الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة يس [36: 28]
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} :
{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ} : الواو استئنافية، ما: النّافية أقوى نفياً من لم. من: ابتدائية، بعده: من بعد قتله، أي لم ننزل على قومه (قوم حبيب النّجار) من بعد قتله جنداً من السّماء للقضاء عليهم وإهلاكهم، ونسب الإنزال إلى ذاته للتعظيم؛ لأنّ الأمر هيّن لا يحتاج إلى إنزال ملائكة، من بعده: من تفيد القرب، أي من بعد قتله مباشرة لم ننزل جنداً ولكن أهلكناهم مباشرة بالصّيحة.
{مِنْ جُندٍ} : من استغراقية أي لم ننزل واحداً ولا اثنين ولا أكثر، جند: اسم جنس، جند: جمع جندي، وتجمع على جنود أيضاً، وجند: تشمل واحداً أو اثنين أو أكثر، أمّا جنود: لا تشمل واحداً أو اثنين إنما هي لأكثر من اثنين، إذاً لنفي إنزال جندي واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر أتى بكلمة جند، وجند تعني: من جنس واحد وهدفهم واحد، أمّا جنود قد تكون أهدافهم شتى، أو من أجناس مختلفة؛ مثل: الصيحة، أو الريح، أو النار، أو الرجز، أو الصواعق، أو غيرها من الآيات.
{مِنَ السَّمَاءِ} : من: ابتدائية، وما أنزلنا على قومه من جند من السّماء (ملائكة) كما أنزلنا يوم بدر؛ السماء: تعني: السموات السبع، وكل ما يعلو الإنسان يسمى سماء.
{وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} : في الماضي وعلى الأمم السّابقة ولا يعني في المستقبل؛ لأنّه أنزل في معركة بدر.
سورة يس [36: 29]
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} :
{إِنْ} : نافية، أقوى في النّفي من ما؛ أي: ما كانت.
{كَانَتْ إِلَّا} : حصراً.
{صَيْحَةً وَاحِدَةً} : صيحة واحدة للتأكيد؛ حلت أو نزلت بأهل القرية التي جاءها المرسلون، أو قوم الرجل الصالح (حبيب النجار)، أهلكوا بالصّيحة. كما أهلك أصحاب الحجر وغيرهم، ارجع إلى سورة الأعراف آية (78) لبيان معنى الصيحة، وهذه الصيحة لا علاقة لها بنفخة الفزع والصعق؛ النفخة الأولى أو النفخة الثانية تعني البعث والقيام.
{فَإِذَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، إذا فجائية تشير إلى السرعة سرعة خمودهم.
{هُمْ} : للتوكيد.
{خَامِدُونَ} : شبههم بالنّار المشتعلة المتأججة تحمساً لعدم الإيمان برسلهم وتكذيبهم، الّتي أخمدها الله بسرعة؛ أي: انطفأت، فكلمة (خامدون): تعني: زهقت أرواحهم وانقطعت أصواتهم وحركتهم.
سورة يس [36: 30]
{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :
{يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} : يا النّداء للبعد، أسلوب نداء يراد به التعجب. والمنادي: هو الله سبحانه أو الملائكة، أو كلّ مؤمن يتحسر على الّذين كذبوا بالرّسل.
{يَاحَسْرَةً} : يا النّداء الحسرة أشد الندم مع الشعور بالحزن على نفع قد فات؛ أي يا حسرة احضري هذا زمانك أو أقبلي.
{عَلَى الْعِبَادِ} : العباد جمع: عابد، وهم الّذين اختاروا الإيمان على الكفر أمّا عبيد تشمل الكافر والمؤمن؛ أي: يتحسر المؤمن على من لم يؤمن؛ لأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
{مَا يَأْتِيهِم مِنْ رَسُولٍ} : ما: النافية؛ يأتيهم: من أتى، والإتيان معناه: المجيء بسهولة؛ من استغراقية، تستغرق كلّ رسول؛ أي كلّ رسول استهزأ به قومُه.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : قدّم (به) تكريماً للرسول، ومن يستهزأ برسول فقد استهزأ بكل الرّسل، يستهزؤون من الاستهزاء بصيغة المضارع؛ لتدل على استمرار الاستهزاء وتجدده ولم ينقطع حتّى يومنا الحاضر. وتعريف الاستهزاء: هو تصغير قدر الآخر أو الشّيء، والتّحقير أو الاستخفاف به أو العيب بدون سبب، بينما السخرية تتميز بوجود سبب، ولا يقتضي وجود سبب للاستهزاء كما هو الحال في السخرية التي يسبقها فعل من المسحور منه، والاستهزاء عام قد يكون مثلاً بالله أو آياته أو رسله أو بشيء ما.
سورة يس [36: 31]
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ، قال: ألم ولم يقل أولم، (ألم) تدل على شيء غير مرئي وتنكره وقد تعني القلة، و (أولم) تدل على تدل على شيء مرئي وتنكره وقد تعني كثرة الّذين أهلكنا.
{يَرَوْا} : رؤية بصرية، يروا: مساكن وآثار هؤلاء المكذبين لرسلهم، يروا بيوتهم الخاوية على عروشها، ورؤية قلبية فكرية (رؤية علمية) ألم يعلموا (الرّؤية العلمية) ألم يأتهم أنباء الّذين أهلكناهم؟
{كَمْ} : الخبرية تفيد الكثرة.
{أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنَ الْقُرُونِ} : أهلكنا، نسب الهلاك إليه سبحانه؛ ليدل على شدة الهلاك وعظمته ويعني الموت والفناء، وتقديم الظّرف يدل على التّهديد والوعيد الشّديد. ارجع إلى سورة الأعراف الآية (4) لمزيد من البيان في معنى الهلاك.
لنقارن هذه الآية: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} .
مع الآية (13) من سورة يونس: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} .
في آية يس قدّم الظّرف قبلهم فقال: قبلهم من القرون.
في سورة يونس أخّر الظّرف فقال: القرون من قبلكم.
في آية يس وكل آية أخرى في القرآن يقدّم فيها الظّرف قبلهم أو قبلكم على القرون فيها تهديد أكبر ووعيد أشد وتحذير.
وفي آية يونس وسورة الإسراء فقط أخّر الظّرف؛ لأنّهما ليس فيهما تهديد ووعيد مثال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17].
{قَبْلَهُم مِنَ الْقُرُونِ} : ولم يقل من قبلهم من القرون، مجيء من يدل على القرب.
قبلهم من القرون: تعني القرون الماضية غير القريبة الّتي جاءت قبلهم؛ أي ينظروا في مصير تلك القرون.
من ابتدائية، القرون: جمع قرن والقرن يقدر بـ (100 سنة) أو يعني جماعة أو قوماً عاشوا معاً في زمن واحد معين يقدر بقرن (100 سنة).
{أَنَّهُمْ} : تفيد التّوكيد.
{إِلَيْهِمْ} : تقديمها يفيد الحصر؛ أي إليهم حصراً.
{لَا يَرْجِعُونَ} : لا النّافية، يرجعون: يرجعون إلى كفار مكة، فيكونون هادين لهم أو ناصحين واعظين حتّى يؤمنوا بالله فينجوا من العذاب فهذا لن يحدث.
لا يَرجعون: ولم يقل لا يُرجَعون؛ أي يَرجعون بإرادتهم وليس قسراً وبإكراه، ولو أردنا هذا لفعلناه وعندها يستعمل يُرجعون.
لا يَرجعون: الفاعل يعود على القرون المهلكة، قيل: لا يرجعون إلى الدّنيا ليعظوا هؤلاء: كفار مكة أو غيرهم من الأقوام، وبذلك يتجنبون العذاب.
سورة يس [36: 32]
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}
{وَإِنْ} : الواو استثنائية، إن:(المخففة) تفيد التّوكيد.
{كُلٌّ} : تفيد العموم وتدل على كلّ فرد؛ أي: تعم الأفراد أو الأشياء على انفراد أمّا جميع تدل على كلّ الأفراد أو الأشياء في حالة اجتماع كلّ من القرون الهالكة والقرون الحية والقرون القادمة، كلّ إليه محضرون يوم القيامة كقوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
{لَمَّا} : للاستثناء، تعني: إلا.
{جَمِيعٌ} : أي مجموعون في مكان واحد ومجتمعون؛ أي: في أرض المحشر للحساب والجزاء، المسلم وغير المسلم الصّالح والطّالح المؤمن والكافر وتفيد التّوكيد والكثرة.
{لَّدَيْنَا} : تفيد الحصر، لدينا حصراً، وتفيد القرب مقارنة بقوله: عندنا.
{مُحْضَرُونَ} : ولم يقل حاضرون، محضرون بغير إرادتهم (جمع مُحضر) محضرون قسراً وقهراً، أحضر أي: أجبر على الحضور، بينما حاضرون؛ أي بإرادتهم واختيارهم محضرون؛ أي مجموعون ومحشرون. وكلمة محضرون: لا تأتي إلا في سياق العذاب في كل القرآن. ولدينا محضرون: تفيد التهديد والوعيد.
سورة يس [36: 33]
ثمّ يذكر الله سبحانه أدلة على قدرته على البعث وإحياء الموتى ويبدأ بآية الأرض الميتة.
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} : آية كونية؛ لهم: اللام: لام الاختصاص والملكية لهم خاصة، وليس لغيرهم؛ لهم: تعني لكل الناس، وليست لقوم دون قوم مقارنة بقوله تعالى:{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]؛ أي: هذه آية خاصة لكم لا لغيركم. الأرض الميتة: بسكون الياء التي تدل على أن الأرض قد ماتت فعلاً، بينما تشديد الياء: يدل أنها لا زالت على قيد الحياة وستموت إذا لم يصلها الماء؛ أي: الأرض القاحلة الجرداء لا نبات فيها ولا زرع. وبدأ بالأرض؛ لأنها أقرب إليهم ويعيشون فيها.
{أَحْيَيْنَاهَا} : بماء المطر، الّذي يتكون من تبخر ماء البحار والمحيطات الّذي يصعد في السّماء فيرسل الله الرّياح الّتي تحمل هذا البخار على شكل سحب وهذه السّحب لا تنزل أيّ مطر حتّى يرسل الله سبحانه ريحاً تحمل هباءات الغبار لتلقح ذرات بخار الماء فيتكثف ويشكل السّحب الرّكامية الّتي تنزل المطر. ودورة الماء على الأرض تقدر بـ (600 ألف كم3) من الماء سنوياً تأتي من تبخر مياه البحار والمحيطات وهناك (100 ألف كم3) تأتي من تبخر مياه اليابسة ثم تنزل هذه بزيادة (65 ألف كم3) فيصبح ما ينزل على اليابسة (165 ألف كم3) وهذه الزيادة تؤخذ من مياه البحار والمحيطات وما يزيد أو يطفو على الأرض يعود إلى البحار والمحيطات.
{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} : بدأ بالحب؛ لأنّه أصل القوت، وأهم أنواع الحب: القمح والشّعير والرّز والذّرة، والحب: هو من أهم مقومات القوت على الأرض يصنع منه الخبز.
{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} : قدّم الجار والمجرور ليدل على الاهتمام؛ لأنّه الغذاء الرّئيسي وكأن الأغذية بدون الحب، ليست غذاء، يأكلون: بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار على وجه الدّوام، وقدّم الحب على الفاكهة في الآية (34) لأنّ الحب هو الأهم، أهم من الفاكهة (النّخيل والأعناب).
سورة يس [36: 34]
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} :
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} : في الأرض، جنات: بساتين كثيفة الشّجر.
{مِنْ نَّخِيلٍ} : من لبيان الجنس، من نخيل: أي شجر التّمر وهو من أهم الفواكه، وقدّم شجرة النّخيل الّتي هي مصدر التّمر على شجرة العنب.
{وَأَعْنَابٍ} : جمع عنب، وذكر النّخيل والأعناب إشارة إلى تفضيل هذه الثّمار على غيرها أو تفضيل بعضها على بعض في الفائدة الصحية.
{وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} : فجرنا: تفيد الكثرة، فيها: في الأرض، ظرفية، من العيون: من ابتدائية بعضية، العيون: عيون الماء هي المياه الجوفية في باطن الأرض، وأمّا أعين تعني: الّتي نبصر بها، فبعض ماء المطر يخزن في الأرض بشكل عيون وذلك بفضل الصخور المسامية والعالية النفوذية كالصخور الرّملية الّتي تخزن هذه المياه خاصة في الأراضي الخالية من الأنهار والبحيرات، والّتي تحتاج إلى ماء فيخرجه ربنا على شكل عيون الماء.
سورة يس [36: 35]
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} :
{لِيَأْكُلُوا} : اللام لام التّعليل، الأكل هنا من الفاكهة، وأكل الفاكهة ليس دائماً متواصلاً كأكل الحب المتواصل الدّائم الّذي قال عنه: فمنه يأكلون؛ لأننا نحتاج إلى الحب بشكل دائم، أمّا أكل الفاكهة الّتي تؤكل أحياناً قال: ليأكلوا.
{مِنْ ثَمَرِهِ} : أي ثمر النّخيل والأعناب.
{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} : ما: نافية أو اسم موصول، أي: ما عملته أيديهم ولكن القدرة الإلهية هي الّتي أخرجته لهم، أو لم تعمله أيديهم بل أيدينا، أو ليأكلوا من ثمره والّذي عملته أيديهم؛ أي: هم الّذين قاموا برعايته والعناية به، فالله سبحانه يعطي الإنسان حقه ودوره مهما كان يسيراً، والاحتمالات كلّها واردة وكلها صحيحة.
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري على عدم شكرهم، وتوبيخ وتعجب على ترك الشّكر، وألا: أداة حث وحض وتحمل معنى الأمر على شكر المنعم.
وإذا قارنّا أفلا يشكرون مع {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 70]:
في الواقعة فلولا تشكرون فيها حث وحض على الشّكر أشد وأقوى من أفلا يشكرون التي فيها تحذير وتهديد أقوى وأشد من أفلا تشكرون. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان في معنى الشكر.
سورة يس [36: 36]
{سُبْحَانَ} : تنزيه لذات الله وصفاته وأفعاله من كلّ نقص وعيب وشريك وولد. ارجع إلى سورة الإسراء الآية (1) وسورة الحديد آية (1) للبيان.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} : الأزواج: الأصناف: والزّوج يعني الشّيء الواحد ومعه مثله، فالله سبحانه خلق كلّ المخلوقات من نبات وحيوان وإنس وجن والجمادات واللبنات الأولية للمواد في زوجية كاملة مثل الذرّة المكونة من الكترون السالب وبروتون (الموجب)، وينطوي تحت هذه المادة وأضداد المادة والطاقة وأضداد المادة، فكل شيء خلقه الله سبحانه خلقه في زوجية كاملة حتّى يبقى سبحانه متفرداً بالوحدانية المطلقة.
{مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} : من بعض (بعضية)؛ ما: اسم موصول أوسع شمولاً من الذي؛ أصناف (أزواج) الحب والجنات والزّروع.
{وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} : ومن: الواو عاطفة؛ من: للعاقل الزّوج الذّكر والأنثى.
{وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} : مما: من لبيان الجنس، لا: النّافية، يعلمون: من أزواج الذّكورة والأنوثة، والسالب والموجب والمادة وأضداد المادة والطاقة التي قد يعلمها علماء النبات فقط، وهناك أزواج ستبقى مخفية لا يعلمها إلا الله قد يصبح بعضها معلوماً في المستقبل.
سورة يس [36: 37]
{وَآيَةٌ لَهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُّظْلِمُونَ} :
{وَآيَةٌ لَهُمُ} : الواو: استئنافية، وآية أخرى كونية تدل على عظمة الله وقدرته وتدل على الزوجية وهي الليل نسلخ منه النّهار، الليل آية والنّهار آية.
{الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} : نحن نعلم أنّ هناك طبقة غازية محيطة بالأرض تبلغ (100-200كم) تسمى الطبقة المضيئة حينما تقع عليها أشعة الشّمس (في نصف الأرض المقابل للشمس) تضيء وتعطينا ضوء النّهار، والكون كلّه في ظلام والنّصف الآخر من الأرض الغير مقابل للشمس يكون في ليل.
فالطبقة الغازية هي النّهار شبهها بجلد الذبيحة وأما جسم الذبيحة يتمثل بالظلام أو الأرض، فعندما تدور الأرض وتبدأ الشّمس تتحول شيئاً فشيئاً إلى القسم الآخر من الأرض؛ أي: تغيب عن جزء من الأرض؛ أي: تنسلخ عن ذلك الجزء، وتشرق على جزء آخر، فالليل هو الأصل؛ أي: الظّلام وشبهه بالشاة، والنّهار هو الطّبقة المضيئة الغازية المحيطة بالأرض تشبه الجلد، فالله سبحانه وحده القادر على سلخ النّهار من الليل (أي محو النّهار أو إزالة الطّبقة الغازية المضيئة عن الليل فإذا هم مظلمون).
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، إذا للفجأة.
{مُّظْلِمُونَ} : أي دخلوا في الظّلام، فهذه الآية تدل على نعمة الله من أكبر نعم عليهم؛ لكي يسكنوا فيه؛ أي: في الليل ثمّ يأتي ضوء النّهار في الصّباح فيستر ظلمة الليل، وهذا يدل على كروية الأرض أيضاً.
سورة يس [36: 38]
{وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :
{وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} : تجري: (مشتقة من جري الحصان) تجري كجري الأمواج صعوداً وهبوطاً؛ أي: بشكل متعرج وتذبذب يميناً وشمالاً، تجري لمستقر لها: فسره العلماء قديماً: تحت عرش الرّحمن، والتّفسير العلمي تجري بزاوية تميل (10) درجات جنوب غرب نجم النّسر، والشّمس والمجموعة الشّمسية تجري باتجاه نقطة محددة تسمى مستقر الشّمس (صولر ايبكس) وتجري أيضاً حول مركز المجرة وتستغرق دورتها (250) مليون سنة وتجري باتجاه مستقرها الّذي هو (صولر ايبكس). كلمة تجري: تدل على سرعة الجري، تجري بسرعة تقدر (217) كم في الثّانية.
وتجري لأجلٍ مسمىً، الأجل: هو يوم القيامة؛ أي: ستبقى تجري وتجري حتى يأتي يوم القيامة، اللام لام النّهاية عندها تكون قد استنفدت وقودها وتخمد وتنطفئ ويذهب نورها كما قال تعالى:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} : ذلك ما سبق من حركة وجريان يحتاج إلى علم وحساب وتقدير دقيق لا يستطيع القيام به إلا العزيز العليم، العزيز: الّذي لا يُغلب ولا يُقهر الّذي سنّ القوانين وكلها خاضعة لعظمته، العليم: بكونه وخلقه وجريان الشّمس والقمر والنّجوم والكواكب والمجرّات، والعليم بكلّ حركة وجري في كونه إلى أين ومتى.
سورة يس [36: 39]
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} :
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} : قدّرنا: من التّقدير والحساب الدقيق، قدّرنا مسيره (28) منزلاً ينزل القمر كلّ ليلة في واحد منها لا يتخطّاه ولا يتقاصر عنه ويغيب أو يستتر إذا زاد الشّهر عن (28) ليلة (أي ليلتين) ومنازل القمر: مواقع تحركه في مداره حول الأرض ومواقعه بين الشّمس والأرض، وتبعاً لتغير هذه المواقع تتغير صورته، فالقمر حجمه ثابت والّذي يتغير هو ظل الشّمس عليه؛ أي: مساحة النّور على سطح القمر، فيَكبر ويَصغر بأشكال مختلفة تسمى منازل القمر وهي الهلال المتزايد وقرناه إلى الأعلى، والتّربيع الأوّل، والأحدب المتزايد، والبدر، والأحدب المتناقص، والربيع الثاني، والهلال المتناقص قرناه إلى الأسفل، والمحاق، ومنازل القمر قد تعني وقوع القمر في الأبراج الّتي هي تجمعات نجمية محددة نستطيع أن نحدد منها الشهر، والأقرب إلى الصحة هي مساحة النور على سطح القمر؛ لقوله تعالى:(حتّى عاد كالعرجون القديم).
فإذا كبر وبلغ (15) ليلة يصبح بدراً ثمّ يعود ظل الشّمس ينحني ويدق وينحني ويدق حتّى يصبح شكله شكل العرجون القديم يشبه الهلال.
والعرجون: هو غصن النّخلة بعد زوال الأوراق ومع الأيّام يجف وإذا جف اعوجّ، والعرجون مائل فإذا جفّ ونشف زاد اعوجاجاً ودقة، ففي الأيّام الأخيرة يدق القمر وينحني حتّى يأخذ شكل العرجون القديم.
سورة يس [36: 40]
{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} : لا النّافية، لا ينبغي: لا يمكن أو يصلح لها، أن تدرك: أن مصدرية تعليلية، تدرك القمر؛ لأنّ الشّمس لها مدار فلك يختلف عن مدار القمر، فهما لا يجريان في المدار نفسه (الفلك) حتّى تدرك الشّمس القمر أو القمر يدرك الشّمس ولكلّ كوكب أو نجم فلكه أو مداره الخاص به. وهذه المدارات ليست في مستوى أفقي فهي حلزونية؛ أي: تجري في هيئة حلزونية حتّى تبقى المسافات والعلاقات بينها ثابتة تجري إلى أجل لا يعلمه إلا الله سبحانه.
{وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} : لأنّ الليل والنّهار تابع لدوران الأرض حول نفسها وحول الشّمس، فلا الشّمس تدرك القمر ولا القمر يدرك الشّمس، ولا الليل سابق النّهار، الأصل في الكون الظلام فالليل سابق النّهار وقوله تعالى:(ولا الليل سابق النّهار) يدل على كروية الأرض وكونها تجري حول نفسها وحول الشّمس فخاطب الله تعالى العرب في زمن نزول القرآن بلغتهم ولم يقل الأرض تجري؛ لأنّهم لا يشعرون بجريها وهذا ما أثبته العلم في السنين الأخيرة.
{وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : الواو تدل على وجود أشياء أخرى لها فَلَك مثل الكواكب الأخرى والمجرات الأخرى ولو أراد فقط الشّمس والقمر لقال كلٌّ في فلك يسبحان وحذف الواو (واو الجمع) واختار كلمة السّباحة الّتي تضم كلّ الأجرام السماوية كلّ جرم يسبح في فلك خاص به؛ أي: مدار خاص به والسّباحة يقوم بها الإنسان العاقل.
وكأنّه شبه الفلك كأن لها عقلاً؛ لكونها لا يتغير مدارها ولا تصطدم ببعضها.
{فِى فَلَكٍ} : في ظرفية، فلك: المدار وجمعه أفلاك. يسبحون: تفيد العموم فالأرض والشّمس والقمر والنّجوم والكواكب والمجرات والغبار والغازات وكل ذرة جميعها تتحرك حركة اهتزازية مركبة، أشبه ما يكون بجسم يطفو على سطح الماء، وهذه الأمواج تتحرك في فلكها حركة اهتزازية تعرجية كأنّها تسبح على موجة صعوداً وهبوطاً ولذلك لا يستعمل القرآن كلمة تدور وإنّما كلمة (يسبحون) ولذلك يشعر رواد الفضاء حين يخرجون عن نطاق الجاذبية الأرضية كأنّهم يسبحون في الفضاء أو يطفون على سطح الماء، وهذا الإحساس حقيقي وليس وهمياً؛ لأنّهم ليسوا في فراغ كما قد يظن البعض بل في وسط مادي بكثافة منخفضة.
سورة يس [36: 41]
{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} :
{وَآيَةٌ} : الواو: استئنافية، وآية أخرى لهم.
{لَّهُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أي: لهم خاصة لأهل مكة ولكل النّاس دالة على قدرة الله وعظمته ورحمته وتدعو إلى الإيمان به.
{أَنَّا} : للتعظيم.
{حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} : ذرية نوح: أولاده سام وحام ويافث. يعتبر نوح وأولاده والّذين نجوا معه هم الأصل الثاني للبشرية، وآدم وحواء هما أصل البشرية الأوّل. والذّرية: الابن وابن الابن وتعني ليس فقط أنتم وإنما كذلك أبناءكم والّذين في أصلابكم، ويقصد بذلك الشفرة الوراثية الّتي انتقلت من نوح وذريته إلى أهل مكة والّذين سيأتون من بعدهم إلى يوم القيامة.
ذريتهم: تعود على أولاد نوح، الذرية: النسل؛ أي: الأبناء ذرية للآباء والآباء ذرية للأبناء وهذا من الأضداد، وفي هذه الآية جعل الآباء ذرية للأبناء.
{فِى الْفُلْكِ} : في ظرفية، الفلك: تطلق على المفرد والجمع؛ تعني: السّفينة والفلك كلمة عامة (مطلقة) أمّا السّفينة خاصة أي: لها أصحاب مثال: (أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر).
{الْمَشْحُونِ} : المملوءة بالركّاب والأمتعة.
سورة يس [36: 42]
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} :
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ} : للناس، من: ابتدائية.
{مِّثْلِهِ} : مثل سفينة نوح، مثل الفلك وتعني: القطارات والسّيارات والطّائرات والمراكب والزّوارق والسّفن وغيرها من وسائل المواصلات.
{مَا} : للإطلاق.
{يَرْكَبُونَ} : فعل مضارع تفيد التّجدد والتّكرار والاستمرار.
سورة يس [36: 43]
{وَإِنْ نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} :
{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والافتراض.
{نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} : الكلام عن كفار مكة وغيرهم من الناس.
{فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} : الفاء جواب شرط، لا: النّافية، صريخ لهم: فلا يستطيعون الصّراخ أصلاً حتّى يصرخوا؛ لأنّ الغريق يحاول أن يصرخ (والصّريخ الصّوت المرتفع العالي) ولا أحد ينقذهم ولا يغيثهم بأي وسيلة.
{وَلَا هُمْ} : تكرار (لا) يفيد التّوكيد، هم: تفيد زيادة التّوكيد.
{يُنْقَذُونَ} : من غرقهم؛ أي: ينجون من الموت.
وقد يقول قائل: أهل مكة بعيدون عن البحر ولا يعرفون البحر فالمعنى: الله سبحانه يستطيع أن يغرقهم وهم في مكة، كأن ينزل عليهم ماء منهمر يسبب الطوفان فيصيبهم كما أصاب قوم نوح.
سورة يس [36: 44]
{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{رَحْمَةً مِنَّا} : أي لرحمة منا فلا نغرقهم، وقوله:(رحمة منا)؛ أي: رحمة عامة تشمل الكل، ولو قال: رحمة من لدنا، أو رحمة من عندنا؛ لكانت رحمة خاصة تعني المقربين والمؤمنين.
{وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} : أي: نتركهم أحياء إلى أن يحل أجلهم، والمتاع والتّمتع هو كلّ ما يُنتفع به ويُتمتع به من أثاث وأداة ومال وطعام حتّى ينقضي أجلهم.
{إِلَى} : تفيد عموم الغايات.
