الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأحزاب [33: 31]
{وَمَنْ} : الواو عاطفة، من شرطية وتشمل الواحدة أو الجمع.
{يَقْنُتْ} : من القنوت قيل: هو الخضوع التّام والخشوع المصاحب للطاعة أو (العبادة) المصحوبة بالخضوع والخشوع، قنت: خشع وتذلل لله في دعائه، وكلمة يقنت جاءت بصيغة المذكر ولم يقل: تقنت بصيغة المؤنث، وسنرى بعد قليل السّبب.
{مِنْكُنَّ} : خاصة.
{لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : لله اللام لام التّوكيد والاختصاص خالصة لوجه الله ومرضاة وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَتَعْمَلْ صَالِحًا} : قليلاً أو كثيراً من الفروض والنّوافل والذّكر وغيرها من الأعمال الصّالحة، تعمل صالحاً: جاءت بصيغة المؤنث (التّأنيث)، فالسّؤال الآن لماذا ذكر كلمة يقنت وأنَّث كلمة تعمل؟ ولنذكر أنّ التّذكير يدل على القلة والتّأنيث يدل على الكثرة، فالقنوت يقوم به القلة من النّساء فلذلك جاء بصيغة المذكر، مقارنة بالأعمال الصّالحة تقوم بها النّساء بكثرة، ولذلك أنث.
{نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} : الإيتاء: هو العطاء والإيتاء أعم من العطاء، العطاء يستعمل للأشياء المادية الحسية فقط، بينما العطاء يشمل ذلك + المعنوية. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
أسند الإيتاء، أي: الفعل إليه سبحانه وبصيغة التّعظيم، وهذا شرف لهنَّ ورحمة منه، بينما في الآية (30) قال: يضاعف لها العذاب بنى الفعل للمجهول.
نؤتها أجرها مرتين: أيْ: ضعف ما تستحقه غيرهنَّ من النّساء؛ لأنّهنَّ مثال للقدوة الصالحة.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا} : أيْ: أعددنا لها: اللام لام الاختصاص لها خاصة وأعددنا لها من الآن فهو ينتظرها.
{رِزْقًا كَرِيمًا} : أي: الجنة فهذه الآية بشارة لنساء النّبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ووصف الرّزق بالكريم: الوافر الّذي لا ينقطع أو يقل أو ينقص والكريم؛ لأنّه يأتي الإنسان من دون أسباب عليه أن يقدِّمها كما هو الحال في الدّنيا يجب أن يسعى ويكد ويتعب، والرّزق الكريم لا يأتي إلا من الرّازق الكريم والرحيم بعباده.
سورة الأحزاب [33: 32]
نداء ثانٍ مباشر إلى نساء النّبي صلى الله عليه وسلم من الله سبحانه، وكان النّداء الأوّل في الآية (30) للدلالة على أهمية الخبر أو الأمر المذكور في الآية: النّداء الأوّل بالتّحذير من الإيتاء بفاحشة مبينة والنّداء الثّاني بالتّحذير من عدم الخضوع بالقول.
{يَانِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ} : ليس النّافية.
{كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} : الكاف كاف التّشبيه، أحد من النّساء: الأحد تشمل الواحدة والاثنتين والجمع، أيْ: لستنَّ كأيِّ امرأة من النّساء قاطبة.
ولم يقل: واحدة من النّساء: أيْ: لا مثيل لها، لماذا لستنَّ كأحد من النّساء؟
أولاً: بحكم أنتنَّ أزواج النّبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: بحكم أنتنَّ أمّهات المؤمنين.
فأنتنَّ قدوة لغيركنَّ من النّساء فهذه ميزة خاصة.
{إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} : إن شرطية، أيْ: ليست التّقوى بكونكنَّ نساء النّبي وأمّهات المؤمنين، وإنما التّقوى هي امتثال وطاعة أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتجنُّب نواهي الله تعالى ورسوله، أي: استقمن على التّقوى فلا تخضعن بالقول.
{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية، والخضوع بالقول؛ أي: الانقياد والإذعان، وفيه معنى الاستجداء، والخضوع: يكون في البدن، والخشوع: يكون بالصوت والبصر؛ أيْ: لا تخاطبن الرّجال بليونة أو ميوعة أو نبرات غير طبيعية في الكلام من ترخيم وغيره، ولا يعني ذلك التكلُّم بخشونة وغلظة أيضاً.
{فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} : مرض الرّيبة والفجور والفسق والنّفاق وضعف الإيمان والظن والخبال.
{وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} : معروفاً ما تعارف عليه النّاس من القول ليس فيه شبهة أو فتنة بعيداً عن الرّيبة والأطماع.
سورة الأحزاب [33: 33]
{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} : أقمن أو ألزمن بيوتكنَّ من القرار، وهو السّكون لا تكثرن الخروج منها.
{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} : لا النّاهية، تبرجن: من التّبرج ويعني: إبداء المرأة للرجل الغريب مفاتن جسمها ومحاسنها مثل إظهار العنق والشّعر والسّاقين والصّدر؛ مما يثير الشّهوة أو الفتنة، والتّبرج مشتقة من البرج وهو الحصن، وكما قال تعالى:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]، وبرج المرأة: هو بيتها، وسمي البيت برجاً، وتعني: الخروج من الحصن حصن العفة والزوجية وإبداء الزّينة كما كنَّ يفعلن النّساء في الجاهلية الأولى: جاهلية الكفر ما قبل الإسلام، أو ما قبل القرآن؛ فقد روى ابن عباس وجرير: أن الجاهلية الأولى: هي التي تمتد في الفترة بين عيسى عليه السلام ، ومحمد m، وجاهلية العصر الحديث تنطوي على الجاهلية الأولى وزيادة، وهناك من قال: إنّ الجاهلية الأولى هي التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام ، والجاهلية الآخرة الت يولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ} : إقامة الصّلاة؛ لأنّها أهم العبادات على الإطلاق وإقامتها تعني لأوقاتها وبجميع شروطها وأركانها وسننها والدّوام عليها.
{وَآتِينَ الزَّكَاةَ} : وتعني زكاتها غير زكاة زوجها فهي مكلفة بإيتاء زكاة أموالها الخاصة الّتي ورثتها مثلاً وكسبتها في تجارة أو عقار أو زكاة الحُلي والذَّهب.
{وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : في كلّ ما أمر به ونهى عنه.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} : إنما كافة مكفوفة تفيد التّوكيد بما أمركنَّ ونهاكنَّ عنه من التّقوى والصّلاة والزّكاة وطاعة الله ورسوله أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيراً.
{لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} : اللام للتعليل، يذهب: يبعد أو يجنبكم الوقوع في الرّجس، الرّجس: بالسّين يعني كلّ ما هو مستقذر تعافه النّفوس، وتعني الذّنوب بشكل عام والشّيطان والمعاصي والآثام والذّنوب والشّرك من الأمور المعنوية والخمر والميسر والأنصاب والأزلام والميتة والدّم المسفوح ولحم الخنزير من الأمور الحسية، أمّا الرّجز: فهو العذاب، عنكم ولم يقل: عنكنَّ. عنكم تشمل: الذّكور والإناث، أيْ: تشمل عنكنَّ، ولم يقل عنكن: مراعاة لشعور أزواج النّبي صلى الله عليه وسلم وحيائهنَّ.
{أَهْلَ الْبَيْتِ} : أيْ: نساء النّبي كلّهنَّ من أهل البيت وذريته، وتطلق أهل البيت عادة على الزّوجة والأولاد، وقال آخرون: تطلق أيضاً على عشيرة الرّجل؛ أي: ذريته من نسل عبد المطلب (بنو هاشم).
{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} : ولم يقل: يطهركنَّ تطهيراً: أيْ: تطهيراً كاملاً من الذّنوب، والمجيء بصيغة التّذكير يشمل الذّكور والإناث.
سورة الأحزاب [33: 34]
{وَاذْكُرْنَ} : من الذّكر: يعني: تذكرنَّ واتلين أو أخبرن استحضرن كلّ معلومة كانت منسية لم تذكر لكي تذكر.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي.
{يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} : (آيات القرآن الحكيم) بيوتكنَّ بيوت النّبوة.
{وَالْحِكْمَةِ} : السّنة النّبوية (أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوتكنَّ لأنّهنَّ مهابط الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلى: بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والتّكرار.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} : ارجع إلى الآية (16) من سورة لقمان للبيان.
سورة الأحزاب [33: 35]
أسباب النّزول:
1 -
يُروى أنّ أزواج النّبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرّجال في القرآن بخير أفما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تُقبل منا طاعة. أخرجه الطّبراني، وقيل: السّائلة هي أمّ سلمة: في حديث أخرجه النّسائي والطّبراني والحاكم.
2 -
وروى أنّه لما نزل في نساء النّبي هذه الآيات في سورة الأحزاب وغيرها قال نساء المسلمين: فما نزل فينا شيء (أخرجه الطّبراني) فنزلت هذه الآية.
3 -
وقيل: نزلت في أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن قلن: لا فأتت النّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النّساء لفي خيبة وخسارة، قال صلى الله عليه وسلم: ولم ذلك؟ قالت: لأنّهنَّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرّجال. فأنزل الله سبحانه هذه الآية التي اشتملت على عشر صفات للرجال والنساء:
1 -
{الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} : جمع مسلم ومسلمة، والإسلام يعني: الشّهادة والصّلاة والزّكاة والصّيام والحج.
2 -
{وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : جمع مؤمن ومؤمنة؛ يعني: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
3 -
{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} : جمع قانت وقانتة، والقنوت: هو الخضوع والخشوع المصحوب بالطّاعة أو العبادة.
4 -
{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} : جمع صادق وصادقة، الصّدق في القول والعمل صدق الإيمان والقول والحديث.
5 -
{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} : جمع صابر وصابرة، الصّبر على أداء العبادات وترك المعاصي والصّبر على المصائب والمحن.
6 -
{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} : جمع خاشع وخاشعة، الخشوع: هو السّكون والطّمأنينة والتّواضع لله في العبادات.
7 -
{وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} : جمع متصدق ومتصدقة بما في ذلك الزّكاة والتّصدق على الفقراء والمساكين، ولم يقل: المصدقين كما ورد في سورة الحديد آية (18)؛ إن المصدقين والمصدقات: فيها تضعيفان في الصاد، وتضعيف في الدال، أما المتصدقين فيها تضعيف واحد في الدال، المصدقين تعني: المبالغة في التصدق؛ أي: وهم المبالغون في الصّدقات، أيْ: يعطون الكثير، أمّا المتصدقون حتّى ولو بقليل، ولو قال: المصدقين فلم يدخل فيهم من يتصدقون بشيء قليل.
8 -
{وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} : الصّيام الامتناع عن شهوتي البطن والفرج في أيام الصيام وغيره من آداب الصيام.
9 -
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} : عن الحرام كالزّنى وما شابه، ولم يقل: والحافظات فروجهنَّ؛ لكي يستر أمر المرأة وشهوة الفرج جعلها الله لحفظ التّناسل، وليس لارتكاب الحرام.
10 -
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} : بالألسن والقلوب بالتّسبيح والتّحميد والتّهليل والذّكر والدّعاء والصّلاة، والذّكر هو أخف العبادات وأيسرها على النّفس وأثقلها في الميزان.
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} : أعدَّ الله لهم ولم يقل: ولهن؛ لأنها تدخل في لهم من باب التغليب وستر المرأة وصيانتها لا للتقليل من شأنها، قدَّم المغفرة على الأجر العظيم، هذه جملة من أعظم العبادات والصّفات الّتي تميز المسلم المؤمن من غيره من النّاس.
سورة الأحزاب [33: 36]
المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم التّخيير بين الحياة الدّنيا وزينتها وبين إن كنتنَّ تردن الله ورسوله والدّار الآخرة، يذكر بعدها هناك أمور لا اختيار فيها لأحد، وذلك إذا قضى الله ورسوله أمراً، ثم ذكر مثال على ذلك قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنها، وزواج النّبي صلى الله عليه وسلم من زينب تنفيذاً لأمر الله تعالى وإبطال التّبني في الإسلام.
وسبب نزول هذه الآية: كما روى ابن عبّاس أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش لزيد الّذي تبناه في مطلع الإسلام، وكانت زينب ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنت زينب أنّه يريدها لنفسه، فلما علمت أنّه يريدها لزيد فأبت هي وأخوها عبد الله بن جحش، فنزلت هذه الآية.
{وَمَا كَانَ} : أيْ: ما يصح أو يحق له، ما النّافية، أيْ: هو أمر مستبعد أن لا يقبل مؤمنٌ بالله ورسوله بما حكم الله ورسوله.
{لِمُؤْمِنٍ} : اللام لام الاختصاص مثل عبد الله بن جحش (أخي زينب).
{وَلَا مُؤْمِنَةٍ} : لا النّافية، تكرار النّفي يفيد التّوكيد، مثل زينب بنت جحش.
{إِذَا} : ظرفية بمعنى حين.
{قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} : حكماً أو أمراً.
{أَنْ} : للتوكيد.
{يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} : على ما قضاه الله تعالى ورسوله.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : من شرطية، يعص الله ورسوله: فيما أمر به أو نهى عنه.
{فَقَدْ} : الفاء جواب الشّرط، قد للتحقيق والتّوكيد.
{ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} : هنا ثلاث توكيدات: قد وضلالاً (مفعول مطلق) ومبيناً.
والضّلال يعني: عدم الاهتداء إلى الصواب وإلى الصّراط المستقيم (دين الإسلام) ابتعد ابتعاداً مبيناً: أيْ: ضلال بين لكلّ فرد اطلع عليه، وضلال واضح بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل أو برهان، ضلال يصعب معه الهداية مرة أخرى أو يرجى توبته.
وبعد أن نزلت هذه الآية رضيت زينب بالزّواج من زيد ورضي أخوها عبد الله بما قضى الله ورسوله.
سورة الأحزاب [33: 37]
كما أخبرت كتب السيرة اختار زيد البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما طلب منه أبوه العودة والعيش معه، فسمي زيد بن محمّد، ولما بلغ سن الرشد أراد الرّسول أن يزوِّجه من زينب بنت جحش، وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدة من سيدات قريش فرفضت ورفض أخوها عبد الله، فنزلت الآية (36) السّابقة، فأذعنوا لقدر الله وقضائه وقبلت بالزّواج من زيد، وكان هناك عدم تكافؤ اجتماعي بين زينب وزيد آنذاك، وتعالت زينب على زيد وحدث نشوز بينهما، وكان حبُّ زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعه أن يطلِّقها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله، وجاء الأمر الإلهي بأن يطلِّقها زيد ويُؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزّواج منها، وإلغاء مبدأ التّبني، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألسنة الكفار؛ كيف يتزوج من امرأة ابنه زيد الّذي تبنَّاه خشية استحياء.
{وَإِذْ} : واذكر إذ ظرفية.
{تَقُولُ} : (يا محمّد صلى الله عليه وسلم للذي أنعم الله عليه (بالإسلام والإيمان).
{وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} : بالعتق أوّلاً، وجعلته ابناً لك بالتّبني قبل تحريم التّبني، وأنعمت عليه بأن زوَّجته ابنة عمتك زينب:
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} : تقول لزيد: أمسك عليك زوجك خوفاً من كلام النّاس أن يقولوا تزوَّج من امرأة ابنه الّذي تبناه.
{وَاتَّقِ اللَّهَ} : هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد، واتق الله؛ أي: في أمر طلاقها ولا تطلقها، والله سبحانه يريد من زيد أن يطلق زينب وأن يُنهي عادة التّبني، وأن يتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان أمر الله مفعولاً لا رجعة فيه حاصل لا محالة.
{وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} : تخفي في نفسك ما أظهره الله لك على أنّك ستتزوج منها بعد طلاقها من زيد.
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} : تخشى من كلام النّاس خشية استحياء، والله أحق أن تخشاه.
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} : أيْ: لم يعد له فيها حاجة ولم يعد بينهما أيُّ رابطة وطلقها زيد.
{زَوَّجْنَاكَهَا} : الزواج: يدل على الدخول والاقتران، والنكاح: يدل على العقد؛ زوَّجه الله بها من فوق سبع سموات، وكانت زينب تفتخر على بقية أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجني ربي، زوجناكها بعد انقضاء عدتها.
وانتبه إلى قوله تعالى: زوجناكها: زوَّج أيْ: زَوَّجه غيره من فوق سبع سموات، أمّا تزوَّج: فتعني تزوَّج بنفسه وبرغبته بينما زُوج: قسراً ومن دون خيرة، والضّمير زوجناكها يعود على الله سبحانه والكاف لخطاب رسول الله والهاء تعود على زينب، زوجناكها لكي نرفع الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم الّذين تبنوهم بعد طلاقهنَّ التّام.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} : كائناً لا محالة لا تبديل ولا تغيير، والأمر يشمل كلّ شيء وزيادة.
وفي هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في تطبيق هذه الآية من ناحيتين:
الأولى: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة في تنفيذ أمر الله حين قال: ما كان لمؤمن إذا قضى الله أمراً أن يكون له الخيرة في أمره.
الثّانية: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد وزينب هم الّذين اختارهم الله سبحانه ليكونوا أوّل من ينفِّذ أمر الله سبحانه في هذه القضية وينالوا رضاه وثوابه، ويكونوا قدوة للآخرين، ولذلك ذكر اسم زيد في القرآن كثواب له ولم يذكر اسم زينب ستراً لها.
وإذا انتبهنا إلى كلمة لكي لا يكون في هذه الآية كيف جاءت كلمة لكي مفصولة عن لا، ولم تكتب لكيلا، فالفصل بين الكلمتين (كي) و (لا) لتناسب سياق الآية في الطّلاق الّذي هو فصل بين الزّوج والزّوجة لترى أنّ كتابة الكلمة في القرآن بحد ذاته له معناه الخاص ويجاري سياق الكلام.
بينما كلمة لكيلا جاءت متصلة في سورة الحج الآية (5) وهي قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـئًا} . ارجع إلى سورة الحج الآية (5) للبيان.
سورة الأحزاب [33: 38]
{مَا كَانَ} : ما النّافية، كان تستعمل للماضي والحاضر والمستقبل.
{عَلَى} : تفيد العلو والشمقة.
{النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ} : من استغراقية تشمل أيَّ حرج والحرج هو الضّيق والمشقة أو العيب.
{فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} : فيما: ظرفية وما اسم موصول بمعنى الّذي، وأوسع شمولاً من الذي. فرض الله له: قدَّر الله له أو قسم الله له، وما فرض الله له ليس أمراً جديداً، وإنما هو سنة الله في الّذين خلوا من قبل.
{سُنَّةَ اللَّهِ} : السّنة تعريفها ارجع إلى الآية (26) من سورة النّساء، وسورة آل عمران آية (137) للبيان.
{فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} : الّذين خلوا: أيْ: مضوا أو جاؤوا من قبل من الرّسل والأنبياء؛ أي: فما نفعله لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس أمراً جديداً، بل هو سنة قديمة، من قبل: تدل على زمن معين ولم يقل: من قبلِ، الّتي لا تدل على زمن محدَّد طويل أو قصير.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} : كان في الماضي والحاضر والمستقبل.
{قَدَرًا مَّقْدُورًا} : كائناً أو واقعاً لا محالة؛ لأنّه قدر مقدَّر منذ الأزل ولا شيء يخرج عن تقدير الله، وفي الآية السّابقة قال تعالى: وكان أمر الله مفعولاً: أيْ: واقعاً وهو تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب، إذن هذا الزّواج مقدَّر منذ الأزل، والآن تم وقوعه من غير تبديل أو تحويل.
سورة الأحزاب [33: 39]
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح والتّعظيم ويعود على الرّسل والأنبياء.
{يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ} : التّبليغ هو الإيصال مع الإعلام، أيْ: إيصال الرّسالة أي: الخبر أو النّبأ إلى النّاس ويبلغون رسالات الله (مجموع رسالة وكلّ رسالة أمر أو نهي، أي: افعل أو لا تفعل) لعباده، ولم يقل: ربهم؛ لأنّ السّياق في الدّعوة والتّبليغ والله هو المعبود والإله الحق وليس في سياق الرّزق أو سبل العيش.
{وَيَخْشَوْنَهُ} : يخافونه والخشية لا تقتصر على الخوف من الله، بل كذلك التّعظيم والعلم بالله وقدره وعظمته، وفيها معنى الأمل.
{وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا} : ولا: لا النّافية، يخشون أحداً: توكيد وإضافة النّون لزيادة التّوكيد، وأحداً لزيادة التّوكيد.
{إِلَّا اللَّهَ} : إلا أداة حصر، خشية حياء أو استحياء، وليس خشية خوف من تبليغ الرّسالات.
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} : يكفي الله وحده أن يكون حافظاً لأعمال العباد ومحاسبهم عليها، وليس حسابهم عليكم ولا حسابكم عليهم (أي: على الرسل).
سورة الأحزاب [33: 40]
المناسبة: بعد أن تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من زينب قال بعض النّاس: إنّ محمّداً تزوج امرأة ابنه فجاءت هذه الآية للرد عليهم، فقال تعالى:
{مَا كَانَ} : ارجع إلى الآية (38) للبيان.
{مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ} : السّؤال هنا: ألم يكن محمّد أباً لعبد الله وللقاسم ولإبراهيم؟ الجواب: نعم فهؤلاء الثّلاثة أولاده صلى الله عليه وسلم، ولكن ماتوا ولم يبلغوا سن الرّجال، ولأنّ الآية قالت: من رجالكم ويقصد به زيد، ولم يقل: أبا أحد منكم؛ لأنّ منكم تشمل الصّغير والكبير والولد الحقيقي والمتبنى، من: ابتدائية استغراقية. وقد خاطب الله سبحانه نبيه محمد باسمه محمد صلى الله عليه وسلم في أربع آيات لأسباب خاصة، ومرة باسمه أحمد؛ ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة.
{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} : لكن للاستدراك والتّوكيد، رسول الله.
{وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ} : أيْ: آخرهم وخاتم الشّيء آخره فلا نبي ولا رسول يأتي بعده إلى قيام السّاعة وكلّ بشر يدعي النّبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كذاب أفاك.
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، كان ولا زال وسيظل، بكلّ شيء: الباء للإلصاق والالتزام والدّوام، شيء عليماً: من قول وعمل عليم بأقوال العباد وأعمالهم، وما يجري في كونه ولا تسقط من ورقة إلا يعلمها ويعلم ما في السّموات وما في الأرض، يعلم من يدَّعي النّبوة ومن هو أبو، أو أمُّ كلِّ جنين ويعلم ما يُشرع لعباده وما هي مصلحتهم.
ولم يقل سبحانه: وخاتم المرسلين: لكان هناك احتمال أن يأتي بعده نبي، ولكن حين قال: خاتم النّبيين (لأنّ كلّ رسول نبي، وليس كلّ نبي رسولاً) أيْ: لن يأتي بعده لا نبي ولا رسول.
سورة الأحزاب [33: 41]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} :
نداءٌ إلى الّذين آمنوا وتكليف جديد بذكر الله، فهو أيسر العبادات على المؤمن، ومن أعظمها أجراً، والذّكر يشمل التّحميد والتّهليل والتّقديس والتّكبير والأسماء الحسنى، والذّكر الكثير هو الدّائم والمتواصل، والذّكر يشمل كذلك الصّلاة والعبادات والدّعاء وحلقات العلم وتلاوة القرآن، والذّكر باللسان كالقول سبحان الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والذكر بالقلب.
سورة الأحزاب [33: 42]
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} :
{وَسَبِّحُوهُ} : التّسبيح هو تنزيه الله سبحانه باللسان من كلّ نقص وعيب في ذاته وأفعاله وصفاته ومن الولد والشّريك والنّد والمثيل، ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، والتسبيح: هو القول: سبحان الله وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم والتّسبيح قد يعني الصّلاة.
{بُكْرَةً} : أول النّهار؛ أي: الصباح، أو تعني صلاة الفجر.
{وَأَصِيلًا} : آخر النّهار؛ أي: المغرب، أو تعني صلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، وبكرة وأصيلاً تعني: ذكراً دائماً لا ينقطع.
سورة الأحزاب [33: 43]
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، ويعود على الله سبحانه.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{يُصَلِّى عَلَيْكُمْ} : الصّلاة من الله تعني: المغفرة والرّحمة والرّأفة والنّجاة وتعني أن يذكركم فيمن عنده، أيْ: في الملأ الأعلى، وكقوله تعالى:{فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
{وَمَلَائِكَتُهُ} : بالدّعاء للمؤمنين والاستغفار.
{لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} : اللام لام التّعليل، يخرجكم من الظّلمات: جمع ظلمة منها ظلمة الكفر والشّرك، والظلم والمعصية، إلى النّور: نور الإيمان والتّوحيد.
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، بالمؤمنين: الباء للإلصاق والدّوام، رحيماً: صيغة مبالغة كثير الرّحمة بالمؤمنين في الدّنيا والآخرة. ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (2) لمزيد من البيان.
سورة الأحزاب [33: 44]
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} :
{تَحِيَّتُهُمْ} : تعني: المؤمنين.
{يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} : يوم القيامة أو البعث والهاء في يلقونه ترجع إلى الله سبحانه، أيْ: تحيتهم من الله سبحانه يوم يلقونه (يوم القيامة).
{سَلَامٌ} : من ربكم سلام تحية السّلام عليكم) وسلام من السّلام، أي: الأمان والاطمئنان وسلام يعني: من كلّ مكروه وضر مثل الموت والمرض وكل ما تكرهه النّفس. كقوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58].
وقد تعني تحيتهم من الملائكة يوم يلقونه يقولون لهم: سلام من ربكم سلام تحية وسلام أمان واطمئنان وسلام من كلّ مكروه وضر.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} : أعد: هيأ وجهز، لهم: اللام لام الاختصاص، أجراً على العمل في الدّنيا كريماً: هو الجنة وما فيها من النّعيم نعيم المأكل والمشرب والملبس وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
كريماً: الأجر الكريم من الرّب الغني الكريم، أي: الأجر الأكثر بكثير مما يستحقه العبد أو يتصوَّره العقل.
سورة الأحزاب [33: 45]
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} :
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} : نداء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم مباشر بياء النّداء، أيها: الهاء للتنبيه، النّبي: نداء تكريم وتعظيم بدلاً من قوله: يا محمّد إنا أرسلناك.
{إِنَّا} : للجمع والتّعظيم.
{أَرْسَلْنَاكَ} : ولم يقل: بعثناك. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان ومعرفة الفرق بينهما.
{شَاهِدًا} : على أمتك وعلى الرّسل جميعاً.
{وَمُبَشِّرًا} : بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{وَنَذِيرًا} : أيْ: منذراً لمن يخرج عن منهج ربه ويعصي ربه ويعمل السيئات. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
ولنعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرّسول الوحيد الّذي أرسل مبشراً ونذيراً لكافة النّاس (الثقلين).
سورة الأحزاب [33: 46]
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} :
{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} : أيْ: داعياً إلى الإيمان به وعبادته وتوحيده وطاعته فيما أمر أو نهى عنه، بإذنه: بأمره وإرادته ومشيئته، وكما أمر.
{وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} : هادياً ودالاً النّاس إلى الصّراط المستقيم (الإسلام الدّين الحق) كالشّمس المضيئة الّتي تهدي النّاس بنورها وضوئها إلى رؤية الأشياء وإدراكها.
وهو تشبيه بليغ للنّبي صلى الله عليه وسلم في الهداية إلى دين الله تعالى، فهو صلى الله عليه وسلم الشّمس والقرآن العظيم هو النّور. كقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 74]، وكقوله تعالى:{وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا} [التغابن: 8].
سورة الأحزاب [33: 47]
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} :
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} : من البشارة وهي الخبر السّار. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{بِأَنَّ} : الباء للتوكيد، أن لزيادة التّوكيد.
{مِنَ اللَّهِ} : من ابتدائية.
{فَضْلًا كَبِيرًا} : الفضل هو الزّيادة على ما يستحق العبد من الأجر أو الثّواب ارجع إلى الآية (4) من سورة الجمعة للبيان. وفضلاً كبيراً: دخول جنات النعيم ورضوان من الله أكبر.
فضلاً كبيراً على سائر الأمم بالتّقوى والعمل الصّالح.
سورة الأحزاب [33: 48]
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} : أليس هذا تكرار للآية الأولى، والآية (3) من نفس السّورة يا أيّها النّبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين الجواب: لا.
الآية الأولى كانت في بداية الدّعوة والآية (48) كانت في السّنة الخامسة من الهجرة، نهي جديد لعدم الاستماع إلى الكفار والمنافقين والاستمرار والثّبات على الدّعوة إلى الله وعدم الرّكون إليهم.
{وَدَعْ أَذَاهُمْ} : تجاوز عنهم واصفح ولا تجازيهم على إساءتهم ولا تأبه بهم.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} : ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) للبيان.
سورة الأحزاب [33: 49]
نداء جديد إلى الّذين آمنوا بتكليف أو حكم جديد يتعلَّق بالنّكاح.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد الحتمية.
{نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} : النّكاح هنا المقصود به عقد النّكاح على النّساء المؤمنات، والسّؤال هنا لماذا خص المؤمنات؟ لأنّ في ذلك إشارة إلى الحثِّ والحضِّ على الزّواج بالمؤمنات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اظفر بذات الدّين تربت يداك. رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} : ثم: لتباين الصّفات أو الفضل بين النّكاح والطّلاق، وليس للترتيب الزّمني والتّراخي.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} : من قبل: الزّمن غير محدد، أن: تفيد التّعليل والتّوكيد، تمسوهن: أن تدخلوا بهن كناية عن الجماع أو الزّواج أو الوطء.
{فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} : الفاء: رابطة لجواب الشّرط، ما النّافية، لكم: خاصة، من ابتدائية، عدة: ارجع إلى سورة الطّلاق الآية (1) للبيان، تعتدونها: أيْ: تستوفون عددها، أيْ: تنتظرون انتهاء عدد أيّامها.
{فَمَتِّعُوهُنَّ} : الفاء للتوكيد، متعوهن: ارجع إلى سورة البقرة الآية (236) لمعرفة معنى المتعة، قيل: نزلت هذه الآية فيمن لم يُفرض لها مهر، والّتي فرض لها مهر نصف المهر المفروض، وبعض العلماء قالوا: نصف المفروض + المتعة، والمتعة بشكل عام هو ما يعطيه الزّوج من مال أو كسوة أو حلي أو غيرها إلزاماً لها وتخفيفاً ورحمة.
وقوله: فمتعوهن: قيل: تعني الوجوب، وقيل: تعني النّدب واختلف العلماء في ذلك، ومنهم من قال: مستحب.
{وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} : خلوا سبيلهنَّ من غير إضرار أو أذية ولا منع من إعطائهن المتعة.
سورة الأحزاب [33: 50]
لفهم هذه الآية يجب أن نعلم أنّ هناك أربع فئات من النّساء اللاتي أباح الله لنبيِّه وحده بالزّواج منهن:
الأولى: الزّواج بالمهر:
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : ارجع إلى الآية (1) من مطلع سورة الأحزاب لبيان معنى يا أيها النبي.
{إِنَّا} : للجمع والتّعظيم.
{أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّاتِى آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} : أحللنا: من الحلال هو المباح شرعاً، أو ما نصَّ الشّارع على حلِّه، أحللنا مشتقة من الحل: أي: انحل من عقد التّحريم أو عقدة التّحريم، لك: اللام لام الاختصاص، أزواجك: بصيغة المذكر، ولم يقل: زوجاتك؛ لأنّ الزّوج يطلق على الذّكر والأنثى والزّوج يعني الجنس، اللاتي: اسم موصول للجمع المؤنث، أتيت أجورهن: أعطيت مهورهن وسمَّى المهور: أجور ويعني إيتاء المهر كاملاً دون تأخير شيء منه، كما يحدث الآن.
والسّؤال: كيف يسمَّى المهر أجراً: لأنّ الأجر يُعطى على منفعة موقوتة وأمّا النّكاح فليس موقوتاً إنما شروطه الدّوام، فالإجارة تتنافى مع عقد النّكاح، إذ الإجارة عقد مؤقت والنّكاح عقد دائم، النّكاح ليس عقد تمليك وإنما هو عقد استباحة، والمهر في النّكاح ليس عوضاً وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى.
الفئة الثانية:
{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} : وما: اسم موصول بمعنى الّتي، ملكت يمينك: أيْ: ما ملكتها يمينك عليك، مما أفاء الله عليك: الفيء هو ما أخذ بغير حرب أو قتال من السّبي والغنائم مثل صفية بنت حُيي بن أخطب من سبي خيبر، وجويرية بنت الحارث من سبي بني المصطلق.
الفئة الثّالثة:
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ الَّاتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ} : أمّا الّتي لم تهاجر فلا تحل له، ومن الملاحظ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج من بنات عمه ولا بنات عماته ولا بنات خاله ولا بنات خالاته والعم والخال اسم جنس يطلق على المفرد والجمع.
انتبه: أفرد في العم والخال يراد به الجنس وجمع في العمات والخالات؛ أي: كل بنات العم، وبنات الخال، وبنات العمات، وبنات الخالات؛ فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عم واحد وخال واحد أمّا الخالات والعمات فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خاله وعمه، ولذلك جاء القرآن يصدع بالحق.
الفئة الرابعة:
{وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة؛ أي: شرط أن تكون مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر، وأراد النبي أن يتزوجها فلا بأس، وقوله وهبت نفسها للنبي: فهذه حالة خاصة (خاصة لك) دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر وعقد وولي وشاهدان لم تحل له. وانظر كيف كتبت امرأة بالتاء المربوطة، ولم تكتب بالتاء المفتوحة (أو المبسوطة). ارجع إلى سورة آل عمران آية (30) لمعرفة السبب.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ} : قد: للتحقيق والتّوكيد، علمنا ما فرضنا عليهم: ما تعني الّذي، فرضنا عليهم: على المؤمنين من أحكام وشروط في النّكاح مثل العدد والمهر والعقد وغيرها.
ولا يحل لكم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خصَّه الله به وحده تكريماً له أو لحكمة ما لا يعلمها إلا الله، فلا يحل لكم الزّواج المبني على الهبة.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} : حكمها معطل الآن.
{لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} : حرج: أيْ: ضيق أو مشقة فيما يقوله أعداء الدّين.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، غفوراً: صيغة مبالغة من الغفر أيْ: ستر ومحو الإثم ورفع الحرج والضّيق، رحيماً: بالتّوسعة على عباده وترك العقوبة.
سورة الأحزاب [33: 51]
بالإضافة إلى حِل الواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم من دون المؤمنين يفوض له الحرية والاختيار في الإيواء والإرجاء ليفعل ما يشاء بالنّسبة لأمر القسمة أو التّسوية بين أزواجه.
{تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} : أيْ: تؤخِّر من تشاء من أزواجك عن ليلتها والإرجاء هو التّأخير.
{وَتُـئْوِى إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} : تضم أو تبيت مع من تشاء.
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} : ومن طلبت، أيْ: أردت ممن تجنَّبت (من العزلة) أيْ: ممن لا تريد على الإطلاق.
{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} : الجناح: الإثم، أيْ: لا إثم عليك. ارجع إلى سورة البقرة آية (158) لبيان المعنى، ومعرفة الفرق بين لا جناح عليك، وليس عليك جناح.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى التّخيير الّذي أباحه الله سبحانه له.
{أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} : أقرب أن تقرَّ أعينهنَّ: أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، تقر أعينهن: مشتقة من قرَّ بالمكان: أيْ: أقام وثبت به، أيْ: عدم دورانها وحيرتها، أيْ: تسكن أيْ: ترتاح أعينهنَّ وتسر (من السّرور) إذا علمن أنّ هذا أمر من الله سبحانه، وكذلك قرَّ مشتقة من القرِّ: وهو البرد، أيْ: لا تحزن وتغضب كالعين السّاخنة الّتي تحزن وتغضب.
{وَلَا يَحْزَنَّ} : من الحَزَن: ارجع إلى سورة الأنعام الآية (33) للبيان ومعرفة الفرق بين الحَزَن والحُزُن.
{وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} : الرّضاء ضده السّخط، الرّضا بما قسمه الله وقدره والرّضا بما حدث من إيواء وإرجاء وتقريب وتأخير، بما: الباء للإلصاق والدّوام، ما: الّذي، وأوسع شمولاً من الذي، آتيتهنَّ كلّهنَّ:(للتوكيد) آتيتهنَّ من الإيتاء، ويشمل النّواحي المادية والمعنوية معاً، يرضين بالقسمة والتّسوية والعدل بينهنَّ.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} : من الميل إلى البعض دون البعض، والحب والنّوايا والرّضا والسّخط.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} : كان تستغرق كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، عليماً: صيغة مبالغة من علم كثير العلم عليماً بخلقه، وما تخفي ذوات الصّدور، من سرائر وعليم بحاجاتهم وميل قلوبهم، حليماً لا يعجل لهم العقوبة ويقبل التّوبة.
سورة الأحزاب [33: 52]
{لَا يَحِلُّ لَكَ} : لا النّاهية، يحل لك خاصة.
{النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} : هؤلاء التّسع اللاتي عندك، اللاتي اخترن الله ورسوله والدّار الآخرة أو من بعد الّذي أحللنا لك.
{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} : أيْ: لا يحل له أن يتجاوز التسع وهو النصاب، ولا يحل له أن يستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أُخَرَ بكلهنَّ أو بعضهنَّ، كان ذلك كرامة لهنَّ من الله سبحانه.
أن للتعليل والتّوكيد، تبدل: حذف التّاء بدلاً من تتبدل لأنّ حكمها مقصور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ولو كان حكماً يشمل المسلمين لقال: تتبدل، ولو: الواو تفيد التّوكيد، لو: شرطية؛ أعجبك حسنهنَّ: الحسن: هو شدة الجمال والمنظر؛ أيْ: ولو أعجبك حسنهنَّ لا يحق أو يجوز لك أن تبدل.
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} : إلا: أداة استثناء ما ملكت يمينك: من الإماء مثل مارية القبطية الّتي أنجبت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات في سن الرّضاعة.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا} : كان تشمل أو تستغرق كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، على كلّ شيء: شيء نكرة كلّ شيء الصّغير والكبير ومهما كان نوعه وجنسه، والشّيء: هو كل ما يُعلم ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً هو أقل القليل، رقيباً: الّذي يراك والعالم بأحوالك فلا يخفى عليه فعلك.
سورة الأحزاب [33: 53]
أسباب النّزول: جمهور المفسرين قالوا: إنّ سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش الّتي طلقها زيد أراد أن يحتفل بذلك بإقامة وليمة (طعام) فدعا النّاس فأكلوا، ثمّ مكث فريق منهم يتحدثون ولم يخرجوا واستحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أن يقول لهم: اخرجوا فخرج وظلوا جالسين فعاد إلى مجلسه، ثم انصرفوا.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ} : نداء جديد إلى الّذين آمنوا بتكليف جديد هو عدم دخول بيوت النّبي، بيوت: جمع بيت وهو ما أُعد للمبيت، أي: الاستراحة والبيتوتة وبيوت النّبي غرف ضيقة ليست معدَّة للاستقبال.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} : لا بُدَّ من تحقق شرطين لدخول بيوت النّبي أوّلاً الدّعوة والإذن، ثانياً الطّعام فالإذن مقيَّد بالطّعام، والإذن يكون بالكلام أو الإشارة.
