون والكآبة؛ أي: قانطين مكتئبين؛ لعدم نزول الودق. مبلسين: جملة اسمية تدل على الثبوت؛ أي: مصابين بيأس أو قنوط دائم مستمر.
سورة الروم [30: 50]
{فَانظُرْ} : الفاء: للتوكيد، انظر: نظرة قلبية فكرية تبصرية، نظرة تأمل وتعقّل؛ لتصل بها إلى الحقيقة.
{إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} : آثار جمع: أثر؛ أي: آثار رحمت الله؛ أي: المطر والزرع والثمر والرزق والمال.
آثار: أي ما ترك أو خلّف وراءه: كيف أصبحت الأرض مخضرّةً بعدما كانت يابسة هامدة ميتة.
{كَيْفَ} : للاستفهام، وتحمل معنى التعجب.
{يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد موتها؛ أي: بزمن قريب أو بعيد، ولم يقل من بعد؛ تعني فقط من قريب. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (63) للبيان.
{إِنَّ ذَلِكَ} : إن: للتوكيد، ذلك: اسم إشارة للبعد يفيد المدح والتعظيم؛ أي: القادر على إحياء الأرض بعد موتها.
{لَمُحْىِ الْمَوْتَى} : اللام لام التّوكيد، ومحيي الموتى: اسم فاعل يفيد الثبوت، محيي الموتى بعد موتهم يوم البعث. ارجع إلى الآية (19) من السّورة نفسها للبيان.
{وَهُوَ} : ضمير يفيد التّوكيد.
{عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : ارجع إلى الآية (20) من سورة البقرة للبيان.
سورة الروم [30: 51]
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} :
{وَلَئِنْ} : الواو استئنافية، لئن: اللام للتوكيد، وإن: شرطية تفيد الاحتمال وقلة الحدوث؛ لأن الريح التي تحمل الشر والدمار قليلاً ما تحدث.
{أَرْسَلْنَا رِيحًا} : ريحاً: مثل ريح السَّموم أو ريح العقيم أو ريح صرصر عاتية، أي ريحاً ضارة لا نفع منها، أرسلناها على الزرع والثمر.
{فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} : رأوا زرعهم أو حرثهم أو نباتهم مصفراً يابساً أصفر اللون بعد الاخضرار، مما يدل على موت الزرع والنبات وأنه سيصبح حطاماً.
{لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} : اللام: للتوكيد، ظلوا: من الظلّ؛ أي: استمروا طوال النهار. من بعده: من بعد اصفرار الزرع والنبات والحرث. يكفرون: الكفر هو: الستر؛ أي: ينكرون نِعَم الله الأخرى وما سلف، وييئسون من روح الله وفرجه {إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وهذا دليل على ضعف إيمانهم، وما هو إلا فتنة لهم ولكن لا يشعرون.
سورة الروم [30: 52]
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} :
المناسبة في الآية السّابقة قال تعالى: (لظلوا من بعده يكفرون) أي: الكفار وفي هذه الآية يقول الله سبحانه لرسوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} : أي الكفار، فجعلهم في حكم الأموات وهم لازالوا أحياء يرزقون؛ لأنهم لا ينتفعون بما يسمعون من آيات الله ولا من وعد ولا وعيد.
وكذلك {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ} المصابين بالصَّمم في آذانهم؛ لأنهم لا يريدون الاستماع إليك. شبَّههم بالصمّ؛ لأنهم عطّلوا حواسهم ويحاولون أن يولُّوا مدبرين بالفرار والهرب منك خوفاً من أن يسمعوا آية أو حديثاً يقضُّ مضاجعهم.
ولا تسمع: تكرار (لا) لتوكيد النّفي.
{الدُّعَاءَ} : حين تدعوهم للهدى والإيمان.
{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} : أي إذا ولَّوا إليك ظهورهم وانصرفوا عنك، ولم يعد هناك أمل في عودتهم، فما عليك إلا البلاغ.
سورة الروم [30: 53]
وإذا قارنا هذه الآية: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ} بحذف الياء، وفي الآية (81) من سورة النمل قال تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِهَادِى} بإضافة الياء، وإذا جمعنا الآيتين معاً؛ أي: أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم لن تكون قادراً على هداية هؤلاء العمي هداية المعونة أو الهداية الخاصة للدخول في الإسلام مهما حاولت، أو استغرقت من الزمن الطويل أو القصير، وسواء أكانت هدايتهم تحتاج إلى زمن طويل، أم قصير.
سورة الروم [30: 54]
هذا دليلٌ آخر على قدرة الله وعظمته في خلق الإنسان، والتدرج في منحه القوة والقدرة ثم نزعها منه فهو يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ولا مدبِّر ولا مغيِّر لخلقه أو حكمه، وهذا دليلٌ آخر على قدرته على البعث والإحياء.
{اللَّهُ} : تقديم الفاعل يدل على الاهتمام والتعظيم والحصر.
{الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} : من: ابتدائية؛ أي: ابتدأ خلقكم، ضَعف: بفتح الضاد، وهناك من يقرأها بضم الضاد مثل الفَقر والفُقر؛ أي ضعف الطفولة يحتاج إلى من يطعمه ويرعاه، وينظفه ويحمله، ويعلّمه ويمدّه بالحنان، وينفق عليه ويقف بجانبه.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} : ثم: للترتيب والتراخي في الزّمن.
جعل: صيَّر من بعد الطفولة قوّةً؛ أي: قوة الشباب والفتوة.
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} : ثم: للترتيب والتراخي من بعد مرحلة الشباب مرحلة الشيب والهرم. ضعفاً: ضعف الكبر يسري أو يصيب كلَّ الأطراف وشيبه، والشيب هو بياض الشعر، ضعفاً يسري في كل الأعضاء؛ أي: يعيد الإنسان إلى الضعف كما بدأ.
{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} : من ضعف وقوة، وشيبة وشيخوخة، وهلاك وموت. بحسب حكمته.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَلِيمُ} : بخلقه وبتدبير خلقه، العليم بما يجري من تحوّل وتغيّر في الخلق، ويعلم بواطن الأمور وظواهرها.
{الْقَدِيرُ} : على ما يشاء لا يعجزه شيءٌ في الخلق والتصوير والإنشاء والإبداع، القادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء.
سورة الروم [30: 55]
المناسبة: بعد ذكر الدلائل على عظمته وقدرته ووحدانيته، وقدرته على البعث وتغيير الخلق، يذكر طرفاً مما سيحدث يوم القيامة.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : الساعة هي آخر ساعة من ساعات الدنيا ساعة تهدُّم النظام الكوني، وهي تقوم وتحدث بغتة ولا يعلمها إلا هو سبحانه، فلم يطلعها على ملكٍ ولا رسول؛ أي: زمن قيامها.
{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} : يقسم الكافرون أو المشركون أو العاصون. المجرمون: جمع مجرم، وأجرم فلان؛ أي: أذنب وخالف القانون، والفعل الّذي قام به يسمى جريمة. ارجع إلى سورة الأنفال آية (8) للمزيد في معنى المجرمون. والقسم في القرآن يأتي في سياق الصدق، أما الحلف في القرآن فيأتي في سياق الكذب؛ أي: حين يرون أحداث الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.
{مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} : أي يقسموا ما لبثوا أو مكثوا طويلاً في الدّنيا غير ساعة: فقط ساعة، أو قيل: في قبورهم، وهو قسم صادق؛ لأنهم صادقون في شعورهم. ما لبثوا: ما: النّافية، واللبث يدل على الإقامة المحددة بزمن معين، (غير ساعة) غير: تفيد الاستثناء، و (الساعة) تعني: مقدار ساعة من ساعات اليوم؛ أي: (60) دقيقة مقارنة بالآخرة، ورغم كونها ساعة لم يستفيدوا منها وينقذوا أنفسهم من جحيم الآخرة.
{كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} : أي: مثل ذلك، أو كذلك؛ أي: كهذا الكذب؛ أي قولهم: (ما لبثوا غير ساعة) كانوا يؤفكون في الدّنيا: يصرفون عن الحق، ويكذبون بالرسل وبآيات ربهم، وبالبعث والحساب والجزاء، والإفك: هو الكذب المتعمد، أو قلب الحقيقة أو الصرف عن حقيقة الشيء.
سورة الروم [30: 56]
وقال الّذين أوتوا العلم والإيمان لهؤلاء المجرمين الّذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة.
{الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} : الّذين أوتوا العلم في جميع القرآن فيها ثناء حسن لهم. قيل: هم الملائكة الّذين شهدوا ما حدث، والأنبياء والرسل والمؤمنون المتقون من الإنس الّذين أوتوا العلم: علوم الدين. وقيل: هم العلماء المتقون حقاً: الذين قرنوا العلم والدين معاً.
هذا هو جواب الّذين أوتوا العلم للمجرمين:
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{لَبِثْتُمْ} : اللبث هو الإقامة المحددة بزمن معيَّن ولو كان طويلاً، الإقامة الطويلة.
{فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} : أي لقد لبثتم في الدّنيا أو في القبور، أو ما بين النفختين ما كتبه الله لكم في اللوح المحفوظ، وكما سبق علمه أو حكمه تعالى.
هذا هو جواب الّذين أتوا العلم للذين أجرموا.
{فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} : (فهذا) الفاء: للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة تشير إلى يوم البعث. يوم البعث: الّذي كنتم تكذبون به وتنكرونه، (ولكنكم كنتم لا تعلمون): بعد أن أتى الله لكم بالبينات والحجج والبراهين التي كان عليكم الأخذ بها وتدبُّرها، ولكنكم لم تصدّقوا بها، فهذا يوم البعث الّذي لم تصدّقوا به وتعلموا أنه كائن.
سورة الروم [30: 57]
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} :
{فَيَوْمَئِذٍ} : أي يوم القيامة أو قيام الساعة.
{لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} : لا النّافية، ينفع الّذين ظلموا: أشركوا أو كفروا وظلموا أنفسهم أو غيرهم، أو كذبوا الرّسل والبعث والحساب.
{مَعْذِرَتُهُمْ} : أي لا يقبل لهم عذر ولا توبة ولا حجة.
{وَلَا هُمْ} : لا النّافية، تكرارها يفيد توكيد النّفي، هم: للتوكيد، يستعتبون: من العتاب: وهو حوار بين اثنين أو أكثر بسبب تضييع حق من الحقوق يستعتب أحدهما الآخر فأعتبه؛ أي: استرضاه بما لديه من عذر أو قول أو حجة فأرضاه.
{يُسْتَعْتَبُونَ} : أي لم يطلبوا العُتبى بأنفسهم وإنّما طلبوا من غيرهم أن يطلب لهم؛ حتى يؤذن لهم بالعتاب. ولم يجرؤ أحدٌ أن يطلب لهم ذلك وقد وردت يُستعتبون في ثلاث آيات، ووردت كلمة يَستعتبون بفتح الياء: أي طلبوا العتاب بأنفسهم ولم يسمح لهم ذلك. وقال ابن عباس: لا يقبل من الذين أشركوا عُذر ولا توبة.
سورة الروم [30: 58]
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، وقد: للتحقيق.
{ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} : الضرب يعني الصّوغ والتبيين والتمثيل، والضرب فيه معنى التأثير والتهييج للنفوس، وضرب أذن السامع، أو قرع أذنه بالأمثال المختلفة. للناس: اللام لام الاختصاص. النّاس: الإنس والجن والمؤمن والكافر، والناس مشتقة من: النَّوس: الحركة. ارجع إلى الآية (28) من السّورة نفسها.
{فِى هَذَا} : في: ظرفية، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة تشير إلى القرآن الكريم.
{الْقُرْآنِ} : سمّي قرآناً؛ لأنه مقروءٌ. ارجع إلى سورة الحجر آية (1) لمزيد من البيان في معنى القرآن.
{مِنْ} : استغراقية، {كُلِّ}: للتوكيد، {مَثَلٍ}: هو قول موجز يراد به مقارنة شيء معنوي بشيء حسي، أو المقارنة والموازنة بين أمرين، أو تشبيه حال بحال أخرى؛ أي: ضربنا لهم أمثلة عديدة على التوحيد والبعث وصدق الرّسل والشرك. والمثل يضرب لإزالة أي غموض أو جهل.
{وَلَئِنْ جِئْتَهُم بِآيَةٍ} : اللام للتوكيد، إن: شرطية. جئتهم بآية: من آيات القرآن، أو تلوت عليهم آية من آيات القرآن، أو الآيات المعجزات، أو الكونية، أو الدلائل، أو البينات.
{لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اللام والنون في (ليقولن) للتوكيد.
{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} : إن نافية، أشد نفياً من ما، أنتم: أيها المؤمنون وتشمل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معاً، أو الرسول وأتباعه؛ أي: أنت مبطل وأتباعك. إلا: تفيد الحصر، مبطلون: أهل باطل فليس هناك دين حق وبعث وحساب. أو كاذبون والباطل: الشيء الّذي لا وجود له. أو الذاهب؛ أي: الزائل كالزَّبد الّذي يحمله السيل فيذهب جفاء، الرعد آية (17).
سورة الروم [30: 59]
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} :
{كَذَلِكَ} : أي مثل ما يطبع الله على قلوب الّذين كفروا الّذين لا يصدّقون بأيِّ آية تأتيهم أو مثلٍ يُضرب لهم.
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : نتيجة جهلهم وتقصيرهم في تعلُّم التوحيد والبعث، وغفلتهم وعدم النظر في آيات الله والأدلة الكونية الدّالة على وجوده وقدرته، والطبع أشد من الختم، والطبع على القلوب؛ يعني: لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر. وقوله كذلك يطبع الله على قلوب، ولم يقل كذلك يُطبع على قلوب تدل على شدة التوبيخ والطبع.
سورة الروم [30: 60]
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} :
{فَاصْبِرْ} : الفاء: للتوكيد، اصبر على أذى كفار مكة وتكذيبهم وكيدهم، اصبر على دعوتك إياهم.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51]{هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، وعد الله حق: ثابت لا يتغير، ولابد من إنجازه والوفاء به.
{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} : لا النّاهية، يستخفنّك: النون للتوكيد، (يستخفنك) من: استخفّ فلانٌ فلاناً: استجهله، ظنّ به طيشاً وقصوراً عقلياً يؤدي إلى الغضب، وترك العمل أو الرسالة والدعوة والتبليغ، وترك الحلم والثبات. الّذين لا يوقنون: لا يوقنون بالبعث والحساب، والجزاء والآخرة؛ أي: لا يعلمون الحق، أو الشّاكّون الضّالّون. اليقين هو: العلم بأنّه لا يكون غيره، واليقين درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من بيان معنى اليقين.
سورة لقمان [31: 1]
سورة لقمان
ترتيبها في القرآن (31)، وترتيبها في النّزول (57).
{الم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة؛ للبيان.
سورة لقمان [31: 2]
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} :
{تِلْكَ} : اسم إشارة يشير إلى الآيات التالية أو السّابقة، أو آيات القرآن عامة، اللام للبعد والكاف للخطاب، ولام البعد تشير إلى علوِّ منزلة هذه الآيات وقدرها.
{آيَاتُ الْكِتَابِ} : جمع آية؛ وتعني: آيات الكتاب (القرآن) وسمي الكتاب؛ لأنه مكتوب في السطور وجاء معرفاً بأل التعريف للدلالة على الكمال. ولمزيد من البيان ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة.
{الْحَكِيمِ} : مشتقة من الحكمة والحكم، صيغة مبالغة.
الحكيم: ذو الحكمة والموصوف بالحكمة.
والحكيم: أي الحاكم غيره؛ أي: مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فهو الحاكم على الكتب السّابقة.
والحكيم: المحكم؛ من الإحكام: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). ارجع إلى سورة يونس آية (1) لمزيد من البيان.
سورة لقمان [31: 3]
{هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} :
{هُدًى} : أي تلك الآيات هي الهدى أو مصدر الهداية، أو الهادية للحق وللصراط المستقيم (الإسلام) وللغاية؛ وهي سعادة الدارين.
{وَرَحْمَةً} : الرّحمة لغة: هي رقة القلب وعطفه.
فالآيات هي إنعام وفضل ورحمة من الرب على عباده؛ لتجلب لهم كل خير، وتدفع عنهم كل ضر، فهي وقاية لهم من الضلال والشك والمعاصي.
{لِّلْمُحْسِنِينَ} : اللام لام الاختصاص، المحسنين: الّذين وصفتهم الآية التالية لهذه الآية: الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون.
المحسنون: أعلى درجة من المتقين، فالمحسن هو المتقي الّذي لم يقتصر أثر إيمانه وتقواه على نفسه بل تعدى إلى غيره من النّاس ووصل إحسانه إلى غيره، وأحسن في إيمانه بالإخلاص والتوحيد وأحسن في عبادته إحسان الكمّ والكيف؛ والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة لمزيد من البيان في معنى الإحسان.
هدى ورحمة للمحسنين. ارجع إلى الآية (2) من سورة النّمل للمقارنة.
وإذا قارنّا هذه الآية (3) من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} ، وقوله تعالى في الآية (2) من سورة البقرة:{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، نرى زيادة كلمة (رحمة) في آية لقمان؛ لأن المحسنين أعلى درجة من المتقين فلما أحسنوا في عبادتهم، وإحسانهم تعدّاهم إلى غيرهم، زادهم الله تعالى رحمة.
سورة لقمان [31: 4]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} :
ارجع إلى الآية (3) من سورة النّمل، وسورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان في معنى اليقين.
سورة لقمان [31: 5]
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :
ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة للبيان.
سورة لقمان [31: 6]
سبب النّزول: كما ذكر الواحدي في (أسباب النّزول) قيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث الّذي كان تاجراً إلى فارس يشتري أخبار الأعاجم ويعود ويخبر بها قريشاً ويقول لهم: إن محمّداً يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم والأكاسرة، مما أدى إلى جذب طائفة من النّاس للاستماع له.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية مغنية.
{وَمِنَ النَّاسِ} : من ابتدائية بعضية؛ أي: من بعض النّاس أمثال النضر ابن الحارث.
{مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} : كل ما يلهو به النّاس من الغناء والقصص والأساطير والخرافات، يشتري: من الشراء الّذي يدفع معه ثمن؛ أي: يشتري بماله.
واللهو: كل ما يشغل الإنسان عما يهمّه عن واجب أو عن شيء نافع.
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : اللام لام التّعليل والتوكيد، ليضل عن سبيل الله: ليصرف أو يمنع النّاس من الدخول في الإسلام، مما يؤدي إلى ضلالهم وصدهم عن الحديث النافع.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : جهلاً منه وحماقةً، ويشتري أشياء بغير علم، (علم) نكرة؛ تعني أيَّ علم بالتجارة، ويشتري أشياء تخسر ولا تعود عليه حتى برأس ماله، ويشتري بغير علم ويضل بغير علم؛ لأنه جاهل أحمق.
{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} : يتخذها؛ أي: الآيات أو السبيل؛ أي: الدين لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى} [يوسف: 108]، (فهي مؤنثة) هزواً: أي يستخف بها أو يعيب عليها ويصغّر من قدرها.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أولئك: اسم إشارة للبعد، لهم: اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق.
عذاب مهين: مصحوب بالإهانة والألم؛ لأنه سيكون أمام النّاس وفيه ذلة.
سورة لقمان [31: 7]
{وَإِذَا} : ظرفية زمانية شرطية، تدل على حتمية الحدوث وبكثرة.
{تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} : تُقرأ عليه آياتنا (آيات القرآن)، تتلى: من التلاوة؛ وهي القراءة المتتالية من كتاب الله. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (45).
{وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} : أعرض عنها، مستكبراً عن قبول الحق والإذعان لله بالعبادة، وتعود على الّذي يشتري لهو الحديث.
وقال مستكبراً لا يريد سماع آيات الله كفراً وتكبراً، ولم يقل متكبراً؛ لأن مستكبراً ليس عنده مقومات الكبر مثل الغنى والشرف، إذن استكباره باطل وليس له حق أن يتكبر كالفقير المستكبر.
{كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا} : وقراً: ثقلاً في السمع يمنعه من السماع الجيد، أو ولّى مستكبراً مشبهاً من في أذنيه وقر، ولم يقل صمم؛ لأن الصمم يدل على عدم السماع بشكل مطلق، وهو كان يسمعها ويتخذها هزواً.
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : ونحن نعلم أن البشارة تكون عادة في الخير، والإخبار بشيء سار، والفاء تدل على التّوكيد. وأما البشارة بعذاب أليم تعني: التهكم والسخرية منه.
وفي هذه الآية قال: عذاب أليم، وفي الآية السّابقة: عذاب مهين، وهذا ليس فيه تعارض مرة يكون عذاباً مهيناً أمام النّاس وفيه مذلة ومرة أليماً فيه ألم شديد وليس أمام النّاس وعلى مرآهم.
ولا بد من مقارنة آية لقمان هذه وهي قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مع الآية (8) من سورة الجاثية وهي قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
ليس المستمع واحداً، في آية لقمان يسمع كأن لم يسمع كأن في أذنيه وقراً، بينما في آية الجاثية يسمع كأن لم يسمع ولم يقل في أذنيه وقراً.
لأن في الجاثية قال: يصر مستكبراً (أي على عدم التراجع أو الاستماع) فهذه تعادل أو تساوي كمن في أذنيه وقراً، فصار أحد اللفظين يُغني عن الآخر.
سورة لقمان [31: 8]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} :
مقابل الّذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله هناك الّذين آمنوا وعملوا الصالحات.
{إِنَّ الَّذِينَ} : إن للتوكيد، الّذين اسم موصول.
{آمَنُوا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفرائض والنوافل، وغيرها من شعب الإيمان والأعمال الصالحة؛ أي: قرنوا الإيمان بالعمل الصالح، فأحدهما لا يكفي ولا بدّ من الآخر.
{لَهُمْ} : اللام للاختصاص والاستحقاق.
{جَنَّاتُ النَّعِيمِ} : جنات: حدائق وبساتين في الجنة وتسمى جنات النعيم، النعيم الدائم الّذي لا ينقطع أو ينقص. ارجع إلى سورة يونس آية (9) لبيان جنات النعيم.
سورة لقمان [31: 9]
{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
{خَالِدِينَ} : من الخلود وهو البقاء الدائم المستمر إلى ما لا نهاية، ويبدأ من زمن دخولهم الجنات.
{فِيهَا} : في جنات النعيم، فيها: ظرفية مكانية.
{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} : مصدران مؤكدان. والوعد في القرآن الكريم للخير والشر، وإذا أطلق اختص بالخير والوعيد يكون في الشر.
حقاً: من الحق: الأمر الثابت الّذي لا يتغير؛ أي: وعداً ثابتاً لا يتغير من الله العزيز الحكيم الّذي يملك كل أسباب الوفاء.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي يَقهر ولا يُقهر ويَغلب ولا يُغلب، والممتنع لا يضرّه أحد من عباده.
{الْحَكِيمُ} : ارجع إلى الآية (27) من سورة الروم.
سورة لقمان [31: 10]
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} : خلق السّموات: ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30)، وسورة فصلت آية (10-11): لمعرفة معنى الخلق.
ورفعها بغير عمد ترونها. العمد: الدعامة أو العواميد.
فالسموات مرفوعة بعمد؛ أي: لها عمد ولكن لا نراها، فالمنفي هنا الرؤية وليس العمد، والقول: ليس لها عمد على الإطلاق؛ أي: مرفوعة بلا عمد: غير صحيح.
والعمد هي القوى التي تمسكها وهي:
1 -
القوى النووية الشديدة.
2 -
القوى النووية الضعيفة.
3 -
القوى الكهربائية المغناطيسية (الكهرومغناطيسية).
4 -
قوى الجاذبية وهي أضعف القوى المعروفة وتساوي (10-39) من القوة النووية الشديدة.
ويجب أن نفرق بين قوة الجاذبية: وهي قوة الجذب للمادة الموجودة في تركيب جسم ما، وبين موجات الجاذبية الصادرة عن قوى خارجية صادرة عن الأجرام السماوية الأخرى. ارجع إلى سورة الرعد آية (2) لمزيد من البيان.
{وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} : ألقى في الأرض رواسي (جبال) تشكلت من مكونات المواد البركانية التي سقطت على الأرض، فالرواسي تشمل الجبال والألواح القارية في عمق البحار، والمعادن الصلبة كالحديد في باطن الأرض، وهناك فرق بين (ألقى) و (جعل) فيها رواسي: ألقى يدل على أن الجبال تشكلت مما يخرج من باطن الأرض من الحمم البركانية، والجعل يشير إلى الألواح القارية والمواد الصلبة المكونة لباطن الأرض.
{أَنْ} : تعليلية.
{تَمِيدَ بِكُمْ} : تضطرب بكم وتتحرك وتهتز؛ أي: لئلا تَميد بكم، أو كراهة أن تميد بكم وتحدث الزلازل والبراكين.