{حِينٍ} : الحين هو الزمن غير المعلوم قد يطول أو يقصر.
سورة يس [36: 45]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :
{وَإِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث، لا بد من وقوع الأمر الّذي جاء في سياقها.
{قِيلَ لَهُمُ} : للكفار وغيرهم، القائل مبني للمجهول، ولا يهم، المهم هي المقولة؛ أي: ننظر إلى المقولة، وقيل لهم تدل على أن هذه المقولة قيلت لهم مراراً وتكراراً؛ أي طلب منهم.
{اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} : اتقوا: التقوى: هي طاعة أوامر الله، وتجنب نواهيه للوقاية من عذاب الله (عذاب النار)؛ ما: بمعنى الّذي، أو مصدرية، وما: أوسع شمولاً من الذي.
{مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} : أي اتقوا الدّنيا؛ أي: عذابها ونوازلها وآفاتها، والوقاية تكون بامتثال أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا خَلْفَكُمْ} : وهي الآخرة؛ أي: عذابها؛ أي: اجعلوا بينكم وبينها وقاية أو حاجزاً.
وما بين أيديكم: قد تعني أمامكم؛ أي: الآخرة وما خلفكم الدّنيا، على الحالتين اتقاء ما تقدم وما تأخر.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لعل: تفيد التّعليل؛ أي: لعلكم ترحمون الآن أو في المستقبل أو الماضي؛ أي لعلكم ترحمون مطلقاً في أيّ زمان.
لعلكم ترحمون: إذا اتخذتم الأسباب مع رجاء الرّحمة معاً واتخاذ الأسباب لا يكفي فلا بد من دعوة الله ورجائه.
وترحمون بصيغة المضارع تفيد التّجدد والتّكرار، وحذف جواب إذا للتفخيم والتّعظيم، ليشمل كلّ الاحتمالات.
ولمعرفة الفرق بين (لعلكم ترحمون) و (عسى ربكم أن يرحمكم) ارجع إلى الآية (8) من سورة الإسراء للبيان.
سورة يس [36: 46]
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} :
{وَمَا} : الواو استثنائية، ما: نافية تفيد نفي الحال؛ أي الآن مقارنة باستعمال (لا) تنفي كلّ الأزمنة وخاصة المستقبل.
{تَأْتِيهِم} : أي كفار مكة أو غيرهم من الكفار، تأتيهم: فعل مضارع يدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار والدّوام على الإعراض عن آيات الله وهي عادة مستمرة عندهم وفي كلّ زمان.
{مِّنْ آيَةٍ} : من استغراقية، آية: قرآنية أو كونية أو معجزات دالة على صدق النّبوة أو غيرها من الآيات.
{مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} : إضافة (ربهم) إلى الآيات تدل على أهمية وخطورة هذه الآيات وشدة عاقبة الإعراض عنها وأهمية الأخذ بها مقارنة بقوله: من الآيات بدون ذكر كلمة: ربهم، لكان الأمر أقل خطورة.
{إِلَّا} : حصراً.
{كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} : جمع معرض: اسم فاعل يفيد الثّبوت على إعراضهم الدّائم فهم كانوا قبل إتيان الآيات وبعد الإتيان على الحال نفسها من الإعراض عنها، ولو قال أعرضوا؛ أي فعل ماض، لدلّ على أنّه شيء حدث وانتهى؛ أي شيء عارض وزال.
{عَنْهَا مُعْرِضِينَ} : تقديم (عنها) للقصر؛ أي الإعراض خاص بآيات الله ومقصور عليها، أمّا غيرها من الأمور فكانوا غير معرضين عنها.
سورة يس [36: 47]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} : ارجع إلى الآية (45).
{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} : أي أمروا أو حضّوا على الإنفاق في سبيل الله من مال أو طعام أو غيره، مما: من وما، من ابتدائية بعضية، وما تعني الّذي اسم موصول، وأوسع شمولاً من الذي.
{رَزَقَكُمُ اللَّهُ} : أي أنفقوا شيئاً وليس كلّ ما رزقكم الله؛ أي جزءاً بسيطاً مما رزقكم الله أو مما جعلكم مستخلفين فيه.
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} : الهمزة للاستفهام والإنكار والتّعجب.
{مَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} : أي كيف نطعم هؤلاء الّذين امتنع الله عن رزقهم؟ فلو شاء الله هو أطعمهم ورزقهم، فلو فعلنا ما تأمروننا لكنّا مخالفين لأمر الله ومشيئته، وقالوا: أطعمه، ولم يقولوا لأطعمه، لم يأتوا بلام التّوكيد؛ لأنّ الطّعام ميسور ومتوفر لديهم فلا يحتاج إلى توكيد، كما هو الحال مثلاً في أمر الهداية الذي يحتاج إلى توكيد فقال:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9].
{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : إن نافية أقوى نفياً من ما؛ أي: ما أنتم.
{إِلَّا} : أداة حصراً.
{فِى} : ظرفية ولم يقل على ضلال؛ لأنّ (في) تعني: ساقطين في الضّلال أو في ضلال يحيط بهم من كلّ جانب أو مستمرّين في ظلمات الضّلال وما هم بخارجين منها.
{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : في ضلال: في بُعد عن الحق وفساد وعصيان، مبين: ظاهر جليّ غير خفيّ على أحد، ولا يحتاج إلى دليل أنّه ضلال واضح بيّن.
سورة يس [36: 48]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{وَيَقُولُونَ} : تعود على كفار مكة أو غيرهم من الكفار، (يقولون) تدل على الاستمرار وعدم الانقطاع والتّجدد والتّكرار في سؤالهم: متى هذا الوعد؟
{مَتَى} : استفهام إنكاري واستبعاد؛ أي: هم ينكرون البعث والحساب والجزاء والجنة والنّار.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقريب.
{الْوَعْدُ} : يوم القيامة أو العذاب والحساب والجزاء، والوعد عادة يدل على البشارة بالخير، بينما الوعيد يدل على الإنذار والتّخويف، فبدلاً من القول: متى هذا الوعيد؟ قالوا: متى هذا الوعد؛ لأنّهم لا يصدّقون به سواء كان عذاباً أو يوم القيامة.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك والافتراض والاحتمال وأنّكم من الصّادقين؛ أي: إن كنتم من الصّادقين ائتوا بيوم القيامة أو بالعذاب؟
سورة يس [36: 49]
{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} :
{مَا} : النّافية.
{يَنْظُرُونَ} : من النّظر وهو: وقوع الشّيء من غير ترقّب له؛ أي: فجأة من غير توقع حدوثه وبسرعة بعكس ما ينتظرون: أن يكون هناك زمن للاستعداد له أو الهروب أو النجاة.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} : الصّيحة: نفخة إسرافيل الأولى في الصور، نفخة الصعق والموت تأخذهم بغتة وبشدة.
{وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} : هم ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ أي: تفاجئهم الصّيحة وهم يتخاصمون في معاملاتهم، أو يجادل بعضهم بعضاً في أمور الدّنيا وفي أموالهم وشرابهم وطعامهم وبيعهم وشرائهم، يخصّمون: أصلها يختصمون، على وزن يفتعلون، بكسر الخاء، ففي هذه الآية إنذار للغافلين عن الموت والبعث والحساب.
سورة يس [36: 50]
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} :
{فَلَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، لا النّافية.
{يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} : لا يستطيعون أن يوصي بعضهم إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون أو يوصي بالوصية أو الميراث، أو حتّى يكلمهم أو يخبرهم بأيّ وسيلة.
{وَلَا} : الواو استئنافية، لا النّافية، وتكرار (لا) يفيد التّوكيد، توكيد النّفي.
{إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} : أي ولا يستطيعون الرّجوع إلى منازلهم وإلى أهلهم فلا يستطيعون التّوصية ولا يستطيعون الرّجوع ولا كلاهما؛ أي: لا يرجعون من أماكن عملهم أو مصانعهم أو مزارعهم أو دوائر أعمالهم، من سياراتهم ومن الشّوارع والأسواق إذا كان يمشون فيها.
وبعد نفخة الفزع ونفخة الصعق لا يبق على ظهرها من دابة، ويحدث الانهيار الكوني، وقيام الساعة، وتموت الخلائق، وتتبدل الأرض والسماء، وهكذا حتى تحدث النفخة الثانية نفخة البعث والقيام.
سورة يس [36: 51]
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} :
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين النّفختين أربعون) قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أَبيْتُ، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيتُ (ثمّ يُنزل الله من السّماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل) قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحداً وهو عَجْب الذّنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة. متفق عليه، واللفظ لمسلم، ومعنى قول أبي هريرة:(أبيْت) امتنعت عن الجواب لأنّي لا أدري ما هو الصّواب، (وعجب الذّنب) هو العظم الّذي في أسفل العمود الفقري، وهو رأس العُصعص، ويقال له:(عجم) بالميم، وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الّذي يبقى من الإنسان ليعاد تركيب الخلق منه يوم البعث كما بينت الأحاديث النبوية الصحيحة.
{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} : النّفخة الثّانية نفخة البعث أو القيام، والنّفخة الأولى كانت نفخة الفزع والصعق، والنّفخة علامة للحدث؛ وهو الإحياء والبعث والقيام للحساب والجزاء.
{فَإِذَا هُمْ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، إذا: ظرفية تفيد الفجأة، هم الثّقلين الإنس والجن.
{مِنَ الْأَجْدَاثِ} : من ابتدائية، الأجداث: جمع جدث وهو القبر ساعة خروج الميت منه وما يحدث فيه من حركة سريعة تحدث أصوات وضجة بعد أن كان ساكناً هامداً منقطع الحركة.
{إِلَى رَبِّهِمْ} : تقديم الجار والمجرور يفيد القصر فقط إلى ربهم.
{يَنْسِلُونَ} : يسرعون إلى أرض المحشر، من النّسل، وهو مقاربة الخطوات مع الإسراع، يقال: نسل في مشيته؛ أي: أسرع، أو الثوب ينسل؛ أي: تخرج بعض الخيوط من أماكنها أو تنفلت.
سورة يس [36: 52]
{قَالُوا} : وهم يخرجون من الأجداث؛ أي الكفار قالوا لأنفسهم يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وهم يساقون إلى أرض المحشر.
{يَاوَيْلَنَا} : ويدعون على أنفسهم يا هلاكنا؛ أي: أقبل أو يا حسرتنا أو يا مصيبتنا.
{مَنْ} : استفهامية تحمل معنى الدّهشة والتّعجب.
{بَعَثَنَا مِنْ مَّرْقَدِنَا} : البعث: هو الإيقاظ بإزعاج والإثارة والحث على الخروج بسرعة، من مرقدنا: ولم يقولوا من قبورنا؛ لأنّهم كانوا يظنون أنّهم كانوا نائمين وما زالوا في دار الدّنيا، وقيل: لأنّ الله رفع عنهم العذاب ما بين النّفختين، من: ابتدائية، مرقدنا: مكان نومنا والمصدر هو: الرّقاد، والبعث يكون من الأرض الجديدة.
{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} : هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب ويشير إلى البعث والحشر وأهوال يوم القيامة.
ما وعد الرّحمن: ما اسم موصول بمعنى: الّذي وعد الرّحمن، أو مصدرية أي: هذا وعد الرّحمن.
هذا ما وعد الرّحمن: أي هذا يوم البعث هذا هو الجواب على سؤالهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
واختار اسم الرّحمن: المشتق من الرّحمة الّتي بحاجة إليها المؤمن وغير المؤمن والحديث عن دار الآخرة والاستعداد لها رحمةً من الله.
وصدق المرسلون: حين أخبرونا، عن البعث والحشر والحساب ويوم القيامة.
سورة يس [36: 53]
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} :
{إِنْ} : نافية أقوى في النّفي من ما، أو إن المخففة تفيد التّوكيد.
{كَانَتْ إِلَّا} : أداة حصر.
{صَيْحَةً وَاحِدَةً} : واحدة للتأكيد وهي نفخة البعث (النّفخة الثّانية) النّفخ في الصور وهي علامة على البعث.
{فَإِذَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، إذا الفجائية.
{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{جَمِيعٌ} : تعني الكلّ مجموعون في مكان واحد ومجتمعون تحت سقف السماء الجديدة، وجميع: تدل على الكثرة مقارنة بكلمة الجم الّتي تدل على القلة، جميع: توكيد ولم يقل كلٌّ؛ لأنّ الكلّ تعني مجموعون فقط بينما جميع تعني مجموعون ومجتمعين.
{لَّدَيْنَا} : تدل على القرب وتدل على الحصر والقصر.
{مُحْضَرُونَ} : جمع مُحضر؛ أي أُجبر على الحضور أو أُكره، حاضرون في مكان واحد ومجتمعون في أرض المحشر، للمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93-95].
سورة يس [36: 54]
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :
{فَالْيَوْمَ} : الفاء للتوكيد، اليوم: بأل التّعريف؛ أي يوم القيامة.
{لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـئًا} : لا النّافية، تظلم نفس: ينقص من أجرها شيئاً ولو كان مثقال ذرة أو حسنة، ولا تظلم بزيادة سيئة إلى سيئاتها، والظّلم هو نقصان حق الغير، نفسٌ: نكرة تعني: أيّ نفس مؤمنة أو غير مؤمنة، شيئاً: نكرة تعني: شيئاً من الظّلم أو شيئاً من الأشياء مهما كان نوعه وصغره مادياً أو غير مادي، والشّيء هو أقل القليل.
{وَلَا تُجْزَوْنَ} : الواو عاطفة، لا النّافية، تجزون: النّون للتوكيد، تجزون: من الجزاء، والجزاء بمقدار العمل؛ أي: بمقدار ما كنت تعمل تجزى والجزاء من جنس العمل إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، هذا بالنّسبة للكافر أمّا المؤمن يجزى أضعافاً مضاعفة ويجزى بأحسن ما كانوا يعملون.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَا كُنتُمْ} : ما بمعنى الّذي كنتم: في الدّنيا.
{تَعْمَلُونَ} : العمل يشمل القول والفعل؛ أي: ما كنتم تقولون وتفعلون.
سورة يس [36: 55]
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ} :
بعد ذكر الآيات الدّالة على البعث، يبين الله ما أعده لأصحاب الجنة وما أعده للمجرمين فقال تعالى:
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} : إنّ للتوكيد، أصحاب الجنة: سكانها وأهلها بما قدموا من العمل الصّالح والإيمان، وأصحاب من الصّحبة: تعني عدم المفارقة، فالجنة صاحبة لهم وهم أصحاب لها لا يفارقونها وهي لا تفارقهم في صحبة دائمة لا تنقطع.
{الْيَوْمَ} : أي يوم القيامة.
{فِى شُغُلٍ} : في ظرفية، شغل: مشغولون؛ أي: ليس عندهم وقت فراغ، فهم مشغولون بالنّعيم الدّائم، لا يحدث لهم ملل من الفراغ بل هم في شغل متعة ولذة لا تعب ولا نصب وإعياء.
{فَاكِهُونَ} : من الفكاهة: وهي طيب العيش والنّشاط وقد تعني: فرِحون مسرورون ناعمون. فاكهون غير فكِهون: من الفَكِه والفاكهة، فاكهون: أوسع وأعم ومطلقة في كلّ الأوقات وغير مقيدة كما هو الحال في فكهين. ارجع إلى سورة الطّور الآية (18) لمزيد من البيان.
سورة يس [36: 56]
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} :
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} : هم للتوكيد، وأزواجهم: نساؤهم (من أهل الدّنيا) وحين يذكر الأزواج في القرآن لا يذكر معها الحور العين.
{فِى ظِلَالٍ} : جمع ظل، في ظلال لا شمس في الجنة ولا حر ولا برد، بل ظلال، والظل من أحدى نعم الله تعالى على الناس، وفي سورة آية (57) قال وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} والمكان الظليل؛ أي: ذو ظل وظل ظليل؛ أي: دائم الظل، والظل المكان الذي لا تصله أشعة الشمس بسبب حاجز أو مانع، وبالتحديد يكون في الغداة أول النهار، والفيء يكون عادة في العشي (الأصال)؛ فالظل يتحرك أو ينتقل من جهة الغرب إلى جهة الشرق ويتمدد وينقبض. ارجع إلى سورة الفرقان آية (45-46)، والظل له أنواع كما ورد في آيات القرآن منها الغمام البقرة آية (210) {ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57] {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30]، ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] وغيرها
…
، والظل: قد يطلق على الظل النافع أو العذاب (الضار) حسب سياق الآيات.
{عَلَى الْأَرَائِكِ} : جمع أريكة: وهو السّرير؛ أي: أسرَّة للجلوس عليها؛ أي: المقاعد المريحة بكل أنواعها وأشكالها.
{مُتَّكِئُونَ} : اتكأ: اضطجع والاتكاء يدل على تمام الرّاحة والدوام والثبات.
سورة يس [36: 57]
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} :
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، لهم وحدهم فقط.
{فِيهَا} : في الجنة ظرفية.
{فَاكِهَةٌ} : اسم جنس تشمل كلّ أنواع الفاكهة، فهي أعم وأشمل من فواكه وتشمل الواحدة أو الاثنتين أو الجمع بينما فواكه تقال للأنواع.
{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} : تكرار لهم يدل على التّوكيد، يَدَّعون: مشتقة من: الدّعاء؛ أي: كلّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم؛ أي: ما يتمنون، يرغبون، يطلبون، يشتهون.
وإذا قارنّا ما يدّعون في هذه الآية {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31].
في سورة فصلت: أطلق ما تدّعون على كلّ ما تشتهيه أنفسهم سواء طلبوه أم لم يطلبوه فأحياناً يشتهى ولا يطلب.
في سورة يس: حدد بالطلب؛ وذلك لأنّ صنف أهل الجنة في سورة فصلت أعلى درجة ومنزلة من صنف أهل الجنة في سورة يس.
سورة يس [36: 58]
{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَّبٍّ رَّحِيمٍ} :
{سَلَامٌ} : مطلق غير محدد، سلام: نكرة وتنكيره للتعظيم ولم يقل السّلام: سلام يشتمل على ثلاثة أنواع: سلام تحية وسلام أمن واطمئنان وسلام من كلّ الآفات والأضرار والمكروهات.
{قَوْلًا مِنْ رَّبٍّ} : من ابتدائية، رب رحيم: سلام من رب رحيم: أي الله سبحانه يسلم عليهم بواسطة الملائكة الّذين ينقلون سلامه، وسلام من الملائكة عندما يدخلون عليهم، وسلام بعضهم لبعض، سلام خالص لا شوب فيه.
ولو قال السّلام، لحدّد السّلام بنوع واحد وهو سلام التّحية، وقولاً: توكيد، ويعني: سلام يقال لهم قولاً، وهو مُرسلٌ أو آتٍ من رب رحيم. وتنوين (رب) يفيد التّعظيم.
سورة يس [36: 59]
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} :
بعد الحديث عن أصحاب الجنة ينتقل إلى الحديث عن المجرمين.
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} : يوم القيامة انفردوا تميّزوا عن المؤمنين.
{أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} : نداء إلى المجرمين الكافرين والمشركين والظّالمين، والهاء في أيّها للتنبيه، يقال للمجرمين: ابتعدوا عن المؤمنين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمون.
سورة يس [36: 60]
{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام.
{أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} : أي أوصيكم أو آمركم، والعهد: قد يكون تكليف أو وصية أو أمر، وعهد إليه إذا وصّاه.
{يَابَنِى آدَمَ} : يا النّداء للبعد، بني آدم: ولم يقل يا أيّها النّاس.
ينادي على النّاس ببني آدم في سياق مقام التّكريم، أو حين يريد أن يذكرهم بعداوة الشّيطان لآدم، ولبني آدم.
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{لَا} : النّاهية.
{تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} : كلّ خروج عن الشّرع أو المنهج الرّباني هو طاعة للشيطان؛ أي: عبادة له، وعبادة الشّيطان تعني طاعته واتباع خطواته ووسوسته ونزغاته وتزيينه، وعبادته تعني الخضوع له والاستسلام بالأقوال والأفعال.
{إِنَّهُ لَكُمْ} : إنّه للتوكيد، لكم: اللام لام الاختصاص؛ أي: لكم خاصة أو خاص بكم؛ أي وظيفته عداوتكم.
{عَدُوٌّ مُبِينٌ} : ظاهرة العداوة؛ لأنّ العداوة قسمان: قسم ظاهر وقسم خفي (باطن) لا تنسوه بالإضافة إلى القسم الظّاهر.
فعدو مبين؛ أي: عداوته ظاهرة وجلية لكلّ فرد وعداوته غير خفية لا تحتاج إلى برهان أو دليل.
سورة يس [36: 61]
{وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} :
{وَأَنِ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{اعْبُدُونِى} : من العبادة وهي: طاعة العابد للمعبود في أيّ أمر وفيما نهى عنه: افعل أو لا تفعل، والعبادة لها منهج ولها جزاء ولا تكون إلا للخالق وحده. ارجع إلى سورة النّحل آية (73) لمزيد من البيان في معنى العبادة.
وأن اعبدوني: لم يحذف ياء المتكلم في هذه كما هي الحال في آية الأنبياء (25 أو 92)؛ أي أطيعوني ووحّدوني؛ لأن السياق في آية ياسين في مقام التوحيد وعدم الشرك وتجنب الشيطان والإخلاص لله تعالى فقد أكبر على عبادة الله وحده مقارنة بعبادة الأصنام والأوثان التي لا تفيد ولا تضر.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب؛ ويعني الصّراط المستقيم.
{صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} : الصّراط: هو أوسع السّبل المستقيم الموصل للغاية بأقصر مسافة وزمن والخالي من العوائق أو المصاعب، والصّراط المستقيم يقصد به الدّين الحق دين الإسلام؛ أي: عبادة الله وحده.
وقدّم النّهي عن عبادة الشّيطان على الأمر بعبادة الله وحده؛ لأنّ عبادة الشّيطان تفسد عبادة الله ولا تنفع معها؛ أي: عبادة أو طاعة لله تعالى لذلك بدأ بالنّهي عن عبادة الشّيطان.
سورة يس [36: 62]
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} :
{وَلَقَدْ} : الواو: عاطفة، لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق؛ أي: قد أضل منكم جِبِلّاً كثيراً.
{أَضَلَّ مِنكُمْ} : ولقد أخرج الكثير منكم عن الصّراط المستقيم وأضلهم؛ أي: أغواهم وأبعدهم من الحق وزيّن لهم الباطل والشّرك ومعصية الله، أضل منكم الكثير بالوسوسة والتّزيين والإغراء والنّزغ.
{مِنكُمْ} : خاصة.
{جِبِلًّا} : خلقاً، وجبلاً مشتقة من كلمة الجبَل: الّذي يتميز بشدته وصلابته وعلوّه منهم كانوا كالجبال قوة وشدة.
{كَثِيرًا} : خلقاً أو أقواماً كثيرين كانوا أشداء وأقوياء، وكانوا أقوى منكم فأصبحوا جُنداً للشيطان وأتباعه.
واختار كلمة جبلاً؛ لأنّها تعني الكثرة والشّدة والغلظة.
{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} : أفلم استفهام للتوبيخ والإنكار، والفاء: للتوكيد أي: لمَ لا تفكرون بعاقبة أمركم من اتباع الشّيطان؟
أو: لو عقلتم لتوصلتم إلى الحق وتُبتم وأنبتم إلى ربكم ولما اتبعتم الشّيطان. أو: كيف ضللتم واتبعتم الشّيطان بعد أن حذرناكم منه وقلنا لكم: إنّه لكم عدو مبين. ولمعرفة الفرق بين أفلم، أولم، ألم: ارجع إلى سورة السجدة آية (26)، وارجع إلى الآية (31) من نفس السورة.
سورة يس [36: 63]
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} :
تقول لهم خزنة جهنم: هذه النّار الّتي كنتم توعدون، أو ينادي منادٍ أو الله سبحانه بعد أن يقفوا أمامها وعلى شفيرها.
{هَذِهِ} : الهاء للتنبيه، ذه: اسم إشارة للتأنيث والقرب.
{جَهَنَّمُ} : اسم من أسماء النّار أو دركة من دركاتها. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان في معنى جهنم.
{الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} : كنتم توعدون بها في الدّنيا على ألسنة الرّسل، ونحن قد حذرناكم منها ومن شرها في آيات القرآن الحكيم.
{تُوعَدُونَ} : من الوعد، والوعد يأتي في سياق الخير عادة واستعمل هنا للاستهزاء بهم والتّوبيخ، توعدون: فعل مضارع يدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار.
سورة يس [36: 64]
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} :
{اصْلَوْهَا} : اصطلوا بها أو احترقوا بها أو ادخلوها وقاسوا حرّها، جواباً للوعد الّذي سألتم عنه مراراً وتكراراً: متى هذا الوعد؟
{الْيَوْمَ} : ادخلوها في هذا اليوم (يوم القيامة).
{بِمَا} : الباء للإلصاق باء البدلية أو السّببية.
{كُنتُمْ} : في الدّنيا
{تَكْفُرُونَ} : ولم يقل: بما كفرتم؛ تكفرون: بصيغة المضارع لتدل على تجدد كفرهم، وكأنه مستمر دائم، وأنهم ماتوا وهم كفار؛ أي: تجحدون بالله ولا تؤمنون به، وتجحدون بنعمه: تكفرون من الكفر والكفر نقيض الإيمان، والكفر نقيض الشّكر، والكفر: لغةً هو الستر. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لمزيد من البيان في معنى الكفر.
سورة يس [36: 65]
{الْيَوْمَ} : يوم القيامة.
{نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} : نختم: بصيغة الجمع: للتعظيم؛ أي: يختم الله سبحانه على أفواههم في يوم القيامة، كما ختم على قلوبهم في الدّنيا فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر؛ أي: يمنعهم من الكلام حتّى لا يعتذروا ولا يَستعتبوا، فالمقام مقام حساب فلا جدوى من الاستغفار والاعتذار فقد انتهى زمن التكليف وزمن الكلام وحان زمن الختم على الأفواه، فلم يعد للسان دور، وتقيّد الألسن لتنطق الجوارح.
{وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} : تكلمنا أيديهم تطوعاً لا أمراً ولا إكراهاً.
{وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} : تتطوع الجوارح بالشّهادة مثل الأرجل والسّمع والأبصار والجلود والأيدي ومع أنّها هي الجوارح نفسها الّتي فعلت المعاصي والذّنوب في الدّنيا فهي لا تشهد على ذاتها؛ أي الأيدي لا تشهد على الأيدي نفسها أو الأرجل على الأرجل إنما تشهد على النّفس الّتي أخضعت الجوارح وأمرتها أن تسير حسب هواها وشهواتها، فالجوارح والأعضاء في الآخرة تتحرر من تبعيتها للنفس وتصبح تابعة لله سبحانه وحينذاك الأيدي تتكلم وتشهد الأرجل، ولكن لماذا نسب الكلام إلى الأيدي والشّهادة للأرجل؟ لأنّ معظم الأعمال تقوم بها الأيدي وما دامت أنّ الأيدي أصبحت المدّعية في محكمة الحق سبحانه فالأيدي تحتاج إلى شاهد فتتطوع الأرجل فتشهد؛ فقد روى مسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يقول العبد يوم القيامة: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه انطفي، فتنطق بعمله، ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل» . واختار في هذه الآية الأيدي والأرجل، وفي سورة النور آية (24) قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أضاف الألسنة، وفي سورة فصلت آية (20) قال تعالى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أضاف السمع والأبصار والجلود، وإذا جمعنا الشهود نجدهم أصبحوا (6) شهداء، وإذا أضفنا إلى هؤلاء الستة الملائكة الكتبة عن اليمين وعن الشمال والأرض التي يمشي عليها والسماء التي يمشي تحتها يصبح عدد الشهداء (10) شهداء، والرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 43] سبحان الله ألا يكفي ذلك؟!
أمّا كيف تنطق الأيدي؟! فلو نظرت إلى اللسان والأيدي الكل يتركب من عضلات ودم وأعصاب فمن أنطق اللسان يمكن أن ينطق الأيدي، والأمر ليس صعباً على الله تعالى.
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : الباء للإلصاق، وما بمعنى الّذي أو مصدرية: بما كسبتم، والكسب: هو الفعل العائد على فاعله بنفع أو ضر، و الكسب يحتاج إلى تدريب وتكرار، والكسب تقوم به الجوارح والجوارح تسمى كواسب وحين يعمل الإنسان المعصية أو السّيئة ويفرح بها ويتحدث بها يعتبرها كسباً، ولم يقل بما كانوا يعملون؛ لأنّ الكسب يحتاج إلى العلم بما يكسب أو يعمل، والعمل: لا يحتاج إلى العلم بما يعمل.
سورة يس [36: 66]
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} :
{وَلَوْ نَشَاءُ} : الواو حرف عطف، لو شرطية.
{لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} : اللام للتوكيد، طمسنا على أعينهم: الطّمس إزالة العين كاملة والجفن والشّق والمكان، فلا يكون هناك أي أثر يدل على أنه كانت هناك عينٌ، ولنعلم أنّ الطّمس هو المحو والإزالة وهو على نوعين:
1 -
الطّمس على الأعين كما ورد في هذه الآية؛ يعني إزالة الأصل والأثر والعين كاملاً، فلا حاجب ولا جفن ولا أي أثر للعين.
2 -
والنّوع الثّاني: هو طمس العين كما ورد في سورة القمر آية (37){فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} بدون كلمة على، فهذا الطّمس يعني العمى المؤقت (رغم وجود العين وما حولها) كما حدث لقوم لوط عليه السلام : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم في الدّنيا فأصبحوا بدون أعين. فالطّمس في سورة يس أشد وأعظم تهديداً ووعيداً مما في سورة القمر.
{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} : الفاء جواب الشّرط، استبقوا الصراط؛ أي: بادروا إلى الإسراع؛ ليسيروا ويتسابقوا للوصول وللسير في شوارعهم وطرقهم المألوفة لهم والسّهلة الواسعة لما استطاعوا، ناهيك عن الطرق الضّيقة والفرعية.
ولكن لم نفعل ذلك، رحمة بهم لعلهم يتوبون ويرجعون.
{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} : الفاء للتوكيد، أنى تعني: كيف ومن أين؟ وللتعجب والاستفهام المؤكد، أنى يبصرون: أمامهم أو العودة إلى منازلهم، فيقفون في أماكنهم لا إلى الأمام ولا الخلف، وهذا تهديد لكفار مكة وتهديد لكلّ كافر بالطمس على أعينهم حتّى يخاف الله سبحانه. ولها معانٍ أخرى منها: ولو نشاء لأعميناهم وأضللناهم عن الهدى؛ أي: عمى البصيرة؛ فأنى يبصرون الحق ولكننا لم نفعل رحمة منا لعلهم يرجعون.
سورة يس [36: 67]
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} :
وهناك أشد من الطّمس على الأعين وهو المسخ.
{وَلَوْ نَشَاءُ} : الواو عاطفة، لو: شرطية.
{لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} : اللام للتوكيد، مسخناهم: من المسخ والمسخ تعريفاً: هو تحويل صورة إلى صورة أبشع أو أقبح منها إهانة وإذلالاً.
{مَكَانَتِهِمْ} : في أماكنهم، والمكانة قد تعني على حالتهم؛ أي: يجمدهم فلا يستطيعون أيّ حراك، أو تحويلهم إلى حجارة أو غيرها من الحيوانات الكريهة المنظر.
{فَمَا} : الفاء جواب الشّرط، ما: النّافية.
{اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} : المضيّ هو الابتعاد عن مكان الإقامة أو الذهاب إلى مكان آخر، والمضيّ هنا مطلق لم يحدّد؛ أي: أرادوا المضيّ إلى أيّ شيء فلا يستطيعون الذّهاب إليه سواء أرادوا أم لم يريدوا، ففي كلا الحالتين لا يستطيعون؛ لكونهم تجمّدوا في مكانهم ولا يستطيعون الحركة.
{وَلَا يَرْجِعُونَ} : لا لتوكيد النّفي، لا يرجعون: لم يحدّد نوع الرجوع إلى أين لا إلى أهلهم ولا إلى غير أهلهم ولا إلى ما كانوا عليه سابقاً، كما ورد في الآية (50) السّابقة وحينما يقول:(ولا إلى أهلهم يرجعون) أسهل وأهون عليهم من القول ولا يرجعون (لأنّه لم يحدد الرّجوع إلى أيّ شيء) وهذا تهديد أشد من التّهديد الأوّل لكفار مكة وغيرهم من الكفار.
سورة يس [36: 68]
{وَمَنْ نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} :
المناسبة: ثمّ يحذر الله سبحانه من إضاعة مرحلة الشّباب والفتوة وما قد يحدث له في المستقبل إذا بقي حياً.
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من بمعنى الّذي، ومن تعني: العاقل، وتشمل المفرد والجمع.
{نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ} : نعمّره: أي نمدّ له أو نطيل له في عمره، نعمّره تدل على الحاضر حالة مستمرة إلى الآن، ننكّسه في الخلق: نقلبه إلى الأسفل، وقيل: الانتكاس العودة إلى الوراء والرّجوع إلى ما كان عليه أولاً؛ أي: ننكّس خلقه فنجعل مكان القوة ضعفاً وبدل الشّباب الشّيخوخة فكأنّ طول العمر يعود بالإنسان إلى طفولته فيصبح الإنسان هرماً لا يستطيع الحراك بسهولة، وتضعف ذاكرته وأجهزته وقدرته على المشي.
{أَفَلَا يَعْقِلُونَ} : الهمزة همزة إنكارية على عدم العقل وتوبيخ على أفعالهم، وألا: أداة حض وتنبيه وتحمل معنى الأمر والتّقرير على استعمال العقل، والفاء: تفيد التّوكيد والتّعقيب؛ أي: بعد كلّ هذا البيان لا يعقلون؛ أي: لا يدركون الحقيقة أنه لا إله إلا الله، وأنه المعبود الذي يجب أن يعبد ويطاع.
ولها معانٍ أخرى منها أفلا يعقلون: لا حاجة لإطالة عمر الإنسان أكثر مما قدّر الله له؛ لأنّه كلما طال ازداد ضعفاً وخرفاً، ومن الأفضل له أن يرحل إلى الآخرة. وقوله أفلا يعقلون؛ أي: يكفي العقل هنا ولا يحتاج إلى سواه ليدرك الحقيقة.
وقد تعني أفلا يعقلون: أي هؤلاء المكذبون بالآخرة والبعث والحساب أنّ من يفعل هذا التّنكيس قادر على أن يبعثهم من قبورهم ليجازيهم على ما عملوا في الدّنيا، أفلا يعقلون أن نعمة الصّحة والعافية هي أكبر نعم الله على عبده بعد نعمة الإسلام والإيمان والتّوحيد، فلا يضيعوا شبابهم.
لنقارن (أفلا يعقلون) وقوله تعالى: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62].
أفلا يعقلون: هم ما زالوا على قيد الحياة.
أفلم تكونوا تعقلون: هذا السّؤال يوجه إليهم في الآخرة: أفلم تكونوا تعقلون حينما كنتم على قيد الحياة؟!
سورة يس [36: 69]
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} :
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} : الواو استئنافية، ما النّافية لجميع الأزمنة؛ أي: ما علمناه الشّعر في الماضي ولا الحاضر ولن يتعلمه في المستقبل، وما علّمناه نحن ولا غيرنا، وهاء الضّمير تعود على رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم، وما علّمناه الشّعر: عن طريق الوحي ولا إرسال معلم بشر.
{وَمَا يَنبَغِى لَهُ} : لا يصلح له الشعر ولا يصحّ له ولا يستقيم أن يكون شاعراً ولا يليق به.
{إِنْ} : نافية، وأقوى في النّفي من ما النّافية؛ أي: ما هو.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد يعود على القرآن.
{إِلَّا} : أداة حصر، ذكر: سماه ذكراً وقرآناً مبيناً والقرآن الحكيم.
{ذِكْرٌ} : ذكر نوع من التذكير يذكر قارئه بخالقه وبأوامره ونواهيه، وبما يحتاجه العبد في دنياه وآخرته، وتبياناً لكل شيء، وليس شعراً وسحراً كما يدّعي الكافرون. ارجع إلى سورة (ص) آية (1) لمزيد من البيان.
{وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} : قرآن بيّن واضح لكلّ قارئ يقرأ القرآن أنّه ليس من قول البشر أو شعراً، وهو واضح أنّه تنزيل العزيز الرّحيم.
وقد وردت أربع آيات في القرآن تقول: إن هو إلا ذكر للعالمين؛ يوسف (104)، يس (69)، ص (86)، التّكوير (5)، ووردت آية واحدة:(وما هو إلا ذكر للعالمين) القلم (52)، إن أقوى نفياً وتوكيداً من ما، ووردت آية واحدة في كلّ القرآن تقول:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]. ارجع إلى سورة الأنعام لمعرفة الفرق بين ذكر، وذكرى، وللبيان. ثمّ يذكر الله سبحانه مهمة هذا الذّكر وهذا القرآن المبين في الآية (70).
سورة يس [36: 70]
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} :
{لِيُنْذِرَ} : اللام للتوكيد، ينذر: من الإنذار وهو الإعلام (التّبليغ) مع التّحذير والتّخويف، لينذر هذا الذّكر أو القرآن.
{مَنْ} : ابتدائية استغراقية بمعنى الّذي، ومن: تشمل المفرد، والجمع، وللعاقل.
{كَانَ حَيًّا} : حياً: مؤمناً؛ لأنّ الإيمان حياة والكفر موت؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وكما قال تعالى:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، وكما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، لينذر من كان حياً؛ أي: من كان عاقلاً، وقد تعني: كلّ من هو حي فيه روح من إنس وجان (المؤمن والكافر والعاصي والطّائع).
{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} : يحق: يوجب، والقول يعني: العذاب أو الحُجة؛ أي: يوجب الحجة أو العذاب على الكافرين.
ولو جمعنا آيات الإنذار في هذه السّورة نجدها عدة منها:
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [الآية: 6].
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الآية: 10].
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [الآية: 11].
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الآية: 70].
سورة يس [36: 71]
المناسبة: يتابع الله سبحانه ذكر الآيات الدّالة على قدرته وعظمته ووحدانيته.
{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الهمزة للاستفهام، أولم: تستعمل لما هو مشاهدٌ بكثرة، بينما (ألم) تستعمل لما هو مشاهدٌ بقلّة، الواو تدل على الكثرة (عدة أمور) لم: نافية، يروا: رؤية بصرية، أو أولم يتفكروا أو يعلموا. ارجع إلى سورة السجدة آية (26) لمزيد من البيان.
{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} : أنّا للتعظيم، خلقنا لهم؛ أي: ابتداءً، ولو قال: أنا جعلنا؛ الجعل: يتم بعد الخلق، وقد لوحظ أنّه في مقام أو سياق التّذكير بقدرة الله تعالى وآياته يستعمل لهم (بصيغة الغائب) بينما في سياق تعداد النعم وسياق الشكر يستعمل لكم (صيغة المخاطب).
لهم: اللام لام الاختصاص والملكية؛ أي: للناس.
{مِمَّا} : من بعضية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أو مصدرية، وهي أوسع شمولاً من الذي؛ أي: من عمل أيدينا وتشمل الاثنتين؛ أي: من الّذي عملته أيدينا أو من عمل أيدينا.
{عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} : الأنعام ثمانية أزواج من البقر والغنم والإبل والماعز، أيدينا: جمع يد، واليد فيها معنى القوة والقدرة، أنعاماً: ذكر الأنعام هنا خاصة؛ لأنّها أعزّ الأشياء عند العرب لأنّها تستخدم في السّفر والأكل واللبن والزّينة والانتفاع بها والتّجارة، فهي أهم ما يملكون في القديم.
{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} : الفاء للتوكيد، هم: للتوكيد، لها: تقديم لها للاهتمام بالأنعام، مالكون: اسم فاعل يدل على الثّبوت، ثبوت الملك لهم، ولم يقل فهم لها يملكون، تدل على التّجدد والتّكرار.
وإذا قارنّا هذه الآية من سورة يس: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} وقوله في سورة النّحل الآية (5): {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} : نجد السّياق في سورة يس سياق تكريم أكثر مقارنة بسورة النّحل الّتي هي تعداد للنعم.
سورة يس [36: 72]
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} :
في الآية السّابقة قال تعالى: الأنعام خلقها لهم وملكها لهم، وفي هذه الآية يذكر أنه ذلّلها لهم، إذن من قدرته تعالى أنّه خلق وملّك وذلّل الأنعام.
{لَهُمْ} : اللام لاختصاص النّاس لخدمة النّاس.
التّذليل: يُحتاج إليه لتصبح الأنعام سهلة يقودها الصّغير والكبير، والتّذليل يفيد الرّكوب، ولولا التّذليل لكان من الصّعب الانتفاع منها.
{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} : الفاء: استئنافية للتفصيل، ومن: للتبعيض؛ أي: من الأنعام ما يُركب ومنها ما لا يُركب.
{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} : منها (من) بعضية، من بعضها تأكلون؛ أي: لا تأكلون كلّ أجزائها، فالجلد والعظام لا تأكلونه، أو: لا تأكلون كلّ الأنعام وإنما قسماً منها، فمثلاً كثير من النّاس لا يأكلون لحم الجمل، (يأكلون) تدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار.
سورة يس [36: 73]
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} :
{وَلَهُمْ} : اللام لام الاختصاص.
{فِيهَا مَنَافِعُ} : مثل الجلود والأوبار والأشعار الّتي تستعمل في صناعة الفُرش أو الحرث.
{وَمَشَارِبُ} : مشارب: تعني: الشراب مثل: اللبن والحليب، ومشارب: قد تعني مما نصنع من جلودها أحياناً أواني (كالقِرب) لحفظ الماء، وقدّم الأكل على الشّرب؛ لأنّ الأكل أعم وأهم من الانتفاع من شرابها، وفي كلّ القرآن يقدّم الأكل على الشّراب؛ لأنّ الشّراب منها محدّد بزمن معين عند الولادة والإرضاع، ولأنّ الحصول على الطّعام أعسر وأصعب.
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ لعدم الشّكر، والفاء: هي فاء السببية؛ و (ألا) تفيد الحض والحث على الشّكر، شكر المنعم باللسان والعمل الصّالح وتحمل معنى الأمر.
وبدلاً من أن يشكروا الله على نعمه أشركوا به فاتّخذوا من دونه آلهة فقال:
سورة يس [36: 74]
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} :
فرغم كل تلك النعم: خلق الأنعام، وإحياء الأرض والجنات، والنخيل والأعناب، والشمس والقمر، والفلك وحمل ذريتهم
…
وغيرها من النعم التي تدل على الخالق، وتوجب عبادته وحده عبدوا غيره واتخذوا من دونه آلهة.
{وَاتَّخَذُوا} : أي: وعبدوا؛ أي: المشركون من أهل مكة وغيرهم.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله؛ أي: لم يعبدوا معه آلهةً، أو اتّخذوا الآلهة وسيطاً أو شفيعاً لهم؛ أي: هم لا يعبدون الله وحده، وإنما يعبدون غيره وليس معه، وهنا أسوء؛ أي: بدلاً من أن يشكروه على نعمه عبدوا غيره.
{آلِهَةً} : الأصنام وغيرها.
{لَّعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} : لعل: للتعليل؛ ينصرون: أي: تدفع عنهم العذاب أو تحميهم من عذاب الله، أو تشفع لهم عند الله بأن لا يعذبهم، أو يخفف عنهم العذاب.
سورة يس [36: 75]
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} :
{لَا} : النّافية لكلّ الأزمنة.
{يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} : أي هذه الآلهة عاجزة أصلاً عن نصرة نفسها وبالتّالي هي عاجزة عن نصرتهم، ولنفرض أنّها قادرة على النّصر، فالله سبحانه لا يسمح لها؛ لأنّ الشّفاعة لا تحصل إلا بإذنه ولمن رضي له قولاً، وهي عاجزة وغير قادرة على نصر أحد، ولو أرادت ذلك على سبيل الفرض.
{وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد وتعود على الكفار والمشركين أو الّذين اتّخذوا من دون الله آلهة (عبَدَة الأصنام)، لهم: للأصنام، جند محضرون: أي هم يدافعون عن الآلهة (الأصنام) فهم كمثابة جنود لها.
لأن الأصنام لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إذا اعتدى عليها أحد فهم الّذين يدافعون عنها، فهم يعتبرون جند للآلهة (الأصنام) في الدّنيا يدافعون عنها وهم محضَرون لها في النّار يوم القيامة.
أو عبَدَة الآلهة يحضِرون الآلهة الّتي كانوا يعبدونها في الدّنيا يوم القيامة معهم إلى النّار، فالعابد والمعبود محضَرون في جهنم قسراً وكَرهاً، وكلمة محضرون في كل القرآن جاءت في سياق الشر.
سورة يس [36: 76]
{فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} :
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية.
{يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُحزنك قولهم: أنك شاعر أو مجنون أو كاهن أو ساحر، والحُزن: الغمّ النّفسي المؤقت بعكس الحَزَن: الدّائم المستمر حتّى يأتي الأجل، فالله سبحانه ينهى القول أن يُحزن رسوله صلى الله عليه وسلم وكأنّه يقول: يا أيّها القول، لا تُحزِن رسولي، أو لا تحزن يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يقولونه.
{إِنَّا} : للتعظيم.
{نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} : ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، نعلم إسرارهم أو ما أسرّوه وما أعلنوه، وتدل على التّجدد والتّكرار.
ما يسرّون من القول والفعل، يسرّون: من السّر، وهو القول الخفي الّذي لا يعلمه إلا صاحبه.
{وَمَا يُعْلِنُونَ} : وما يعلنون من القول والفعل، وتكرار (ما) يفيد توكيد القول والفعل من العلن: وهو الإظهار والجهر.
والسّر مقدّم على العلن؛ لأنّ كلّ قول أو فعل يُسرّ أوّلاً ثمّ يُعلن ثانياً فمن حيث التّرتيب السّر أسبق من العلن، ما يسرون من النّفاق أو العقائد الفاسدة والبدع والفواحش والمحرمات، وما يعلنون من الإيمان أو الكفر، والله يعلم منذ الأزل ما يسرّون وما يعلنون، وذكر أنّه يعلم ما يسرون وما يعلنون للتهديد والإنذار؛ للتهديد والتّحذير وإقامة الحجة عليهم، وفي هذه الآية تطمينٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الله يعصمه من مكر وكيد الّذين كفروا. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (65) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} : نجد أن آية ياسين نزلت أولاً وآية يونس نزلت بعد ذلك فيكون الجمع بينهما لا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرك وما يعلنون وأن العزة لله جميعاً.
سورة يس [36: 77]
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} :
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ} : الخطاب إلى كلّ إنسان ينكر البعث والحساب والجزاء، وهو أعم وأشمل من قوله: أولم يروا أنّا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعاماً، أولم: الهمزة للاستفهام، الواو تدل على الكثرة والجمع، وشدة الإنكار إنكار شيء مرئي؛ لم: النّافية، يرَ: الإنسان رؤية قلبية علمية؛ أي: يتفكر كيف خلقناه.
{أَنَّا} : للتعظيم.
{خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ} : نطفة الرّجل وهي الحيوان المنويّ ونطفة المرأة البويضة.
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب والمباشرة؛ أي: مجرد ما أصبح في سن البلوغ أصبح خصيماً؛ أي: تفيد الإسراع في الخصومة، أو تدل على السّببية؛ أي: فإنّ خلقه كان سبباً للخصومة، أو تدل على البدلية بدلاً من أن يكون شاكراً لربه أصبح خصماً له، إذا: ظرفية تفيد الفجأة.
{خَصِيمٌ} : خصيم شديد الخصومة أو شديد الخصام لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الخصيم: الّذي يجادل وينكر الآيات والبعث والحساب والجزاء، والمبالغ في إظهار خصومته وعداوته.
{مُبِينٌ} : بيّنُ الخصومة لخالقه، خصومته لا تخفى على أحد وظاهرةٌ، قد يكون الإنسان أحياناً خصماً لإنسان آخر، أما أن يكون خصماً أو خصيماً لخالقه العزيز الجبار القهار، هذا شيء لا يتصوره أيّ ذي عقل، خلقه من نطفة ومن ماء مهين فيصبح خصيماً مبيناً!
سورة يس [36: 78]
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} :
سبب النّزول كما رواه الطبري والواحدي والبيهقي وغيرهم. قيل: إنّ أُبيّ ابن خلف أخذ عظماً قد بلي وراح يفتته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أتزعم يا محمّد أنّ ربك سيُحي هذا؟ فردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، يميتك ثمّ يبعثك ثمّ يحشرك إلى النّار. قالها في وجهه، فنزلت هذه الآيات. وقيل: نزلت في العاص ابن وائل، وعبد الله بن سلول، أو أبي جهل، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب، وهذه الآية جوابٌ لكلّ مكذّب بالبعث.
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} : المثل هو العظم البالي الّذي فتته بيده هذا الكافر ثمّ ذرّاه في الهواء.
{وَنَسِىَ خَلْقَهُ} : ونسي هذا الإنسان كيف خُلق؛ أي: لو تذكّر خلقه (أو كيف خُلق) وتأمّل في ذاته، لما ضرب هذا المثل أو سأل هذا السّؤال.
{قَالَ} : أُبي بن خلف أو غيره.
{مَنْ} : استفهام مشوبٌ بالتّعجب والاستبعاد.
{يُحْىِ الْعِظَامَ} : يُعيدها حية.
{وَهِىَ رَمِيمٌ} : هي للتوكيد، رميم: بالية هشّة ميتة، يقال: رمّ العظم إذ بلي.
سورة يس [36: 79]
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} :
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يُحْيِيهَا} : يُعيدها حية مرة ثانية.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم والمدح.
{أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} : الإنشاء هو إيجاد الشّيء بعد أن لم يكن، والإنشاء فيه معنى النّمو والتّطور.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد يعود على الله سبحانه.
{بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} : عليم صيغة مبالغة، وعليم مطلقة؛ أي: عليم بكلّ شيء وبكلّ خلق، مقارنة بعالم الّتي هي خاصة بعالم الغيب والشّهادة، وعلّام خاصة بالغيوب: علّام الغيوب، والباء للإلصاق والدّوام.
سورة يس [36: 80]
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{جَعَلَ لَكُمْ} : أي: صير لكم خاصة.
{مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} : هذا دليل آخر على قدرته سبحانه على البعث فإن كنتم تكذّبون بالبعث وإحياء الموتى والعظام وهي رميم، انظروا كيف جعل لكم من الشّجر الأخضر ناراً، فقد كانوا في الزّمن القديم يأخذون غصناً من شجر المَرْخ وغصناً من شجر العَفار، ويقدح أحدهما بالآخر فتخرج منهما شرارة من النّار، وأصل النّبات ماء كما نعلم فكيف يخرج منه نار (شرر) ونحن نطفئ النّار بالماء.
معنى آخر: خلق الشّجر من ماء ثمّ بعد نموه وتطوره يقطع ويجف ويصبح حطباً توقد به النّار، وكذلك هذا الشّجر قد يرسب في قعر البحار أو باطن الأرض ويتحول إلى بترول وغاز أو يتحول إلى فحم حجري، وكلها تستعمل كمصدر للطاقة.
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، إذا: ظرفية فجائية.
{أَنْتُمْ مِّنْهُ تُوقِدُونَ} : توقدون النّار من الشّجر الأخضر (الحطب) توقدون: بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد والتّكرار عند الحاجة.
سورة يس [36: 81]
ثمّ يذكر الله سبحانه ما هو أعظم من خلق الإنسان وهو خلق السّموات والأرض.
{أَوَلَيْسَ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} : أي مَنْ قدر على خلق السّموات والأرض هذا الخلق العظيم، والّذي هو أعظم بكثير من خلق الإنسان، أغير قادر على أن يخلق بشراً مثلهم أو يعيدهم! ارجع إلى سورة البقرة الآيات (22-29) والأنبياء آية (30) والأعراف آية (54) للبيان.
{بَلَى} : حرف جواب لا يقع إلا بعد النّفي؛ لكي تنقض هذا النّفي.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْخَلَّاقُ} : صيغة مبالغة من: خالق، وتشير إلى كمال القدرة على الخلق وأنّه كثير الخلق.
{الْعَلِيمُ} : بخلقه وكونه وملكوت السّموات والأرض، العليم بكلّ شيء.
سورة يس [36: 82]
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْـئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} :
يذكر الله سبحانه في هذه الآية قدرته على خلق أيّ شيء بكلمة: كن فيكون.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{كُنْ} : فعل أمر.
{فَيَكُونُ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب فيكون مخلوقاً موجوداً، وهو سبحانه لا يحتاج في خلق أيّ شيء أن يقول له: كن فيكون، وإنما ذلك القول ليقرّبه إلى عقولنا. ارجع إلى سورة النّحل الآية (40) للبيان.
سورة يس [36: 83]
{فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :
{فَسُبْحَانَ} : الفاء للتوكيد، سبحان: تنزيهاً له أن يشبهه أحدٌ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، تنزيهاً له عن الولد والشّريك والمثيل، تنزيهاً له من كلّ عيب ونقص، سبحانه لما أولاه من النّعم الّتي ذكرها. ارجع إلى سورة الحديد الآية (1) لمزيد من البيان، وسورة الإسراء آية (1)، وسورة النحل آية (4).
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{بِيَدِهِ} : حصراً؛ أي: المتصرف في ملكه كما يشاء.
{مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ} : ملكوت صيغة مبالغة في الملك مع العزة والعظمة والسّلطان؛ أي ملك كلّ شيء، وزيدت التّاء للمبالغة في كبر الملك وعظمته، وملكوت تشمل عالم الغيب؛ أي: كلّ ما لا يدرك أو غير ظاهر؛ أي: الملك المستور الغير مشاهد أو المرئي، والملكوت أعظم من الملك.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : يوم القيامة إليه حصراً فقط، ترجعون: أي ترجعون قسراً وكرهاً للحساب والجزاء؛ لأنكم لم تخلقوا عبثاً.
وإذا نظرنا إلى هذه الآية العظيمة نجدها جمعت التّوحيد والحشر والتّنزيه، (فسبحان) تعني التّنزيه، (بيده ملكوت كلّ شيء) تعني التّوحيد، (وإليه ترجعون) تعني الحشر والبعث والحساب.
سورة الصافات [37: 1]
سورة الصافات
سورة الصّافات [الآيات 1- 24]
ترتيبها في القرآن (37)، وترتيبها في النّزول (56).
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} :
الواو: واو القسم، وأحرف القسم هي الواو والباء والتاء واللام، والمقسم به هو الصّافات صفاً، والقسم يؤكد على أهمية المقسم به وهم الملائكة والله سبحانه غني عن القسم.
يقسم سبحانه بالصّافات وهم الملائكة الصّافون في السّماء في صفوفهم للصلاة، أو الملائكة الصّافة أجنحتها في الهواء تنتظر أن يأمرها الله سبحانه، أو الملائكة في الصّفوف من حول العرش، والقسم يفيد التّوكيد.
والصّف: يعني: الجميع في انسجام وانضباط ومتراصين ويتمُّون الصّف الأوّل فالأوّل، والصّافون حسب مراتبهم في الفضيلة، كما روى مسلم وغيره عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تصفون كما يصف الملائكة عند ربهم، قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: يتمُّون الصّف الأوّل ويتراصون في الصّف» .
وروى مسلم عن حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: فضلنا على النّاس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلّها مسجداً وجعل لنا ترابها طهوراً إذا لم نجد الماء.
سورة الصافات [37: 2]
{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} :
الفاء: عاطفة، والصفات المعطوفة بالفاء تكون لموصوف واحد ولو عطف بالواو، كما لو قال: والزاجرات زجراً بدلاً من فالزاجرات زجراً؛ لدل على تغاير الذات (الصفات) كما ذكر الألوسي.
فالزّاجرات زجراً: من زجر. وتعني:
1 -
المنع والنّهي.
2 -
السوق والحثُّ.
الملائكة الّتي تزجر السّحاب كما قال ابن عباس والجمهور؛ أيْ: تسوقه حيث يشاء الله، وتزجر الشّياطين (أيْ: تمنع الشّياطين) عن استراق السّمع.
زجر الدّابة: صاح بها ليحثها على السّير أو يمنعها عن الحركة أيْ: يوقفها فالزّجر له معنيان متضادان السوق والحثُّ والمنع والنّهي.
سورة الصافات [37: 3]
{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} :
{فَالتَّالِيَاتِ} : الفاء: عاطفة؛ ارجع إلى الآية السابقة؛ الملائكة التّالية: من التّلاوة أي: القراءة القارئة؛ أي: التالية للوحي على الرسل أو لكتاب الله كما قال ابن مسعود والجمهور، أو التالية لذكر الله، أي: المسبحون والحامدون والمكبِّرون وغيرها من الذّكر.
{ذِكْرًا} : كتاب الله (القرآن).
والتاليات: قد تشمل الرّسل والبشر التالية لكتاب الله تعالى والذاكرون المسبحون.
سورة الصافات [37: 4]
{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} :
هذا هو جواب القسم، يقسم الله بالصّافات والزّاجرات والتّاليات إنّ إلهكم لواحد، وقد أكد جواب القسم بإنّ واللام في قوله: لواحد.
{لَوَاحِدٌ} : الواحد: الذي لا يكون معه آخر، لا يتجزأ، ولا يتفرق (غير مركب)؛ أي: الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، واحد لا شريك له، لا معبود إلا هو، المتصف بوحدانية الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات.
وهناك فرق بين الواحد والأحد: وأما الأحد: يعني ليس له مثيل، ليس له ثان مثله، المتفرد بصفات الكمال، فلا نظير له، ولا ند، ولفظ أحد وصف خاص بالله وحده لا يوصف به غيره على الإطلاق. وأحد: أعم في النفي من واحد؛ فهو نفي للجنس؛ أي: لا أحد، ولا اثنان، ولا ثلاثة، ولا أكثر، وحين تقول لا واحد يجوز أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة أو أكثر؛ فالله سبحانه أحد واحد في صفاته وأفعاله وأسمائه وعظمته وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته وسمعه وبصره.
وهذه الآية تمثل توحيد الألوهية الموجبة للعبودية والكاف للمخاطب وخاصة المشركون الّذين تعجَّبوا من كون الآلهة إلهاً واحداً، وقالوا: إنّ هذا لشيء عجاب.
سورة الصافات [37: 5]
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} :
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : إنّ إلهكم لواحد رب السّموات والأرض أيْ: إنّ إلهكم لواحد هو خالق السّموات والأرض وما بينهما ومالك السّموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، والرّب هو المدبر، والمحيي والمميت، والرازق، وما بينهما: ارجع إلى سورة الفرقان آية (59) للبيان.
{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} : مشارق الشّمس فللشمس كلّ يوم مشرق ومغرب بعدد أيّام السّنة، أيْ: تشرق كلّ يوم بزاوية محددة، وكلّ يوم تغرب في زاوية معينة، ولم يذكر المغارب واقتصر على المشارق؛ لأنّ المشارق تدل على المغارب فحين تشرق لا بُدَّ لها من أن تغرب، لذلك هذا بيِّن وواضح، فلا داعي لذكر ذلك.
وفي آية أخرى يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرّحمن: 17] ارجع إلى سورة الرّحمن الآية (17) للبيان.
وآية أخرى يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9].
سورة الصافات [37: 6]
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} :
{إِنَّا} : للتعظيم؛ لأنّ تزيين السّماء بالكواكب يحتاج إلى علم وقدرة وحكمة.
{زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} : السّماء الدّنيا هي أقرب السّموات إلى الأرض.
{بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} : الزينة: ما يُتزين به من الحلي (الذهب والفضة)، والنبات، والزهور، والنجوم
…
وغيرها من مواد الزينة، وفي هذه الآية زينا السماء الدنيا بضوء الكواكب؛ أيْ: بالكواكب المضيئة والكوكب هو جسم بارد مستمد حرارته من الشّمس والنّجوم ويضاء لسقوط الضّوء عليه، أيْ: يعكس الضّوء كالقمر مثلاً، وهو ليس مضيء بنفسه (كالنّجم)، والكواكب والنّجوم كلها تُزين السّماء الدّنيا، وكذلك بعض هذه النجوم تتحول إلى شهاب ثاقب لقذف الشياطين والقضاء عليهم.
سورة الصافات [37: 7]
{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} :
بالإضافة إلى تزيين السّماء بالكوكب حفظناها من كلّ شيطان مارد.
حفظناها بالشّهب الثّاقبة أو الشّهب المبينة كقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصّافات: 10]، وكقوله:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18].
{مِنْ} : استغراقية تشمل كلّ شيطان.
{كُلِّ شَيْطَانٍ} : (الكافر من الجن)، واسم الشّيطان مشتق من شطن. ارجع إلى الآية (36) من سورة البقرة للبيان.
{مَّارِدٍ} : عاق خارج عن طاعة الله (متمرِّد على طاعة الله) البالغ الغاية في الشّر والفساد، وأمرد: أيْ: يعني: قد مرد في الشّر أو متجرِّد عن الخير أو شره ظاهر، وأمرد: أملس، كقوله صرح ممرَّد: أيْ: أملس يعني: سريع الانفلات لا تقوى على الإمساك به.
سورة الصافات [37: 8]
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} :
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} : لا: النّافية، يسمعون: أي: الشّياطين، وهناك فرق بين سمع ويسمع: سمع بقصد أو بغير قصد أو نية، أمّا يسَّمَّع: فيعني: بقصد وتكليف وجهد وسواء سمع أو لم يسمع شيئاً أيْ: يحاول هؤلاء الشّياطين أن يسمعون إلى الملأ الأعلى: الملائكة.
{وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} : بالشّهب الثّاقبة أو المبينة ويقذفون تدل على التّجدد والتّكرار، والقذف: الرّجم بالشّهب، والقذف فيه معنى البعد والقوة أي: الرّجم بقوة ومن بعيد، من كلّ جانب: من استغراقية، كلّ جانب: من الجهات السّتة اليمين والشّمال والأمام والوراء والأعلى والأسفل.
سورة الصافات [37: 9]
{دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} :
{دُحُورًا} : الدّحور الطّرد والإبعاد، طرداً وإبعاداً، دَحَره: أبعده، مطرودين مبعدين عن السّماء الدّنيا.
{وَلَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عَذَابٌ وَاصِبٌ} : أيْ: عذاب دائم وصب الشّيء: دام وثبت، كقوله تعالى:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52]، أي: الطّاعة دائماً.
سورة الصافات [37: 10]
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{مَنْ} : ابتدائية.
{خَطِفَ} : الخطف: أخذ الشّيء بسرعة وخفة (اختلاس) وعلى غفلة من صاحبه، ومن دون حق، بل أخذها اعتداءً وظلماً.
{الْخَطْفَةَ} : على وزن مرة، لا يسمعون (الشّياطين) إلا للذي سلب أو خطف الخطفة بخفة وسرعة وعلى غفلة من كلام الملائكة، ويتحدثون عما سيحدث في الأرض قبل أن يعلمه أهل الأرض.
{فَأَتْبَعَهُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة يلحق به.
{شِهَابٌ ثَاقِبٌ} : نجم مُحرق يخترق وينفذ الأجواء حتّى يصل إلى هدفه بأسرع وقت، أيْ: يصل إلى هذا الشّيطان فيقضي عليه قبل أن يوصل الخبر إلى أوليائه وتارة يخبر بها قبل أن يدركه الشّهاب ويكذبون معها مئة كذبة، ولا يعني أن النّجم بكامله يلحق بالشّيطان ليقضي عليه، وإنما تنطلق من النّجم بعض الأشعة أو ألسنة النّار لتحرق الشّيطان المارد الّذي يحاول الاستماع إلى الملأ الأعلى. ارجع إلى سورة الحجر آية (18) لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 11]
{فَاسْتَفْتِهِمْ} : الفاء للتوكيد، استفتهم: الألف والسّين والتّاء للطلب أيْ: سلهم واطلب منهم الفتوى، أيْ: يُفتوا لك أو يجيبوا هم بأنفسهم ويقروا والإقرار سيد الأدلة، اسأل هؤلاء الكفار المنكرين للبعث أهم أشد خلقاً.
{أَهُمْ} : الهمزة للاستفهام ويحمل معنى التّوبيخ والتّقرير.
{أَشَدُّ خَلْقًا} : أعظم خلقاً.
{أَمْ مَّنْ خَلَقْنَا} : أي: السّموات والأرض لقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57].
{إِنَّا} : للتعظيم تدل على القدرة والعلم والحكمة.
{خَلَقْنَاهُم مِنْ طِينٍ لَّازِبٍ} : طين لازب: تراب + ماء، طين لين، لازب أيْ: يلتصق باليد والطّين اللازب غير موصوف بالصّلابة والقوة كالإسمنت أو الحديد، فهو يدل على الضّعف البنية مقارنة بخلق السّموات والأرض فالإنسان يتغذى من النّباتات الّتي تتغذَّى من تربة الأرض أو يأكل لحم الحيوانات وألبانها، وهي تتغذَّى من النّباتات وكل الخضار والفواكه مستمدة من الأرض أو عناصر أو معادن الأرض كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]، وكما قال تعالى:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]، وقد وجد أن جسم الإنسان يتركَّب من أكثر (17) عنصراً أو معدناً من العناصر أو المعادن الّتي تتركَّب منها تربة الأرض، وإذا عرف الإنسان أصله من تراب أو من ماء مهين عليه أن يتواضع ولا يتكبر.
سورة الصافات [37: 12]
{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي، الانتقال من كلام إلى كلام آخر.
{عَجِبْتَ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبهم إيّاك وإنكارهم وحدانية الله والبعث، أو عجبت من كفرهم وإنكارهم لقدرة الله تعالى رغم وجود كلّ تلك الأدلة.
{وَيَسْخَرُونَ} : السّخرية هي التقليل من حق من يسخر منه والتقليل من قيمته وذلته. ارجع إلى الآية (79) من سورة التّوبة للبيان، يسخرون مما تقوله عن البعث والحشر والجزاء والحساب ويسخرون من دعوتك للإيمان بالله أو من دعوتهم للإيمان بيوم القيامة والبعث، ومن القرآن (أو الآيات القرآنية)، ويسخرون: تدل على التّجدُّد والتّكرار، أيْ: ما زالوا يسخرون.
سورة الصافات [37: 13]
{وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} :
{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تحتمل حتمية الحدوث.
{ذُكِّرُوا} : وعظوا لا يتعظون، أيْ: لا ينتفعون بالموعظة أو الذّكرى أو إذا ذكر لهم شيءٌ مما عرفوه في الماضي لا يبالون، ويستمرون على ما هم عليه من العمى والجهل والعناد.
{لَا} : النّافية.
{يَذْكُرُونَ} : يتعظون أو يأخذون به أو إليه.
سورة الصافات [37: 14]
{وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} :
{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تفيد الحتمية.
{رَأَوْا} : رؤية عينية أو قلبية كونية بأعينهم أو معجزة دالة على قدرة الله سبحانه وعظمته.
{آيَةً} : نكرة تعني: دليلاً أو آية قرآنية أو كونية أو معجزة على البعث أو التّوحيد أو الإيمان أو النّبوة.
{يَسْتَسْخِرُونَ} : للمبالغة في السّخرية وتعريف السّخرية. ارجع إلى الآية السّابقة (12) من نفس السّورة. ارجع إلى الآية (79) من سورة التّوبة للبيان، ويستسخرون: يبالغون في السّخرية يستدعي بعضهم بعضاً ليسخر منها أو يحثون غيرهم للسخرية منها، أو يبالغون في السّخرية منها عناداً واستكباراً.
سورة الصافات [37: 15]
{وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :
{وَقَالُوا} : أي: الكفار والمشركون.
{إِنْ} : حرف نفي أشد نفياً من (ما) أيْ: ما هذا.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى الآية أو البعث أو التّوحيد أو الإيمان أو القرآن.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{سِحْرٌ مُبِينٌ} : أيْ: سحر صنعه محمّد ليسحرنا به اتهموه بالسّحر؛ لأنّهم رأوا تأثيره القوي في النّفوس وكونه خارقاً للعادة، وسحر مبين: واضح بين لكلِّ من اطلع عليه ونظر إليه، مبين: لا يحتاج إلى دليل أو برهان يُبيِّن أنّه سحر. ولتعريف السّحر ارجع إلى سورة طه آية (58).
سورة الصافات [37: 16]
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} :
{أَإِذَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّعجب والاستبعاد.
{مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} : تحولت أجسامنا إلى تراب وعظام.
{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّعجب كالسّابقة، لمبعوثون: اللام للتوكيد، مبعوثون: من البعث: العودة إلى الحياة بعد الموت والخروج من القبور لنحشر ونحاسب.
سورة الصافات [37: 17]
{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} :
{أَوَآبَاؤُنَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والاستبعاد.
{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} : أيْ: أيبعثُ آباؤنا الأولون أيضاً، أي: الّذين ماتوا منذ زمن طويل، فهذا الأمر لا يصدق.
سورة الصافات [37: 18]
{قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} :
{قُلْ نَعَمْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، أنتم وآباؤكم تبعثون وأنتم داخرون.
{وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} : داخرون: من دَخرَ، يدخر: صَغُرَ وذل، منقادون صاغرون أذلاء، وداخرون: صفة ثابتة عندهم، أي: الصّغار والذّل.
سورة الصافات [37: 19]
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} :
أي: البعث أمر سهل جدّاً مجرد نفخة في الصّور يأمر بها الله فإذا الكلّ من الأجداث ينسلون.
{فَإِنَّمَا} : الفاء جواب الشّرط أإذا، إنما: كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{هِىَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} : صيحة واحدة، واحدة: توكيد ويقال: زجر البعير، أيْ: صاح عليه، زجرة: صيحة للحث على البعث والقيام من القبور، وسُمِّيت زجرة لأنّها تسوقهم إلى أرض المحشر. ارجع إلى الآية (2) من نفس السّورة.
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، إذا: الفجائية.
{هُمْ} : للتوكيد.
{يَنْظُرُونَ} : هنا وهناك على وجه السّاهرة (وجه الأرض) ينظرون إلى الأرض الجديدة غير الّتي كانوا عليها، منظر جديد لم يروه من قبل، ينظرون ما سيفعل بهم أو أين سيذهبون.
سورة الصافات [37: 20]
{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} :
{وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا} : يا هلاكنا يا عذابنا، يا: أداة نداء للبعد يا هلاكنا أقبل أو احضر.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب.
{يَوْمُ الدِّينِ} : يوم الحساب والجزاء، أي: اليوم الّذي نُدان فيه، أيْ: نجازى على أعمالنا أو لم نكن نصدِّق به.
سورة الصافات [37: 21]
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} :
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} : قيل: هذا كلام الملائكة أو تتمة لكلّام الكفار بعضهم لبعض، هذا: الهاء للتنبيه وذا اسم إشارة للقرب يشير إلى يوم الفصل، يوم الفصل: يوم الفصل بين الرّسل وأقوامهم المكذبين أو يوم القصاص، والفصل بين الحق والباطل والمؤمن والكافر والمحسن والمسيء، وفريق في الجنة وفريق في السّعير.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد المعرفة.
{كُنْتُمْ بِهِ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الاهتمام، أيْ: به خاصة تكذبون لا بغيره.
{تُكَذِّبُونَ} : لا تصدِّقون أو لا تؤمنون به.
سورة الصافات [37: 22]
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} :
{احْشُرُوا} : خطاب إلى الملائكة، والحشر هو الجمع أي: اجمعوا في أرض المحشر، والحشر له غاية لكي يروا أين آلهتهم الّتي كانوا يعبدونها.
{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أشركوا وكفروا وضلوا وظلموا أنفسهم وغيرهم في الدّنيا.
{وَأَزْوَاجَهُمْ} : لها معانٍ متعدِّدة منها: احشروا الكافر مع الكافر أو الزّاني مع الزّاني والسّارق مع السّارق.
أو احشروا الّذين ظلموا مع نسائهم أزواجهم الكافرات.
أو احشروا معهم قرناءَهم من الشّياطين.
عابد الصّنم مع عبدة الأصنام.
أو التّابع والمتبوع أو الرّؤساء والقادة مع التّابعين من الّذين استضعفوا.
{وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} : إذن أصبحوا ثلاثة، احشروا: الّذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون في الدّنيا ويعبدون من الأصنام والشّياطين والطّواغيت، أمّا عيسى وعزير والملائكة فهؤلاء سبقت لهم الحسنى وهم استثناء من هذه الآية. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (101).
يعبدون: بصيغة المضارع تدل على الاستمرار على عبادة غير الله حتّى ماتوا وهم كفار.
سورة الصافات [37: 23]
{مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} :
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله أو سواه أو معه أو أيِّ وسيط.
{فَاهْدُوهُمْ} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، فاهدوهم: الهداية لا تكون إلا إلى الصّراط المستقيم والنّجاة فاستعمل كلمة فاهدوهم للسخرية والتّهكم منهم، أيْ: دلُّوهم على طريق جهنم.
{إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} : الصّراط: الطّريق الواسع السّهل المؤدي إلى جهنم أو الجحيم أو النّار، الجحيم: النّار والجحيم اسم للنار مشتق من التّأجج والاضطراب فلا تخمد أبداً، وقيل: هي دركة من دركات النّار، فهناك صراط الجحيم وسواء الجحيم وأصل الجحيم، أمّا سواء الجحيم: فهو وسط الجحيم (النّار) وسُمِّي السّواء وسطاً لاستواء المسافة منه إلى الجانب، أمّا أصل الجحيم: فهو قعرها، وصراط الجحيم: الطّريق إليها. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 24]
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْـئُولُونَ} :
أي: احبسوهم للسؤال وللحساب (في الموقف أو عند الصّراط) وتعني: كلّ هؤلاء الكفرة سيسأل والسؤال ليس سؤال استفهام إنما سؤال توبيخ وتقريع وسؤال تقرير؛ لأنّه سبحانه عالم بكل أعمالهم.
{إِنَّهُمْ مَّسْـئُولُونَ} : عن جميع أعمالهم (الأقوال والأفعال والعقائد) إنهم يسألون عما كانوا يعبدون، وعن لا إله إلا الله، كما روي عن ابن عبّاس.
إنّهم مسؤولون: لقوله سبحانه: {فَلَنَسْـئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْـئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92-93].
وأمّا في آية المؤمنون (101): {فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} فالتّوفيق بين هذه الآية والآيات الأخرى أنّ هناك في يوم القيامة مواطنَ لا يُسألون فيها، ومواطنَ في يوم القيامة يسألون فيها عما كانوا يعملون.
سورة الصّافات [الآيات 25- 51]
سورة الصافات [37: 25]
{مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} :
{مَا} : للاستفهام والتّوبيخ والتّقريع.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص.
{لَا تَنَاصَرُونَ} : الخطاب إلى المشركين لماذا لا ينصر بعضكم بعضاً اليوم للنجاة من العذاب، كما كنتم تناصرون في الحياة الدّنيا، أو تخفيف العذاب ولو يوماً واحداً.
سورة الصافات [37: 26]
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{هُمُ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْيَوْمَ} : يوم القيامة يوم الفصل أو يوم الدّين.
{مُسْتَسْلِمُونَ} : منقادون ذليلون لا حيلة لهم يخذل بعضهم بعضاً، جملة اسمية تدل على الثّبوت، أيْ: صفة الاستسلام ثابتة.
سورة الصافات [37: 27]
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} :
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : الواو استئنافية، أقبل بعضهم على بعض، أي: الْتقى الأتباع والرّؤساء والقادة أو التّابع والمتبوع العابد والمعبود.
{يَتَسَاءَلُونَ} : يسأل بعضهم بعضاً، أيْ: يتلاومون كلٌّ يُلقي المسؤولية على غيره، كما سيأتي في الآيات التالية.
سورة الصافات [37: 28]
{قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} :
{قَالُوا} : الأتباع للقادة والرّؤساء أو الأتباع للمتبوعين.
{إِنَّكُمْ} : إنّ للتوكيد.
{كُنتُمْ} : في الدّنيا.
{تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} : لها عدة تفسيرات: عن اليمين: مشتقة من اليد اليمنى كناية عن القوة والقهر، أيْ: تأتوننا بالقوة والجبروت والتّرويع لكي نشرك بالله ونكفر به.
أو تعني تأتوننا بالأيمان الكاذبة (اليمين: الحلف أو القسم) أيْ: عن طريق حلف الأيمان الكاذبة واتخاذ الأحزاب والأحلاف.
أو تأتوننا عن طريق الدّين وتقولون لنا أنّ دين محمّد باطل وتقليد الآباء أفضل وتخدعوننا.
أو عن جهة اليمين: جهة الخير (من التّيمن) البدء باليمين، أيْ: تأتوننا عن طريق الحق لتصرفونا عنه إلى اتباع الباطل.
وعن اليمين: قد تعني كلّ ذلك معاً.
سورة الصافات [37: 29]
{قَالُوا بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} :
{قَالُوا} : أي: القادة والرّؤساء أو المتبوعين للأتباع.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} : لم: نافية، تكونوا مؤمنين: أيْ: كنتم أصلاً كافرين وغير مصدقين بدين محمّد أو بمحمّد، فلم نضلكم أصلاً، أيْ: لم نخرجكم من الإيمان إلى الكفر، مؤمنين: لم تكن صفة الإيمان موجودة عندكم أصلاً، أو على إيمان ثابت راسخ.
سورة الصافات [37: 30]
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} :
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم} : الواو عاطفة، ما النّافية، كان: تشمل كلّ الأزمنة، لنا: اللام لام الملكية، عليكم: خاصة.
{مِنْ سُلْطَانٍ} : من استغراقية، سلطان: أيْ: سلطان سواء كان سلطان القوة والقهر أو سلطان الحُجَّة والإقناع لكي تتبعونا وتسمعوا لنا.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} : طغاةً ظلمةً متجاوزين الحدَّ في الشّرك والظّلم والإسراف.
سورة الصافات [37: 31]
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} :
هذا تتمة لقول الرّؤساء أو المتبوعين للأتباع.
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} : وجب، ولكنه لم يقع بعد أو لم يبدأ بعد. قول ربنا: العذاب.
علينا: جميعاً التّابع والمتبوع، أيْ: نحن وإيّاكم، وقيل: قول ربنا هو: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
{إِنَّا لَذَائِقُونَ} : إنا: للتوكيد، لذائقون: اللام للتعليل والنّون في (ذائقون) للتوكيد، ولم يقل: لذائقو العذاب الأليم، ذائقون: تدل على الإذاقة الدّائمة المستمرة و (لذائقو) تدل على الإذاقة المؤقتة.
سورة الصافات [37: 32]
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} :
{فَأَغْوَيْنَاكُمْ} : الفاء للترتيب والمباشرة، أغويناكم: من أغوى يغوي. ارجع إلى الآية (42) من سورة الحجر للبيان، أيْ: أضللناكم عن طريق الحق والهداية أو أفسدنا عقولكم؛ لأننا نحن أصلاً: غاوون.
{إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} : ضالين في الدّنيا أو فاسدين فأردنا أن تضلوا معنا وتكونوا شركاء لنا في الغواية والفساد، غاوين: جمع غاوٍ، أيْ: صفة الغواية ثابتة عندهم.
سورة الصافات [37: 33]
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} :
في هذه الآية يُنهي الله سبحانه هذه المواجهة بين الأتباع والمتبوعين فيقول:
{فَإِنَّهُمْ} : الفاء للتوكيد، ولم يخاطبهم مباشرة؛ لأنّهم لا يستحقون، إنّ للتوكيد.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم الفصل يوم الدِّين.
{فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} : الأتباع والمتبوعون كلاهما سيذوقان العذاب، ولن ينجو أحدهما منه، ولن يُغني بعضهم عن بعض شيئاً.
سورة الصافات [37: 34]
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{كَذَلِكَ} : أيْ: كما عذبنا التّابعين والمتبوعين كذلك نعذِّب المجرمين.
{نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} : الباء للإلصاق والدّوام والاستمرار، المجرمين: جمع مجرم، والمجرم هو مرتكب الجريمة، وهي الذّنب الّذي يوجب العذاب، والمجرم: هو الكافر والمشرك والعاصي الّذي لا يؤمن بالله وحده؛ ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لمزيد من البيان في المجرمين، ثمّ بيَّن العلَّة في الآية التّالية، والسّبب في تعذيبهم وهو الشّرك بالله.