{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} : أيْ: نضجه وإعداده واستواءَه.
{وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} : لكن للاستدراك والتّوكيد، إذا: شرطية تفيد الحتمية، دعيتم: طلب منكم الدّخول فادخلوا، وإن لم تدعوا فلا تدخلوا حتّى يؤذن لكم، فادخلوا: الفاء للمباشرة، عندما يكون الطّعام جاهزاً.
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، إذا: شرطية ظرفية تفيد الحتمية.
{طَعِمْتُمْ} : أيْ: إذا أكلتم الطّعام أو فرغتم من الطّعام.
{فَانْتَشِرُوا} : اخرجوا عائدين إلى بيوتكم أو أعمالكم ولا يبقَ أحد أبداً، الفاء: للمباشرة والتّوكيد.
{وَلَا مُسْتَـئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} : لا النّاهية، تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي، مستأنسين لحديث: أيْ: لا تمكثوا بعد الطّعام، يحدث بعضكم بعضاً في بيوت النّبي.
{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ} : إنّ للتوكيد، ذلكم: اسم إشارة يشير إلى عدة أمور مهمة، ولم يقل: إنّ ذلك يشير إلى أمر واحد منها المكث والجلوس والحديث بعد الطّعام كان يؤذي النّبي أو يشق عليه.
{فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقِّ} : يستحيي أن يقول لكم: اخرجوا من عنده أو قوموا؛ لأنّ وقت النّبي صلى الله عليه وسلم ضيق فهو يحتاج إلى الرّاحة والاستعداد للصلوات والوحي والذّكر وغيره من العبادات وشؤون بيته.
{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقِّ} : والله لا يستحيي أن يقول الحق ويأمر به، أو يبيِّن ما هو الحق.
ثم تتحدَّث بقية الآية عن كيفية التّعامل مع زوجات النّبي صلى الله عليه وسلم أمّهات المؤمنين.
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد الحتمية.
{سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} : المتاع: يشمل أدوات المنزل أو الطّعام والشّراب، وما تحتاجونه من العلم والفتيا من رسوله صلى الله عليه وسلم.
{فَسْـئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : الفاء: للتوكيد، اسألوهنَّ من خلف ساتر أو جدار أو حاجز، ولم يقل: خلف حجاب؛ لأن وراء قد تكون المسافة من الحجاب قريبة أو بعيدة.
{ذَلِكُمْ} : اسم إشارة واللام للبعد، وذلكم يفيد الجمع، ويعني الأمر المهم والتوكيد.
{أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} : أوّلاً بدأ بالقول: لقلوبكم: اللام للتوكيد ولم يؤكد باللام بالقول: لقلوبهنَّ، وإنما قال: قلوبهنَّ؛ لأنّ قلوب أمّهات المؤمنين أطهر بكثير من قلوب بقية النّاس، أطهر: من خواطر السّوء والرّيبة والشّك، وهذه الآية وإن كانت تخص نساء النّبي فهي عامة تشمل نساء المؤمنين عامة والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ} : ما النّافية، لكم خاصة، أيْ: لا يحق ولا يجوز لكم، وكان تعني: جميع الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.
{أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، تؤذوا رسول الله: بأي أذية مهما كانت قولاً أو فعلاً، أو تؤذوا أزواجه أو أهله بأي نوع من الأذى.
{وَلَا أَنْ تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} : تكرار (لا) يفيد التّوكيد توكيد النّفي، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، تنكحوا أزواجه صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، من بعده أبداً: من بعد موته صلى الله عليه وسلم، أبداً: تحريماً مؤبداً كحرمة أمّهاتكم عليكم مؤبداً.
{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} : إنّ للتوكيد، ذلكم: للتوكيد وأهمية الأمر استعمل ذلكم بدلاً من ذلك، ذلكم: ذا اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب، ذلكم تدل على الجمع وتشمل:
أوّلاً: السّؤال من وراء حجاب.
ثانياً: إيذاء النّبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: نكاح أزواجه من بعده صلى الله عليه وسلم، ذلكم يعد إثماً وذنباً عظيماً، كان عند الله عظيماً: أيْ: ذلكم كان: تشمل كلّ الأزمنة عند الله: إثماً وذنباً عظيماً في شرعه ودينه أن تنكحوا أزواجه من بعده وعظيماً في الجزاء والحساب.
سورة الأحزاب [33: 54]
{إِنْ تُبْدُوا شَيْـئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} :
{إِنْ} : شرطية تفيد النّدرة أو الاحتمال.
{تُبْدُوا شَيْـئًا أَوْ تُخْفُوهُ} : تبدوا: أيْ: تظهروه أو تستروه أيَّ شيء حسياً أو معنوياً مهما كان صغيراً أو كبيراً، أو الشيء يشمل الكل كل شيء، أو أمر في نساء النبي صلى الله عليه وسلم مثل إيذاء النّبي أو الرّغبة في الزّواج من نسائه أو إيذائهنَّ قولاً أو فعلاً. أو تخفوه: في أنفسكم بشأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد موته صلى الله عليه وسلم.
{فَإِنَّ} : الفاء للتوكيد، وإنّ لزيادة التّوكيد.
{اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ} : في الماضي والمستقبل والحاضر.
{بِكُلِّ شَىْءٍ} : الباء للإلصاق، والدّوام، شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً سراً أو جهراً قولاً أو فعلاً.
{عَلِيمًا} : عالماً به صيغة مبالغة متى حدث وأين وعالم بباطنه وظاهره لا يخفى على الله سبحانه شيئاً في الأرض ولا في السّماء.
لنقارن هذه الآية (54) من سورة الأحزاب: {إِنْ تُبْدُوا شَيْـئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} مع الآية (149) من سورة النّساء: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} :
الاختلاف: في سورة الأحزاب قال: شيئاً، وفي النّساء قال: خيراً.
والشّيء: أعم من الخير؛ لأنّ الشّيء يشمل الخير والشّر وشيئاً نكرة يشمل أيضاً الصّغير والكبير والقول والفعل، والشيء: الأمر الحسي أو المعنوي.
فآية الأحزاب جاءت في الحديث عن نساء النّبي ودخول المنازل والسّؤال من وراء حجاب وعدم إيذاء النّبي صلى الله عليه وسلم، فالآية تخاطب الجميع المؤمنين والكفار والمنافقين، ولذلك استعملت شيئاً الّتي تشمل الخير والشّر، وانتهت الآية إنّ الله كان بكلّ شيء عليماً للتحذير.
أمّا آية النّساء فتخاطب المؤمنين وحدهم فهي تتحدَّث عن جانب واحد وهو الخير، ولذلك استعمل كلمة إن تبدو خيراً، وانتهت بقوله: إنّ الله كان غفوراً رحيماً للمؤمنين.
سورة الأحزاب [33: 55]
سبب النّزول: لما نزلت آية الحجاب اشتكى أقارب أمّهات المؤمنين فقالوا: أو نحن أيضاً لا نكلمهنَّ إلا من وراء الحجاب فنزلت لا جناح عليهنَّ كما قال ابن كثير.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} : أيْ: لا إثم ولا ذنب عليهنَّ؛ ارجع إلى الآية (5) من نفس السورة، ولم يقل: ليس عليهنَّ جناح: لمعرفة الفرق ارجع إلى الآية (158) من سورة البقرة للبيان، لا حرج ولا إثم أن يدخل عليهنَّ ويكلمهنَّ من دون حجاب هؤلاء المذكورون في الآية: وهم الآباء والأبناء والإخوان وأبناء إخوانهنَّ وأبناء أخواتهنَّ.
{وَلَا نِسَائِهِنَّ} : اختلف الفقهاء في المراد بنسائهنَّ فقال بعضهم: المسلمات فقط، وهو قول أكثر الفقهاء ومنهم ابن عباس، وقال البعض: جميع النّساء المسلمة والكتابية والكافرة، وقوله: نسائهنَّ، ولم يقل: النّساء، تعني النّساء اللاتي هنَّ ملازمات لهنَّ مثل العاملات أو الخادمات. ارجع إلى كتب الفقه للاطلاع على المزيد من البيان والتّحقيق.
{وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} : معطلة في عصرنا الحاضر، ولم يذكر الأعمام والأخوال (العم والخال) رغم أنّ منزلتهما كمنزلة الوالد، بعضهم قال: لا يجوز وبعضهم قال: يجوز. ارجع إلى مصادر الفقه، والطّفل الّذين لم يظهروا على عورات النّساء، وتكرار لا يفيد التّوكيد وفصل كلّ قرابة عن الآخر.
{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} : من التّقوى وهي بامتثال وطاعة أوامر الله سبحانه وتجنُّب ما نهى عنه، أي: اتقين سخط الله وغضبه وناره فيما أمر به من الحجاب والعفة والقول والنّظر والتّبرج.
{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.
{كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا} : كان تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، شهيداً: صيغة مبالغة من شاهد وشهيداً تعني: الرّقيب والمطلع على كلّ شيء والمحيط علمه بعباده وما تخفي صدورهم وتفعل جوارحهم وكلّ سر ونجوى وجهر.
أمّا الفرق بين إنّ الله كان بكلّ شيء عليماً، إنّ الله كان على كلّ شيء شهيداً:
فالشّهادة أخص من العلم، العلم = الشّهادة وزيادة.
فالعليم يعلم أكثر من الشّهيد والشّهادة علم يتناول الموجود والعلم يتناول الموجود والمعدوم، والمسموع الغائب والحاضر، وللمقارنة بالرّقيب. ارجع إلى الآية (52) من نفس السّورة.
سورة الأحزاب [33: 56]
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ} : إنّ للتوكيد، الله وملائكته: جمع الله سبحانه بين صلاته وصلاة ملائكته على النّبي؛ لأنّه سبحانه هو وحده الّذي يحق له أن يجمع أو لا يجمع، وأمّا نحن فلا يحق لنا أن نجمع بين الله سبحانه وأحدٍ من خلقه، ويصلون الضّمير يعود على الله والملائكة معاً، الصّلاة من الله على النّبي تعني: الرّحمة العامة المطلقة ورضوانه وثناؤه، والصّلاة من الملائكة على النّبي تعني: الاستغفار والدّعاء له.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد هو الصّلاة على النّبي والتّسليم عليه، فكيف نصلِّي على النّبي صلى الله عليه وسلم نصلِّي عليه صلى الله عليه وسلم، كما علمنا حين سُئِلَ: كيف نصلِّي عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد (ارجع إلى كتب الفقه).
واختلف الفقهاء في حكم الصّلاة على النّبي، فمنهم من قال: فرض ولو كان مرة واحدة، ومنهم من قال: شرط أو واجبة أو مندوبة، والصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم والتّسليم يجب أن تكون مصاحبة لطّاعة الرّسول وامتثال أوامره وإلا فكيف تصلي عليه وتعصيه.
أمّا كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه ويسلم؛ لأنّ الآية تنادي الّذين آمنوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المؤمنين؟
فالجواب: هو التّحيات حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، فالرّسول حين يقول ذلك يعتبر صلاةً على نفسه.
{وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} : اتباع الفعل سلموا بالمصدر تسليماً يفيد التّوكيد. ارجع إلى مصادر الفقه الأخرى للمزيد عن الصّلاة على النّبي وفضلها والأحاديث الّتي جاءت في سياقها.
سورة الأحزاب [33: 57]
{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ للتوكيد، الّذين اسم موصول يفيد الذّم.
{يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : الإيذاء هو إيقاع الأذى، أي: الضرر بالقول أو الفعل بالمؤذَى، والإيذاء بحق الله ورسوله، أو أزواجه وأهله قد يعني: فعل ما يكرهه الله ورسوله من الكفر والمعاصي والتّكذيب، ومخالفة الشّريعة على سبيل المجاز، والإيذاء بحقِّ الله ورسوله له معنى خاص.
فالإيذاء الّذي يقع بحق الله تعالى لا يكون بالفعل فلا يستطيع أيُّ مخلوق من خلقه مهما كان شأنه في الأرض أو في السّماء أن يفكِّر أن يؤذي الله سبحانه؛ لأنّه سبحانه العزيز القوي القهار الجبار، والإيذاء قد يكون بالقول فقط حين يقولون أو يفترون الكذب على الله عز وجل، مثل قولهم: إنّ الله فقير ونحن أغنياء، أو إنّ الله هو المسيح ابن مريم، أو الملائكة بنات الله، أو يسبون الدّهر والله هو الدّهر، أو أن يجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، والإلحاد في أسمائه وصفاته وذاته.
فقد روى البخاري في صحيحه قال: قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، أمّا إيذاء الرّسول صلى الله عليه وسلم فقد يحصل بالقول والفعل حين قالوا: ساحر، أو كاهن أو مجنون أو شاعر، وبالفعل حين شجَّوا وجهه الشّريف وكسروا رباعيته يوم أحد وغيرها، وكلمة يؤذون: جاءت بصيغة المضارع للدلالة على تجدُّد وتكرُّر إيذائهم، وأنّه لم يتوقف.
{لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} : أيْ: طردهم وأبعدهم الله تعالى عن رحمته، ومثال على ذلك المعيشة الضّنكة والعذاب في الحياة الدّنيا بشتى أنواعه.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} : أعد: هيَّأ وجهَّز، لهم: اللام لام الاستحقاق والاختصاص، عذاباً مهيناً: أي: مخزياً لكونه أمام الخلائق يوم القيامة وبِذلَّة، والأليم.
سورة الأحزاب [33: 58]
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم.
{يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : يؤذون: ارجع إلى الآية السّابقة، ويؤذون بصيغة المضارع تدل على التّجدُّد والتّكرار، والإيذاء يكون بالقول والفعل، بالقذف والظّن السّيِّئ والغيبة والنّميمة والكذب والبهتان، وبالفعل بالظّلم والعدوان والقتل والضّرب، وغيرها من وسائل الإيذاء والتّعذيب، وذكر المؤمنات بعد المؤمنين ذكر الخاص بعد العام؛ لأنّ المؤمنات يدخلن في كلمة المؤمنين، فقول والمؤمنات: تدل على التّوكيد على عدم إيذاء المؤمنات الغافلات.
{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} : أيْ: بغير ذنب أو سبب أو جريمة أو سيئة، والباء للإلصاق والدّوام، ما: بمعنى الّذي أو مصدرية، اكتسبوا: على وزن افتعلوا ولم يقل: كسبوا: اكتسبوا تدل على تكرار الكسب، أيْ: لم يفعلوا أيَّ شيء أو سبب لإيذائهم لكي يرموهم بالباطل والكذب.
{فَقَدِ} : الفاء للتوكيد، قد للتحقيق والتّوكيد.
{احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} : البهتان هو الكذب المتعمَّد الّذي يبهت ويدهش السّامع: أيْ: يقع عليهم إثم ذلك البهتان، أي: الكذب، وإثماً مبيناً: أي: ظاهراً جلياً لا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى دليل أو برهان.
سورة الأحزاب [33: 59]
أسباب النّزول: كما أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ضُرب الحجاب لحاجتها فرآها عمر، فقال: يا سودة أما والله تخافين علينا فانظري كيف خرجت، قالت: فانكفأت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال عمر فنزلت هذه الآية.
وقيل: كان بعض المنافقين يتعرضون للنساء في الليل إذا خرجن لحاجتهنَّ، فنزلت هذه الآية، والمهم هو عموم اللفظ وليس خصوص السّبب، وهذا ما يحدث في عصرنا الحاضر من تعرض نساء المؤمنين للإيذاء بالأقوال وبالأفعال من قبل ضعاف الإيمان وأولاد الشوارع.
{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء بياء النّداء، أيّها: الهاء للتنبيه، نداء تكريم وتشريف.
{قُلْ لِّأَزْوَاجِكَ} : اللام لام الاختصاص، أزواجك: وكنَّ تسعة حين نزول هذه الآية، وهنَّ: عائشة وحفصة وأمّ حبيبة وأمّ سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة وزينب وجويرية وصفية.
{وَبَنَاتِكَ} : وكن أربعة: فاطمة وزينب ورقية وأمّ كلثوم.
{وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} : عامة وكلمة نساء جمع لا مفرد لها وليس مثل كلمة أزواج مفردها زوج، إذن كلمة نساء لا يعرف لها مفرد كما أنّ كلمة امرأة ليس لها جمع فلا تجمع على امرآت مثلاً، وأصل كلمة النّساء من النسيء: وهو التّأخير؛ لأنّ المرأة خلقت بعد خلق الرّجل كما قال البعض.
انتبه: إلى قوله: لأزواجك ولم يقل: ولبناتك ولنساء المؤمنين، وإنما قال: بناتك ونسائك، أكد باللام على أزواج النّبي؛ لأنّهن هن القدوة لكلّ النّساء وأمّهات المؤمنين، ولم يؤكد على بناته ونساء المؤمنين.
{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : الإدناء: هو الإرخاء والإسبال على الوجه والبدن أيْ: يسترن أجسامهنَّ من الرّأس إلى القدم، والإدناء أصله التّقريب، من جلابيبهنَّ: من ابتدائية، والجلباب هو ثوب يُلبس فوق الثّياب الدّاخلية وهو ثوب يستر جميع الجسم والصّدر، وأمّا الخمار فهو غطاء الرّأس تحديداً، وأمّا الجيب: فهو فتحة الصّدر.
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى إدناء الجلابيب.
{أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} : أدنى: أقرب أو أحرى أن يعرفن: أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، أيْ: لكي يعرفن أو أقرب أن يعرفن ويُتبيَّن أنّهنَّ من الحرائر.
{فَلَا يُؤْذَيْنَ} : الفاء للتوكيد، لا النّافية، ويؤذين مبني للمجهول، أيْ: من قبل السّفهاء وأهل الرّيبة بالتّعرض لهنَّ، فكأن لباس الجلباب فيه إشارة أو علامة على أنّ المرأة حرة من الحرائر، فالأولى عدم التّعرض لها والإساءة لها.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : غفوراً لمن تركت منهنَّ السّتر قبل نزول هذه الآية، غفوراً: صيغة مبالغة كثير الغفر هو السّتر ستر الذّنوب ومحوها والثّواب على العمل الصّالح، رحيماً: بعباده المؤمنين في الدّنيا والآخرة يرشدهم إلى ما فيه الخير والصّلاح والسّداد والصّواب، رحيماً صيغة مبالغة كثير الرّحمة وصفة الرّحمة ثابتة له.
سورة الأحزاب [33: 60]
{لَئِنْ لَّمْ} : اللام لام التّوكيد، إن: شرطية تفيد النّدرة أو الاحتمال والشّك، لم: نافية.
{الْمُنَافِقُونَ} : جمع منافق وهو من يظهر خلاف ما يبطن، أيْ: من أظهر الإسلام وأضمر أو أبطن الكفر. ارجع إلى سورة النساء آية (138) لمزيد من البيان.
{وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : الرّيبة والشّك والفجور وضعاف الإيمان والفسقة.
{وَالْمُرْجِفُونَ} : من الإرجاف، جمع مرجف والمرجف الّذي يمشي بين النّاس لينشر الفتنة وأخبار السّوء والأكاذيب والأباطيل وزعزعة النّفوس؛ مما يؤدي إلى اضطرابها وتحريكها، والإرجاف: مأخوذة من الرّجفة الّتي هي الزّلزلة الأرضية الشّديدة. وهذه الآية قد تكون تحذير ووعيد لمن يخفي أو يبدي شيئاً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطعن في أزواجه (أمهات المؤمنين).
وهناك من المفسرين مَنْ يرى أن الصّفات الثّلاث لجنس واحد هم المنافقون، أيْ: هناك من المنافقين مرجفون، وقوم يشكِّكون المسلمين، الواو هنا تعني عطف صفات مختلفة لشيء واحد، وجاءت الصّفات مستقلة؛ لأنّها أصبحت صفات واضحة غير مخفيَّة تكاد تكون مستقلة بذاتها.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} : اللام للتوكيد، نغرينك بهم: من الإغراء وهو أن تحمل المخاطب ليفعل أمراً ما أو تُحبب إلى شخص أمر ليفعله، أيْ: لنغرينك على مواجهتهم والتّصدي لهم وقتالهم وإجلائهم، أيْ: لنسلطنك عليهم، والنّون في نغرينك لزيادة التّوكيد.
{ثُمَّ} : عطف بها لتباين عظم الجلاء عن الأوطان، فهو أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به.
{لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا} : أذلاء ملعونين أقلاء في المدينة، ولمدة قليلة من الزّمن، ثم يخرجون منها أو يهلكون، إلا تفيد الحصر.
{قَلِيلًا} : أيْ: زمناً قليلاً أو القلة منهم والباقي يرحل ويترك.
سورة الأحزاب [33: 61]
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} :
{مَّلْعُونِينَ} : أيْ: لا يجاورونك إلا ملعونين، أيْ: مبعدين عن رحمة الله، أو مطرودين من المدينة بعد أن لعنهم الله سبحانه وفضحهم بسبب غدرهم ونفاقهم.
{أَيْنَمَا} : وردت في القرآن في أربع آيات هذه واحدة منهنَّ، ظرف مكان فيه معنى العموم والشّمول والإبهام.
{ثُقِفُوا} : أيْ: وجدوا في أيِّ مكان وزمان على شرط أن تكونوا قادرين عليهم أو تربصوا لهم فإذا تمكَّنتم من أسرهم وقتلهم فافعلوا.
{أُخِذُوا} : أيْ: أسروا: أخذوا أسرى.
{وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} : أي: اقتلوهم بعنف وشدة ولا تأخذكم بهم رحمة أو رأفة، قتلوا: فيها مبالغة، ولم يقل: وقتلوا بتشديد التّاء، وإتْباع الفعل بالمصدر يفيد التّوكيد على قتلهم.
سورة الأحزاب [33: 62]
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} :
{سُنَّةَ اللَّهِ} : هي الطّريقة الّتي يصرف الله سبحانه بها كونه أو خلقه بما يحقق مصلحة ذلك الكون أو الخلق ومصلحة الإنسان أن يسود الحق ويبطل الباطل. ارجع إلى سورة آل عمران آية (173) والنّساء آية (26) لبيان معنى سنة.
ولمقارنة السّنة مع العادة: فالعادة مأخوذة من العود والمعاودة بمعنى التّكرار، وأمّا العرف: فما ألفه المجتمع واعتاده من قول أو فعل وعادة.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} : أيْ: أسر المنافقين ولعنهم في كلّ زمان، وقتلهم تقتيلاً وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم هي سنة الله تعالى، وطريقته الّتي أجراها منذ الأزل، والّتي جرت في الّذين خلوا من قبل أو مضوا أو جاؤوا من قبل هؤلاء من الأمم السّابقة.
{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} : لن: لنفي القريب والبعيد، واللام في كلمة لسنة: لام الاختصاص، تجد لسنة الله تبديلاً: أيْ: لا تغيير ولا تبديل ولا تحويل ثابتة دائمة على أمثال هؤلاء إلى قيام السّاعة. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (23) من سورة الفتح، وهي قوله تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} : نجد أن آية الأحزاب جاءت في سياق المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين، والسُّنة هي:{أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} ، وآية الفتح جاءت في سياق الذين كفروا، والسُّنة هي:{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .
سورة الأحزاب [33: 63]
{يَسْـئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} : يسألك النّاس؛ أي: الكل يسأل؛ إما سؤال إنكار من الّذين ينكرون السّاعة والبعث والحساب أو سؤال استعجال واستهزاء من المشركين أو من اليهود على سبيل الامتحان، أو من أهل العلم من الّذين يؤمنون بها للاستعداد لها.
{عَنِ السَّاعَةِ} : أيْ: متى قيام السّاعة، أيْ: عن وقت حدوثها والسّاعة هي بدء تهدم النّظام الكوني الحالي ونهاية الحياة الدنيا، وهي أمر مهم وخطير يهم كلّ النّاس، ويسألك ولم يقل: يسألونك، يسألك: يعني السّائل ليس بالضّرورة يقف أمامك ويسألك، أمّا يسألونك: فالسّائل يقف أمامك ويسألك بنفسه وعن تفيد المجاوزة والمساعدة.
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد والحصر.
{عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: قل لهم: لا يعلمها إلا الله أو استأثر الله بعلمها، فلم يطلع عليه ملكاً ولا رسولاً ولا نبياً، ثم بين سبحانه أنّها قريبة الوقوع.
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} : وما: الواو عاطفة، ما للاستفهام.
يدريك ولم يقل: أدراك ما هو الفرق بين يدريك وأدراك يستعمل القرآن الكريم يدريك في سياق الأمر أو الاستفهام الّذي لن يظهر أو يُعلم عليه حتّى يوم القيامة.
وأمّا أدراك فيستعملها في سياق الأمر أو الاستفهام الّذي سيظهر علمه أو يبدو لك عن قريب.
{لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} : لعل للتعليل، السّاعة تكون قريباً لم يقل: قريبة: قريباً بالتّذكير؛ لأنّ المراد بالسّاعة ليس السّاعة الآلة بعينها، وإنما وقت قيامها، أي: الظّرف أيْ: زمن قيام قريب، فكل ما ورد في إدراك فقد أداره به، وكل ما جاء في سياق يدريك لم يطلعه الله عليه.
سورة الأحزاب [33: 64]
{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} :
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{لَعَنَ الْكَافِرِينَ} : طردهم وأبعدهم عن رحمته والكافرين بشكل عام والكافرين بالبعث والسّاعة خاصة.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ} : أعد: هيَّأ وجهز، لهم: اللام للاختصاص والاستحقاق.
{سَعِيرًا} : ناراً شديدة الاستعار والاتقاد أو مستعرة.
سورة الأحزاب [33: 65]
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} :
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود يعني: البقاء الدّائم المستمر من دون انقطاع ويبدأ من زمن معيَّن هو دخولهم إياها وإلى ما لا نهاية.
{لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} : ولم يقل: لا يجدون من دون الله ولياً ولا نصيراً؛ لأنّ سياق الآية في الآخرة ففي الآخرة انتهى الأمر لا يوجد لله لا شريك ولا ولي، كما كانوا يزعمون في الدّنيا، ولو كان السّياق في الدّنيا لذكر من دون الله.
ولياً: من الولاية والولي هو القريب الّذي يتولَّى أمرهم والمحب المخلص لهم، ولياً نكرة تعني أيَّ وليٍّ.
ولا نصيراً: النّاصر والمدافع القوي يخلصهم من العذاب. نصيراً: نكرة تعني أيَّ نصير. ارجع إلى الآية (107) من سورة البقرة لمزيد من البيان؛ أي: لا يجد لا ولي لوحده، ولا نصير لوحده، ولا كلاهما معاً.
سورة الأحزاب [33: 66]
{يَوْمَ} : نكرة للتهويل والتّعظيم، أيْ: يوم القيامة.
{تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} : تعود على الكافرين، تقلب وجوههم: قد تعني مرة على الجانب الأيمن ومرة على الجانب الأيسر.
تقلب وجوههم مثل تلفح وجوههم النّار أو لا يكفون عن وجوههم النّار.
وخصَّ الوجه؛ لأنّه أشرف أعضاء الجسم وأهمها.
{يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا} : يا النّداء نداء حسرة، ليت تستعمل لطلب الأشياء المستحيلة الحدوث أو غير الممكنة الحدوث، أو هم يتمنَّون المستحيل؛ لأنّ طاعة الله ورسوله انتهت والآخرة ليس فيها تكليف.
{أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} : يا ليتنا أيْ: أطعنا الله سبحانه في الدنيا فيما أمر ونهى وأطعنا الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما فصَّلَ وبيَّن ويا ليتنا لم نعصه، وتكرار أطعنا يفيد التّوكيد وفصل طاعة الله عن طاعة الرّسول أو كلاهما معاً.
{الرَّسُولَا} : فيها زيادة ا لألف الّتي تدل على طول الكلمة بدلاً من أطعنا الله والرّسول ولتدل على تمنٍّ ممزوج بصراخ وعويل طويل مرير من أهل النار.
سورة الأحزاب [33: 67]
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} :
{وَقَالُوا رَبَّنَا} : لم يقولوا: يا ربنا: حذفوا ياء النّداء للبعد؛ لأنّ الموقف في الآخرة والله سبحانه قريب منهم يسمعهم.
{إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} : السّادة جمع سيد: وهو الّذي يتولَّى تدبير القوم وعليهم طاعته؛ لأنّه ينظر في أمورهم فهو سيد القوم ورئيسهم.
{وَكُبَرَاءَنَا} : جمع للصفة كبير وهو الّذي يفضلهم في العلم أو السّن أو الشّرف.
فهم يلقون اللوم على السّادة والكبراء، لعلَّ الله يقبل اعتذارهم وسادتنا تدل على الكثرة، أيْ: أطعناهم فكانوا عوناً لنا على الشّرك والكفر والمعاصي. وهناك فرق بين كبراءنا، وأكابر؛ الأكابر: جمع أكبر، وهم أعظم أو أبلغ من كبراء.
{فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} : أيْ: لم يهدوننا إلى الصّراط المستقيم وساروا بنا في طريق الضّلال.
وأضلونا السّبيلا: مد السّبيل فقال السّبيلا: لأنّ المقام مقام صراخ وعويل وبكاء، وعدم استقرار ولا سكون.
وإذا قارنا هذه الآية بالآية (4) من نفس السّورة {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ} : لم يمد السّبيل: لأنّ هذه السّبيل مليئة بالسّكون والطّمأنينة والاستقرار؛ لأنّه سبيل الله الحق يختلف عن سبيل السّادة والكبراء.
سورة الأحزاب [33: 68]
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} :
{رَبَّنَا} : ولم يقولوا: يا ربنا: ارجع إلى الآية السّابقة.
{آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} : قيل: عذاب مضاعف؛ لأنّهم أضلوا أنفسهم وأضلونا معهم، أيْ: ضلالهم لم يقتصر على أنفسهم، وإنّما تعدَّى إلى غيرهم، أي: اجعل عذابهم ضعفي عذابنا.
{وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} : طلبوا لهم اللعن، أيْ: طلبوا من الله أن يطردهم من رحمته، وأن يكون هذا اللعن لعناً كبيراً؛ لأنّهم ضلوا وأضلونا وليس لعناً عادياً.
سورة الأحزاب [33: 69]
المناسبة: بعد أن ذكر الله سبحانه الّذين آذوا الله وآذوا رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الّذين آذوا المؤمنين، ثم ينادي الّذين آمنوا بنداء جديد بأن لا يكونوا كبني إسرائيل الّذين آذوا نبيهم موسى عليه السلام الّذي جاء لينقذهم من الاستعباد والعذاب.
وهم آذوه مرات عديدة مثال: حين اتهموه بقتل أخيه هارون، أو حين اتهموه بالبرص، وحين اتهموه بالعيب الخلقي، وهو الأدرة وهو انتفاخ بالصفن بسبب كيسة، وحين اتهموه بالزّنى بالمرأة البغي بعد أن حرضها قارون على اتهام موسى بالفاحشة.
{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} : أيْ: أطلعهم الله تعالى على أنّه بريء من البرص والعيب الخلقي، وأنه آدر، كما قال ابن عباس: خرج موسى ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر فجرف الماء الحجر وعليه ثوبه فركض موسى عرياناً يطلب ثيابه، فرآه بنو إسرائيل فقالوا: والله ما به من بأس فبرَّأه الله من ذلك وبرَّأه الله من الزّنى ومن قتل أخيه.
{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} : ذو جاهٍ، أيْ: قدر وقربة عند الله، أيْ: منزلة رفيعة.
سورة الأحزاب [33: 70]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} :
نداء جديد للذين آمنوا بتكليف أو أمر جديد.
{اتَّقُوا اللَّهَ} : التّقوى أن تجعل بينك وبين الجبار العزيز القهار وقاية تقيك من غضبه وسخطه وناره، وذلك بامتثال أو طاعة أوامره وتجنُّب ما نهى عنه الله.
{وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} : السّداد هو القصد إلى الحق، أي: القول الصّدق والعدل الّذي يفضي إلى الحق القريب من الصواب، والصواب: هو الحق الذي لا يوجد غيره؛ أيْ: لا تخوضوا في أيِّ حديث غايته غير القصد في الوصول إلى الحق مثل الخوض في حديث زينب وزيد، أو رجل له قلبان في جوفه أو زيد بن محمّد، أو أزواجكم أمهاتكم، وغير ذلك من الأقاويل الباطلة، أو تتهموا أحداً بالباطل (بالزّنى أو العيوب الخلقية أو غيرها) أيْ: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ولا تقولوا إلا الحق أو الزموا الصّمت.
سورة الأحزاب [33: 71]
أيْ: يعدكم إذا اتقيتم الله وحده وقلتم قولاً سديداً أن:
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} : أيْ: يزكيها ويقبلها أيْ: يقبل حسناتكم.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} : (لكم خاصة) ذنوبكم، أيْ: جميع ذنوبكم ولم يقل: يغفر لكم من ذنوبكم.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : من شرطية، يطع الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه.
{فَقَدْ} : الفاء جواب الشّرط، قد للتحقيق والتّوكيد.
{فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} : الفوز: النّجاة من النّار ونيل ما يتمناه سعادة الدّارين والفوز العظيم ليس هناك فوز أعظم منه، عظيم صيغة مبالغة على وزن فعيل الفوز العظيم: هو أعظم من الفوز المبين أو الفوز الكبير. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في الفوز وأنواعه أو درجاته.
سورة الأحزاب [33: 72]
{إِنَّا} : للتعظيم تعود على الله سبحانه واجب الوجود.
{عَرَضْنَا} : من العرض يقال: عرضت على فلان الأمر يعني أطلعته عليه لأرى فيه رأيه يقبل أو لا يقبل والعرض يعني فيه تخيير لا إلزام، فله أن يطيع أو أن يعصي يؤمن أو يكفر.
{الْأَمَانَةَ} :
1 -
أمانة الاختيار، وقيل: هي الفرائض الصّلاة والزّكاة وصيام رمضان وحج البيت والعدل في الميزان والمكيال.
2 -
أو سائر التّكاليف الشّرعية والّتي تضم افعل ولا تفعل؛ أي: الفرائض والإخلاص في العبادة والالتزام بشعائر الدين وسنته وصدق الحديث وقضاء الدين والعدل في الميزان والمكيال، وقيل أيضاً: غسل الجنابة وحفظ الفرج والإذن والعين واليد والوفاء بالعهود، وتشمل كلَّ ما ائتُمن عليه من مال أو وديعة أو غيرها مثل قضاء الدَّين، وقيل: الأمانة الطّاعة طاعة أوامر الله وتجنُّب نواهيه.
{عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} : على الأجرام العظيمة كالسّموات والأرض والجبال فلا تظن السّموات والأرض والجبال جمادات أو أشياء خلقت عبثاً، بل هي تسبح بحمد ربها وتصلي وتسجد لخالقها.
{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} : امتنعت أن تقبل تحمل الأمانة وخافت منها (أن لا تؤدِّيها) واختارت أن تكون مسخَّرة لمشيئة الله وإرادته.
{وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ} : أيْ: بعد أن خير السّموات والأرض والجبال خير الله آدم فاختار أن يحملها وقبل آدم أبو البشر على حملها على الرغم من ضعف قوته مقارنة بتلك الأجرام العظام.
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} : إنه: للتوكيد، كان ظلوماً: لنفسه لأنّه حَملَ نفسه شيئاً لم يعرف عواقبه (الأمانة) ولم يَفِ بها أو غدر بالعهد ونكث أو لم يلتزم بها، ولم يحملها كما أُمر، جهولاً: بما ستصنع به الأغيار أو جهولاً لما يرتكبه من الأخطاء أو حملها بسبب جهله، والجهل هو عدم العلم وكلمة (ظلوماً جهولاً) صيغة مبالغة لظلمه وجهله.
سورة الأحزاب [33: 73]
{لِيُعَذِّبَ} : اللام لام التّعليل يمكن أن تعود على عرضنا أو حملنا إذا عادت لام التّعليل إلى عرضنا: أيْ: عرضنا الأمانة على الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق وإيمان المؤمن، ومن ثم يعذبهم على أعمالهم.
وإذا عادت لام التّعليل إلى حملنا: أيْ: حملنا المنافق والمشرك والعاصي الأمانة فلم يؤدِّها، فلذلك يعذَّب، وأما المؤمن المطيع فيثاب:
1 -
وليس المقصود بتحميل الإنسان الأمانة والتّكليف بها هو تعذيبه أبداً، وإنما ليثاب على حملها.
2 -
ولم يعطف التّوبة على العذاب وفصل بينهما بتكرار الفاعل وهو الله للتوكيد، فقال: ليعذب الله ويتوب الله بدلاً ليعذب الله ويتوب على
…
إلخ.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} : كان وما زال وسيبقى غفوراً رحيماً، وكان الله غفوراً رحيماً.
غفوراً: مقابل كلمة الظّلوم فالله سبحانه غفور لمن ظلم، ثم بدل حسناً بعد سوء.
رحيماً: مقابل (جهولاً) أيْ: رحيماً بالجاهل إذا تاب أو أناب إلى ربه.
ومن الجدير بالذكر الانتباه كيف بدأت السّورة بقوله: فلا تطع الكافرين والمنافقين، وانتهت السّورة بقوله: ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات.
سورة سبأ [34: 1]
سورة سبأ
سورة سبأ هي السّورة رقم (34) في ترتيب المصحف، أمّا في النزول فقد كانت السّورة (5).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : ارجع إلى الآية (2) من سورة الفاتحة، وسورة الأنعام لبيان معنى الحمد، وسورة سبأ هي إحدى السور الخمسة التي افتتحت بالحمد لله: وهي الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر.
{الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : الّذي: اسم موصول يفيد المفرد المذكر، والمجيء بالّذي هنا يفيد التّعظيم؛ لأنّ له ما في السّموات وما في الأرض، لم يقل الحمد لله من له، الّذي: أخص من (من)؛ أي: الذي أكثر تحديداً ووضوحاً، فالّذي تستعمل للأخص المعلوم، له ما في السّموات وما في الأرض: ارجع إلى الآية (2) من سورة إبراهيم.
{وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الْآخِرَةِ} : تكرار وله الحمد يفيد التّوكيد والاستمرار، وأنّ حمده لا ينقطع في الدّنيا ولا في الآخرة، والحمد في الآخرة: أكبر وأعظم، يحمده أولياؤه أصحاب الجنان، أمثلة على ذلك:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزّمر: 74]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]، له ما في السّموات وما في الأرض؛ أي: له وحده، اللام لام الاختصاص والملكية.
{وَلَهُ الْحَمْدُ} : تقديم الجار والمجرور له يفيد الاختصاص والحصر؛ أي: له الحمد وحده عز وجل لا لغيره.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْحَكِيمُ} : مشتقة من الحكم فهو أحكم الحاكمين، ومن الحكمة فهو أحكم الحكماء في خلقه وشرعة وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
{الْخَبِيرُ} : العليم ببواطن الأمور: مثل السّر والنّجوى وخائنة الأعين وما تخفي الصّدور، الخبير بأحوال كونه وعباده وخلقه.