وفي هذه الآية قال تعالى: {تَمِيدَ بِكُمْ} ، وفي سورة النّحل آية (15):{أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ، أما في سورة الأنبياء آية (31) قال تعالى:{أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} .
والفرق بين الآيتين: يستعمل الله سبحانه {تَمِيدَ بِكُمْ} في سياق ذكر نِعم الله تعالى على عباده.
ويستعمل {تَمِيدَ بِهِمْ} في سياق تبيان عظمته وقدرته سبحانه.
{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} : البث: النَّشر فيها (في الأرض)؛ من: استغراقية، والدابة: كل ما يدبّ على الأرض؛ أي: يمشي على الأرض من الحيوانات عامة والثقلين الإنس والجن؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (164)، والعنكبوت آية (60) لبيان معنى دابة.
{مِنْ} : استغراقية تستغرق كل دابة، وأحياناً قالوا: الدابة تشمل الإنسان والجن والحيوان. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (60) لبيان معنى دابة.
وهذا البث والنَّشر آية من آيات الله تعالى، فكل دابة موزعة على سطح وباطن الأرض تشكل أمماً أمثالنا.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} : بعد أن ذكر وألقى وبثّ قال: وأنزلنا.
{وَأَنزَلْنَا} : ولم يقل وأنزل، أسند الإنزال إليه سبحانه واستعمل ضمير التعظيم.
{مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : من السماء من السُّحب الرُّكامية، ماءً: ماء المطر، والسماء تعريفها: كل ما يعلوا الإنسان فالسماء تعني: السحب.
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا} : في الأرض. أنبتنا: للتعظيم، أو الجمع، وتعني: مشاركة الإنسان في عملية الإنبات، والزرع والحرث وغيرها.
{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} : من استغراقية، كل زوج كريم، زوج: صنف.
زوج كريم: البالغ في الجودة الكثيرة والخير والنفع، كثير النفع.
وحين يتحدث عن البهجة والسرور على نفس الناظر يقول زوج بهيج. ارجع إلى سورة الشعراء آية (7) للبيان المفصل في معنى زوج كريم وزوج بهيج.
سورة لقمان [31: 11]
الخطاب موجَّهٌ للجاحدين بآيات الله الكونية التي ذكرت سابقاً، خلق السّموات بغير عمد، الرواسي، بثَّ فيها من كل دابة، إنزال الماء وأنبتنا فيها من كل زوج كريم، وغيرها من الآيات.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} : أي هذا ما خلق الله وحده وليس معه شريك، أو هذه مخلوقات الله تعالى، أو صنع الله تعالى المتقن العجيب المتعدد.
{خَلْقُ اللَّهِ} : تسع كلَّ الخلق، و {هَذَا}: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للتقريب.
{فَأَرُونِى مَاذَا} : ماذا: قد تكون كلمة واحدة، أو تتركب من ما: الاستفهامية، وذا: اسم إشارة، أو ما الاستفهامية، وذا اسم موصول بمعنى الذي.
{خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : أي: أروني الذي خلقه الذين تزعمون من دونه أنهم شركاء لله.
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{الظَّالِمُونَ} : المشركون، والظلم: هو الشّرك، فحين يُعبد ما لا يستحق العبادة يعتبر ظلماً وإهانة للنفس، والظلم هو الخروج عن منهج الله تعالى.
{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : مبين: ظاهر وواضح لكل فرد ولا يحتاج إلى أحد ليظهره، فهو ضلال ظاهر واضح بنفسه.
سورة لقمان [31: 12]
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق والتوكيد.
{آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} : الإيتاء هو العطاء بدون تملك؛ أي: يمكن استرداد ما أُعطي، والإيتاء يشمل الأشياء المادية والحسية والمعنوية، فهو أعم من العطاء. والإيتاء قد يكون بشكل خفي، والإيتاء هنا في هذه الآية يعني: الإلهام.
أو آتيناه الحكمة، وكما قال سبحانه:{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
{لُقْمَانَ} : اختلف المفسرون فيه؛ فمنهم من قال: لقمان بن ثادان رجل صالح، كان حكيماً، أعطاه الله الحكمة، عاصر داود، وقيل: أخذ عنه العلم، ولم يكن نبياً في أكثر الروايات، وقيل: كان حبشياً، أو من سودان مصر.
وليس هناك سند صحيح يدل على نبوته.
{الْحِكْمَةَ} : ارجع إلى الآية (269) من سورة البقرة لبيان معنى الحكمة. وقيل: هي إحسان القول وإحسان العمل معاً، أو توفيق القول بالعمل.
{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} : أن: تعليلية أو تفسيرية للحكمة؛ وتعني:
آتيناه الحكمة ووصيناهُ بالشكر لله.
أو آتيناه الحكمة أن اشكر لله؛ أي: من الحكمة أن تشكر الله.
أو آتيناه الحكمة أن اشكر لله لما آتاك من الحكمة.
انتبه إلى قوله تعالى: آتينا، أن اشكر لله، آتينا: جاءت بصيغة الجمع والتعظيم، أن اشكر لله بصيغة الإفراد؛ للدلالة على التوحيد.
أن اشكر لله: أي اشكر الله وحده بإخلاص بلا شرك، أو شكراً خالصاً لوجهه، وشكر الله نصف الإيمان، والشكر نوع من العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، والشكر أخص من الحمد فالحمد أوسع من الشكر وأعم؛ أي: احمده على إنعامه لك وإنعامه لغيرك.
والشكر خاص بالإنعام الّذي وصل لك وحدك.
الحمد لله: تعني هو المحمود على الإطلاق مني ومن غيري.
وكلمة الحمد تحمل في طياتها التعظيم والمحبة.
{وَمَنْ يَشْكُرْ} : الواو استئنافية، من: شرطية، يشكر: جاءت بصيغة الفعل المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار لأن الشكر يجب أن يتكرر؛ أي: يتجدد على مر الزّمن من العبد؛ لأن كل نعمة يجب أن يشكر العبد ربه عليها سواء كانت نعمة ظاهرة أو خفية أو ابتلاءً بالشر أو الخير.
{يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} : أي فائدة شكره تعود عليه وليس على الله سبحانه؛ لأن الله غني عن العالمين وعن شكرهم، وقال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فكلما شكرته زادك.
{وَمَنْ كَفَرَ} : الواو استئنافية، من: شرطية، كفر: جاءت بصيغة الماضي وليس بصيغة المضارع كقوله: ومن يكفر؛ لأن المفروض أن الكفر لا يتجدد ولا يعود ولا يتكرر أبداً ولذلك قال تعالى: ومن كفر، بعكس الشكر.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء رابطة للجواب، إن: للتوكيد.
{غَنِىٌّ} : عن خلقه وعن شكرهم وحمدهم وعبادتهم.
{حَمِيدٌ} : صيغة مبالغة على وزن فعيل، أبلغ من محمود على وزن مفعول.
محمود في ذاته قبل أن يوجد من يحمده من خلقه؛ لأنه يستحق الحمد على كل شيء، حميد على الدوام، حميد من خلقه.
غني حميد: يدل على الكمال؛ لاجتماع الغنى والحمد، فقد يكون غنياً وغير حميد أو حميداً وغير غني.
ولو قارنّا هذه الآية من سورة لقمان: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} مع الآية (8) من سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} ، نجد زيادة اللام في آية سورة إبراهيم:{لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} والتي تدل على التّوكيد؛ لأن آية سورة إبراهيم فيها: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} ومن هذه استغراقية؛ تعني: كل كفار الأرض، وقال:(جميعاً) توكيداً، لذلك أكَّد مقابل ذلك بقوله:{لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} .
وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا} : بصيغة المضارع التي تدل على تجدد كفرهم وتكراره، فسبحانه أبداً (لغني حميد) ولو كفر كل أهل الأرض جميعاً وتجدد كفرهم واستمر.
أما الاختلاف بين آية النّمل (40)، وآية لقمان (12):
آية النّمل: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ} : ومن شكر (مرة واحدة) فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم.
آية لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} : ومن يشكر (يتكرر شكره) فإن الله غني حميد.
فيكون المعنى بأنّ الله غني عن خلقه وعن شكرهم وحمدهم سواء كان مرة واحدة أو تجدد وتكرر
ربي كريم: لا يتوقف عن إعطاء الكافر والمؤمن في الدنيا، ومن شكر ومن لم يشكر.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} : حميد يستمر حمده وثناؤه رغم انقطاع حمد عبده أو عباده أو شكره أو شكرهم جميعاً.
لنقارن هذه الآيات الثلاث التالية:
سورة الروم آية (44): {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
سورة لقمان آية (12): {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}
سورة النّمل آية (40): {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ} .
ـ في سورة الروم: قدّم الكفر وأخّر العمل الصالح وذكر عاقبة كلٍّ من الفريقين بقوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وذكر الفعلين الكفر والعمل الصالح بصيغة الماضي.
ـ في سورة لقمان: قدّم الشكر على الكفر وجاء بصيغة المضارع: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وبصيغة الماضي للكفر: {وَمَنْ كَفَرَ} فإن الله غني عن العالمين.
ـ في سورة النّمل: قدّم الشكر على الكفر وجاء بصيغة المضارع للشكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وبصيغة الماضي للكفر: {وَمَنْ كَفَرَ} فإن ربي غني كريم.
هذه الاختلافات يمكن إيضاحها:
1 -
بأن فعل الشكر ينبغي أن يتجدد ويتكرر من العبد فلذلك يجيء به بصيغة المضارع التي تدل على التجدد والتكرار، أما الكفر ينبغي ألا يتجدد أو يتكرر من العبد ولذلك جاء به بصيغة الماضي.
2 -
في سورة لقمان، لقمان الّذي يتكلم، وهو رجل حكيم، طبعاً يبدأ بالشكر، وكذلك في سورة النّمل: سليمان عليه السلام الّذي يتكلم وهو قد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحداً من العالمين، فكان عليه أن يبدأ بالشكر، وآية سليمان ولقمان في سياق الدنيا.
أما في سورة الروم السياق هو في الآخرة؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} . من كفر (في الدنيا)، ومن عمل صالحاً (في الدنيا).
إذن السياق في الآخرة فجاء بصيغة الماضي في كليهما.
سورة لقمان [31: 13]
{وَإِذْ} : ظرفية بمعنى: حين، أو: واذكر إذ قال لقمان.
{قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} : من الوعظ: وهو النصح والتذكير بما يُليّن القلب ويرشد إلى العمل الصالح والخير، ويتضمن النهي والتحذير والبعد عن الشر.
{وَهُوَ} : الواو إما حالية؛ وتعني: إذا قال لقمان لابنه واعظاً إياه.
أو استئنافية وتعني: إذ قال لقمان كما يعظه في كل مرة.
{يَابُنَىَّ} : يا النداء، بُنيّ: تدل على التصغير والمحبة وإضافته إلى نفسه: (يا بُنيَّ) من باب حنان الأب لابنه، وليثير ويحرك مشاعر ابنه حتى يتبع ما يأمره أو ينهاه عنه.
{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} : لا النّاهية، تشرك بالله: بدأ بالتوحيد؛ لأن التوحيد أساس الإيمان، لا تشرك بالله مهما كان صغيراً أو كبيراً، ومهما كان نوعه، والباء للإلصاق والاستمرار.
{إِنَّ الشِّرْكَ} : إن للتوكيد، الشّرك بالله مثل عبادة الأصنام أو الآلهة، أو الأولياء والملائكة وعيسى والعزير، أو الشّمس أو القمر.
{لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} : اللام للتوكيد والتعليل، عظيم للنفس؛ لأنه سيورد صاحبه التهلكة ويحبط كل عمله الصالح، عظيم: من أعظم أنواع الظلم لا ظلم أشد منه.
سورة لقمان [31: 14]
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (8) لمعرفة أسباب النزول.
{وَوَصَّيْنَا} : بدلاً من: ووصى لقمان ابنه.
أراد ربنا أن يوصي بالوالدين بنفسه هذه الوصية لكل إنسان، وهذا يدل على أهمية هذه الوصية وعظيم شأنها.
{وَوَصَّيْنَا} : عهدنا فيها معنى التكليف والإلزام، وهي بصيغة الجمع والتعظيم.
وصّينا بالتشديد، ولم يقل وأوصينا، ووصّينا من فعل وصّى؛ للمبالغة في الوصية فيها حثٌّ واهتمام وتوكيد من فعل أوصى بمعنى: طلب منه؛ أي: ترك له وصية، فأوصى تستعمل في الأمور المادية.
وصية في أمور الدين مثل التوحيد والإحسان إلى الوالدين، وفيها تكليف، بينما أوصينا بدون تشديد وتستعمل غالباً في المواريث كقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ} [النّساء: 11]؛ ارجع إلى سورة النساء آية (11) لمزيد من البيان في أوصينا ووصينا. وإدراج الوصية بالإحسان للوالدين بعد النهي عن الشّرك في كثير من الآيات يدل على أهمية الإحسان إلى الوالدين وصلة الرحم. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (8) لمزيد من البيان، والمقارنة، وتكررت آية {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} في ثلاث آيات هي: سورة العنكبوت آية (8)، ولقمان آية (14)، والأحقاف آية (15)، واقترنت بالوالدين إحساناً بعبادة الله في أربع آيات: في سورة البقرة آية (83) وهي قوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وفي سورة النساء آية (36) وهي قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وفي سورة الأنعام آية (151) وهي قوله تعالى:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وفي سورة الإسراء آية (23) وهي قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} .
{بِوَالِدَيْهِ} : الباء للإلصاق؛ أي: دائماً وبشكل مستمر.
بوالديه: مشتقة من الولادة؛ أي: اللذين ولداه وللتذكير بحسن الصحبة التي تكون للوالدة غالباً، ولم يقل بأبويه؛ لأن الأبوين قد تطلق على الأبوين من التربية أو تطلق على الجد أو على العم، وكلمة الأبوين تستعمل في المواريث مثلاً وغيرها.
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} : لم يذكر في هذه الآية ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً أو حسناً وحذف (كلاهما) لأنه سيذكر بعد قليل: (أن اشكر لي ولوالديك) والشكر يدل على الإحسان أو يقوم مقام الإحسان.
{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} : الوهن هو الضعف، هو يعني: وهن مستمر، وهن الحمل الّذي يستمر حتى الولادة فكلما نما الجنين وكبر استمد من أمه ما يحتاجه للنمو وشاركها في غذائها وما تصاب به من تعب وإعياء واختلاطات الحمل وهكذا حتى يولد، وبعد الولادة يأتي وهن الرضاعة والسهر عليه وتربيته، وهكذا وهن على وهن.
وفي آية الأحقاف (15) قال: (حملته كرهاً ووضعته كرهاً). ارجع لآية الأحقاف للبيان.
{وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} : أي فطامه في عامين (24 شهراً). ولم يقل سنتين، لأن القرآن يستعمل العام في سياق الخير والبركة، والسنة تستعمل للشدة والضيق، وفي آية الأحقاف (15) قال تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} .
فإذا طرحنا (24) شهراً من ثلاثين شهراً يكون الفرق بينهما (6) أشهر وهذا يدل على أن الجنين قابل للحياة بعد (6) أشهر فقط من الحمل. ويحتاج طبعاً إلى المساعدة والرعاية الطبية الخاصة، وهذا من بينات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الدالة على أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى.
{وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} : في ظرفية؛ تعني: في يد الأم فقد يحدث الفطام أو الفصال قبل عامين، ولم يذكر مدة الحمل؛ لأن ذلك ليس بيدها فقد تزيد أو تنقص والكل يعلم أنها حوالي (9) أشهر، وبهذه الآية نعلم أن مدة الحمل بين (6-9) أشهر.
{أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} : أن: مصدرية تفيد التّعليل والتوكيد.
والشكر قلنا: قام مقام الإحسان فلا داعي لذكر الإحسان والشكر معاً، ولذلك اقتصر على الشكر في هذه الآية وبينه في الآيات الأخرى المماثلة.
{أَنِ اشْكُرْ لِى} : أي اشكر المنعم الوهاب أولاً وهو الله تعالى، والشكر باللسان والعمل معاً شكر المنعم على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وشكر دائم يتجدد ويتكرر طوال الحياة، وجاء بصيغة الإفراد {اشْكُرْ لِى} ، بينما {وَوَصَّيْنَا} بصيغة التعظيم؛ لتدل على الوحدانية وعدم الشّرك أو الرياء. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لبيان معنى الشكر.
{وَلِوَالِدَيْكَ} : شكر الوالدة والوالد يكون بالإحسان إليهما وطاعتهما، واللام في كلمة (لوالديك) للتوكيد.
{إِلَىَّ الْمَصِيرُ} : المرجع والمآل، تقديم (إلي) يدل على الحصر؛ أي: اعلم أن مصيرك ورجوعك إليّ فقط، وهذا يدل على البعث وإثبات المعاد.
وتعني كذلك: واحذر وصيتي واعلم أن مصيرك إليّ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
سورة لقمان [31: 15]
{وَإِنْ} : الواو عاطفة، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو ندرة الحدوث؛ أي: قلّما جاهداك، أو افترضنا جاهداك.
{جَاهَدَاكَ} : أي بذلا جهدهما أو غاية أو أقصى جهدهما على أن تشرك بي (بالله)، جاهداك من: جاهد، وجاهد تدل على أن هناك اثنين يجاهد أحدهما الآخر، بينما جهد تدل على المفرد الّذي يجهد بنفسه، بينما في سورة العنكبوت آية (8) قال تعالى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى} المجاهدة أخف.
والمجاهدة في آية لقمان أشد؛ لأن الوالدين يشترطان على الولد الشّرك ولذلك جاء بعلى التي تفيد المشقة والعلو، واستعمل اللام في آية العنكبوت، وسواء في آية لقمان أو العنكبوت ذكر {بِى} لأن المقام مقام توحيد فلا يستعمل إلا ضمير المفرد.
{عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِى} : على: تفيد العلو والمشقة، والمجاهدة قد تعني المحاربة. أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتوكيد.
{تُشْرِكَ بِى} : أي حاولا صرفك عن طاعتي وعبادتي، أو أكرهاك على الشّرك.
{مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : ما: للعاقل وغير العاقل، ليس: للنفي، به علم: أي لا تشرك شيئاً مهما كان من الشركاء سواء أتاك علم به أو لم يأتك.
{فَلَا تُطِعْهُمَا} : الفاء رابطة لجواب الشرط، لا: النّاهية، تطعهما: أي لا طاعة لمخلوق مهما كان في معصية الخالق. لا تطعهما في أيِّ أمر يخالف أمر الله ورسوله.
{وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} : وكل ما عدا ذلك فعليك بالمعروف إليهما؛ أي: استمر بالعطف عليهما بالمساعدة.
{فِى الدُّنْيَا} : أي في أمور الدنيا.
{مَعْرُوفًا} : نكرة؛ تعني أيَّ معروف مهما كان، والمعروف يمكن تقديمه لمن تحب ولمن لا تحب.
والمصاحبة نفسها تعتبر معروفاً، حتى مع حالة الكفر والشرك فلهما حق المصاحبة، ولا تتخذ من شركهما أو مجاهدتهما سبباً لك لقطع الرحم.
ولم يقل وصاحبهما بالمعروف: يدل على معروف معين أو بعينه، وإنما أطلقه؛ ليشمل كل معروف، فقوله:(معروفاً) أفضل وأشمل وأعم من قوله: بالمعروف.
{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} : سبيل: الطريق السهل. سبيل مفرد جمعه: سبل، وسبل السلام كثيرة.
من: ابتدائية، أناب إليّ: قيل: الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: الصحابة أو سائر المؤمنين. أناب: رجع، والإنابة الرجوع إلى الطاعة؛ أي: اتبع سبيل التائبين الطائعين الموحدين.
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي في الزّمن.
{إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ} : إليّ خاصة لا إلى غيري، إليّ وحدي مرجعكم للحساب والجزاء.
{فَأُنَبِّئُكُمْ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أخبركم وأطلعكم.
{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، كنتم: في الدنيا. تعملون: تشمل الأقوال والأفعال؛ وتعني تعملون بالمعروف والإحسان أو تعملون من خير وشر.
سورة لقمان [31: 16]
يواصل لقمان موعظته لابنه.
{يَابُنَىَّ} : ارجع إلى الآية (13) للبيان.
{إِنَّهَا} : للتوكيد.
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو الشكّ.
{تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} : حبة الخردل: تمثل أصغر شيء مادي حسي كان يعرف في ذلك الزّمن، أما في زمننا الحاضر هناك الذرة وأصغر من الذرة، وبما أن حبة الخردل أصغر شيء استعمل معها (تكُ): بدلاً من تكن أو تكون التي تمثل أقل كلمة مركبة من حرفين.
ارجع إلى سورة سبأ آية (3): لبيان معنى الذرة وأصغر من الذرة.
وارجع إلى سورة الأنبياء آية (47) لمزيد من البيان في معنى حبة من خردل.
{إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} : لنفرض أو على احتمال أن هناك شيئاً ما يعادل أو يماثل حبة من خردل في الوزن والحجم، وهذا الشيء ليس له مكان محدد في السّموات السبع أو في الأرض، وحيثما كان يأتي به الله؛ أي: سبحانه يعرف مكانه وقادر على الإتيان به.
أو تكن في صخرة أو في السّموات أو في الأرض: ثمّ استقر في داخل صخرة: (في) ظرفية؛ أي: في أيّ مكان في السّموات أو في الأرض، وليس على صخرة؛ أي: على ظهرها يسهل رؤيته مقارنة (في باطن صخرة صماء). وصخرة: نكرة، أيّ صخرة غير معروفة، من صخور الأرض أو الكواكب الأخرى، واختار صخرة؛ لأن استخراج (حبة الخردل) الجسم المتناهي في الحجم والوزن يصعب العثور عليه واستخراجه، أو صعب جداً اكتشافه وإحضاره بالطرق الحديثة.
{أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ} : أو قد تعني التخيير، أو تعني وفي الأرض أينما كانت هذه الصخرة أو هذه الحبة من الخردل في السّموات السبع أو في الأرض؛ أي: كلاهما.
{يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} : دلالة على سعة علمه به وقدرته فلا تخفى عليه خافية، كما يخفى على النّاس، فهو يعلم أين هي ثم هو قادر على استخراجها.
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} : إن: للتوكيد، اللطيف: عالم؛ أي: أين توجد، وقادر على الوصول إليها واستخراجها، ومهما كانت الأشياء الخفية والمتناهية في اللطف في غاية الصغر والدقة.
الخبير: يعلم بواطن الأمور ودقائقها وخفاياها. ارجع إلى سورة الحج آية (63) لمزيد من البيان.
سورة لقمان [31: 17]
بعد ذكر مبادئ وأسس العقيدة ومنها التوحيد والشكر والعلم والقدرة والتعريف بقدرة هذا الرب والإله، يأمر لقمان ابنه بالعبادات.
{أَقِمِ الصَّلَاةَ} : لأن الصّلاة عماد الدين والركن الأول بعد الشهادة، فهي لا تسقط بأي حال عن المؤمن مهما كان حاله ولو كان مريضاً أو على سفر، ولذلك خصها وحدها، وهي تمثل سائر العبادات الأخرى من زكاة وحج وصيام وشهادة وغيرها.
لماذا لم يأت بذكر الزكاة مع العلم أن كل الآيات تقرن إقامة الصّلاة بالزكاة؟
السبب في عدم ذكر الزكاة:
1 -
لأن ابنه لا زال في سن قبل البلوغ، والزكاة يُكلف بها العبد بعد سن البلوغ.
2 -
الزكاة تقع على ذمة لقمان في هذه الحالة.
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} : أي أمُر نفسك وأمر غيرك وحثّهم على تأدية حقوق الله تعالى وطاعة الله مثل الحض على الجماعة في المسجد وعدم ترك فريضة الصيام، أو بتأدية حقوق العباد وعدم تعطيل مرافق البلد، وتوفير المياه، والحث على التبرع وعدم المماطلة في دفع الدَّين، حتى الرأفة بالحيوانات واتباع مكارم الأخلاق، وثواب الأمر بالمعروف يعود على صاحبه.
{وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} : وتعريف المنكر: هو كل ما أنكره الشرع وحرمه أو الطبع السليم من أفعال وأقوال، ومنه ما يتعلق بالعبادات مثل الإخلال بالصلاة وأوقاتها، والنهي عن الخيانة والغدر والتقصير في دفع الزكاة، والتوسل بأصحاب القبور والأولياء، واختلاط الرجال بالنساء والخمر والعري والغش والغناء وشرب الخمور وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وغيرها من الأعمال المنكرة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام المقررة بالتضامن بين الحكومة والأفراد وهو واجب، ولا بد للقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العلم بالمعروف؛ ليأمر به والعلم بالمنكر لينهى عنه، وتطبيق الرفق والصبر بالعباد ومعرفة كيفية القيام بذلك.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} : من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو اصبر على المكاره وأذى النّاس ابتغاء وجه الله ومرضاته.
ما: اسم موصول بمعنى الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.
{إِنَّ ذَلِكَ} : إن: للتوكيد، ذلك: اسم إشارة للبعيد يشير إلى إقامة الصّلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على أذى النّاس من عزم الأمور.
{مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : أي من الأمور التي تحتاج إلى عزيمة ونية وقوة وقدرة على القيام بها؛ أي: إذا نويت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل أذى النّاس، اعلم أنك تحتاج إلى صبر وعزيمة فائقة وقوة، فاجمع قوتك وقم بذلك من باب الندب. وكما قال في سورة آل عمران آية (186):{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
لنقارن الآية (17) من سورة لقمان مع الآية (43) من سورة الشورى وهي قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
في آية لقمان قال تعالى: {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وفي آية الشورى:{لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} زاد اللام الدالة على التّوكيد؛ لأن الصبر في الشورى صبر أشد وأقوى؛ لأنه صبرٌ على من ظلمك وأساء إليك، بينما الصبر في آية لقمان صبر على مكروه مثل مرض أو خسارة، ليس هناك غريم أو خصم.
سورة لقمان [31: 18]
{وَلَا} : الواو استئنافية، لا: النّاهية.
{تُصَعِّرْ خَدَّكَ} : الصَّعر: داء يصيب البعير ويجعله يميل برقبته.
ويشبه الإنسان المتكبر الّذي يميل بوجهه أو خده عن النظر إلى النّاس تهاوناً بهم، واختار الله سبحانه هذا التشبيه؛ لأن تصعير الخد داء جسدي والكبر أو التكبر داء خُلُقي.
{لِلنَّاسِ} : اللام لام الاختصاص؛ أي: خاصة للناس.
{وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا} : لا: الناهية، في الأرض؛ لأن الغلاف الجوي للأرض طبقة منها، فهو يمشي في وليس على الأرض.
{مَرَحًا} : المرح: هو الاختيال والتبختر؛ أي: لا تمشِ مشية المتعالي المختال المعجب بنفسه الجهول، ولكن امشِ باعتدال، ولا يعني ذلك امشِ مشية المطأطئ رأسه، بل ارفع رأسك ولا تقفز أو تمشِ جرياً أو بإسراع.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{لَا يُحِبُّ كُلَّ} : للتوكيد.
{مُخْتَالٍ} : اسم فاعل من: خال: تكبر، واختال زيادة في الاختيال؛ أي: بالغ في الاختيال والتكبر على الخلق بفعله؛ أي: بسلوكه، وقيل: هو الّذي وجد له مزية عند النّاس.
{فَخُورٍ} : وهو الذي بالغ في الفخر بأقواله؛ قيل هو الّذي وجد له مزية في نفسه يفتخر بها على النّاس، فخور بماله أو قبيلته أو جاهه.
سورة لقمان [31: 19]
{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} :
في الآية السّابقة قال لقمان لابنه: ولا تمشِ في الأرض مرحاً.
ولم يُبين له كيف يمشي، بل نهاه فقط عن المشي مرحاً.
فجاء في هذه الآية يبين له كيف يمشي فقال له:
{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ} : القصد هو الاعتدال أو التوسط بين البطء والإسراع، والاعتدال لا يعني طأطأة الرأس ويعني: وعدم المشي قفزاً وبسرعة.
{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} : أي اخفضه أو اقصره، وحسبك من الرفع ما يبلغ أذن السامع؛ أي: لا ترفعه لأن علو الصوت يدل على الغرور وعدم احترام الآخرين؛ أي: الزم الاعتدال في الصوت فذلك أقرب لفهم الكلام واستيعابه.
{مِنْ صَوْتِكَ} : من بعضية.
{إِنَّ} : للتوكيد واللام في كلمة (لصوت) للتوكيد أيضاً.
{أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} : شبه رفع الصوت بدون مبرر بصوت الحمير. أنكر الأصوات: أسوأ وأوحش الأصوات (الأجناس من الحيوانات)؛ أي: لا تستسيغه وتنفر منه النفوس فلا يجوز رفع الصوت إذا كان المستمع ليس عنده آفة في السمع، أما إذا كان عنده آفة في السمع فلك أن ترفع صوتك حتى يسمعه الآخر، وقال:(صوت) وليس أصوات الحمير؛ لأن المراد هو صوت الجنس وهذا التشبيه فيه ذم لمن يرفع صوته بلا عذر وفيه تثبيط عن رفع الصوت.
واعلم أن الحمار هو مسخر لك من الله؛ أي: مذلل لك؛ لكي تستخدمه كيف تشاء، وكما ذكر في الحديث أن الحمار ينهق إذا رأى شيطاناً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوّذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً) أخرجه البخاري في صحيحه.
أو ربما ينهق ليهتدي إليه صاحبه ويعرف مكانه، والله أعلم. والمهم أن نعلم أن لكل صوت يصدر شدة وله طبقة، وطبقة الصوت: هي قوة الصوت أو شدة الصوت هي المسافة بين المصدر والسامع، وطبقة الصوت تعني سرعة تردده أو ذبذبته وتقاس بالهرتز.
وصوت الحمار يصل إلى أكثر من (300) هرتز، وشدته أكثر من (100) دسبل، أما صوت الإنسان يتراوح بين (40-50) ولا يتجاوز (100) في أشد الحالات. واعلم أن المنكر هنا أن يرفع الإنسان صوته بلا مبرر أو حاجة، فيكون صوته عندئذٍ كصوت الحمير، أوّله زفير وآخره شهيق.
واختار هذه المواعظ؛ لأن الكلام والصوت والمشي من أهم متطلبات الحياة في كل لحظة. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (50) من سورة المدثر وهي قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} : نجد أن كلاهما (حمر وحمير): جمع حمار، واستعمل القرآن كلمة حمر: للحمر الوحشية، وكلمة حمير: للحمر الأهلية.
سورة لقمان [31: 20]
المناسبة: في مطلع السورة ذكر الله سبحانه عدداً من النعم، ثمّ ذكر وصية لقمان لابنه، ثم عاد إلى ذكر بعض النعم وأنها تسخير من الله فقال تعالى:
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير، ولم يقل أولم؛ لأن زيادة الواو تدل على شدة الإنكار.
{تَرَوْا} : رؤية قلبية فكرية تبصرية ورؤية بصرية عينية، والخطاب موجه إلى الكل وخاصة للمشركين؛ لقوله في الآية (21):{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .
وقوله ألم تروا: إخبار من الله سبحانه عن شيء أعظم مما لو رأيناه بأم أعيننا وهو بدرجة عين اليقين، وألم تروا أقوى وآكد من قوله تعالى: ألم تعلموا.
{أَنَّ اللَّهَ} : أن تفيد التّوكيد.
{سَخَّرَ لَكُمْ} : ذلَّل لكم، والتسخير: التذليل بحيث تنتفعون به، لكم: خاصة بصيغة الجمع للعقلاء.
{مَا فِى} : ما: اسم موصول بمعنى الذي، فكل ما في السّموات والأرض خُيّرت فاختارت أن تكون مسخّرة لا إرادة لها مثل الشّمس والقمر والنجوم والكواكب والسحاب والمطر، كما قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
{وَمَا فِى الْأَرْضِ} : من الحيوانات والأنهار والجبال والأشجار والزرع والمعادن وغيرها، وتكرار (ما في) يفيد التّوكيد وفصل ما في السّموات وما في الأرض أو كليهما معاً.
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} : أسبغ: أوسع وأفاض، وغمركم بالنعم الظاهرة والباطنة؛ مما يدل على سعة العطاء، ونِعمَ: جمع نِعمة، وتدل على جمع كثرة مقارنة بكلمة أَنْعَم على وزن أفْعَل جمع قلة.
إذن هو سبحانه سخّر لكم وأسبغ عليكم، فهذا يستحق شكره وحمده ليلاً ونهاراً.
{نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} : مشاهدة ومحسوسة، {وَبَاطِنَةً}: غير مشاهدة أو محسوسة، أو ما لا يعلم إلا بدليل أو لم يكتشف بعد.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : أي بدلاً من أن يشكر الله على نعمه يكفر بها ويجحد بها.
{يُجَادِلُ} : الجدال هو الحوار الّذي يحدث بين طرفين أو أطراف؛ لإظهار حُجة؛ أي: يكون لدفع شبهة أو إثبات حق أو حقيقة.
{فِى اللَّهِ} : في آيات الله فيما أنزل الله أو فرض أو شرع، أو في العذاب، أو في أسمائه وصفاته وفي التوحيد، والبعث والآخرة والحساب منكراً إياها.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : بديهي أو مكتسب أو استدلالي.
{وَلَا هُدًى} : لا: لتوكيد النّفي، هدى: نكرة أيّ هدى مهما كان نوعه، هدىً من الله سبحانه أو رسول، أو هدىً من هادٍ، أو هدى من الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته.
{وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} : لا: لزيادة التّوكيد، ولا علم منزل في كتاب من السماء (أيّ كتاب)(أو عن طريق الوحي) وتكرار (لا) يفيد فصل كل واحدة عن الأخرى، العلم والهدى والكتاب المنير فليس عنده أي منها ليجادل لا علم ولا هدى ولا دليل من القرآن المنير.
سورة لقمان [31: 21]
{وَإِذَا} : شرطية تدل على حتمية الحدوث وتحققه وكثرة حدوثه؛ أي: ما قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله المرات الكثيرة.
{اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ} : أي الّذي أنزله الله من الكتاب: القرآن، أو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من سنته، وما: أوسع شمولاً من الذي.
{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ} : بل: للإضراب الانتقالي؛ أي: لسنا بحاجة إلى اتباع ما أنزل الله وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل سنتبع ما وجدنا عليه آباءنا بدلاً من الأخذ بما أنزل الله تعالى وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
{نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} : أي نعبد ما كان يعبد آباؤنا أو نعبد ما وجدنا آباءنا يعبدون من أصنام وغيرها.
{أَوَلَوْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتعجب والتهكم عليهم وتسفيه عقولهم.
{أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} : أيتبعون آباءهم الّذين اتبعوا الشيطان الّذي زيّن لهم أعمالهم من الشّرك والمعاصي؛ كي يوردهم عذاب السعير، أو تقليدهم لآبائهم إنما هو اتباع للشيطان أو تزيين من الشيطان، الّذي يدعوهم إلى عذاب السعير.
لنقارن هذه الآية من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، مع الآية (170) من سورة البقرة وهي قوله تعالى:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .
ألفينا: تستعمل في سياق ما هو مشاهد؛ أي: محسوس فقط، وفي سياق الذم أو غير المستحب أو التافه من الأمور.
ووجدنا: تستعمل في سياق الأمور المحسوسة المشاهدة وغير المحسوسة والأمور القلبية، وفي الأمور الأقل ذماً من (ألفينا). ارجع إلى الآية (170) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
سورة لقمان [31: 22]
المناسبة: بعد ذكر الّذين يجادلون في الله ويتبعون آباءهم، وبالتالي هم يتبعون الشيطان وينقادون ويسلمون له، هناك بالمقابل الّذي يسلم وجهه إلى الله وهو محسن.
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من: شرطية.
{يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} : يسلم: من أسلم؛ أي: انقاد وأسلم له: انقاد له، ويسلم: ينقاد، أسلم لله: جعل نفسه خالصة لله. يسلم: بصيغة المضارع تدل على التجدد والتكرار. بينما أسلم: بصيغة الماضي تدل على وقوع الحدث مرة واحدة وانتهى، كما جاء في سورة البقرة آية (112):{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} جاءت رداً على اليهود الّذين قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، بلى من أسلم، وأسلم؛ أي: دخل في الإسلام، والدخول في الإسلام هو مرة واحدة.
ومعنى يسلم وجهه: أي ذاته، والوجه هو أشرف أعضاء الجسم وذكر الجزء يدل على الكل.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} هذه الآية الوحيدة في القرآن تقول: ومن يسلم وجهه إلى الله، وبقية الآيات: أسلم وجههُ لله، في سورة البقرة آية (112){بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . وفي سورة النّساء آية (125){وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} .
فما الفرق بين أسلم لله، وأسلم إلى الله؟ أو يسلم لله، ويسلم إلى الله؟
أسلم وجهه لله مرة واحدة دخل فيها الإسلام، أما يسلم لله أكثر من مرة. لله: اللام لام الاختصاص والملكية؛ أي: يكرر ويجدد إخلاصه وتوحيده لله تعالى بشكل مستمر.
أسلم وجهه لله مقارنة بـ: أسلم وجهه إلى الله: فقوله تعالى: أسلم وجهه لله؛ أي: أقرب، أو أعلى درجة ومرتبة من قوله تعالى:(إلى الله)، وأسلم لله؛ أي: بلغ غايته، وأما أسلم إلى الله: لا يزال في طريقه، ولم يصل إلى نهاية الغاية المرجوة بعد.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد، محسن؛ أي: بلغ درجة الإحسان في تقواه وطاعته وأصبح مستقيماً في إحسانه؛ أي: ثابتاً. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة: لبيان معنى الإحسان.
{فَقَدِ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، قد: للتحقيق والتوكيد؛ أي: تحقق استمساكه بالعروة الوثقى.
{اسْتَمْسَكَ} : فيها مبالغة في التمسك، ولم يقل أمسك بالعروة الوثقى؛ أي: عمل كل جهده ووسعه في الإمساك.
{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} : الباء للإلصاق والالتزام. والعروة: هي الحلقة التي في طرف الحبل التي يمسك بها.
الوثقى: تأنيث: الأوثق، والأوثق مذكر: الوثقى، والأوثق اسم تفضيل؛ أي: أوثق العرى على الإطلاق وأقواها وأمتنها لا تنقطع ولا تنفصل.
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} : هذا تمثيل للمحسن الّذي يسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يتدلى من شاهق أو جبل، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق العرى بحبل متين مأمون عدم انقطاعه معمول بشكل عروة، وهو يقبض عليها بيديه بكل قواه خوفاً من أن يهوي في مكان سحيق.
وفي سورة البقرة آية (256) قال تعالى: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} ؛ أي: لا تنفتح أو تنقطع؛ أي: محكمة أشد الإحكام.
وفي قوله: لا انفصام لها: فيها توكيد؛ لأن السياق مختلف عن آية لقمان، ففي آية البقرة ذكر:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ} فلذلك أكّد بقوله: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} ، أما في آية لقمان فلا تحتاج إلى توكيد.
{وَإِلَى اللَّهِ} : تقديم الجار والمجرور، وإلى الله: للحصر.
{عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} : العاقبة آخر الأمر؛ أي: المرحلة النهائية بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النّار.
سورة لقمان [31: 23]
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من: شرطية استغراقية تدل على العموم المفرد والمثنى والجمع وللعاقل، ولا تدل على فرد معين أو جماعة معينة.
{كَفَرَ} : جاءت بصيغة الماضي: كفر ولو مرة واحدة، ولم يقل يكفر؛ لأن الكفر يجب ألا يتكرر ولا يتجدد.
{فَلَا} : الفاء: جواب الشرط، لا: نافية.
{يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} : أي لا يهمّنّك كفر من كفر، والحزن بضم الزّاي تدل على ضيق الصدر مؤقتاً ولو طال، أما الحَزَن بفتح الزّاي تدل على ضيق الصدر الدائم المستمر حتى موت الإنسان، والمنهي هنا الكفر؛ أي: يا أيها الكفر لا تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي: يا رسول الله، لا تحزن بكفر من كفر.
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} : إلينا: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: إلينا وحدنا حصراً مرجعهم.
إلينا مرجعهم ولم يقل إليّ مرجعهم، إلينا مرجعهم: تأتي في سياق الحساب والجزاء والثواب، أما: إليّ مرجعهم: فتأتي في سياق التوحيد والنهي عن الشّرك.
{إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} : بصيغة الجمع للتعظيم، فأعقبها بقوله:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تدل على الإفراد والتوحيد.
{فَنُنَبِّئُهُمْ} : الفاء تدل على الترتيب والتعقيب والمباشرة؛ أي: نخبرهم، والنبأ أهم من الخبر وأعظم.
{بِمَا عَمِلُوا} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
ننبئهم بما عملوا: بما قاموا به من أقوال وأفعال ظاهرة أو خفية في الدنيا.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : عليم صيغة مبالغة من: عالم، عليم تفيد الشمول، عليم بالكافر والمؤمن. ذات الصدور: خفايا الصدور وما داخل الأنفس. ارجع إلى سورة آل عمران آية (119) لمزيد من البيان.
لنقارن:
عليم: صيغة مبالغة مطلقة.
عالم: مخصصة للعلم بالغيب والشهادة.
علَّام: مخصصة للغيوب؛ أي: علَّام الغيوب.
سورة لقمان [31: 24]
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} :
{نُمَتِّعُهُمْ} : من المتاع: كل ما ينتفع به ويتمتع به كالطعام واللباس وأثاث البيت والأداة والمال والبنين، نمتعهم بزينة الحياة الدنيا.
{قَلِيلًا} : تحتمل معنيين: إما زمناً قليلاً، أو نمتعهم بالشيء القليل؛ أي: نمتعهم تمتعاً قليلاً في الدنيا فلا نعجل لهم العقوبة.
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي في الزّمن.
{نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} : الغليظ: العذاب الشديد الثقيل على المعذَب وذلك بعد بعثهم وحسابهم نذيقهم من عذاب يوم القيامة، ثم يساقون إلى عذاب غليظ أشد وأبقى. والعذاب الغليظ ورد في القرآن في أربع آيات، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (126) من سورة البقرة:{وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قيل: العذاب الغليظ أقل شدة من عذاب النار؛ لأن لعذاب له أشكال متعددة كثيرة.
سورة لقمان [31: 25]
{وَلَئِنْ} : الواو عاطفة، لئن: اللام للتوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال والندرة.
{سَأَلْتَهُم} : أي الكفار والمشركين.
{مَّنْ} : استفهامية.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : اللام والنون للتوكيد. ارجع إلى سورة فصلت الآيات (9-12) للبيان، وسورة الأنبياء آية (30): لبيان معنى الخلق.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} : على إقرارهم بأن الّذي خلق السّموات والأرض هو الله وأظهر عليهم الحجة، أو الحمد لله على خلق السّموات والأرض، ولا يظن أحد خطأً أن الحمد هنا يعود على أن أكثرهم لا يعلمون.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : بل: للإضراب الانتقالي.
لا يعلمون أن الّذي خلق السّموات والأرض كما أقروا بذلك هو المستحق للحمد ويستحق أن يُعبد وحده، ومع ذلك انصرفوا إلى عبادة الأصنام وعبادة غيره، أو أن خلق السّموات والأرض يدعو إلى توحيده.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أن لله ما في السّموات والأرض، وأن الله هو الغني الحميد، أو أكثرهم لا يعلمون لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم، أولا يعلمون أن خلقهم وبعثهم كنفس واحدة إن الله سميع بصير.
سورة لقمان [31: 26]
{لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} :
{لِلَّهِ} : اللام لام الاستحقاق والملكية؛ أي: له ما في السّموات والأرض. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: حصراً وقصراً لله وحده وليس له شريك.
{مَا} : للعاقل وغير العاقل، وأوسع من (مَنْ).
{فِى} : ظرفية، {السَّمَاوَاتِ}: أي السّموات السبع نفسها وما فيها من مجرات ونجوم، والأرض: السبع أرضين وما فيهن.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.
{الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} : ارجع إلى الآية (12) من السورة نفسها لمزيد من البيان.
وقوله تعالى: إن الله هو الغني الحميد؛ يعني أيضاً لا أحد سواه غني هو الوحيد الغني وغيره ليسوا أغنياء حتى ولو كان عندهم المال والملك، فهو ملك محدود وزائل، وحين يقول تعالى: ولله ملك السّموات والأرض: الملك يعني كذلك الحكم والملك معاً.
فالله سبحانه هو الغني الحميد له ما في السّموات والأرض.
وأما ما تعبدون من دونه: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ} [سبأ: 22].
{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} [هود: 101] فأنى يسحرون.
سورة لقمان [31: 27]
{وَلَوْ} : الواو عاطفة، لو: شرطية غير متناهية.
{أَنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{فِى} : ظرفية، {الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ}: لم يقل أشجار، من: استغراقية تشمل كل شجرة ولم يترك ولو شجرة واحدة، من: تعني الجنس؛ أي: جنس الأشجار.
{مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} : تعني جميع أشجار الأرض كلها قطعت وصيّرت إلى أقلام.
{وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} : والبحر اسم جنس يشمل كل البحار والمحيطات، ومن ورائه سبعة أبحر: جمع قلة، وبحار: جمع كثرة؛ تحولت إلى مداد (محبرة أو حبر).
{مَا نَفِدَتْ} : ما: النّافية، {نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}: أي وكتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله تعالى، لنفدت السبعة أبحر والأقلام كلها ولم تنفد كلمات الله؛ لأن كلمات الله تعالى غير متناهية وكذلك علمه سبحانه، وذكر كلمة سبعة على وجه المبالغة وليس الحصر، سواء كانت سبعة أبحر أم أكثر أو سبعة محيطات، والعرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مئة للكثرة ومنتهى العدد، وهذا من باب تقريب المعنى.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{عَزِيزٌ} : قوي لا يُغلب ولا يُقهر ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقادر على نصر عباده وله العزة جميعاً.
{حَكِيمٌ} : حكيم في تدبير شؤون خلقه وكونه فهو أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة لقمان [31: 28]
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} :
{مَا} : النّافية.
{خَلْقُكُمْ} : بدء الخلق أو تجديده وتكرار الخلق؛ أي: إعادة.
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا: لزيادة توكيد النّفي.
{بَعْثُكُمْ} : يوم القيامة.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} : الكاف: كاف التشبيه؛ أي: خلقكم وبعثكم يشبه خلق وبعث نفس واحدة، وبكلمة كن، فيكون.
فالواحد والجمع والخلق والبعث متساوون عنده؛ أي: ليس هناك هيّن وأهين، وصعب وأصعب، وصعب وهيّن.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{سَمِيعٌ} : صيغة مبالغة من السمع، سميع لأقوال عباده وسميع لسرّهم ونجواهم، وجهرهم وأحاديثهم، ودعائهم وبكائهم.
{بَصِيرٌ} : بأعمالهم الظاهرة بكل المرئيات.
إن الله هو الخالق المبدئ المعيد وهو السميع البصير {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْـئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النّحل: 20-21].
ولا يسمعون ولا يبصرون: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
سورة لقمان [31: 29]
المناسبة: يستمر الله الحق سبحانه في تقديم الأدلة والبراهين على عظمة قدرته وخلقه ووحدانيته، ويخاطب الكل أو يخاطب المفرد.
{أَلَمْ تَرَ} : خطاب لكل فرد مؤمن أو كافر، بينما (ألم تروا): خطاب للجميع.
{أَلَمْ تَرَ} : الهمزة للاستفهام، تر: رؤية بصرية ورؤية قلبية فكرية؛ أي: ألم تفكر كيف يولج الله الليل في النهار والنهار في الليل، وبالتالي تدرك عظمة الخالق وقدرته. وألم تر أقوى من ألم تعلم، وإذا قال سبحانه: ألم تر فرؤياه سبحانه أفضل وأعظم من رؤيا خلقه، فهي رؤيا تمثل عين اليقين، وعين اليقين أقوى وأكبر من علم اليقين، ورؤيا الخالق سبحانه تكفي وحدها وحسبنا.
{أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} : أن: للتوكيد.
{يُولِجُ} : من الولوج؛ أي: الدخول، من الناحية العلمية هذا إشارة إلى كون الأرض كروية الشكل وتدور حول محورها كل (24) ساعة وكونها تدور حول الشّمس مما يؤدي إلى تبادل الليل والنهار، والنهار والليل والذي هو من ضروريات استقامة الحياة على هذه الأرض.
ومن الناحية اللغوية تعني تداخل الليل في النهار، والنهار في الليل بحيث إذا طال أحدهما قصر الآخر وبالعكس.
يولج: جاءت بصيغة المضارع لتدل على التجدد والتكرار بشكل مستمر؛ لأن الشّمس تشرق في مكان وتغرب في مكان آخر في عموم الكرة الأرضية، وقدّم الليل على النهار؛ لأن الليل هو الأصل أو الظلام هو الأصل، لأنه قبل خلق الشّمس، وبالتالي النهار الناتج عن أشعتها بعد أن كان الكون كله ظلاماً، وفي كل القرآن يقدّم الله سبحانه الليل على النهار؛ لأنه الأصل.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : والتسخير هو الانقياد للخالق بعد أن خيّرها فاختارت أن تكون مسخّرة تؤدي مهمة معينة بلا إرادة لها ولا مشيئة كما يأمرها الخالق. وسخّر جاءت بصيغة الماضي؛ لأنه سبحانه حين خلقها سخّرها وانتهى الأمر، فالتسخير حدث وانتهى مرة واحدة، أما الإيلاج فهو مستمر، ودائماً في كل القرآن نجد كلمة سخّر بصيغة الماضي.
وسخّر هنا جاءت بدون كلمة لكم، فحين يذكر لكم تعني خاصة لكم، ولأن اللام لام الاختصاص فتأتي لكم في سياق تعداد النعم، وتأتي مطلقة بدون لكم في سياق الكلام عن عظمة قدرته ووحدانيته وفي سياق الآيات الكونية.