سورة الصافات [37: 35]
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} :
{إِنَّهُمْ} : الضّمير يعود على المجرمين وإنّ للتعليل.
{كَانُوا} : في الدّنيا.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تدل على الحتمية.
{قِيلَ لَهُمْ} : مبني للمجهول سواء كان القائل الله سبحانه أو رسول الله أو أيُّ مؤمن والمهم هنا المقولة، لهم: اللام لام الاختصاص لهم خاصة، أيْ: قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله. ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة للبيان.
قولوا كلمة التّوحيد، أو آمنوا بالله وحده.
{يَسْتَكْبِرُونَ} : يتكبرون بغير حقِّ، أيْ: يشعروا بعظم شأنهم فوق ما يستحقون، يستكبرون عن الإيمان بالله وحده والقول لا إله إلا الله محمّد رسول الله. يستكبرون: يطلبون الكبر، ولا يملكون مؤهلاته.
سورة الصافات [37: 36]
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} :
{وَيَقُولُونَ} : بصيغة المضارع لتدل على الاستمرار والتّجديد.
{أَئِنَّا} : الهمزة للاستفهام والإنكار إنا تعود على المجرمين.
{لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا} : اللام للتعليل تاركو عبادة آلهتنا.
{لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} : بسبب ما يقوله محمّد الشّاعر المجنون، واللام لام الاختصاص، لكي نتبع عبادة الله وحده.
سورة الصافات [37: 37]
{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} :
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي، أيْ: دعك عن قولهم الباطل هذا، أو أضرب عن قولهم شاعر ومجنون، ما قاله محمّد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما جاء به.
{جَاءَ بِالْحَقِّ} : جاء بالحق: وهو الأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر أو يتبدَّل، جاء بالقرآن الكريم وبالدِّين القيِّم ولا إله إلا الله أيْ: بالتّوحيد، والباء للإلصاق والدّوام.
{وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} : أيْ: محمّد صلى الله عليه وسلم صدق الرّسل الّذين جاؤوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والإسلام فهو ليس بدعاً من الرّسل.
سورة الصافات [37: 38]
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} :
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} : هذه الآية توكيد للآية السّابقة (31) إنا لذائقون، ويبيِّن ما نوع العذاب وشدته وتبدلت فيها الصّيغة من صيغة الغائب (إنهم) إلى صيغة المخاطب (إنّكم) لزيادة الانتباه والتّهديد والتّحذير لكلّ مجرم ومذنب وعاصٍ.
{الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} : شديد الإيلام لن تطيقوه أو تقدروا على تحمُّله، ثمّ يُبيِّن أنّ هذا العذاب ليس ظلماً أو عدواناً إنما هو جزاء ما قدَّموه من الأعمال فقال:
سورة الصافات [37: 39]
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :
{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما النّافية.
{تُجْزَوْنَ} : من الجزاء، والجزاء يكون للخير أو للشر.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{مَا كُنتُمْ} : في الدّنيا. ما: اسم موصول بمعنى الذي، وأوسع شمولاً من الذي.
{تَعْمَلُونَ} : الأعمال تضم الأقوال والأفعال ما تعملون من خير وشر ما كنتم تعملون من الشّرك والتّكذيب والمعاصي، وبعد ذكر ما أعده الله سبحانه للمجرمين المكذبين يذكر بعدها ما أعدَّه الله سبحانه لعباده المؤمنين.
سورة الصافات [37: 40]
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء من قوله: إنكم لذائقوا العذاب الأليم إلا عباد الله المخلصين فإنّهم لن يذوقوا العذاب الأليم.
{عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : المخلَصين بفتح اللام اسم مفعول يعني: الّذين أخلصهم الله واصطفاهم لعبادته وطاعته بعد أن أخلَصوا أنفسهم أوّلاً.
إذن هناك فرق بين المخلِصين بكسر اللام الّذين يخلصون أنفسهم لله والمخلَصين بفتح اللام هؤلاء أعلى درجة في الإخلاص.
سورة الصافات [37: 41]
{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يفيد بعد منزلتهم عند الله تعالى وجزاءَهم.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} : الرّزق تعريفه: كلّ ما يُنتفع به، ويشمل الرّزق الطّيب الحلال ويشمل الطّعام والشّراب والعلم والجاه والمنزلة، هذا في الدنيا، أما في الجنة: فقد وصف هذا الرزق بالطعام والشراب في جنات النعيم، والسرر والكأس المعين، والحور العين وغيره. ووصفه بالمعلوم؛ أي: الجنة، وأما رزق الدنيا فهو ليس معلوماً لا بد من السعي من أجله، أما في الآخرة فهو معلوم رزق خاص بهم.
سورة الصافات [37: 42]
{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُّكْرَمُونَ} :
{فَوَاكِهُ} : بالضّم بدل من رزق، فسر الرّزق بالفواكه وغيرها، وهناك فرق بين فواكه وفاكهة، فواكه جمع لا تشمل الواحدة والاثنتين، ولا تشمل على كلّ أنواع الفاكهة، أمّا فاكهة فاسم جنس يشمل الواحدة والاثنتين والجمع ثلاثة أو أكثر، فكلمة فاكهة أعم من فواكه والفاكهة تطلق على النّوع الواحد أو الأنواع.
{وَهُمْ مُّكْرَمُونَ} : وهم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، مكرمون: وإذا قارنا هذه الآية فواكه وهم مكرمون في الجنة برضوان الله تعالى، وبكلّ أنواع التّكريم والسّلام والنّعيم الّذي لهم مع الآية (20) من سورة الواقعة {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} .
نجد أنّ آية الواقعة تخاطب السّابقين السّابقين، أمّا آية الصّافات فتخاطب أصحاب اليمين؛ أيْ: فاكهة تُقدَّم إلى المقربين وهم السّابقون السّابقون وفواكه تقدَّم إلى أصحاب اليمين.
سورة الصافات [37: 43]
{فِى} : ظرفية.
{جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : جنات النّعيم مثل جنات الفردوس جنات عدن، أو تشمل كلّ الجنات.
سورة الصافات [37: 44]
{عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} :
{سُرُرٍ} : جمع سرير، أسرة للجلوس عليها.
{مُتَقَابِلِينَ} : تعني: إذا أردت زيارة أخاً لك تجده أمامك لا تحتاج إلى الانتقال والسير إليه، أو إلى منزله والركوب في طائرة أو سيارة أو غيرها.
سورة الصافات [37: 45]
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِنْ مَّعِينٍ} :
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ} : على كلّ منهم، بكأس: الباء للإلصاق والدّوام، الكأس: يراد به القدح الّذي يوضع به الخمر.
{مِنْ مَّعِينٍ} : من الخمر الّذي يجري على وجه الأرض في أنهار، أو معين شيء تراه بعينك أي: ظاهر، من: ابتدائية لبيان الجنس، ثمّ يصف الخمر في الآية (46-47).
سورة الصافات [37: 46]
{بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} :
{بَيْضَاءَ} : شديدة البياض والبيضاء قيل: هي أصفى أنواع الخمر عند العرب طيبة الرّائحة.
{لَذَّةٍ} : فيها مبالغة من لذيذة لذة مصدر للمبالغة، أيْ: ذات لذة مثل لذة الطعم، أو لذة النظر
…
وغيرها، واللذة: تختص بالمحسوسات التي تظهر آثارها على البدن، بعكس الشهوة التي تختص بالآراء والأفكار والعقائد، وقد تكون مذمومة أو محمودة.
{لِلشَّارِبِينَ} اللام لام الاختصاص والاستحقاق، الشّاربين: جمع شارب بينما خمر الدّنيا كريهة الطّعم وكريهة الرّائحة.
سورة الصافات [37: 47]
{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} :
انتبه إلى يُنْزَفُون بفتح الزاي في هذه الآية، وإلى كلمة يُنزِفون بكسر الزاي في سورة الواقعة آية (19) كما سنرى.
{لَا} : النّافية.
{فِيهَا غَوْلٌ} : أيْ: لا تحتوي على غول وهو المادة المسكرة المذهبة للعقل.
{وَلَا هُمْ} : تكرار لا لتوكيد النّفي، هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{عَنْهَا يُنْزَفُونَ} : بفتح الزاي عن تفيد المباعدة والمجاوزة، أيْ: لا تذهب بعقولهم، أو يُنزفون: من النزف: وهو نزف الدم من المعدة، أو المري الحاصل بسبب شرب الخمر في الدنيا الذي يؤدي إلى تشمع الكبد، والّذي قد يؤدِّي إلى نزيف حادٍّ وغير مميت أو قاتل، بينما ويُنزِفُون: بكسر الزاي: يدل على النزف المميت القاتل الحاصل بسبب شرب الخمر الذي لا يتوقف حتى بالمعالجة، والله أعلم. ارجع إلى سورة الواقعة لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 48]
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} :
وصف لنساء الجنة.
{وَعِندَهُمْ} : في جنات النّعيم.
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : الحور العين أو نساؤهم في الدّنيا، قاصرات الطّرف: يدلُّ ذلك على العفاف ـ لا تنظر إلى غير زوجها ـ وأصل القصر الحبس، الطّرف: النّظر.
{عِينٌ} : حسان العيون مع وسعها، جمع عيناء وهي المرأة الحسناء الواسعة العين.
سورة الصافات [37: 49]
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} :
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} : أمّا لون البشرة أو الوجه فهو البياض المخلوط بشيء من الصّفرة (اللون الأصفر) والعرب تشبه النّساء بالبيض لصفاء بياضهن، وهذا يسمَّى تشبيه مرسل، قيل: كبيض النّعام (أبيض مشرب باللون الأصفر) وهو أحسن الألوان على الإطلاق مقارنة بالأبيض كلون اللبن اللون الغير مستساغ كلون للبشرة.
{مَّكْنُونٌ} : مستور لا يصله غبار ولا تلوُّث.
سورة الصافات [37: 50]
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} :
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، هذه الآية جاءت في سياق إقبال أهل الجنة بعضهم على بعض يتساءلون بينما الآية السّابقة (27) جاءت في سياق الأتباع والمتبوعين من المجرمين.
وكما دار حوار وتساؤل بين المجرمين يدور تساؤل وحوار بين أهل الجنة مختلف عن السّابق، وتبين لنا الآيات القادمة نوع التّساؤل.
سورة الصافات [37: 51]
{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} :
{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} : أي: من أصحاب جنات النّعيم.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{كَانَ لِى} : في الدّنيا.
{قَرِينٌ} : وسمَّاه قريناً، ولم يسمِّه صاحباً. والقرين: هو رفيق السّوء (يضر ولا ينفع) وأيضاً تطلق على الشّيطان القرين.
أمّا الصّاحب: فهو الرفيق الّذي ينتفع منه ويحفظ مصالح صاحبه ولا يفرط بها.
سورة الصّافات [الآيات 52- 76]
سورة الصافات [37: 52]
{يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} :
{يَقُولُ} : أيْ: كان يقول القرين لي في الدّنيا يقول:
{أَإِنَّكَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّعجب والاستبعاد.
{لَمِنَ} : اللام للتوكيد، من ابتدائية.
{الْمُصَدِّقِينَ} : أيْ: أأنت لمن المؤمنين بالبعث والحساب، أيْ: يُنكر عليَّ ويتعجَّب من كوني مؤمناً بالبعث والحساب.
سورة الصافات [37: 53]
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} :
وكان هذا القرين يسألني أيضاً:
{أَإِذَا} : الهمزة أيضاً للاستفهام الإنكاري والاستبعاد والتّعجُّب، إذا: ظرفية للاستقبال تفيد حتمية الحدوث.
{مِتْنَا} : مِتنا بكسر الميم يدل على الموت الطّبيعي، ولو قال: أإذا مُتنا بضم الميم فتدل على الموت بأسباب أخرى مثل الموت في سبيل الله (في الجهاد). ارجع إلى سورة آل عمران آية (157-158) للبيان والفرق بين مِت ومُت.
{وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} : أيْ: تحولت أجسامنا إلى تراب وعظام.
{أَإِنَّا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والاستبعاد، أيْ: يسألني مستنكراً حين أخبره أنا لمدينون.
{لَمَدِينُونَ} : اللام للتوكيد، مدينون: من دان ودِنْتُهُ على ما صنع: أيْ: جازيته على ما صنع. أيْ: أنحن مجازون على ما نعمل أو محاسبون أو مسؤولون.
والسّؤال لماذا استعمل لمدينون ولم يقل: أإنا لمبعوثون: لأنّ السّياق هو في الآخرة ويسأل عن قرينه بعد أن دخل الجنة فالبعث مضى وانقضى والموقف موقف بعد الحساب والجزاء، وأإنا لمبعوثون: تأتي في سياق السؤال في الدنيا عن البعث.
سورة الصافات [37: 54]
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} :
{قَالَ هَلْ} : هل: للاستفهام الحقيقي.
{أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} : معي للبحث عن ذلك القرين لننظر ما حلَّ به.
سورة الصافات [37: 55]
{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} :
{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ} : الفاء للمباشرة، فاطلع المؤمن كشف له الحجاب فرأى قرينه في سواء الجحيم، أيْ: في وسط النّار.
{فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} : في ظرفية، سواء الجحيم: وسط النّار وسُمِّي الوسط: لاستواء تساوي المسافة إلى الجوانب.
سورة الصافات [37: 56]
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} :
{قَالَ} : قال المؤمن الّذي في الجنة وكأنّه يتحدث مع قرينه مباشرة.
{تَاللَّهِ} : التّاء تاء القسم، أي: أقسم بالله، والقسم للتوكيد، وفيه معنى التّعجُّب والتّفخيم، والتّاء أقوى أدوات القسم، أقوى من الواو والباء واللام.
{إِنْ} : للتوكيد.
{كِدْتَ} : من أفعال المقاربة، أي: أوشكت.
{لَتُرْدِينِ} : اللام لزيادة التّوكيد، تردين: أيْ: لتهلكني معك أو تؤدِّي إلى هلاكي بصدك إيّاي عن الإيمان بالله وبالبعث، يقال: أرديت فلاناً: أيْ: أهلكته وقضيت عليه، مشتقة من الرَّدى: وهو الهلاك وأردى فلان: أيْ: أهلكه، وقوله تعالى: لتردين وليس لترديني: لأن المحاولة التي قام بها قرينه كانت مؤقتة ولم تستمر طويلاً.
سورة الصافات [37: 57]
{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} :
{وَلَوْلَا} : حرف امتناع لوجود.
{نِعْمَةُ رَبِّى} : عليَّ بالإسلام والإيمان والهداية والتّوفيق.
{لَكُنْتُ} : اللام للتوكيد، كنت: أيْ: أصبحت.
{مِنَ الْمُحْضَرِينَ} : من ابتدائية، المحضرين للعذاب أو المحضرين معك في النّار، ومحضرين جمع محضر: والمحضر هو الّذي أرغم على الحضور أيْ: من دون إرادته تُحضرهم الملائكة فتدخلهم النّار. محضرون: لا تأتي إلا في سياق العذاب في كل آيات القرآن.
سورة الصافات [37: 58]
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} :
{أَفَمَا} : الهمزة للاستفهام المشوب بالنّفي والتّعجب والتّقرير، والفاء للتوكيد، ما: النّافية.
{نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} : أيْ: ما نحن بميتين مرة أخرى إلا:
سورة الصافات [37: 59]
{إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} :
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَوْتَتَنَا الْأُولَى} : الّتي تلت الحياة الدّنيا فقط.
{وَمَا} : لتوكيد النّفي.
{نَحْنُ} : تفيد التّوكيد.
{بِمُعَذَّبِينَ} : الباء للإلصاق، معذبين في النّار. أو بأيِّ نوع من أنواع العذاب الأخرى.
سورة الصافات [37: 60]
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :
هذا: يمكن أن يكون قول الله تعالى أو الملائكة أو الرّجل المؤمن الّذي دخل الجنة.
إنّ واللام في لهو يفيدان التّوكيد.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يفيد القرب، ويشير إلى النّجاة من العذاب، ولن يكون هناك موت ثانٍ.
{لَهُوَ} : اللام لزيادة التّوكيد.
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : الفوز: النّجاة من النّار وبلوغ الغاية وهي نيل الجنة.
فالفرق بين الفوز والنّجاة: الفوز = النّجاة + الوصول إلى المحبوب (المطلوب).
أمّا النّجاة = فهي الخلاص من المكروه فقط.
والفوز العظيم: ليس هناك فوز أفضل منه أو أعلى منه، فهو أفضل من الفوز الكبير أو الفوز المبين. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 61]
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} :
{لِمِثْلِ هَذَا} : اللام في كلمة لمثل: لام التّعليل والتّوكيد.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه وذا اسم إشارة يشير إلى الفوز العظيم.
{فَلْيَعْمَلِ} : الفاء للمباشرة، أيْ: لا يتأخرون عن العمل العظيم واللام في ليعمل لزيادة التّوكيد.
{الْعَامِلُونَ} : في الدّنيا من الأعمال الصّالحة، والعمل يضم الأقوال والأفعال معاً. عاملون جملة اسمية تفيد الدوام والثبات على القيام بالأعمال الصّالحة.
سورة الصافات [37: 62]
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} :
{أَذَلِكَ} : الهمزة للاستفهام التّقريري والتّهكم بالكفرة، ذلك: اسم إشارة للبعد يشير إلى جنات النّعيم.
{خَيْرٌ} : أفضل.
{نُزُلًا} : مكانة نُزلاً من النُّزل ما يُعدُّ للضيف من المأكل والمشرب والمسكن وحسن الضّيافة والتّرحيب.
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتّوبيخ، أم للإضراب الانتقالي.
{شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} : شجرة خبيثة مرة الطّعم مُنتنة لا يوجد لها مثيل في الدّنيا، وتسمَّى الشجّرة الملعونة في القرآن. الإسراء آية (60).
وقد ورد ذكرها في ثلاث آيات:
سورة الصّافات: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصّافات: 63-65].
وفي سورة الدخان: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43-46].
وفي سورة الواقعة: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 51- 53].
سورة الصافات [37: 63]
{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{جَعَلْنَاهَا} : أي: شجرة الزّقوم.
{فِتْنَةً} : تعني: للابتلاء: الاختبار في الدّنيا، لمن يصدِّق بها أو يكذِّبها، وفي الآخرة نوع من أنواع العذاب للظالمين المشركين.
{لِلظَّالِمِينَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق. ارجع إلى سورة البقرة آية (54) لبيان معنى الظالمين.
سورة الصافات [37: 64]
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} :
{تَخْرُجُ} : تنبت.
{فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} : في قعر الجحيم، كما قال الحسن، وأغصانها وفروعها تمتد في دركات النّار السّبع. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) للبيان المفصل.
سورة الصافات [37: 65]
{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} :
{طَلْعُهَا} : قيل: هو ثمرها كأنّه رؤوس الشّياطين وسُمِّي طلعاً، أو طلعها ما ينمو أو ينبت من أوراقها وأغصانها أو حملها، له صورة رؤوس الشّياطين. والعرب تشبِّه كلّ شيء قبيح برأس الشّيطان.
وهل رأى أحدٌ رؤوس الشّياطين؟
وما دام المخبر هو الله سبحانه فقوله الحق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النّساء: 122].
سورة الصافات [37: 66]
{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} :
{فَإِنَّهُمْ} : للتوكيد تعود إلى الظالمين.
{لَآكِلُونَ مِنْهَا} : لآكلون: اللام للتعليل والتّوكيد حيث لا طعام لهم آخر، ولن يأكلوا منها على قدر الضّرورة، بل سيُؤمروا أن يملؤوا منها البطون.
{فَمَالِئُونَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أي: يُكرهون ويجبرون على الأكل منها حتّى تمتلئ بطونهم منها.
سورة الصافات [37: 67]
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ} :
{ثُمَّ} : لا تدل على التّرتيب والتّراخي، وإنما للترتيب العددي.
{إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} : للتوكيد، لهم عليها: اللام لام الاختصاص، عليها: تفيد المشقة والعلو.
{لَشَوْبًا} : اللام للتعليل، الشّوب هو الشّيء المخلوط الممزوج، يقال: شاب الطّعام أو الشّراب، أي: خلطه بشيء آخر.
{مِّنْ حَمِيمٍ} : الحميم: الماء البالغ غاية أو نهاية الحرارة، يشربونه فيختلط بالمأكول من شجرة الزّقوم، أيْ: أنّهم إذا أكلوا الزّقوم فملؤوا منها البطون عندها يحتاجون الماء ليطفئ لهم العطش، فيذهبون إلى الحميم (قيل: هو خارج جهنم) فيشربون من الحميم فيختلط الحميم في بطونهم مع الزّقوم والعياذ بالله.
سورة الصافات [37: 68]
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} :
{ثُمَّ إِنَّ} : ثمّ للترتيب العددي، إنّ للتوكيد.
{مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} : بعد الشّرب من الحميم يُرجَعُ بهم إلى الجحيم؛ لأنّ الحميم خارج جهنم، فيخرجون خارج جهنم ليشربون من الحميم، ثمّ يُعادون إلى الجحيم، كقوله تعالى:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرّحمن: 44].
سورة الصافات [37: 69]
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} :
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ} : ألفوا: وجدوا وهناك فرق بين ألفوا ووجدوا: ألفوا من ألفى تستعمل للأمور المحسوسة المشاهدة، وفي الأمور غير المستحبة المذمومة، بينما وجدوا تستعمل في الأمور القلبية المعنوية، ووجدوا أعم وأشمل من ألفوا، ارجع إلى الآية (170) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ} : وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى في الظّلمات. ظلمة الشّرك والجهل والتقليد والفساد.
سورة الصافات [37: 70]
{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} :
{فَهُمْ} : يحثُّ ويدفع بعضهم بعضاً على الإسراع في اتباع الآباء.
{يُهْرَعُونَ} : مشتقة من يُهرع بالأسير أيْ: يُسرع به بعد القبض عليه، أيْ: يسرعون، مندفعين إلى اتباع آبائهم من دون تفكُّر أو تعقل في الشّرك والكفر والضّلال.
سورة الصافات [37: 71]
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} :
{وَلَقَدْ ضَلَّ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق، أي: تحقق ضلال أكثر الأولين.
{قَبْلَهُمْ} : الضّمير يعود إلى قريش من المشركين وتعني: من زمن بعيد أو قريب ولو قال: من قبلهم لكانت تعني من زمناً قريباً.
{أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} : الأمم الخالية لقد ضل قبلهم كثير ممن سبقوهم الكثرة ضلت والقلة آمنت.
سورة الصافات [37: 72]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} :
{وَلَقَدْ} : كالسّابقة في الآية (71).
{أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} : أيْ: لم نتركهم على غفلتهم، بل أرسلنا إليهم رسلاً منذرين لهم من العذاب والنّار، والإنذار يعني: الإعلام والتّحذير.
سورة الصافات [37: 73]
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} :
{فَانظُرْ} : نظرة فكرية قلبية كيف أداة استفهام للسؤال عن الحال كان عاقبة (حين يذكر العاقبة بكلمة كان ولم يقل: كانت) يدل على أن العاقبة معناها العذاب، وحين يؤنث العاقبة فيقول: كانت عاقبة تعني: الجنة، وذلك في كلّ القرآن الكريم.
{كَانَ عَاقِبَةُ} : أيْ: عذابهم وهلاكهم.
{الْمُنذَرِينَ} : القوم الّذين أنذروا من رسلهم فأصروا على كفرهم ولم يتعظوا كيف كان عذابهم وهلاكهم.
سورة الصافات [37: 74]
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} :
أيْ: فانظر كيف أهلكنا المنذرين إلا عباد الله المخلصين الّذين استجابوا لرسلهم أنجيناهم.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : ارجع إلى الآية (40) من نفس السّورة للبيان، أي: الموحِّدين الّذين استجابوا للإنذار وانتفعوا به فنجوا من العذاب أو الهلاك.
سورة الصافات [37: 75]
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} :
{وَلَقَدْ} : ارجع إلى الآية (71) للبيان.
{نَادَانَا نُوحٌ} : حين قال: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10]، أو حين قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 27].
{فَلَنِعْمَ} : الفاء للتعقيب المباشرة، واللام في لنعم للتوكيد، ونعم من أفعال المدح العامة؛ نعم المجيبون: تعني: نحن الّذين أجبناه، فلنعم تعود لله سبحانه وتعالى، ولم يقل: فلنعم المجيب وجاء الجمع بصيغة الجمع للتّعظيم؛ لأنّ إنقاذ نوح من الكرب تطلب القدرة والعلم والحكمة.
سورة الصافات [37: 76]
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} :
{وَنَجَّيْنَاهُ} : تدل على بطء النجاة وطول الزّمن (بعد 950 سنة) ولم يقل: أنجيناه الّتي تدل على السّرعة وقصر الزّمن، ونجاته التي تمت بعد صنع الفلك، وتعني: زمن الطوفان.
{وَأَهْلَهُ} : أولاده الثّلاثة سام وحام ويافث وزوجاتهم.
{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} : من ابتدائية، الكرب: من الغرق والطّوفان، ووصف ذلك بالكرب، والكرب هو المكروه الّذي لا تستطيع دفعه عن نفسك، ولا يدفعه عنك من حولك حين تستغيث بهم، فإن كان لك فيه حيلة للنجاة فلا يسمَّى كرباً، فالكرب: المكروه الّذي لا يملك أو يستطيع أحدٌ دفعه إلا الله وحده سبحانه، فإنه القادر على ذلك.
سورة الصّافات [الآيات 77- 102]
سورة الصافات [37: 77]
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} :
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ} : وجعلنا أولاده الثّلاثة سام وحام ويافث (ذريته عليه السلام ) هم أصل النّاس عامة، سام أصل العرب والرّوم وفارس، وحام أصل الأفارقة والقبط والبربر والسّودان، ويافث أصل التّرك والصّين والولايات الواقعة جنوب الاتحاد السّوفيتي ويأجوج ومأجوج.
{هُمُ} : للتوكيد والحصر.
{الْبَاقِينَ} : كلّ النّاس الّذين من غير ذريته ماتوا وانقرضوا، فالنّاس كلّهم من ولد نوح عليه السلام ، أيْ: هم الّذين بقوا وتناسلوا.
سورة الصافات [37: 78]
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْآخِرِينَ} :
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْآخِرِينَ} : أبقينا له الذّكر الحسن في الأجيال الّتي أتت بعده فحين نسمع اسم نوح يُذكر نقول: عليه السلام ، ويثنون عليه من بين الأنبياء وأنه من أولي العزم، وذكر اسمه في القرآن (43 مرة)، وغيره من الكتب.
الآخرين: الأقوام الّتي جاءت بعده ولم تعاصره.