سورة سبأ [34: 2]
في الآية السّابقة قال تعالى: "الخبير" ببواطن الأمور وكذلك يعلم:
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ} : يلج من الولوج: وهو الدّخول بصعوبة مثل دفن الموتى كقوله: ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً، فكلمة كفاتاً فيها معنى الولوج، إذن يعلم عدد من يدفن فيها وما يُخفى فيها تحت الأرض من الكنوز والمعادن والبترول والغازات والمواد النّووية والمواد المدمرة، وغيرها من الأشياء الّتي تلج في الأرض؛ أي تسقط: من السّماء كما هو الحال في إنزال الحديد من السماء وتشكيله لب الكرة الأرضية الصلبة والسائلة. في: تفيد الظّرفية.
{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} : من بترول وغازات وبخار ماء ومعادن وكنوز (بواسطة الاستخراج والكشف) وبراكين والمياه، والنّبات والزّرع، من: ابتدائية ظرفية، وتكرار ما يفيد التّوكيد، وفصل الولوج عن الخروج والنّزول عن العروج.
{وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} : من مطر وبقايا الأجرام السّماوية المتفككة فقد أشارت وكالة الفضاء الأمريكية أن هناك (170 مليون) قطعة من بقايا الأجرام السماوية تدور حول الأرض عليها تتراوح أحجامها بين (1 ملم)، وبعضها يقدر بـ (30 ألف) بحجم البرتقالة، وبعضها القليل بحجم الأقمار الاصطناعية، ومعظم هذه البقايا تسقط في البحار والمحيطات التي تشكل (70%) من حجم اليابسة، وهذا من رحمة الله تعالى، ولو سقطت القطع الكبيرة لسببت الدمار والخراب في الأرض. ارجع إلى سورة الشعراء آية (187) للبيان، أو ما ينزل من الملائكة وما ينزل من صواعق وبرق وبرد، وأشعة ضارة أو نافعة وغيرها.
{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} : العروج هو الصّعود بشكل مائل، ارجع إلى الآية (14) من سورة الحجر؛ أي: الملائكة والمركبات الفضائية والطّائرات والصّواريخ، ورياح وسحب وبخار ماء.
{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} : هذه هي الآية الوحيدة في القرآن الّتي قدّم الرّحيم على الغفور وبقية الآيات كلّها قدّم الغفور على الرّحيم؛ قد يكون والله أعلم أن الرّحمة عامة تشمل المؤمن وغير المؤمن، ولم يتقدّم هذه الآية أيّ ذكر عن المؤمنين أو غيرهم، وإنما فيها ذكر صفات وأسماء الله، فقدم الرحيم (لعامة الناس) على الغفور؛ لأنّ الغفران لا يكون إلا (لخاصة الناس) فقدم العام على الخاص، ولأن الرحمة تسبق المغفرة.
الرّحيم: بكم يحفظكم من عواقب ما يحدث في الأرض من الولوج والخروج، وما يحدث في السّماء من النّزول والعروج، الرّحيم: صيغة مبالغة من الرّحمة. فلو سقطت هذه القطع الكبيرة والتي تقدر بواحدة كل يوم على مدينة أو منطقة آهلة بالسكان لقتل الكثير، وسببت الحرائق والدمار في البنيان، أو حدثت البراكين والزلازل الكثيرة، وملئت السماء الغازات السامة لما عاش الكثير، ونحن نشاهد الصواعق التي تسبب الحرائق الهائلة في الأرض، وكذلك الفيضانات وغيرها من الظواهر الجوية والأعاصير المدمرة.
الغفور: صيغة مبالغة؛ أي: كثير الغفران؛ أي: يعفو ولا يعاقب ويثيبكم على أعمالكم الصّالحة، يعفو عن كثير (كثير من ذنوبكم وسيئاتكم وخطاياكم) فلا يعاقبكم. ارجع إلى سورة الحديد الآية (4) لمزيد من البيان.
سورة سبأ [34: 3]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : بالله ورسوله وأنكروا البعث والحساب والآخرة.
{لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} : لا النّافية، تأتينا السّاعة: أي ساعة تهدّم النّظام الكوني الحالي، وسمّي بالسّاعة: السّاعة جزء من (24) جزءاً من النهار والليل، وقد يكون معناها إطلاق الجزء على الكلّ أو السّاعة هي آخر ساعة في الحياة الدّنيا وبعدها النّفخة الأولى ويبدأ تهدّم النّظام الكوني الحالي والفزع والصعق؛ أي: الّذين كفروا زعموا أنّه ليس هناك السّاعة ولا حساب ولا آخرة، ولا بعث، ولا جنة، ولا نار.
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أقسم لكم بربي لتأتينّكم.
{بَلَى وَرَبِّى} : بلى: حرف جواب يفيد تقرير ما بعد النّفي، وما بعد النّفي إتيان السّاعة؛ أي ستأتينّ وربي: الواو واو القسم؛ أي: أداة القسم، والمقسم به ربي، والمقسم عليه لتأتينكم، والله سبحانه غني عن القسم، ولا يقسم إلا بشيء هام وعظيم، وهو قيام الساعة.
{لَتَأْتِيَنَّكُمْ} : اللام والنّون في تأتينكم للتوكيد: توكيد القسم.
{عَالِمِ الْغَيْبِ} : الغيب كلّ ما غاب عن عيون البشر في السّموات وفي الأرض، وعن كل المدركات كالسمع والبصر وغيرها من الحواس، وعالم السّر والنّجوى وما تخفي الصّدور، عالم الغيب هنا يعني الغيب المطلق، ومنه علم قيام الساعة وغيرها، وهناك الغيب النسبي الذي قد يظهره لمن ارتضى من رسله. ارجع إلى سورة الروم آية (1-4).
{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} : لا يعزب: لا النّافية، يعزب من: عزب الشّيء؛ أي: غاب وبَعُد، أي لا يغيب عن علمه أيُّ شيء مهما دقَّ وصغر، وما كان نوعه وشكله وحجمه ولونه، ارجع إلى سورة يونس الآية (61) لبيان معنى ذرة.
وهذه الآية من سورة سبأ هي إحدى ثلاث آيات فقط في كلّ القرآن الّتي أمر الله سبحانه رسوله بأن يقسم بربه على مجيء السّاعة، وأمّا الآية الثّانية فهي الآية (53) من سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَيَسْتَنبِـئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} القسم في هذه الآية على مجيء العذاب، أمّا الآية الثّالثة فهي الآية (7) من سورة التّغابن وهي قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ} والقسم في هذه الآية على مجيء يوم البعث، إذن القسم كان على مجيء السّاعة والبعث والعذاب.
ولمقارنة هذه الآية (3) من سورة سبأ: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} مع الآية (61) من سورة يونس: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ} ارجع إلى سورة يونس الآية (61) للبيان.
سورة سبأ [34: 4]
{لِّيَجْزِىَ} : اللام لام التّعليل؛ أي: لتأتينكم ليجزي الّذين آمنوا وليجزي الّذين سعوا في آياتنا ويرى الّذين أوتوا العلم.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الّذين: اسم موصول، آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعملوا الصّالحات: الفرائض والنّوافل، وما أمرهم به ربهم أو نهاهم عنه.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.
{لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} : لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، مغفرة لذنوبهم، والمغفرة تعني: ستر الذّنب وبالتّالي العفو وإسقاط العقاب وإيجاب الثّواب.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} : وصف الرّزق ذاته بالكريم، والكريم: هي صفة الرّزاق الّذي يرزق، فالرّزق كريم من الكريم ويشمل جنات الفردوس والخلد وعدن والنّعيم، كريم؛ لأنّه رزق في الجنة {بِغَيْرِ حِسَابٍ}:[غافر: 40]، {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات: 42-43]، ويشمل المأكل والمشرب والملبس والحور العين وكل {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزّخرف: 71].
سورة سبأ [34: 5]
{وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} :
{وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} : والّذين: اسم موصول، سعوا في آياتنا: من السّعي: هو المشي الحثيث أو الجاد، عملوا جهدهم على صرف النّاس عن الاستماع لآياتنا والطّعن فيها وإبطالها، أو صد النّاس عنها باللغو والتّكذيب بها، معاجزين: جمع معاجز من: عاجزه وأعجزه؛ أي: غالبه وسبقه؛ أي: يحاولون أن يُعجزوا ويسبقوا من جاء بها أو يدعو إليها فيجعلونه عاجزاً عن تبليغها والكف عنها.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يفيد الذّم والتّحقير.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} : الرّجز عذابٌ من السّماء (مثل الطّاعون أو البرق أو صاعقة) أليم لا ينجون منه، أو كثير الإيلام لا يطيقونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) للبيان المفصل في معنى رجز، والفرق بين رجز ورجس.
سورة سبأ [34: 6]
مقابل الكفار الّذين سعوا في آياتنا معاجزين بالفساد والصّد عن سبيل الله.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : الذين أوتوا العلم؛ أي: المؤمنون بالله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والّذين أوتوا العلم من أهل الكتاب وغيرهم أوتوا العلم؛ يعني: علم الدين.
يروا {الَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : أي القرآن أو من الآيات.
{هُوَ الْحَقَّ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر، الحق: الأمر الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدل، والذي ليس هناك غيره.
{وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} : صراط العزيز الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، الحميد على نعمه الدّائمة الباطنة والظّاهرة وعلى ما يعطي من نعم، صراط العزيز الحميد: هو دين الإسلام دين الحق أو الدّين القيّم. ارجع إلى سورة الحج آية (24) للمقارنة.
سورة سبأ [34: 7]
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : بعضهم لبعض، وبما أنّه لم يذكر لمن قالوا، فلا يهم والمهم هنا المقولة.
{هَلْ} : استفهام فيه تعجب وإنكار.
{نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} : أي محمّد صلى الله عليه وسلم، رجل نكرة، ولم يذكروا اسمه صلى الله عليه وسلم بل وصفوه بالنّكرة؛ للاستهزاء به والسّخرية والتّقليل من شأنه.
{يُنَبِّئُكُمْ} : من النّبأ: وهو الخبر العظيم؛ أي: يخبركم خبراً عظيماً وهو إذا مزِّقتم كلّ ممزَّق إنّكم لفي خلق جديد.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد الحتمية.
وهناك فرق بين التّمزق والتّقطع، مزّقتم كلّ ممزّق؛ أي: مزقت أجسادكم بعد الموت وأصبحت عظاماً ورفاتاً أو في بطون السّباع أو البحار أو الطّير أو القبور، والتّمزق: تعريفه هو إتلاف الشّيء بحيث لا يمكن إصلاحه أو إعادته أو جمعه مرة أخرى، أمّا التّقطع: هو قطع الشّيء إلى كتل: وقطعناهم في الأرض أمماً، في التّقطّع هناك إمكانية الجمع وليس كما هو الحال في التّمزق لشدة إنكارهم للنشر والبعث.
{إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} : تعني تقطّعت أوصالكم فلم يبق عضو متصل بعضو آخر أو شيء متصل بشيء من أبدانكم، كما في قوله:{ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ} [السّجدة: 10] أي: غبنا في متاهة الأرض أو تبعثرت ذرات أجسادكم واختلطت بتراب الأرض.
{إِنَّكُمْ لَفِى} : إنّكم للتوكيد، لفي: اللام للتوكيد، في: ظرفية.
{خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أي تخلقون من جديد؛ أي: يؤكد لكم أنّه سيتجدد خلقكم، وتخلقون مرة أخرى.
سورة سبأ [34: 8]
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} : الهمزة والإنكار والتّعجب، وأفترى: تعني تعمّد الكذب حين زعم أنّا سنبعث ولفي خلق جديد؛ أي: لا ندري أهو مفترٍ على الله أم به جنة (أي مجنون أو به جنون) قالوا ذلك عن الرّسول، وهم أنفسهم كانوا يصفون رسول الله بالصّادق الأمين، ثمّ يردّ الله سبحانه على هؤلاء فيقول بل: الّذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضّلال البعيد.
{بَلِ} : للإضراب الإبطالي؛ أي: ليس رسول الله هو الكاذب ولا المجنون البتة، بل هم الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الكذَبة الجهَلة.
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير.
{لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : لا النّافية، لا يؤمنون بالآخرة: لا يصدقون؛ أي: يجحدون بالبعث والحساب ويوم القيامة، بالآخرة: الباء للإلصاق والدّوام.
{فِى الْعَذَابِ} : مقابل اتهامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالافتراء.
{وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} : مقابل وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؛ أي: الجنون، أي: هم في الضّلال البعيد عن الحق أو البعيد في الدّنيا والّذي من الصّعب العودة منه إلى طريق الهدى، وليس هو صلى الله عليه وسلم.
سورة سبأ [34: 9]
{أَفَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّقريع.
{يَرَوْا} : رؤية بصرية ورؤية قلبية فكرية، يروا: بصيغة المضارع تفيد التكرار المرة بعد الأخرى أو يجددوا ويعيدوا النّظر؟ ارجع إلى سورة السجدة آية (26)، وسورة لقمان آية (20) لمعرفة الفرق بين أفلم، أولم، ألم.
{إِلَى مَا} : إلى تفيد عموم الغاية، ما بمعنى الّذي.
{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : أي أمامهم من السّماء والأرض، فالسّماء والأرض محيطة بهم، أو السّماء المرفوعة بلا عمد أو الآيات الكونية في السّماء والأرض كالشّمس والقمر والجبال والبحار.
{وَمَا خَلْفَهُم} : أي وراءهم من السّماء والأرض.
{مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : ما فيهما من آيات كونية تدل على قدرة الخالق وعظمته ووحدانيته، من ابتدائية، السّماء تضم السّموات السبع.
{إِنْ نَّشَأْ} : إن شرطية تفيد النّدرة أو الاحتمال أو الشّك.
{نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} : نخسف بهم؛ أي: بالكفار المنكرين للبعث والّذين يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفرون به؛ أي: كما فعلنا بقارون، أي: الخسف.
{أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} : أو: للتخيير، نسقط عليهم كسفاً من السّماء: كسفاً جمع كسفة: أي قطعاً. ارجع إلى سورة الشعراء آية (187) للبيان.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ: للتوكيد، في ظرفية، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى خسف الأرض أو إسقاط كسفٍ من السّماء.
{لَآيَةً} : اللام للتوكيد، آية: كلّ من الخسف أو الإسقاط آية عظيمة تدل على قدرة الخالق على البعث والحساب، ويستفيد منها العبد المنيب في زيادة إيمانه ويقينه.
{لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} : لكلّ: اللام لام الاختصاص، كلّ تفيد التّوكيد، عبد منيب: عبد منيب كثير الإنابة، والإنابة: السّرعة في التّوبة والرّجوع إلى الله؛ أي: كلما أذنب أعقبها بالتّوبة والاستغفار.
سورة سبأ [34: 10]
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق تحقق وحدث ما نذكره بشأن داود.
{آتَيْنَا} : الإيتاء هو العطاء، ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة الفرق.
{دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} : داود بن ايشا بن عويد، يرجع نسبه إلى يهوذا بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام ، وتقديم داود على المفعول للاهتمام، منا فضلاً: أي آتيناه النّبوة والزّبور والملك والصّوت الحسن، وصنع السّابغات والدّروع وتسخير الجبال والطّير وألنّا له الحديد، منّا: تقديمها يفيد القصر أو الاختصاص، فضلاً: الشّيء الزائد على غيره من الأنبياء؛ أي: آتيناه الكثير من النّعم الّتي لم نعطها لكثير من الأنبياء.
{يَاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ} : التّأويب: التّسبيح، وأوّبي: رجعّي معه ما يقول (كما يحدث في انعكاس صدى الصوت من الجبال) أي: ردّدي معه ما يقرأ من الزّبور أو الذّكر.
{وَالطَّيْرَ} : منصوب بالعطف على يا جبال، أو مفعول به أو على النّداء والتّقدير: يا جبال أوّبي معه ويا طير أوّبي معه؛ أي: ردّدي معه؛ أي: يا جبال ويا طيور سبّحي مع داود.
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} : جعلناه ليِّناً بدون حاجة إلى النّار أو إلى المطرقة، وهذه من المعجزات الأخرى لداود عليه السلام ، فكان الحديد في يده مثل العجين أو الطّين الصّلصال.
سورة سبأ [34: 11]
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} : أن تعليلية (مصدرية) أو التّقدير: ألنّا له الحديد لعمل السّابغات، أو أمرناه أن اعمل سابغات، أو لأن يعمل سابغات: صفة للدروع؛ أي: اعمل دروعاً سابغات فذكر الصّفة وحذف الموصوف؛ لأنّ الصّفة تدل على الموصوف، والسّابغات: هي الدّروع الواسعة الّتي تغطي كامل الجسم (تلبس في الحرب).
{وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ} : السّرد: النّسج، ويقال لصانع الدّروع: سَرَّاد؛ أي: انسج الدروع بحيث تكون متناسبة الحلق فلا ضيقة ولا واسعة؛ أي: متّسقة بحيث تدخل الحلق بعضها في بعض، ولها معنى آخر: أي اعمل من السّابغات على قدر ما تحتاج فقط.
أمّا سبب تعليمه نسج السّابغات الدّروع قيل: إنّ داود عليه السلام كان يأكل من بيت المال وينفق على عياله، وانتبه النّاس إلى هذه الخصلة فعاب عليه النّاس، فشعر داود بالألم فسأل الله تعالى أن يعلّمه صنعة ليعيش منها. ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام عن طريق إسحاق بن بشر عن وهب عن ابن المنبه. وقيل: كان يبيع الدّرع فيأخذ من الأجر له ولعياله ويوزع الباقي على بني إسرائيل.
{وَاعْمَلُوا صَالِحًا} : الخطاب موجَّهٌ إلى داود وآل داود (أولاده وأهله) أي: اشكروا الله على منّته عليكم بأن علّمكم صنع السّابغات ورزقكم من فضله واعملوا الفرائض والواجبات.
{إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} إنّي: للتوكيد، بما: الباء للإلصاق والدّوام، ما: اسم موصول بمعنى الّذي تعملون أو مصدرية؛ أي: رقيب ومطّلع على ما تعملون (من عمل السّابغات وبيعها والأمانة).
وفي سورة الأنبياء الآية (80) قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} .
سورة سبأ [34: 12]
المناسبة: بعد ذكر فضل الله تعالى على داود الأب يذكر فضله على ابنه سليمان بن داود.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} : ولسليمان: اللام لام الاختصاص؛ أي: سخرنا لسليمان الرّيح، غدوها: من غدا: السّير أوّل النّهار (من الصّباح إلى وقت الظّهر وقت الزّوال)، ورواحها: العودة آخر النّهار (من الظّهر إلى المغرب وقت الغروب)، ورواحها مصدر: راح يروح، غدوها شهر: أي جريها أو سيرها بالغداة مسيرة شهر، ورواحها شهر: أي جريها بالعشي مسيرة شهر؛ أي: سرعة جريان الرّيح يساوي مسيرة شهرين أو مسافة ما تقطعه الرّيح في (24) ساعة يعادل مسيرة شهرين، وكلمة الرّيح في القرآن تحمل معنى الشّر وأمّا الرّياح فتحمل معنى الخير، وبما أنّها ريح قوية أعطت سليمان القوة والمنعة والغلبة فهي ريح خاصة به مغايرة لغيرها من الرّيح يتصرف بها كيف يشاء.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} : أي وسخرنا له عيناً تنبع بالنّحاس كما ينبع الماء من العين، النّحاس المذاب ويسمى: القِطر، كما ألنّا لأبيه الحديد، وقيل: استمر سيلانه ثلاثة أيّام.
{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} : من: بعضية؛ أي: بعض الجن وليس كلّ الجن، وهم الشّياطين كما قال تعالى:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء: 83]، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37]، يعمل بين يديه بإذن ربه: أي بأمر ربه، بين يديه: أي: ما يطلبه منهم فقط، مثال:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} أي: أمرهم الله بطاعة سليمان وهناك قسم من الجن لم يُسخر له.
{وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} : من: شرطية، يزِغ منهم عن أمرنا: زاغ عن الأمر: عدل عنه أو مال؛ أي: من يعدل من الجن عن أمرنا، أي ما يأمر سليمان بعمله مثل المحاريب والتّماثيل والغوص وغيره من الأعمال، أي من يعصِ من الجن أمر سليمان كأنّه يعصي أمر الله تعالى.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} : منهم من قال: عذاب السّعير في الآخرة، ومنهم من قال: في الدّنيا كان يعذب من يزِغ بسوط من نار، كما روى ابن عباس.
سورة سبأ [34: 13]
{يَعْمَلُونَ لَهُ} : أي الجن يعملون لسليمان، له خاصة وليس لغيره، وتقديم له يدل على الحصر والاختصاص.
{مَا يَشَاءُ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي يشاء، و"ما" أوسع وأشمل من الّذي.
{مِنْ مَحَارِيبَ} : من: ابتدائية بعضية ولبيان الجنس، محاريب: جمع محراب يطلق على المكان الّذي يتخذه النّاس للعبادة أو أبنية كالقصور الفخمة العالية المجاورة لأمكنة العبادة.
{وَتَمَاثِيلَ} : جمع تمثال وهو ما ينحت على هيئة أو صورة إنسان (نبي أو عالم) أو حيوان من حجر أو خشب أو نحاس أو رخام أو غيره من المواد، وقيل: إن هذه التّماثيل كانت مباحة في الشّرع القديم ولم تصنع بنية الشّرك أو العبادة، أو صُنعت على شرط أن لا تُعبد، ثمّ نسخت الإباحة بعد مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} : الجفان: جمع جَفْنة وهي القصعة الكبيرة: الصّواني الكبيرة يأكل منها العشرة من النّاس، كالجواب: الكاف كاف التّشبيه، والجواب: الحوض شَبَّه القصعة الكبيرة بالحوض في السّعة والضّخامة، وهذا كناية عن كرم سليمان وكثرة إطعامه الطّعام.
{وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} : جمع قدر وهي للطبخ واسعة كبيرة صعب أن تحمل؛ أي: ثابتات لا تتحرك من أماكنها.
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} : أي: أدوا الحقوق التي عليكم فيما أتاكم الله من النعم؛ أي: اعملوا الصّالحات شكراً لله تعالى على ما آتاكم؛ أي: أطيعوا الله ربكم واشكروا الله على نعمه، أو اعملوا شاكرين، والشّكر لا يكون فقط باللسان بل بالعمل، ولا يكفي أن يكون باللسان بل بالطّاعة والعبادة والإحسان، والنفقة، وأن تؤدي حق الله تعالى في المال والعلم والنعم.
{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} : أي: العدد قليل من عبادي الذين يشكرون الله وهذا العدد عدد الشاكرين من النّاس قليل أو الكمية؛ أي: كمية أو مقدار الشّكر الصّادر من النّاس قليل، وقد تعني كلا الأمرين.
سورة سبأ [34: 14]
{فَلَمَّا} : الفاء: عاطفة، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين متضمنة معنى الشّرط.
{قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} : قضينا من القضاء وهو ما كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يقع، وقيل: حكمنا، وأمّا القدر فهو: ما وقع تصديقاً لذلك القضاء؛ أي: حكمنا على سليمان بالموت، فالموت قضاء كقوله:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزّمر: 30]، فالموت لا مفر منه وسواء كان الموت بسبب أو بغير سبب أو موتاً عادياً بسبب الكبر أو الموت بمرض أو بكارثة أو كرب كلّه قضاء.
قضينا عليه الموت: على سليمان بأن تقبض روحه وهو قائم يصلي في المحراب ومتوكئٌ على منسأته (عصاه) ولم تعلم الجن بموته، وبقي الجن يعملون أعمالهم الّتي بدؤوها وكذلك الإنس لم يعلموا بموته، ولو علم الجن (الشّياطين) الغيب؛ أي: علموا بموت سليمان، ما لبثوا في العمل والتّعب طوال تلك المدة حتّى أكلت دابة الأرض منسأته فخرّ، وعندها تبيّنت الجن موته وتبيّن للجن أنّهم لا يعلمون الغيب، وتبيّن للإنس أيضاً أنّ الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يظنون خطأ. وموته بهذا الشكل كشف كثير من الحقائق للناس والجن عما افتروه على سليمان كما سنرى.
{مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} : ما: النّافية، دلّهم على موته: الضّمير يعود على الجنّ؛ أي: ما دلّ الجن على موت سليمان.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{دَابَّةُ الْأَرْضِ} : قيل: هي الحشرة الّتي تأكل الخشب وتسمى: الأرضة أو العتة.
{تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} : أي تقرض منسأته؛ أي: تأكلها شيئاً فشيئاً، والمنسأة: هي العصا، وأمّا لماذا سميت مِنسأة: مشتقة من: نسأ؛ أي: أخّر وسميت منسأته وليس عصاه؛ لأنّها كانت سبباً لتأخير معرفة الجن بزمن موت سليمان، فقد كان سليمان عليه السلام يعبد الله قائماً؛ أي: واقفاً حتّى يتعب فيراوح بين قدميه ويستعين بالعصا متكئاً عليها، وسميت العصا: منسأته؛ لأنّه يؤخّر بها الغنم أو الإبل؛ أي: تزجر بها أو تساق كي تغير طريقها أو مرعاها فهي آلة الزّجر. (تأخير) وسوق، ومنسأة سليمان كانت تسوق الجن للعمل لسليمان عليه السلام ، وكذلك أخرت الجن من العلم بموت سليمان، ولذلك لبثوا في العذاب المهين مع أن سليمان كان ميتاً.
{فَلَمَّا خَرَّ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة: خرّ: سقط على الأرض بشكل غير عادي أو بلا ترتيب مثل الهبوط على ركبتيه والاستعانة بيديه، سقط بلا نظام.
{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} : انكشف وظهر كذب الجن أنّهم يعلمون الغيب، وكذلك تبيّنت الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب.
{أَنْ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} : أن للتوكيد، لو: شرطية، يعلمون الغيب: كما زعموا باطلاً، لعلموا بزمن موته مباشرة.
{مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : ما بقوا يعملون الأعمال الشّاقة الّتي فرضت عليهم من سليمان من قبل موته، وهم يظنونه حياً وكانوا يظنون أنّهم خير من الإنس، وكيف سخّروا لخدمة سليمان وهو أدنى منهم! فقد خلقوا من نار والإنس خلقت من طين، وأنّهم يعلمون الغيب والإنس لا يعلمون.
وقيل: أرادوا أن يعرفوا زمن موته فجاؤوا بعصا مشابهة. والأرضة (دابة الأرض) فقدّروا ما أكلت في زمن معيّن، فوجدوا أنّه قد مات منذ سنة ورغم هذا الملك العظيم مات سليمان عليه السلام وكان عمره (53) سنة، وقيل: كان ملكاً وهو ابن (13) عاماً وبقي في ملكه (40) عاماً وبدأ إعادة بناء المسجد الأقصى وهو ابن (40) عاماً.
ولماذا حدث هذا الأمر العجيب: أن تقبض روح سليمان وهو قائم يصلي متكئاً على منسأته ولم يخرّ على الأرض بعد موته حتّى تأكل دابة الأرض منسأته؟ قيل: كان النّاس يظنون أنّ الجن تعلم الغيب فأراد الله سبحانه أن يثبت للناس أنّ الجن ولا غيرهم من الإنس يعلمون الغيب وما يزعمونه من علم الغيب هو أمر باطل، فلو كانوا يعلمون الغيب؛ أي: موت سليمان، ما لبثوا في العذاب المهين.
وقيل: إنّ سليمان عليه السلام دعا ربه أن يعمّي على الجن موته فاستجاب له ربه؛ حتّى ينكشف ويعلم النّاس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ويظهر كذب الجن وما افتروا على سليمان ما جاء به السحر، ارجع إلى الآية (102) من سورة البقرة لمزيد من البيان. وقيل: لأنّه بقي على عمارة بيت المقدس بقية؛ ولكي يتمّوا عمارة المسجد الأقصى، والله أعلم.
سورة سبأ [34: 15]
المناسبة: بعد ذكر طرفٍ من قصة سليمان، يذكر طرفاً من قصة قوم سبأ الّذين بسبب كفرهم وعدم شكرهم أصابهم سيل العرم، وحلّ بهم العذاب ومزقهم كلّ ممزق.
{لَقَدْ} : اللام لام التّوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: قد تحقق وحدث لقوم سبأ ما سنذكره بعد قليل.
{كَانَ} : للماضي.
{لِسَبَإٍ} : اللام: لام الاختصاص أو الاستحقاق، سبأ: اسم جد، اسم ابن يشحب بن يعرب بن قحطان، تعدى اسم الجد ليكون اسماً للقبيلة، ثمّ اسماً للمكان الّذي كانوا يسكنونه، إذن سبأ: يدل على اسم الجد، أو اسم القبيلة، أو اسم المكان الّذي كانوا يسكنونه.
{فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} : في مكان إقامتهم في سبأ أو مأرب، آية: أي شيء عجيب نادر، آية دالة على عظمة الله وقدرته.
{آيَةٌ جَنَّتَانِ} : أي الآية جنتان، لا يقصد بالآية الجنتين نفسيهما، وإنما قصتهما هي الآية.
{عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} : عن يمين الوادي وعن شماله، يمين ويسار الوادي كلّها فواكه وخضر وكانت أخصب البلاد.
{كُلُوا مِنْ رِّزْقِ رَبِّكُمْ} : قيل لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له؛ تذكيراً لهم: حيث كانت الثّمار تتساقط بكثرة وتمتاز بالجودة ومما يطيب أكله وطعمه، والخالية من الإصابة بالحشرات.
{وَاشْكُرُوا لَهُ} : الأكل مع الشّكر؛ أي: لا تنسوا المنعم وتنشغلوا بالنّعمة، اشكروا له باللسان والعمل الصّالح والطّاعة، اشكروا له ليزيدكم من النّعم والفضل.
{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} : بمائها العذب وهوائها العليل، مطمئنة آمنة خالية من الأمراض والفيضانات والسّيول والكوارث الجوية.
{وَرَبٌّ غَفُورٌ} : غفور: صيغة مبالغة من غفر؛ أي: يعفو عن سيئاتكم ويثيبكم على أعمالكم الصّالحة ويمدكم بنعمه.
سورة سبأ [34: 16]
{فَأَعْرَضُوا} : الفاء للمباشرة والتّرتيب، أعرضوا: عن شكر المنعم وجحدوا بنعمه، وكفروا بالله، وقيل: بعث الله سبحانه لهم عدة أنبياء يدعونهم إلى عبادة الله تعالى ويذكرونهم بنعمه، فكذبوهم وأنكروا نعمه، والإعراض هو أن لا تستمع إلى المحدّث وتنصرف عنه ولا تؤمن بما يقوله، فماذا كانت النّتيجة:
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أرسلنا عليهم سيل العرم بعد أن انهار سد مأرب مما أدى إلى سيل العرم: فطافت الأرض والجنان والبيوت، وغرقت البساتين والثّمار بسبب سيل العرم الّذي لا يطاق؛ لشدته والمندفع بقوة وغزارة، سيل: هو الماء الّذي يسيل على وجه الأرض بعد أن تشرب الأرض منه، العرم: السّيل المندفع بشدة لا يطاق لغزارته، يؤدي إلى الفيضان وإتلاف الحصاد والحب والثّمار والمنازل والأثاث، وغرق الكثير من النّاس.
{وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} : بعد أن سبّب سيل العرم الدّمار والخراب وإهلاك الحرث، تحولت جنتاهم إلى جنتين ذواتي أُكلٍ خمطٍ مرِّ الطّعم وحامض.
{وَأَثْلٍ} : شجر لا ثمر له كثير الأغصان.
{وَشَىْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} : شجر النّبق قليل الفائدة قليل الثّمار، شجر ذو أشواك. وسمّى الجنتين ذواتي الأُكل الخمط والأثل وشيء من سدر قليل:"جنتين" على سبيل التّوبيخ والتّهكّم وكان بإمكان الخالق أن يجعلهما جنتين خاويتين على عروشهما، ولكن يريد أن يذكّرهم ويريهم بأمّ أعينهم قدرته على إهلاك أشجارهم المثمرة وإبدالها بأشجار لا ثمار لها لتكون عليهم حسرة.
سورة سبأ [34: 17]
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد ويشير إلى السّيل العرم والتّبديل الّذي حدث للجنتين.
{جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} : أي جزاءً لهم، بما: الباء: باء السّببية، وما: اسم موصول أو مصدرية، كفروا؛ أي: بسبب كفرهم بأنعمِ الله، والإعراض والتّكذيب بالرّسل والإيمان بالله.
{وَهَلْ} : استفهامية تفيد التّقرير والتّوبيخ والنّفي؛ أي: وما نجازي إلا الكفور.
{نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ} : الجزاء نوعان: عام وخاص، العام هو للكافر والمؤمن، والجزاء الخاص للكافر وحده، إلا: أداة حصر، الكفور: صيغة مبالغة: كثير الكفر، ولم يقل إلا الكافر، الكافر يعني: من يستر ويجحد بنعم الله تعالى مرة أو مرتين، أمّا الكفور: فهو شديد الكفر المصرّ على رفض الشّكر والجحود وعدم الاعتراف بالمنعم على الدّوام.
سورة سبأ [34: 18]
ويعود سبحانه في هذه الآية ليذكرهم بالإضافة إلى الجنتين عن يمين وشمال والبلدة الطّيبة الّتي كانوا يعيشون فيها.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} جعلنا بينهم: بين قوم سبأ وبين القرى الّتي باركنا فيها بالخيرات والماء والثّمار وشجر الزّيتون؛ ويعني بلاد الشّام، القرى: جمع قرية، والقرية اسم لمكان فيه مساكن ومقومات الحياة من طعام وشراب.
{قُرًى ظَاهِرَةً} : متقاربة متواصلة ظاهرة للعيان لا تبعد عن بعضها البعض كثيراً.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} : أي كان المسافر يعلم مقدار المسافات بين هذه القرية وتلك القرية، وكم يحتاج من زمن للوصول إلى الأخرى، وقدّرنا فيها السّير؛ أي: البعد أو المسافة والزّمن كم كيلو متراً أو كم ساعة.
{سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} : سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنّهار آمنين لا تخافون من جوع أو خوف أو قطع طريق أو القتل والسّرقة، ليالي: جمع ليلة، وأيّاماً: اليوم يعني النّهار (من شروق الشّمس إلى غروبها) وليس (24) ساعة، سيروا فيها عدة أيّام وليالي مرتاحين مطمئنين وهذا من فضل الله ورحمته بكم ونعمه الّتي لم تشكروه عليها.
سورة سبأ [34: 19]
لم يكتفوا بأن جحدوا بنعم الله سبحانه بل تمادوا في البطر وملّوا النّعم كما حدث لبني إسرائيل طلبوا البقل والقثّاء والفُوم والعدس والبصل بدلاً من المنّ والسّلوى، فلم يشكروا نعمة الله على أن قارب بين قراهم، وكأنّهم تمنّوا وطلبوا من الله أن يباعد بين أسفارهم؛ أي: أن يباعد بين مسافات أسفارهم؛ أي: قراهم فلا يجعلها قريبة من بعضها حتّى يحتكروا التّجارة لوحدهم فلا يخرج إليها الكثير؛ لبعد المسافات والمشقة وعدم الأمن.
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} : ولها معنًى ثانٍ؛ أي: قالوا ربنا باعد بين أسفارنا؛ أي: جعلها بعيدة عن بعضها البعض رغم كونها قريبة من بعضها كأنّهم استبعدوا أسفارهم بطراً وتعنتاً، وهذا هو الأرجح.
{وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} : بالكفر وجحود النّعمة والبطر وعدم التّوبة.
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ أي: أهلكناهم وجعلناهم أحاديث لمن بعدهم؛ أي: قصة أو حكاية يتحدث بها النّاس يتعجبون بما فُعِل بهم، أحاديث تدل على كثرة الحديث عنهم فالكلّ يتحدث عنهم ويذكرهم.
{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} : مزقناهم في البلاد بحيث لا يمكن جمعهم مرة أخرى. والتّمزيق يعني: يتناول كلّ الأجزاء؛ أي: مزقناهم في متاهات الأرض وقيل: لحقت الأوس والخزرج بيثرب (المدينة المنورة) وغسان وجذام ولخم بالشّام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة فكانت العرب تضرب بهم المثل في التّفرق والتّشرد فتقول: تفرقوا أيدي سبأ أو أيادي سبأ.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إنّ: للتوكيد، في: ظرفية، أي فيما حدث لسبأ، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد، وتشير إلى إسباغ النّعمة على سبأ وكفرهم بها وعدم شكر المنعم وبطرهم وظلمهم للفقراء ومحاولتهم احتكار النّعمة لأنفسهم وما فُعل بهم بعد ذلك، لآيات: اللام للتوكيد، آيات وليس آية؛ أي: عبراً كثيرة.
{لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} : لكلّ: اللام لام التّعليل، صبار: صيغة مبالغة: كثير الصّبر على ظلم الطغاة وتحمّل أذاهم، وكثير الصّبر على طاعة الله وعن المعاصي وعلى المصائب، أو مليء بالصّبر كماً وكيفاً، شكور: كثير الشّكر صيغة مبالغة من: شكر، شكور لنعم الله فلا يجحد بها مهما قلّت أو كثرت، أو كثير الشّكر لله أن جعله يصبر على الظالمين.
سورة سبأ [34: 20]
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :
لا زالت الآيات في سياق الحديث عن سبأ وما أصابهم.
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي تحقق ما تتحدث عنه الآية وهو:
{صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} : صدَّق شدّد الدّال ولم يقل صَدَق: أي بذل إبليس قصارى جهده من الوسوسة والإغراء والتّزيين والإضلال لقوم سبأ حتّى تحقّق ظنه عليهم؛ أي: على سبأ، وعلى تفيد العلو والمشقة؛ أي: تغلب عليهم بإغوائه، والظّن: بمعنى الشّك الرّاجح، والشّك هو التّردد بين أمرين النّفي والإثبات، والظّن الّذي ترجح فيه كفة الإثبات، وظنه: غايته وهي: أي يتبعوه فاتّبعوه وكفروا بنعم الله وجحدوا بها وأعرضوا عن الإيمان وكان مصيرهم التّمزق والهلاك وأصبحوا عبرة لغيرهم، وغاية الشّيطان أن يقود الإنسان ليكفر بنعم الله وينكرها ويكذب ويعرض عن الإيمان بربه مما يؤدي به إلى الهاوية، والله سبحانه حذر من ذلك وقال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
{فَاتَّبَعُوهُ} : ساروا وراء الشّيطان واتبعوا خطواته (في الوسوسة والتّزيين والإغواء) وحقق الشّيطان ظنه ونال غايته منهم إلا فريقاً من المؤمنين.
{إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : إلا: أداة استثناء، فريقاً من المؤمنين: لم يستطع إبليس أن يغويهم ويحقق ظنه فيهم، آمنوا بالله واتبعوا الرّسل وشكروا الله على نعمه وصبروا على ما أصابهم في سبيله.
سورة سبأ [34: 21]
{وَمَا كَانَ لَهُ} : ما النّافية، كان لإبليس، له: اللام لام الاختصاص، والضمير يعود على الشّيطان.