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : إلى: حرف غاية، وتستعمل لعموم الغايات (أول الأمر أو آخره)، أما حتى: حرف غاية فقط تشير إلى آخر الأمر.
وهذا التسخير من مظاهر نعم الله تعالى علينا، وسوف ينتهي وينقطع يوم القيامة.
{كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : تجري كجري الأمواج صعوداً وهبوطاً؛ أي: بشكل متعرج (كجري الحصان) تجري في مجرّتها حتى تتم دورتها في (250) مليون سنة كما قدرها العلماء.
الأجل: هو الزّمن أو الوقت المضروب لانتهاء الشيء.
الشّمس تجري إلى أجل مسمى: تجري إلى أن ينقضي أجلها.
وهناك فرق بين تجري إلى أجل مسمى وتجري لأجل مسمى.
تجري إلى أجل مسمى: تعني الآن تجري؛ أي: الشّمس تجري وتجري الآن للوصول إلى أو بلوغ الأجل المسمى لها، وهي نقطة تسمى (ايبكس صولر) نقطة القمة الشمسية.
تجري لأجل مسمى؛ أي: تجري وسوف تجري لقيام الساعة.
فكلمة إلى أجل مسمى: تعطينا صورتها قبل وصولها المستقر.
ولأجل مسمى: تعطينا صورتها بعد وصولها المستقر.
ارجع إلى سورة الرعد آية (2) لمزيد من البيان والتفسير العلمي لهذه الآية.
{وَأَنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
{تَعْمَلُونَ} : تضم الأقوال والأفعال.
{خَبِيرٌ} : صيغة مبالغة؛ أي: خبير ببواطن الأمور؛ أي: خفاياها، ومن يعلم بواطن الأمور بديهي أن يعلم ظواهرها.
وقدّم العمل على (خبير) ولم يقل وأن الله خبير بما تعملون؛ لأن سياق الآيات في الحديث عن:
سورة لقمان [31: 30]
{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب يشير إلى إيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وتسخير الشّمس والقمر، والجري، من عجائب قدرته وعظمته الدالة على أنه هو الإله الحق الذي يجب أن يُعبد ويطاع ويقدس.
{بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} : الباء: للإلصاق، والثبوت والتوكيد. أن الله هو: أن وهو تفيدان التّوكيد، وهو يفيد الحصر والتوكيد معاً. الحق: أي الأمر الثابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل. الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود لا وجود لشيء إلا به، ألوهيته وربوبيته حق، وأسماؤه وصفاته حق، وكل ما يقوله حق، وكل شيء يفعله حق، الحق المطلق.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} :
{وَأَنَّ مَا} : الواو عاطفة، أن: للتوكيد، ما: لغير العاقل والعاقل بمعنى الذي.
{يَدْعُونَ} : يعبدون ويعظّمون.
{مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} : أي غيره، أو كل ما سواه الباطل.
الباطل: ما لا وجود له؛ أي: الزائل والزائف مثل الشّرك والأصنام.
ولنقارن هذه الآية من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} ، والآية (62) من سورة الحج وهي قوله تعالى:{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} .
ففي آية سورة الحج أضاف (هو) التي تفيد التّوكيد والحصر، والسبب في إضافة (هو) في سورة الحج؛ لأن السياق مختلف عن سورة لقمان.
لأن صور الباطل في سورة الحج أكثر ومختلفة ومتنوعة تمثل الشّرك والكذب والظلم والإحباط في الأعمال، بينما الباطل في سورة لقمان صوره قليلة منها الشّرك، ولذلك أكّد في آية الحج بإضافة (هو) ليتناسب مع الرد على الباطل.
ارجع إلى سورة الحج آية (62) لمزيد من البيان.
{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} : ارجع إلى سورة الرعد آية (9): لبيان معنى الكبير.
ارجع إلى سورة الحج آية (62): لبيان معنى العلي الكبير.
سورة لقمان [31: 31]
ومن الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته ووحدانيته وفضله على النّاس: الفلك التي تجري في البحر.
{أَلَمْ تَرَ} : ارجع إلى الآية (29) للبيان.
{أَنَّ الْفُلْكَ} : أن: للتوكيد، الفلك: السفن، والفلك تطلق على المفرد والمؤنث والجمع.
{تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} : كما ذكر سابقاً: والشمس والقمر كل يجري، والجري: هو السير السريع، في البحر؛ لأن الطبقة الغازية حول البحر هي جزء من الأرض أو البحر، هذا الجري الّذي هو بسبب ظاهرة التوتر السطحي لماء البحر والتي تمثل شدة ترابط جزيئات الماء مع بعضها لتساعد على حمل هذه الفلك العملاقة.
{بِنِعْمَتِ اللَّهِ} : الباء للإلصاق وسببية؛ بسبب نعمة الله تعالى، ونعمة الله هذه لها معانٍ عدّة:
الفلك تجري بواسطة الرياح، فالرياح نعمة من نعم الله.
أو الفلك نفسها نعمة من نعم الله.
أو تجري بنعمة الله؛ أي: ما تحمله من البضائع والمواد والشحن نعمة من نعم الله.
والبحر أيضاً نعمة، وجريان الفلك نعمة وعدم توقفها، نِعم لا تحصى ولا تُعد.
{لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} : اللام لام التّعليل، من: ابتدائية بعضية (من بعض آياته الكونية).
ونسب الآيات إليه سبحانه بقوله: (آياته) لتدل على عظمة الآيات وكونها خاصة، ولم يقل ليريكم من الآيات.
من آياته الدالة على عظمته وقدرته ووحدانيته، وأنه هو الّذي يستحق العبادة وأنه هو الإله الحق.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إن: للتوكيد، واللام في كلمة (لآيات) للتوكيد، في: ظرفية، ذلك: ذا اسم إشارة واللام للبعد وتشير إلى الآيات (الفلك والبحر وجريان الفلك)، لكل: اللام لام الاختصاص. صبار: صيغة مبالغة من فعل: صبر، صبّار: كثير الصبر على وزن فعّال، صبّار على طاعة الله تعالى والشدائد وتحمّل المشاق والمصاعب، وخاصة في مجال البحوث والاكتشافات العلمية في مجال الكون وعلم الفضاء وعلم البحار وغيرها، وما يتعرض له الباحث من فشل أو نجاح يحتاج إلى كونه صبّاراً وشكوراً في آن واحد، ولا يكفي أن يكون صبّاراً بل أيضاً شكوراً: صيغة مبالغة من شكر؛ أي: كثير الشكر وكثير الصبر.
كلما اكتشف حقيقة علمية شكر الله سبحانه ونظر إليها وتأمّلها ودل النّاس عليها؛ حتى تزيدهم إيماناً مع إيمانهم.
فهذه الآيات الكونية التي لا يعقلها إلا العالمون تدل على أن الله هو الإله الحق لا إله إلا هو وتستوجب العبادة والشكر وتدعونا إلى الصبر والشكر في العمل والبحث عن حقائق الكون، والشكر يدعو إلى زيادة النعم وزيادة النعم تدعو إلى زيادة الشكر وهكذا، كما قال سبحانه:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وكلمة صبّار في كل القرآن لم ترد إلا مقترنة مع شكور؛ أي: صبّار شكور، وأما كلمة شكور قد تأتي مفردة.
سورة لقمان [31: 32]
في الآية السّابقة بيّن الله سبحانه أن الفلك تجري في البحر بنعمته، وإذا غشي هؤلاء الّذين أشركوا موج كالظلل، دعوا الله مخلصين له الدين وأقروا بوجود الخالق ووحدانيته؛ كي ينقذهم وبعد أن ينجيهم يعودون لما كانوا عليه من قبل.
{وَإِذَا} : الواو استئنافية، إذا: ظرفية شرطية تدل على حتمية حدوث ما يذكر بعدها.
{غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} : الغشي: علاهم وغطاهم موج كالظلل، الكاف للتشبيه، الظلل: جمع ظلّة؛ وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، موج ارتفاعه متران أو ثلاثة (أي جاءهم الموج من كل مكان) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22]. وأيقنوا بالهلاك ولا أحد يأتي لإنقاذهم.
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : دعوا الله رغم كفرهم وشركهم، دعوا الله: دعاء من الفطرة التي فطر النّاس عليها.
مخلصين: جمع مخلص؛ أي: مطيعين تائبين منيبين، وقدّم كلمة (له) على الدين التي تدل على الوحدانية له وحده.
دعاء المضطر؛ أي: دعوا الله في حالة الشدة والكرب حيث تذكروا الخالق وهو سبحانه يجيبهم وينجيهم.
{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} : الفاء للترتيب والمباشرة، نجاهم: أنقذهم وأخرجهم من كربهم وهلاكهم، وهو سبحانه يعلم منذ الأزل أنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من الشّرك ويجحدون ومع ذلك تركهم ينجون؛ ليقيم عليهم الحجة يوم القيامة، وأنه أرحم الراحمين.
نجاهم: أي تركهم لفترة من الزّمن يلاقون العذاب أو الخوف، ولم يقل أنجاهم التي تعني بسرعة وزمن قصير، نجاهم: تعني ببطء لعلهم يتذكرون ذلك فيما بعد، فما حدث: أنه ارتدع وتاب قسم منهم والقسم الآخر عادوا إلى الكفر والشرك وخانوا عهدهم.
{فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} : له عدَّة معانٍ:
موفٍ بما عاهد الله عليه في البحر عند الغرق من الإيمان بالله والإخلاص وعدم الشرك.
متوسط بين الكفر والإيمان، إذا تعرّض لكرب تاب ورجع، وإذا لم يتعرّض ضعف إيمانه.
وقيل: المقتصد من يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
أو يؤدي فقط الفرائض ولا يزيد عليها.
{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} : ما: النافية؛ يجحد: الجحد: هو إنكار الشيء المشاهد أو الظاهر، والختّار الكفور، الختّار: غدّار؛ أي: خائن العهد الّذي قطعه على نفسه عندما أصابه الكرب، كفور: صيغة مبالغة من الكفر؛ أي: كثير الكفر، وما: الواو استئنافية، ما: النّافية. يجحد بآياتنا: الجحود يكون للآيات الظاهرة أو الشيء الظاهر، وهو إنكار متعمد لما رآه وشاهده يوم أصابه الكرب من الآيات الدالة على عظمة الله ورحمته وربوبيته وتوحيده، والإنكار يكون للظاهر والباطن؛ أي: يعلم ويرى هذه الآيات حقاً ويجحد بها. إلا: أداة حصر.
{كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ختّار: صيغة مبالغة من الفعل ختر؛ أي: غدار وخداع، أو خائن للعهد الّذي قطعه على نفسه وكثير الكفر.
لنقارن هذه الآية (32) من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} مع الآية (65) من سورة العنكبوت وهي قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} .
في آية لقمان الخطر والتهديد أو الكرب أشد وأكبر مما أصاب المشركين في آية العنكبوت.
ولذلك في آية لقمان ارتدع قسم وأصبح مقتصداً، وقسم استمر على ما كان عليه في السابق من الشّرك والكفر.
وفي آية العنكبوت لأن الخطر والكرب كان أقل، فالكل عاد مشركاً بعد الكرب.
وإذا قارنّا آية لقمان (32): {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} والآية (42) من سورة هود: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} .
الموج في آية لقمان هو موج غرق وهلاك وعذاب، وركاب الفلك هم من عامة النّاس منهم المؤمن أو الكافر والموج يغشاهم كالظُّلل.
الموج في آية هود هو موج إنقاذ ورحمة ونجاة، وركاب الفلك هم نوح والذين آمنوا معه، الموج يجري بهم من تحتهم.
سورة لقمان [31: 33]
المناسبة: بعد أن بيّن الله سبحانه في كثير من الآيات الكونية الدالة على عظمته وقدرته ووحدانيته، أراد أن يختم السورة بالأمر بتقوى الله تعالى عز وجل والخشية من يوم القيامة، ثم ذكر خمسة من مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : ياء النداء والهاء في (أيّها) للتنبيه، النّاس جميعاً المؤمن والكافر، الإنس والجن؛ أي: الثقلين، والناس مشتقة من: النَّوس؛ أي: كثرة الحركة.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} : أي اجعلوا بينكم وبين سخطه وغضبه وناره وقاية، وذلك بطاعة أوامره وتجنب نواهيه، ربكم: مشتقة من الربوبية وهي التربية؛ وتعني الخالق الرازق المدبر المسيطر المربي، واختار كلمة ربكم؛ لأنه يريد أن يذكّرهم بأنه رب النّاس رب العالمين.
{وَاخْشَوْا يَوْمًا} : الخشية هي الخوف المقرون بالعلم والمقرون بالتعظيم والمهابة للذي تخشاه، يوماً: أي يوم القيامة جاء بصيغة النكرة؛ ليدل على التهويل والتعظيم.
{لَا يَجْزِى} : (في الآخرة){لَا يَجْزِى وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} : لا النّافية، يجزي: يُغني أو يقضي عنه ما عليه؛ أي: لا تنفع الولاية والنسب أو القرابة أو الصداقة أو الخلَّة.
ولم يقل لا يجزي فيه: (فيه) ظرفية تعني فقط في ذلك اليوم وغير الأيام تنفع، وإنما أطلق ولم يقل فيه.
{وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} : الوالد: من الولادة؛ أي: الوالد الحقيقي ويختلف عن الأب الذي يرعى أو يربي الولد؛ أي: لا ينفع والد ولده بالشفاعة أو دفع العَدْل أو دفع الضر أو تخفيف يوم من العذاب، أو تحويل العذاب أو تبديله. والولد: كل مولود هو ولد لوالديه والولد يطلق على الولد الصغير أو الكبير وعندما يقرب من سن البلوغ يطلق على غلام.
وقدّم الوالد على الولد؛ لأن الوالد أكثر رحمة وشفقة، والوالد أحرص على نفع ولده من نفع الولد للوالد.
ولم يذكر كلمة (أبداً) فيقول لا يجزي أبداً؛ لأنه كما قال في سورة الطور آية (21): {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، إيمان الآباء رفع درجة الأبناء ليكونوا مع آبائهم يوم القيامة.
{وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْـئًا} : تكرار (لا) يفيد زيادة توكيد النّفي، وفصل كل أمر عن الآخر أو كلاهما معاً.
{مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ} : المولود لا يقع إلا من ولد منك.
ولم يقل ولا ولد هو جاز عن والده؛ لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، والولد يقول لجده أو عمه: أب، فإذا كان المولود لا يجزي عن والده الّذي ولد منه فمن الظاهر أنه لا يجزي عن جده أو عمه أو إخوته.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْـئًا} : أي لا يغني عن والده شيئاً، (شيئاً) بصيغة النكرة لم يحدد؛ ليشمل كل شيء من الأشياء من شفاعة أو حسنة أو عذاب أو فدية أو أيّ شيء من الجزاء.
لا يجزي الوالد عن ولده بدافع الحنان والشفقة.
ولا يجزي مولود عن والده بدافع التكليف أو الوصاية، ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً.
وإذا قارنّا كلمة جازٍ بكلمة يجزي، جاز: هو اسم، أما يجزي هو فعل، والاسم أقوى من الفعل؛ لأنه يدل على الثبوت والفعل يدل على التجدد والتكرار.
فالوالد لا يجزي: أي لا يجري بشكل متكرر، ولكنه أحياناً قد يجزي وأحياناً لا يجزي فربما هناك بعض الجزاء.
المولود لا جازٍ: صفة ثابتة؛ أي: المولود لا يغني عن والده أيَّ شيء مهما كان لا أحياناً ولا قليلاً ولا كثيراً.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : إن: للتوكيد، وعد الله حق: وعد الله صدق وثابت لا يتغير ولا يتبدل.
وعده حق بالثواب أو العقاب والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : الفاء للتوكيد، لا: النّاهية لكل الأزمنة.
تّغُرَّنَّكُمُ: أي لا تغتروا بالحياة الدنيا، وأكّد الفعل بنون التّوكيد الثقيلة (أي نهي مؤكد)؛ أي: لا تخدعنكم بزينتها وزخرفها وجمالها، ومتاعها الزائل ومالها ونسائها. تغرنكم: تُدخل فيكم الغرور.
{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} : الغَرور هو الشيطان.
الغرور صيغة مبالغة مثل: كفور وشكور.
وغرور: يعني كثرة الغَرّ.
ولا يغرنكم الشيطان بالوسوسة والتزيين والمعاصي واللذة العاجلة.
سورة لقمان [31: 34]
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد.
{عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} : أي موعدها وأهم مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو. وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر والقصر، والساعة تعني: بدء تهدّم النظام الكوني الحالي.
{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : والغيث أهم أسباب الحياة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} [الأنبياء: 30]، وذكر الغيث – ماء السماء – أولاً؛ لأنه سبب الزرع والغذاء والحياة.
وينزل الغيث: بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار والاستمرار. ولم يقل المطر؛ لأن الغيث يحمل معنى الخير والمطر يحمل معنى الشر (من خصائص القرآن): وما نراه من الأخبار عن الأحوال الجوية ليس صحيحاً وكاملاً في كثير من الأحيان، فهم لا يعلمون كما يعلم الله كمية الأمطار وأين ستحلّ، ونوع هذه الأمطار أو الثلوج أو الرياح وشدتها، فما يخبرون به عبارة عن تنبّؤات فقط، وهذا لا يقارن بعلم الله المنزل للمطر والمشكِّل للسحب والرياح والعواصف.
{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ} : ما: للعاقل وغير العاقل في أرحام كل أنثى من النّساء وغيرها من أرحام والجن والحيوان، يعلم الجنس ذكراً أو أنثى، ويعلم إن كان توأماً أم أكثر أو عدد الأجنة، ويعلم هل الجنين تام أو ناقص، وإذا فيه تشوهات خلقية أم لا، يعلم زمن وساعة ولادته، يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد، يعلم علماً كاملاً شاملاً لا يقتصر على ذكورة أو أنوثة أو صفة أو صفتين، يعلم هل سيحيى أم يموت ويعلم صفاته الوراثية، وتشير الآية إلى جميع الأرحام، وأما الأطباء فيعلمون شيئاً ما ولكن علمهم قاصر ولا يتعارض مع هذه الآية؛ لأن الله سبحانه منحهم القدرة على علم بعض الصفات.
{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} : وما: النافية، تدري: من درى بمعنى: علم، والدراية: أخص من العلم، ولا تكون إلا بعد الجهل، والدراية تستعمل في حق البشر، ولا تستعمل في سياق الله، فبعد الولادة تأتي مرحلة الكسب، والكسب يشمل الرزق والمال، أو العلم والحسنات والسيئات والذنوب والصالحات والخير والشر.
غداً: لا تعني الغد بعينه وإنما في المستقبل من كل أنواع الكسب والحلال والحرام.
{وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} : بعد الولادة والكسب، تأتي مرحلة الموت.
لا تدري بأيّ أرض ولا بأيّ زمن ولا أين تدفن، لا يعلم ذلك كاملاً إلا الله وحده سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} : إن للتوكيد. الله عليم: بخلقه وكونه وبعباده ومخلوقاته، عليم بما يفعلون من صغيرة وكبيرة وما يفعلون من خير وشر، ويعلم المؤمن والكافر والمشرك. خبير: ببواطن كل الأمور وخفاياها، خفايا الأنفس، وعليم بظواهر الأمور، وعليم وخبير: صيغة مبالغة، تدل على كثرة العلم والخبرة.
وكل ما توصل إليه العلم الحديث والبحوث والاكتشافات والتجارب هي تعتبر ظاهراً من الحياة الدنيا وعلماً ناقصاً، ورغم ذلك يعتبر ذلك من فضل الله على خلقه ورحمة بهم، ولعلهم إذا توصلوا إلى بعض الحقائق والإعجازات العلمية يؤمنون بربهم ويتوبون إليه، ويحمدونه ويشكرونه بدلاً من الغرور.
سورة السجدة [32: 1]
سورة السجدة
سورة السّجدة [الآيات 1 - 11]
ترتيبها في القرآن (32)، وترتيبها في النزول (75).
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: كان النّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة: {الم تَنْزِيلُ} السّجدة، و:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} الإنسان.
{الم} :
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة؛ للبيان.
سورة السجدة [32: 2]
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} : تنزيلُ يدل على الطّريقة الّتي حصل فيها الإنزال، تنزيل عن طريق جبريل عليه السلام ، والتّنزيل مهمة الملائكة، و (تنزيلُ) مشتقة من: نزل، وتفيد من جهة السّماء. وأنزل: تعني من الله تعالى جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، نزل: تعني منجّماً أو على دفعات
…
{الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (2) للبيان.
الكتاب: القرآن، لا: النّافية، ريب: الشك والتهمة فيه، والشك: تساوي طرفي النفي والإثبات؛ أي: لا ريب في كونه منزلاً من رب العالمين؛ أي: ليس مفتى ولا مختلق.
{مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : يمكن القول: تنزيل الكتاب من رب العالمين.
وجملة (لا ريب) اعتراضية، من: ابتدائية، رب العالمين: ارجع إلى الآية (2) من سورة الفاتحة.
سورة السجدة [32: 3]
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام، أم المنقطعة بمعنى: بل يقولون افتراه، أو للإضراب الانتقالي من جملة إلى جملة.
{يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} : يقول كفار مكة وغيرهم: إن هذا القرآن غير منزل من الله، هو افتراءٌ على الله وكذب متعمد مختلق، يقولون: تدل على التّجدد والتّكرار وبحكاية الحال؛ أي: استحضار ما قالوه في الماضي إلى الحاضر؛ لبشاعته والتعجب منه، والنّون في (يقولون) للتوكيد، افتراه: من الافتراء وهو: الكذب المتعمد المختلق؛ أي: افتراه محمّد صلى الله عليه وسلم واختلقه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} الفرقان آية: (4).
{بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : بل: للإضراب الإبطالي؛ أي: تبطل ما قبلها، (قولهم افتراه): وتثبت ما بعدها (هو الحق من ربك)، هو: ضمير يفيد التّوكيد، هو: تعني الكتاب أو القرآن.
{الْحَقُّ} : أي: الكتاب هو الحق، والحق هو الكتاب؛ الحق من ربك، أو منزل من ربك بالحق، والحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدل؛ أي: الصّدق الّذي لا يطرأ عليه أيّ تبديل أو تغيير.
{مِنْ رَبِّكَ} : أنزل من ربك.
{لِتُنْذِرَ} : اللام للتعليل، تنذر: من الإنذار وهو الإعلام والتّحذير من القيام بعمل أو أمر حرّمه الله سبحانه؛ لتنذرهم بأس الله وعذابه إذا استمروا على شركهم وكفرهم، ولم يقل لتبشر أيضاً؛ لأنّ السّياق في الحديث عن الكفار، وليس هناك ما يدعو إلى تبشيرهم.
{قَوْمًا} أي: قومك أهل مكة (قريش) ومن يأتي بعدهم.
{مَا أَتَاهُمْ} : ما النّافية، أتاهم: جاءَهم.
{مِنْ} : ابتدائية استغراقية.
{نَذِيرٍ} : صيغة مبالغة في الإنذار؛ أي: كثير الإنذار، نذير من قبلك.
{مِنْ قَبْلِكَ} : من للقرب؛ أي: ما أتاهم من نذير من قبلك؛ أي: لم يبعث الله إلى قريش رسولاً من قبلك.
قبلك: يا محمّد صلى الله عليه وسلم فقد كان بين عيسى عليه السلام ومحمّد صلى الله عليه وسلم ما يقارب (560) سنة بدون نذير أو نبي
…
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} : لعل: للتعليل، لعل هذا القرآن والنذير؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم والتّبليغ والتّحذير يهتدون به إلى الصّراط المستقيم (الإسلام)؛ أي: يؤمنوا ويوحدوا الله سبحانه.
ومنهم من قال: لعل تفيد الرجاء؛ أي: رجاء هدايتهم بعد ضلالهم، ولا تعني الترجّي من الله تعالى، وقد يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرنا إلى الآيتين (2، 3) معاً نرى أن: تنزيله من رب العالمين ولا ريب في ذلك ثمّ أضرب (أبطل) وأنكر قولهم: (أم يقولون افتراه) ثمّ عاد إلى إثبات أنّه الحق من ربك.
سورة السجدة [32: 4]
انتهت الآية السّابقة بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} وبدأت هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؛ أي: لعلهم يهتدون إلى الصّراط المستقيم وإلى الله الإله الحق الّذي خلق السّموات والأرض وما بينهما.