سورة الصافات [37: 79]
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ} :
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} : أيْ: تركنا عليه أن يسلم عليه في الذين جاؤوا من بعده، وسلام نكرة يشمل سلام التّحية والأمن والسّلام ويشمل السّلامة من كلّ مكروه. وقال ابن عباس: يُذكر بخير، والسلام الذي يأتي معرفة (بأل التعريف): يدل على سلام التحية فقط، وجاء السلام في كل القرآن بصيغة النكرة إلا آية واحدة هي قول عيسى عليه السلام :{وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم: 33].
{فِى الْعَالَمِينَ} : في الملائكة والإنس والجن، أيْ: تركنا كلّ العالمين يسلمون عليه تسليماً ويقولون: عليه السلام ؛ لأنّه كان مُحسناً أو تكريماً له؛ لأنّه من أولي العزم من الرّسل.
سورة الصافات [37: 80]
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{كَذَلِكَ} : تعني: مثل ذلك وتعني الكاف للتّشبيه، ذلك: اسم إشارة، إنا كذلك: أي: مثل ذلك الجزاء وهو سلام عليه حين يُذكر اسمه والثّناء والذّكر الحسن والسّيرة الطيبة الّتي يتداولها النّاس.
{نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} : نجزي: من الجزاء: وهو الأجر والثواب، المحسنين: جمع مُحسن. ولبيان الإحسان ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة.
سورة الصافات [37: 81]
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} :
إنّه للتوكيد، من ابتدائية بعضية، عبادنا المؤمنين: وهذا ثناء عليه إضافة نا للتشريف، فقد كان عليه السلام محسناً وعبداً مؤمناً.
سورة الصافات [37: 82]
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} :
{ثُمَّ} : لتبيان بعد منزلة المؤمنين من الكافرين.
{أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} : أي: الكافرين من قومه بالطّوفان، انتبه إلى لفظ الآخَرين بفتح الخاء الكافرين الّذين عاصروه، وأمّا الآخِرون بكسر الخاء فتعني: الأجيال الّتي جاءت بعده.
سورة الصافات [37: 83]
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} :
{وَإِنَّ مِنْ} : إنّ للتوكيد، من ابتدائية تعليلية.
{مِنْ شِيعَتِهِ} : أي: إبراهيم من شيعة نوح؛ أي: من أتباع نوح عليه السلام ، والأشياع: أعم من الأتباع؛ الأتباع: هم فقط كانوا معه في زمنه؛ أي: من سار على ملة ومنهاج نوح، ودعا بدعوته.
{لَإِبْرَاهِيمَ} : اللام لام الاختصاص والتّوكيد، وكان ما بين نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام ما يقارب (2640 سنة).
سورة الصافات [37: 84]
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} :
{إِذْ} : ظرفية بمعنى حين.
{جَاءَ رَبَّهُ} : أقبل على ربه، ولم ينتظر حتّى يأتيه من يدعوه إلى الإيمان والتّوحيد.
{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} : بفطرة الإسلام والتّوحيد، وقلب سليم من الشّرك والشّك والنّفاق، قلب سليم: قلب معافى من كلّ مرض في العقيدة والدّين، والباء للإلصاق واللزوم والاستمرار، وفي سورة الشّعراء آية (89) قال تعالى:{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . ارجع إلى سورة الشّعراء آية (89) لمعرفة الفرق بين الآيتين.
سورة الصافات [37: 85]
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} :
{إِذْ قَالَ} : ظرفية بمعنى الماضي حين؛ أيْ: واذكر إذ قال لأبيه أو حين قال لأبيه وقومه.
{لِأَبِيهِ} : اللام لام الاختصاص، أبيه آزر أو تعني عمه، وهذا هو الأصح فالقرآن يسمِّي العم أباً، كما في قوله تعالى:{قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. ارجع إلى سورة الشعراء آية (70) لمعرفة أبيه ومن هو آزر.
{وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} : ماذا استفهام توبيخ وإنكار، وماذا أقوى وأشد استفهاماً من (ما) تعبدون، وإبراهيم عليه السلام يعلم ما يعبدون؛ لأنّه قال لأبيه آزر كما ورد في سورة الأنعام الّتي نزلت قبل سورة الصّافات:{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74].
ولكنه عليه السلام يريد أن ينكر على أبيه (أي عمه) وقومه ما يعبدون ويوبخهم على ذلك ويقيم عليهم الحُجَّة، وفي سورة الشعراء آية (70) قال لهم ما تعبدون؟ استفهام في بداية الأمر استفهام حقيقي، ولذلك أجابوه: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، أما في سورة الصافات قال: ماذا تعبدون؟ استفهام إنكاري، وتوبيخ؛ لأنه يعلم ماذا يعبدون.
سورة الصافات [37: 86]
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} :
الإفك هو الكذب المتعمَّد وهو أقبح الكذب؛ لأنه كذب على الله تعالى، ويكون بقلب الحقيقة أيْ: أكذباً آلهة دون الله تريدون.
{أَئِفْكًا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري فهو ينكر على عمه وقومه عبادة أو تأليه غير الله تعالى، والاستفهام أقوى من الإخبار؛ لتكون الإجابة منهم فتكون حجة عليهم.
{آلِهَةً دُونَ اللَّهِ} : آلهة أصناماً، دون الله: غير الله أو سواه.
{تُرِيدُونَ} : تبغون تعبدون، تريدون تدل على التّجدد والاستمرار وتقديم المفعول على الفعل (تريدون) للاهتمام والعناية بدلاً من القول أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؛ أي: إنكم على إفك (باطل) في شرككم والآلهة التي تعبدونها هي أيضاً إفك وباطل.
سورة الصافات [37: 87]
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{فَمَا} : الفاء عاطفة، ما استفهام إنكاري وتوبيخ وتحذير.
{ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : أيْ: ما ظنكم برب العالمين حتّى عبدتم آلهة غيره، ولم يُبيِّن ما نوع هذا الظّن، فقد يعني: ما سوء ظنكم برب العالمين حتّى تعبدوا غيره، أو فما ظنكم أن يصنع بكم إذا أشركتم به ألا يعاقبكم ويسخط عليكم، أو ما ظنكم: أليس هو ربكم ويستحق العبادة وحده، والظّن: هو الاحتمال الراجح حين ترجح كفة الإثبات على كفة النّفي.
سورة الصافات [37: 88]
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ} :
أراد إبراهيم عليه السلام أن يحطِّم الأصنام الّتي يعبدها قومه فانتظر قدوم عيد لهم، فلما عزموا إلى الخروج إلى العيد راح ينظر إلى السّماء والنّجوم، كما يفعل القوم حين يشعرون بقدوم المرض والسّقم ينظرون إلى السّماء يطلبون العون لكي لا ينكروا عليه عدم خروجه معهم، فلما سألوه أن يخرج معهم أخبرهم أنّه سقيم لا يستطيع الخروج؛ لأنّه يشعر أنّه مريض في بدنه.
سورة الصافات [37: 89]
{فَقَالَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، أيْ: قال لهم مباشرة: إنّه سقيم بعد أن نظر في النّجوم.
{إِنِّى سَقِيمٌ} : مريض، والسقيم: حالة خاصة من المرض، والمرض يشمل السقم، والمرض قد يكون مرضاً عضوياً؛ أي: يصيب البدن، أو نفسياً، والسقم مرض عضوي فقط، وحقاً هو مريض من إقبال قومه على عبادة الأصنام والشّرك بالله، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن على قومه لعدم إيمانهم فيصفه الله تعالى بقوله:{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6].
إنّي: للتوكيد، أي: اذهبوا وحدكم إلى عيدكم.
سورة الصافات [37: 90]
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} :
{فَتَوَلَّوْا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، تولوا عنه: انصرفوا عنه، أيْ: تركوه.
{مُدْبِرِينَ} : ذاهبين إلى عيدهم، وفي سورة الأنبياء الآية (57) قال إبراهيم {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} قال ذلك في نفسه أو بصوت خافت.
سورة الصافات [37: 91]
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} :
{فَرَاغَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أيْ: ذهب إبراهيم مسرعاً وبخُفية، أو تسلل إلى الأصنام بخُفية كما يتسلل الثعلب المراوغ بحيث لا يراه أحد، وقيل: وضعوا بعض طعامهم عند أصنامهم ليأكلوه بعد عودتهم، فقال إبراهيم للأصنام مباشرة:
{أَلَا تَأْكُلُونَ} : ألا: أداة حضٍّ وحثٍّ، والهمزة في ألا همزة استفهام إنكاري وتوبيخ، فلم تجب الأصنام على سؤاله طبعاً.
سورة الصافات [37: 92]
{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} :
{مَا لَكُمْ} : ما للاستفهام والسّخرية والتهكم، لكم: اللام لام الاختصاص، لا النّافية.
{لَا تَنْطِقُونَ} : لا تجيبون.
سورة الصافات [37: 93]
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} :
{فَرَاغَ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، راغ: مال على الأصنام ضرباً باليمين، أيْ: راح يكسرها بيده اليمنى ويحطمها بقوة وشدة واليمين تدل على القوة والشّدة غيرة على دين الله.
سورة الصافات [37: 94]
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} :
{فَأَقْبَلُوا} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، إليه يزفون: اتجهوا إليه مسرعين، بعد عودتهم من عيدهم، وبعد أن وجدوا آلهتهم جذاذاً إلا كبيراً لهم، وبعد أن تساءلوا عمن فعل هذا بآلهتهم وظنوا أنّه إبراهيم.
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} : من زف يزفُ بمعنى أسرع يُسرع، أي: اتجهوا إليه أو نحوه مسرعين.
ولم يُذكر في هذه السّورة ما جرى بين إبراهيم وقومه من الحوار كاملاً وذكر ذلك في سورة الأنبياء آية (59-62).
سورة الصافات [37: 95]
{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} :
{أَتَعْبُدُونَ} : استفهام إنكاري وتقريع، العبادة تعني: امتثال أوامر المعبود وتجنب نواهيه.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
{تَنْحِتُونَ} : من النّحت الصّناعة من حجر أو خشب أو من فضة أو ذهب.
ثم قال لهم: {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 67].
سورة الصافات [37: 96]
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} :
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا} : وما بمعنى الّذي، أي: الله خلقكم وآلهتكم (أصنامكم).
{تَعْمَلُونَ} : أيْ: بأيديكم من الأصنام والتّماثيل والآلهة، وما تعملون من النّحت والتّصوير والتّجارة.
سورة الصافات [37: 97]
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} :
بعدما أصابتهم الحيرة أمام إبراهيم أرادوا به كيداً فقالوا:
{ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} : البنيان هو البناء الثابت الأثري، واملؤوه بالحطب وأوقدوا النّار، ثمّ ألقوا إبراهيم فيه، له: اللام لام الاختصاص له خاصة.
{فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة؛ الجحيم: أي: إذا اضطربت وتأججت ألقوه في النّار المستعرة المتأجِّجة.
سورة الصافات [37: 98]
{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} :
{فَأَرَادُوا بِهِ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، أرادوا به: أيْ: بإبراهيم.
{كَيْدًا} : الكيد: هو إيقاع المكروه بالغير قهراً سواء علم أو لا، والكيد أقوى من المكر، والكيد هو إحراقه على مرأى من النّاس.
{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} : ردّاً على قولهم: فألقوه في الجحيم بما أنّ الإلقاء يكون من الأعلى إلى الأسفل، فجاء الرّد على كيدهم كأنّهم هم الّذين سقطوا في النار بدلاً من إبراهيم.
فكانوا هم الأسفلين وإبراهيم عليه السلام لم يُصَبْ بأيِّ أذى.
وإذا قارنا هذه الآية {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} مع الآية (69) من سورة الأنبياء {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} :
نجد في سورة الأنبياء قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم، فجاء الرّد فجعلناهم الأخسرين مقابل انصروا آلهتكم (النّصر قابله بالخسارة).
وفي سورة الصّافات مقابل الإلقاء (من أعلى إلى أسفل) جعلهم هم الأسفلين.
سورة الصافات [37: 99]
{وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ} :
{وَقَالَ} : إبراهيم عليه السلام بعد نجاته من النّار وعدم استجابة قومه لدعوته.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى} : أيْ: مهاجر إلى ربي أو إلى حيث أمرني ربي، وهي الهجرة إلى الشّام.
{سَيَهْدِينِ} : السّين للاستقبال القريب، سيهدين إلى أين أذهب لإقامة الدّعوة والتّبليغ ولإعلاء كلمته وعبادته، وسيهدين عامة تشمل إبراهيم وغيره فكل من يهاجر إلى الله سبحانه سيهديه، وليست خاصة بإبراهيم وحده ولو كانت تعني: إبراهيم وحده لقال سيهديني.
سورة الصافات [37: 100]
{رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ} :
ثمّ دعا إبراهيم عليه السلام ربه فقال:
{رَبِّ هَبْ لِى} : الهبة: العطاء من دون مقابل، ارجع إلى سورة إبراهيم الآية (39) للبيان، أي: ارزقني.
{مِنَ الصَّالِحِينَ} : ذرية صالحة أو ولداً صالحاً يحمل الرّسالة من بعده ويتحمل مسؤولية النّبوة، من ابتدائية بعضية، أيْ: بعض الصّالحين.
سورة الصافات [37: 101]
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} :
{فَبَشَّرْنَاهُ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، بشرناه: من البشارة وهي الخبر السّار لأوّل مرة.
{بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} : الباء للإلصاق، غلام حليم: هو إسماعيل، كما قال أكثر المفسرين، وحليم: ذو حلم وصبر وأناة ولا يستفزه الغضب وإسماعيل أكبر من إسحاق بـ (13) سنة، ولم يقل: غلام عليم: يعني: إسحاق، كما جاء في سورة الذّاريات (28) والّذي يؤيد أنّه إسماعيل قوله في الآية (112) من نفس السّورة:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} أيْ: بعد ذكر حادثة الذبح جاء ذكر البشارة بإسحاق.
سورة الصافات [37: 102]
{فَلَمَّا} : الفاء عاطفة، لما: ظرفية للزمان الماضي بمعنى حين.
{بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ} : أي: بلغ إسماعيل السّن الّذي يقدر فيه على السّعي؛ أي: العمل كما قال ابن عباس. قيل: (13) سنة وهو المرجح، معه: أيْ: مع أبيه إبراهيم عليه السلام ، بلغ معه السعي، ولم يقل بلغ السعي بشكل عام؛ لأن إسماعيل في ذلك العمر له قدرته وطاقته على العمل فيقوم بما يقدر عليه ويترك ما لا يقدر عليه لأبيه، وأبوه لن يكلفه إلا على قدر طاقته وقدرته فهذا هو سر بلغ معه.
{قَالَ يَابُنَىَّ} : فيها معنى العطف والحنان ولم يقل: يا ابني.
{إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ} : إنّي للتوكيد، أرى في المنام: ولم يقل: رأيت في المنام أرى تدل على كثرة الرّؤيا والتّجدُّد. فقد رأى إبراهيم نفس الرّؤيا في كلّ ليلة لمدة ثلاث ليال، فلو رأى الرّؤيا مرة واحدة لقال: رأيت. كما جاء في سورة يوسف آية (4) حين قال: {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} .
{أَنِّى أَذْبَحُكَ} : أيْ: لم يَرَ إبراهيم أنّه ذبح إسماعيل في منامه بيده، وإنما أُمر في المنام بذبحه، ويدلُّ على ذلك قوله: افعل ما تؤمر، أي: ما طلب منك.
{فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} أيْ: فكِّر وتدبَّر في هذه الرّؤيا، ماذا: استفهام أقوى وآكد من حرف ما.
ماذا ترى من الرّأي على وجه المشاورة (وهو في سن 13 سنة) وشاوره ليعلم إسماعيل ما يقوله أبوه إبراهيم أنّه بلاء من الله، ويثبته ويصبره ويعلمه الانقياد إلى أمر الله، فهو أمام أمرين الأمر الأوّل البرُّ بربِّه، والثّاني البرُّ بأبيه.
{قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} :
{قَالَ} : إسماعيل لأبيه إبراهيم: افعل ما تؤمر به.
{سَتَجِدُنِى} : السّين للاستقبال القريب.
{إِنْ شَاءَ اللَّهُ} : إن شرطية.
{مِنَ الصَّابِرِينَ} : من ابتدائية، ولم يقل: صابراً من الصّابرين أفضل من صابر؛ لأن الدّعاء بصيغة الجمع أفضل من الدّعاء بصيغة الإفراد من الصّابرين على قضاء الله وقدره.
سورة الصّافات [الآيات 103- 126]
سورة الصافات [37: 103]
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} :
{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب الذّكري، لما: ظرفية زمانية للماضي بمعنى حين.
{أَسْلَمَا} : الابن إسماعيل أسلم نفسه لله، وأسلم الأب إبراهيم ابنه لله وكلاهما رضيا بقضاء الله وحكمه وعزما على تنفيذ أمره، أو فوَّضا أمرهما لله تعالى.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} : أصل تلَّه ألقى به على التّل (مجمع الرَّمل)، والجبين هو الجزء الخارجي المجاور للجبهة، وللوجه جبينين وجبهة، وتلَّه للجبين، أيْ: أضجعه على جبينه فصار أحد جبينيه على مجمع الرّمل كي لا يرى وجهه وهو يتعذَّب، وأصبح هذا المكان فيما بعد مكان رمي الجمرات، وقد وصف الله سبحانه إسماعيل بثلاث صفات: الحليم، صادق الوعد، ومن الصالحين، كما ورد في الآية (100-101) في هذه السورة، والآية (54) من سورة مريم، وللجبين: اللام لام الاختصاص، أيْ: غائراً أو ملازماً لجبينه.
وقد ذكر الله سبحانه الجبهة في القرآن، فقال تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التّوبة: 25].
سورة الصافات [37: 104]
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} :
{وَنَادَيْنَاهُ} : الواو للتوكيد، أن تفيد التّعليل، أيْ: قد صدقت الرّؤيا بعد أن حاول إبراهيم بالفعل ذبح ولده بالسكين، ولكن الله سبحانه نزع منها خاصية القطع أو الذبح وحولها إلى أداة غير حادة.
سورة الصافات [37: 105]
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
{قَدْ} : للتحقيق، أيْ: قد حققت المطلوب منك.
{صَدَّقْتَ الرُّءْيَا} : الرؤيا: ما يراه النائم في منامه، ورؤيا الأنبياء صدق؛ أي: جعلت الرّؤيا المنامية رؤيا صادقة، والرؤيا تختلف عن أضغاث الأحلام المختلطة، والتي قد لا تكون صادقة.
{إِنَّا كَذَلِكَ} : إنا للتعظيم، كذلك: الكاف للتشبيه، ذلك: اسم إشارة يشير إلى ما فعله إبراهيم عليه السلام بالقيام بما أمره الله به.
أيْ: كما عفونا إبراهيم عن ذبح ولده وخلصناه من ابتلائه:
{نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} : أيْ: نجزي كلّ محسن على طاعته وامتثاله أوامر الله أيْ: ننجيه من كربته وشدته ومحنته، ونثيبه على صبره وإحسانه وإخلاصه.
سورة الصافات [37: 106]
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاؤُا الْمُبِينُ} :
{إِنَّ} : للتوكيد، واللام في كلمة لهو لزيادة التّوكيد.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى ما ابتلينا به إبراهيم من ذبح ولده.
{لَهُوَ} : اللام لزيادة التّوكيد، هو للتوكيد أيضاً.
{الْبَلَاؤُا الْمُبِينُ} : البلاء: هو الاختبار بالمكروه أو الشدة أو الكرب لاستخراج أو معرفة ما عند العبد من الطّاعة والصّبر، والبلاء قد يكون بالخير والشّر، أي: ابتلاء إبراهيم بذبح إسماعيل وصبر إسماعيل على تنفيذ حكم الله تعالى هو من أشد الابتلاءات على الإطلاق، المبين: الّذي يَقرُّ به كلّ فرد ـ والمبين الواضح ـ لا يحتاج إلى دليل أو بيِّنة أنّه أصعب وأشد الابتلاءات.
سورة الصافات [37: 107]
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} :
{وَفَدَيْنَاهُ} : الواو عاطفة، فديناه: من الفداء: هو ما يُجعل بدل الشّيء سواء كان مثله أو أنقص منه، والهاء في فديناه تعود على إسماعيل عليه السلام ، أيْ: بدلنا ذبح إسماعيل عليه السلام بذبح كبش عظيم.
والأدلة كثيرة على أنّ الذّبيح كان إسماعيل عليه السلام منها:
الآية (112) من نفس السّورة الّتي جاءت بعد ذكر الذّبح لتبشر بقدوم إسحاق.
كون إسماعيل ابنه الوحيد في تلك الفترة الزّمنية وكون إسماعيل عاش في مكة ولم يكن في الشّام.
{بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} : كبش كبير أملح لا عيب فيه.
سورة الصافات [37: 108]
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْآخِرِينَ} :
ارجع إلى الآية (78) تركنا عليه في الأجيال الّتي جاءت بعده بالذّكر والثّناء الحسن بالقول عند ذكر إبراهيم عليه السلام عليه وسيرته الحسنة الّتي يتداولها النّاس.
سورة الصافات [37: 109]
{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} :
سلام من الله تعالى على إبراهيم وملائكته، وسلام عليه من كلّ من يذكر اسمه من الإنس والجن، سلام تحية وسلام وأمن في الآخرة، وسلام من كل مكروه ومن النار.
سورة الصافات [37: 110]
{كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
لم يذكر (إنا) في هذه الآية؛ لأنّه ذكرها في الآية (105) فاكتفى بذكرها هناك.
أيْ: كما جزينا إبراهيم عليه السلام نجزي غيره من المحسنين بالذّكر والثّناء الحسن سواء في الملأ الأعلى، أو في الأرض، وكما قال تعالى:{فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] نجزي المحسنين الدّرجات العُلى.
سورة الصافات [37: 111]
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} :
ثناء وشهادة أخرى لإبراهيم.
ودعوة وحثٌّ إلى الإيمان والترغيب فيه.
وكل محسن مؤمن وليس كلّ مؤمن محسناً.
فالإيمان يسبق الإحسان، وقد تعني: أنه كان من عبادنا المؤمنين قبل أن يكون من المحسنين.
سورة الصافات [37: 112]
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} :
{وَبَشَّرْنَاهُ} : الواو عاطفة، بشرناه: أيْ: بشرته ملائكتنا حين دخلوا على إبراهيم، وهم في طريقهم إلى قوم لوط بشروا إبراهيم بغلام عليم، كما ورد في سورة الذّاريات الآية (28)، وإضافة الله سبحانه للملائكة؛ لأنّ البشرى هي أصلها من الله تعالى وتشريفاً لإبراهيم وتكريماً له والبشرى هي الخبر السّار لأوّل مرة.
{بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} : الباء للإلصاق واللزوم، بإسحاق (من امرأته سارة) وبأنّ هذا الولد سيكون نبياً من الصّالحين، فالبشارة تحمل بشارتين الأولى الولادة والثّانية النّبوة.
{مِنَ الصَّالِحِينَ} : من ابتدائية، الصّالحين: ارجع إلى الآية (130) من سورة البقرة للبيان.
سورة الصافات [37: 113]
{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} : البركة في اللغة هي الزّيادة والنّماء ومشتقة من البروك وهو اللزوم والثّبوت، أيْ: تعني كلّ خير إلهي ثابت ولازم ولا يسند فعل البركة إلا إلى الله وحده.
وباركنا عليه، أيْ: على إبراهيم بكثرة الذّرية بأن جعل من صلبه أكثر الأنبياء والرّسل وباركنا عليه بالنّعم والبركات الدّنيوية والأخروية، فقد أصبح خليل الرّحمن وأولو العزم من الرّسل ومن المقربين.
{وَعَلَى إِسْحَاقَ} : أيْ: وباركنا على إسحاق بيعقوب وأولاده الأسباط ويوسف وبنيامين.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} : من ابتدائية، ذريتهما: أيْ: إبراهيم وإسحاق، والذرية هم: النّسل، أي: الأولاد.
{مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} : محسن: المؤمن المتقي الّذي لم يقتصر إحسانه على نفسه، وإنما تعداه إلى غيره وأصبح محسناً كماً وكيفاً ومراقباً الله تعالى في أعماله. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة لبيان معنى المحسنين، وظالم لنفسه: إمّا بالشّرك أو بالعصيان أو بالتّقصير في عبادته، مبين: ظاهر الظّلم أو بين العصيان، ظلمه ظاهر لكلّ من يطلع عليه ويعرفه، وظلمه غير خفي ولا يحتاج إلى دليل أو برهان.
ومن هذه الآية وغيرها يتبين أنّ قول إبراهيم عليه السلام حين ابتلاه ربُّه بكلمات فأتمهن قال: إنّي جاعلك للناس إماماً، قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِى قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
سورة الصافات [37: 114]
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} :
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق، أي: قد تحقق وتم ذلك.
{مَنَنَّا} : بصيغة الجمع للتعظيم، والمن: الإنعام والعطاء.
{عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} : على موسى وأخيه هارون بالنّبوة والرّسالة.
سورة الصافات [37: 115]
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} :
{وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} : أي: نجينا موسى وهارون وقومهما، أي: بني إسرائيل، والنّجاة تعريفها: النّجاة من الأمر المكروه فقط، وأمّا الفوز فهو النّجاة من الأمر المكروه، والنيل أو الوصول إلى الأمر المرغوب فيه أو الغاية.
{مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} : من ابتدائية، الكرب تعريفه، ارجع إلى الآية (76) من نفس السّورة والكرب العظيم: هو من الغرق والهلاك في البحر، كما قال تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50]، ولا يجوز خلطه بالنّجاة من البلاء العظيم: وهو النّجاة من آل فرعون {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، إذن هناك نجاة من البلاء العظيم ببطء (وإذ نجيناكم) ونجاة من الكرب العظيم بسرعة (فأنجيناكم).
سورة الصافات [37: 116]
{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} :
{وَنَصَرْنَاهُمْ} : الضّمير يعود على موسى وهارون وقومهما، نصرناهم: على فرعون وجنوده، نصرناهم: من النّصر: هو الغلبة العسكرية المادية بالقوة والسّلاح مقارنة بالفتح هو النّصر من دون قتال أو قوة وسلاح، كما قال تعالى في سورة طه آية (-78- 80):{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ} .
{فَكَانُوا هُمُ} : للتوكيد، والفاء للترتيب والمباشرة.
{الْغَالِبِينَ} : الغلبة تكون بالقدرة، وقد تكون بالحُجَّة والبرهان والسّلطان، الغالبين على فرعون وجنوده.
سورة الصافات [37: 117]
{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} :
{وَآتَيْنَاهُمَا} : أي: موسى وهارون، الإيتاء يختلف من العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان.
{الْكِتَابَ} : التّوراة الكتاب، جاء بأل التّعريف ليدل على الكمال.
{الْمُسْتَبِينَ} : الواضح البيِّن الأحكام والشّرائع.
سورة الصافات [37: 118]
{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} :
وهديناهما الصّراط المستقيم: هو الإسلام دين الحق الّذي جاء به كافة الرّسل والصّراط المستقيم هو الطّريق الواسع السّهل المستقيم الموصل إلى الغاية بأقصر زمن ومسافة.