{عَلَيْهِم مِنْ سُلْطَانٍ} : عليهم: على سبأ، من: استغراقية؛ أي: سلطان مثل سلطان القهر والغلبة أو سلطان الحجة والبرهان؛ أي: لم يجبرهم بالقوة أو القهر أو الحجة والإقناع وإنما بالوسوسة والإغراء والتّزيين بالشّهوات والجشع.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ} : لنعلم: اللام للتعليل؛ أي: ما تركنا، أو أذنّا لإبليس بإغوائهم وإغرائهم والتّزيين إلا فقط لنقيم عليهم الحجة في الآخرة؛ لأنّ الله سبحانه لا حاجة له بهذا العلم لأنّه يعلم منذ الأزل وقبل خلقهم ما سيعملونه؛ أي: ليعلموا هم أنفسهم ما عملوه في الدّنيا فتقام عليهم الحجة، فلا يدّعوا أنّ الله لم يبتليهم، من يؤمن بالآخرة: الباء للإلصاق والدّوام يؤمن: يصدق بالآخرة والبعث والحساب والجزاء والجنة والنّار، ممن هو في شك: هو تفيد التّوكيد، منها في شك: في تردد، والشّك: تساوي كفة النّفي وكفة الإثبات؛ أي: ممن يكذب بالآخرة ولا يصدق بها.
{وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} : حفيظ: صيغة مبالغة من الحفظ، يحفظ أعمال العباد ليجازيهم عليها من خير أو شر، يحفظ عباده وأولياءه من مكايد الشّيطان والوقوع في الذّنوب والمعاصي واتّباع الشّيطان والمهالك، يحفظ خلقه وكونه حتّى تنقضي آجالهم.
سورة سبأ [34: 22]
المناسبة: بعد ذكر قصة داود وسليمان وقصة قوم سبأ يعود سبحانه لمخاطبة مشركي قريش فيقول:
{قُلِ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل للمشركين من قريش وغيرهم.
{ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ} : ادعوا: أي نادوا على هؤلاء الأصنام والآلهة أو غيرهم من الّذين زعمتم أنّهم شركاء، الّذين: اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير، الّذين: تفيد المعرفة؛ أي: ادعوا شركاءكم الّذين زعمتم: من الزّعم وهو القول غير المستند إلى دليل وأكثر ما يقع الزّعم في الباطل، من دون الله: من غير الله من الأصنام والآلهة، نادوهم ليكشفوا عنكم الضّر أو ينفعوكم أو ادعوهم ليستجيبوا لكم فهم لا يضرون ولا ينفعون، قل ادعوا: وهل دعوا كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ طبعاً لا؛ لعلمهم أنّ هذه الأصنام أو الآلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب فهم لم يدعوا، ولنفرض أنّهم دعوا آلهتهم واستجابوا وسمعوا فإنّهم لا يملكون مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض ليكونوا شركاء، ارجع إلى سورة يونس الآية (61) لبيان معنى ذرة.
{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} : لا يملكون ذرة بشكل مستقل (خاص) ولا يملكون ذرة بشكل شراكة مع الله، وتكرار لا: يفيد النّفي، وما لهم: تعود على الآلهة والأصنام وما يعبدون من دون الله، فيهما: في السّموات والأرض من شرك اسم بمعنى المشارك أو الشّريك ولو بأدنى نسبة كالذرة، وما له: أي لله تعالى، له: اللام لام الاختصاص، منهم: من هؤلاء الشّركاء.
{مِنْ ظَهِيرٍ} : من استغراقية، ظهير: أي مُعين على أيّ شيء مهما كان، ظهير: مشتقة من الظّهر وهو أقوى الأعضاء للحمل؛ أي: يحمل عنك: يُعينك في حمل الأثقال، من ظهير: معين يحتاج الله سبحانه إليه أو بحكم حاجة الرب إليه يدعوه يشفع.
إذن فلمَ تعبدونهم وهم لا يملكون ذرة في السّموات ولا في الأرض؟! وأيضاً ليسوا شركاء وليسوا شفعاء، ولا ينفعوكم ولا يضرون، ولو بمقدار ذرة في السّموات والأرض، فمسألة الشّركاء مسألة باطلة.
سورة سبأ [34: 23]
المناسبة: في الآية السّابقة ذكر الآلهة وعدم ملكها ذرة في السّموات والأرض وليس لها شراكة فيهما.
{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} : هذه الآية ردٌّ على من يزعمون أن الآلهة تشفع لهم عند الله، الواو: عاطفة، لا: النّافية، الشّفاعة: ارجع إلى الآية (85) من سورة النّساء للبيان. ولا تنفع أو تقبل الشّفاعة، يوم القيامة للنفس المشفوع لها (وهي النّفس الّتي تنفعها الشّفاعة) عنده: عنده تعالى، إلا: أداة حصر، لمن: اللام لام الاختصاص، من: اسم موصول بمعنى الّذي، أذن له: من الملائكة أو النّبيين أو الصّالحين من النّاس، فالإذن هذا هو الشّرط الأوّل من شروط قبول الشّفاعة، أن يأذن له الله سبحانه للشافع حتّى يشفع للمشفوع له كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والشّرط الثّاني: أن يأذن للمشفوع له (أو النّفس المشفوع لها) بالشّفاعة، ومن شروط الإذن أن يكون أو تكون من أهل التّوحيد، إذن لا بدّ من إذن لمن أراد أن يشفع ولا بد من إذن لمن أريد الشّفاعة له، الشّرط الثّالث: هو لمن ارتضى: كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْـئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النّجم: 26]، وقوله تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، أي: ارتضى بمعنى: أن يقبل الله هذه الشّفاعة حتّى ولو كان الشافع والمشفوع له أهلاً للشفاعة، ويبقى الحكم بالقبول لله تعالى وهذا تأكيد لإبطال شفاعة هذه الآلهة عند الله.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} : حتّى: حرف نهاية الغاية، إذا: شرطية تفيد الحتمية، فزِّع عن قلوبهم؛ أي: كشفَ وأزيل عن قلوبهم الفزع: الخوف الشّديد المفاجئ مع توقع مكروه، هذا الفزع يحدث حين انتظار الإذن لمن يشفع؛ أي: للشافع وللمشفوع له فالكلّ قلق أيؤذن للشافع أم ترد شفاعته ولا يشفع، وما نتيجة الشّفاعة تقبل أو لا تقبل، والمشفوع له هل هو أهل للشفاعة أم لا، والانتظار والتّربص كلّ ذلك يؤدي إلى فزع الكلّ حتّى تتم الشّفاعة وتقبل وعندها يزول الفزع عن قلوبهم يقول بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الشّفاعة؟
{قَالُوا الْحَقَّ} : أي وهو الإذن بالشّفاعة لمن ارتضى: أي اختار.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَلِىُّ} : فوق خلقه وقهره وجبروته. ارجع إلى سورة الحج الآية (62).
{الْكَبِيرُ} : ارجع إلى سورة الرّعد الآية (9).
وبعض المفسرين قالوا: إنّ الضّمير في قوله: "حتّى إذا فزّع عن قلوبهم"(أي قلوب الملائكة) فقد روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السّماء صلصلة كجرّ (أي سحب) السّلسلة على الصّفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم فزّع عن قلوبهم؛ أي: زال الخوف عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق؛ أي: الصدق، فينادون: الحق الحق. رواه أبو داود والسيوطي والبيهقي وابن جرير.
وفي رواية أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إذا قضى الله عز وجل الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان (حجر أملس) فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال الحق (الله) وهو العلي الكبير. رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
سورة سبأ [34: 24]
في الآية (22) قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: الآلهة المزعومة الّتي لا تملك لكم الشّفاعة.
وفي هذه الآية (24) قال تعالى: {مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : والآلهة المزعومة لا ترزقكم أيضاً.
{قُلِ} : قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين من أهل مكة وغيرهم عبَدَة الأصنام والأوثان.
{مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : من: للاستفهام والتّقرير، ومن: للعاقل وتشمل المفرد والجمع؛ يعني: من يرزقكم المطر والشّمس والطّاقة والرّياح، ومن الأرض: مثل النّبات والحب والأرز والمعادن والثّمار والبترول والغاز والذّهب والفضة وغيرها.
قل الله: أي إذا لم يجيبوا على سؤالك، قلِ: الله، وإذا أجابوك وقالوا: الله، أقيمت عليهم الحجة فقل لهم: فلمَ تعبدون سواه، ولا تؤمنون به وحده؟
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : انتبه هنا قدّم إنّا على إياكم وقدّم الهدى على الضّلال، إنّا تناسب الهدى، وإنّا لعلى هدى أو إياكم وأنتم في ضلال مبين، والهدى والضلال من المتناقضات والمتناقضان لا يجتمعان أبداً؛ أي: إن كان أحدنا على الهدى فلا بُدَّ أن يكون الآخر في الضلال ولا ثالث لهما.
واستعمل لعلى هدى (على) تفيد الاستعلاء؛ لأنّ الّذي على الهدى كأنّه راكب على مطية اسمها الهدى لكي توصله إلى غايته، وهو متمكن منها على ظهرها لا يخاف السّقوط أو الانحدار، ولم يقل أو على ضلال مبين وإنما قال: في ضلال مبين؛ لأنّ الضّلال هو انحدار وسقوط والضّال عادة يكون منغمساً في الظّلمات وليس بخارج منها.
والضّلال المبين: الضّلال الظّاهر والواضح لكلّ فرد يريد أن يطّلع عليه، والمبين يعني: الواضح بنفسه لا يحتاج إلى أحد حتّى يظهره.
وهذا من أدب الحوار مع غير المؤمنين لإقناعهم بخطئهم حتّى يقرّوا بأنفسهم ويعلموا الحق.
سورة سبأ [34: 25]
{قُلْ لَا تُسْـئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْـئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} :
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله؛ أي: للمشركين من قريش.
{لَا تُسْـئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} : لا النّافية، تسألون عما أجرمنا: النّون في "تسألون" للتوكيد، عما أجرمنا: عن تفيد المجاوزة والمباعدة، ما بمعنى الّذي أو مصدرية، أجرمنا: الإجرام: هو التمرد على أوامر الله ونواهيه، ورفض الخضوع إليها. ارجع إلى الآية (32) من نفس السورة؛ أي أذنبنا، بصيغة الماضي؛ أي: كأن الإجرام حدث أو وقع من قبلنا، والفرق بين أجرمنا وتجرمون: أجرمنا في الماضي ومرة واحدة، تجرمون: ليس إجراماً واحداً بل هو إجرام مستمر يتجدد ويتكرر، كقوله تعالى:{وَأَنَا بَرِاءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 25] أي: أنتم لستم مسؤولين عن إجرامنا؛ أي: إن كانت عبادتنا وطاعتنا لله تعالى جريمة أو ذنباً فلستم مسؤولين عنها.
{وَلَا نُسْـئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} : لا النّافية، نُسأل عما تعملون ولم يقل عما تجرمون مع أنّهم هم المجرمون حقاً، وقال بدلاً عنها: عما تعملون بصيغة المضارع، وهذه الآية تدل على أعلى درجات الارتقاء، والسّمو في الحوار والدّعوة إلى الله والتّلطف بالآخر لعله يتوب إلى الله وينوب إليه، ويستميل قلبه لقبول الحق والهداية، وإذا قارنا هذه الآية بآية (35) من سورة هود، وهي قوله تعالى:{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَا بَرِاءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} هذه الآية جاءت في سياق قول نوح لقومه إذا كنت أفتري على الله الكذب فعلي إجرامي، وإذا كنت بريء من ذلك، أو لست كذلك فأنتم مجرمون بحقي، بينما آية سبأ جاءت في سياق الدعوة إلى الله.
سورة سبأ [34: 26]
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} :
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله.
{يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} : يوم القيامة في أرض المحشر يوم الجمع.
{ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} : أي الفصل والحكم بيننا بالحق: بالعدل، والباء للإلصاق واللزوم، فيثيب المطيع ويعاقب العاصي، يدخل المؤمنين الجنة ويدخل المجرمين النّار. ثمّ: ليست للترتيب والتّراخي هنا وإنما للترتيب الذّكري (التسلسلي) وسمى الحكم فتحاً؛ لأنّه يفتح شيئاً عن شيء ويحدث بينهما فرج أو فصل حيث كانا ملتبسين فيفصل بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) وسورة السجدة آية (28) للبيان.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْفَتَّاحُ} : الحاكم بين الخلائق أو الّذي يفصل بين الخلائق ويخبر الحق من الباطل، والفاتح والفتاح صيغة مبالغة من فتح، والفتح قد يعني الكشف والتبين وهذه هي المرة الوحيدة الّتي ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم.
{الْعَلِيمُ} : بكلّ خلقه وكونه والعليم بما يقضي ويحكم على علم؛ لأنّه يعلم ما فعله كلّ مخلوق سواء كان في السر أو العلن.
ومعنى هذه الآية: لن نطيل معكم الحوار أو الجدال؛ لأننا إما على الحق أو على الباطل، وأنتم كذلك فالله سبحانه يفصل بيننا ويقضي يوم القيامة.
سورة سبأ [34: 27]
{قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
{قُلْ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته: قل للمشركين من قريش، قل لهم يا رسول الله.
{أَرُونِىَ} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي والإنكار والتّبكيت، أروني: لا يقصد بها الرّؤية الحقيقية؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى ويعلم ما يعملون، والغاية من السّؤال ليريهم خطأهم في إلحاق الشّركاء بالله تعالى، والرّؤية هنا تعني قلبية فكرية؛ أي: فكروا بما تصفون.
{أَلْحَقْتُم بِهِ} : أي بالله، ألحقتم؛ أي: أضفتم إليه شركاء: جمع شريك.
{كَلَّا} : كلمة زجر وردع؛ أي: كفّوا عن إلحاق الشريك بالله وتوبوا إلى ربكم.
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي إبطال ما قبلها وإثبات ما بعدها.
{بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر، الله: الإله الحق الّذي يستحق أن يعبد ويحمد فهو واجب الوجود، العزيز: القوي الّذي يَقهر ولا يُقهر ويَغلب ولا يُغلب له العزة جميعاً وكمال القدرة، الحكيم: أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء في تدبيره لخلقه وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة سبأ [34: 28]
المناسبة: بعد إعلام المشركين بأنّ الله هو الرّزاق وأنّه هو الإله الحق ولا شريك له وأن محمّداً هو النّبي المبعوث إلى الثّقلين بشيراً ونذيراً للناس كافة.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ} : الواو عاطفة، ما النّافية، أرسلناك: الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلناك: ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان ومعرفة الفرق بين أرسلناك وبعثناك.
{إِلَّا} : للحصر.
{كَافَّةً لِلنَّاسِ} : عامة لجميع النّاس (النّاس يعني الإنس والجن) لقوله تعالى: {الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [النّاس: 5-6] وفي آية أخرى قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، للناس: الكافر والمؤمن والمطيع والعاصي، اللام لام الاختصاص خاص للناس، لكلّ زمان ولكلّ مكان.
{كَافَّةً} : من كفّ، وكفّ الشّيء: منع أو كفّ بمعنى جمع، واسم الفاعل كافٍ، وأصل كلمة كافة: كاففة فلما اجتمع حرفان متحركان سكن الأوّل وأدغم في الثّاني، فصار كاف وزيدت تاء التّأنيث للمبالغة فأصبحت كافة؛ أي: لتكفّ النّاس عن الكفر والشّر والشّرك وتدعوهم إلى الإسلام، وإذا كانت بمعنى كفّ جمع أي: للناس جميعاً، وقدّم كافة على كلمة النّاس ولم يقل للناس كافة: للاختصاص والتّوكيد.
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} : أي مبشراً للّذين آمنوا ومنذراً للذين كفروا، ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان المفصل، ولنعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرّسول (النّبي صلى الله عليه وسلم الّذي وصف بالبشير والنّذير.
للثقلين: الإنس والجن معاً.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : لكن: حرف استدراك، أكثر النّاس لا يعلمون (لا النّافية) لا يعلمون أنّك أرسلت للناس كافة وأنّك البشير والنّذير وأنّك خاتم النّبيين، ولا يعلمون الوحدانية في الألوهية والرّبوبية والصّفات والأسماء، أكثر النّاس لا يعلمون وهناك القلة الّتي تعلم.
سورة سبأ [34: 29]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{وَيَقُولُونَ} : أي منكرو البعث من الكفار، ويقولون: بصيغة المضارع ولم يقل وقالوا: للدلالة على تجدد وتكرار هذا السّؤال.
{مَتَى} : للاستفهام عن الزّمان (ظرف للزمان) وفيها معنى الإنكار والاستبعاد، أو الاستبطاء والتّعجب من كثرة هذا السّؤال.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب، ويشير إلى الوعد الّذي تعدنا به.
{الْوَعْدُ} : البعث قيام السّاعة أو يوم القيامة أو الحساب أو العذاب، والوعد في القرآن عادة يكون للخير والوعيد يكون بالشّر، يصفونه بالوعد؛ لأنّهم لا يصدقون به وغير مهتمين به بدلاً من قولهم: متى هذا الوعيد.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية، تستعمل في سياق الشّك أو الاحتمال؛ أي: هم يشكّون في صدق الرّسول وفي الوعد، وهم الّذين قالوا عنه: الصّادق الأمين.
سورة سبأ [34: 30]
{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَـئْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} :
{قُلْ لَكُمْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكم: اللام لام الاختصاص لكفار قريش ومن جاء من بعدهم.
{مِيعَادُ يَوْمٍ} : مشتقة من الوعد، زمن التّواعد أو مكان التّواعد، إذن ميعاد للزمان والمكان، والميعاد: مصدر ميمي وهو الوقت المحدد أو المعيّن لحدوث الشّيء، يوم: يوم موتكم أو بعثكم أو هلاككم أو يشمل الكلّ، ويوم: نكرة؛ للتهويل والتّعظيم.
{لَا تَسْتَـئْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً} : لا النّافية، تستأخرون عنه ساعة: إذا جاء لا يؤخّر ساعة ولا دقيقة، عن: تفيد المجاوزة والمباعدة.
{وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} : أي إذا لم يجيء: لا تستقدمون لا ساعة ولا دقيقة، تكرار لا يفيد توكيد النّفي، ارجع إلى سورة يونس الآية (49) والأعراف (34) للبيان.
وردت هذه الآية (4) مرات في القرآن: في هذه الآية ويونس الآية (49) والأعراف الآية (34) والنّحل الآية (61).
سورة سبأ [34: 31]
المناسبة: في الآية السّابقة ذكر أنّ ميعادهم واقع لا محالة، وفي هذه الآية يذكر حالهم في ذلك اليوم وما يحدث فيه من الحوار بين الرّؤساء الّذين استكبروا والأتباع الّذين استضعفوا.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : من مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أن المشركين سألوا بعض مؤمني أهل الكتاب عما ذكر بشأن محمّد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، فلما أخبرهم بما جاء في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والبعث والجزاء قالوا عندها:
{لَنْ نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} : لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد، نؤمن بهذا القرآن: أي لن نصدّق بهذا القرآن، ولا النّافية (تكرار النّفي يفيد التّوكيد) بالّذي بين يديه من الكتب السّماوية مثل التّوراة والإنجيل والزّبور؛ أي: جاءت قبله.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} : هنا يبدأ بالحديث عن حالهم يوم القيامة، ولو ترى: لو شرطية تحتاج إلى جواب والجواب محذوف؛ للتهويل والتّنكير لما يصيبهم في ذلك اليوم من الخزي والهوان والمِراء واللوم والعتاب، ولو ترى: في الآخرة، أو حين ينتظرون الفصل والحساب أو في النّار، إذ: ظرفية للزمن المستقبل، الظّالمون: المشركون الكافرون الظّالمون لأنفسهم وغيرهم.
{مَوْقُوفُونَ} : محبوسون جمع موقوف من: وقف.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : بين يدي الله، ينتظرون حسابهم.
{يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} : يرجع من المراجعة، والمراجعة تعني كلّ واحد يقول كلاماً والآخر يرد على كلامه وينكره، وتعني المراجعة: كلّ منهم يرمي باللائمة على الآخر، ويتهمه بأنه هو السبب في كل ما يحدث من العذاب.
{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} : أي الأتباع استضعفوا في الدّنيا. استضعفوا: جمع مستضعف؛ أي: جرده من عناصر قوته، وأذله وعده ضعيفاً، والضعف: بفتح الضاد يكون في الجسم أو الرأي: والعقل أو ضمها ضد القوة (مختار الصحاح)؛ أي: ضعف في الجسم فقط.
{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : المتبوعين وهم القادة والرّؤساء والكبراء. استكبروا: طلبوا الكبر وليسوا أهله.
{لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} : لولا: حرف شرط، لكنّا: اللام لام التّعليل أو الاختصاص، مؤمنين: مصدقين بالله والرّسول واليوم الآخر وما أمر به تعالى، مؤمنين: جملة اسمية تدل على الثّبات؛ أي: ذوي إيمان ثابت لا يتغير.
سورة سبأ الآيات [32 -39]
سورة سبأ [34: 32]
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} : القادة والرّؤساء؛ أي: المتبوعون. ارجع إلى الآية السابقة (31).
{أَنَحْنُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والنّفي والتّعجب.
{صَدَدْنَاكُمْ} : أي منعناكم. والصد: هو المنع بقصد ونية، والمنع: قد يكون بقصد أو بغير قصد (نية).
{عَنِ الْهُدَى} : عن الإيمان بالله وبمحمّد وبالقرآن أو عن الإسلام.
{بَعْدَ} : ظرفية زمانية.
{إِذْ} : ظرفية بمعنى حين.
{جَاءَكُمْ} : حين جاءكم الهدى بواسطة محمّد صلى الله عليه وسلم.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ} : كثيري الإجرام والآثام والكفر والشّرك؛ جمع مجرم، وهو من تمرد على أوامر الله ونواهيه، ورفض الخضوع إليها، وجرم يعني: قطع؛ أي: قطع كل صلة بالله، وَجَرَمَ الرجل: أذنب، وارتكب ذنباً.
سورة سبأ [34: 33]
{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : بل: للإضراب الانتقالي؛ أي: لم يكن إجرامنا الّذي صدّنا عن الإيمان، بل مكركم بنا في الليل والنّهار: والمكر يعني الخديعة والاحتيال، والمكر يعني: التّدبير الخفي لإيقاع المكروه بالممكور به من حيث لا يعلم، ارجع إلى سورة الرّعد الآية (33) وسورة إبراهيم الآية (46) للبيان.
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} : أي مكركم بنا في الليل والنّهار ودعوتكم المستمرة لنا إلى الكفر بالله وما أنزل، وأن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد، هو الّذي حملنا على الكفر وأن نجعل له أنداداً: جمع ندٍّ وهو النّظير والشّبيه. ارجع إلى سورة البقرة آية (22) لمزيد من البيان.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} : الضّمير يعود على الجميع المستضعفين والمستكبرين، أسروا النّدامة. الندامة: التلهف على ما فات وعندما يشتد الندم يتحول إلى حسرة، فالحسرة هي أشد الندم؛ مصدر لفعل ندم؛ أخفوا النّدامة أضمر كلّ من الفريقين النّدامة على ما فعلوا من الكفر حتّى لا يشمت بهم الفريق الآخر.
{لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} : حين انكشف لهم العذاب؛ أي: رأوا العذاب بأمّ أعينهم، رأوا العذاب المعدَّ أو المهيّأ لهم بعد الجدال والخصام الّذي دار بينهم وعلموا أنّ جدالهم لن يجدي ثمّ يقول الله سبحانه:
{وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ} : جمع غل؛ أي: قيد أو طوق من حديد يوضع في عنق المجرم ويشد إلى اليد.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : هل للاستفهام يفيد النّفي، يجزون: من الجزاء ويكون على العمل أي يجزون على أعمالهم في الدّنيا من الكفر والظّلم والعصيان، إلا: أداة حصر، ما كانوا: ما بمعنى الّذي أو مصدرية، كانوا في الدّنيا، يعملون: العمل يشمل القول والفعل فما يحصل لهم في الآخرة هو جزاء لهم على أعمالهم السّيئة في الدّنيا.
سورة سبأ [34: 34]
المناسبة: بعد ذكر ما قال الّذين كفروا من كفار مكة، ومن الذين أوتوا الكتاب أنّهم لن يؤمنوا بهذا القرآن ولا بالّذي بين يديه من التوراة والإنجيل؛ يخبر الله سبحانه نبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم أنّ إعراض قومه عنه ليس بالأمر الجديد، فكلّ قرية بعث الله إليها نبياً نذيراً كذّبه المترفون في تلك القرية أو الكافرون.
{وَمَا أَرْسَلْنَا} : الواو استئنافية، أرسلنا: ارجع إلى الآية (251) للبيان.
{فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} : في ظرفية، قرية: أصغر من المدينة، من استغراقية، نذير؛ أي: نبي، والإنذار هو الإعلام والتّحذير.
{إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} : إلا أداة حصر، قال مترفوها: جمع مترف، وهو من أهل المال والثّروة الّذي طغته فتنة المال ونسي شكر المنعم. ارجع إلى سورة الزخرف آية (23) لبيان معنى الترف، والمترف.
{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} : إنّا للتوكيد، بما: الباء للإلصاق، ما بمعنى الّذي، أرسلتم به: من التعاليم والآيات والأحكام والنذر كافرون جاحدون: تفيد الثبات على الكفر.
سورة سبأ [34: 35]
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} :
{وَقَالُوا} : أي: المترفون لرسلهم.
{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} : من المؤمنين واغتروا بالمال والأولاد والمتاع، وظنوا أنّهم أعطوا المال والأولاد؛ لأنّهم مكرمون من ربهم في الدّنيا وما هم بمعذبين في الآخرة.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} : أي لن يعذبنا ربنا في الآخرة، ما: النّافية، معذبين: جملة اسمية تفيد الثّبوت.
وقولهم: نحن أكثر أموالاً وأولاداً، حُجة عليهم لا لهم وبدلاً من أن يشكروا المنعم ويؤمنوا به قالوا لرسلهم: إنّا بما أرسلتم به كافرون! أي لسنا بحاجة إلى وعظكم وإنذاركم.
وقدّم المال على الأولاد؛ لأنّ أكثر النّاس يملكون المال أكثر ممن عندهم الأولاد.
سورة سبأ [34: 36]
{قُلْ إِنَّ رَبِّى} : قل لهم يا رسول الله رداً على اغترارهم بكثرة الأموال والأولاد: إنّ ربي: إنّ: للتوكيد، ربي: أي الرّب فهو الرّازق والمغني والمدبر والمربي.
{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} : يوسع ويغني بكرمه من يشاء، اللام: للتوكيد، من: للابتداء، يشاء: يريد، والمشيئة قبل الإرادة، والرّزق لا يقتصر على المال والأولاد بل هو كلّ ما ينتفع به ويشمل العلم والأخلاق والصّحة والأمن والطّعام والشّراب واللباس.
{وَيَقْدِرُ} : ويضيق على من يشاء. ارجع إلى الآية (39) من نفس السورة للمقارنة بينهما.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أنّ بسط الرّزق ليس دليلاً على رضا الله تعالى، وأنّ الفقر وعدم بسط الرّزق ليس دليلاً على سخط الله أو عدم رضاه، وأنّ المال والأولاد فتنة والغنى والفقر فتنة وابتلاء من الله بالخير والشّر.
سورة سبأ [34: 37]
هذه الآية ردٌ على قولهم: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين.
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم} : الواو: استئنافية، ما: النّافية، أموالكم ولا أولادكم: تكرار (لا) لتوكيد النّفي وفصل كلّ منهما "الأموال والأولاد" على حدة أو معاً؛ أي: لا هذه ولا تلك ولا كلاهما معاً، الكلام مخاطب به الكلّ.
{بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} : زلفى؛ أي: قربى إلى الله. زلفى: مصدر زُلف.
{إِلَّا} : أداة استثناء منقطع.
{مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} : من ابتدائية، آمن بالله وعمل صالحاً وأنفق من أمواله في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فهذا الإنفاق من أعظم القربات، وكذلك الأولاد لا تقرب إلى الله زلفى ولكن إذا آمنوا وعملوا صالحاً وقالوا: ربنا ارحم واغفر لآبائنا وأمهاتنا، فذلك أيضاً من الّذي يقرب إلى الله زلفى.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء للتوكيد، أولئك اسم إشارة واللام للبعد تفيد العلو، الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات.
{لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ} : لهم: اللام لام الاستحقاق، جزاء الضّعف: المضاعف المكرر مرات ومرات حتّى يبلغ (700) ضعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى (700) ضعف أو أكثر.
{بِمَا عَمِلُوا} : الباء بدلية أو باء السّببية؛ أي: بسبب أو بدل ما عملوا في الدّنيا من الأعمال الصّالحة.
{وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} : وهم: للتوكيد والحصر؛ أي: وكأنّهم وحدهم لا غيرهم في الغرفات آمنون، في: ظرفية، الغرفات: جمع غرفة، والغرفة: اسم جنس غرف الجنة، آمنون: من الموت ومن كلّ خوف وضر وسوء ومرض أو مكروه، آمنون جمع: آمن وآمنون: جملة اسمية تفيد الثّبوت. ارجع إلى سورة الفرقان آية (75) لمزيد من البيان.
سورة سبأ [34: 38]
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} :
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ} : ارجع إلى الآية (5) من السّورة نفسها للبيان، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} ، فالفرق بين الآيتين: سعوا: فعل ماض، سعوا وانتهى الأمر، وربما تابوا أو لم يُغفر لهم فلهم عذاب من رجز أليم، أما الذين يسعون بصيغة المضارع التي تدل على التجدد والتكرار والاستمرار أولئك في العذاب مُحضرون.
{فِى آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} : أي: بذلوا قصارى جهدهم لصرف النّاس عن آيات ربهم (آيات القرآن) بالقول: لا تسمعوا لها والغو فيها، وبالتكذيب بها. معاجزين: جمع معاجز: من يحاول أن يعجز غيره، وأعجزه: جعله عاجزاً عن نيل مراده، وأفلت منه، فلم يقدر عليه؛ أي: يحاولون أن يعجزوا من يُبلغُها؛ أي: يجعلونه عاجزاً عن تبليغها والكفّ عنها.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد الذم.
{عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} : عذاب أشد وأسوأ من العذاب الأليم، أمّا الآية (38) يسعون: فعل مضارع يدل على تجدد وتكرار السعي في آياتنا معاجزين، كما شرحنا سابقاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لبيان معنى الرجز والرجس والفرق بينهما.
{فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} : جمع محضر: اسم فاعل من: حضر يحضر؛ أي: حاضر ضد الغياب، أي يُحضر رغماً عن أنفه، تحضرهم الملائكة قسراً سواء رضوا أم لم يرضوا. وكلمة محضرون لا تأتي إلا في سياق العذاب في كل القرآن. ومحضرون: لا يغيبون عنه فقوله: محضرون؛ أي: مقيمون في هذا العذاب الأليم.
سورة سبأ [34: 39]
المقصود في هذه الآية رجل يبسط الله له الرّزق يوسع عليه ويصبح غنياً ثمّ يضيّق عليه فيصبح فقيراً، أو بالعكس يكون فقيراً ثمّ يصبح غنياً؛ أي: هو نفسه يتحول من حال إلى حال.
الآية (36) من سورة سبأ: {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} : المقصود في هذه الآية رجل يُبسط له الرّزق؛ أي: يوسع عليه ويصبح غنياً طيلة حياته، ورجل آخر يضيق الله عليه الرّزق ويصبح فقيراً طيلة حياته.
أمّا في سورة القصص الآية (82): {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} هذه الآية خاصة بقارون، فالله بسط له الرّزق ولم يقل يقدر له، وإنما خسف به وبداره الأرض.
{وَمَا أَنفَقْتُم مِنْ شَىْءٍ} : وما: الواو استئنافية، ما: شرطية، أنفقتم: تصدقتم في سبيل الله سواء كان صدقة أو زكاة أو قرضاً حسناً، من شيء: من ابتدائية استغراقية، تشمل كلّ شيء من مال أو طعام أو زمن، وشيء: نكرة والشّيء أقل القليل.
{فَهُوَ يُخْلِفُهُ} : الفاء للتوكيد، هو: لزيادة التّوكيد، ويعود إلى الله سبحانه، يخلفه: يعوضه بالمال أو الثّواب أو بالصّحة أو طول العمر، يخلفه في الدّنيا أو في الآخرة.
{وَهُوَ} : تكرار هو للتوكيد.
{خَيْرُ الرَّازِقِينَ} : خير؛ أي: أفضلهم وأعلاهم؛ لأنّه سبحانه خلق الرّزق والمرزوق، فلا رازق إلا هو فهو الرّزاق الحقيقي وأمّا العباد فهم من تسخير الله سخّرهم ليقوموا بذلك، وأضفى عليهم من صفته وكرمه ووصفهم بأنّهم من الرّازقين. والرّزق يشمل المال والعلم والسلطان والأهل والصحة والأمن والحرية وغيرها.
سورة سبأ [34: 40]
بعد أن ذكر أنّ الأموال والأولاد لا تقربهم إلى الله زلفى، يذكر في هذه الآية وكذلك الملائكة لا تقربهم عند الله زلفى ولا تشفع لهم، فقد كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله ويمكن أن يشفعوا لهم.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} : يحشر المشركين يوم الحشر يوم القيامة والحساب، ونكّر اليوم؛ للتهويل والتعظيم.
{جَمِيعًا} : الأتباع والمتبوعين الرّؤساء والقادة (الّذين استكبروا) والّذين استضعفوا، المعبود والعابد، والملائكة وعيسى وعزير والأولياء والأصنام والأوثان، ثمّ يقول للملائكة: أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون.
ثمّ: للترتيب الذكري (التسلسلي) وقد تعني الترتيب والتراخي في الزّمن.
ثم يسأل الله سبحانه الملائكة (ثمّ يقول للملائكة): أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون؟ (أي في الدّنيا).
{أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} : أهؤلاء استفهام تقرير وتوبيخ للعابدين، هؤلاء: الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للقرب ويفيد الذّم والتّحقير، يسأل الملائكة بعد أن أنكر الّذين أشركوا أنّهم كانوا يعبدونهم؛ ليقيم عليهم الحجة وتشهد الملائكة عليهم أنّهم كانوا كاذبين، والله سبحانه يعلم منذ الأزل فيما إذا عبدوهم أم لا، والسّؤال ليس ليعلم الله سبحانه ذلك وإنما ليقيم عليهم الحجة والله سبحانه غني عن سؤالهم، وفي السّؤال تنزيه للملائكة من أن يسألوا أحداً أن يعبدهم.
سورة سبأ [34: 41]
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} : أي جاء الرّد المباشر من الملائكة على السّؤال: أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون؟ بقولهم: سبحانك؛ أي: ننزهك عن الشّريك وأن يُعبد سواك وننزهك من كلّ نقص وعيب في ذاتك وأسمائك وأفعالك وصفاتك.
{أَنْتَ وَلِيُّنَا} : أنت للتوكيد، ولينا: وحدك؛ أي: لا ولي لنا سواك، والولي أي المتولي أمورنا ومدبّرها، لم نسألهم أن يعبدونا أو يطيعونا.
{مِنْ دُونِهِم} : أي نتبرأ منهم لا نحن أولياؤهم ولا هم أولياؤنا، ونعتذر إليك ونسألك المغفرة.
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} : بل للإضراب الانتقالي، يعبدون الجن: أي شياطين الجن (إبليس وجنوده)، انتبه هنا لا تفهم من ظاهر هذه أنّ الملائكة تخبر الله أنّ المشركين كانوا يعبدون الجن، أليس الله سبحانه يعلم ذلك، وإنما المقصود بهذه الآية أنّ المشركين إن كانوا يعبدوننا، فهم كانوا في عبادتهم لنا يطيعون الجن (شياطين الجن إبليس وجنوده بالوسوسة والإغواء والتّزيين).
{أَكْثَرُهُم بِهِمْ مُّؤْمِنُونَ} : أي أكثر المشركين يؤمنون بالجن: أي يصدقون الجن (شياطين الجن)، ويطيعونهم، وهذا ما ذكره الله سبحانه في الآية (128) من سورة الأنعام بقوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} ، مؤمنون: جمع مؤمن؛ أي: مصدّق وجاء بصيغة الجملة الاسمية لتدل على الثّبوت، ثبوت الإيمان، ثبوت إيمانهم بالجن؛ لأنّ الجن كانوا يسترقون السّمع ثمّ يخبرون بها أولياءهم من الإنس، فيظن النّاس أنّ الجن تعلم الغيب. وكما بين الله سبحانه ذلك في قوله في سورة الجن الآية (6):{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} ، وهناك القلة من الإنس الّذين كانوا لا يعبدون الجن كانوا يشركون بالله بدون تدخل الشّيطان.
سورة سبأ [34: 42]
{فَالْيَوْمَ} : الفاء للتوكيد، اليوم: يوم الحساب أو القيامة.
{لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ} : لا النّافية، يملك: بعضكم لبعض: المعبودون للعابدين أو المتبوعون للتابعين، لبعض: اللام لام الاختصاص.
{نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا} : جاءتا بصيغة النّكرة؛ لتشملا كلّ نفع أو كلّ ضر مهما كان نوعه وقدره، لا شفاعة ولا زلفى ولا نجاة ولا نصراً ولا شيئاً مهما قلّ وصغر أو كبر، وقدّم النّفع على الضّر؛ لأنّ سياق الآيات في القربى والزّلفى والشّفاعة الّتي تعني الفائدة منها والرزق والأموال والأولاد والإنفاق.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} : نقول: للتعظيم، للذين: اللام لام الاختصاص، الّذين ظلموا بالشّرك والمعاصي وظلموا أنفسهم بالخسران وظلموا الآخرين بإضلالهم.
{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} : ارجع إلى الآية (14) من سورة السّجدة لبيان معنى: ذوقوا عذاب النّار.
ولا بد من مقارنة هذه الآية (42) من سورة سبأ وهي قوله تعالى: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ، والآية (20) من سورة السّجدة وهي قوله تعالى:{ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} :
في آية سبأ: الّذين ظلموا يكذبون بوجود النّار أصلاً؛ أي: ينكرون ويجحدون بوجود النّار (أي يكفرون بها وبكلّ شيء يذكر عنها) فيقال لهم: ذوقوا عذاب النّار الّتي كنتم بها تكذبون.
أمّا في آية السّجدة: الّذين فسقوا يقال لهم: ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذبون؛ أي: هم يؤمنون بوجود النّار ولكنهم ينكرون أنّهم من أهلها وسيعذبون بها، فتكذيبهم ليس للنار بل للعذاب نفسه، ولذلك جاء باسم الموصول الّذي العائد إلى العذاب.
والظّلم أشد وأعظم ذنباً وإثماً من الفسق، فأعلى الدّرجات هي الكفر ثمّ الظّلم (الشّرك) ثمّ الفسق.