{اللَّهُ الَّذِى} : الّذي اسم موصول يفيد التّعظيم والتّحديد والدّلالة على أنّ الله وحده الّذي خلق السّموات والأرض.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} : ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30) وإلى سورة فصلت الآيتين (9-12) وسورة البقرة الآيتين (29، 22)، وسورة الأعراف آية (54) للبيان.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} : حيث ربط الغلاف الغازي للأرض بمكونات السّماء ولذلك أصبح هذا الغلاف الغازي ليس من الأرض بالكامل وليس من السّماء بالكامل، ولكنه ظل طبقة فاصلة بين السّماء والأرض.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} : ثم: لتباين الرتبة والمنزلة بين صفة استوائه على العرش وخلق السّموات والأرض؛ أي: استوى على العرش أعظم وأكبر وأعجب من خلق السموات والأرض وما بينهما.
استوى على العرش: ارجع إلى الأعراف آية (54)، وسورة يونس آية (3)، وسورة هود آية (7).
سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تفسير هذا الاستواء، فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسّؤال عنه بدعة. والعرش هو أعظم المخلوقات على الإطلاق، وبما أنّه سبحانه قال:(ليس كمثله شيء) فالأفضل عدم الخوض في الغيب بدون علم.
{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا شَفِيعٍ} : ما: النّافية، لكم: اللام للاختصاص فهو الّذي خلق السّموات والأرض وما بينهما بالحق، فهو الإله الحق واجب الوجود الّذي يجب أن يُعبد، ومالكم من دونه من ولي ولا شفيع.
من دونه: من سواه أو من غيره، من: ابتدائية استغراقية تستغرق كلّ ولي يشفع، والولي اشتقّت من: الولي؛ وهو الّذي يليك؛ أي: القريب منك (من الأقارب)، أو غيرهم؛ أي: ما لكم من ولي: يتولى ويرعى مصالحكم ويدبر أموركم.
{وَلَا شَفِيعٍ} : تكرار (لا) النّافية يفيد توكيد النّفي، شفيع: الّذي يشفع لكم أو يتوسط لكم لدفع العذاب أو الضّر أو تخفيفه إذا عبدتم غيره أو أشركتم به.
{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتوبيخ على عدم التذكر وتعجب، ألا: أداة تنبيه وحض.
أفلا تتذكرون: إن الله خالق السّموات والأرض وما بينهما هو الإله الحق فتعبدوه وتوحّدوه وتؤمنوا به، ولا تنسوا ذلك أبداً، ولو احتاج هذا الحدث خلق السموات والأرض إلى زمن طويل للتأمل والتفكير.
أفلا تتذكرون ولم يقل أفلا تذكرون، تتذكرون تحتاج إلى زمن أطول للتذكر؛ لأنّ السّياق في الصد عن الشّرك وعبادة الأصنام، فهم يحتاجون إلى زمن أطول للتذكر والتّفكر والتّأمل ليهتدوا إلى التّوحيد، أمّا تذكرون: تحتاج زمن أقصر للتذكر.
سورة السجدة [32: 5]
{يُدَبِّرُ} : من التدبير: النظر أو التصرف (التقويم لما فيه صلاح العاقبة).
{الْأَمْرَ} : يحتمل أن يكون واحد من الأمور (الشؤون)، أو يحتمل أن يكون واحد من الأوامر؛ أي: يدبر كل شأن وله كل أمر؛ يتضمن التّكليف الشّرعي أو الوحي أو أمر المخلوقات (من حياة وموت وصحة وغنى وفقر وحرب وسلم وعزٍّ وذلٍّ
…
) وأمر الكون كله والقضاء والقدر حسب ما تقتضيه حكمته وإرادته.
{مِنَ السَّمَاءِ} : من ابتدائية ابتداءً من السّماء من عرشه يبدأ الأمر.
{إِلَى الْأَرْضِ} : وانتهاء إلى الأرض وينتهي الأمر إلى الأرض إلى الرّسول أو النّبي ثمّ يبلّغه إلى النّاس.
{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} : ثمّ للترتيب الذّكري، يعرج إليه الأمر؛ أي: يرفع إليه ليحكم فيه، والعروج يختلف عن الصّعود. ارجع إلى الآية (14) من سورة الحجر للبيان.
{فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} : أي مسيرة ألف سنة أو الزّمن المستغرق (1000) سنة للعروج أو للنّزول.
{مِمَّا تَعُدُّونَ} : أي: من أيام الدّنيا، وإذا قارنا هذه الآية مع قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، قالوا: خمسين ألف سنة تعني مقدار يوم القيامة (50 ألف سنة)، أما ألف سنة الزمن الذي تحتاجه الملائكة للصعود بأعمال العباد. ارجع إلى سورة المعارج آية (4) لمزيد من البيان.
سورة السجدة [32: 6]
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى أن تدبير الأمر من السّماء إلى الأرض هو من شأن عالم الغيب والشّهادة؛ أو: ذلك: ذا اسم إشارة واللام تفيد البعد والتّعظيم ويشير إلى عالم الغيب والشّهادة العزيز الرّحيم؛ أي: ذلك عالم الغيب والشّهادة الّذي يدبر الأمر.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم الغيب: الغيب مصدر وهو: كلّ ما غاب واستتر عن عيون النّاس ولا يدرك بالحواس في السّماء والأرض، عالم الغيب المطلق أو الغيب النّسبي الّذي يطلعه على رسله ومن اصطفاه من خلقه.
{وَالشَّهَادَةِ} : عالم الشّهادة: هو كلّ ما يشاهد بالمدركات والحواس من قِبل خلقه، فلا الغيب يغيب عنه ولا شيء مما يشاهده الخلق يغيب عن علمه.
{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر، صيغة مبالغة: له عزة القوة والغلبة والقهر والامتناع.
{الرَّحِيمُ} : بعباده المؤمنين. ارجع إلى سورة الحمد آية (2) لمزيد من البيان.
سورة السجدة [32: 7]
{الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم ويعود على الله.
{أَحْسَنَ} : أتقن وأحكم.
{كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} : خَلَقَه بصيغة الماضي، أو خَلْقه بإسكان اللام مصدر: خَلْق، كل: توكيد، شيء: نكرة، أيّ شيء صغير أو كبير إنس أو جن أو حيوان أو نبات.
أي: أحسن: خَلَقَ كلّ شيء جعله حسناً حسب ما اقتضته حكمته فجميع مخلوقاته خلقت على أحسن تقويم.
فإياك أن تُقبّحَ أو تعيب شيئاً لمجرد رؤيته، وكيف تقبّح شيئاً خلقه الله، أتعيب الصفة أو الشّيء أم تعيب الصّانع والخالق، وقل: ما شاء الله وسبحان الله.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} : أي بدأ خلق آدم من طين. ارجع إلى سورة الحجر آية (26).
سورة السجدة [32: 8]
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} :
{ثُمَّ} : للتراخي في الزّمن.
{جَعَلَ} : صيّر.
{نَسْلَهُ} : ذريته وولده؛ لأنها تنسل منه؛ أي: تنفصل عنه.
{مِنْ سُلَالَةٍ} : من ابتدائية، السّلالة: خلاصة الشّيء وأجود ما فيه أو السّلالة القليل مما يُنسل من حيوان منويّ يلقّح البيضة ويموت الباقي، سلالة: على وزن فعالة تعني: القليل.
من سلالة: من طين ثمّ من سلالة من ماء مهين.
{مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} : من: ابتدائية تشير إلى الجنس، وسمّاه المهين المستقذر الضّعيف، ماء مهين: النّطفة منيّ الرّجل وبويضة المرأة.
سورة السجدة [32: 9]
{ثُمَّ} : للتفاوت والتّباين بين التّسوية والماء المهين أو التّراخي في الزّمن.
{سَوَّاهُ} : التّسوية: أي هي اختيار الصفات الوراثية المميزة لكل فرد؛ أي: الشيفرة الوراثية الجينات والصبغيات.
{وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوحِهِ} : نفخ الرّوح كما بيّنت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في الليلة (42) من بدء الحمل، كما ورد في حديث حذيفة أسيل ورواه مسلم، وليس بعد (4) أشهر كما ظن بعض المفسرين وكما أثبتت الدراسات العلمية.
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْـئِدَةَ} : الجعل يكون بعد الخلق، وخلق الأذن للسمع، والعين للإبصار، والأفئدة: القلوب، ودائماً يسبق السمع البصر. ارجع إلى سورة البقرة آية (7) للبيان.
وأما الفؤاد فهو: القلب الحاوي على خلايا الذاكرة، الخلايا العصبية الّتي هي مركز للحب أو الإيمان والأحاسيس المعنوية. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} : أي قليل من عبادي الشّكور؛ أي: العدد الّذين يشكرونه قليل، أو مقدار وكمية الشّكر قليلة، والشّكر يكون باللسان والقلب والعمل. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان.
سورة السجدة [32: 10]
{وَقَالُوا} : الواو استئنافية، قالوا: منكرو البعث والآخرة.
{أَإِذَا} : الهمزة همزة استفهام واستبعاد وإنكار وتعجّب.
{ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ} : أي بعد الموت صرنا تراباً واندثرت ذراتنا واختلطت بتراب الأرض.
{أَإِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} : الهمزة استفهام إنكاري كالسّابقة، لفي: اللام للتوكيد، في: ظرفية.
{خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أيخلقنا ربنا من جديد؛ أي: مرة أخرى أو يُعيدنا أحياء؟ فيرد عليهم ربهم: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} :
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي وتقرير حقيقة جديدة؛ وهي أنّهم بلقاء ربهم كافرون.
{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} : الباء للإلصاق، لقاء ربهم: يوم القيامة والبعث والعرض للحساب.
{كَافِرُونَ} : جاحدون، لا يؤمنون أو يصدّقون، وكافرون بالصّيغة الاسمية الّتي تفيد الثّبوت.
سورة السجدة [32: 11]
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} :
هم ينكرون أن يعودوا أحياء بعد أن يكونوا تراباً، فتأتي هذه الآية لتؤكد لهم أنّ ملك الموت سيتوفاهم، ثمّ إلى ربهم يرجعون للحساب والجزاء ولا مفرّ من ذلك.
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين ينكرون البعث سوف يتوفاكم ملك الموت.
{يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} : بأمر من الله سبحانه وملك الموت يقبض الرّوح، ثمّ يأمر الملائكة الموكّلين بنزع أرواح الكفار {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النّازعات: 1-2].
وفي آية أخرى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].
{الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ} : وكّل بقبض أرواحكم.
{ثُمَّ} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن؛ أي: يوم البعث.
{إِلَى رَبِّكُمْ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: إلى ربكم وحده.
{تُرْجَعُونَ} : قسراً وسواء شئتم أو أبيتم إليه تُرجعون للحساب والجزاء.
سورة السّجدة [الآيات 12-20]
سورة السجدة [32: 12]
{وَلَوْ} : الواو عاطفة، لو: شرطية، وقد تحمل معنى التّمنّي مثل: وليتك ترى، أو: لو امتناعية حُذف جوابها وهو: لرأيت أمراً مخيفاً مُهيناً.
{تَرَى} : الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، ترى رؤية فكرية، وإذا أخبرنا الله تعالى بخبر وقال: ولو ترى، فرؤيته تعالى أفضل من رؤيتنا بأم أعيننا فهي رؤية بدرجة عين اليقين.
{إِذِ} : ظرفية فجائية يوم القيامة.
{الْمُجْرِمُونَ} : الكافرون المشركون المكذّبون بالبعث وبالآخرة وأهل المعاصي. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمون.
{نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} : جمع: ناكس، اسم فاعل من الفعل: نكس رأسه، والنّكس هو جعل الأعلى أسفل، وقد وردت هذه الكلمة في سورة الأنبياء آية (65):{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} ، ومعنى نكسوا على رؤوسهم في الدنيا؛ أي: عادوا إلى الباطل وعبادة الأصنام بعد أن تبيّنوا الرّشد، {وَمَنْ نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} [يس: 68] والتّنكيس في الخلق؛ أي: نعيده ضعيفاً في قواه وعقله غير قادر على الحركة والتّفكير بعد أن كان قوياً وقادراً على اتخاذ القرار، أمّا:{نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} يوم القيامة بسبب شعورهم بالذّل والخزي والحياء والنّدم لم يرفعوا رؤوسهم عند ربهم ونظروا إلى الأرض.
{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} : أبصرنا: البصر والبصيرة؛ أي: أيقنّا بعين اليقين لا شريك لك ولا ولي ولا شفيع إلا أنت، وأبصرنا صدق ما وعدتنا وعدلك وأنك الحق وكل ما دونك هو الباطل، أبصرنا ما كنا فيه من الضّلال والظّلم والخطأ. وفي هذه الآية قدم البصر على السمع، وكذلك قدم البصر على السمع في سورة الكهف؛ لأن السياق في هاتين الآيتين هو في الآخرة، أما في باقي الآيات وعددها (17) آية قدم السمع على البصر؛ لأن السياق في الدنيا. ارجع إلى سورة الملك آية (23)، وسورة البقرة آية (7) لمعرفة السبب ومزيد من البيان.
وسمعنا: سماع الأحياء لأول مرة بعد أن كنّا في الدّنيا نسمع سماع الموتى، سمعنا آياتك وما أنزلته على رسولك ولا نكذّب بالدّين، فقد كنّا عمياً وصمّاً.
{فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} : الفاء للمباشرة، ارجعنا الآن، ارجعنا إلى دار الدّنيا لكي نعمل صالحاً.
{إِنَّا مُوقِنُونَ} : إنّا للتوكيد، موقنون: جمع موقن، من اليقين وهو العلم بالحق (الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل) والعلم بأنّه لا يكون غيره.
إنّا موقنون: أي أصبحنا نعلم حق اليقين أنّك أنت الحق وكل ما قلته ووعدته وأنزلته حق، موقنون: جملة اسمية تدل على محاولتهم الظّهور بمظهر الثّابت بالإيمان، ولم يستجب الله سبحانه لطلبهم وقال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، ولم يعد ينفعهم قولهم ومعذرتهم في ذلك اليوم.
سورة السجدة [32: 13]
المناسبة: سأل المجرمون ربهم (فارجعنا نعمل صالحاً) فجاء الردّ عليهم (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون) ولو شاء الله لهداهم قسراً ولكن لم يشأ.
{وَلَوْ} : شرطية غير امتناعية، ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها ولكن لم نشأ فحقّ القول عليهم.
{شِئْنَا} : بصيغة الجمع للتعظيم، من المشيئة والمشيئة قبل الإرادة: وهي بدء العزم على الفعل، أما الإرادة: إتمام العزم أو البدء بالفعل، والإرادة قبل القدر، والقدر قبل القضاء، والقضاء قبل الإمضاء (وهو الخلق) وهو: إبراز المعدوم إلى الوجود وتأليفه وتركيبه.
{لَآتَيْنَا} : اللام لام التّوكيد (رابطة لجواب لو)، لآتينا: من الإيتاء وهو: العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة معنى الإيتاء والعطاء.
{كُلَّ} : للتوكيد.
{نَفْسٍ هُدَاهَا} : كما بيّن ذلك في آية أخرى: {أَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرّعد: 31]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
لآتينا كلّ نفس هداها: بالقسر والجبر، ولكن لم يشأ سبحانه وقضت حكمته أن يترك اختيار أمر الإيمان والعمل الصّالح بدون إكراه، وأعطى للعبد حرية الاختيار بين الإيمان والكفر والطّاعة والعصيان. فمن اختار الهداية وطريق الإيمان ثمّ طلب منه المعونة والزّيادة في الإيمان والهدى، زاده إيماناً وهدى، ومن اختار طريق الكفر والضّلال وابتعد عن ربه، تركه فيما تهواه نفسه وحذّره وأنذره على لسان رسله وكتبه.
{وَلَكِنْ} : للاستدراك والتّوكيد.
{حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى} : ثبت ووقع وسبق ولن يتغير قضائي ووعدي، وقوله: مني تدل على خطورة وأهمية القول وهو: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} : اللام والنّون في (لأملأن) للتوكيد، و (أجمعين) للتوكيد أيضاً، لأملأن جهنم من:{الْجِنَّةِ} : مجموعة من الجن قد تكون قليلة أو كثيرة. {وَالنَّاسِ} : أي: الإنس مجموعة قليلة أو كثيرة.
سورة السجدة [32: 14]
المناسبة: إذن لا رجعة إلى الدّنيا فذوقوا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم هذا.
{فَذُوقُوا} : الفاء للمباشرة، ذوقوا: أي العذاب، أي: ذوقوا العذاب بما قدّمت أيديكم وبما نسيتم لقاء يومكم هذا، ذوقوا: واختار حاسة الذّوق؛ لأنّ هذه الحاسة أهم الحواس لأنّها تختص بالأكل والشّراب وهما من مقومات الحياة الدّنيا، والطّعام والشّراب يؤثّران في كلّ عضو من أعضاء الجسم كما يفعل الجوع والعطش بالإنسان، ثمّ استعمل (ذوقوا العذاب) الّذي سيؤثّر في كلّ عضو من أعضاء الجسم كما يفعل الطّعام والشّراب والجوع والعطش.
{بِمَا} : الباء: باء السّببية، ما: حرف مصدري.
{نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} : أي ذوقوا العذاب بسبب نسيانكم المتعمد للاستعداد لهذا اليوم، نسيانكم أوامر الله وفرائضه ونواهيه وسنة رسوله، وترككم العمل الصّالح والإيمان وعدم تصديقكم بالبعث والحساب، لقاء يومكم هذا: أي يوم القيامة، وقدّم اليوم للاهتمام ونكّره للتهويل والتعظيم.
{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} : إنّا: للتعظيم والتّوكيد، نسيناكم: النّسيان من قبل الله تعالى لا يعني عدم التّذكر، حاشا لله أن ينسى شيئاً، وإنما النّسيان يعني تركهم في العذاب وعدم الالتفات إليهم، وإهمالهم في نار جهنم وعدم النّظر إليهم أو تكليمهم.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} : تكرار (ذوقوا) للتوكيد والتّوبيخ والتّقريع والخطاب للمجرمين، عذاب الخلد: عذاب نكرة: يشمل كلّ أنواع العذاب، الخلد: الدّائم الّذي لا ينقطع أو يفتر أو يخفف ويبدأ من زمن دخولهم النّار.
{بِمَا كُنتُمْ} : الباء: باء السّببية، ما: بمعنى الّذي أو مصدرية.
{تَعْمَلُونَ} : كنتم في الدّنيا تعملون تضمّ الأقوال والأفعال، تعملون من الكفر والشّرك والمعاصي والتّكذيب، وجاءت بصيغة المضارع لتدلّ على تجدد وتكرار عملهم وأنّه لم يتوقف، وماتوا ولم يتوبوا ويرجعوا إلى ربهم.
سورة السجدة [32: 15]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} : يؤمن: يصدّق ويعمل بها ويتبع ما جاء في آياتنا (آيات القرآن) والآيات الكونية والآيات الدّالة على نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، بآياتنا: بما جاء من الأدلة.
الباء للإلصاق والدّوام على الإيمان والثّبات.
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.
{إِذَا} : ظرفية زمانية وشرطية تفيد حتمية الحدوث؛ أي: ما بعدها حتماً سيحدث وبكثرة، وهو هنا: خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم.
{ذُكِّرُوا بِهَا} : أي تُليت عليهم في الصّلاة أو قرؤوها وهم يتلون القرآن سجدوا سجود التّلاوة أو وعظوا بها (مثل سجود الشّكر)
{خَرُّوا سُجَّدًا} : الخرّ: هو أن تهوي إلى الأرض ومن أعلى إلى أسفل ساجداً لله هبوط مع صوت يشبه صوت خرير الماء. ارجع إلى سورة الإسراء الآيتين (107-109) لمزيد من البيان.
{وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : سبّحوا: أي قدّسوا ونزّهوا ربهم في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به وعن كلّ نقص وشريك وولد وعيب، سبّحوا بحمد ربهم: أي عند سجودهم بالقول: سبحان ربي الأعلى سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وسبّحوا بحمد ربهم عقب الصّلوات وبكرة وعشياً.
{وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، لا: النّافية، يستكبرون: عن طاعة ربهم والسّجود إليه في كلّ مرة وكلّ حين خاضعين لله متذللين له باستمرار وتجدد. لا يستكبرون بالامتناع عن قبول الحق والإذعان له بالعبادة.
سورة السجدة [32: 16]
المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه حال المجرمين يوم القيامة وكيف نسوا لقاء يوم القيامة وكيف سينساهم الله، يذكر حال أهل الطّاعة والإيمان وما يتقربون إليه به من النّوافل والسّجود والتّهجد في الليل والدّعاء والتّضرع إليه فيقول:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} : تتجافى: اشتقّت من: جفا السّرج عن الفرس؛ أي: رفع السّرج عن الفرس وتجافى عن مكانه إذا لم يلزمه؛ أي: يتركوا فُرُش نومهم ليعبدوا الله. وقيل: تتجافى من الجفوة: التّرك مع كراهية المتروك؛ أي: سُررهم؛ أي: يتركون فُرشهم بدون تردّد مسرعين ليقوموا إلى لذة أعظم وأبقى وأحب إلى قلوبهم من لذة الفراش؛ وهي لذة قيام الليل والاتصال بالخالق ومناجاته والتّبتل إليه، جنوبهم: جمع جنب وهو: شقّ الإنسان ويراد به الشّخص.
{عَنِ} : حرف جر يفيد التّجاوز والابتعاد؛ أي: يبتعدون بجنوبهم عن مضاجعهم.
{الْمَضَاجِعِ} : جمع مضجع وهو: مكان النّوم أو الاتّكاء.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} : بالاستغفار والتّوبة والحمد والشكر، خوفاً مما حدث منهم من تقصير في جنب الله أو مما أخطؤوا بغير عمد أو نسوه خوفاً من عقابه وعذابه، يدعون: جاءت بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار، وطمعاً في رحمة ومغفرة ربهم ورضوانه وجنته.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : من بعضية؛ أي: ينفقون من بعض أموالهم كالزكاة أو الصدقات. ارجع إلى الآية (3) من سورة البقرة للبيان.
سورة السجدة [32: 17]
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا: النّافية.
{تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} : نفس: نكرة؛ أي: لا تعلم أيّ نفس (لا نفس ملك من الملائكة أو نفس رسول ولا نبي ولا أحد)، ما أخفي لهم، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو استفهامية، وما أوسع شمولاً من الذي، أخفي: بصيغة المبني للمجهول؛ أي: ما خُبِّئ لهم؛ أي: لهؤلاء الّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، من: استغراقية، قرة أعين: قرة أعين مشتقة من القرور؛ أي: السكون، وقرّ في مكانه؛ أي: استقر فيه، ولا يستقر الإنسان في المكان إلا إذا توفرت فيه مقومات الحياة والرّاحة، وقرة أعين مشتقة من: القرّ وهو البرد الشّديد، وقيل: العين الباردة هي العين المسرورة، والعين السّاخنة هي العين الحزينة، والمراد به قرة أعين؛ أي: في جنات النّعيم والخلد ما تُسرّ به أعينهم وتفرح به وتطمئن، من المساكن والقصور والطّعام والشّراب والحور العين وغيرها.
وكما جاء في الحديث القدسي كما روى البخاري ومسلم والتّرمذي قال تعالى: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : الجزاء: مقابلة الشّيء بالشّيء؛ أي: ثواباً، بما كانوا يعملون في الدنيا، ويعملون تضم الأقوال والأفعال. ارجع إلى الآية (14) من السّورة نفسها.
سورة السجدة [32: 18]
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُنَ} :
{أَفَمَنْ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري فيه معنى التّعجب، من: تأتي للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث، من: استفهامية.
{كَانَ مُؤْمِنًا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} : الكاف كاف التّشبيه، من: اسم موصول بمعنى الّذي كان فاسقاً، الفاسق: من الفسق وهو: الخروج عن الإيمان وطاعة الله تعالى. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لمزيد من البيان.
والمؤمن والفاسق لا يستوون أو لا يستويان؛ لأنّ هذا مفهوم عند العامة من النّاس ولا يحتاج إلى سؤال ولكن الغاية من هذا السّؤال هو أن نقرّ نحن بالجواب ونقول: لا يستوون حتّى نقيم الحُجة على أنفسنا، ولم يقل لا يستويان وقال: لا يستوون: لأنّ الفاسق صنف والفسق أنواع والفاسقون درجات، والمؤمن صنف والإيمان درجات وأنواع، فالمؤمنون درجات والفاسقون درجات ولذلك قال: لا يستوون بالجمع، ويجوز أن تعني الآية اثنين كلّ منهما يمثل جماعة، ثمّ ذكر الله سبحانه جزاء الفريقين فقال: أمّا الّذين آمنوا
…
وأمّا الّذين فسقوا.
سورة السجدة [32: 19]
{أَمَّا} : حرف تفصيل.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ} : الفاء: للتوكيد، لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق الذين آمنوا بالله إيمان التوحيد إيمان القلب وليس الإيمان باللسان فقط، وعملوا الصالحات: أي: كل ما يرضي الله من عمل يشمل جميع أوجه الحياة بالإضافة إلى العبادات المعروفة.
{فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} : فلهم: الفاء: للتوكيد، لهم: خاصة، نوع من أنواع الجنات مثل جنات عدن، جنات النّعيم، جنات الفردوس، المأوى: مشتقة من المكان الّذي يأوي إليه الكائن الحي ليحفظه من المكروه. والمأوى مكان الإيواء؛ أي: الاستقرار والرّاحة والطمأنينة.
{نُزُلًا} : من النُّزل: وهو ما يُعدّ للضيف من طعام وشراب ومسكن؛ أي: ثواباً.
{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ارجع إلى الآية (14) من السّورة نفسها.
بما: الباء السّببية، ما: بمعنى الّذي كانوا يعملون أو مصدرية، كانوا: في الدّنيا يعملون من الأقوال والأفعال الصّالحة، ثمّ ذكر الله سبحانه ثلاث آيات بخصوص الّذين فسقوا، الآيات (20-22).
سورة السجدة [32: 20]
{وَأَمَّا} : حرف تفصيل.
{الَّذِينَ فَسَقُوا} : الفسوق: هو الخروج عن طاعة الله وعدم امتثال أوامره ونواهيه. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لمزيد من البيان.
{فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} : الفاء: للتوكيد، المأوى: هو المستقر المريح والآمن الذي يصل إليه بعد جهد وسعي، فكيف يصف النار بالمأوى؟ قد يكون الكلام هنا على سبيل السّخرية أو التّهكّم كما يقول: فبشّرهم بعذاب أليم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (151) لبيان معنى مثوى والفرق بين مثوى ومأوى.
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} : كلما: مركبة من (كلّ وما) المصدرية الظّرفية، فهي أداة شرط تفيد التّكرار.
{يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} : من النّار أعيدوا فيها، وفي الآية (22) من سورة الحج:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} .
{وَقِيلَ لَهُمْ} : من قبل الملائكة خزَنَة جهنم.
{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} : ارجع إلى الآية (14) من السّورة نفسها.
{الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} : الّذي كنتم به في الدّنيا تكذبون: لا تصدقون، تكذبون: تدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار حتّى متّم وأنتم كفار. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (42) من سورة سبأ، وهي قوله تعالى:{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} نجد أن آية السجدة: جاءت في سياق الذين فسقوا، والفاسق قد يطلق على المؤمن، ويمكن أن يكون كافراً، وهؤلاء يكذبون بالعذاب، وليس بالنار، وأما آية سبأ: جاءت في سياق المشركين والكفار، فهؤلاء يكذبون وينكرون النار نفسها والعذاب.
سورة السّجدة [الآيات 21 - 30]
سورة السجدة [32: 21]
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} : تعود على الّذين فسقوا. اللام: لام التّوكيد والنّون في (نذيقنّهم) لزيادة التّوكيد.
{مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} : من ابتدائية، العذاب الأدنى: القريب، والعذاب: هو النكال والعقوبة؛ أي: عذاب الدّنيا مثل القحط والقتل والأسْر والخسارة والهزيمة كما حدث في بدر، والأدنى الأخفّ (الأقل شدة) دون الأكبر من مصائب الدنيا في الأموال والأولاد وغيرها.
{دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} دون: تعني: قبل العذاب الأكبر عذاب الآخرة؛ لأنّه عذاب دائم وباق لا يتغير ولا يخفّف أو يزول. والعذاب الأكبر: عذاب النار بأنواعه المختلفة؛ مثل: عذاب الحريق، والزمهرير، والزقوم، وغسلين، والماء الحميم، والسلاسل، والأغلال
…
وغيرها.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعل: للتعليل، يرجعون: بإرادتهم يرجعون عن ضلالهم وكفرهم وفسقهم إلى الإيمان بالتّوبة والاستقامة قبل أن تزهق أنفسهم وهم كارهون.
سورة السجدة [32: 22]
المناسبة: ومن أظلم من هؤلاء الّذين فسقوا ثمّ ذكّروا بآيات ربهم مرة بعد أخرى، فاستمروا على فسقهم وإعراضهم رغم الزّمن الطويل الّذي أُعطوه ليتوبوا.
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من استفهامية.
{أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} : جاء الخبر في هذه الآية بصورة الاستفهام؛ لتأكيد الكلام، وكأنّ المخبر بالخبر يدعو المستمع إلى الإقرار ليقيم عليه الحجة ولم يأت بالجواب. ليقول أو يقر المستمع: لا أحد أظلم ممن فعل ذلك، أو ليس هناك أظلم من هذا الإنسان الّذي ذكّر بآيات ربه بالوعظ والإنذار والتّبليغ أو سمع آيات الله تتلى عليه (القرآنية) أو شاهد الآيات الكونية ثمّ أعرض عنها.
{ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن، وعن تفيد المجاوزة والابتعاد، ولم يقل فأعرض عنها كما ورد في سورة الكهف الآية (57):{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، الفاء: تدل على الترتيب والمباشرة فالإعراض في سورة السّجدة وقع بعد فاصل زمني بين التّذكير وحدوث الإعراض؛ أي: عدم التّصديق والرّفض، بينما الإعراض في سورة الكهف وقع مباشرة عقب التّذكير؛ لأنّ الّذين ذكّروا بآيات ربهم في قلوبهم أكنّة وفي آذانهم وقرٌ فلذلك أعرضوا مباشرة، فالإعراض في آية الكهف أسرع من الإعراض في سورة السّجدة.
فالمذكورون في آية السّجدة هم الّذين فسقوا وذكّروا بآيات ربهم فاستمروا على فسقهم، وبعد زمن طويل أعرضوا عنها واستمروا على ذلك حتّى ماتوا ولم يتوبوا.
{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} : إنّا: للتعظيم، من المجرمين: أي هذا الّذي ذكّر بآيات ربه ثمّ أعرض عنها بعد مدة يدخل في زمرة المجرمين الّذين لم يؤمنوا، واستمروا على كفرهم وشركهم وعصيانهم. ارجع إلى سورة الجاثية آية (31)، وسورة الأنعام آية (55) لمزيد من البيان في معنى المجرمين.
سورة السجدة [32: 23]
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: قد تحقّق إيتاء موسى الكتاب منذ زمن طويل.
{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : أي آتيناه التّوراة، والإيتاء يختلف عن العطاء، لمعرفة المعنى ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.
{فَلَا تَكُنْ} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية، تكن: الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكن ولم يقل فلا تك؛ أي: ليس هناك ما يدعو إلى شدة المِرية لاستعمال تكُ.
{فِى مِرْيَةٍ مِنْ لِّقَائِهِ} : في ظرفية، مِرية: المِرية هي الجدال بعد ظهور الحق أو تبيّن الحق، في مِرية من لقائه: لقاء موسى عليه السلام وكان ذلك ليلة الإسراء والمعراج فقد لقيه صلى الله عليه وسلم في السّماء السّادسة.
ومن المفسرين من قالوا: فلا تكن في مِرية من لقائه؛ لقاء موسى يوم القيامة حين الشّفاعة.
{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} : أي وجعلنا التّوراة أو موسى أو كلاهما، هدى لبني إسرائيل، أو الهدى لبني إسرائيل للوصول إلى الحق والرّشد وسبل السّلام والصّراط المستقيم.
سورة السجدة [32: 24]
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} : جعلنا؛ أي: من بني إسرائيل، أئمّة: أنبياء قدوة وهو المرجّح، أو هداة صالحين ليسوا بأنبياء.
{يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} : بأمرنا: بإذننا بإذن منّا، يهدون: يدعون النّاس إلى طاعة الله وعبادته أو يهدون بالتّوراة.
{لَمَّا صَبَرُوا} : ظرفية زمانية بمعنى: حين صبروا على أذى قومهم وصبروا على الدّعوة إلى الله ومشاقّ التّكليف، وصبروا على فرعون وجنوده، أو لما: اللام للتعليل؛ أي: جعلناهم أئمّة لأجل صبرهم.
{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} : الباء للإلصاق والدّوام، بآياتنا: التّوراة والآيات الكونية وآيات الأحكام، يوقنون: من اليقين؛ أي: العلم بالحق الّذي لا يكون غيره؛ أي: يصدقون ويؤمنون ولا يشكّون فيها أبداً؛ آيات التّوحيد والبعث والآخرة، يوقنون: بصيغة المضارع تدل على التّجدد والاستمرار. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان في اليقين.
سورة السجدة [32: 25]
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{رَبَّكَ هُوَ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : بين الأنبياء وأممهم أو بين المؤمنين والكافرين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62): لمعرفة الفرق بين الحكم والقضاء والفصل.
{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : بين الأنبياء وأممهم أو بين الأمم أو الملل فيما كانوا في الدنيا فيه يختلفون من أمور الاعتقاد والدّين والحساب والثّواب والأعمال، والتّوحيد والإشراك وأهل الحق والباطل ومن على الحق ومن هو على الباطل، يختلفون باستمرار وتجدد وتكرار في الدّنيا.
الفرق بين الخلاف والاختلاف: الاختلاف أمر مشروع، ومنه الاختلاف المذموم والمحمود، أمّا الخلاف: منبوذ وهو من مظاهر الهوى والعناد. والاختلاف قد يكون بين أفراد الأمة الواحدة، أو الاختلاف بين أمة وأمة، فحين يكون الاختلاف بين أفراد الأمة الواحدة يقول سبحانه: يقضي بينهم، وحين يكون الاختلاف بين الأمم أو الملل المختلفة يقول سبحانه: يفصل بينهم، والفصل يعني: يذهب فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، والفصل يعني: الحكم والفصل معاً، ولذلك الاختلاف بين الأمم أو الملل المختلفة يتطلب حكماً أولاً وفصلاً ثانياً، فالحكم: هو القضاء، وأما الفصل: فهو الحكم، والفصل: هو أشد وآكد، والفصل: مشتق من جعل بينهما حاجزاً؛ أي: يجعل بينهما مسافة كأن يذهب أحدهم إلى الجنة والآخر إلى النار وينتهي الأمر.
سورة السجدة [32: 26]
{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام، ولم يقل أفلم يهد لهم، ولم يقل أولم يروا، ما هي الفروق؟
1 -
الفرق بين أولم يهد لهم وأفلم يهد لهم: الفاء تستعمل عادة إذا كان ما قبلها سبب ما بعدها، والفاء أكثر توكيداً وتهديداً أو توبيخاً.
2 -
الفرق بين أولم يهد لهم وأولم يروا: أولم يهد لهم تستعمل في سياق الآخرة عادة مثل العقوبات أو الأمور الّتي تحتاج إلى تفكير وتدبر.
بينما أولم يروا تأتي في سياق عقوبات الدّنيا أو الأمور الدنيوية.
{يَهْدِ لَهُمْ} : لهم: كفار قريش ولغيرهم، لمَ لا يتفكرون ويتبين لهم.
والهداية تحتاج إلى ثلاثة عوامل: هادٍ ومهديٍّ والشيء المهدى إليه أو الغاية من الهداية، والهداية تحتاج إلى علم وتفكر ورؤية مشتركة (بصرية وقلية).
{كَمْ أَهْلَكْنَا} : كم الخبرية وتفيد الكثير، وكم للسؤال عن العدد.
{مِنْ قَبْلِهِم} : من تفيد ابتداء الغاية، من: تعني من زمن قريب، وفيها تهديد ووعيد أشد من قوله: قبلهم بدون إضافة من، (وتحتمل الزّمن القريب أو البعيد)، بينما (من قبلهم) للتّذكير بإهلاك القريب، فيه تهديد أكبر من التّهديد بإهلاك البعيد (قبلهم)، ولم يقل قبلهم؛ قبلهم: قد تعني الزمن القريب أو البعيد (غير محدد) كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم} [يس: 31]، ومن قبلهم (القرب) يدل على شدة الإنذار والتخويف.
{مِنَ الْقُرُونِ} : جمع قرن والقرن يساوي (100) عام، وإذا قرن القرن بنبي قد يطول أكثر من (100) عام مثل قرن نوح دام (1000) عام.
أو تعني قوماً عاشوا في زمن واحد.
{يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ} : أي كفار قريش يمشون في مساكن قوم صالح (مدائن صالح) الحجر أو لوط في فلسطين قرب البحر الميت أو الأحقاف (حضرموت). يمشون: تدل على التّجدد والتّكرار يمرون عليهم في أسفارهم وتجارتهم حين يذهبون إلى بلاد الشّام.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن للتوكيد، واللام في كلمة لآيات للتوكيد، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد تشير إلى ما حل بالأقوام السّابقة من هلاك.
{أَفَلَا يَسْمَعُونَ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّقرير والتّعجّب، ألا تفيد التّنبيه على الاستماع إلى أخبار الأقوام السّابقة الّتي أهلكناها، يسمعون سماع فائدة واتعاظ، واختيار حاسة السمع؛ لأنّهم قرون انقرضت ولم نعد نراها لذلك لم يقل أفلا يبصرون.
سورة السجدة [32: 27]
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الخطاب ما زال لكفار قريش المكذبين بالبعث أنّا قادرون على إحيائهم وبعثهم من جديد كما يشاهدون كيف نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز، أولم يروا: الهمزة همزة استفهام للتعجب والتّقرير، ما: تستعمل في الأمور الدّنيوية أو العقوبات؛ أي: يمكن أن نرى آثارها، بينما (أولم يهد) تستعمل في أحوال الآخرة أو عقوبات الآخرة من باب التّبصر أو البصيرة وليس من باب الرّؤية، والرّؤية هنا رؤية بصرية ورؤية تفكر وتبصّر (رؤية فكرية) وتعني: أولم يعلموا.
{أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} : أنّا للتعظيم، نسوق الماء: أي الرّياح تحمل السّحاب والملائكة يسوقون السّحاب أو يوجّهون السّحاب الّذي يحمل المطر.
{إِلَى} : تفيد الغاية.
{الْأَرْضِ الْجُرُزِ} : أي الأرض قُطع نباتها أو تمّ حصادها، أو أصبحت جُرزاً بسبب عدم الرَّي والماء أو الرّعي وهي أرض صالحة للزراعة.
{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} : الفاء للترتيب والمباشرة، به: بالماء، زرعاً: نباتاً أو حباً جديداً.
{تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} : تأكل منه: من النّبات أو الزّرع أو الحب أو التّبن أو الورق، أنعامهم: الإبل والبقر والغنم والماعز، وأنفسهم: يأكلون من الحب والزّرع والثّمر وغيرها.
{أَفَلَا يُبْصِرُونَ} : أفلا: الهمزة للاستفهام التّقريري والتّعجّب، أفلا يبصرون: رؤية بصرية بأعينهم إلى قدرة الله على الخلق والبعث، أفلا يبصرون تلك النّعمة فيهتدون إلى الخالق فيعبدونه ويشكرونه، ويتكرر ويتجدد هذا البصر.
قدّم الأنعام على الزّرع؛ لأنّ الأنعام تحتاجه لتأكل منه فهو قوام حياتها وقدّم الأنعام على النّاس؛ لأنّ الأنعام هي طعام وقوام حياة النّاس (اللبن واللحم وغيرها..).
مقارنة أفلا يسمعون وأفلا يبصرون:
أفلا يسمعون: ما يُروى لهم ويُقصّ عليهم من هلاك الظّالمين الّذين جاؤوا من قبلهم أمثال قوم هود وصالح ولوط، وصل إليهم عن طريق السّماع ويرشدهم إلى الهداية لعلهم يهتدون ويتعظون ويؤمنون.
أفلا يبصرون: الكلام هنا عن شيء مشاهد بالعين والبصر مثل: السّحاب والمطر والزّرع والأنعام، فناسبها قوله: أفلا يبصرون ويهتدون إلى قدرة الخالق وعظمته ويؤمنوا به ويوحّدوه.
سورة السجدة [32: 28]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{وَيَقُولُونَ} : كفار قريش ومنكرو البعث، ويتجدد قولهم ويتكرر مرات كثيرة.
{مَتَى} : للاستفهام عن الزّمان، واستعمالها يدل على استفهام فيه استبعاد أو ربما استهزاء وفيه معنى البطء؛ أي: متى سيحدث هذا الأمر أو الفتح المستفهم عنه فقد تأخّر طويلاً.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يفيد القرب.
{الْفَتْحُ} : له معانٍ متعدّدة تشمل:
1 -
الفصل بيننا وبينكم، والقضاء والحكم بين المشركين والمؤمنين.
2 -
النّصر بدون قتال وحرب مثل فتح مكة وفتح الحديبية.
3 -
يوم القيامة يوم يفصل بين المؤمنين وأعدائهم.
4 -
غزوة بدر.
5 -
النّصر بشكل عام.
6 -
إظهار الحق ودحر الباطل.
والفتح جاء معرفاً بأل التّعريف؛ يعني: يوم القيامة وهو الأرجح، والفتح قد يكون فتحاً مادياً أو معنوياً، قالوا ذلك ويكررون سؤالهم: متى هذا الفتح؟ إمّا تكذيباً أو استهزاءً به أو بالفصل والحكم وبكلّ المعاني الأخرى.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن: شرطية تفيد الشكّ أو الاحتمال أو النّدرة؛ أي: نشكّ في كونكم صادقين في إنذاركم أو وعيدكم بالفتح.
سورة السجدة [32: 29]
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} :
{قُلْ} : قل لكفار مكة ومنكري البعث والحساب ولقاء الله تعالى.
{يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} : أي يوم الفتح: يوم القيامة (يوم البعث أو يوم الفصل) لا ينفع الّذين كفروا إيمانُهُم إذا آمنوا حينذاك أو تابوا كقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
وإذا كان الفتح يقصد به فتح مكة أو يوم بدر، فكيف يفسر قوله تعالى:(لا ينفعُهُم إيمانهم) وقد نفع يوم فتح مكة أو غزوة بدر بعض النّاس وآمنوا بعد ذلك. يمكن القول: أراد بالّذين كفروا لا ينفعهم إيمانهم؛ أي: المقتولين حال القتل كما حصل لإيمان فرعون حين أدركه الغرق لم ينفعه.
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} : ولا النّافية، هم للتوكيد، ينظرون: يمهلون أن يتوبون أو يعتذرون أو يؤخر عنهم القتل أو العذاب (عذاب جهنم).
سورة السجدة [32: 30]
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} :
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} : الفاء للتوكيد والمباشرة، أعرض عنهم: انصرف عنهم واتركهم في تكذيبهم ولا تجادلهم أكثر من ذلك، عن: تفيد المجاوزة والابتعاد.
{وَانتَظِرْ} : وعد الله عز وجل بالنّصر والغلبة عليهم أو هلاكهم، أو انتظر يوم القيامة أو موتهم.
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.
{مُنْتَظِرُونَ} : بك ريب المنون؛ أي: الموت أو الغلبة عليك، أو القتل أو حادث يمنعك ويكفّك عن إتمام دعوتك. (منتظرون): صفة ثابتة لهم؛ أي: منتظرون في كلّ الأزمنة؛ أي: على الدوام.
سورة الأحزاب [33: 1]
سورة الأحزاب
ترتيبها في القرآن السّورة (33)، وترتيبها في النّزول السّورة (89).
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : يا أداة نداء للبعد، أيّها: الهاء في أيّها للتنبيه، النّبي: نداء تشريف وتكريم فلم يناده كما نادى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى، فقال: يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى.
ولم ينادي سبحانه وتعالى نبيه محمّد باسمه محمد إلا في أربع آيات لأسباب خاصة، وهي:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِين مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144].
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ} [الأحزاب: 40].
{مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
{وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّهِمْ} [محمّد: 2].
وورد اسم أحمد في آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصّف: 6].
وليس في هذه الآيات الأربع نداء أو خطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما إخبار عن شأن من شؤونه صلى الله عليه وسلم.
ففي كافة القرآن لم ينادِ الله سبحانه وتعالى نبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم إلا بقوله: يا أيّها النّبي، أو يا أيّها الرّسول تشريفاً له.
وفي سياق الرّسالة والدّعوة والتّبليغ يخاطبه أو يناديه: يا أيّها الرّسول كقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة 67].
وفي سياق الجانب الشّخصي أو الفردي أو الاجتماعي يخاطبه أو يناديه يا أيّها النّبي {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِّأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28]، وكقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِمَنْ فِى أَيْدِيكُم مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70].
ولنعلم أنّه حين ينادي أو يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ المقصود بالنداء والخطاب هو أمته؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم هو قائد ورسول هذه الأمة وقدوتها.
واعلم أنّ كلّ رسول هو نبي، وليس كلّ نبي رسولاً.
{اتَّقِ اللَّهَ} : تعريف التّقوى بشكل عام أن تتقي سخط الله وغضبه وناره، بأن تجعل بينك وبينه وقاية، أيْ: حاجزاً يمنع عنك سخطه وغضبه وناره ويتم ذلك بامتثال وإطاعة أوامره وتجنب نواهيه. والسّؤال: كيف يأمر الله عز وجل رسوله بالتّقوى وهو سيد المتقين؟
وقوله: اتق الله؛ أي: استقم على تقوى الله تعالى، كما قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]، والتّقوى بالنّسبة للرسول غير التّقوى بالنّسبة لسائر الخلق، أو كما قلنا: الخطاب إلى الرّسول والمراد به أمته.
تقوى تناسب مقام المخاطب ولا يعني اتق الله، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصي ربه فيأمره بالتّقوى، ومن المفسرين من فسر اتق الله بقضية تبني زيد، أي: ادع زيداً لأبيه وهو ليس ابنك وأنت لست أبا أحد من الرّجال، كما سنرى في الآيات (4-5).
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} : حين سألوه أن يطرد الّذين يدعون ربهم أيْ: يطرد أتباعه من ضعفاء المسلمين حتّى يجلسوا ويستمعوا إليه. أو نزلت في أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السلمي حين قدموا إلى المدينة، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفض ذكر اللات والعُزى ومناة، ويقول: إن لها شفاعة فشقَّ على النّبي قولهم. (رواه الواحدي في أسباب النّزول).
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} : إنّ للتوكيد، كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، كان ولا زال وسيظل عليماً حكيماً.
عليماً: صيغة مبالغة تعني: كثير العلم أحاط علمه سبحانه بجميع خلقه وكونه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وعليم بما يقال في السّر والعلن وعليم بنوايا عباده.
حكيماً: أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين، حكيم في تدبير خلقه وكونه وشرعه، حكمته مقرونة بالعلم والقدرة والخبرة.
سورة الأحزاب [33: 2]
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} :
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : واتبع ما: بمعنى الّذي يوحى إليك من ربك، وما: أوسع شمولاً من الذي؛ أي: القرآن. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان في معنى يوحى إليك.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} : الباء للإلصاق والدّوام دائم العلم بما تعملون، خبيراً: أيْ: يعلم بواطن الأمور وخفاياها، ومن يعلم ذلك من البديهي أن يعلم ظواهرها. صيغة مبالغة من الخبرة.
وقدَّم العمل (بما تعملون) على (خبيراً)؛ لأنّ السّياق في التّقوى والطّاعة والعمل واتباع الوحي.
سورة الأحزاب [33: 3]
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} :
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : أيْ: رُدَّ أمرك إلى القائم بتدبير خلقه وتدبير كلّ الأمور راجياً عونه وتيسيره وتوفيقه للوصول إلى الغاية بعد اتخاذ كلّ الأسباب المطلوبة. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان في التوكل.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} : أيْ: يكفي أو حسبك بالله: الباء للتوكيد، حافظاً ومدبراً ومعيناً.
سورة الأحزاب [33: 4]
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} : ما النّافية، جعل: خلق الله، لرجل: اللام لام الاختصاص والتّعليل، من قلبين في جوفه: من استغراقية ولبيان الجنس، والجعل يكون بعد الخلق أيْ: لم يجعل الله لأحد قلبين في صدره، وهذه حقيقة علمية، وهناك الكثير من التشوهات الخلقية تحدث في القلب، ولكن لم يُعثر على أحد خُلق وله قلبان.
وذكر بعض المفسرين أن هذه نزلت في بعض الأفراد من بني فهر أو بني جمح من قريش يُضرب بهم المثل في الحفظ والذاكرة أو الدهاء.
وقيل: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه هو مثل ضربه الله للذي يُظاهر امرأته والمتبني ولد غيره، أيْ: كما لم يجعل الله لرجل قلبين في جوفه لم يجعل زوجة لرجل أماً له، ولم يجعل أيَّ ابن بالتبني ابناً حقيقياً للأب المتبني، ولذلك قال تعالى: ادعوهم لآبائهم فقط.