سورة الصافات [37: 119]
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الْآخِرِينَ} :
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا} : أي: خلفنا لهما الذّكر والثّناء الحسن في الأجيال الّتي جاءت بعدهم وسلام الآخرين عليهما حين ذكر أسمائهما.
سورة الصافات [37: 120]
{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} :
ارجع إلى الآية (109) من نفس السّورة للبيان.
سورة الصافات [37: 121]
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{كَذَلِكَ} : ارجع إلى الآية (80) للبيان.
أي: كما مننا وأنجينا ونصرنا وآتينا وهدينا وتركنا عليهما في الآخرين، نمن وننجي وننصر ونؤتي ونهدي ونترك الذّكر والثّناء الحسن، للمحسنين.
وهذه الآيات تدل على أن رسالتهما كانت واحدة.
سورة الصافات [37: 122]
{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} :
ارجع إلى الآية (111) من نفس السّورة للبيان.
بعد أن ذكر الله سبحانه نوح وإبراهيم وموسى وهارون يذكر ثلاثة من الرّسل إلياس ولوط ويونس.
سورة الصافات [37: 123]
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} :
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ} : إنّ للتوكيد، إلياس: من سبط هارون، وهو إلياس بن فنحاص من العيزار بن هارون بن عمران أخي موسى، وقيل: إلياس أو إلياسين اسم لمسمَّى واحد، وإلياس نبي من أنبياء بني إسرائيل، بعثه الله تعالى إلى قوم من بني إسرائيل كانوا يعبدون صنماً يقال له بعل في مدينة أو قرية سُمِّيت بعلبك في أرض الشّام فدعاهم إلى التّوحيد والإخلاص لله في العبادة، اسم إلياس في كتب بني إسرائيل إيليا.
سورة الصافات [37: 124]
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ} :
{إِذْ} : واذكر إذ قال لقومه أو اذكر حين قال لقومه.
{قَالَ لِقَوْمِهِ} : فيها شعور بالعطف والحنان.
{أَلَا تَتَّقُونَ} : ألا الهمزة همزة استفهام إنكاري ينكر عليهم شركهم، وألا أداة حثٍّ وحضٍّ، تتقون: تتقون الله سبحانه وتعالى، أيْ: تتقون عذابه أو ناره وتتقون سخطه وغضبه، وذلك بامتثال أوامره وطاعته وتجنُّب نواهيه.
سورة الصافات [37: 125]
{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} :
{أَتَدْعُونَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، أتدعون، أيْ: أتعبدون.
{بَعْلًا} : اسم الصّنم، والبعل في اللغة: يعني السيد القائم، وبعلُ المرأة سيدها، وفيها معنى الاستعلاء؛ أي: يعتبرون هذا الصنم سيدهم وأعلاهم فيعبدونه.
{وَتَذَرُونَ} : تتركون أو تعرضون عن عبادة الإله الحق المستحق للعبادة وحده.
{أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} : ارجع إلى سورة المؤمنون الآية (14) وكأنّهم سألوه من هو أحسن الخالقين؟ فقال:
سورة الصافات [37: 126]
{اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} :
جمع في هذه الآية صفتي الألوهية والرّبوبية معاً، وأنّه هو الله وهو الرّب وهو رب كلّ شيء ورب الأولين والآخرين.
فصفة الرّبوبية تدل على الخلق والتّربية والرّزق والتّدبير، أمّا صفة الألوهية فتدل على العبودية على أنّه هو الإله الحق الّذي يستحق العبادة، فلا معبود إلا هو، وهو الرّب المحيي والمميت واجب الوجود، وهو الخالق الحقيقي وحدَه.
سورة الصّافات [الآيات 127- 153]
سورة الصافات [37: 127]
{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} :
{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، أيْ: كذبه قومه مباشرة كذبوا نبوته ورسالته وما دعا إليه من توحيد.
{فَإِنَّهُمْ} : الفاء للتوكيد.
{لَمُحْضَرُونَ} : اللام للتوكيد، محضرون: جمع مُحضر، أيْ: تحضرهم الملائكة قسراً ومن دون إرادتهم يوم القيامة إلى جهنم. ومحضرون لا تأتي إلا في سياق العذاب في كل القرآن.
سورة الصافات [37: 128]
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : الّذين أخلصوا لله في عبادتهم ووحَّدوه من قوم إلياس، أولئك ينجون ولا يُحضرون إلى العذاب.
سورة الصافات [37: 129]
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْآخِرِينَ} :
ارجع إلى الآية (78) من نفس السّورة.
سورة الصافات [37: 130]
{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} :
سلام من الله وملائكته على آل الياسين، أيْ: عليه وعلى آل ياسين (الّذين آمنوا معه).
سورة الصافات [37: 131]
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
إنا: للجمع والتّعظيم، أيْ: كما أنجينا آل ياسين من العذاب ننجي المحسنين، إنا للتعظيم وتحمل معنى التّوكيد والتّعليل. ارجع إلى الآية (80) لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 132]
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} :
{إِنَّهُ} : إنّ للتعليل للإنعام عليه كونه من عبادنا المؤمنين أو علَّة الإحسان عليه أنّه من عبادنا المؤمنين. ارجع إلى الآية (111) لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 133]
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} :
{وَإِنَّ} : للتوكيد، لمن: اللام في لمن لزيادة التّوكيد.
{لُوطًا} : هو ابن هاران أخي إبراهيم، خرج لوط مع عمه إبراهيم عليه السلام مهاجراً بعد أن آمن له أيْ:(صدق إبراهيم) بعد حادثة إلقاء إبراهيم في النّار فأرسله الله سبحانه إلى قرى سدوم وعمورة الّتي سُمِّيت بالمؤتفكات.
{الْمُرْسَلِينَ} : بالجمع: جمع مرسل رغم أن لوطاً كان أحد المرسلين؛ لأن من يكذب رسولاً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن رسالتهم واحدة من الله سبحانه إلى أقوامهم. ولقد ذُكر لوطٌ عليه السلام في القرآن في (27) آية بينما ذُكر عيسى عليه السلام في (25) آية؛ مما يدل على أن دعوة لوط كانت دعوة شاقة إلى الذين يعملون الخبائث.
سورة الصافات [37: 134]
{إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} :
{إِذْ نَجَّيْنَاهُ} : أي: اذكر إذ نجيناه أو اذكر حين نجيناه وأهله، ونجيناه تدل على طول الزمن في دعوته لقومه.
{وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} : الأهل: تُطلق على الزوجة والأولاد وعشيرة الرّجل الأقربين. أهله: ابنتيه، أجمعين توكيد.
سورة الصافات [37: 135]
{إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء؛ لأن امرأته كانت من أهله.
{عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ} : أي: امرأة لوط الكافرة لم تكن على دينه، في الغابرين: جمع غابر والغابر تعني: الباقي أو تعني الشّيء الّذي مضى وانتهى.
في الغابرين: أي: الباقين في العذاب.
سورة الصافات [37: 136]
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} :
{ثُمَّ} : لتباين الصّفات أو البعد بين النّجاة والدّمار.
{دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} : دمرنا قومه بأن جعلنا قراهم عاليها سافلها وأرسل عليهم حجارة من طين، أيْ: أهلكناهم ودمرنا قراهم تدمير فلم ينجو منهم أحد.
سورة الصافات [37: 137]
{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} :
{وَإِنَّكُمْ} : للتوكيد، واللام في لتمرون والنّون في تمرون كلّها للتوكيد.
{لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ} : تمرون عليهم في قراهم قرى قوم لوط، في أسفاركم صباحاً ومساءً، مصبحين وقت الصّباح أو وقت دخول الصّباح.
سورة الصافات [37: 138]
{وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :
أيْ: وتمرون عليهم بالليل في أسفاركم.
{وَبِالَّيْلِ} : الباء للإلصاق، والباء تعني: أيَّ وقت في الليل غير محدَّد ولم يقل: في الليل، وتعني: وقتاً محدَّداً بالليل.
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ لعدم تفكرهم وتدبرهم والفاء للتوكيد، وألا أداة حضٍّ وحثٍّ على التّفكير، فلو فكروا أو عقلوا لعلموا أنّ الله الّذي أهلك ودمَّر قوم لوط قادر على أن يهلك ويدمِّر كفار قريش.
ولم يذكر سلام على لوط في العالمين؛ لأنّه أُدخل في عداد المرسلين ونال السّلام من الله عليه في الآية القادمة (181) حين قال: وسلام على المرسلين.
سورة الصافات [37: 139]
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} :
{وَإِنَّ} : للتوكيد.
{يُونُسَ} : يونس بن متى الملقب بذي النّون.
{لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} : لمن: اللام للتوكيد، من ابتدائية، المرسلين من ربهم إلى أقوامهم.
سورة الصافات [37: 140]
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} :
{إِذْ} : واذكر إذ أَبَقَ أو اذكر حين أَبَقَ.
{أَبَقَ} : تستعمل تحديداً للعبد الّذي يهرب بسرعة وخوف من سيده للتخلص من الأذى والمشقة، فشبه خروج يونس عليه السلام من بين قومه وترك البلد بغير إذن أو أمر من ربه بهروب العبد من سيده، ولهذا الإباق سبب فسرته الآيات الأخرى، فانظر في سورة الأنبياء الآية (87).
{إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} : الفلك تستعمل للمفرد والجمع، والمشحون: المملوء بقوم نوح الذين نجوا معه، وبعض الحيوانات الأليفة والمتاع.
رُوِيَ عن ابن عبّاس قال: لما أنذر يونس قومه بالعذاب القريب فلما تأخَّر نزول العذاب خرج يونس متخفياً فقصد البحر فركب السّفينة فبعد أن ركب فيها توقفت حركتها لا تتقدَّم ولا تتأخَّر، فقال ركاب السّفينة: فيها عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، وأعادوا ذلك ثلاث مرات، وفي كلّ مرة يخرج اسمه، فقال يونس: أنا العبد الآبق فألقوه في البحر.
سورة الصافات [37: 141]
{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} :
{فَسَاهَمَ} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، ساهم: شارك في القرعة، من المساهمة: مشتقة من السّهام الّتي واحدها سهم وهي أعواد النّبال، وتسمَّى الأزلام أيضاً، فساهم: فقارع، فساهم، أيْ: دخل معهم في القرعة (طريقة للاختيار) وألقى بسهمه مع سهامهم.
{فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} : الفاء للترتيب والمباشرة، من المدحضين: المدحض هو الخاسر أو المغلوب، من المغلوبين في القرعة والدّحض أصله الطّين الّذي يزلق القدم، وأدحضه أزاله عن مكانه، وعملية إلقاء السّهام عملية قدرية خالصة لا دخل لها فيها للهوى ودليل على العدالة.
وهلاك واحد من الرّكاب أفضل وخيرٌ من هلاك الجميع، وقيل عندها: ألقوا يونس في البحر والاقتراع مشروع فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى البخاري ومسلم عن عائشة i قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» ، ولم يبين الشرع طريقة معينة للقرعة فبأي طريقة تمت فهو جائز.
سورة الصافات [37: 142]
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} :
{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، التقمه الحوت، أي: التقمه الحوت بسرعة من لقم الشّيء تَلَقَّمه، أيْ: بقي كاللقمة في فم الحوت ولم يبلعه وينزل إلى معدته والحوت قد يكون إحدى الحيتان الزرقاء الضخمة البنيان ذات الوزن العظيم، وليس له أسنان وبقي يتنفس الهواء، أي: الأوكسجين الموجود في فم الحوت الواسع فترة من الزّمن، ثمّ نبذه الحوت، أي: طرحه وألقاه من فمه، وقيل: كان ذلك في نهر دجلة.
{وَهُوَ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مُلِيمٌ} : أي: فعل يونس عليه السلام فعلاً أو شيئاً يُلام عليه: أيْ: يُعاتب عليه من ربه واللوم نوع من العتاب أو ضرب من العتاب والعتاب دليل على المحبة، ولا يصل إلى درجة العقاب، والعتاب يحصل بين الأحبة، فأنت لا تعاتب إلا من تحرص على صحبته.
ومليم: مكتسب أو مستحق أن يُلام لكونه فارق قومه بغير إذن من ربه كما يفعل الهارب من سيده، وأَلامَ الرّجل: إذا أتى ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلم، أمّا الملوم: فهو الّذي يُلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا.
سورة الصافات [37: 143]
{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} :
{فَلَوْلَا} : الفاء السّببية، لولا: حرف امتناع لوجود، أيْ: تسبيحه في حياته منعه من اللبث والبقاء في بطن الحوت إلى يوم يبعثون.
{أَنَّهُ} : للتوكيد.
{كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} : أيْ: كان من الذّاكرين الله كثيراً والمسبحين بحمده والتسبيح يعني: الذّكر بشكل عام والدّعاء، أو المصلين (التّسبيح يعني: الصّلاة)، من: ابتدائية، المسبحين: جمع مسبِّح: وتدل على أن صفة التّسبيح مستمرة عندهم ثابتة. ارجع إلى سورة القلم آيات (48-50) لمزيد من البيان، وسورة الأنبياء آية (87-88).
سورة الصافات [37: 144]
{لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} :
{لَلَبِثَ} : اللام للتوكيد، لبث: مكث وأقام، قيل:(40) يوماً، وقيل:(20) يوماً، وقيل: سبعة أيّام. اللبث: يقترن بزمن محدَّد؛ بينما المكث يدل على زمن غير محدد.
{فِى بَطْنِهِ} : في ظرفية، بطنه: تعود على الحوت، ولم يكن يونس في بطن الحوت كما قلنا، بل في فم الحوت، ولكن لو أراد الله أن يقضي على يونس لأماته، ثمّ نزل في بطن الحوت ومات، ثمّ بعد أن يميت الله الحوت فينزل إلى قاع البحر أو المحيط ويطمر في رسوبيات البحر مع الطّين والرّمل ويتحجر الحوت، ويصبح قبراً ليونس، ثمّ حين يُبعث الخلائق يوم البعث يبعث منه يونس.
{إِلَى} : حرف غاية.
{يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : يوم البعث والقيام لرب العالمين، أيْ: يصبح بطن الحوت قبراً له إلى يوم البعث (زمن النّفخة الثّانية).
سورة الصافات [37: 145]
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} :
{فَنَبَذْنَاهُ} : الفاء للترتيب والمباشرة، نبذناه: النّبذ هو الطّرح والإلقاء للشيء استهانة به، وأمّا الطرح فأعم من النبذ، ويكون للشيء المهم وغير المهم.
{بِالْعَرَاءِ} : الفضاء الواسع من الأرض أو الأرض العارية من الشّجر أو النّبات، مشتقة من العُري: عدم السّترة.
{وَهُوَ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{سَقِيمٌ} : مريض عليل أو ضعيف الجسم لما مرَّ عليه من الزّمن من دون طعام أو شراب. ارجع إلى الآية (89) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين سقيم ومريض.
سورة الصافات [37: 146]
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} :
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} : أي: الدّباء أو القرع، وتمتاز شجرة اليقطين بسرعة النّمو وورقها العريض الممتد فوق الأرض وأنّه لا يقربها الذّباب، وتحتوي على المضادات الحيوية المهمة في ترميم الجروح وتقرحات الجلد، كما دلت الدراسات العلمية.
فكانت الشّجرة تضله وتحميه من الذّباب والحشرات وهي شجرة لم تكن موجودة سابقاً في هذا المكان، فهي من قدرة الله وعظمته، وكأنّها تحمل معها الدّواء والغذاء الغني بالأملاح والسكريات، وكلّ ما يحتاجه للشفاء العاجل للعودة إلى قومه مرة أخرى.
سورة الصافات [37: 147]
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} :
{وَأَرْسَلْنَاهُ} : مرة أخرى إلى القوم الّذين هرب منهم وعددهم أكثر من مئة ألف، وقوله تعالى: أو يزيدون تعني: بل يزيدون عن مئة ألف، وما جرى لقوم يونس أنّهم لما تركهم يونس تضرعوا إلى الله تعالى وآمنوا فرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
سورة الصافات [37: 148]
{فَـئَامَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} :
{فَـئَامَنُوا} : الفاء للترتيب والمباشرة، آمنوا بالله، أي: استمروا على إيمانهم بعد عودة يونس إليهم.
{فَمَتَّعْنَاهُمْ} : الفاء للترتيب والمباشرة، متعناهم: المتاع: من الانتفاع والتّمتع بالمأكل والمشرب والمسكن والملبس والحياة.
{إِلَى حِينٍ} : إلى: حرف غاية، إلى حين أجلهم المسمَّى أو منتهى أعمارهم.
ثم ينتقل إلى الكلّام إلى قريش، ولم يقل: سلام على يونس في العالمين: لأنّه أبق إلى الفلك المشحون من دون إذن أو إيحاء من الله تعالى، وكانت النّهاية فالتقمه الحوت وهو مُليم، فلا يناسب بعد اللوم السّلام، ولكنه دخل في عداد المرسلين حين سلَّم الله تعالى عليهم، وقال:{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصّافات: 181].
سورة الصافات [37: 149]
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} :
المناسبة: بعد أن جاءت الآيات السابقة في تقرير البعث والتوحيد بالبراهين والأدلة أراد الله سبحانه إبطال مقولة الذين زعموا أن الملائكة هم بنات الله سبحانه وتعالى، وهم كما قال القرطبي قبائل جهينة وخزاعة وبني سلمة وعبد الدار وغيرهم.
{فَاسْتَفْتِهِمْ} : الفاء للاستئناف، أي: اطلب الفتوى من مشركي مكة وغيرهم من الأعراب على سبيل التّهكم والتّوبيخ، اسألهم ما الخبر.
{أَلِرَبِّكَ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري والإبطالي.
{الْبَنَاتُ} : حيث جعلوا الملائكة بنات الله، كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزّخرف: 19].
{وَلَهُمُ الْبَنُونَ} : لهم: اللام لام الاختصاص؛ لأنّهم كانوا يظنون أنّ الجنس الأفضل هم الذّكور.
ويؤيِّد ذلك قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 55-59]، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزّخرف: 17-18].
سورة الصافات [37: 150]
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} :
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، والهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.
{خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} : أيْ: أُحضروا يوم خلقنا الملائكة وشهدوا كيف خلقناهم، فعرفوا بذلك أنّهم إناث أم شهدوا ولادة أحد الملائكة كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْـئَلُونَ} [الزّخرف: 19]، أم هذا من وسوسة الشّياطين لهم والتّزيين والإضلال ليزعموا أنّ الملائكة إناثاً، وهم: للتوكيد، شاهدون: حاضرون.
سورة الصافات [37: 151]
{أَلَا إِنَّهُمْ مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} :
{أَلَا} : أداة استفتاح.
{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.
{مِّنْ} : ابتدائية.
{إِفْكِهِمْ} : الإفك هو الكذب المتعمد الناتج عن قلب الحقائق أو الحقيقة، وهو أشد الكذب.
{لَيَقُولُونَ} : اللام للتوكيد، وكذلك النّون في كلمة يقولون تفيد زيادة التّوكيد، يقولون: بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والتّكرار، وأنّهم استمروا يقولون الإفك: وَلَدَ الله، أو لحكاية الحال ليدل على بشع كذبهم كأنّهم يقولونه الآن.
سورة الصافات [37: 152]
{وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :
أيْ: إفكهم لم يتوقف بأن زعموا الملائكة بنات الله أو أنّ الملائكة إناثاً، بل طغى إلى قولهم: وَلَدَ الله أن نسبوا لله الولد فقالوا: المسيح ابن الله أو العزير ابن الله، فردَّ الله عليهم سبحانه:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].
وقولهم: {وَلَدَ اللَّهُ} : أشد سوءاً وطغياناً من قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] اتخذ الله ولداً يعني: تبنى الله ولداً وهي أهون من وَلَدَ الله، ورد الله سبحانه عليهم بقوله:{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].
{وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} : إنّ للتوكيد واللام في كلمة لكاذبون لزيادة التّوكيد، وكاذبون: تفيد أنّ صفة الكذب ثابتة عندهم ومستمرة.
سورة الصافات [37: 153]
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} :
{أَصْطَفَى} : الهمزة للإنكار والتّعجب والاستبعاد والتّوبيخ، اصطفى: اختار (من نفس الجنس) ثبتت همزة الاستفهام وحذفت همزة الوصل؛ أي: أصطفى أصلها أَاِصطفى، استفهم مرة أخرى منهم، أربك اصطفى البنات الجنس الأدنى على الجنس الأعلى وهو خالق الجنسين؟، ثمّ أتبع الله سبحانه ذلك الاستفهام باستفهامين آخرين (ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون).
سورة الصّافات [الآيات 154- 182]
سورة الصافات [37: 154]
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} :
{مَا} : للاستفهام والتّوبيخ والإقرار والتّعجُّب.
{لَكُمْ} : اللام للاختصاص.
{كَيْفَ} : للاستفهام عن الحال وتفيد التّوبيخ والتّقرير.
{تَحْكُمُونَ} : أيْ: كيف تحكمون بعقولكم هذا الحكم الفاسد السّيِّئ الّذي لا يقبله أيُّ عقل لكم ما تشتهون ولله ما تكرهون، أو ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم، فهذا حكم عجيب ما كان يصح أن يصدر من أحد.
سورة الصافات [37: 155]
{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :
يتتابع الاستفهام والتّوبيخ لهم.
{أَفَلَا} : الهمزة للاستفهام والإنكار والتّوبيخ، ألا للحثِّ والحضِّ.
{تَذَكَّرُونَ} : أنه منزَّه عن الولد والشّريك والنّد والصّاحبة، وليس بحاجة إلى هؤلاء، وقد أُخبرتم بهذا سابقاً المرات الكثيرة، فلمَ لا تذكرونه: تذكرون: أيْ: تذكرون بوقت قصير لا تحتاجون إلى الوقت الطّويل للتذكر.
سورة الصافات [37: 156]
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} :
ثمّ ينتقل من الدّليل العقلي المعنوي إلى الدّليل الحسي.
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخي والتّقرير أم للإضراب الانتقالي.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، أيْ: لكم خاصة.
{سُلْطَانٌ مُبِينٌ} : السّلطان إما أن يكون سلطاناً حُجَّةً وبرهاناً على ما تقولون، حقٌّ أو سلطانُ قوة وقهر.
أي: أعندكم حُجَّة وبرهان أنَّ ما تقولونه حقٌّ وليس باطلاً إذن: أخرجوا لنا هذا السلطان، أو هل هناك من قهركم وأرغمكم على القول بذلك.
سورة الصافات [37: 157]
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، فائتوا بكتابكم، أيْ: أحضروا كتابكم الّذي فيه السّلطان والحُجَّة، أيْ: هذا الكتاب الّذي أنزل عليكم من السّماء، يخبركم بأنّ لله ولداً وبناتٍ وصاحبةً، وبينه وبين الجِنة نسباً. الباء للإلصاق والإلزام.
{إِنْ} : شرطية فيها معنى الشّك والافتراض.
{كُنتُمْ صَادِقِينَ} : في أقوالكم أو أفعالكم أم مجرَّد إفك وباطل.
سورة الصافات [37: 158]
{وَجَعَلُوا} : الجعل، أي: التّصيير والضّمير يعود على مشركي وكفار مكة وغيرهم. فهم لم يكتفوا بافترائهم بأن له ولداً أو شريكاً، بل ذهبوا أبعد من ذلك في إفكهم وجعلوا {بَيْنَهُ} أيْ: بين الله سبحانه {وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} : صلةً وارتباطاً ناتجة عن التّزاوج والجنة يعني: الملائكة أو الجن وسُمُّوا بالجنة؛ لأنّهم لا يُرون أو لاستتارهم عن الأبصار، فقد افتروا على الله الإفك فقالوا: إن الله سبحانه تزوج من صنف من الملائكة يقال لهم: الجنَّة، فأصبح له بناتٌ من الملائكة. قاله قتادة وابن السائب.
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
وهناك من قال: إنّ الجِنة هم الجن، وسُمُّوا بالجن؛ لأنّهم لا يُرون أيضاً، فقد جاء عن ابن عبّاس أنّ قريشاً كانت تقول: سروات الجن بنات الرّحمن وأن سروات الجن هن أمهات الملائكة؛ أيْ: أنّ الله تزوج من الجن فجعلوا بينه وبين الجنة نسباً، ويكون معنى ولقد علمت الجنة، أي: الجن إنّهم لمحضرون، إنّهم أنفسهم لمحضرون إلى العذاب.
وقيل هذا ردّاً على زعمهم أن بين الله سبحانه وبين الجِنة (الجِن نسباً) فلن يعذب الله الجن بالنّار فأبطل الله سبحانه ذلك الزّعم.
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد قد للتحقيق.
{عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} : أي: الجن.
{إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} : أيْ: كلّ ما يفتري على الله الكذب، لمحضرون: اللام للتوكيد محضرون إلى العذاب.
سورة الصافات [37: 159]
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} :
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} : يُجيب الله الواحد الأحد عليهم منزهاً ذاته عن الولد والشّريك والنّد ومنزهاً صفاته وأفعاله أن يشاركه فيها أحد من خلقه منزَّه تنزيهاً مطلقاً. ارجع إلى سورة الإسراء آية (1)، وسورة الحديد آية (1) لبيان معنى سبحان الله.
{عَمَّا يَصِفُونَ} : عن تفيد المجاوزة والمباعدة، ما: اسم موصول بمعنى الّذي يصفون أو مصدرية، أيْ: سبحانه عن وصفهم.
وعما يصفون أنّ بينه وبين الجِنة نسباً، أو أنّ له ولداً أو شريكاً أو ندّاً أو صاحبةً، يصفون بصيغة المضارع الدّالة على تجدُّد وتكرار وصفهم أو لحكاية الحال للدلالة على بشاعة وصفهم كأنهم يقولونه الآن؛ فقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي؛ فقوله: لن يُعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي؛ فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد.
سورة الصافات [37: 160]
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} :
قيل: جاءت: سبحان الله عما يصفون اعتراضية، ويكون السّياق: ولقد علمت الجِنة إنّهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين.
{إِلَّا} : أداة استثناء منقطع.
{عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : أيْ: عباد الله المخلصين لا يصفون الله بالنّقائص كما يصف مشركو مكة وكفارها، أو غيرهم أو عباد الله المخلصين لا يكونون من المحضرين في النّار، كما هو حال الجن أو لا يدخلون النّار مع هؤلاء المحضرين.
{الْمُخْلَصِينَ} : ارجع إلى الآية (40) من نفس السّورة للبيان.
سورة الصافات [37: 161]
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} :
{فَإِنَّكُمْ} : الفاء للتوكيد، إنكم: الخطاب موجَّه إلى المشركين والكفار الّذين يفترون على الله الكذب بالولد أو الشّريك أو النّسب أو النّد أو المثيل.