سورة سبأ [34: 43]
المناسبة: بعد قوله: ذوقوا عذاب النّار الّتي كنتم بها تكذبون، ولم تكذبوا بالنّار فقط بل كذبتم كذلك برسولنا محمّد صلى الله عليه وسلم وكذبتم بالقرآن وآياته حين كانت تتلى عليكم.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : وإذا: الواو استئنافية، إذا: ظرفية شرطية تفيد الحتمية حتمية حدوث ما يذكر بعدها وهي التّلاوة، تتلى: من التّلاوة: والتّلاوة تخص القرآن وآياته وهي: قراءة الآيات الآية تلو الأخرى، وتتلى بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكرار، بينما "تليت عليهم آياته" تعني مرة واحدة، عليهم: على المشركين والكفار، آياتنا: آيات القرآن الحكيم، وقوله:"آياتنا" تفيد الشّرف شرف هذه الآيات وقدرها العظيم عند الله تعالى ولم يقل وإذا تتلى عليهم الآيات، بينات: واضحات الدّلالة وظاهرات المعنى.
{قَالُوا} : أي الّذين كفروا وأشركوا.
{مَا هَذَا} : ما: للنفي، وغالباً ما تكون لنفي الحال وقد تنفي غيره وأقوى في النّفي من ليس، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب وتعني النّبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يقولون النّبي أو الرّسول وإنما: رجل.
{إِلَّا رَجُلٌ} : إلا: أداة حصر، رجل: أي محمّد صلى الله عليه وسلم، رجل: بصيغة النّكرة ينكرون نبوته؛ أي: هو رجل كأيّ رجل وليس له أيّ مزية خاصة، ونسوا أنّهم كانوا يلقبونه: الصّادق الأمين.
{يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ} : أن: حرف مصدري يفيد التّوكيد والتّعليل، يصدكم: من الصّد: أي المنع؛ أي يمنعكم أو يصرفكم، والصّد يعني: المنع مع النّية والقصد، والمنع قد يكون مع القصد أو بدون قصد.
{عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} : عن تفيد المجاوزة والمباعدة، أي يبعدكم عن، ما: للعاقل وغير العاقل، وهي اسم موصول بمعنى الّذي يعبد (أنزل الأصنام منزلة العقلاء) لأنّهم يعبدونها ويظنون أنها تشفع لهم، كان: للماضي والحاضر، آباؤكم: من الأصنام والأوثان والآلهة واللات والعزى.
{وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى} : ارجع إلى مطلع الآية، إلا: أداة حصر، إفك مفترى: أي القرآن ما هو إلا كذب متعمد مفترى؛ أي: لا حقيقة له، أي مختلق، والإفك يعني في الأصل: قلب الحقيقة، وقد بيّن ذلك في آيات أخرى كقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11].
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} : للقرآن والرّسول أو لدين الإسلام، لما: ظرفية زمانية بمعنى: حين جاءهم، للحق: اللام لام التّوكيد، والحق هو: الصدق والأمر الثّابت الّذي لا يتغير، والذي ليس هناك غيره.
{إِنْ هَذَا} : إن نافية وأشد نفياً من ما وليس ولا.
{إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : إلا أداة حصر؛ أي: القرآن أو الرّسول سحر لما رأوا تأثيره القوي في النّفوس والقلوب وكانوا يظنون أن كلّ شيء خارق للعادة سحر كما يؤثّر السّحر في الأنفس.
سحر مبين: سحر ظاهر بيّن لكلّ فرد لا يخفى على أحد، وسحر لا يحتاج إلى برهان لإثبات أنّه سحر، ولمعرفة تعريف السّحر ارجع إلى الآية (58) من سورة طه للبيان، وتكرار "قالوا" وقال الّذين كفروا: يدل على ما في صدورهم من إنكار وإعراض شديد عن الرّسول صلى الله عليه وسلم والقرآن والدّين.
سورة سبأ [34: 44]
{وَمَا آتَيْنَاهُم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} :
{وَمَا آتَيْنَاهُم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} : ما للنفي، آتيناهم من كتب يدرسونها: وما أنزلنا على هؤلاء الّذين كفروا كتباً سماوية، يدرسونها: من التّدريس؛ أي: التّعليم، أو يدرسونها تدل على كثرة الدّراسة وتكرارها والإمعان فيها وتدبّرها، يدرسونها: أي فيها برهان على الإقرار بالشّرك وإباحته وما آتيناهم من كتب قبل القرآن يدرسونها كما قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الرّوم: 35].
{وَمَا أَرْسَلْنَا} : تكرار "ما" يفيد توكيد النّفي وفصل الكتب عن النّذير، أرسلنا إليهم قبلك من نذير، من: استغراقية أي نذير، دعاهم إلى الشّرك أو أباح لهم الشّرك أو ينذرهم بالعقاب إذا أشركوا بالله، أو أرسلنا إليهم قبل محمّد صلى الله عليه وسلم رسولاً يدعوهم إلى الحق وينذرهم بالعذاب، ولم يقل وما أرسلنا إليهم من قبلك من نذير، حذف من وحذفها يدل على أننا لم نرسل إليهم من نذير منذ زمن بعيد.
سورة سبأ [34: 45]
ثمّ يخبر الله سبحانه أنّ تكذيب كفار قريش ليس بالأمر الجديد فقد كذّب الّذين من قبلهم من الأمم والقرون الماضية، وتكذيب هؤلاء كأنّه سنّةٌ متبعة في الأمم.
{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} : ما النّافية، بلغوا: أي كفار مكة الّذين كذّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغوا معشار: أي العشر؛ أي: عشرة في المئة أو (1/ 10) مما أتينا الأمم السّابقة من القوة وطول العمر وكثرة المال والبنيان، فحين كذّبوا رسلي فكيف كان نكير؛ أي:
{فَكَيْفَ} : استفهام يحمل معنى التّعجب والتّقرير.
{كَانَ نَكِيرِ} : من النّكر: ما يجهله الإنسان ويستغربه وينكره؛ لأنّه يظنه خطأً مع أنّه حقيقة وصواب، وأصلها: فكيف كان نكيري حذفت الياء، ونكير: اسم لشدة الإنكار، والإنكار يستلزم الجزاء على الفعل النُّكر بالعقاب فيصبح المعنى: ثمّ أخذت الّذين كفروا بعذاب ملائم لإنكارهم، فكيف كان انتقامي منهم أو عقوبتي لهم أو أخذي لهم. ارجع إلى سورة الكهف آية (74) لمزيد من البيان، وبيان الفرق بين نكراً ونكير.
سورة سبأ [34: 46]
بعد أن نبّه كفار قريش لما حدث لمن سبقهم من المكذبين من العقاب أو الهلاك، يعود ليخاطبهم عن طريق نبيهم:
{قُلْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} : أي بموعظة واحدة، واستعمل (إنما) وهي كافة مكفوفة تفيد الحصر أو القصر؛ أي: لا أعظكم إلا بواحدة فقط، وما هذه الموعظة؟
{أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} : أن للتعليل، تقوموا لله؛ أي: تتجرّدوا من كلّ هوى وشهوة واستعلاء وتقوموا مخلصين لله؛ أي: تقوموا بالعدل والقسط، وعند ذلك تعلمون الحق وأنّه ليس به جِنَّة؛ أي: برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مَثْنَى وَفُرَادَى} : أي تقوموا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى أو فرادى واحداً واحداً أو اثنين اثنين.
{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} : وليتفكر كلّ واحد منكم وحده، أو ليخلو بغيره اثنين اثنين فيتفكروا ليصلوا إلى الحق، والقيام هنا قيام تفكر، وتتفكروا بموضوعية وتجرّد من الهوى في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم كيف كان فيكم وسيرته وأخلاقه، وهل علمتم كذباً عليه، وهل كان ساحراً أو كذاباً أو كاهناً أو فيه علامات من الجنون.
{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} : ما: النّافية قوله تعالى: ما بصاحبكم، إشارة إلى أنّهم صاحبوه وعرفوا أحواله وعقله وأمانته بالصّحبة الطّويلة قبل أن يصبح رسولاً إليكم، من جنّة: من استغراقية، جنّة: أي ما به من أيّ علامة من علامات الجنون.
{إِنْ هُوَ} : إن نافية؛ أي: ما هو، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{نَذِيرٌ لَكُمْ} : نذير من الإنذار وهو الإعلام والتّحذير؛ أي: منذر لكم محذّركم خاصة.
{بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} : عذاب قادم في الآخرة بين يدي: يدل على قرب العذاب، وقد يعني السّاعة أو يوم الحساب كقوله تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].
سورة سبأ [34: 47]
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما: شرطية، سألتكم من أجر فهو لكم: أي إن كنت أخذت منكم أيَّ أجر على التّبليغ فسوف أعيده لكم، أو سيعود جزاؤه عليكم، أو قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم: لا أسألكم على إنذاري لكم أيَّ أجر أو على تبليغي الرّسالة لكم.
{إِنْ أَجْرِىَ} : والأجر: هو الجُعل أو الثّمن مقابل العمل، إن أجري: إن حرف نفي أشد نفياً من (ما) كقوله وما أجري.
{إِلَّا عَلَى اللَّهِ} : إلا أداة حصر، على الله تعالى واجب الوجود الإله الحق المعبود الذي أرسلني إليكم.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : هو ضمير يفيد التّوكيد، على كلّ شيء شهيد: ارجع إلى الآية (133) من سورة البقرة للبيان، والآية (6) من سورة المجادلة.
سورة سبأ [34: 48]
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :
{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} : قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّ: للتوكيد، إنّ ربي يقذف بالحق: يقذف يعني يُلقي، يتكلم بالحق مع رسله وأنبيائه أو يُلقي بالوحي أو بالقرآن أو يقذف بالحق على الباطل فيدمغه (الأنبياء الآية 18) ولماذا اختار سبحانه كلمة "يقذف" خاصة؛ لأنّها توحي بالقوة والعنف، هذا إذا جاءت من البشر فكيف إذا كان القاذف هو الله سبحانه العزيز الحكيم، وأمّا المقذوف هو الحق، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، فالله سبحانه يقذف بالحق ليزيل الباطل، وكما قال تعالى:{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، والباء في بالحق: تدل على الإلصاق والدّوام.
{عَلَّامُ الْغُيُوبِ} : أي يقذف بالحق فلا يخطئ في قذفه هدفاً أو شيئاً؛ لأنّه سبحانه علام الغيوب؛ أي: عالم بكلّ غيب، فوحيه لا يصل إلا لمن اختاره من عباده من الرّسل.
وعلام: صيغة مبالغة من علم؛ عالم؛ عليم؛ علام الغيوب: جمع غيب، والغيب: هو ما غاب أو خفي عن العيون والآذان والحواس والمدركات؛ فهو سبحانه يعلم ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسهم.
سورة سبأ [34: 49]
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} :
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء الحق: دين الإسلام دين الحق والقرآن، {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التّوبة: 33].
{وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} : الباطل: هو الظلم والكفر والشّرك والشّيطان. الباطل لغةً: هو الذاهب الزائل، أو الفاسد، وليس له وجود في الأصل، وما يبدئ الباطل: لا بداية أخرى له.
{وَمَا يُعِيدُ} : لا عودة له مرة ثانية؛ أي: إذا جاء الحق زهق الباطل (الشّرك والكفر) أي: ذهب الباطل اضمحل وزال ولم يبق له أثر لا بداية جديدة ولا عودة.
يبدئ: ولم يقل بدأ؛ أي: بدأ لأول مرة، أمّا يُبدئ تعني: تكرار البداية الأولى.
وما يعيد: تكرار الإعادة أو العودة.
أي: إذا زال الباطل واضمحل فليس له بداية جديدة أو عودة، وتكرار "ما" مرتين يفيد توكيد النّفي.
سورة سبأ [34: 50]
{قُلْ إِنْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شرطية تفيد الافتراض على فرض؛ وهو احتمال غير وارد أو نادر.
{ضَلَلْتُ} : عن الحق والصّواب والصّراط المستقيم؛ أي: ابتعدت وأضعت السّبيل فذلك بسبب نفسي وسيئاتي، أي: نسب الضّلال الّذي هو نتيجة للسيئات الّتي تقترفها النّفس.
{فَإِنَّمَا} : الفاء للتوكيد، إنما كافة مكفوفة تفيد الحصر.
{أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى} : أي إثم ضلالي أو وزر ضلالي يكون على نفسي. نسب الضلال إلى النفس؛ لأن النفس التي تقترف السيئات، والضلال نتيجة السيئات.
{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والافتراض. اهتديت إلى الحق والصواب، وبالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم: الهداية تكون بالوحي، والإلهام، أما هداية الأمة: تكون بواسطة الرسول والكتاب.
{فَبِمَا} : الفاء للتوكيد، بما: الباء باء السّببية.
{يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى} : من القرآن والوحي والحكمة والموعظة، نسب الهداية إلى الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{سَمِيعٌ} : لكلّ ما يقال من قول ودعاء وصوت.
{قَرِيبٌ} : بعلمه من عبده فهو أقرب إليه من حبل الوريد.
سورة سبأ [34: 51]
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَّكَانٍ قَرِيبٍ} :
{وَلَوْ تَرَى} : الواو استئنافية، لو شرطية، جواب الشّرط محذوف والتّقدير: ولو ترى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِذْ} : ظرفية زمانية بمعنى حين.
{فَزِعُوا} : من الفزع: وهو الخوف الشّديد حين القيام من القبور والبعث والحساب في أرض المحشر وعند الميزان (وقد تشمل ساعة الموت)، فزعوا؛ أي: الّذين لم يؤمنوا وكذبوا بالقرآن وبالرّسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء من الحق، وجاء بصيغة الماضي "فزعوا" والمراد به الاستقبال؛ أي: كأن الأمر حدث وانتهى.
{فَلَا فَوْتَ} : الفاء تعليلية، لا النّافية، لا فوت: مصدر لفعل فات؛ أي: لا مهرب ولا نجاة لهم؛ لأنّ الإنسان قد يفزع: يخاف خوفاً شديداً من أمر ما ويستطيع الهرب منه والنّجاة أو ينقذه أحد، أمّا هؤلاء فلا مفر ولا ملجأ.
{وَأُخِذُوا مِنْ مَّكَانٍ قَرِيبٍ} : أخذوا إلى النّار سيقوا إلى جهنم مباشرة من مكان الحساب؛ أي: الحشر بدون تأخير. وحذف جواب الشّرط وتقديره: لرأيت الشّيء العجاب والأمر الهائل الّذي يحلّ بهؤلاء وليتصوّره كلّ فرد بما يتصوّره.
سورة سبأ [34: 52]
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} :
{وَقَالُوا} : أي الكفار بعد "إذ فزعوا" ورأوا أن لا ملجأ لهم يومئذ وما لهم من نكير.
{آمَنَّا بِهِ} : به؛ أي بالله وبالبعث والحساب وبمحمّد وبالقرآن وبكلّ ما جاء من الحق، آلآن تؤمنوا ولم تؤمنوا في الدّنيا؟
{وَأَنَّى لَهُمُ} : أنى لها أربع معان: كيف تؤمنوا، ومن أين لهم الإيمان، والتّعجب، والسّعة في المعنى من كيف، لهم: اللام لام الاختصاص.
{التَّنَاوُشُ} : التّناول؛ أي: تناول الإيمان والتّوبة في الآخرة وقد فات الأوان؛ أي: زمن التّوبة والإيمان وبعدت دار الدّنيا دار التكليف.
التناوش: من: ناشه ينوشه نوشاً؛ أي: تناوله. ويقال: تناوش القوم بالرماح: تناول بعضهم بعضاً بالرماح فهم يريدون أن يتوبوا حينذاك ويؤمنوا (إيماناً سهلاً بدون جهد أو تكليف وفي الدّار الآخرة البعيدة عن الدّنيا).
فمثلكم كمثل الّذي رمى رمحاً إلى أبعد ما يمكن ولم يعد يقدر الوصول إليه؛ ليستعمله مرة أخرى، فلن ينفعهم إيمانهم أو توبتهم في الآخرة. وهناك من قال: التناوش من: نأشت؛ أي: إذا أبطأت وتأخرت؛ أي: تأخر إيمانهم وتوبتهم فلم تعد تقبل.
{مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} : أي في الآخرة البعيدة عن الدّنيا، ويعين على تفسير معنى المكان البعيد الآية التّالية وهي قوله: ويقذفون بالغيب من مكان بعيد، وهو الدّنيا.
سورة سبأ [34: 53]
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} :
{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} : وقد: الواو للتوكيد (حالية)، قد: للتحقيق، قد تحقّق كفرهم به، كفروا به:(بالإيمان وبالله وبالبعث وبمحمّد وبالقرآن).
{مِنْ قَبْلُ} : أي في الدّنيا، حين عُرض عليهم، من: تدل على الزّمن القريب.
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} : العرب تقول لكلّ من يتكلم بالظّن وفيما لا علم له به بأنّه: يقذف ويرجم بالغيب؛ أي: يقذفون بألسنتهم بالغيب: بالظّن أو بما لا علم لهم به، يرجمون ويقذفون الله تعالى بأنّ له الولد والشّريك والنّدّ والمثيل، وأنّ الملائكة بنات الله والعُزير والمسيح ابن الله! وأنّ هناك نسباً بين الله والجنّة! أو يقولون: لا بعث ولا حساب ولا آخرة ولا جنة ولا نار، أو يقولون: ساحر ومجنون وكاهن.
{مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} : أي كانوا يقذفون بالغيب حين كانوا في مكان بعيد (أي الدّنيا) وهم الآن في الآخرة.
وإذا قارنّا هذه الآية مع قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} آية (48) من السّورة نفسها، فالله يقذف بالحق (بالأمر الثّابت الّذي لا يوجد غيره ولا يتغيّر ولا يتبدّل). وهم يقذفون بالباطل.
والله سبحانه يقذف؛ لأنّه علام الغيوب فيحقّ له أن يقذف، أمّا هم يقذفون بالغيب بدون علم، وإنما مجرد الافتراء والظّن والتّخمين، فقذفهم لا يصيب الهدف ويرجع قذفهم عليهم حسرات.
سورة سبأ [34: 54]
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} : حيل: جعل بينهم وبين ما يشتهون حائلاً أو مانعاً أو سداً يمنعهم من الوصول إلى ما يشتهون، ما: بمعنى الّذي، يشتهون: من الشّهوة شهوة النّفس، وماذا يشتهون؟ لم يُبيّن في هذه الآية ما يشتهون: مثل الإيمان الحقيقي المقبول والتّوبة، والنّجاة من النّار والفوز بالجنة، أو الرّجوع إلى الدّنيا ليعملوا صالحاً ويتوبوا.
{كَمَا} : الكاف للتشبيه، ما أيضاً بمعنى الّذي.
{فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} : الأشياع جمع: شيع، وشيع جمع: شيعة، وشيعة الرّجل: أنصاره وأتباعه أو الجماعة المجتمعة على نِحلة واحدة أو عقيدة، سواء كانوا على حق أو باطل، وأشياعهم تعني: أمثالهم من الكفار والمشركين والمكذبين أو من كان مذهبه مذهبهم (أي الكفر).
{مِنْ قَبْلُ} : من قبل هؤلاء.
{إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُّرِيبٍ} : إنّهم للتوكيد؛ أي: مشركي وكفار قريش، وقد تعني غيرهم من الكفار كانوا في الدّنيا، شك مريب: في شك والشّك تساوي كفة النّفي والإثبات؛ أي: تردّد الذهن بين أمرين على حد سواء، مريب: من الرّيبة وهي التّهمة: في شك مريب في تردد وحيرة، واتهام الغير في أمر الدّين والوحدانية والرّسل والبعث والحساب، والجنة والنّار والعذاب ولقاء الله، مريب: في موقع ريب أو: ذي ريب أودى بهم إلى أن يموتوا على الكفر والشّرك، ثمّ إلى العذاب والهلاك في نار جهنم.
سورة فاطر [35: 1]
سورة فاطر
ترتيبها في القرآن (35)، وترتيبها في النّزول (42) نزلت بعد سورة الفرقان.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : الحمد أعم من الشكر، والحمد كالحمد على صفاته الذاتية كالعلم، والقدرة، والحمد على تفضله على العالمين حمداً مطلقاً دائماً وتاماً على نعمه الظّاهرة والباطنة وأهمها نعمة الإيمان والإسلام والقرآن، نِعمُه الّتي لا تعد ولا تحصى، وسورة فاطر إحدى السور الخمسة التي بدأها سبحانه وتعالى بالحمد، وهذه السور هي: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر. ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (2) وسورة الكهف الآية (1) لمزيد من البيان. لله: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، الله: الاسم الدّال على ذاته سبحانه الدّال على واجب الوجود، والجامع لجميع صفاته وأسمائه، والّذي تفرد به وحده واختصه لنفسه.
{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : بعد الافتتاح بالحمد يُذكر الله بعظمته وقدرته على فطر السّموات والأرض وخلق الملائكة بأجنحة مختلفة العدد، فاطر السّموات والأرض: أيْ: خالق السّموات والأرض ابتداءً أيْ: هو الّذي أوجدهما وأظهرهما، على غير مثال سابق وفاطر اسم فاعل من فعل فطر: أيْ: شق يقال: تفطَّر الشّجر: إذا تشقق بالورق، والفطر: الإبداع. ارجع إلى سورة الأنعام الآية (10) لمزيد من البيان.
فكونه فاطر السّموات والأرض فهو يستحق الحمد والعبادة، وكذلك تسخيرهما يعدُّ من أكبر النّعم الرّبانية.
{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} : إلى الأنبياء والرّسل، ورسلاً لتدبير أمور الخلق وتصريف الرّياح والسّحاب وكتابة أعمال الخلق ورعايتهم والدّعاء والاستغفار للمؤمنين، وقد خلقهم الله تعالى من نور، فهم مخلوقات نورانية لا تأكل ولا تشرب ولا تنام ومطهرون من الشّهوات لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
{أُولِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} : ومن صفاتهم الخلقية الّتي يخبرنا الله بها أنّ لهم أجنحة يتفاوتون في أعدادها، أولي: أيْ: أصحاب أجنحة مثنى، وثلاث، ورباع، ويعني: ذلك جماعة من الملائكة ذوو جناحين، وجماعة ذوو ثلاثة أجنحة، وجماعة ذوو أربعة أجنحة؛ أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولا يعني: ملك واحد له جناحين، أو ثلاثة، أو أربعة أجنحة.
{يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} : يزيد الله في الخلق ما يشاء من أجنحة، يزيد في صور وأشكال خلقه من طول قامة وشعر، وألوان وحواس وقوة وصفات وراثية غير متشابهة.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام وله ستمئة جناح، والآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : قدير: صيغة مبالغة على وزن فعيل، وأبلغ من قادر. ارجع إلى سورة البقرة الآية (20) للبيان.
سورة فاطر [35: 2]
{مَا} : شرطية.
{يَفْتَحِ اللَّهُ} : حركت بالكسر لالتقاء السّاكنين، يفتح، أيْ: يمنع أو يعطي أو يؤتي.
{لِلنَّاسِ} : اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، النّاس: الثقلين الإنس والجن، وكلمة النّاس مشتقة من النّوس، أيْ: كثرة الحركة.
{مِنْ رَّحْمَةٍ} : من: ابتدائية استغراقية، تستغرق كلّ رحمة مهما كان نوعها من السماء أو الأرض في الدّنيا أو في الآخرة، من رحمة: جاءت بصيغة النّكرة لتشمل كلّ رحمة مثل النّبوة والعلم والمطر والغنى والعافية والأمن، والمطر والطّعام والشّراب وإرسال الرّسل، وتدل على الكثرة وسواء كانت رحمة حسية أو معنوية، ورحمته سبحانه وصفها بأنّها واسعة {ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 47].
{فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، لا نافية للجنس، فلا ممسك لها: فلا مانع لها أو حابس لها، أيْ: لا أحد من الخلق يستطيع أن يمنع وصولها إلى أصحابها.
{وَمَا يُمْسِكْ} : أي: الله سبحانه ولم يحدِّد ما يمسك، وأطلق ما يمسك من رحمة أو عقوبة أو ضراء أو نعمة أو نقمة أو سراء، بينما في قيد في الأولى (ما يفتح من رحمة).
{فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} : أيْ: لا أحد قادر على إرسال وبعث أو إطلاق ما يمنع أو يمسك الله سبحانه.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، العزيز: عزة القوة والغلبة والقهر والامتناع، الحكيم: أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء في تدبير خلقه وشرعه وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) للبيان.
سورة فاطر [35: 3]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : نداء إلى النّاس جميعاً (الإنس والجن) الثّقلين استعمل فيها ياء النّداء للبعد والهاء في أيّها للتنبيه.
{اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : باللسان والطّاعة وتجنب المعاصي وغيرها من وسائل الذّكر أي: الشّكر، أي: اشكروا نعمة الله عليكم مثل نعمة الدّين والإسلام والأمن والعافية والعلم والأهل والرّزق وغيرها من النّعم.
{هَلْ} : استفهام يفيد التّقرير والنّفي والتّحدي، ولم يأت بالآية بصيغة الخبر كقوله تعالى: يا أيّها النّاس الله الّذي خلقكم ويرزقكم من السّماء والأرض وإنما استعمل هل للاستفهام؛ لكي يأتي الرّد أو الإجابة على السّؤال من السّامع نفسه، والإجابة تعني الإقرار، والإقرار يعني: إقامة الحُجَّة عليه وتعني النّفي أيْ: ما من خالق غير الله وتعني التّحدي، ومن: الاستغراقية.
إن كان لكم خالق غير الله فأين هو:
{مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : والجواب لا، فهو وحده الخالق والرّازق من السّماء والأرض، وبما أنّه لا يوجد غيره فهو سبحانه الّذي يستحق العبادة والشّكر.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى سورة البقرة الآية (255) للبيان.
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : أنى لها أربعة معان كيف تؤفكون، من أين تؤفكون، وللتعجب، والاستفهام أقوى من كيف، تؤفكون: مشتقة من أفكه عن الشّيء، أيْ: صرفه عنه أو قلبه، أيْ: كيف تصرفون عن الإيمان بالله تعالى وتوحيده وطاعته إلى عباده وطاعة غيره بقصد وتعمد، أو كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، تؤفكون من الإفك هو الكذب المتعمد، أو كيف تصرفون خلق الله ورزق الله وتجعلونه لغيره، ثمّ يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصّبر والتّأسي بالرّسل الآخرين.
سورة فاطر [35: 4]
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} :
{وَإِنْ} : الواو استئنافية، إن شرطية تحمل معنى الاحتمال أو الافتراض أو النّدرة في أن يكذبوك.
{يُكَذِّبُوكَ} : جاءت بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والاستمرار.
{فَقَدْ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، قد للتحقيق (أيْ: قد حدث هذا لمن جاء قبلك من الرّسل وتحقق).
{كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} : كذبت جاء بتاء التّأنيث بدلاً من القول فقد كذب رسل من قبلك لتدل على كثرة الرّسل الّذين كذبوا.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} : وإلى الله تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر أيْ: لله وحده فقط ترجع الأمور، ترجع الأمور للفصل والحكم فيها والمجازاة عليها إن كانت خيراً يثاب عليها وإن كانت شراً يعاقب عليها.
وفي هذه الآية حثٌّ وحضٌّ للرّسول صلى الله عليه وسلم بالصّبر على تكذيب قومه والتّأسي بمن جاء قبله من الرّسل.
ولمقارنة هذه الآية مع الآية (184) من سورة آل عمران: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} ، والآية (33) من سورة الأنعام:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} . ارجع إلى سورة آل عمران آية (184) للبيان.
ولمعرفة الفرق بين {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} .
سورة فاطر [35: 5]
نداء جديد إلى النّاس جميعاً بتبليغ جديد وتحذير يا أيّها النّاس. ارجع إلى الآية (3) للبيان.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : إن للتوكيد، وعد الله حق: بالبعث والحساب والجزاء بالثّواب أو العقاب وبالجنة أو النّار، وكل ما وعد الله حق، أيْ: صدق ثابت لا يتغيَّر أبداً.
والوعد يأخذ حقيقته من الواعد فالواعد هو الله وهو الحق بذاته، ولا يوصف أيُّ وعد بأنّه مؤكد إلا وعد الله؛ لأنّه سبحانه قادر على الوفاء بالوعد وهو الحي القيوم، أمّا وعد الإنسان فهو وعد غير مؤكد، وقد يكون باطلاً.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : الفاء فاء السّببية أيْ: تفيد الدّلالة على السّبب، تغرنكم: النّون في تغرنكم للتوكيد، تغرنكم من الغرور، وانتبه إلى لفظ الغَرُور.
الغُرُور: بضم الغين وهو كلّ ما يغترُّ به الإنسان من متاع الدّنيا والشّهوات والمال والجاه والأنعام والحرث حتّى ثناء النّاس عليه وغيرها، وهو نوع من الخداع، ناجم عن غفلة أو نقص في التدبر أو التفكير، وهو زائل وغير باقٍ أو دائم، مقارنة بمتاع الآخرة الدّائم الّذي لا ينفد.
والغَرُور بفتح الغين تعني: الشّيطان صيغة مبالغة على وزن مفعول، أيْ: كثير الغرور بالوسوسة والتّزيين والإغواء والإضلال والنزغ.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : بجمالها وزينتها ومتاعها وشهواتها الفانية.
ولا يغرنكم الشّيطان بالوسوسة والأوهام والتّزيين والهوى وطول الأمل وحب الدّنيا.
وهناك فرق بين الغرور والخدع: فالغرور إيهام أو تصور يحمل الإنسان أو يجرُّه إلى فعل شيء هو غافل عنه، مثال: يرى السّراب فيظنه ماء، أو كما فعل إبليس بآدم فقال له: هل أدلك على شجرة الخلد ومُلك لا يبلى، أمّا الخدع: فهو ستر الصّواب ليوقع بالآخر أمراً غير مستحبٍّ، مثال: يخدعه في البيع والشّراء أو يظهر له خلاف الحقيقة.
والغرور قد يسمَّى خدعاً أو الخدع يسمَّى غروراً على سبيل التّوسع في المعنى، فالغرور له علاقة بالغفلة، والخداع له علاقة بستر الحقيقة.
سورة فاطر [35: 6]
المناسبة: هذه الآية تتمة للآية السّابقة فقد قال: ولا يغرنكم بالله الغَرُور، أي: الشّيطان، إن الشّيطان لكم عدوٌّ.
{إِنَّ الشَّيْطَانَ} : إن للتوكيد، الشّيطان: هو الكافر من الجن أو الإنس وكلمة الشّيطان مشتقة من شطن، أي: ابتعد عن الحق والخير وتمادى في الشّر أو شاط: احترق والشّاطن يعني: الخبيث.
أمّا الشّيطان الرّجيم. فارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة للبيان.
{لَكُمْ عَدُوٌّ} : قدم لكم للاهتمام.
{فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} : الفاء فاء السّببية، اتخذوه: اجعلوه عدواً، بمخالفتكم وساوسه وخطواته؛ لأنه عدو مبين.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر.
{يَدْعُوا حِزْبَهُ} : أتباعَه وحزبَه جماعتَه أولياءَه، والحزب هم جماعة تعصَّبوا لفكرة ما، أو رأي أو مبادئ ويعملون من أجلها.
{لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} : اللام في ليكونوا لام التّعليل، من: ابتدائية بعضية، أصحاب السّعير: ارجع إلى الآية (10) من سورة الملك للبيان، والرعد آية (18) لبيان معنى السعير.
سورة فاطر [35: 7]
المناسبة: بعد التّحذير من اتباع الشّيطان وطاعته يُبيِّن في هذه الآية جزاء من أطاع الشّيطان وجزاء من أطاع الله تعالى.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : الّذين اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير، كفروا: جحدوا بوجود الخالق أو آياته أو رسله وكتبه واليوم الآخر.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عَذَابٌ شَدِيدٌ} : مقارنة بالعذاب الأليم والعذاب المهين والعذاب العظيم في الدّنيا والآخرة.
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد العلو.
{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصّالحات: الفرائض والنّوافل وشعب الإيمان.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{مَّغْفِرَةٌ} : المغفرة تعني: محو الذّنوب وترك العقاب وإثابة صاحبها على ما فعله من الحسنات.
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : الأجر يكون مقابل العمل والأجر قد يوصف بالكبير أو الكريم أو العظيم أو غير الممنون أو الحسن، أيْ: له درجات حسب درجات أعمالهم وإيمانهم وإحسانهم والمغفرة والأجر الكبير قد يعني: الجنة، ولو قارنا هذه الآية مع الآية (12) في سورة المُلك، وهي:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : نجد أن خشية الرب وهي صفة من صفات الذين آمنوا وعملوا الصالحات، اقترنت بالمغفرة والأجر الكبير؛ مما يدل على أهمية خشية الله تعالى بالغيب.
سورة فاطر [35: 8]
المناسبة: في الآيات السّابقة بين الله سبحانه أنّ الشّيطان هو العدو وفي هذه الآية يبيِّن ما يعمله الشّيطان هو التّزيين للوقوع في الشّرك والمعاصي.
{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، الفاء لتوكيد زيادة الإنكار، من: اسم موصول بمعنى الّذي، ومن: للعاقل، وقد تنزل منزلة غير العاقل.
{زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} : أيْ: رأى عمله السّيِّئ القبيح أو الباطل حسناً، فهو يظن مثلاً أن الشّركاء يقرِّبونه عند الله زلفى، أو يشفعون له.
{فَرَآهُ حَسَنًا} : أي: من الأصنام والأوثان سيقبله الله تعالى وله أجره وثوابه وخبره محذوف تقديره أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً كمن لم يُزيَّن له سوء عمله، والحق سبحانه لم يذكر الجواب؛ لأنّه معلوم، أيْ: لا يستويان.
{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} : أيْ: هذا الّذي زين له سوء عمله فرآه حسناً لا تظن أو تعتقد أن الله سبحانه أضلَّه، ولا تظن أنّ الّذي لم يُزيَّن له سوء عمله أنّ الله هداه؛ لأنّ الله سبحانه ترك لكلّ منهما حرية الاختيار، فالّذي اختلت عنده الموازين والرّؤية، وسار في طريق الضّلال واتَّبع الشّيطان وضل عن طريق الهدى وطاعة الله، فالله سبحانه يتركه وشأنّه، وإذا ابتعد كثيراً عن الحق واستمر في طريق الضّلال فإن الله عندها يختم على قلبه وسمعه وبصره، وأمّا من اختار طريق الهدى وطاعة الله وطلب العون من الله فالله سبحانه سيكون له عوناً ويزيده هدىً.
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} : فلا: الفاء للتوكيد، لا: النّاهية، تذهب أو تهلك نفسك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمثال من زيِّن له سوء عمله فرآه حسناً بالحسرة عليهم؛ لأنّهم ضلوا وكفروا، ولم يؤمنوا، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية قومه ويألم الألم الشّديد إذا ضل أحدهم حتّى وصفه كأنّه باخع نفسه (قاتل نفسه) {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
حسرات: جمع حسرة: وهي غم ناشئ عن فوت فائدة، وتعني: فرط التحسر.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} : إن الله: للتوكيد، عليم: صيغة مبالغة من عالم أيْ: كثير العلم، لا تخفى عليه خافية عليم بظواهر أعمالهم وبواطنها.
بما: الباء للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
يصنعون: من المنكرات والسّيئات والفساد والقتل، واختار يصنعون ولم يقل يعملون: العمل يضم القول والفعل، ويصنعون يعملون بجودة واجتهاد؛ أي: يجتهدون في الأعمال السيئة أو السوء؛ أيْ: أصبح ارتكابهم للسيئات والمنكرات والشّرك والفساد صناعة من كثرة ممارستها والقيام بها والمهارة في إتقانها (شبهها بالصناعة).
سورة فاطر [35: 9]
المناسبة: ثمّ يذكر الله سبحانه بعض الآيات الكونية الدّالة على نعمه على الخلق والدّالة على قدرته على البعث والنّشور.
{وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} : أرسل فعل ماضي فتثير سحاباً فعل مضارع، المجيء بالفعل المضارع بدلاً من أثارت سحاباً، تدل على حكاية الحال أيْ: كأن الأمر يحدث أمّام عينيك الآن وأنت تراه للدلالة على قدرته الرّبانية، ولأن إثارة السحاب يحدث في المستقبل؛ أي: بعد إرسال الرياح، وكذلك للدلالة على أنّ إرسال الرّياح فتثير سحاباً، أمر يتكرَّر ويتجدَّد باستمرار، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (48) في سورة الروم، وهي قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} : نجد أن يرسل: بصيغة المضارع، وليس بصيغة الماضي كما في الآية فاطر.
{فَسُقْنَاهُ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة.
سقناه: أيْ: سقنا السّحاب الّذي يحمل المطر إلى بلد ميت، ويعني: السحاب الركامي، وانظر كيف تحولت صيغة الغائب {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} إلى صيغة المتكلم (سقناه) و (أحيينا) للدلالة على أهمية السوق والإحياء، وعبر بالفعلين الماضيين (سقناه وأحيينا) بعد المجيء بالفعل المضارع (تثير) للدلالة على تحقق الفعل؛ لأنه سبحانه خالق الزمان والمكان فاستوى عنده الماضي والحاضر والمستقبل.
{إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} : إلى بلد مقارنة إلى بلدة؛ البلدة: جزء من البلد، والأرض أعم من البلدة، والبلدة وميِّت: بتشديد الياء؛ أيْ: لم يمت بعد، أيْ: لا نبات فيها ولا زرع. ارجع إلى الفرقان آية (49) لمعرفة الفرق بين ميِّت بتشديد الياء وميْت بسكون الياء الذي يعني: مات وانتهى.
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ} : بالماء.
{الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : بالحب وبالنّبات والعشب والزّرع والثّمرات، ولم يقل من بعد موتها، حذف من: يدل على الزمن قد يطول أو يقصر بعد موتها قبل عودة إحيائها.
{كَذَلِكَ النُّشُورُ} : أيْ: كما أنّ الله سبحانه أنزل من السّماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها؛ كذلك يُحيي الموتى بعد موت طويل فيُنزل الله عز وجل ماءً من السّماء، فيختلط بتراب الأرض ويخترقها فيصل إلى عجب الذّنب المدفون في التراب، والحاوي على خلية، أو خلايا جذعية كاملة القدرات في حالة سبات (أو معطلة) تنتظر هذا الماء لتنمو من جديد بقدرة القادر المقتدر على أن يُعيد الخلق، وينبت الإنسان من جديد، كما ينبت البقل.
وكيف يتم ذلك؟ ارجع إلى سورة الروم آية (19)، ومع إضافة الماء تعود الرّوح إليه من جديد وتبدأ عملية نشز العظام وكسوها لحماً (كما بيَّن في الآية (259) من سورة البقرة).
النّشور: عودة الحياة إلى الأموات ومن ثمّ ظهورهم على الأرض، الحشر: هو السّوق والجمع إلى أرض المحشر.
سورة فاطر [35: 10]
هذه الآية جاءت لتردَّ على المشركين الّذين {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81].
ولتردَّ على المنافقين {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء: 139].
{مَنْ} : شرطية، تشمل المفرد والمثنى والجمع، ومن للعاقل.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} : من: يطلب ويرجو العزة والشّرف، فليعلم أن لله العزة جميعاً والعزة لها أنواع عزة القوة وعزة المنعة وعزة الغلبة والقهر، فليطلبها أو يرجوها من الله سبحانه وحده، ولا يرجوها من صنم أو وثن أو طاغوت؛ لأنّ العزة الحقيقية كلها جميعاً له وحده والعزة الحقيقية هي الّتي لا تزول ولا تضعف ولا تتحوَّل.