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} : فقد كان شائعاً عند العرب وقريش زمن الجاهلية عادة اجتماعية تسمَّى الظّهار، فحين يحدث بين الرّجل وزوجته نشوز أو كره كان يقول لها: أنت كظهر أمّي، أيْ: أنت عليّ محرمة كحرمة أمّي فتصبح عليه محرمة إلى الأبد (تشبه الطّلاق)، فلما جاء الإسلام جعل لها كفارة ولم يعتبرها طلاقاً؛ لأنّ الزّوجة ليست أمّاً له كما ادَّعى، وحدَّد هذه الكفارة إمّا بعتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
واستعمل كلمة اللائي هنا بدلاً من اللاتي؛ لأنّ اللائي بالهمزة أثقل من التّاء في اللاتي، واللائي يستعملها فقط في آيات الطّلاق، والظّهار فهو يستعمل أثقل الحروف مع أثقل الحالات وهي الطّلاق والظّهار، وكلمة اللائي مشتقة من اللأْي، أيْ: الاحتباس والشّدة، وهذا ما يناسب حالتي الطّلاق والظّهار اللتين في معناهما حبس النفس والشّدة.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} : وظاهرة أخرى كانت شائعة في الجاهلية وفي مطلع الإسلام هي التّبني، وأجمع أهل التّفسير على أنّ هذه الآية نزلت في زيد بن حارثة، وروى الأئمّة أنّ ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمّد حتّى نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} رواه البخاري، ورواه الواحدي في أسباب النّزول.
الدّعي: هو الّذي تدعي أنّه ابن لك بالتّبني، فأراد الله سبحانه أن يبطل ذلك فأنزل هذه الآية، ودعا الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم والصّحابة وعامة المسلمين أن لا يدعوا أدعياءَهم أبناءَهم، وأن يدعوهم لآبائهم، وأظهر الله سبحانه أن:
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} : ذلكم اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب، ذلكم تشير إلى الادِّعاءات الثّلاثة: أن رجلاً له قلبان في جوفه، وأزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمّهاتكم، وأدعياءَكم أبناءَكم هي مجرَّد أقوال باطلة لا حقيقة لها، وما يقوله الله سبحانه هو الحق بعينه، أيْ: حق اليقين.
ذلكم: ولم يقل ذلك؛ لأنّها تشمل عدة أمور، وليس أمراً واحداً ولأنّها أمور بالغة الأهمية.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} : أي: الصدق والحق هو الأمر أو القول الثابت الّذي لا يتغيَّر أو لا يكون غيره.
{وَهُوَ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{يَهْدِى السَّبِيلَ} : أي: ادعوهم لآبائهم ولا تدعوا أزواجكم أمّهاتكم ذلك هو السّبيل: الإسلام الصّحيح.
سورة الأحزاب [33: 5]
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} : انسبوهم لآبائهم الّذين ولدوهم فلان بن فلان أو هو ابن فلان، لا تقولوا: زيد بن محمّد صلى الله عليه وسلم قولوا: زيد بن حارثة، لآبائهم: اللام لام التّعليل والتّوكيد والاختصاص.
{هُوَ} : ضمير للتوكيد.
{أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : على وزن أفعل التّفضيل نقول: هذا قِسْط وهذا أقسط مثل عدل وأعدل، أيْ: ما يرشدكم الله سبحانه إليه أقسط وأعدل ولماذا قال تعالى: أقسط وأعدل؟ أقسط من ماذا؟
ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نسب زيد إليه بقوله: زيد بن محمّد يُعدُّ قِسطاً وعدلاً بشرياً، ولكن الله سبحانه يبيِّن لنا الأقسط (الأفضل والأعدل) من ذلك بأن ندعوهم لآبائهم، ونقول: زيد بن حارثة.
والفرق بين القسط والعدل: القسط هو العدل البيِّن الظّاهر، ولذلك سُمِّي المكيال قسطاً؛ لأنّه بيِّن، والقسط يعني أيضاً تطبيق العدل وليس فقط الحكم بالعدل، ولا بُدَّ من تطبيق الحكم بالعدل ليدعى قسطاً.
{فَإِنْ لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ} : الفاء للتوكيد، إن شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال، أيْ: في حالة احتمال لم يتبيَّن لكم من هم آباؤهم الّذين ولدوهم، ولم للنفي نفي الحال.
{فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ} : أيْ: هذا أخي كذا وكذا، هذا أخي زيد ولا تقولوا: هذا ابني زيد على شرط أنّهم أسلموا.
والأخوة في الدّين: هي الأخوة الحقيقية، وتعتبر أهم وأقوى من أخوَّة الدّم والنّسب.
{وَمَوَالِيكُمْ} : أنصاركم (الخدم) ادعوهم بالقول: يا ابن العم وإن كانوا عتقاء محرَّرين نادوهم: يا أخي أو يا مولاي.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} : وليس للنفي أيْ: ليس عليكم جناح: أيْ: الإثم أو الذنب، والجناح: أعم من الإثم والذنب ويقتضي العقاب فيما أخطأتم به، في ظرفية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أخطأتم به قبل النّهي أو نزول هذه الآية أو أخطأ باللسان من دون قصد ظناً أنّه ابنه، وليس عليكم جناح ولم يقل: ولا جناح عليكم: لا جناح أشد وأقوى من قوله ليس عليكم جناح؛ لأنّ لا جناح عليكم جملة اسمية، وليس عليكم جناح جملة فعلية والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الفعلية، ولذلك لا جناح عليكم: تأتي في سياق الأمور الهامة، أو الأوامر مثل: العبادات، والحقوق الزوجية، والعقيدة، وتستعمل ليس عليكم: في القضايا أو الأمور الأقل أهمية، والنادرة كما في هذه الآية.
{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} : أيْ: بعد النّهي: لكن استدراك يفيد التّوكيد، ما تعمَّدت قلوبكم: أي: التّعمُّد والقصد في مخالفة أوامر الله بعد نزول الحكم عندها يكون عليكم جناح أيْ: إثم. ارجع إلى سورة النّساء آية (101) لبيان معنى جناح.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، غفوراً: صيغة مبالغة، غفوراً لمن تاب وأصلح ورجع عن خطئه، رحيماً: صيغة مبالغة، لم يعجل بالعقوبة لمن عصى وأخطأ لعله يتوب وبعد أن يتوب يقبل توبته ويغفر له. يغفر الذنوب جميعاً إلا الكفر والشّرك به.
سورة الأحزاب [33: 6]
{النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} : أولى: أحق، ولهذه الآية عدة معانٍ، منها:
1 -
إذا دعاهم الرّسول إلى شيء مثل الخروج في سبيل الله ودعتهم أنفسهم إلى شيء آخر كانت طاعته أولى (أحق) من طاعة أنفسهم، أيْ: إذا تعارض مراد الرّسول مع مراد أحد من النّاس أن يقدم مراد الرّسول كائناً من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، أي: الرّسول أوّلاً وأنفسهم ثانياً.
2 -
أيْ: له الحق أن يحكم فيهم بما يشاء أو يقضي بينهم بما يشاء، أيْ: حق النّبي من أعظم الحقوق.
3 -
أولى بالمؤمنين، أيْ: أرق وأرحم بهم وأعطف عليهم من أنفسهم؛ لأنّ أنفسهم قد تدعوهم إلى الهلاك والنّبي يدعوهم عادة إلى النّجاة؛ لأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
4 -
إذا مات المسلم دون أن يؤدِّي ما عليه من الدّين كان صلى الله عليه وسلم يتحمل الدّين عمن يموت ويؤدِّي عنه دينه.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : تشبيه بليغ، أيْ: مثل أمهاتهم في الاحترام والتّعظيم وحرمة النّكاح، والأم: تعني الوالدة.
فلا يحل لأحد من الخلق أن يتزوج بواحدة من أمّهات المؤمنين (زوجات الرّسول صلى الله عليه وسلم كما لا يحل له أن يتزوج بأمّه.
يجب تعظيمهنَّ واحترامهنَّ وعدم الطّعن بأي واحدة منهنَّ احتراماً للنّبي صلى الله عليه وسلم سواء مات عنها النّبي أو لم يمت.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ} : الأقارب.
{بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} : أولى بميراث بعضهم بعضاً في حق الإرث.
{فِى كِتَابِ اللَّهِ} : في شرع الله أو في القرآن الكريم أو اللوح المحفوظ.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} : بالمؤاخاة أو بالمهاجرة، فالمؤاخاة والمهاجرة لا تعطي حق الإرث للمسلم، كما كان في مطلع الإسلام، إذن الأقارب أحق بالإرث من المؤمنين المهاجرين بالحلف أو المؤاخاة والمهاجرة، فما حدث أنّ المهاجرين لما هاجروا من مكة إلى المدينة تركوا أموالهم وأهلهم وديارهم ولم يشأ الأنصار أن يتركوهم من دون مساعدة أو مال، فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم يقدِّمون لهم نصف أموالهم وممتلكاتهم، وحين ألف وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار اقتضت هذه المؤاخاة أن يرث المهاجر أخاه الأنصاري، فلما أعز الله الإسلام والمسلمين وأوجد له طرق العيش أراد الحق سبحانه أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ولم يعد هناك ضرورة؛ لأن يرث المهاجر أخاه الأنصاري، فجاءت هذه الآية فقالت: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض.
{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} : إلا أداة استثناء، أن تفعلوا: أن تعليلية، تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً: هنا ترك الله سبحانه باب الإحسان مفتوحاً، فقال: أيّها الأنصار أو المؤمنين عامة إذا أردتم أن تحسنوا إلى إخوانكم المؤمنين أو المهاجرين بالوصية، فذلك جائز ومسطور في اللوح المحفوظ، أيْ: مكتوب، والقريب أولى بالوصية من الأجنبي إذا كان القريب لا يرث، وهذا يعرف باسم الولاية بالدّين.
{كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا} : ذلك اسم إشارة على ما ذكر من حق الوراثة والإحسان إلى الإخوان المؤمنين في الدّين مكتوباً ومسطوراً في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم، ومسطوراً: لا يحل تبديله أو تغييره.
سورة الأحزاب [33: 7]
{وَإِذْ أَخَذْنَا} : أيْ: واذكر إذ أخذنا، أو إذ ظرفية واذكر حين أخذنا، أخذنا: بصيغة الجمع: للتعظيم.
{مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ} : من ابتدائية واستغراقية، ميثاقهم: الميثاق عهد موثق أو مؤكد باليمين وأوثق الشّيء أحكم شده، ويتم بين اثنين، وهنا تم بين الله سبحانه من طرف وبين النّبيين من طرف ثانٍ، ولم يقل: الميثاق، وإنما نسب الميثاق لهم فقال: ميثاقهم؛ لأنّه مهم بالنّسبة لهم؛ لأنّ عليهم الالتزام به وتنفيذه وأن يكونوا للنّاس قدوة.
ما هو الميثاق الّذي أخذه الله من النّبيين: هو أن يعبدوا الله تعالى وحده ويدعوا إلى توحيده (لا إله إلا الله) وإلى عبادته وإقامة دينه ويبلغوا رسالته، وقيل: هو أن يصدق بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً، كما ورد في الآية (81) من سورة آل عمران:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، ولم يكن هناك رسول واحد عُرضت عليه الرّسالة أو الميثاق فرفضها.
والسّؤال متى أخذ الله هذا الميثاق من النّبيين؟
1 -
قيل: حين خرجوا من ظهر آدم كالذّر، كما ورد في سورة الأعراف الآية (172):{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} .
2 -
وقيل حين اصطفى الله سبحانه رسلَه وأنبياءَه من البشر ليكونوا رسلاً وأنبياءَ ويبلغوا رسالته وشرعه، فكانت المسألة مسألة إيجاب وقبول.
{وَمِنْ نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} : الواو واو الجمع المطلق: أيْ: أخذنا من هؤلاء ومن غيرهم من الرّسل، وهنا عطف الخاص على العام من النّبيين (العام) ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم (الخاص)، أيْ: عطف الخاص على العام للتوكيد على أهمية هؤلاء الرّسل الخمسة الّذين اختارهم من بين الرّسل وسماهم أولو العزم من الرّسل.
وقدَّم نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً وإكراماً له على بقية الرّسل ولفضله عليهم وأنّه للناس كافة، ثمّ ذكر نوحاً عليه السلام ولم يذكر آدمَ عليه السلام الأب الأوّل، وذكر هؤلاء الرّسل؛ لأنّهم أصحاب الكتب والشّرائع ولفضلهم على بقية الرّسل والأنبياء فنوح هو أبو البشر وإبراهيم أبو الأنبياء ومحمّد صلى الله عليه وسلم للناس كافة بشيراً ونذيراً {رُّسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
{وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقًا غَلِيظًا} : وأخذنا التّكرار للتوكيد، ميثاقاً غليظاً: وهو الميثاق نفسه الّذي ذكر سابقاً وغليظاً يدل على اليمين أو القسم المؤكد على الوفاء بما حُملِوا.
سورة الأحزاب [33: 8]
{لِّيَسْـئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} :
{لِّيَسْـئَلَ} : اللام لام التّعليل.
{الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} : أي: الرّسل والأنبياء، وهذا السّؤال سيكون يوم القيامة، وسؤالهم هذا لا يقصد به الشّك في صدقهم أو عدم تبليغهم ما أرسلوا به، وإنما هو ليقيم الحُجَّة على الصّادقين وعلى الّذين كذبوا رسلهم.
وما هو السّؤال الّذي سيسألونه هو: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، أيْ: هل بلغتم ما أرسلتم به، فيؤتى بالرّسول صلى الله عليه وسلم وبالرّسل وأولو العلم كما قال تعالى؛ ليشهدوا على الّذين كذبوا رسلهم {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النّساء: 41]، {وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]، ليشهدوا على المؤمنين الّذين آمنوا برسلهم، وعلى الكافرين الّذين كذبوا رسلهم، وإذا قارنا هذه الآية {لِّيَسْـئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} مع الآية (24) من نفس السورة، وهي قوله تعالى:{لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} نجد ليس بينهما صلة، فالأولى: تتعلق بالسؤال، والثانية: تتعلق بالجزاء، والأولى: جاءت في سياق الكافرين، والثانية: جاءت في سياق المنافقين؛ ارجع إلى كلا الآيتين لمزيد من البيان.
سورة الأحزاب [33: 9]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بالتّذكير بنعمة جديدة وهي ما حدث ليلة الأحزاب في السّنة الخامسة للهجرة.
{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} : إذ ظرفية فجائية، (في غزوة الخندق وتسمى غزوة الأحزاب)، أي: اشكروا واحمدوا ربكم، إذ جاءتكم وأنتم على ظهر جبل سُلْع، جنود المشركين من قريش بقيادة أبي سفيان وجنود من بني أسد وغطفان وعامر وسليم والنّضير وبني قريظة، وقيل: كان عددهم حوالي (10 آلاف) مقاتل، وكان عدد جيش المؤمنين (3 آلاف) مقاتل.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} : الرّيح في القرآن تحمل الشّر بينما الرّياح تحمل الخير، أيْ: ريحاً شديدة قوية اقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم وأذاعت الذّعر فيهم.
{وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} : أي: الملائكة الّذين اقتلعوا أوتادهم وأكفؤوا قدورهم ودبُّوا الهلع والرّعب في جنود المشركين؛ مما اضطرهم إلى الهرب والانسحاب من أرض المعركة بسرعة ومن دون قتال.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} : كان ولا زال وسيظل في المستقبل بما تعملون بصيراً، الباء للإلصاق والإلزام، ما اسم موصول بمعنى الّذي وقد تكون مصدرية، بما تعملون بصيراً: قدَّم العمل على (بصيراً) لأنّ السّياق في العمل، وتعملون: تضم الأقوال والأفعال، أيْ: من حفر الخندق والاستعداد للمعركة.
سورة الأحزاب [33: 10]
{إِذْ} : ظرفية فجائية، أيْ: واذكر إذ، أو اذكروا حين.
{جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} : من ناحية الشّرق من أعلى الوادي وهم غطفان وبنو قريظة وبنو النّضير، بقيادة عيينة بن حصن من فوقكم: أيْ: كأن جيش المشركين هبط على المؤمنين من فوقهم مباشرة.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} : من أسفل الوادي من ناحية الغرب وهم قريش وكنانة. وأسفلَ: جاءت منصوبة؛ لأنها ممنوعة من الصرف، وقوله من فوقكم ومن أسفل منكم: لكي يحاصروكم فلا تستطيعوا الفرار، ولم يقل من تحتكم لعدم وجود فاصل يفصل بين الطرفين.
{وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} : واذكر إذ زاغت الأبصار: زاغ البصر مال يمنة ويسرة، أي: اضطرب من شدة الفزع، وقيل: زاغت الأبصار لم تعد تنظر إلا إلى عدوها لشدة الخوف والرّوع، أو لم تعد تتحرك في الاتجاهات الطبيعية لحركات العين أو محاورها العادية.
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} : اضطربت القلوب من شدة الفزع حتّى أصبحت ضربات القلب كأنّها تخرج أو صادرة عن الحناجر، أيْ: كأنّ القلوب تحركت وارتفعت إلى أن وصلت الحناجر من شدة النّبض القوي الّذي يصل إلى الحناجر، وما يسمَّى النبض القافز.
{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} : أيْ: تظنون بالله الظّنون المختلفة والكثيرة، الخطاب موجَّه للمؤمنين، كلٌّ حسب ظنه، حسب إيمانه، ظنون مختلفة منكم قوي الإيمان وضعيف الإيمان والمنافق، قوي الإيمان يظن أنّ الله سينصر رسوله والمؤمنين، وضعيف الإيمان يظن أن المشركين سينتصرون ويدحرون المؤمنين، وبما أنّ هذه الظّنون كثيرة لا حصر لها أطلق كلمة الظّنونا بدلاً من الظنون؛ لتدل على كثرتها وعدم حصرها، وقال: الظّنونا جاء بأل التّعريف لكونها كثيرة فهي معلومة عند الله وعند الصّحابة، فهي معارف؛ لأنّها تدور حول النّصر والغلبة، وزيادة الألف زيادة في المبنى، أيْ: تشير إلى زيادة في المعنى.
سورة الأحزاب [33: 11]
{هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} :
{هُنَالِكَ} : اسم إشارة للمكان البعيد أيْ: في غزوة الخندق، ولم يقل: هناك اسم إشارة للمكان المتوسط.
{ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ} : بالخوف والجوع وشدة الحصار، ابتُلي المؤمنون ليتبيَّن الّذين صدقوا في إيمانهم والكاذبين.
{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} : زلزلوا: كلمة مركبة من زل زل، وزل ومعناها سقط أو وقع من مكانه، وزل الثّانية تعني نفس ذلك، أيْ: سقط أو وقع من مكانه مرة أخرى، فهناك وقوع أوّل ووقوع ثانٍ، والوقوع الثّاني ليس استمراراً للوقوع الأوّل وإنما هو وقوع جديد.
{وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} : تعني: إصابتهم بالمصائب الكبرى المتكررة والواحدة بعد الأخرى، وهي لا تتكرر على نمط واحد، وإنما يتكرر عددها أصيبوا بكثير من عوامل الزّلزلة، ومنها الخوف والذعر من قوة العدو (10) آلاف مقابل (3) آلاف من المسلمين، أيْ: قلة عددهم وأصيبوا بالمجاعة والبرد الشديد، وما أظهره المنافقون من تخاذل، ونقض بني قريظة عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى الأحزاب.
سورة الأحزاب [33: 12]
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} : ظرفية فجائية، أيْ: واذكر إذ يقول المنافقون أو اذكر حين قال المنافقون. جمع منافق وهو الّذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أو من لا يوافق قلبه لسانه.
يقول: بصيغة المضارع لتدل على تجدُّد وتكرُّر قولهم، ولم يقل: وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض.
{وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : الرّيبة أو الشّك.
{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : ما النّافية، وعدنا الله ورسوله، بالنصر أو الفتح أو الغلبة على المشركين.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{غُرُورًا} : إلا باطلاً أو وهماً لا صحة له، والغرور إيهام الآخر على فعل شيء يضره إذا فعله مع حجب وجه الصواب عنه، والغرور قد يؤدي إلى هلاك المال والنفس والغرور قد يسمى خداعاً والخدع يسمى غروراً على التوسع.
سورة الأحزاب [33: 13]
{وَإِذْ} : واذكر إذ قالت طائفة منهم، أو اذكر حين قالت طائفة منهم.
{قَالَتْ طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} : قالت طائفة: جماعة (قيل: هم بنو حارثة).
والطائفة: يطوفون أو يجتمعون على عقيدة واحدة خير أو شر، وتعني: التعصب والولاء لجماعة معينة.
{يَاأَهْلَ يَثْرِبَ} : يا أهل المدينة (المدينة المنورة كانت تسمَّى يثرب قديماً) وسماها رسول الله طيبة أيضاً.
{لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} : أيْ: لا إقامة ولا مكان لكم (خاصة) هاهنا في سفح جبل سلع عند الخندق، والمُقام بضم الميم مكان الجلوس والإقامة والسّكن والبقاء، والمَقام بفتح الميم مكان القيام الوقوف مثل المكان الّذي وقف عليه إبراهيم يبني الكعبة.
فارجعوا: الفاء للمباشرة الآن ارجعوا: إلى المدينة ارجعوا إلى منازلكم واتركوا محمّداً وأتباعه في جبل سلع.
{وَيَسْتَـئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ} : في الرّجوع إلى بيوتهم.
{يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} : بحُجَّة أن بيوتنا: إن للتوكيد، عورة: غير حصينة أمام العدو، ذهب عنها السّتر أو ليس لها حائط عال، أو محصنة أو خالية من الرّجال؛ لأنّهم ستر لها ويحفظونها عورة، يعني: لا تمنع من أرادها بسوء.
{وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} : ما النّافية، هي بعورة: هذا ردُّ الله عليهم، بل هي حصينة والعلَّة أو السّبب الحقيقي هو.
{إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} : إن تفسيرية تعليلية، إلا: أداة حصر، فراراً: الفرار: هو الهرب بسرعة مع الخوف، وبدون محاولة التستر، والهرب: هو الجري بسرعة مع الخوف ومحاولة التستر؛ أي: بالخفاء من القتال مخافة القتل أو الهزيمة.
سورة الأحزاب [33: 14]
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم} : ولو: شرطية، دخلت عليهم: أن لو أن الأحزاب (قريش) دخلوا المدينة المنورة.
{مِّنْ أَقْطَارِهَا} : من جميع الجوانب أو نواحي المدينة من الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، ولو دخل عليهم العدو الغازي المدينة من جميع أقطارها، واستولوا عليها.
{ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} : طُلب من هؤلاء الّذين يقولون: إن بيوتنا عورة الرّدة أو العودة إلى الشّرك، أو مقاتلة المسلمين، ثمّ: للترتيب الذّكري، وليس الزّمني.
{لَآتَوْهَا} : لبادروا في التّخلي عنها وتركها وإعطاء الدّيار للعدو.
{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} : أيْ: لأعطوهم ما طلبوا وأسرعوا في الإجابة، وما تلبثوا: ما أقاموا فيها إلا الزّمن اليسير، إذن قولهم: عورة، مجرَّد حُجَّة باطلة.
سورة الأحزاب [33: 15]
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} : قيل: من قبل غزوة الخندق، وكان ذلك يوم غزوة أُحد، أو بعد بدر الكبرى قالوا ذلك (أيْ: من فاتهم بدر): والله لئن شهدنا قتالاً لنقاتلنَّ معك، وقيل: كان ذلك في بيعة العقبة حين عاهدوا الرّسول على النّصر والمؤازرة.
{لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} : لا النّافية، والنّون في يولون للتوكيد أيضاً.
لا ينهزمون من أرض المعركة، وكنى عن الفرار والانهزام بتولي الأدبار؛ لأنّ المنهزم الفارَّ يولي دبره، ولم يقل: ظهره للتوبيخ والتّبكيت الشديد.
{وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـئُولًا} : العهد هو وعد مع شرط، أيْ: مطلوباً من صاحبه بالوفاء ومحاسب على تركه فهم نقضوا عهدهم حين سألوا رسول الله بالإذن لهم بالرّجوع إلى بيوتهم بحُجَّة أنّ بيوتهم عورة وما هي بعورة.
سورة الأحزاب [33: 16]
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَنْ} : حرف نفي لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ} : هو الجري بسرعة مع الخوف وعدم محاولة التستر أو اللواذ بشيء ما. أمّا الهرب فهو الجري بسرعة مع محاولة الخفاء والسّتر.
{إِنْ فَرَرْتُم} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو الشّك في أمر الفرار، ولم يقل: إذا فررتم الّتي تفيد حتمية الفرار أو بكثرة.
{مِنَ الْمَوْتِ} : من ابتدائية، الموت العادي، كما قال تعالى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}:[الجمعة: 8].
{أَوِ الْقَتْلِ} : القتل يؤدي إلى الموت، ولكن في القتل يموت البدن أولاً بسبب القتل مما يلزم ويجبر الرّوح أن تخرج من البدن الّذي أصبح غير صالحاً لبقاء الرّوح فيه. وأما في الموت العادي فتخرج الرّوح أولاً وبعد خروجها يموت البدن.
{وَإِذًا} : حرف جواب.
{لَا تُمَتَّعُونَ} : في الحياة أو بالعيش والبقاء إلا قليلاً.
{إِلَّا قَلِيلًا} : إلا أداة حصر، أيْ: زمناً قليلاً بعد الفرار وتموتون وذلك بانقضاء آجالكم.
ولا تمتعون إلا قليلاً: جواب شرط، أيْ: إن نفعكم الفرار ظاهراً أو كما تظنون فالفرار لا يزيد في آجالكم والقتل لا ينقص منها شيئاً.