{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} : تقديم الجار والمجرور، فلله: يفيد الحصر والتّوكيد أنّ العزة له وحده، جميعاً: للتوكيد.
وعزة العبد لا تنال إلا بطاعة الله والقرب منه، وليست بعبادة الآلهة والأصنام والتّقرب منها، وإذا كانت العزة لله جميعاً، فكيف نفسر قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؟ هذا من فيض الله عز وجل وكرمه على رسوله وعلى المؤمنين وصفهم بأن لهم عزة، وهي عزة مؤقتة عارضة ومعرضة للأغيار. وهي نابعة من شرف الإيمان بالله والقرآن واتباع الرّسول صلى الله عليه وسلم والتّوحيد والإخلاص.
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} : تقديم إليه يفيد الحصر، أيْ: إليه وحده، يصعد: من الصّعود، ويختلف الصعود من الارتفاع؛ الصعود: لا يحتاج إلى فاعل، أما الرفع: فيحتاج إلى فاعل؛ أي: الكلم الطيب يصعد إليه سبحانه مرة واحدة من قائله دون الانتقال في منازل.
الكلم الطّيب: الكلم أوسع وأعم من الكلام، الكلم: قد تعني كلمة أو كلمتين أو ثلاث، أما الكلام: يعني الجمع (أكثر من ثلاث) ولا يشمل الكلمة، والكلمة والكلم قد تكون لا إله إلا الله محمّد رسول الله، والصّلاة وتوحيد الألوهية والرّبوبية والأسماء والصّفات، والذّكر والتّلاوة والدّعاء، وكل كلام فيه ثواب أيْ: يثاب عليه العبد من الله تعالى، والكلم لا يشترط أن يكون له معنى، أما الكلام: له معنى، والكلم: جمع كثرة، وكلمات: جمع قلة.
{وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} الواو: عاطفة، العمل الصّالح كأداء الفرائض والنّوافل، وذكر الله تعالى والإحسان، واجتناب المحارم، وكل عمل يثاب عليه العبد كالإصلاح بين النّاس وإماطة الأذى عن الطّريق.
والعمل الصّالح يرفعه: الهاء في يرفعه قد تعود إلى العمل الصّالح أي: العمل الصّالح يرفع الكلم الطّيب؛ أي: إذا وافق القول الفعل قُبل العمل الصّالح، وإن خالف رُدَّ، أو الهاء في يرفعه تعود على الكلم الطّيب أيْ: لا عمل صالح يُقبل إلا من موحِّد، فالتّوحيد هو الأصل للقبول فالمشرك بالله لا يُقبل منه أيُّ عمل صالح حتّى يتوب، ويرجع إلى الله، أو الهاء تعود إلى الله سبحانه أيْ: والعمل الصّالح يقبلُه الله.
فالإيمان يجب أن يقرن بالعمل الصّالح وبالعكس حتّى يُقبل.
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} : الّذين اسم موصول، يمكرون: من المكر: وهو التّدبير الخفي لإيقاع الضّرر بالغير من دون علمه، ويمكرون: بصيغة المضارع تدل على التجدد والتكرار والاستمرار، {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل: 45] تدل على الماضي.
أيْ: يدبرون السّيئات: مثل الشّرك والمعاصي والفساد أو إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والنّيل منهم، كما فعلوا في دار النّدوة مثلاً، وفي غيرها من اجتماعات أهل الكفر والنّفاق والشّرك للنيل من المؤمنين.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} : اللام لام الاختصاص لهم خاصة. عذاب شديد: شديد الإيلام.
{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} : أولئك اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى الكفار والمشركين والمنافقين والعصاة، هو: ضمير يفيد التّوكيد.
{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} : من بائر باطل من البوار: الأرض البوار الّتي لا تنبت بالزّرع أو الثّمر ولا تنتج شيئاً، أيْ: مكر هؤلاء صناديد قريش الّذين حاولوا المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه هو باطل، ولن يتحقق.
سورة فاطر [35: 11]
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} : أيْ: خلق أباكم آدم من تراب، لأنّكم من آدم وآدم من تراب، وكان خلقه على مراحل: طين، ثمّ طين لازب، ثمّ حمأ مسنون، ثمّ صلصال كالفخار، ثمّ نفخ فيه الرّوح.
من تراب: من ابتدائية وقد تكون بعضية وتعني تركيب جسم الإنسان، من تراب: فقد وجد أنّ هناك (16) معدناً من معادن الأرض موجودة في تركيب جسم الإنسان منها الكالسيوم والصوديوم والمغنزيوم والكلّوريد والنّحاس والزّنك والبوتاسيوم والحديد وغيرها. ارجع إلى سورة الروم آية (20) لمزيد من البيان.
{ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ} : ثمّ للترتيب الذّكري العددي، أو التسلسلي، ثمّ خلقكم من نطفة آدم، ثمّ بالتّزاوج والتّكاثر.
{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} : أيْ: ذكراناً وإناثاً، الذّكر يطلق عليه زوج والأنثى يطلق عليها زوج.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} : ما النّافية، تحمل من أنثى: من استغراقية، من ذكر أو أنثى أو توءَم أو أكثر من ذلك من الأجنَّة الكاملة الخلق أو غير الكاملة.
{وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} : ولا تضع إلا بعلم الله سبحانه، لا: النّافية، إلا: للحصر، بعلمه: أيْ: يعلم زمن الوضع (الولادة) بالدّقيقة والثّانية، ومنذ الأزل، وكيفية الوضع والولادة وما يتعلَّق بها من اختلاطات.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ} : ما النّافية، يعمر من معمر: المُعمَّر: الإنسان الّذي طعن في السّن أيْ: بلغ أقصى العمر أيْ: يعلم الله سبحانه ما تضع من أنثى ويعلم عمر كلّ معمَّر وكم سيعيش أو إلى متى سيطول عمره ومتى سيموت باليوم والدّقيقة والثّانية. وقيل ذلك موجود في المحفظة الوراثية في أحد الجينات أو الكروموزوم.
{وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} : هاء الضّمير في كلمة عمره، إما تعود على المعمر السّابق ذكره والّذي طال عمره أو تعود على أيِّ إنسان آخر.
وهذا النقص له معنيان:
الأول: ينقص من عمره فيموت وهو في سن مبكرة.
الثّاني: إنسان مكتوب عمره إذا حج وكان واصلاً لرحمه ومحسناً فسوف يعيش (90) سنة، وإذا حج ولم يكن واصلاً لرحمه ولا محسناً فسوف يعيش (60) سنة، وهكذا.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{فِى كِتَابٍ} : أي: اللوح المحفوظ أو في شفرته الوراثية عمر فلان (90) سنة؛ لأنّه سيكون واصلاً لرحمه ومحسناً، فالزّيادة في عمره داخل في تقدير عمره بصفة نهائية، والطّول والقصر كله بقضاء الله سبحانه وحده.
{إِنَّ ذَلِكَ} : إن للتوكيد، ذلك اسم إشارة يشير إلى الطّول والقصر في العمر والخلق والتّدبير.
{عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : أيْ: هيِّن ولا يعني أنّ هناك أموراً أو أشياءَ عسيرة، أو صعبة على الله سبحانه، وأمور سهلة، وإنما قوله: يسير فقط لتقريب قدرته إلى أذهان البشر.
سورة فاطر [35: 12]
ومن مظاهر قدرة الله وعظمته الدّالة على أنّه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد وحدَه هو تسخير البحرين.
{وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ} : الواو: عاطفة، وما: النّافية كثيراً ما تنفي الحال، بينما لا كثيراً ما تنفي الاستقبال، وتستعمل لا لنفي الأعمال وما يتعلق بها، بينما ما تنفي الاستواء في الحقائق والثوابت من الأمور، مثل: العمى، والبصير، والظلمات، والنور، والأحياء، والأموات، والفرات، والأجاج يستوي البحران: أيْ: سبحانه لم يسوِّ بينهما في كلّ الصّفات والخصائص لما تنطوي عليه مصلحة البشر والتّمكين من العيش؛ لأنّ الماء هو أصل كلّ شيء حيٍّ، وقد تعني التسوية أنّه لوحظ حين يلتقي الماء العذب بماء البحر نجد الماء العذب الحلو يطفو فوق الماء المالح؛ لأن الماء العذب أقل كثافة من الماء المالح، فيظل مفصولاً بينهما.
البحران: البحر هنا النّهر العذب الّذي يصبُّ في بحر مالح.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه وذا اسم إشارة للقرب.
{عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} : عذب: أي: الحلو اللذيذ الطّعم، فرات: الفرات المزيل للعطش. فرات لأنّه يفرت العطش أيْ: يزيله أو فرات للتوكيد، أيْ: هو عذب عذوبة بالغة.
سائغ شرابه: سهل الابتلاع (سهل المرور في الحلق والمري).
{وَهَذَا} : تكرار هذا يفيد التّوكيد.
{مِلْحٌ أُجَاجٌ} : أيْ: شديد الملوحة أو أجاج تعني: مرَّ الطّعم، أجَّ الماء اشتدت ملوحته وأجاج مشتقة من الأجيج النّار الملتهبة. وقيل: ملح أجاج: أيْ: شديد الملوحة ومُرُّ الطعم.
وسُمِّي بذلك؛ لأنّ شرب ماءه يزيد العطش ويصبح الإنسان يشعر كأنّ في بطنه ناراً مشتعلة يريد أن يشرب أكثر فأكثر
ولم يذكر في هذه الآية قدرته على أن جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً وذكرها في سورة الفرقان آية (53). ارجع إلى سورة الفرقان آية (53) لمزيد من البيان.
{وَمِنْ} : ابتدائية.
{كُلٍّ} : للتوكيد.
{تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} : من البحر العذب والبحر المالح تأكلون لحماً طرياً: لحم السّمك بأنواعه المختلفة وغيره من الحيوانات البحرية الّتي تؤكل لحمها، لحماً: بصيغة النّكرة لتشمل كلّ أنواع اللحوم من الحيوانات المصطادة.
{وَتَسْتَخْرِجُونَ} : للتوكيد جاءت بالنّون ولم يقل: وتستخرجوا لتدلَّ على التّجدُّد والتّكرار.
{حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} : لم يُبيِّن في هذه الآية نوع الحلية وبيَّنها في سورة الرحمن، فقال:{اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، تلبسونها: أي: الرّجل والمرأة ومع أن الحلية تلبسها النّساء عادة وهي زينة المرأة من أجل زوجها، فكأن الرّجل هو أيضاً يستمتع بالحلية. واللؤلؤ والمرجان غير محرَّم على الرّجال كالذهب والحرير.
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} : الفلك تطلق على المفرد والجمع وتسمَّى السفن.
{فِيهِ} : في البحر ظرفية.
{مَوَاخِرَ} : مواخر من المخر: وهو الشق؛ أي: يقال: السّفينة تمخر البحر أيْ: تشق طريقها بصوت خاص مُميز، مواخر: شواق للمياه بصدورها، قدَّم كلمة فيه على مواخر بينما في سورة النّحل آية (14) قال تعالى:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} أخَّر كلمة (فيه) السّبب في تقديم (فيه) في سورة فاطر؛ لأنّ الحديث أو السّياق عن البحرين أي: البحار، فقدَّم فيه الّتي تعني البحر، وأمّا في سورة النّحل فكان السّياق عن وسائل النّقل والأنعام والخيل والبغال والحمير وليس عن البحر، فأخَّر كلمة (فيه).
{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : اللام لام التّعليل، من فضله: أيْ: من بعض فضل الله تعالى عليكم، والفضل يعني: الزّيادة عما تستحقون من الأجر، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (14) في سورة النحل وهي قوله تعالى:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : نجد زيادة الواو في آية النحل؛ لأن آية النحل تشير إلى منافع أخرى (لتبتغوا منافع أخرى) لم تذكرها الآية بينما الآية فاطر يقصد بها المنافع التي ذكرت في الآية فقط.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : الواو في ولعلكم تشير إلى هذه المنافع المذكورة في الآية وغيرها من منافع أخرى لم يذكرها الله سبحانه في هذه الآية، أمّا حين يقول: لعلكم تشكرون من دون الواو فتعني فقط النّعم المذكورة في الآية.
لعلكم: لعل تفيد التّعليل ولا تعني التّرجي؛ لأنّكم إن شكرتم شكرتم لأنفسكم، وإن لم تشكروا فإن الله غني عن العالمين.
تشكرون المنعم على نعمه باللسان والطّاعة والإنفاق في سبيله وغيرها من وسائل الشّكر. ارجع إلى سورة الأعراف الآية (10) لمزيد من البيان.
سورة فاطر [35: 13]
{يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ} : ارجع إلى سورة لقمان آية (29) لمزيد من البيان.
يولج: يدخل والولوج أصعب من الدّخول، فيه معنى التماس والاختلاط أيْ: تعاقب الليل والنّهار الناتج عن كروية الأرض، وعن كونها تدور حول نفسها وحول الشّمس؛ مما يؤدِّي إلى تبادل الليل والنّهار، والنّهار والليل الضروري لاستقامة الحياة على هذه الأرض، وقدَّم الليل على النّهار؛ لأنّه هو الأصل أي: الظّلام.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} : التّسخير، أي: التّذليل للانتفاع بها فالشّمس مصدر للطاقة والدفء، وتعطينا حزمة الطيف المرئي من أشعة الشّمس الّتي تضيء بامتزاجها بالطبقة الغازية المحيطة بالأرض لتعطينا ضوء النّهار وأشعة الشّمس المهمة في كثير من الوظائف العضوية، وأمّا القمر فهو يعكس لنا ضوء الشّمس وهو يلعب دوراً مهماً في عملية المد والجزر المهمة في تفتيت الصخور وحركة الرياح ودوران الأرض حول محورها، ويستفاد من الشّمس والقمر في معرفة الزّمن: السّنة والشّهر واليوم والسّاعة.
لذلك كلّ آيات التّسخير جاءت بصيغة الماضي في كلّ القرآن بينما الإيلاج يتجدَّد في كلّ يوم، والتّكوير هو تعاقب الليل والنّهار.
وفي هذه الآية حذف كلمة لكم ولم يقل: وسخر لكم؛ لأنّ السّياق ليس في سياق تعداد النّعم، كما هو الحال في سورة النّحل آية (12) السّياق هنا في تعداد الآيات الكونية الدّالة على عظمة الله تعالى وقدرته، وأنّه الإله الحق الّذي يستحق أن يعبد وحده.
{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : اللام تفيد الانتهاء والاختصاص والتّعليل، أيْ: جريان الشّمس والقمر سوق يستمر حتّى يبلغا أجلهما المضروب لهما وهو يوم القيامة أو انتهاء زمن التّسخير.
أمّا قوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} كما في سورة لقمان آية (29) أي: الشّمس والقمر تجريان الآن في طريقهما للوصول إلى المنتهى، أي: المستقر.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} : ذلكم، ولم يقل: ذلك؛ للتعظيم والإشارة إلى فاعل كلّ تلك الأفعال من الخلق والتّسخير والإيلاج.
الله ربكم: الله المعبود واجب الوجود، ربكم: الخالق والمدبر والمسخر والمنعم، جمع الألوهية والرّبوبية معاً.
{لَهُ الْمُلْكُ} : له الحكم وله الملك وتقديم له يفيد الحصر والقصر له وحده لا يشاركه أحد.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} : والّذين اسم موصول وتشمل الأصنام والأوثان والملائكة وعيسى وعزير أو الآلهة المزعومة.
تدعون: تعبدون، من دونه: من غيره أو سواه.
{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} : ما النّافية، يملكون: شيئاً من السّموات والأرض، وشيئاً نكرة، أيْ: مهما كان صغيراً (والشّيء هو أصغر الأشياء).
من: ابتدائية لبيان الجنس.
قطمير: الغشاء الشّفاف الّذي يحيط بالنّواة نواة التّمر.
وفي آية أخرى ذكر الفتيل، فقال سبحانه في سورة النّساء آية (77){قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} والفتيل هو الخيط الّذي نجده في بطن النّواة.
وفي آية أخرى ذكر النّقير: فقال سبحانه في سورة النّساء آية (124){فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} : والنّقير هو تجويف صغير أو نقرة في ظهر النّواة.
إذن هذه الثّلاث: القطمير والفتيل والنّقير تضرب للشيء اليسير المتناهي في القلة، وكلها نجدها في نواة التّمرة الّتي جعلها الله موضعاً للمثل والعبرة.
سورة فاطر [35: 14]
{إِنْ} : شرطية تدل على الافتراض.
{تَدْعُوهُمْ} : أيْ: تعبدوهم أو تتوسلوا إليهم، أي: الشّركاء أو الأوثان.
{لَا يَسْمَعُوا} : لا النّافية، لا يسمعوا؛ لأنّهم أوثان وأصنام أو جمادات وأحجار.
{وَلَوْ سَمِعُوا} : لو شرطية، سمعوا على سبيل الافتراض أنّهم كانوا ملائكة أو عيسى أو عزير.
{مَا} : النّافية.
{اسْتَجَابُوا لَكُمْ} : لعدم قدرتهم لعجزهم أو عدم السّماح لهم.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} : يجحدون وينكرون عبادتكم لهم ويتبرؤون منكم، ومن عبادتكم {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63].
{وَلَا يُنَبِّئُكَ} : لا: النّافية، ينبئك: من النّبأ وهو الخبر العظيم، والكاف للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: لا يخبرك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أو كما يُخبرك به الله عز وجل بما سيكون في المستقبل أو ينبئك ببعض الغيب أيُّ خبير.
{مِثْلُ خَبِيرٍ} : مثل الله تعالى الخبير العالم ببواطن الأمور وظواهرها وأجريت هذه الآية مجرى المثل.
سورة فاطر [35: 15]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} :
هذا هو النداء الثّالث في هذه السّورة إلى النّاس. ارجع إلى الآية (3) لبيان معنى يا أيّها النّاس.
{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} : أنتم تفيد التّوكيد، الفقراء جاء بأل التّعريف ليشمل الكل، كلّ النّاس، ولو قال: أنتم فقراء يعني: بعضكم فقراء إلى الله وبعضكم غير فقراء.
وعرَّف الفقراء للمبالغة في فقرهم فهم شديدو الافتقار إلى الله وسائر الخلائق.
أنتم الفقراء: أيْ: أنتم خاصة المفتقرون إلى الله سبحانه، والله ليس بمفتقر لكم؛ لأنّه سبحانه غني عنكم وعمن في الأرض جميعاً.
أنتم الفقراء إلى الله على الإطلاق، أي: المحتاجون إليه في جميع أمور الدِّين والدّنيا. فقراء إليه حتى في تنفسكم الهواء (الأوكسجين)، وماءكم، وطعامكم، ونومكم، وبعثكم، وحياتكم، وإلى شمسه وليله ونهاره وكل شيء.
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} : هو تفيد التّوكيد والحصر، واستعمال هو حتّى لا يظن أحدٌ أنّه يشاركه في الغنى.
الغني: لأنّ له ما في السّموات وما في الأرض، وإن من شيء إلا عنده خزائنه، ولا تنفد خزائنه، الغني عن خلقه وعن عبادتهم. ارجع إلى سورة الحديد آية (24) للبيان.
الحميد: أيْ: قرن غناه بكرمه وجوده والحميد، أي: الغني النّافع خلقه بغناه؛ فهو يحمد؛ لأنّه سبحانه يعطي خلقه ويُغني بعضهم حتّى ولو عصوه، والحميد من قبل أن يحمده خلقه، فهو المستحق الحمد من عباده لإحسانه إليهم.
سورة فاطر [35: 16]
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} :
{إِنْ} : شرطية تفيد الافتراض أو الاحتمال.
{يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} : يميتكم أو يسلط عليكم وباءً أو داءً فيقضي عليكم جميعاً.
{وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} : طائعين لا يعصونه، وهذه الطّاعة طاعة رضا واختيار، لا طاعة قهر وقسر وكراهية، وهذا يُعدُّ إنذاراً لمشركي قريش.
سورة فاطر [35: 17]
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما نافية.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة للبعد يشير إلى الذّهاب بكم، والإتيان بخلق جديد ما هو شيء عزيز، أيْ: ممتنع أو متعسِّر على الله عز وجل.
وقد ذُكرت هذه الآية، أيْ:(يشأ يذهبكم) في أربع آيات في القرآن النّساء آية (133)، والأنعام آية (133)، وفاطر آية (16)، وإبراهيم آية (19).
سورة فاطر [35: 18]
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا النّافية.
{وَلَا تَزِرُ} : لا تتحمل أو تحمل.
{وَازِرَةٌ} : أيْ: نفس وازرة، أيْ: مذنبة أو آثمة.
{وِزْرَ أُخْرَى} : الوزر الحمل ويعني: إثماً أو ذنباً أو خطيئة أو جرمَ نفس أخرى، فكل إنسان مجزيٌّ بعمله سواء كان صالحاً أو سيئاً كقوله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
أيْ: لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، ويبدأ ذلك من زمن التّكليف (البلوغ) هذا إذا اقتصر ظلمه أو ضلاله على نفسه، أمّا إذا تعدَّى إلى غيره فعندها تنطبق عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، أيْ: تتحمل إثمها وإثم غيرها.
{وَإِنْ} : شرطية تفيد الافتراض والاحتمال.
{تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} : وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها أحداً إلى حملها؛ كي يحمل عنها، لا يحمل منه شيء ولو كان من تدعوه ذا قربى، أيْ: صاحب قربى.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} : أيْ: إنذارك يا محمّد صلى الله عليه وسلم وتحذيرك لا ينتفع منه، أو لا يستفيد منه إلا الّذين آمنوا ويخشون ربهم بالغيب، والإنذار في القرآن يأتي في سياق الذين كفروا أو الذين آمنوا فهو ليس خاصاً للكفار والمنافقين دائماً؛ فهو إنذار قد يعم الكل أو إنذار خاص بفئة معينة.
الخشية: هي الخوف المقرون بالتّعظيم والمهابة والعلم بالله تعالى، وتحمل معنى الأمل، وبالغيب: الباء للإلصاق وتعني: الدّوام والغيب يعني: عندما يكونوا في منأى عن النّاس ولوحدهم ومن يخشاه بالغيب يعني: يخشاه بالعلن ويخشاه بالغيب تعني يخشوا ربهم وما رأوه بأعينهم، وجاءت كلمة يخشون بصيغة المضارع؛ لأن الخشية ليس لها وقت محدد، بل هي مستمرة أو دائمة.
أمّا الكافرون والجاحدون فإنهم لن يقبلوا أو ينتفعوا بإنذارك لهم.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : تعود على الّذين يخشون ربهم.
وأقاموا الصّلاة بشروطها وأركانها وسنتها ولوقتها من دون تأخير والمحافظة عليها واختار الصّلاة من بين العبادات؛ لأنّها أهمها، ولأنها العبادة الّتي تؤدَّى خمس مرات باليوم.، وهي عماد الدين، وتمثل كل العبادات الأخرى، وجاءت {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: بصيغة الماضي؛ لأن لها أوقات محددة، وليس مستمرة كما هي الحال في الخشية.
{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} : وهذه حقيقة أخرى بجانب ولا تزر وازرة وزر أخرى.
ومن: شرطية، يتزكى: تطهر من الدّنس والكفر والذّنوب بالتّوبة والإيمان والعمل الصّالح وبفعل الطّاعات وترك المعاصي، فإنما: الفاء للتوكيد (جواب الشّرط). إنما: لزيادة التّوكيد والقصر.
يتزكى لنفسه: يتطهر لنفسه حيث يعود الثّواب والأجر إليه.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} : إلى الله تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة يفيد الحصر، أيْ: إليه وحده المصير النّهاية، أي: الوقوف بين يديه للمحاسبة أو إليه ينتهي كلّ أمر للنظر فيه؛ أي: الحكم والقضاء.
سورة فاطر [35: 19]
{وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} :
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية للجنس.
{الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : الأعمى الجاهل أو الكافر، أيْ: لا يستوي الكافر مع الكافر، أيْ: مع الّذي أشد منه كفراً فالكفر درجات.
والبصير: العالم أو المؤمن، أيْ: لا يستوي المؤمن مع المؤمن، أي: الّذي أشد منه إيماناً والإيمان درجات.
الاستواء هنا يقصد به الاستواء في الجنس، وقد يقصد به غير الجنس ناهيك عن عدم استواء الكافر والمؤمن، فهذا شيء مفهوم لا يحتاج إلى تبيان.
سورة فاطر [35: 20]
{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} :
{وَلَا} : النّافية لزيادة توكيد المعنى.
{الظُّلُمَاتُ} : جمع ظلمة مثل (ظلمة الكفر والشّرك والمعاصي)، أو الظّلمات بعضها أشد من بعض فهي لا تستوي أيضاً.
{وَلَا النُّورُ} : الإيمان أفرد النّور؛ لأنّه نور واحد منزل في كتابه أو النّور لا يستوي مع النّور الأشد منه.
سورة فاطر [35: 21]
{وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} :
وتكرار لا يفيد زيادة النّفي.
{الظِّلُّ} : الجنة، الظّل: كناية عن ظل الجنة {ظِلًّا ظَلِيلًا} [النّساء: 57]، فالجنة درجات قيل: مئة درجة.
{وَلَا الْحَرُورُ} : النّار أو جهنم. دركات قيل: هي سبع دركات.
سورة فاطر [35: 22]
{وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ} : ما: النّافية الأحياء: المؤمنون الّذين استجابوا لله ولرسوله حين دعاهم لما يحييهم كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
{وَلَا الْأَمْوَاتُ} : الكفار الّذين لم يستجيبوا لله وللرسول وتولَّوا وهم معرضون، وتكرار (لا) وما تؤكد عدم الاستواء كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].
وإذا نظرنا إلى الآية (19) قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} لم يضف لا كقوله: ولا البصير، لم يؤكد بحرف نفي.
وأمّا الآية (20) قال تعالى: {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} فأضاف لا.
والآية (21) قال تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} : أضاف لا.
والآية (22) قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} : أضاف لا.
فقوله: وما يستوي الأعمى والبصير، قد يكون الشّخص جاهلاً، ويتعلَّم دينه أو كافراً فيؤمن فيطرأ عليه الوصفان؛ أي: كونه كان أعمى ثم أبصر يجتمع فيه الوصفان.
وأمّا قوله: ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء والأموات، فهذه الثّلاث كلها متقابلات أو متناقضات لا تجتمع أبداً، فلا بُدَّ أن يكون إما ظلمةً أو نوراً لا ثالث لهما، أو ظلاً (جنة) أو حروراً (جهنم لا ثالث لهما) أو حياً أو ميتاً لا ثالث لهما، فاستعمل لا للتوكيد على النّفي.
{إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} : إن للتوكيد، الله يسمع من يشاء: أيْ: يُسمع من اهتدى بنفسه واختار طريق الهداية، سماع هداية فيزيده هدى وتقوى.
{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ} : وما النّافية، أنت يا محمّد صلى الله عليه وسلم بمسمع من في القبور، أي: الكفار الأحياء الّذين هم كالأموات في نظر الله تعالى. كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]، أيْ: أنت يا رسول الله لن تسمع هؤلاء الكفار سماع الهداية المؤدِّي إلى عودتهم إلى الإيمان.
وفي هذه الآية تهديد ووعيد للذين كفروا، وتبقى مهمتك هي: إن أنت إلا نذير.
سورة فاطر [35: 23]
{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} :
{إِنْ} : نافية تعني: ما، أيْ: ما أنت إلا نذير.
{إِلَّا} : إلا حصراً وتوكيداً.
{نَذِيرٌ} : أيْ: منذر والإنذار يعني: الإعلام مع التّحذير، أمّا الهداية فلله وحده.
سورة فاطر [35: 24]
{إِنَّا} : للتعظيم.
{أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق واللزوم، الحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيَّر ولا يتبدل والحق دين الإسلام دين الحق، والحق هو القرآن الكريم وهو الهدى أيضاً.
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} : ارجع إلى الآية (28) من سورة سبأ للبيان.
{وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ} : وإن نافية تعني: وما من أمة، من استغراقية، الأمة جماعة من النّاس تجمعها عقيدة أو مقومات بغض النّظر عن الحيز الجغرافي والعدد.
{إِلَّا} : تفيد الحصر والقصر.
{خَلَا} : مضى أو أرسل إليها أو بعثنا فيها نذير.
{فِيهَا نَذِيرٌ} : {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النّساء: 165].
سورة فاطر [35: 25]
{وَإِنْ} : الواو عاطفة، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض أو النّدرة.
{يُكَذِّبُوكَ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم، يكذبوك كفار مكة وغيرهم، وجاءت بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والتّكرار أو حكاية الحال، ولم يقل: وإن كذبوك تدل على الماضي وعلى مرة واحدة، وقال: كذب الّذين من قبلهم، ولم يقل: كذبت.
كذب تدل على القلة (بصيغة التّذكير) وكذبت تدل على الكثرة (بصيغة التّأنيث). ارجع إلى سورة آل عمران آية (184) للبيان، وسورة الأنعام آية (33) للمقارنة.
{فَقَدْ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، قد: حرف تحقيق، أيْ: قد كذب الّذين من قبلهم وحدث ذلك.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من الأمم الماضية كذبوا برسلهم، وبما جاؤوا به من البينات وبالزّبر وبالكتاب المنير. من: تدل على الزمن القريب.
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} : مقارنة بـ جاءهم رسلهم؛ جاءتهم: تدل على كثرة الرسل الذين جاءوهم، وجاءهم: تدل على القلة، كقوله تعالى:{قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ} [آل عمران: 183].
{بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزات والدّلائل على النّبوَّة (نبوَّة رسلهم).
{وَبِالزُّبُرِ} : جمع زبور، وهو كلّ كتاب ذي حكمة وموعظة وسُمِّي زبوراً؛ لأنّه يزجر عن الباطل وليس فيه أحكام شرعية. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.
{وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : الكتاب اسم جنس والكتاب المنير الواضح الحاوي على الأحكام مثل القرآن والتّوراة والإنجيل.
وتكرار الباء بالبينات وبالزّبر وبالكتاب المنير يفيد التّوكيد، ويدل على عظم مقاومة الأمم لرسلها، فالمقام مقام إنذار وتبليغ ودعوة، واستمرار الّذين من قبلهم في تكذيب رسلهم، فلذلك أضاف ثلاثة باءات، للدلالة على شدة الموقف والإنذار وكذلك الآيات الّتي وردت في السّياق، وهي قوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} و {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} و {وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} ، وكذلك المجيء بالباء ثلاث مرات تدل على فصل كلٌ من البينات عن الزبر عن الكتاب المنير أو توزيع ما جاء الرسل من ربهم فمنهم من جاءُهم البينات (مثل: صالح وهود
…
وغيرهم)، ومنهم من جاءُهم الزبر (داود)، ومنهم من جاءُهم الكتب (محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى، وعيسى)، أما في قوله تعالى:{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بدون تكرار الباء: تدل على أن هناك من الرسل من جاءوا بالأنواع الثلاث.
وإذا قارنا هذه الآية بالآية (184) من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} التّكذيب هنا بصيغة الماضي، ويدل على حادثة معينة وانتهى، ومقام التّبليغ والدّعوة في بدايته.
سورة فاطر [35: 26]
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّعقيب والتّراخي؛ لأنّه سبحانه حليم لا يعجل بالعقوبة، مقارنة بقوله تعالى:{فَأَخَذْتُهُمْ} [غافر: 5] الفاء: تدل على التعقيب والمباشرة.
{أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : والأخذ يدل على قوة الأخذ بالعذاب أو الانتقام، وكما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (5) في سورة غافر، وهي قوله تعالى:{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} : نجد أن أخذت: أكثر ذماً وأكثر توبيخاً.
{فَكَيْفَ} : استفهام يحمل معنى التّعجُّب والتّقرير.
{كَانَ نَكِيرِ} : من النّكر ما يجهله الإنسان ويستغربه وينكره حين يراه أو يعلم به؛ لأنّه يظنه لا يمكن أن يكون بهذا الشكل أو الشدة والدمار، مع أنّه حقيقة وصواب، وأصلها: فكيف كان نكيري. حذفت الياء.
ونكير: اسم لشدة الإنكار، والإنكار يستلزم الجزاء بالعقاب على فعل إنكارهم، فيصبح المعنى: ثمّ أخذت الّذين كفروا بعذاب ملائم لإنكارهم، فكيف كان انتقامي منهم أو عقوبتي لهم أو أخذي لهم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (5) في سورة فاغر، وهي قوله تعالى:{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} جاءت في سياق الأشد كفراً، مقارنة بـ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} فالعقاب أشد من الإنكار.
سورة فاطر [35: 27]
بعد أن ذكر الله سبحانه تكذيب كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كذبت الأمم السّابقة لرسلهم، رغم البينات والزّبر والكتاب المنير، يذكر الله سبحانه دليلاً آخر على عظمته وقدرته جلَّ وعلا ووحدانيَّته، وأنه هو الإله الحق الّذي يستحق أن يُعبد، وهو ما يشاهده النّاس من الثّمرات المختلف ألوانها وأجناسها وطعمها، وما يشاهدونه من الجبال الجدد بيض وحمر المختلف ألوانها، وما يشاهدونه من اختلاف ألوان النّاس والدّواب والأنعام.
{أَلَمْ تَرَ} : الهمزة همزة استفهام تحمل معنى التّقرير والتّعجب، تَرَ: رؤية بصرية أو رؤية قلبية فكرية.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} : أيْ: من السّحاب أو السّحب الركامية ماء (ماء المطر).
{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} : الفاء للتعقيب، فأخرجنا به (بالماء).
{ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} : النّخيل والأعناب والثّمرات الأخرى المختلف ألوانها وطعمها.
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} : ومن: الواو عاطفة، من بعضية، من الجبال جدد: الجُدَد من الجبل القطعة منه.
والجُدّة من الشّيء الجزء منه يخالف لونه لون سائرة.
أيْ: من الجبال أجزاء ذات ألوان بيض وحمر أو مخططة بألوان مختلفة.
{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} : الغرابيب: وهو شديد السّواد الّذي يشبه لونه لون الغراب.
غرابيب سود وقيل: سود بدل من غرابيب وهي معطوفة على بيض فهناك سوداء (سُود) وشديدة السّواد (غرابيب) إذن نوعان من اللون الأسود، أسود وشديد السّواد.
سورة فاطر [35: 28]
{وَمِنَ النَّاسِ} : الواو عاطفة، من ابتدائية، النّاس:(الإنس والجن).
{وَالدَّوَابِّ} : جمع دابة؛ كلّ ما يدب على الأرض عدا النّاس.
{وَالْأَنْعَامِ} : البقر والغنم والإبل والماعز ومن كلّ زوجين.
{مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} : أيْ: كاختلاف ألوان الثّمار والجبال.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر؛ أي: حصر الخشية بالعلماء (خاصة).
{يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} : أيْ: أن الذين يخشون الله (سبحانه) حق الخشية هم العلماء أو تعني: من المفروض أن يكون العلماء هم أخشى النّاس لله تعالى لما يرونه بأعينهم من الحقائق والاكتشافات العلمية والآيات الكونية، وقدَّم المفعول به (اللهَ) ليفيد الاختصاص.
{مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} : لا يقصد بهؤلاء العلماء الكفرة الملحدين الّذين لا يذكرون الله مهما شاهدوا من آيات كونية أو حقائق، فهؤلاء لا يُثني عليهم مهما وصلوا إليه من علوم ومعارف.
والمقصود بهؤلاء العلماء الّذين عرفوا الله سبحانه وملأت قلوبهم الخشية تعظيماً لما رأوا من قدرته وعظمته من آيات كونية تدل على أنّه الخالق والإله الحق، والخشية هي مزيج من الخوف والتّعظيم والعلم بالله وأسمائه وصفاته ووحدانيته، وقال تعالى:{الْعُلَمَاؤُا} ولم يقل العالمون، العلماء: هم طلاب العلم عامة، أما العالمون: فهم أساتذة العلم، أو من يعلمون العلماء أو هم قمة العلم أو ليس هناك من هو أعلم منهم.
وهناك قراءة شاذة إنما يخشى الله من عباده العلماء، والخشية: هنا لا تعني الخوف والتعظيم، وإنما تعني: إنما يمدح أو يُثني ويعظم الله عباده العلماء الّذين اكتشفوا بعض الأسرار والآيات الكونية، وكانوا سبباً لهداية غيرهم من الضالين.
ويؤيِّد ذلك قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} : وبهذا يكون معنى يخشى يُعظم ويثني وليس يخاف.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{عَزِيزٌ غَفُورٌ} : تعليل لوجوب خشية، أيْ: خشوه لأنّه:
عزيز: قوي لا يُغلب ولا يُقهر وممتنع له العزة جميعاً والشّرف عزة القوة والمنعة والقهر والغلبة والقادر على عقوبة العصاة وقهرهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
غفور: لمن تاب وأناب إليه وغفور صيغة مبالغة كثير المغفرة، وتعني: محو الذّنوب وترك العقوبة، وغفور: تدل على دوام الغفران أو المغفرة، وغفار: تدل على التجدد والتكرر، وغفار وغفور: صيغ مبالغة تدل على كثرة الغفر أو المغفرة مع قدرته تعالى على منحها أو منعها.
سورة فاطر [35: 29]
بعد ذكر الّذين يخشون الله من العلماء يذكر الّذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصّلاة.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} : إن للتوكيد، الّذين اسم موصول.
يتلون كتاب الله: من التّلاوة أيْ: تلاوة القرآن أو الآيات والتّلاوة هي القراءة الخاصة بالكتاب ولها ثواب، ويتلون بصيغة المضارع تدلُّ على التّكرار والتّجدُّد والاستمرار في التّلاوة.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : بشروطها وأركانها ومواقيتها وخشوعها والدّوام عليها وأقاموا بصيغة الماضي؛ لأنّ إقامة الصّلاة لها أوقات محدَّدة، وهي عماد الدين، وأعظم العبادات وأجلها.
{وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} : أنفقوا سراً: بعيدين عن الرّياء وابتغاء وجه الله، وعلانية: أحياناً في الزّكاة المفروضة، كما ذكر بعض الأئمة ليشجع الآخرين على التّصدق والإنفاق في سبيل الله وأنفقوا بصيغة الماضي؛ لأنّ الإنفاق غير دائم مثلاً: الزكاة تدفع حين النصاب، وكثير من الآيات الأخرى جاءت في صيغة المضارع ينفقون لتدل على تجدُّد وتكرار الإنفاق والتّذكير به كالصدقات.
ولو نظرنا إلى الحكمة في الإنفاق على الفقير والمسكين كما يراها البعض، فالله سبحانه بين للناس أنّ المال ماله وما ينفقون هو مما جعلهم الله مستخلفين فيه، وكأنّ الغني ينفق على الفقير بدلاً من الله سبحانه، فالله يعطي الغني ويحثُّه ويحضُّه على أن ينفق على المحتاج بدلاً من الله تعالى كي تسود المحبة بين النّاس ويضمحل الحقد والحسد والكراهية، ولنعلم أنّ الله سبحانه قادر على أن يغني الفقير، ويجعل كلَّ الفقراء أغنياء، وعندها قد تقل روح التّعاطف والتّراحم.
{سِرًّا وَعَلَانِيَةً} : كما قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271].
{يَرْجُونَ تِجَارَةً} : يرجون من الإنفاق في سبيل الله الربح الوافر الكثير، أي: الثّواب أو الأجر الكبير، يرجون: من الرّجاء وهو الأمل في الخير الّذي يعتري صاحبه الشّك.
{لَنْ تَبُورَ} : لن: لنفي المستقبل القريب أو البعيد، لن يبطل ثوابها في المستقبل القريب ولا البعيد، أيْ: لن تبور في الدّنيا ولا في الآخرة، تبور: من البوار الكساد أو الضّياع، أيْ: تجارة غير خاسرة، والبور أصلها: أرض بوار؛ أي: أرض لا تصلح للزراعة؛ أي: أرض لا خير فيها؛ فالمعنى يكون {يَرْجُونَ تِجَارَةً} كثيرة الخير والربح.
سورة فاطر [35: 30]
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} :
{لِيُوَفِّيَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وتعود على الّذين يتلون الكتاب وأقاموا الصّلاة وأنفقوا. يوفيهم: من وفى والتوفية أخذ الشّيء وافياً، أيْ: تامّاً، أيْ: يعطيهم أجورهم تامَّة غير ناقصة.
{أُجُورَهُمْ} : الأجر يكون مقابل العمل أجورهم على أعمالهم، ويزيدهم أكثر من أجورهم من فضله والفضل هو ما يعطى زيادة على الأجر، أي: الثواب.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة لفعل غفر كثير الغفر، والغفر من الستر وهو العفو عن الذّنب وترك العقوبة والإثابة على الحسنات.
{شَكُورٌ} : صيغة مبالغة على وزن فعول من فعل شكر الثلاثي؛ كثير الثواب يثيب العبد على القليل من الطّاعة أو النّفقة الثّواب الكبير، أيْ: يجازيهم أوفى الجزاء والعطاء، أيْ: يثيب عباده الصالحين نعيماً في الآخرة غير محدود.
ورد اسم الله الشّكور في أربع آيات في القرآن في سورة فاطر آية (30-34)، وفي سورة الشّورى آية (23)، وفي سورة التّغابن آية (17).
سورة فاطر [35: 31]
{وَالَّذِى أَوْحَيْنَا} : من الوحي في اللغة الإعلام بالخفاء والإسرار (الكلّام الخفي).
والوحي شرعاً هو ما يُلقي الله تعالى إلى رسله وأنبيائه من آيات وتكاليف وتعاليم. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان في معنى الوحي.
{إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} : إليك تقديمها يفيد الحصر، من استغراقية، الكتاب: القرآن أو اللوح المحفوظ أو الآيات.
{هُوَ الْحَقُّ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد، الحق: الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل وليس هناك غيره.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : شاهداً بصحة التّوراة والإنجيل ومقراً لما فيها من التعاليم والتكاليف إذا لم يصبها تحريف أو تغيير.
{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.
{بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} : الباء: للإلصاق والمصاحبة؛ لخبير: اللام: للتوكيد؛ خبير: عليم ببواطن الأمور، والأمور المتناهية في الصفر، وبصير عليم بالمشاهدات أو المبصرات؛ أيْ: بظواهر الأمور المبصرة أو الظاهرة؛ أيْ: أنّ الله محيط بأحوال عباده يعلم بواطن أمورهم وظواهرها، فيشرع لهم من الأحكام الّتي تناسب أحوالهم في كلّ زمان ومكان فينزل الوحي على رسله بما اقتضت حكمته، وتقديم الخبير على البصير؛ لأن الخبير أعم وأشمل؛ أي: الخبير هو أيضاً بصير، وإضافة اللام للخبير للإشارة إلى أهمية الأعمال الباطنة مقارنة بالأعمال الظاهرة، وفي سورة الشورى الآية (27)، وهي قوله تعالى:{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} بدون اللام المؤكدة في خبير؛ لأن الآية في سياق الرزق فقط.
سورة فاطر [35: 32]
{ثُمَّ} : تفيد التّرتيب والتّراخي في الزّمن.
{أَوْرَثْنَا} : التوريث عطاء لمن يستحق من غير كدٍّ أو تعب، شبه إعطاء الكتاب (القرآن) بتوريث الوارث، أورثنا: بصيغة الجمع: للتعظيم؛ أي: عظم المورث وعظم الموروث، فالمورِّث هو الله سبحانه، الورثة: الّذين اصطفينا، والموروث هو القرآن الكريم.
وقدم الكتاب (القرآن) على الذين اصطفينا للأهمية، ولأن سياق الآيات على الكتاب مقارنة بقوله تعالى في سورة غافر آية (53) {وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ} فقد قدم بني إسرائيل؛ لأن السياق في بني إسرائيل؛ أي: موسى وهارون ومن حملوا الرسالة إلى بني إسرائيل.
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} : أي: اختيروا من عبادنا من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمة محمد اختيرت من بين الأمم فهذا يُعد اصطفاء من أهل الإيمان والتّوحيد، ومن قال: لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فهو يعتبر مصطفى.
عبادنا: إضافة عباده إليه تشريف لهم وتكريم وقدَّم الكتاب (القرآن) وهو الأهم على حملة الكتاب (الّذين اصطفينا).
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} : اختلف المفسرون في تعريف الظّالم لنفسه والمقتصد، فمنهم: الفاء للتفصيل.
الظّالم لنفسه: الظّالم لنفسه بالتّقصير في حق الكتاب (القرآن)، وقيل: الظالم لنفسه: من رجحت سيئاته على حسناته أو المسيء الظالم لنفسه.
{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} : تكرار منهم للتوكيد، المقتصد: الّذي يقرأ القرآن ويحفظ شيئاً منه، وقيل: هو من استوت حسناته وسيئاته أو من اعترف بذنبه وخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وقيل: هم بين الخوف والرجاء.
{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} : سابق نكرة هناك درجات مختلفة في السّبق الحافظ والمتدبر والعامل به والّذي يُعلمه، وهناك الحافظ للقرآن فقط والحافظ للقرآن والذي يتدبَّره أو الحافظ والعامل به، أو الحافظ والّذي يعلمه للآخرين، وهناك من يقوم بكلّ تلك الأعمال، وقيل: هو الّذي رجحت حسناته على سيئاته أو المخلص المجتهد.
{بِإِذْنِ اللَّهِ} : بإرادة الله وبتوفيقه، وبإذن الله: في القرآن تأتي غالباً في سياق العمل الذي ليس لنا تدخل أو يد فيه؛ أي: هو بتدبير خارج عن إرادة العبد.
{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} : ذلك: ذا اسم إشارة واللام للبعد ويشير إلى السّبق بالخيرات أو يعود على توريث الكتاب أو توفيقه للسبق.
هو: للتوكيد.
{الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} : جنات عدن يدخلونها يحلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير، وهذا الترتيب: تقديم الظالم، ثمّ المقتصد، ثمّ السابق: ترتيب من الأدنى إلى الأعلى أجراً أو حسب المقام أو ترتيب من الأكثر عدداً إلى الأقل عدداً فالظّالمون كثرة والسابقون قلَّة. وقيل: الكلّ في الجنة في نهاية الأمر.
سورة فاطر [35: 33]
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : جمع جَنَّة، وليست جَنَّة واحدة للذين اصطفينا من عبادنا.
عدن: يعني: إقامة دائمة لا تنتهي، عدن الإنسان في المقام، أيْ: أقام فيه واستقر ولم يتركه أو يسافر.
{يَدْخُلُونَهَا} : تقديم جنات على يدخلونها: للإخبار مباشرة إلى أين ذاهب حتى يطمئن قلبه، ويؤكد له الوصول إلى جنات عدن، وإعادة ذكرها بهاء الضمير يدخلونها تفيد أيضاً التوكيد.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا} : يلبسون فيها، من الحلية والتّحلية في الآخرة تكون من الذّهب والفضة، ومن الحرير، ويحلون: تدل على التّجدُّد والتّكرار في المستقبل، أي: عندما يدخلونها بينما قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] الآية جاءت في سياق كونهم في الجنة تدل على مرَّة أو القلَّة.
{مِنْ أَسَاوِرَ} : من ليست للتبعيض هنا، وإنما لبيان الجنس، والأفضل والكثرة.
{مِنْ ذَهَبٍ} : أي: نوع الحلية.
أساور: جمع كثرة، بينما أسورة جمع قلة. كما في قوله تعالى:{فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53].
{وَلُؤْلُؤًا} اللؤلؤ: حلية من البحر، وهذا يدل على الأجر والثّواب أعلى وأعظم من قوله:{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]. ارجع إلى سورة الرحمن الآية (22) لمزيد من البيان.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} : بنوعية السّندس والإستبرق، وذكر لونها فقال تعالى:{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31].
سورة فاطر [35: 34]
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} :
{وَقَالُوا} : تعود على الّذين اصطفينا من عباده والذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصّلاة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} : وقبل ذلك قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزّمر: 74] عندما دخلوا الجنة.
وقالوا كذلك: الحمد لله {الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} [الأعراف: 43] والآن يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} .
وهل في الجنة حمد وتسبيح وسلام نعم، وليس تكليفاً، وإنما من وسائل متاعهم في الجنة كما يتمتعون بنعيمها والخلود فيها يتمتعون بذكر الله العظيم وحمده على كلّ هذه النّعم والرّضوان.
والحمد لله: على إحسانه وفضله وكرمه.
الّذي: اسم إشارة يفيد التّعظيم.
أذهب عنا الحزن: أزال وكشف عنا الحَزَنَ بكلّ أنواعه وأسبابه.
الحَزَنَ: الألم النّفسي النّاتج عن ضيق في الصّدر فإذا كان دائماً لا ينتهي حتّى يموت الإنسان سُمِّي الحَزَن بفتح الحاء، أمّا إذا كان مؤقتاً (في الدّنيا) ومحدَّداً بزمن وينتهي، سُمِّي الحُزن بضم الحاء، وسماه الحَزَن؛ لأنّه استمر حتّى دخلوا الجنة سواء كان في الدّنيا أو في مقام أرض المحشر، فقد طال، وقد يعني أذهب عنا الخوف والحزن النّاتج عن ارتكاب الذّنوب والتّقصير في العمل للآخرة.
{إِنَّ رَبَّنَا} : إنّ للتوكيد، ربنا: لأنّ السّياق ليس في ذكر النّعم قالوا: ربنا.
{لَغَفُورٌ} : اللام للتوكيد، غفور صيغة مبالغة من غفر، أيْ: ستر ذنوبنا ولم يفضحنا أمام الخلائق، وستر لنا تقصيرنا في العبادة والطّاعة.
{شَكُورٌ} : لأنّه يثيبنا على طاعتنا ويضاعف لنا حسناتنا ويدخلنا بفضله وإحسانه الجنة، ويعني: الثّواب الجزيل على العمل القليل، وشكور صيغة مبالغة، أيْ: كثير الشّكر، كثير الثّواب والإحسان والفضل. ارجع إلى الآية (30) من نفس السّورة.
سورة فاطر [35: 35]
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم ويعود على الله تعالى.
{أَحَلَّنَا} : أنزلنا من النُّزل: المكان المعد والمهيأ لإكرام الضّيف.
{دَارَ الْمُقَامَةِ} : الجنة وسميت دار المقامة الدّائمة، (المقامة مصدر من أقام والتّاء زائدة للمبالغة).
أمّا الدّنيا: فدار إقامة مؤقتة وممر إلى الآخرة.
{مِنْ فَضْلِهِ} : أيْ: دخول الجنة، ليس بسبب أعمالنا في الدّنيا وإنما من فضله وكرمه وإحسانه ورحمته.
{لَا يَمَسُّنَا} : لا النّافية، يمسنا: والمس وهو أخف أو أدنى اللمس.
{فِيهَا} : في الجنة جنات عدن.
{نَصَبٌ} : التّعب البدني.
{وَلَا يَمَسُّنَا} : تكرار لا يسمنا لزيادة التّوكيد في عدم مسهم اللغوب وفصل النّصب عن اللغوب أو كلاهما معاً.
{فِيهَا لُغُوبٌ} : قيل: هو الإعياء أو الفتور النّاتج عن التّعب البدني النّاتج عن كثرة الحركة والعمل بالأيدي أو الأرجل، وقيل: هو التّعب النّفسي.
وعادة يحدث النّصب أولاً، ثمّ اللغوب ثانياً.
أيْ: لا يمسنا لا لغوب ولا نصب ولا كلاهما؛ لأنّ ليس في الجنة حاجة لكسب الرّزق والسّعي ورائه والجد والكد والتّعب.
سورة فاطر [35: 36]
بعد ذكر الّذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصّلاة وذكر الّذين اصطفينا وما هو جزاؤهم يذكر بالمقابل الّذين كفروا وجزاؤهم.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا} : الّذين يحمل معنى الذّم كفروا بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر.
{لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} : اللام في لهم للاختصاص والاستحقاق، نار جهنم: جهنم. ارجع إلى سورة الرّعد آية (18).
{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ} : لا النّافية، يقضى عليهم: يُحكم عليهم أو تعني القضاء بمعنى الانتهاء (قضى: انتهى).
{فَيَمُوتُوا} : أيْ: موت ثانٍ بعد الموت الأول الّذي تلى الحياة الدّنيا، فيموتوا: فيتوقف عذابهم في جهنم، فالموت لهم آنذاك يُعد راحة.
{وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم} : ولا: لا تكرارها يفيد توكيد النّفي بالموت أو التّخفيف.
{مِّنْ عَذَابِهَا} : من ابتدائية، عذابها: عذاب نار جهنم، وقد ذكر أنّ هناك أكثر من (64) نوعاً من العذاب وردت في القرآن والأحاديث الشّريفة، وبهذا يخبر الله سبحانه أنّ عذابها دائم ومستمر بلا فتور ولا انقطاع.
وهذا التّمني ورد بشكل آخر، وهو النّداء على مالك (خازن النّار)، ونادوا: يا مالك {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزّخرف: 67].
{كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} : كذلك، أيْ: مثل ذلك الجزاء يُجزى كلّ كفور، وجاءت كلُّ بالنّصب وليس بالرّفع ليشمل كلّ كفور، ولو جاءت كلّ بالرّفع لكان يعني ذلك بعض الكافرين، وليس الكلّ وكفور صيغة مبالغة من كفر، أيْ: كثير الكفر أو دائم الكفر لا يتوب ولا ينوب إلى ربه ويمت وهو كافر. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لبيان معنى الكفر.
سورة فاطر [35: 37]
{وَهُمْ} : تفيد التّوكيد وتعود على الّذين كفروا.
{يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} : أيْ: يصرخون بشدة وبجهد أشد الصّراخ المألوف، يصرخون مستغيثين طالبين الغوث من شدة العذاب، فيها: تعود على نار جهنم، ظرفية زمانية.
{رَبَّنَا} : يدعون ربنا: ولم يقولوا: يا ربنا (ياء النّداء للبعد) لأنّهم أدركوا الحقيقة بأنّه سميع قريب.
{أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} : أخرجنا من النّار وردنا إلى الدّنيا لكي نعمل صالحاً من الفرائض والنّوافل وكل ما أمرتنا.
{غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} : من الشّرك والكفر والمعاصي وغيرها من الأعمال السّيئة، واستعمل الّذي: اسم موصول يدل على شيء محدد بعكس (ما)، ولم يقل غير ما كنا نعمل؛ لأنّه يشير إلى الكفر والشّرك.
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} : كان هذا رد ربهم على سؤالهم السّابق.
أولم: الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّقريع، الواو لشدة الإنكار والتّوبيخ.
نعمركم: ألم نُمد في أعماركم بما يكفي للتذكر والاعتبار.
{وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} : أي: الرّسول ينذركم، والإنذار هو الإعلام والتّحذير يحذركم من عاقبة غيكم وضلالكم، النّذير: بأل التّعريف، أيْ: رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرّسل والأنبياء الآخرين فأعرضتم وأصررتم على شرككم ومعاصيكم.
{فَذُوقُوا} : أي: العذاب والفاء للتعقيب والتّرتيب، ذوقوا العذاب. ارجع إلى الآية (14) من سورة السّجدة للبيان.
{فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} : فما الفاء للتوكيد، ما النّافية، من استغراقية، للظالمين: للمشركين أو الظّالمين لأنفسهم بالكفر وبالمعاصي والذّنوب.
نصير: مقارنة بالقول من ناصر، جمع ناصر: ناصرين وجمع نصير أنصار، فهذه الآية تنفي النصرة عن الظالمين؛ أي: ليس لهم يوم القيامة من يدافع عنهم وينصرهم أو يدفع عنهم العذاب أو يخففه.
سورة فاطر [35: 38]
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : عالم تدل على أنّ علمه صفة ثابتة لذاته بينما إنّ الله يعلم غيب السّموات والأرض، يعلم يدل على أنّ علمه يتجدَّد ويتكرَّر، أيْ: مستمر، فهو سبحانه عالم ويعلم.
غيب هو كلّ ما غاب: الغيب ما غاب في السّموات والأرض عن عيون البشر وحواسهم والغيب مصدر غاب يغيب إذا لم يظهر لعيون البشر وحواسهم، وكل ما أُخبر به الرّسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي مثل الجنة والنّار والصّراط والميزان وأشراط السّاعة، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (78) في سورة التوبة، وهي قوله تعالى:{عَلَّامُ الْغُيُوبِ} علام: صيغة مبالغة من فعل علم على وزن فعال، والتدرج يكون من عالم، عليم، علام، فهو علام الغيوب؛ لأنه سبحانه خالقها فلا يعلمها إلا هو، وهو كذلك عالم الغيب والشهادة. ارجع إلى سورة التوبة الآية (105) لمزيد من البيان.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : ارجع إلى الآية (119) من سورة آل عمران للبيان.
فالله سبحانه يعلم كلّ ما غاب في السّموات والأرض عن أعين النّاس ويعلم ما في ذوات الصّدور من المعتقدات والأحاسيس والخواطر الّتي تعيش في قلب الإنسان أو الملازمة لصدره ويعلم سبحانه لو ردهم إلى الدّنيا مرة أخرى لعادوا لما نهوا عنه، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
سورة فاطر [35: 39]
{هُوَ} : ضمير فصل يعود على الله عالم غيب السّموات والأرض.
{الَّذِى} : يفيد التّعظيم.
{جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الْأَرْضِ} : خلائف: جمع خليفة، وقيل خلائف جمع خلف، وكذلك: خلفاء: جمع خليفة أو خليف، والخليفة أصله خليف (بغير هاء)؛ لأنّه بمعنى الفاعل دخلته الهاء خليفة للمبالغة ليكون وصفاً لرجل بذاته.
وتعريف الخليفة: كلٌّ يخلفُ الآخر بالزّمان والمكان.
وخلائف في الأرض: مطلقة تشمل كلّ البشر كلّ فرد يخلف الآخر أو خلائف قد تعني الأمم في الأرض. ارجع إلى سورة الأنعام آية (165) للبيان ومعرفة الفرق بين خلائف في الأرض، وخلفاء الأرض.
ثم بيَّن عاقبة من يكفر بالنّعمة ويسترها أو يكفر بالمنعم ولا يؤدِّي حق الله تعالى.
{فَمَنْ كَفَرَ} : الفاء استئنافية، من شرطية، كفر بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} : أيْ: عاقبة أو وبال أو جزاء كفره راجعٌ عليه وحده.
{وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} : أيْ: من استمر على كفره وازداد في كفره، استحق مقت الله والمقت هو أشد البغض والكراهية.
{وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} : وتكرار ولا يزيد الكافرين لتدل على التّوكيد.
إلا: أداة حصراً وقصراً.
خساراً: هلاك في الدنيا والآخرة بالإضافة إلى المقت في الدّنيا والآخرة إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم.
سورة فاطر [35: 40]
بعد بيان جزاء المؤمنين والكافرين، وذكر أنّ الظّالمين (المشركين ما لهم من نصير) وهدَّد الكافرين بالمقت والخسارة يبين للمشركين أن ما يدعون من دون الله لن ينفعهم إلا غروراً والله سبحانه الإله الحق خالق السّموات والأرض وحده من غير شريك.
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرأيتم: الهمزة همزة استفهام إنكاري والرّؤية رؤية قلبية فكرية، أيْ: أخبروني بعلم عن حال شركائكم.
{الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أيْ: تعبدون من غير الله من الأصنام والآلهة وكونوا أنتم أنفسكم حكماً في هذه المسألة.
{أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} : الهمزة في أروني استفهام إنكاري وتقرير، أيْ: أروني كيف استحقوا أن يكونوا شركاء.
ماذا: استفهام إنكاري وتقرير أقوى من الاستفهام (بما) فقط.
خلقوا من الأرض: من استغراقية، أيْ: ما هو الشّيء الّذي خلقوه من الأرض.
{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ} : أم للإضراب الانتقالي، والهمزة همزة للاستفهام التّقريري والإنكار والتّوبيخ.
لهم: اللام لام الملكية والاختصاص، شرك في السّموات، أيْ: شراكة حقيقية، أيْ: يملكون جزءاً منها.
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} : أم للإضراب الانتقالي نفس السّابقة.
آتيناهم كتاباً: يُبيح لهم الشّرك أو يكون حُجة لهم أن يشركوا أو هم شركاء في السّموات.
{فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْهُ} : أيْ: لهم مع الله شراكة ذكرها في إحدى كتبه، أو في بينة (بيان).
{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} : بل للإضراب الانتقالي.
إن يعد: إن نافية، أقوى نفياً من ما، وتعني وما يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً.
الظّالمين: المشركين والعاصين والكافرين.
بعضهم بعضاً إلا: أداة حصر.
غروراً: خداع وباطل. ارجع إلى الآية (5) من نفس السّورة للبيان.
أيْ: ما يعد الظّالمون بعضهم بعضاً من شفاعة الآلهة أو أنّهم يقربونهم عند الله زلفى أو نصرتهم إلا باطلاً أو غروراً: الغرور هو إيهام أو تصور خاطئ يحمل الإنسان أو يجره إلى فعل شيئاً هو غافل عنه والإيهام أو التّصور الخاطئ هنا أنّ الأصنام تشفع لهم أو تقربهم عند الله زلفى، أو تنفعهم أو تضرهم.
سورة فاطر [35: 41]
هذه الآية تتمة للآية السّابقة إذا كان هناك شركاء وهم لا يشاركون في خلق السّموات والأرض، ولم يخلقوا شيئاً نطلب منهم أقل من ذلك، فهل يستطيعون أن يمسكوا السّموات والأرض أن تزولا؟ وهذا نوع من التحدي للمشركين وللآلهة التي يعبدونها.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.
{يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} : يمسك، أيْ: يمنع السّموات والأرض من الزّوال أو الاضطراب، وذلك بالمحافظة على القوى الأربع القوة النّووية الشّديدة والضّعيفة والقوة الكهربائية والمغناطيسية وقوة الجاذبية وغيرها، يبقيها ثابتة متوازنة.
أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{وَلَئِنْ زَالَتَا} : الواو عاطفة، لئن: اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.
{إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} : إن نافية بمعنى ما، أمسكهما في مدارهما من أحد: من لتوكيد النّفي، من بعده، أي: الله سبحانه.
{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا} : إنّه للتوكيد، كان تشمل كلّ الأزمنة كان وما زال وسيظل حليماً غفوراً.
حليماً: لا يعجل العقوبة لعباده العصاة، وإنما يؤخِّرها لعلهم يتوبون ويرجعون إلى ربهم وحليماً؛ لأنّه كان وسيظل يمسك السّموات والأرض من الزّوال والاهتزاز.
{غَفُورًا} : صيغة مبالغة، كثير الغفر لمن تاب وأناب إلى ربه يمحو الذّنوب ويثيب على الأعمال الصّالحة. يغفر الذّنوب مهما عظمت أو كثرت.
سورة فاطر [35: 42]
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} : أيْ: كفار مكة. قبل مجيء الرّسول صلى الله عليه وسلم أو بعثته صلى الله عليه وسلم.
والقسم يختلف عن الحلف، القسم في القرآن: يأتي في سياق الّذي يقسم وهو صادق النّية أو يظن أن قسمه حق وهو على غير حق أو هو مخطئ، أمّا الحلف فيأتي في سياق النّية غير الصادقة أو الحلف بالباطل.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أقسموا بالله بأغلظ الأيمان، أيْ: أكدوا القسم وشدَّدوا عليها بأقصى وسعهم، الجهد: الوُسْع، أيْ: أغلظ الأيمان.
{لَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.
{جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} : رسول أو نبي منذر، والإنذار هو الإعلام مع التّحذير.
{لَيَكُونُنَّ} : اللام للتوكيد، والنّون (نون التوكيد الثقيلة: وهي عبارة عن نونين) لزيادة التوكيد على القسم.
{أَهْدَى} : على وزن أفعل، أيْ: أكثر هداية.
{مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} : تعني: أهدى من أيِّ أمة سابقة، أهدى من إحدى الأمم المفضلة مثل اليهود، أهدى من اليهود والنّصارى.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} : الفاء جواب للشرط، لما: ظرفية بمعنى حين.
جاءهم نذير: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّد منذر لهم ولغيرهم.
{مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} : ما النّافية، زادهم مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أداة حصر، نفوراً: زيادة في الضّلال والبغي والبعد عن الحق ونفر عن الشّيء: تجافى عنه وابتعد، أيْ: جافوا وابتعدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة فاطر [35: 43]
فلما جاءهم نذير كما تمنَّوا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زادهم إلا نفوراً (بُعداً عن الدِّين والحقِّ).
{اسْتِكْبَارًا فِى الْأَرْضِ} : ازدادوا نفوراً بسبب استكبارهم ولم يقبلوه ورفضوا اتباعه والتّصديق به. والألف والسين والتّاء في استكباراً تفيد الطلب أو تظاهروا بالكبر وعظم شأنهم فوق ما يستحقون.
{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزّخرف: 31].
{وَمَكْرَ السَّيِّئِ} : هذا هو السّبب الثّاني، الأول: كان الاستكبار في الأرض، والمكر: هو التّدبير الخفي لإيقاع الضّرر بالغير من غير أن يعلم الممكور به. وهنا يعني إيقاع الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه ليردُّوهم عن دينهم والتّآمر عليهم، كما قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].
ومكر السيِّئ: يدل على تكرار المكر السّيِّئ (أيْ: ماكرين) جملة اسمية تدل على الثّبوت.
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} : يحيق: يحيط إلا بهم أو تنزل عاقبة المكر السّيِّئ عليهم، كما بيَّن ذلك في قوله تعالى:{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس: 23].
لا: النّافية، يحيق: من حاق، أيْ: أحاط، إلا: أداة حصر، بأهله: بمن يقومون به.
{فَهَلْ} : الفاء للتوكيد، هل للاستفهام، وتحمل معنى النّفي.
{يَنْظُرُونَ} : النّون للتوكيد، بدلاً من فهل ينظروا: وينظرون نظرة فكرية قلبية (تبصرية من البصيرة).
{إِلَّا} : أداة حصر.
{سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} : السّنة في اللغة: الطّريقة المعتادة المحافظ عليها، أيْ: يتكرر الفعل بموجبها، فهناك السّنن الكونية وسنن الله في خلقه وسنن الأنبياء والصّالحين والسّنن غايتها لتحقيق مصالح النّاس، كما أرادها الله له، ولكي يسود الحق والثّبات في الكون.
سنت الأولين: وهي إهلاك وتدمير وإنزال العذاب على الّذين كذبوا برسلهم من الأمم السّابقة بعد إنذارهم وإمهالهم وإصرارهم على الضّلال والغي والكفر والفسوق. ارجع إلى سورة آل عمران آية (137) وسورة النّساء آية (26) لمزيد من البيان.
{فَلَنْ} : الفاء للتوكيد، لن: حرف نفي لنفي الحاضر والمستقبل القريب والبعيد.
{تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} : تبديل السّنة (أي: العقوبة أو العذاب) بغيرها أو بعذاب آخر، أو يبدل الهلاك بالعفو والمغفرة.
والإبدال جعل الشّيء مكان الشّيء؛ أي: تغيُّر العقوبة بعقوبة أخرى.
ولن تجد لسنت الله تحويلاً: تكرار لن تجد تفيد التّوكيد وفصل كلاً من التّبديل والتّحويل أو كلاهما معاً.
والتّحويل غير التبديل؛ فالتحويل: هو أن يحول العذاب من قوم إلى قوم آخرين؛ أي: يحول العذاب من الظالمين إلى غيرهم أو المكذبين إلى غير المكذبين، فسنن الله تعالى لا تُبدَّل ولا تُغيَّر ولا تتحوَّل.
سورة فاطر [35: 44]
{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّعجب، الواو في أولم تشير إلى جملة أخبار مثل فهل ينظرون، أولم يسيروا في الأرض فينظروا.
ولم يقل: أفلم: يأتي بالفاء، إذا كان ما قبلها هو سبب لما بعدها فيقول: أفلم يسيروا بدلاً من: أولم يسيروا، وكذلك يأتي بالفاء للأمور الأشد توكيداً أو تهديداً أو توبيخاً، والخبر في أفلم واحد.
{يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ} : جاء بصيغة المضارع الدّالة على التّجدُّد والتّكرار، أيْ: فيها حثٌّ وحضٌّ على تكرار السّير أو زيارة تلك الأمكنة الّتي شهدت مهلك الّذين كذبوا رسلهم، وكيف دمَّر الله عليهم.
قال: في الأرض ولم يقل: على الأرض، في ظرفية؛ لأنّ الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض تعود على الأرض فهي غلاف الأرض.
{فَيَنظُرُوا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، ينظروا: أيْ: نظرة عينية بصرية، على دمار وإهلاك الظّالمين من قبلهم مثل قوم عاد وثمود ولوط وفرعون.
{كَيْفَ} : للاستفهام الإنكاري.
{كَانَ عَاقِبَةُ} : تذكير العاقبة بالقول كان عاقبة تدل على العذاب (من خصائص القرآن) وتأنيث العاقبة كما لو قال: كانت عاقبة لدلَّت على الجنة أو الحسنى.
{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : الّذين اسم موصول من قبلهم: من تدل على الزّمن القريب، أيْ: من أهلك من قبلهم من زمن أو عهد قريب.
{وَكَانُوا} : الواو للتوكيد، كانوا في الماضي.
{أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} : أشد من قريش قوة، أيْ: أكثر عدداً وعُدة.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَىْءٍ} : وما الواو استئنافية، ما النّافية.
الله ليعجزه: اللام في ليعجزه للتعليل والتّوكيد، ليعجزه: أيْ: لا يفوته أو يسبقه شيء أو يفلتوا من عقابه.
من شيء: من استغراقية شيء نكرة تعني: أيَّ شيء مهما كان صغره أو كبره أو حاله، والشّيء: هو أقل القليل، يفلت من عقابه.
{فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ} : تكرار لا، يفيد التّوكيد، لا في السّموات ولا في الأرض ولا في كلاهما.
{إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} : إنه للتوكيد، كان يشمل كلّ الأزمنة الماضي الحاضر والمستقبل، كان ولا زال وسيظل سبحانه عليماً قديراً.
وما كان الله ليعجزه من شيء في السّموات والأرض؛ لأنّه سبحانه عليم قدير، فهو قد جمع العلم والقدرة.
(عليماً) صيغة مبالغة من عالم بحال عباده ومخلوقاته وكونه وما يعملون.
لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا يعلمه.
(قديراً): على الانتقام، والأخذ ولا يعجزه شيءٌ في السّموات ولا في الأرض.
سورة فاطر [35: 45]
تدل هذه الآية على أنّه سبحانه رحيم بعباده حتّى الكافرين والعاصين لأوامره؛ لأنّه سبحانه هو ربهم وخالقهم، ويعلم سبحانه أنّ عبادهُ ضعفاء أمام شهوات أنفسهم وأهوائهم وأمام شياطينهم.
{وَلَوْ} : الواو استئنافية أو عاطفة لو شرطية.
{يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} : أيْ: يعاقب ويجازي النّاس (الإنس والجن).
{بِمَا كَسَبُوا} : الباء للإلصاق باء السّببية أو البدلية.
ما: اسم موصول بمعنى الّذي، وهي أشمل وأوسع من كلمة الّذي.
كسبوا: أيْ: عملوا وبما أن السّياق في التّجارة والخسارة كقوله: ليوفيهم أجورهم وقوله: ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً.
استعمل كلمة كسبوا بدلاً من عملوا: كسبوا ولم يقل: اكتسبوا، كسبوا تستعمل في كسب الخير، بينما اكتسبوا في أفعال الشر أو السيئات، وهذا من خصائص القرآن. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) لمزيد من البيان.
{مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} : أيْ: لو يعاقب الله سبحانه النّاس جميعاً على ذنوبهم لأهلك أهل الأرض وما ترك على ظهر الأرض من دابة، أيْ: أهلكهم ودوابهم أيضاً لسوء معاصيهم.
من دابة: من: استغراقية تستغرق كلّ دابة، وهو ما يدب على الأرض، تشمل الإنس والجن والدّواب وكل شيء يمشي في الأرض.
{وَلَكِنْ} : حرف استدراك.
{يُؤَخِّرُهُمْ} : يمهلهم أو يؤجل عقابهم.
{إِلَى} : حرف غاية.
{أَجَلٍ مُسَمًّى} : هو إما انقضاء أجلهم أو يوم القيامة أو مجيء عذابهم في الدّنيا كما حدث في غزوة بدر.
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتعقيب إذا ظرفية زمانية شرطية تفيد الحتمية حتمية الحدوث.
{جَاءَ أَجَلُهُمْ} : الأجل هو: هو الوقت المضروب لانقضاء الشّيء وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، والأجل إمّا الموت أو يوم القيامة أو العذاب.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء للتوكيد وإن لزيادة التّوكيد.
{كَانَ} : تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.
{بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} : بصيراً من البصر وهو أقوى وسائل العلم والإدراك ويأتي بعد حاسة السمع، وحاسة البصر أقوى من السمع، فالبصر يرى على مسافات شاسعة وما تراه يكون حقاً، أمّا السمع فيكون أقل مسافة وغير متأكد مما تسمع، فالله سبحانه يرى عباده ويرى أعمالهم ولا تخفى عليه خافية.
وقد يسأل سائل ما ذنب الدّواب المسخرة، أي: المذلَّلة للإنسان؛ لأن هلاك وموت الدّواب الّتي هي مصدر غذاء الإنسان وقوته يعني: سلب الإنسان نعمة كبيرة تخلُّ براحته حين يبحث عنها فلا يجدها متوافرة.
ولنقارن هذه الآية (45) من سورة فاطر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} .
مع الآية (61) من سورة النّحل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـئْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .
في آية فاطر: بما كسبوا، وفي آية النّحل: بظلمهم.
الكسب أعم وأشمل من الظلم، والظلم جزء من الكسب.
في آية فاطر: ما ترك على ظهرها، وفي آية النّحل: عليها.
على ظهرها يشمل كلّ ظهر الأرض عليها قد يعني: جزءاً من الأرض.
في آية فاطر: فإن الله كان بعباده بصيراً، وفي آية النّحل: لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
الإنذار والوعيد أشد في آية فاطر مقارنة بآية النّحل.
سورة يس [36: 1]
سورة يس
ترتيبها في القرآن السّورة (36)، وترتيبها في النّزول السّورة (40).
سورة يس يتردد فيها ذكر الموت والإحياء والبعث {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى} ، {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} ، {مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} ، {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا} ، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} ، {قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} ، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا} .
وفيها تذكير بوحدانية الله وقدرته في تسخير الشمس والقمر، وتسيير الفلك، وتذليل الأنعام وفائدتها، وعدم اتخاذ الأصنام آلهة، وتذكير بيوم القيامة والبعث.
{يس} .
ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
ومن معاني يس الأخرى: يا إنسان، رواه عكرمة عن ابن عباس.
أو: يا رجل، هذا ما رجحه الطبري.
أو: يس اسم للسورة.
أو: معناها يشبه معاني الحروف المقطعة في افتتاح السور.
سورة يس [36: 2]
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} :
الواو: واو القسم (الواو حرف من أحرف القسم وهي: الواو والباء والتاء واللام)، والمقسم به: هو القرآن الحكيم، فالقسم يؤكد على أهمية المقسم به وجواب القسم؛ أي: أقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن الحكيم وسبحانه هو غني عن القسم، وجواب القسم: إنك لمن المرسلين.
{وَالْقُرْآنِ} : مصدر قرأ قراءة، وسمي بالقرآن؛ لأنّه مقروء في السّطور، ومقروء في الصدور، ومقروء من اللوح المحفوظ، ويسمى الكتاب؛ لأنّه مكتوب في السّطور وفي اللوح المحفوظ. والتّعريف بأل للدلالة على الكمال. فالكتابة والقراءة كلاهما ضروري لحفظ القرآن من النسيان والتغير والتبدل؛ لأن الإنسان الحافظ للقرآن عرضة للنسيان، والخطأ أو الغفلة، فلا بد من مرجع آخر وهو الكتاب.
{الْحَكِيمِ} : صفة مشتقة من: حكم يحكم، أو مشتقة من الحكمة:
1 -
من حكم: أي هو القرآن الحاكم؛ أي: المهيمن على غيره من الكتب السّماوية يصدقها أو يكذبها، يعلو على جميع الأحكام.
2 -
والحكيم يعني: محكم: أحكمت آياته فهو محكم: لا تناقض فيه فهو محكم (لا يتناقض بعضه مع بعض، أو آية مع آية، أو حكم مع حكم).
3 -
والحكيم يعني: ذو حكمة: لأنّه منزل من الله الحكيم: أحكم الحكماء وأحكم الحاكمين، حكيم في حروفه وكلماته ومعانيه وترتيله، ومن الحكمة الّتي تكبح جماح الأهواء؛ لكي لا تشرد أو تميل عن الحق؛ لأنّه يميز بين الحق والباطل. ارجع إلى سورة هود آية (1) لمزيد من البيان.
سورة يس [36: 3]
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} :
جواب القسم.
بما أن كفار مكة كانوا يشكون في كون الرّسول صلى الله عليه وسلم رسولاً من الرّسل، لذلك جاء الرّد من الله على ذلك بالتّوكيد فقال:
{إِنَّكَ} : إن للتوكيد، والكاف للخطاب.
{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} : اللام في (لمن) لزيادة التّوكيد، إذن أكد بإن واللام؛ ليناسب مقدار إنكار كفار مكة لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيرهم.
{الْمُرْسَلِينَ} : الأنبياء والرّسل المرسلون من الله تعالى إلى أممهم أو أقوامهم.
سورة يس [36: 4]
{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :
{عَلَى} : تفيد العلو.
{صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : الصّراط: السّبيل أو الطّريق الموصل إلى الغاية، الواسع وبأقرب مسافة وأيسرها، مستقيم: أقرب الطّرق وأقصرها لا التواء فيه ولا اعوجاج، وتنكير الصراط؛ للتعظيم.
والصّراط المستقيم: هو دين الإسلام، صراط الّذين أنعم الله عليهم من الأنبياء والرّسل والصّديقين والشّهداء والصّالحين.