سورة الأحزاب [33: 17]
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مَنْ} : استفهام تقريري وتخص العاقل وتشمل المفرد أو الجمع.
{ذَا} : اسم إشارة يفيد القريب.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّوكيد.
انتبه: كيف جاءت هذه الآية على صورة الاستفهام ولم تأت على صورة الخبر مثل قوله: قل لا يعصمكم من الله أحد إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة؛ لأنّ الجملة الاستفهامية يقصد بها التّوكيد وإن يقروا بأنفسهم أي: استفهام تقريري والله سبحانه يعلم جوابهم منذ الأزل. وليعلموا أن لا أحد يقدر على أن يعصمهم من الله لا في الدّنيا ولا في الآخرة.
{يَعْصِمُكُم مِنَ اللَّهِ} : يجيركم أو يمنعكم، أو يحفظكم أو يحميكم من الله سبحانه.
{مِنَ} : ابتدائية.
{إِنْ أَرَادَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.
{أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} : بكم خاصة سوءاً: كالهلاك والهزيمة والعذاب، أو القتل أو الضّرر والفقر والمرض (السّوء يعني كلّ ما يسيء إلى النّفس) أيْ: تكرهه النّفس.
{أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} : أو للتفصيل، أراد بكم رحمة: نصر غنى سلامة والسّوء أو الرّحمة جاء بصيغة نكرة ليشملا كلّ أنواع السّوء أو الرّحمة.
{وَلَا يَجِدُونَ} : النّون للتوكيد بدلاً من ولا يجدوا: أي: الفارون من أرض المعركة.
{لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : لهم اللام لام الاختصاص من غير الله أو سواه.
{وَلِيًّا} : القريب المعين المحب القادر على جلب النّفع لهم.
{وَلَا نَصِيرًا} : تكرار لا تفيد توكيد النّفي، لا ولي لوحده ولا نصير لوحده ولا كلاهما، نصيراً: القادر على نصرهم ودفع السّوء عنهم.
سورة الأحزاب [33: 18]
{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد، أيْ: يعلم الله سبحانه بكل توكيد المعوقين منكم.
{يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ} : يعلم بصيغة المضارع فالله سبحانه يعلم ما يفعله المعوقين. المعوقين: جمع معوق من عاق يعوقه أيْ: صرفه عن الوجه الّذي يريده، أو المعوق الشّخص الّذي يضع العوائق أمام شخص آخر كي يثبطه أو يخذله عن تحقيق ما يصبو إليه وقيل: المعوق المثبط.
فقد كان هناك جماعة أو طائفة من المنافقين يثبطون ويضعون العوائق أمام كلّ من أراد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الدّخول في الإسلام أو أراد القتال معه أو الانضمام إلى صفه.
{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} : القائلين لإخوانهم من ساكني المدينة: هلمَّ إلينا أقبلوا إلينا كونوا معنا ولا تسمعوا له، ارجعوا إلينا ودعوا محمّداً ولا تخرجوا معه إلى القتال، فإنا نخاف عليكم الهلاك والقتل والهزيمة والأسر.
{وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} : تعود على المعوقين، البأس: الحرب والقتال، أيْ: هم أنفسهم لا يحضرون القتال في سبيل الله، إلا: أداة حصر، قليلاً: أيْ: نادراً، ويحضرون فقط للسمعة والرّياء وليس للقتال في سبيل الله، أيْ: هم لا يقاتلون في سبيل الله ولا يريدون من الآخرين أن يقاتلوا في سبيل الله أيضاً.
سورة الأحزاب [33: 19]
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} : أشحة: من الشح: وهو الحرص على تحصيل ما ليس عنده، والبخل: الامتناع من الإنفاق منه بعد الحصول عليه، وقيل: الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، كما قال ابن مسعود، وقيل: الشح أكثر ما يكون في النفس؛ أي: مجبول على الشح، وقيل: الشّحيح هو الّذي يبخل على الغير، وقد يكون كريماً على نفسه وأهله، أمّا البخيل فهو الّذي يبخل على نفسه وعلى الغير.
فلذلك قال تعالى: أشحة عليكم وليس على أنفسهم، أيْ: لا يقدِّمون لكم أيَّة معونة أو لا ينفقون على الفقراء أو الجهاد في سبيل الله أو لا ينفقون في سبيل الله عامة، ولا يقدمون لكم يد العون في حفر الخندق.
{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} : الفاء للتوكيد أو المباشرة، الخوف: الحرب أو القتال والفزع واختار جاء لتدل على الشّدة والصّعوبة، ولم يقل: أتى الخوف.
{رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} : ونسمِّي هذا في عالم الطّب بـ منعكس عيني الدُّمية الّذي يراه أطباء العصبية حين يشارف المريض على الموت إذا أدرت رأسه إلى اليسار ترى عينه تتجه إلى اليمين أو بالعكس: تدور أعينهم كما تدور عينا الّذي دنا من الموت يمنة أو يسرة؛ دليلاً على قرب موت الدّماغ.
{كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} : أي: اقترب أجله وليس هناك أملٌ في شفائه، ودوران العين يعني: عدم ثباتها واستقرارها.
{فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ} : أي: انتهت الحرب أو انتهى القتال وأصابكم من الغنيمة شيء.
{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} : سلقوكم: خاطبوكم أشد مخاطبة والسّلق يعني الضّرب. ألسنة حداد: على وزن فعال جمع حاد بمعنى القاطع كحد السيف القاطع.
وسلقوكم بألسنة حداد: أيْ: آذووكم بالكلام أو الغيبة والتّهمة والسّب للمطالبة بقسم من الغنيمة، أو لما لا تعطونهم أكثر مما تعطونهم أو بأنهم سبب النّصر والفوز الّذي أصابكم أو بأنهم فعلوا كذا وكذا وقدَّموا لكم العون، وكل ذلك كذب وافتراء.
{أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} : أيْ: بخلاء على الغير في كلّ عمل خير حتّى بالقول، وكيف بالفعل أو عندما يتولَّون تقسيم الغنائم بأيديهم يصبحون بخلاء أشحاء لا يعطون غيرهم شيئاً من الغنائم أو المال (الخير).
{أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} : أولئك اسم إشارة تدل على التّحقير، لم يؤمنوا: نفى عنهم الإيمان الصّحيح وإن أظهروا أنّهم مؤمنون؛ لأنّهم منافقون، أولئك لم يؤمنوا حقيقةً، بل هم منافقون.
{فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} : الفاء للترتيب والمباشرة، أحبط الله أعمالهم: أبطل الله ثواب أعمالهم الصّالحة من الحبط مرض يصيب الماشية، فتظن أنّها مليئة باللحم، ولكنها مريضة ومصابة بالوذمات واحتباس السوائل في بدنها ولحمها فاسد لا يؤكل؛ لأنّها مريضة ومصابة بمرض الحبن أو الكبد، أيْ: أبطل الله ثواب خروجهم وما أنفقوا مهما كان قليلاً أو كثيراً، وكان ذلك على الله يسيراً، أيْ: إبطال أعمالهم وإحباطها هيِّن وسهل على الله تعالى.
سورة الأحزاب [33: 20]
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} : يحسبون من حسب وهو الظّن الرّاجح المبني على التّقدير والحساب والتّجربة، ويعني الاعتقاد أو لم يصدقوا أنّ الأحزاب لكثرة عددهم (10 آلاف) مقاتل كيف ينصرفون من دون قتال ويولون الأدبار ولم يدحروا المسلمين القلة، فهم يعتقدون أنّ الأحزاب وهم قريش وغطفان ما زالوا حول المدينة ولم يعودوا بعد إلى ديارهم منهزمين.
يحسبون: فيها نون التّوكيد، وجاءت بصيغة المضارع لتدل على حكاية الحال حدث في الماضي يأتي بصيغة الحاضر ليدل على عدم تصديقهم أنّ الأحزاب انهزموا وتركوا أرض المعركة رغم عددهم الكبير.
{وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة، يأت الأحزاب أيْ: تتجمع الأحزاب مرة أخرى ضد المسلمين، ويعود لمقاتلة المسلمين على فرض ذهبوا وسيعودون مرة أخرى.
{يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الْأَعْرَابِ} : أيْ: يود المنافقون لو أنهم بادون في الأعراب: أيْ: أنهم مع البدو المقيمون في البادية مع الأعراب، أيْ: بعيدون عن المدينة أو خرجوا إلى البادية ليكونوا مع البدو، بادون: اسم فاعل جمع بادي من بدا، وأصلها باديون وحذفت الياء لالتقاء السّاكنين لكي لا يحاربوا الأحزاب؛ لأنّهم غير واثقين بنصر الله تعالى للمسلمين ورسوله، أو لا يحاربوا مع المسلمين فيصيرون أعداءً للأحزاب، فالأفضل لهم في كلا الحالتين أن يكونوا في البادية (مع البدو).
{يَسْـئَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ} : يسألون الأعراب وغيرهم ممن قدِم إلى زيارة المدينة ورجع ما آل حالكم إليه أو ما جرى لكم. أنبائكم: أخباركم والنّبأ هو الخبر العظيم.
{وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} : ولو شرطية، كانوا فيكم: أيْ: في أرض المعركة وخاضوا المعركة معكم أو كانوا في حزبكم.
{مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} : ما النّافية، قاتلوا معكم إلا: أداة حصر، قليلاً: أيْ: ظاهرياً أو رياء أو سمعة خوفاً أن يلحق بهم عار.
فهم في ريبهم يتردَّدون بين هل الأفضل لهم العيش في البادية مع البدو أو العيش معكم عيشة نفاق، فلا تأس عليهم ولا تحزن.
سورة الأحزاب [33: 21]
{لَّقَدْ} : اللام لام التّوكيد، قد للتحقيق أيْ: قد تحقق كونه أسوةً لكم.
{كَانَ لَكُمْ} : لكم لام الاختصاص لكم خاصة.
{فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} : أسوة مصدر الائتساء من يتأسى به؛ أي: الاقتداء، والمؤتسى به: المقتدى به، أسوة حسنة: قدوة حسنة، في أقواله وأفعاله وجميع أحواله لكل من يرجو الله واليوم الآخر.
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} : لمن اللام لام الاختصاص، لم من: للعاقل اسم موصول تعني الذي.
{يَرْجُوا اللَّهَ} : أيْ: يرجو ثواب الله ولقائه والبعث والحساب والجزاء، أي: الجنة ونعيمها.
{وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} : يؤمن باليوم الآخر أو يخشى اليوم وأهواله.
{وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} : ولا تتحقق الأسوة الحسنة إلا بذكر الله سبحانه ذكراً كثيراً وبالصّلاة وبالتّسبيح والتّحميد والتّهليل والنّوافل والشّكر والقيام بالتّكاليف الإيمانية وغيرها.
سورة الأحزاب [33: 22]
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} : الواو عاطفة، لما ظرفية بمعنى حين تتضمن معنى الشّرط، رأى المؤمنون الأحزاب: لها احتمالان:
الأول: رأوهم حين جاؤوا من فوقهم ومن أسفل منهم والمؤمنون في سفح جبل سلع، قالوا عندها: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
والاحتمال الثّاني: رأوا الأحزاب يفرون من أرض المعركة مهزومين قالوا: هذا وما وعدنا الله ورسوله، أو الاحتمالان معاً قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله عند البداية وعند النّهاية.
{قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : الوعد بالنّصر والغلبة كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الله ناصرهم عليهم أو الوعد بالابتلاء والاختبار، ثم النّصر القريب، هذا: الهاء للتنبيه، ما اسم موصول بمعنى الّذي وعدنا الله ورسوله.
{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} : وما: النّافية، زادهم: تجمع الأحزاب (10 آلاف) مقاتل أو ما أصابهم من الزّلزلة والشّدة يوم الخندق أو ما زادهم النّصر على أعدائهم يوم الخندق.
إلا: أداة حصر.
إيماناً وتسليماً: إيماناً بالله وبقضائه وقدره وتسليماً، أي: انقياداً لأمره وقضائه، إيماناً بصدق ما وعد الله ورسوله وتصديقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: وما زادهم إلا إيماناً: اتخذوا هذه الآية دليلاً على أن الإيمان قد يزيد وينقص.
سورة الأحزاب [33: 23]
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : من ابتدائية بعضية.
{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} :
أسباب النّزول: قيل: نزلت هذه الآية كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك في أنس بن النضر فقد عاهد الله تعالى حين فاتته المشاركة في غزوة بدر، عاهد الله لو جاءت معركة أخرى ليبلون فيها بلاء حسناً فجاءت معركة أحد، فأبلى فيها بلاء حسناً حتّى استشهد فيها، فوجدوا في جسده بضعاً وثمانين جرحاً نتيجة ضربه بسيف أو طعنه برمح أو رميه بسهم وليست العبرة بخصوص السّبب وإنما بعموم اللفظ.
{صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} : أيْ: أتموا وأوفوا بعهدهم حتّى ولو أدَّى ذلك إلى الشّهادة في سبيل الله أو التّضحية بنفسه وماله معاً.
{مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية بمعنى صدقوا عهد الله.
{عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} : ليخرجنَّ مجاهداً في سبيل الله كما فعل أنس بن النضر.
{فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} : النحب في الأصل النذر، وقضى نحبه، أيْ: أوفى بنذره أو أتم نذره أو عهده أو يأتي بمعنى الأجل، وقيل: قضى نحبه: انقضى أجله أيْ: قد قتل: استشهد أو مات في سبيل الله، استُعير النحب مكان الأجل؛ لأنّ الأجل وقع بالنّحب (بالقتل).
ومنهم من قال: نحبه: إرادته ورغبته.
{وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ} : تكرار ومنهم يفيد التّوكيد، ينتظر: الوفاء بعهده، أيْ: ساعٍ في ذلك ينتظر الشّهادة في سبيل الله واللحاق بمن سبقوه.
{وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} : أي: استقاموا وثبتوا على عهدهم مع الله ونيتهم ولم يبدلوا أدنى التّبديل، أيْ: تراجعوا عن القتال خوفاً أو دخل أحدهم الحرب رياء وسمعة أو تخاذلوا أبداً.
سورة الأحزاب [33: 24]
{لِّيَجْزِىَ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد. ليجزي: من الجزاء (وهو المماثلة) وهو الثواب.
{اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} : الباء باء الإلصاق والسّببية بسبب صدقهم على ما عاهدوا الله عليه بوفائهم بعهدهم.
{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} : إن شرطية تعني: الاحتمال أو الشّك يعذب المنافقين إذا لم يتوبوا لعدم وفائهم بعهدهم يعذبهم في الدّنيا أو في الآخرة أو كلاهما.
{أَوْ} : للتخيير.
{يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} : إذا تابوا وأوفوا وأصلحوا وعملوا الصّالحات.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{كَانَ} : تشمل كلّ الأزمنة كان في الماضي والحاضر والمستقبل.
{غَفُورًا رَحِيمًا} : ارجع إلى الآية (5) للبيان.
سورة الأحزاب [33: 25]
بعد أن بيَّن الله مصير الصّادقين والمنافقين يبيِّن مصير القسم الثّالث وهم الّذين كفروا من قريش (الأحزاب).
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} : الرّد هو العودة أو الرّجوع بإكراه وقسر، الّذين كفروا من قريش وكنانة وأسد وغطفان (الأحزاب).
ردهم {بِغَيْظِهِمْ} : الغيظ: الحقد والغضب الّذي ملأ قلوبهم والباء للإلصاق وتدل على الدّوام ردهم خائبين مغتاظين. ارجع إلى سورة التّوبة آية (15) لمزيد من البيان.
{لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} : لم ينالوا أيَّ خير، نكرة تعني أيَّ خير سواء كان نصراً أو غنيمة أو أسراً ورجعوا وهم يشعرون أنهم هم الخاسرون أو المهزومون لم يحققوا أيَّ شيء مما جاؤوا من أجله.
{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} : أيْ: لم يحتاجوا أن يقاتلوا الكفار حيث سلط الله عليهم الرّيح الّتي قلعت خيامهم والملائكة الّذين ألقوا الرّعب في قلوب الكافرين فولوا مدبرين خائبين.
{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} : كان ولا يزال وسيظل قوياً: لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء.
عزيز: يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر له عزة القوة والغلبة والممتنع لا يَضرُّه أحد من خلقه.
سورة الأحزاب [33: 26]
هذه الآية (26) والآية (27) جاءتا في سياق غزوة بني قريظة بعيد غزوة الخندق في السّنة الخامسة للهجرة، فبعد أن رجع الأحزاب مهزومين.
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة، وكان بنو قريظة آنذاك قد نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى الأحزاب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما إن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء جبريل عليه السلام ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج والسّير إلى بني قريظة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في المدينة بالخروج والسّير إلى بني قريظة قائلاً: لا يصلين أحدكم العصر إلا ببني قريظة. رواه البخاري في صحيحه ومسلم عن حديث عبد الله بن عمر، فاجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وحاصروا بني قريظة حوالي (25) ليلة، وأجهدهم الحصار وقذف الله الرّعب والذّعر في قلوب بني قريظة وخيَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة على أحد أمرين إما أن يقبلوا بحكمه صلى الله عليه وسلم أو بحكم سعد بن معاذ، فأبوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وقبلوا بحكم سعد فحكم بأن يقتل الرّجال وتسبى الذّراري والنّساء وتقسم الأموال، فقال له رسول الله: لقد حكمتَ فيهم بحكم الله عز وجل من فوق سبع سموات، وأنزل الله سبحانه في بني قريظة هاتين الآيتين فقال تعالى:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} : وأنزل الله سبحانه بقدرته الّذين ظاهروهم أيْ: ظاهروا الأحزاب وعاونوهم ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يهود بني قريظة.
من صياصيهم: أنزلهم من حصونهم بعد أن حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (25) ليلة، صياصيهم: جمع صيصة: وهي كلّ ما يتحصن به أو يُتمنعُ به، أيْ: يلجأ إليه.
{وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} : الخوف الشّديد والذّعر الّذي يظهر على هيئة المرعوب مما سيحل به أدَّى بهم إلى القبول بحكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلين من بني قريظة من الرّجال.
{فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} : وهم الرّجال.
{وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} : وهم النّساء والذّراري (الأطفال) وهم لا يحملون أيَّ سلاح، انتبه قدَّم المفعول على الفعل حين قال: فريقاً تقتلون ولم يقل: تقتلون فريقاً التّقديم على الأهم والتّوكيد على أمر القتل العجيب الذي يحل بهم بعد أن ينزلوا من صياصيهم، بينما قدَّم الفعل على الفاعل كما هو المفروض حين قال: وتأسرون فريقاً وجاء بصيغة المضارع في كلا الفعلين للدلالة على حكاية الحال، رغم أنّ كلاهما حدث في الزّمن الماضي للدلالة على بشاعة القتل والأسر، وجاء بصيغة المضارع لكي يشعر كأنّه يحدث الآن.
سورة الأحزاب [33: 27]
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} : كانت لهم أراضٍ زراعية والنّخيل والبساتين.
{وَدِيَارَهُمْ} : منازلهم المعمورة والحصون.
{وَأَمْوَالَهُمْ} : المدخرة وهي الحلي والأثاث والمواشي والسّلاح والمال.
{وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـئُوهَا} : يقصد بها في المستقبل مثل أرض خيبر.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} : كان ولا زال وسيظل سبحانه، كان تستغرق كلّ الأزمنة، على كلّ شيء قديراً: ارجع إلى الآية (20) من سورة البقرة.
سورة الأحزاب [33: 28]
السّؤال هنا: ما سرُّ الانتقال من الحديث عن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة إلى مخاطبة الرّسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه على النّفقة والحياة الدّنيا وزينتها.
السّر هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد غزوة الأحزاب وهزيمة الكفار لن يغزونا بعد عامهم هذا، بل نغزوهم وبعد أن بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح بلاد كسرى وفارس وكون المسلمين أخذوا من غنائم بني قريظة وأموالهم وأرضهم وديارهم، فزوجاته رضي الله عنهن أمّهات المؤمنين طلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهن في النّفقة فجاءت هذه الآيات رداً على طلبهنَّ.
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِّأَزْوَاجِكَ} : ياء النّداء والهاء للتنبيه، قل لأزواجك: اللام لام الاختصاص. يا أيها النبي: نداء عام إلى النبي وبشأن خاص به، ولكنه لا يتعلق بالدعوة والتبليغ لم يقل يا أيها الرسول؛ ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين يا أيها النبي ويا أيها الرسول.
{إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} : إن: شرطية تفيد الاحتمال أو النّدرة بدلاً من قوله: إذا كنتن الّتي تفيد الحتمية والكثرة، الحياة الدّنيا: من طعام وشراب وملبس وحلي وزينة ومتاع.
{فَتَعَالَيْنَ} : الفاء للمباشرة، أيْ: تعالين الآن، أيْ: أقبلن.
{أُمَتِّعْكُنَّ} : أعطيكن ما يحق لكن من المهر المؤخر.
{وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} : التّسريح، أي: المفارقة ويعني: الطّلاق، وسراحاً جميلاً من دون مشادة أو غضب أو انتقام وبكلّ رأفة ورحمة ومن دون تجريح وبُغض ومشاحنة وخصومة.
واستعمال إن كنتن تردن الحياة الدّنيا: إشارة إلى عدم المبالغة في الاهتمام بها فالأمر لا يعدو أن يكون مجرَّد سؤال نادر، ونساء النّبي كنَّ تسعة في ذلك الحين خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربعة من غير قريش صفية بنت حيي بن أحطب، جويرية بنت الحارث من بني المطلق، ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش من بني أسد.
سورة الأحزاب [33: 29]
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : مقابل قوله: إن كنتن تردن الحياة الدّنيا وزينتها هذا يسمَّى في فنون جمال اللغة الطّباق، وإن كنتن: الواو عاطفة، إن شرطية تدل على الاحتمال والافتراض، تردن الله ورسوله؛ أي: رضا الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} : الجنة، أو ثواب الآخرة.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنّ: للتوكيد.
{أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، المحسنات جمع محسنة، أعد: هيَّأ، وأعد: أعم من اعتد، وتشمل أمور عديدة منها: الأجر العظيم
…
وغيره مثل: المتكأ والرزق؛ المحسنة: الزّوجة الصّالحة الّتي تجاوزت درجة التّقوى في إيمانها وطاعتها ولم يعد إحسانها مقصوراً على نفسها وإنما تجاوز إلى الآخرين، أي: الإحسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشرة.
{مِنْكُنَّ} : من لبيان الجنس جنس المحسنات؛ لأنّ زوجات النّبي أمّهات المؤمنين، كنَّ كلّهن محسنات.
{أَجْرًا عَظِيمًا} : جنات الفردوس والخلود والنّعيم الدّائم، والأجر مقابل العمل، والأجر العظيم لا يفوقه أجر آخر.
والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب فالخطاب موجَّه أيضاً إلى نساء المؤمنين كافة؛ لأنّ نساء النّبي هنَّ قدوة لنساء العالمين.
سورة الأحزاب [33: 30]
خطاب موجَّه من الله سبحانه إلى نساء النّبي مباشرة رضي الله عنهن للدلالة على أهمية طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{مَنْ يَأْتِ} : من شرطية.
{مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} : بفاحشة مبينة: الفاحشة هنا تعني معصية الرّسول صلى الله عليه وسلم، أو النّشوز أو أذية الرّسول، أو عدم طاعته الّتي تحمل في معانيها معنى الكفر، وحذفت أل التّعريف من الفاحشة؛ لأنّ أل التّعريف في كلمة الفاحشة تعني: الزّنى.
{مُّبَيِّنَةٍ} : أيْ: في العلن والظّاهرة للناس أيْ: يعلم بها النّاس، وحدد الفاحشة بكونها مبينة، أمّا غير المبينة فهي غير المطلع عليها أحدٌ، أيْ: ذنب مقصور عليها نفسها فيكون عقابها كعقاب، أيْ: ذنب أو عقاب الآخرين أما المبينة عقابها ضعفين.
{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} : أيْ: مرتين مقارنة بعذاب غيرهنَّ؛ لأنّهنَّ قدوة لغيرهنَّ من النّساء، ولأنّ ذلك يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولكونهنَّ أمّهات المؤمنين، فكل ذلك يستوجب مضاعفة العذاب، كما أنّها إذا فعلت حسنة يضاعف لها الأجر.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} : أيْ: مضاعفة العذاب أمر سهل يسير عليه سبحانه، ولا نفهم من الآية أنّ هناك شيئاً سهلاً وشيئاً صعباً أو غير يسير على الله سبحانه، وإنما للتهديد والوعيد.
ولم يبدأ سبحانه بالقول: يا نساء النّبي من يقنت منكنَّ لله ورسوله بدلاً من: يأت منكنَّ بفاحشة، بل بدأ بالتّحذير؛ لأنّ درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة رغم كون الفاحشة أمراً مستعبداً قدَّمها للتوكيد والاهتمام.