سورة يس [36: 5]
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} :
{تَنْزِيلَ} : أي القرآن تنزيل أو مُنزل من العزيز الرحيم ومن جهة العلو.
{الْعَزِيزِ} : القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، والممتنع الّذي لا يضرهُ أحد ولا يُنال بأذى {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]. وهذا الاسم يدل على الرهبة والخشية.
{الرَّحِيمِ} : ذو الرحمة مشتقة من الرّحمة، على وزن: فعيل، تدل على ثبوت الرّحمة كصفة لذاته، فرحمته دائمة لا تنقطع رحيم بعباده المؤمنين. واختيار العزيز الرحيم ليجمع بين الترهيب والترغيب؛ العزة والرحمة في آن واحد مما يبعث على الأمل في الأنفس.
سورة يس [36: 6]
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} :
{لِتُنْذِرَ} : اللام لام التّعليل، تنذر: من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير.
{قَوْمًا} : أي قريش.
{مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} : ما: لها ثلاث احتمالات: إما نافية، أو اسم موصول، أو مصدرية؛ إما نافية؛ أي: لم يأتهم (قريش أو أهل مكة وما حولها) نذير أو رسول من قبلك، و (ما): قد تكون اسم موصول بمعنى الّذي، وما: أوسع شمولاً من الذي؛ أي: لتنذر قوماً بالّذي أنذر به آباؤهم؛ أي: (إبراهيم وإسماعيل) أو لتنذر قوماً كما أنذر آباؤهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (44) في سورة سبأ هي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} ، وقوله تعالى في الآية (24) في سورة فاطر:{وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} : نجد آية سبأ تؤكد ما جاء في آية ياسين، وأما آية فاطر فهي تعني مطلق الأمم من آدم إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أرسل الله سبحانه نذيراً إلى كل أمة، والأمة تعريفها: جماعة من الناس بغض النظر عن العدد أو الحيز الجغرافي.
{فَهُمْ غَافِلُونَ} : هم تفيد التّوكيد، غافلون: جمع غافل؛ أي: صفة الغفلة ثابتة عندهم غفلتهم دائمة ومستمرة، والغفلة: عبارة عن عدم حضور الشّيء في البال مع بقاء الصّورة أو المعنى في الخيال، غافلون عن التّوحيد والبعث وغافلون عن الشّرائع والأحكام وعاقبة ما هم عليه من الشّرك والمعاصي. ارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان في معنى الغفلة.
سورة يس [36: 7]
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: حق القول على أكثرهم.
{حَقَّ الْقَوْلُ} : حق: وجب وثبت، القول: العذاب.
وجب وثبت وقوع العذاب عليهم ولكنه لم يقع بعد (سيقع في المستقبل) أي: هم استحقوا وقوع العذاب عليهم بما قدموه أو كسبت أيديهم، ولو قال سبحانه:{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم} [النّمل: 85]، أي: وقع العذاب، تم وقوعه وانتهى، وقيل: القول قيام السّاعة، وقيل: هو {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السّجدة: 13]، والقول قد يشمل كلّ تلك المعاني معاً.
ولا بد من مقارنة هذه الآية مع الآية (25) من سورة فصلت وهي قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} : نجد أنه في آية ياسين قدم القول على أكثرهم (الجار والمجرور)، وفي آية فصلت قدم الجار والمجرور عليهم على القول، والتقديم والتأخير يحمل معنى الاهتمام؛ أي: من الأهم، ففي آية ياسين الاهتمام على العذاب (القول) فقدمه، وفي آية فصلت قدم (عليهم)؛ أي: أعداء الله تعالى والخاسرين.
{عَلَى أَكْثَرِهِمْ} : على أكثر أهل مكة وغيرهم وليس عليهم جميعاً دليلاً على أنّ منهم من سيؤمن. وإذا نظرنا في هذه الآية نجد أنه قدم القول على الجار والمجرور أكثرهم، ولم يقل لقد حق على أكثرهم القول للأهمية أهمية القول؛ أي: العذاب أو الساعة، أو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، أو لأن السياق في العذاب.
{فَهُمْ} : الفاء تعليلية، هم ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{لَا} : النّافية.
{يُؤْمِنُونَ} : لأنّ الله سبحانه علم من الأزل أنّهم سيصرون ويستمرون على كفرهم ويموتون وهم كفار، فأخبر الله تعالى عنهم فقال: لا يؤمنون.
سورة يس [36: 8]
{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُّقْمَحُونَ} :
في الآية السّابقة قال تعالى: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: سيموتون وهم كفار. وفي هذه الآية يصف لنا الله سبحانه ما سيحدث لهم يوم القيامة وفي النّار.
{إِنَّا} : للتعظيم والتّهويل.
{جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} : في أعناق الّذين ماتوا وهم كفار، أغلالاً: جمع غل؛ وهو سلسلة من الحديد تشد به اليد إلى العنق.
{فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ} : بعد شد الغلّ تحت الذّقن يرتفع الرّأس، وبالتّالي يرتفع النّظر فلا يكاد يرى طريقه أو يهتدي إلى موضع قدميه، ولا يستطيع أن يلتفت يمنة أو يسرى فيمشي على حيرة وتردد. ولم تذكر الأيدي؛ لأنّه مفهوم أن الغل يقيد اليد والعنق.
{فَهُمْ مُّقْمَحُونَ} : الفاء للتعليل، مقمحون؛ أي: رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها من شدة الغل، ورفع الذّقن، مأخوذة من: إبل قماح؛ أي: حين ترفع رأسها عن حوض الماء ولا تشرب.
وقيل: هذا تنكيل بهم؛ لأنّهم لم يؤمنوا بالله تعالى ولم يصدقوا برسوله صلى الله عليه وسلم، واستكبارهم ورفع رؤوسهم في الدّنيا وعدم السّماع للرسول وآيات الله تعالى والحق.
سورة يس [36: 9]
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} : أي من أمامهم سداً {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : ولم يقل من بعدهم؛ لأن بعدهم قد تعني الزمان والمكان، وخلفهم تعني فقط المكان؛ سداً: السّد: الحاجز أو المانع، واستعمال (من) هنا تفيد القرب أو الالتصاق بالسّد من الأمام فهم يقفون مباشرة وراء السّد الّذي أمامهم فلا يوجد أيّ مسافة فاصلة، لزيادة عذابهم، وكذلك من ورائهم مباشرة سدٌّ آخر لا فاصل بينهم وبينه لا في الأمام ولا في الخلف؛ كي لا يسمح لهم بالحركة وعدم رؤية أي شيء. وإذا سألك سائل ما هو الفرق بين (ومن خلفهم، أو من بعدهم؟) الجواب: هو أن خلفهم: تستعمل في سياق المكان في الأصل، وبعدهم: تستعمل في سياق الزمان على الغالب وبعد نقيضها قبل.
وتكرار (سداً) للتوكيد.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} : الفاء السّببية، أغشيناهم: بالإضافة إلى السّد من بين أيديهم ومن خلفهم سداً، أغشيناهم؛ أي: جعلنا على أبصارهم غشاوة؛ أي: جعلناهم كالعُمي، أو أغشيناهم بالسد الذين بين أيديهم وخلفهم لكونه عالياً أو كلاهما.
{فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} : فهم الفاء السّببية، هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، لا يبصرون شيئاً أمامهم ولا خلفهم ولا عن اليمين ولا عن الشمال، وكما قال تعالى:{رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه: 125]. والسؤال هنا: إذا كانوا لا يبصرون فهل يسمعون كما بين ذلك في الآية (100) من سورة الأنبياء وسواء كان ذلك بسبب السد أو الختم على سمعهم المهم لا يبصرون ولا يسمعون، وفي هذا إنذار ووعيد لهم.
وهذا تنكيل بهم ومن أشد أنواع العذاب؛ لأنّهم كانوا لا يرون الحق والهدى من أمامهم، وأعرضوا، وجعلوا بينهم وبين الإيمان بالله سداً، وبما أنّهم ازدادوا كفراً زدناهم غشاوة جزاء بما كانوا يعملون.
سورة يس [36: 10]
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} : أي استوى عندهم، والاستواء من: السّي وهو المثل كأن بعضه سي بعض؛ أي: مثله، ونقيضه التّفاوت؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لمقارنة وسواء عليهم، سواء عليهم. وفي هذه الآية قال تعالى:{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} : أضاف الواو إلى سواء، بينما في سورة البقرة آية (6) قال تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} بدون الواو، وذلك لأن آية ياسين آية مستقلة عن الآية التي سبقتها، وهي معطوفة على ما قبلها بالواو، وآية البقرة هي خبر (إن) لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ} .
{ءَأَنذَرْتَهُمْ} : الهمزة همزة التّسوية، والإنذار هو الإعلام المصحوب بالتّحذير والتّخويف.
{أَمْ} : المتصلة للإضراب الانتقالي، تفيد الاستفهام المصحوب بالإنكار والتّوبيخ.
{لَمْ} : حرف نفي يفيد استمرار النّفي؛ يعني: لن يؤمنوا وسيستمرون على عدم الإيمان.
{تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : أي إنذارك لهم أو عدمه سيان عندهم؛ لأنّهم اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا عليه، فطبع على قلوبهم فهم لا يؤمنون.
{لَا} : النّافية تنفي كلّ الأزمنة.
{يُؤْمِنُونَ} : لا يصدقون بالله تعالى وبما أنزل ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، لا يؤمنون: تدل على التّجدد والاستمرار.
ورغم ذلك فإنذارك لهم لإقامة الحجة عليهم، وإنذارك ينتفع منه من اتبع الذّكر وخشي الرّحمن بالغيب.
سورة يس [36: 11]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} : الذكر: القرآن. ارجع إلى سورة (ص) آية (1) للبيان.
{وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} : خشي الرّحمن: الخشية تعني: الخوف المصحوب بالتّعظيم والمحبة لمن تخشاه وكذلك العلم؛ أي: إنذارك ينتفع به من يذكر الله ويخافه ويؤمن به وبقدرته وعظمته ويتبع القرآن ويخشى الرّحمن.
{بِالْغَيْبِ} : أي ساعة يكون غائباً عن أعين النّاس؛ أي: في السّر، ومن يخشاه بالسّر حين يخلو مع نفسه يخشاه بالعلن؛ أي:(أمام أعين النّاس)، أو يخشاه بالخفاء وفي الظّهور، وأما من يخشاه في العلن قد لا يخشاه في السر.
{وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} : تعني أيضاً من خشي الرّحمن ولم يشاهده؛ أي: آمن به ولم يشاهده أو يراه، وخشي الرّحمن: خشي عقابه وعذابه يوم القيامة وفي البرزخ وفي الدّنيا، واختيار اسم الرّحمن (المشتق من الرّحمة) هنا والرّحمن على وزن: فعلان، يرحم الكافر والمؤمن، ومع ذلك لا تظن أن الرّحمن المتصف بالرحمة لا يعاقب ولا تغتر برحمته، أو تتكلوا عليها فلا بد من العمل الصّالح، وإياك أن تفعل المنكر بقصد أيِّ نية وتقول: سيغفر لي، فمن أطلعك على أنه سبحانه وتعالى سيغفر لك؟
وخشية الرّحمن يجب أن تكون مطلقة في كلّ الأحوال وعامة (أي بالحضور والغيب)، كما ورد في سورة الرعد آية (21):{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ؛ أي: خشية مطلقة في السر والعلن، وفي أي حال وشأن.
{فَبَشِّرْهُ} : الفاء للتوكيد، بشِّره من البشارة وهي الإخبار بما يسرّ به المخبر به ولأول مرة. ارجع إلى سورة النّحل آية (89) لمزيد من البيان في البشارة.
{بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} : الباء للإلصاق والدّوام، المغفرة تعني: محو الذّنب وترك العقوبة والإثابة على العمل الصّالح.
{وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} : نوع من أنواع الأجور فهناك أجر عظيم وأجر كبير وأجر غير ممنون وأجر حسن وأجر بغير حساب، والأجر يكون مقابل العمل الصّالح، أجر كريم من معطي الأجر وهو الله الكريم، فالأجر الكريم يتناسب مع كرم الكريم، فيا له من أجر وهو الجنة وما فيها من النّعيم، وقيل: المغفرة هي جزاء الإيمان بالله وعدم الشّرك به وعدم معصيته.
وقدّم المغفرة على الأجر؛ لأنّ المغفرة لا بدّ أن تكون أولاً ثمّ الأجر والثّواب ثانياً.
ولنقارن هذه الآية {مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} والآية (21) من سورة الرّعد {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} .
خشية الله تعالى في آية ياسين مقيدة بالغيب، أمّا الخشية في آية الرّعد مطلقة في السر والعلن.
سورة يس [36: 12]
{إِنَّا} : بصيغة الجمع؛ للتعظيم.
{نَحْنُ} : ضمير فصل يفيد القصر والتّوكيد والتّعظيم، يعني: لا شريك له سبحانه في شأن الموت والحياة والكتابة والإحصاء.
فهذا الضّمير (نحن) يدل على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى ففيه معنى العظمة المتكاملة؛ لأنّ كلّ فعل من أفعال الله وفضل من أفضاله يحتاج إلى علم كامل وحكمة وقدرة كاملة لا يملكها إلا هو سبحانه.
{نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} : نحي الموتى: مرتين كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
نحي الموتى: ابتداء وإعادة، ابتداءً لتحيوا الحياة الدّنيا وللابتلاء والكتابة أولاً والإعادة للحياة الأخرى والحساب والجزاء.
والثّواب أخيراً، وكيف يتم هذا الإحياء (البعث)؟ ارجع إلى سورة الروم آية (19).
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} : كتابة يقوم بها الكرام الكاتبين: الّذين يقومون بتدوين كلّ ما ينطقه اللسان ويعمله العبد، ووصفهم الله تعالى:{كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 11-12].
ونكتب بصيغة الجمع للتعظيم والأهمية، والكتابة لإقامة الحجة عليهم، وجمع الحسنات والسّيئات للحساب والجزاء.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي.
{قَدَّمُوا} : في الدّنيا من الأعمال، الّتي تشمل الأقوال والأفعال.
{وَآثَارَهُمْ} : جمع أثر؛ أي: ما خلّفوه وراءهم أو ما تركوه من بعد موتهم من آثار الخير مثل علم يُنتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، أو آثار الشّر من بدعة أو فساد في الأرض أو ضلال.
{وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُبِينٍ} : وكل شيء: كلّ بالنّصب بالفتحة ولم يقل وكلُّ شيء بالرفع بالضم؛ النصب بالفتحة: يدل على كلّ شيء مهما كان نوعه وشكله وصغره وكبره بلا استثناء أحصيناه. وشيء: نكرة يشمل كلّ شيء. أحصيناه: أي لم نتركه بدون عد وكتابة وحفظ وبالتّالي إحصاء، ولو جاءت بالرّفع بالضمة لدلّت أنّ هناك أشياء أحصاها وأشياء لم يحصها.
{أَحْصَيْنَاهُ} : من الإحصاء، والإحصاء يختلف عن العد، الإحصاء هو العد والجمع والحفظ معاً، فالكتابة لا تكفي فلا بد من الإحصاء لحفظ الكتابة وجمعها في إمام مبين لمعرفة النتائج، ولماذا العد والإحصاء والكتابة ما دام ربنا يعلمها منذ الأزل، ويعلم ما عملنا وما سنعمل وما لم نعمل؛ لإقامة الحجة على الشّخص فليس الله بحاجة إلى شيء من الكتابة أو الإحصاء وليقرأ كلٌّ صحيفته.
{فِى إِمَامٍ مُبِينٍ} : في ظرفية، إمام مبين: قيل: اللوح المحفوظ، والإمام هو ما يؤتم به وكما قال تعالى:{وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52-53] أي: مسطور مكتوب.
{مُبِينٍ} : أي ما كتب فيه بيّن واضح لكلّ ملك يقرأه بين الأحكام والشرائع، ومبين ليس بحاجة إلى من يوضحه بيّن بنفسه.
لنقارن هذه الآية (12) من سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُبِينٍ} مع الآية (22) من سورة الحجر {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} .
الفرق: في آية الحجر أضاف اللام في كلمة لنحن: وزيادتها تدل على زيادة التّوكيد، وذلك لأنّ آية الحجر مطلقة يحي ويميت الإنس والجن والحيوان أو الأرض أو غيرها، وأما آية يس محدودة بإحياء الموتى فقط وليست مطلقة، ولذلك زاد اللام لزيادة التّوكيد.
سورة يس [36: 13]
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} :
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} : ضرب المثل: أسلوب لتوضيح أمر ما أو مسألة ما حتّى تتبين الحقيقة؛ أي: بين لهم واذكر لهم، والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لهم مثلاً: لكفار مكة، اضرب: لهؤلاء الّذين كذبوك وكفروا بالله وتطيّروا بك وكذبوك أنّهم مثل أصحاب القرية، قل لهم: مثلكم مثل أصحاب القرية، وصِف لهم ما حدث لأصحاب القرية.
{الْقَرْيَةِ} : تعني أهل القرية والدّيار معاً ورغم أنّ القرية جاءت معرّفة بأل التّعريف، لم يبين الله سبحانه اسم القرية والزّمن ومن هم المرسلون، فكل ذلك لا يهم والمهم ما حدث بين أصحاب القرية والرّسل الثّلاثة.
مع العلم أن بعض كتب التّفسير ذكرت أنّ القرية كانت أنطاكية وبعد زمن عيسى عليه السلام ورفعه إلى السّماء وذكرت أسماء المرسلين.
{إِذْ جَاءَهَا} : ولم يقل أتاها المجيء فيه بعض المشقة والصّعوبة؛ لأنّ أهلها معاندون ومكذبون، إذ: ظرفية بمعنى حين.
{جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} : ولم يقل جاءهم المرسلون، جاءها تعني جاء إلى القرية، المرسلون: يظهر أنّهم ليسوا من أصحاب القرية، ويظهر أنّها قرية كبيرة؛ لإرسال ثلاثة رسل وليس هناك دليل قاطع على أنّها أنطاكية، وقيل: كانت هذه القصة قبل مجيء أو في زمن عيسى ابن مريم.
جاءها المرسلون ليدعوا أهلها إلى عبادة الله وحده (إلى التّوحيد والإخلاص وترك الشّرك).
سورة يس [36: 14]
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} : إذ: حين أرسلنا إليهم اثنين ولم يقل إذ أرسلنا إليها؛ لأنّ الرّسالة تخص أهل القرية فقال: إليهم، وليس إليها.
{فَكَذَّبُوهُمَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب (المباشرة) كذبوهما: وهذا يدل على أنّهم أبلغوا أهل القرية ما أرسلوا به، ودعوهم إلى التّوحيد فأعرضوا وكذبوا؛ أي: لم يؤمنوا مباشرة.
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، عززنا أسند التعزيز إلى نفسه سبحانه وتعالى فقال عززنا من عز يعز؛ أي: قوى يقوي؛ أي: التقوية في الدعوية والإبلاغ والنصرة بثالث: وأرسلنا برسول ثالث بالرّسالة نفسها؛ أي: الدّعوة إلى توحيد الله والإيمان به.
{فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} : فقالوا؛ أي: الثّلاثة بعد تكذيب الاثنين، ولم يقل إنا إليكم مرسلون؛ قدم الجار والمجرور للحصر والاهتمام؛ أي: خاصة لكم؛ لتدل على خاصة الإرسال إلى أصحاب القرية، مرسلون: جمع مرسل؛ أي: تدل على ثبوت الإرسال إليهم، مرسلون: من الرّحمن؛ لأنّهم قالوا: ما أنزل الرّحمن من شيء.
سورة يس [36: 15]
{قَالُوا} : أي أصحاب القرية قالوا للمرسلين.
{مَا أَنتُمْ} : ما النّافية.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{بَشَرٌ مِّثْلُنَا} : بشر مشتقة من البشارة: وهي حسن الهيئة، ولفظ البشر يعني الظّهور؛ أي: ما أنتم إلا بشر مثلنا، فما الّذي فضلكم أو جعلكم أفضل منا أو خصكم من دوننا؛ نأكل مما تأكلون ونشرب مما تشربون.
{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَىْءٍ} : وما: ما النّافية وتكرارها يفيد توكيد النّفي، أنزل الرّحمن من شيء: من استغراقية، شيء نكرة أيّ شيء لم ينزل كتاباً ولم ينزل وحياً؛ أي: ما أنزل الرّحمن من شيء مطلقاً لا الآن ولا سابقاً، يدعونا إلى الإيمان بالله وحده، واختاروا اسم الرحمن بدلاً من الله أو غيره من الأسماء؛ لاستبعاد تنزيل شيئاً رغم كونه الرحمن ذو الرحمة، أو الرحمة الكاملة.
{إِنْ} : نافية تعني: ما، وهي أشد نفياً من ما.
{أَنتُمْ إِلَّا} : أداة حصر.
{تَكْذِبُونَ} أنكم مرسلون. تكذبون بصيغة المضارع التي تدل على التّجدد والتّكرر فهم ينكرون نبوة رسلهم وينكرون رسالاتهم.
سورة يس [36: 16]
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} :
{قَالُوا رَبُّنَا} : أي قال الرّسل لأصحاب القرية: ربنا يعلم إنّا إليكم لمرسلون، يدل على أن الرّسل استمروا في التّبليغ ولم ييئسوا من إيمان أصحاب القرية وتكذيبهم وعنادهم، ربنا: اختاروا كلمة الرّب؛ لأنّه هو المربي، والرّسالة من سمات الرّبوبية.
{يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ} : تقديم (إليكم) أي خاصة إليكم وحدكم.
{لَمُرْسَلُونَ} : اللام للتوكيد، لما شاهدوا إنكارهم وتكذيبهم لهم، قالوا: إنّا مرسلون في بداية الأمر أو الدّعوة، وقالوا: إنّا إليكم لمرسلون، أضاف اللام للتوكيد في نهاية الدعوة ورداً على إنكار أصحاب القرية، وتكذيبهم ورفض الاستجابة لهم؛ أي: لما ازداد أصحاب القرية تكذيباً ازداد الرسل توكيداً.
سورة يس [36: 17]
{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{عَلَيْنَا إِلَّا} : للحصر.
{الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : البلاغ: التّبليغ؛ أي إيصال الرّسالة واضحة كاملة شاملة بدون أيّ نقص وإلى كلّ أصحاب القرية بدون استثناء.
سورة يس [36: 18]
لم تعد أمام أصحاب القرية من حيلة أو حجة لمواجهة رسلهم إلا اللجوء إلى اتهام رسلهم بالتّطيّر، والتّهديد والوعيد.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} : تشاءمنا بكم، التّطير: التشاؤم، مثل قولهم: انقطع المطر عنا بسببكم، وتغيّرت أو ساءت حالتنا بسببكم، أو ما يصيبنا من شر هو بسببكم أنتم.
{لَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.
{لَّمْ تَنْتَهُوا} : لم النّافية، تنتهوا: أي تكفّوا عن الدّعوة إلى وحدانية الله والإيمان وتبليغ الرّسالة.
{لَنَرْجُمَنَّكُمْ} : اللام والنون (نون التوكيد الثقيلة) في (نرجمنكم) للتوكيد، وهناك من قال إنها لام القسم، والرّجم يكون بالحجارة؛ أي: نقتلكم، أو بالقول والشّتم.
{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} : واللام والنّون (نون التوكيد الثقيلة) في ليمسنكم للتوكيد، وقيل: لام القسم؛ وقالوا: (لنرجمنكم وليمسنكم) ولم يقولوا لنرجمنكم أو ليمسنكم؛ أي: سيحصل لكم أو سيصبكم الأمران معاً الرّجم والمس وليس أحدهما، ولو قالوا: أو؛ أي أحدهما يكفي، وهذا يدل على مدى غيظهم وتصميمهم على الرّجم وإلحاق العذاب بهم.
وقولهم: أو ليمسنكم منا: منا نحن وليس من الآلهة والأصنام؛ لأنّ الآلهة والأصنام غير قادرة على الضّر أو النّفع، عذاب أليم: عذاب شديد الإيلام.
لنقارن هذه الآية من سورة يس: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} ، مع الآية (47) من سورة النّمل:{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} .
في سورة النّمل (اطيرنا) فيها تضعيفان ياء مشددة والطّاء المشددة، أصل اطير: تطير على وزن: تفعّل، أبدلت التّاء طاء وحدث إدغام في الطّائين.
في سورة ياسين تطير فيها تضعيف واحد، واطّيّرنا بكم في سورة النّمل تضعيفان؛ أشد من تطيرنا بكم في سورة ياسين.
والتّضعيف يفيد المبالغة والتّنكير، ولو قارنّا الآيتين في النّمل:{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} ، إذن في النّمل هناك قتل نبي وأهله كلهم، لذلك هو أشد من التّهديد بالرّجم والعذاب في يس.
سورة يس [36: 19]
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَّعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} :
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَّعَكُمْ} : قال المرسلون لأصحاب القرية، طائركم معكم: شؤمكم معكم؛ أي: سبب شؤمكم معكم مصاحب لكم فما يحصل لكم من شر أو فتنة فإنّه منكم ومن أعمالكم (أي: بما عملت أيديكم من الكفر والتّكذيب) ملازم لكم وأمّا نحن فليس سبب شؤمكم.
{أَئِنْ ذُكِّرْتُم} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ؛ أي: أئن وعظناكم وأنذرناكم ودعوناكم لعباده الله وحده، زعمتم أننا سبب شؤمكم وما أصابكم من ضر، أو أئن ذكرتم تطيرتم.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَنتُمْ} : للتوكيد.
{قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} : أي متجاوزون الحد في الكفر والشّرك، أو العدوان أو التّطير، لم يحدد نوع الإسراف؛ ليشمل كلّ الأنواع، مسرفون: جمع مسرف، مسرفون جملة اسمية تدل على الثّبوت، ثبوت صفة الإسراف عندهم.
والسؤال هنا: ما الفرق بين قوله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131]، وقوله تعالى:{طَائِرُكُمْ مَّعَكُمْ} [يس: 19]؟ آية الأعراف تدل على أن ما يحصل لهم من مصائب هو ابتلاء من عند الله، وآية يس تبين سبب ما يحصل لهم من شؤم وتطير هو منهم؛ أي هم السّبب لما قدر الله عز وجل.
سورة يس [36: 20]
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} :
{وَجَاءَ} ولم يقل وأتى، المجيء فيه معنى المشقة والصّعوبة فالرّجل جاء بمشقة وصعوبة.
{مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} : من ابتدائية؛ أي جاء من أبعد مكان في المدينة؛ أي كان موجوداً في أقصى المدينة؛ أي خرج من بيته الّذي كان في أقصى المدينة، قيل: هي أنطاكية، وفي الآية (13) سماها القرية وفي هذه الآية سماها المدينة، كيف نفسر ذلك؟ لا تعارض بين الآيتين؛ فقد يكون خبر أصحاب القرية التي جاءها المرسلون قد انتشر، ووصل إلى المدينة التي كان يسكن فيها الرجل الصالح الذي جاء يسعى، فالقرية المذكورة في الآية (13) ليست هي نفس المدينة التي ذكرت في الآية (20). من أقصى: قدم الجار والمجرور (من أقصى) على الفاعل (رجل). قيل: أن الرجل كان يسكن في أقصا المدينة، وجاء من المدينة إلى القرية التي جاءها المرسلون؛ أي: هناك اختلاف بين المدينة والقرية، أو أراد الله سبحانه أن يبين للسامع أن القرية كانت متسعة وكبيرة، وأطلق عليها المدينة.
{رَجُلٌ} : نكرة: والنكرة لتعظيم شأنه؛ أي رجل كامل الرّجولة، رجل من الرّجال لا يعرفه أهل المدينة ولا يعلمون شيئاً عن إيمانه حتّى لا يقال إنّهم تواطؤوا معه، قيل: هو حبيب بن النّجار.
{يَسْعَى} : يسرع في مشيه لبعد مكان إقامته واهتمامه على نصرة الحق والجهر بالدّعوة إلى الله وتبليغ النّاس وإعلان إيمانه بدون خوف وليؤيد الرّسل ومخاطراً بنفسه.
{قَالَ يَاقَوْمِ} : يا قوم: يا النّداء نداء ينبئ عن إشفاقه على قومه، ودعاهم قومه.
{اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} : في دعوتهم إلى توحيد الله وعبادته فهذه هي الغاية، ثمّ بيّن الأسباب الأخرى الدّاعية إلى اتباع المرسلين كما سيأتي في الآيات (21-23).
لنقارن هذه الآية (20) من سورة يس: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} ، مع الآية (20) من سورة القصص:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} :
أولاً: آية يس قدّم (من أقصى المدينة) على (رجل)؛ أي هو رجل جاء من أقصى المدينة؛ لأنّه يسكن في أقصى المدينة (خرج من بيته الّذي هو في أقصى المدينة) وجاء يسعى، أمّا في آية القصص قدّم (رجل) على (أقصى المدينة): هو رجل كان في أقصى المدينة حينذاك ولم يكن يسكن في أقصى المدينة وإنما صدفة كان موجوداً في أقصى المدينة فجاء يسعى.
ثانياً: مهمة الرّجل في آية يس أهم وأخطر بكثير من مهمة الرّجل في آية القصص، في يس جاء لينصر الحق ويجهر بالدّعوة إلى الله ويعلن إيمانه ويؤيد الرّسل، أمّا في القصص جاء الرّجل ليحذّر موسى لكي يخرج من المدينة ولم يكن مهدداً بالخطر، كما هو الحال في آية يس. ارجع إلى سورة القصص آية (20) لمزيد من البيان والمقارنة.
سورة يس [36: 21]
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْـئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} :
هذا هو السّبب الثّاني لاتباع المرسلين.
{اتَّبِعُوا} : تكرار للآية اتبعوا المرسلين، والتّكرار للتوكيد على اتباع المرسلين.
{مَنْ} : للعاقل وتشمل الواحد والاثنين والجمع، وجاء بمن لكونهم ثلاثة أنبياء أو رسل، وقد تعني الّذي، ولكن الّذي يدل على واحد؛ أي: اتبعوا أي واحد، أو أي رسول يدعوكم إلى الله، ولا يسئلكم أجراً، أو استعمل من التي تدل على المفرد أو المثنى أو الجمع.
والرّسل كانوا أكثر من واحد وقد يكون هناك غيرهم من الداعين إلى الله تعالى الّذين يجب اتباعهم أيضاً ولذلك استعمل (من).
{لَا} : النّافية.
{يَسْـئَلُكُمْ أَجْرًا} : أي هو مخلص لله لا مصلحة له أو لا منفعة كهؤلاء الرّسل الثّلاثة. أجراً: على إبلاغكم الدّعوة إلى الله وهدايتكم إلى الطريق المستقيم.
{وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، وهم: تعني الرّسل الثّلاثة، مهتدون: هذا هو السّبب الثّالث لاتباع المرسلين أو الأمر الآخر الدّاعي إلى اتباعهم، مهتدون؛ لأنّهم رسل من الله تعالى، هم مهتدون في أنفسهم وهادون لغيرهم ولذلك اختارهم الله من بين النّاس، مهتدون صفة الهداية ثابتة عندهم.
سورة يس [36: 22]
{وَمَا لِىَ لَا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :
{وَمَا لِىَ} : الواو عاطفة، ما استفهامية تحمل معنى الالتزام.
{لَا} : النّافية.
{أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى} أعبد: من العبادة، ارجع إلى سورة النّحل آية (73) للبيان. الّذي فطرني: وهو الله بصيغة المفرد ويدل على وحدانيته، فطرني من الفطر: ويعني الخلق والإيجاد، ارجع لمزيد من البيان عن فطرني إلى سورة الأنعام الآية (14).
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : قدّم (إليه) للحصر؛ أي: إليه وحده حصراً، تُرجعون: بضم التاء، رغماً وقسراً يوم القيامة للحساب والجزاء، وترجعون فيها تحذير وتهديد، ولم يقل وإليه ترجعون بفتح التاء الّتي تدل على الرجوع برغبة وإرادة.
ولم يقل وإليه نرجع؛ لأنّه استثنى نفسه فهو يريد الرجوع إلى ربه برغبة وهم لا يريدون إلا بالقسر والإكراه.
سورة يس [36: 23]
{أَأَتَّخِذُ} : الهمزة للاستفهام والتّعجب والإنكار والتّقرير، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}؛ أي: أتخذ معبوداً غيره فهو ينكر كيف يتخذون من دون الله آلهة وهو الّذي خلقهم وخلقها، وهي في الحقيقة ليست آلهة ولا تستحق الذكر، وتفيد التّقرير يريد من السّامع أن يقرّر حتّى تقام عليه الحجة.
{مِنْ دُونِهِ} : من ابتدائية: من غيره ولا معه ولا واسطة (أو وسيط) لأنّ شفاعتهم لا تغني شيئاً ولا تضر ولا تنفع.
{آلِهَةً} : مثل الأصنام والأوثان، والملائكة وغيرهم.
{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض، يردن: فعل مضارع، وجاء بعد إن الشّرطية فهذا يدل على التّجدد والتّكرار؛ أي: يردن مرة بعد المرة؛ أي: باستمرار، ولم يقل إن أرادني: فعل ماض يعني مرة واحدة، ومجيئه بعد إن الشّرطية يفيد الاستقبال وعدم التّكرار، وحذف ياء المتكلم من يردن ولم يقل يردني؛ للدلالة على أنّ الإرادة ولو كانت بضر خفيف أو قليل لا تغني شفاعتهم شيئاً (أي لا عن الكثير ولا عن القليل الضئيل) وتعني: إن يردن (أنا أو غيري) تشمل الكل وهو يعني: مستمر.
{الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} : بضُر: بضم الضاد؛ الباء: للإلصاق، وتدخل على مدار الاهتمام، وهناك فرق بين الضُّر والضَّر، فالضُّر: ما يصيب الفرد من سوء الحال والمرض والفقر، والضَّر: بفتح الضاد هو ضد النفع؛ لماذا اختار اسم الرّحمن مع احتمال إرادة الضّر؟ لأنّ الرّحمن مشتق من الرّحمة، والضّر عكس الرّحمة فكيف نجمع بينهما: التّفسير الأوّل: نقول قد يظن الإنسان حسب موازينه أنّ ما يحصل له الآن من ضر بعد أسابيع أو أشهر يجد أنّ ما حدث له وظنه ضراً إذا به نفعٌ، والأمر قد يكون في الظّاهر ضراً وفي الباطن رحمة، فلا يعلم الغيب إلا الله، وكلّ ما يجري الرّحمن من الأقدار هي من منطلق الرّحمة.
التّفسير الثّاني: جاء باسم الرّحمن؛ للتذكير باللجوء إلى الرّحمن عند الإصابة بالضّر ليكشفه، ولم يقل إن يردن الرّحمن بضر أو رحمة، حذف ذكر الرّحمة؛ لأنّ الرّحمة مصدرها معروف من الرّحمن، والرّحمن هو رحمة بذاته ومن صفاته الثّابتة الرّحمة.
{لَا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْـئًا} : لا النّافية، لا تغن عني شفاعتهم: على افتراض أنّ الآلهة قادرة على الشّفاعة فشفاعتها لن تجدي ولن تقبل، وهي أصلاً لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئاً، فلا تسمع من يدعوها، شيئاً: نكرة أيّ شيء مهما كان، والشّيء هو أقل القليل، شيئاً: توكيد ويدل على المقدار؛ لا تغن: حذف الياء، ولم يقل: لا تغني؛ لأنها لا تغني ولو الشيء القليل؛ أي: لا تغن شيئاً مهما كانت.
{وَلَا يُنْقِذُونِ} : لا النّافية، ينقذون: لا يستطيعون إنقاذي، ولا ينقذون، وقدم الشفاعة على الإنقاذ؛ لأن الإنقاذ يلجأ إليه بعد عدم نفع الشفاعة؛ مما أرادني به الرّحمن من ضر. ولا ينقذون حذف الياء تعني: حتّى من أدنى الإنقاذ أو من الأمر القليل (ولم يقل ينقذوني) أو تعني ينقذون أنا أو غيري تشمل الكل ولو قال ينقذوني تعني: لا ينقذوني أنا وحدي وينقذون غيري وهو نفي مستمر.
سورة يس [36: 24]
{إِنِّى إِذًا لَّفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :
{إِنِّى} : للتوكيد
{إِذًا} : حرف جواب؛ أي: إنّي إذا اتخذت من دونه آلهة وعبدتها وطلبت شفاعتها.
{لَّفِى} : اللام للتوكيد، في: ظرفية؛ أي: ضلال يحيط بي من كلّ جانب ولا أستطيع الخروج منه.
{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : ضلال واضح بيّن لكلّ من يطّلع عليه؛ أي كلّ فرد، وضلال بيّن لا يحتاج إلى برهان أو دليل.
سورة يس [36: 25]
{إِنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} :
{إِنِّى} : للتوكيد.
{آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} : آمنت بالّذي خلقكم. قيل: إنّه خاطب الرّسل بهذا ليشهدوا له ويشجعهم على الاستمرار في الدّعوة لمّا همَّ قومُهُ على قتله، أو خطاب إلى قومه، أو قال: بربكم لإقامة الحجة عليهم، قال: ربكم لأنّ ربه وربهم واحد ولم يقل بربي وربكم؛ لكي لا يظنوا أنّ هناك أرباباً متعددة.
{فَاسْمَعُونِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، اسمعون: النّون للتوكيد، (اسمعون) في بلاغي ودعوتي لكم بالإيمان والتّوحيد وتصديق الرّسل أو صدقوني أو (اسمعون) فيما أقوله لكم حذف ياء المتكلم؛ أي: ولو شيئاً قليلاً، ولم يقل فاسمعوني: التي تدل على السمع الكثير والطاعة أو تعني فاسمعون أنتم وغيركم؛ أي: الكل ولو قال فاستمعوني تعني: أنتم وحدكم بل أراد أن يشمل هم وغيرهم.
سورة يس [36: 26]
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} :
{قِيلَ} : مبني للمجهول قد تكون الملائكة الّتي قالت ذلك، أو يحكي الله تعالى عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة (حبيب النجار) ما قاله بعد أن استشهد في سبيل الله وفاضت روحه.
{ادْخُلِ الْجَنَّةَ} : بعد أن استشهد، ولم يذكر الله سبحانه ما حدث له وكيف قُتل فلما دخلها:
{قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ} : ليت للتمني وتستعمل للتمني المستحيل الحدوث أو الأمور الصّعبة، يعلمون: بمغفرة ربي لي وبالنّعيم الّذي أنا فيه؛ أي بمكرمته لي.
سورة يس [36: 27]
{بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ} :
{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو حرف مصدري؛ أي: بغفران الله لي أو بالّذي غفر لي به ربي، فيؤمنون كما آمنت وسبقت المغفرة دخول الجنة؛ أي: التّطهير من الذّنوب أوّلاً ثمّ دخول الجنة، والغفران يعني محو الذّنب وترك العقوبة، والإثابة على الحسنات؛ أي: الأعمال الصّالحة.
{مِنَ الْمُكْرَمِينَ} : من: ابتدائية. المكرمين: جمع مكرم من كرم، وتفيد الدوام على التكريم والمبالغة فيه؛ أي: زمرة المقربين لله؛ أي: الشهداء.