{وَمَا تَعْبُدُونَ} : ما بمعنى الّذي (اسم موصول) أو مصدرية وما أوسع شمولاً من الّذي، أيْ: فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام أو أنتم ومعبوداتكم، أو ما تعبدون من آلهة، أو من دون الله، أو غير الله بشكل متكرِّر ومستمرٍّ مثل الأوثان والأصنام وعيسى أو عزير أو الآلهة أو الطّاغوت.
سورة الصافات [37: 162]
{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} :
{مَا} : النّافية.
{أَنتُمْ} : جميعاً أنتم ومعبوداتكم (الخطاب لعبدة الأصنام).
{عَلَيْهِ} : جار ومجرور، وتقديمها يدل على الحصر، وتعود على الله.
{بِفَاتِنِينَ} : الباء للإلصاق، فاتنين: من الفتنة الابتلاء، وهي أشد من الابتلاء، وتكون بالخير والشر، بالإغواء والوساوس، والإضلال والتّزيين، والنّزغ والفساد؛ فاتنين: من أحد من الإنس والجن، أيْ: لا تستطيعون فتنة أحد عن دينه بأيِّ طريقة، أو قادرين على حمل أحد على الفتنة والفساد بين الله وخلقه.
سورة الصافات [37: 163]
{إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} :
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَنْ هُوَ} : من ابتدائية هو للتوكيد.
{صَالِ الْجَحِيمِ} : أي: لا يستطيعون فتنة أحد إلا من هو صال الجحيم: من هو مستحقٌّ ومستوجبٌ الجحيم، أي: الّذي سبق في علم الله سبحانه أنّه من أصحاب الجحيم، أي: المصرُّ على الشّرك والكفر. ارجع إلى الآية (23) من نفس السورة، وسورة الرعد آية (18) لبيان معنى الجحيم.
سورة الصافات [37: 164]
{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} :
المناسبة: يخبر الله تعالى عن موقف الملائكة وبراءتهم مما قاله المشركون من إفك وباطل أنّهم بنات الله، أو أنّهم إناث، أو بينهم وبين الله تعالى نسباً وصهراً، وأن الملائكة لا يبعدون إلا الله وحده وأنهم منزهون عن كل تلك الافتراءات على الله سبحانه.
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{مِنَّا} : أيْ: واحد منا (من الملائكة).
{إِلَّا} : أداة حصر.
{لَهُ} : اللام لام الاختصاص.
{مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} : مكان في السّموات يقوم فيه للعبادة، أيْ: يُعبد الله فيه ولا يتعدَّاه فمنهم الرّاكع أو السّاجد أو المسبح، وقد يعني: المقام المعلوم درجة أو مرتبة أو مكانته عند الله تعالى.
سورة الصافات [37: 165]
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} :
{وَإِنَّا} : ضمير متصل يفيد الجمع، ويعني: الملائكة.
{لَنَحْنُ} : اللام للتوكيد، ونحن لزيادة التّوكيد.
{الصَّافُّونَ} : للعبادة والصّلاة أو الصّافون حول العرش، أو الصّافون لتلقي أوامر الله تعالى، الصّافون صفة ثابتة فيهم.
سورة الصافات [37: 166]
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} :
{وَإِنَّا لَنَحْنُ} : كما في الآية السّابقة.
{الْمُسَبِّحُونَ} : جمع مسبح والتّسبيح هو تنزيه ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله من كلّ عيب ونقص وعما لا يليق به، فكيف نرضى أن نُعبد من دون الله وخُلقنا لنسبِّحه ليلاً ونهاراً. والتّسبيح يعني: الصّلاة.
وكما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْـئَمُونَ} [فصلت: 38].
{يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
سورة الصافات [37: 167]
{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} :
{وَإِنْ} : الواو استئنافية، إن: نافية أقوى نفياً من (ما).
{كَانُوا لَيَقُولُونَ} : تعود الآيات لتتم الحديث أو الأخبار عن المشركين وما كانوا يتحدثون به قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم.
ليقولون: اللام للتوكيد، والنّون في يقولون لزيادة التّوكيد، يقولون: في كثير من الأحيان لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين.
سورة الصافات [37: 168]
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} :
{لَوْ} : شرطية.
{أَنَّ} : مصدرية للتعليل والتّوكيد.
{عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} : ذكراً: كتاباً مُنزلاً مثل ما أُنزل على الأولين: من الّذين خلوا من قبل من الأمم أو كالّذي أُنزل على الرّسل السّابقين أو اليهود والنّصارى ذكراً مثل التّوراة أو الإنجيل.
سورة الصافات [37: 169]
{لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} :
{لَكُنَّا} : اللام للاختصاص.
{عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} : أولم يأتيهم أو يرسل إليهم سيد المرسلين وخاتم النّبيين ويُنزل إليهم القرآن الكريم، عباد الله المخلصين. ارجع إلى الآية (40) من نفس السّورة.
سورة الصافات [37: 170]
{فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :
فيه اختصار فنزلنا عليك الذّكر، بل سيد الأذكار وهو القرآن الكريم كما طلبوا.
{فَكَفَرُوا بِهِ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، فكفروا به: به تعود على القرآن الكريم، كفروا به مباشرة بعد أن جاءهم، جحدوا به وأعرضوا عنه وقالوا سحر مبين، وقالوا أساطير الأولين، وقالوا افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وقالوا إنه لقول شاعر وقول كاهن.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : الفاء للتوكيد، سوف للاستقبال القريب والبعيد.
يعلمون: عاقبة كفرهم إن لم يتوبوا ويرجعوا عن غيِّهم وضلالهم ويؤمنوا بما أنزل الله، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدّنيا أو في الآخرة.
سورة الصافات [37: 171]
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} :
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق، أيْ: قد تحقق وعدنا ونصرنا لعبادنا وجندنا الّذين سبقوكم بالإيمان.
{سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} : أي: لقد تقدَّم وعدنا للمرسلين بنصرهم، فهذا ليس بشيء جديد.
{لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} : اللام للاختصاص، المرسلين: من الرّسل والأنبياء.
وكلمتنا: قيل: هي {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21].
وقيل: هي {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصّافات: 172-173].
وسمَّاها كلمة، وهي أكثر من كلمة؛ لأنّ كلمة قد تعني واحدة أو كلمات.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم: 47].
سورة الصافات [37: 172]
{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} :
{إِنَّهُمْ} : إن للتوكيد.
{لَهُمُ} : اللام لام الاختصاص.
{الْمَنصُورُونَ} : المنصورون من الله بالمعونة على الأعداء بالغلبة أو بالحُجَّة. والبرهان، والمنصورون: جمع منصور، وتدل على الثبات؛ أي: نصر دائم، وهذه بشرى للرسل.
سورة الصافات [37: 173]
{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} :
{وَإِنَّ} : للتوكيد.
{جُنْدَنَا} : ولم يقل: جنودنا، الفرق بينهما: جند اسم جنس جمع جندي تشمل الواحد والاثنين والثّلاثة، جنود تعني: ثلاثة أو أكثر، ولا تشمل الواحد والاثنين. والجند تجمعهم أهداف واحدة، ومن جنس واحد، أمّا الجنود فلهم أهداف مختلفة ومن أجناس مختلفة.
{لَهُمُ} : اللام لام الاختصاص.
{الْغَالِبُونَ} : الغلبة تكون بفضل القدرة وبفضل العلم والذّكاء والفطنة، والمعونة والتأييد من الله تعالى أولاً.
سورة الصافات [37: 174]
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} :
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} : الفاء للتوكيد، تولَّى: أعرض عنهم عن المشركين وكفار مكة وصبر على أذاهم؛ لأن النّصر والعاقبة لك.
{حَتَّى حِينٍ} : حتّى حرف نهاية الغاية أو حتّى يأتي أمر الله بقتالهم أو أسرهم أو موتهم أو إهلاكهم، وقيل: كان ذلك يوم بدر، والحين الثانية التي جاءت في الآية (179) من نفس السورة تعني يوم القيامة، وفي الآية تهديد ووعيد للمشركين. حين: زمن غير معلوم مدته قد يطول أو يقصر.
سورة الصافات [37: 175]
{وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} :
{وَأَبْصِرْهُمْ} : أيْ: ترقَّب ما سيحدث، أو انظر إلى عاقبة أمرهم وحالهم وما سيحل بهم من العذاب والنّكال والقتل والأسر لمخالفتهم إياك وتكذيبهم.
{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} : الفاء للتوكيد، سوف للاستقبال البعيد.
يبصرون: هم أنفسهم عاقبة كفرهم في الحياة الدّنيا.
سورة الصافات [37: 176]
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} :
رداً على سؤالهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22].
{سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1].
{أَفَبِعَذَابِنَا} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتعجب، وتوبيخ؛ بصيغة المضارع يدل على تكرار الاستعجال والاستمرار عليه، والاستعجال يدل على جهلهم وسفههم وجرأتهم وكفرهم.
سورة الصافات [37: 177]
{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} :
{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، إذا شرطية، تدل على حتمية الحدوث، أيْ: لا بُدَّ أن ينزل العذاب بساحتهم.
{نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} : السّاحة في الأصل الفناء الواسع الّذي لا يشعر فيه النّاس بالضّيق. ساحة القوم: قال الفراء: العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم؛ أي: نزل: حلَّ بهم وفاجأهم.
{فَسَاءَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، ساء من أفعال الذّم.
{صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} : الصّبح هو الزّمن المفضل والميعاد الحق للمعركة لمفاجأة العدو قبل أن يستعدوا، أيْ: بئس ذلك الصباح على القوم المنذرين؛ لأنّه سيكون يوم هلاكهم ودمارهم.
سورة الصافات [37: 178]
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} :
هذه الآية ليست تكرار للآية (174) وإنما للتّهديد والوعيد ليوم القيامة، وهذه الآية {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} ، والآية {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (179) هما في سياق الآخرة (يوم القيامة).
سورة الصافات [37: 179]
{وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} :
هذه الآية ليست تكراراً للآية (175)، الآية (175) تعني في سياق الدنيا (يوم بدر)، والآية (179) في سياق الآخرة (يوم القيامة)، وإنما تهديد ووعيد في سياق الآخرة (يوم القيامة).
سورة الصافات [37: 180]
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} :
يختم الله سبحانه السّورة بالتّسبيح مرة أخرى والسّلام والحمد.
{سُبْحَانَ} : أيْ: تنزيه الرّب والإله الحق عما يشركون وعما يقولون وعما يفترون، وعن كلّ نقص وعيب وولد وشريك وصاحبة، يشمل الذّات والصّفات والأفعال تنزيهاً مطلقاً. ارجع إلى سورة الإسراء آية (1) وسورة الحديد آية (1) للبيان.
{رَبِّ الْعِزَّةِ} : لأنّه رب العزة: عزة القوة وعزة القهر وعزة الإمتاع وعزة الملك له العزة جميعاً.
{عَمَّا يَصِفُونَ} : أي: قول هؤلاء المفترين المعتدين. ارجع إلى الآية (159).
سورة الصافات [37: 181]
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} :
سلامٌ على الرّسل والأنبياء كافة، ومنهم: لوط، ويونس الذين لم يخصهم بسلام كما فعل مع نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس؛ سلام عليهم في الدنيا والآخرة، سلام من الله ومن ملائكته ومن الثّقلين، سلام تحية، وسلام أمن وطمأنينة، وسلام من كلّ مكروه وضر، سلام مطلق، وسلام نكرة ليشمل كل أنواع السلام؛ ارجع إلى الآية (79) من نفس السورة لمزيد من البيان.
سورة الصافات [37: 182]
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
ارجع إلى الآية (2) من سورة الحمد للبيان المفصل.
سورة ص [38: 1]
سورة ص
ترتيبها في القرآن (38)، وترتيبها في النّزول (37)، نزلت بعد سورة القمر وقبل سورة الأعراف.
{ص وَالْقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ} :
{ص} : من الحروف المقطعة، ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.
{وَالْقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ} : والقرآن: الواو: واو القسم يقسم الله سبحانه بالقرآن والقسم يؤكد على أهمية المقسم به، وجواب القسم قيل: محذوف، وقيل: بل الّذين كفروا في عزة وشقاق، وقيل: كم أهلكنا من قبلهم من قرن، وقيل: إنّ ذلك لحق تخاصم أهل النّار، أو: إن كلّ إلا كذب الرّسل، ولم يُبين جواب القسم ليشمل كلّ الاحتمالات وغيرها من الأجوبة والآيات، أو أن محمداً لرسول الله، أو أن القرآن لحق.
وسمي بالقرآن: لأنّه مقروء ومحفوظ في الصّدور، ذي الذّكر: ذي اسم من الأسماء الخمسة (أب، أخ، حم، فو، ذو) ذي: بمعنى صاحب.
1 -
ذي الذكر؛ ذي الشّرف: والعرب تقول: فلان له ذكر أو مذكور؛ أي: يتردد اسمه بكثرة لشرفه وشهرته.
2 -
والذّكر من التّذكير؛ أي: ذي التذكير يُذكر قارئه بما أمره ربه أو نهاه عنه وبما يحتاجه العبد في دنياه وآخرته.
3 -
ذي البيان: كما قال ابن عباس تبياناً لكلّ شيء؛ أي: ص والقرآن ذي الشّرف وذي التّذكير وذي البيان، وذي الذكر صفة للقرآن.
سورة ص [38: 2]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} :
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي أو للتقرير والتّعيين.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : كفار مكة وغيرهم الّذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبما أنزل الله.
{فِى عِزَّةٍ} : في ظرفية، عزة: عزة الامتناع عن قبول الحق والإيمان والرّسول والقرآن، وهم في حميّة وجاهلية وتجبّر وعناد وتكبر في قبول ما أنزل الله وأمر به، وفي قراءة أخرى: غِرة؛ من الغرور.
{وَشِقَاقٍ} : في مخالفة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وعداء. ارجع إلى سورة البقرة آية (137) لمزيد من البيان.
سورة ص [38: 3]
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} :
{كَمْ أَهْلَكْنَا} : كم الخبرية وتفيد الكثرة؛ أي أهلكنا الكثير من القرون من قبلهم، ولمعرفة معنى الهلاك ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) للبيان.
{مِنْ قَبْلِهِم} : من تفيد الزّمن القريب؛ أي: أهلكنا القرون الكثيرة قبل مجيئهم بزمن قريب.
{مِنْ قَرْنٍ} : من ابتدائية، قرن: نكرة وتعني جماعة تعيش معاً في زمن واحد (قرن واحد)، والقرن يعادل مائة سنة.
{فَنَادَوْا} : الفاء تدل على التّرتيب الذّكري، نادوا: تعود على القرون التي أهلكت من قبلهم؛ النّداء هو رفع الصّوت طالبين العون، ولم يحدد القرآن من ينادون فربما كانوا ينادون ربهم؛ لكي ينقذهم، أو نادوا لكلّ من يستطيع أن ينقذهم من الهلاك.
{وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} : ولات: مركبة من (لا) النّافية (عموم النّفي)، وزيدت فيها التّاء للمبالغة والتّوكيد، ولات: تستعمل لنفي الحين؛ أي: حين لا مناص، وهي من أخوات ليس مختصة بنفي الزّمن كما قال عطاء والفراء: لات بمعنى ليس. حين: يعني زمن غير محدد، مناص: بمعنى الفرار والخلاص يقال: ناص إذا فاته ونجا، فمعنى ولات حين مناص: وليس هناك وقت للهروب والنّجاة وليس الزّمن زمن فرار ونجاة من عذاب الله عز وجل.
سورة ص [38: 4]
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} :
{وَعَجِبُوا} : كفار مكة.
{أَنْ} : تعليلية.
{جَاءَهُمْ} : والمجيء فيه نوع من المشقة والصّعوبة، مقارنة بأتاهم الّذي فيه معنى السهولة.
{مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} : أي رسول منذر (من الإنذار وهو الإعلام والتّحذير)، منهم: من العرب أو من جنسهم وليس من الملائكة وهو رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم.
{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا} : هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قارنا هذا بالآية (2) من سورة (ق) فقال الكافرون:{هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} : جاء بالفاء في سورة (ق) فاء السببية؛ لأن ما قبلها قد يكون سبباً لما بعدها، أو الفاء: تدل على الترتيب والمباشرة؛ أي: في آية (ق) قال الكافرون مباشرة: {هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} ، بينما في سورة (ص):{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} .
{سَاحِرٌ} : أي سحرنا بأشياء فنراها على غير حقيقتها؛ أي: جاءنا بنوع من السّحر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أثر في أنفسهم، ولم يستطيعوا الحد من رسالته؛ فاتهموه بالساحر.
{كَذَّابٌ} : صيغة مبالغة كثير الكذب كأن حرفته الكذب أو دائماً يكذب، مع أنّهم قبل البعثة كانوا يصفونه بالصّادق الأمين، ولأنّه دعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما يعبد آباؤهم وأبطل عبادة الآلهة فاتهموه بالسّاحر والكذاب والشّاعر والمجنون كما اتهم فرعون وهامان وقارون موسى عليه السلام {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 24].
سورة ص [38: 5]
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} :
{أَجَعَلَ} : الهمزة همزة استفهام إنكاري وتعجب.
{الْآلِهَةَ} : اللات والعزى ومناة الثّالثة وغيرها.
{إِلَهًا وَاحِدًا} : أي الله وحده لا إله إلا هو: إلهاً واحداً لا شريك له.
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب ويشير إلى: جعل الآلهة إلهاً واحداً.
{لَشَىْءٌ} : اللام للتوكيد، شيء: أمر.
{عُجَابٌ} : مثير للعجب، وعجاب: أشد صيغ المبالغة في العجب وهي أشد من عجيب وعجب، فهم عجبوا أن جاءهم منذر، وبما أنّهم وصفوه بالسّاحر والكذاب فقد أصبحت دواعي العجب كثيرة فلذلك أكّد بإنّ وأكد باللام، فهم عجبوا العجاب الشّديد أن جعل آلهتهم إلهاً واحداً.
لمقارنة قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} ، مع قوله تعالى في سورة ق آية (2):{هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} ، وقوله تعالى في سورة هود آية (72):{إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} :
ففي سورة (ق) قال: {شَىْءٌ عَجِيبٌ} : تدل على شدة العجب.
وفي سورة هود قال: {إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} : أكد بإن واللام؛ أي: أشد عجباً من عجيب.
وفي سورة (ص) قال: {إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} : أكد بإن واللام، وجاء بكلمة عجاب، فهذا أعجب العجب، وهو جعل الآلهة إلهاً واحداً، فهو أعجب من أن تلد عجوز عقيم، وهذا بدوره أعجب من جاءهم منذر منهم (في سورة ق)؛ ارجع إلى سورة (ق) لمزيد من البيان.
وإذا قارنا قوله تعالى: {عُجَابٌ} مع قوله تعالى في الآية (1) من سورة الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} : نجد أن (عجباً): أقوى وأشد مبالغة من (عجاب)؛ لأن (عجباً): مصدر، والوصف بالمصدر أقوى وأشد من الوصف بالصفة.
سورة ص [38: 6]
المناسبة: اجتمع المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي طالب يطلبون منه أن يكفّ عن عيب آلهتهم، وطلب منهم أن يقولوا: لا إله إلا الله. عندها خرجوا من بيت أبي طالب يقولون: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب. كما روي عن ابن عبّاس.
{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} : خرجوا مسرعين، والملأ هم أعيان قريش زعماء قريش وصناديدهم، خرجوا مسرعين يقول بعضهم لبعض:
{أَنِ امْشُوا} : أن للتوكيد، امشوا: استمروا على عبادتكم آلهتكم.
{وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} : اثبتوا على عبادتها وتحمّلوا سبها وشتمها وذكر معايبها.
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة، يشير إلى التّوحيد، وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم.
{لَشَىْءٌ} : اللام للتوكيد، شيء يعني: أمر.
{يُرَادُ} : أي أمر مدبّر من محمّد ليصرفكم عن آلهتكم ومقصود، فلا حيلة لكم إلا الصّبر والاستمساك بالآلهة وعدم الاستجابة لدعواه ومطالبه.
سورة ص [38: 7]
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} :
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى} : ما النّافية، سمعنا بهذا: التّوحيد، أو لا إله إلا الله الّذي يدعو إليه محمّد، ولم يخبرنا به أو يحدثنا عنه أحد من النّصارى.
{فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} : ملة عيسى أو النّصرانية؛ أي: ما سمعناهم يوحدون الآلهة، بل يقولون: إنّ الله ثالث ثلاثة.
{إِنْ هَذَا} : إن نافية أشد نفياً من ما، هذا التّوحيد.
{إِلَّا اخْتِلَاقٌ} : أداة حصر؛ أي: حصراً اختلاق: كذب، اختلاق: ليس حقيقة؛ أي: افتعال وكذب، أو كذب مختلق اصطنعه محمّد من نفسه، فهم يحاولون إعادة الثّقة بعقيدتهم عقيدة الشّرك بعد أن زعزعها محمّد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من دين التوحيد.
سورة ص [38: 8]
{أَأُنْزِلَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّعجب.
{عَلَيْهِ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، وتعني: محمّد صلى الله عليه وسلم أي عليه خاصة.
{الذِّكْرُ} : أي القرآن الكريم.
{مِنْ بَيْنِنَا} : من ابتدائية، بيننا: أي على محمّد بالذّات وفينا السّادة والقادة لقريش، وهو ليس من سادتنا وأشرافنا، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (25) من سورة القمر وهي قوله تعالى:{أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} : نجد أن الآية في سورة (ص) جاءت في سياق الحديث عن كفار مكة، والآية في سورة القمر جاءت في سياق الحديث عن قوم ثمود ونبيهم صالح، وأما الفرق بين {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ، و {أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ}:
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} : لأن الإنزال جاء في سياق القرآن والذكر كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]
…
وغيرها الكثير من الآيات.
وأما {أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} : جاءت في سياق النبي صالح، والإلقاء: قد يكون ليس لكتاب، وإنما لصحف، أو ألواح، أو الوحي، وفي آية (ص): قدم عليه (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفاً، بينما في آية صالح قدم الذكر على صالح عليه السلام ، والتقديم يعني: للأهم.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{هُمْ} : ضمير فصل للتوكيد.
{فِى شَكٍّ مِنْ ذِكْرِى} : الشّك هو تساوي طرفي الإثبات والنّفي؛ أي: في تردد وحيرة وغير مستيقنين. ذكري: أي قرآني؛ أي: هم في شك في القرآن وأنّه منزل من الله تعالى.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} : لما: ظرف زماني ينفي الحدث في الماضي مع إثبات حدوثه في المستقبل، يعني: حتّى الآن لم ينزل بهم أو يصيبهم العذاب ولكن سوف ينزل بهم في الحاضر أو في المستقبل لا محالة قبل موتهم أو بعد موتهم؛ أي: قد يكون في الدّنيا أو في الآخرة- وإذا قارنا هذه الآية مع قوله تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] إضافة الياء تشير إلى شدة العذاب مقارنة بقوله عذاب.
سورة ص [38: 9]
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} :
المناسبة بعد أن نفى الله سبحانه قدرتهم على أن يقسموا رحمته: أي نبوته على عباده؛ أي: أن يعطوا النّبوة لمن يشاؤون، كما قالوا:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، ينفي عنهم أن تكون خزائن رحمته بأيديهم.
{أَمْ} : الهمزة للتسوية، أم:
{عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} : النّبوة رحمة ورحمة ربك تشمل النّبوة وغيرها من أنواع الرّحمة، فيعطوا من يشاؤون ويمنعوا من يشاؤون، والرّحمة هي كلّ ما يجلب ما يسرّ ويدفع ما يضرّ (الوقاية) وتعني الإنعام على المحتاج.
{الْعَزِيزِ} : القوي الممتنع لا يحتاج إلى أحد ولا يضره ولا ينفعه أحد، ولا يُقهر ولا يُغلب.
{الْوَهَّابِ} : صيغة مبالغة من: وهب وتدل على كثرة الوهب: العطاء بدون مقابل، واهب النّعم الباطنة والظّاهرة دائم الإحسان، شمل ببره وكرمه كلّ مخلوقاته. في هذه الآية خصص الوهاب بالرّحمة وأمّا في الآية (37) من سورة الطّور قال:"خزائن ربك" لم يخصص أطلق، ولم يحدد ما نوع الخزائن.
سورة ص [38: 10]
{أَمْ لَهُمْ مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الْأَسْبَابِ} :
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، والهمزة للاستفهام الإنكاري والتّقرير.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص.
{مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : المُلك: يعني الحكم والملك معاً، فهو مالك الملك وما بينهما؛ أي: ألهم مُلك السّموات والأرض وما بينهما فإن كان لهم ذلك:
{فَلْيَرْتَقُوا فِى الْأَسْبَابِ} : الأسباب: جمع سبب: هو كلّ ما يتوصل به إلى الشّيء أو الحدث، والسبب في الأصل الحبل، والأسباب الطرق والمسالك والأبواب التي توصلهم إلى العرش؛ أي: أبواب السّموات. الفاء للترتيب والتّعقيب. ليرتقوا في الأسباب: ليصعدوا سبباً بعد سبب؛ أي باباً بعد باب حتّى ينتهوا إلى العرش ويمنعوا الوحي النّازل على محمّد صلى الله عليه وسلم من ربه، أو ليتولوا تدبير الخلق والكون بما يريدون ويعطوا ويحكموا بالعطاء والمنع وتدبير شؤون الخلق والكون، واللام في ليرتقوا: للتوكيد، وكما قال تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33]. ارجع إلى سورة الكهف (84).
سورة ص [38: 11]
{جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} :
{جُندٌ} : نكرة للتحقير، وتعني كفار مكة أو قريش؛ أي: كفار قريش مهزومون كما هزم أحزاب الباطل الّذين تحزّبوا على أنبيائهم وجاؤوا من قبلهم. ارجع إلى سورة يس آية (28) لمعرفة الفرق بين جند وجنود.
{مَا} : للتوكيد.
{هُنَالِكَ} : أي: في بدر، (مهزومون في بدر) أو وضعوا أنفسهم في أمر ليسوا هم أهله.
{مَهْزُومٌ} : مغلوبون لا محالة.
{مِنَ الْأَحْزَابِ} : كفار قريش ما هم إلا جند أو حزب من أحزاب الباطل مهزومون عما قريب، وقد تكون هذه الآية رداً على قوله تعالى:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، فلا تعجل عليهم فإني سأسلب عزتهم وأهزم جمعهم.
سورة ص [38: 12]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} :
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} : أي قبل كفار قريش كذبت الأحزاب، وكذبت تدل على الكثرة.
قوم نوح كذبوا نوح عليه السلام ، قوم عاد كذبوا هوداً عليه السلام ، وفرعون ذو الأوتاد كذبوا موسى وهارون عليهما السلام.
سورة ص [38: 13]
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْـئَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} :
وقوم ثمود كذبوا نبيهم صالحاً عليه السلام ، وأصحاب الأيكة كذبوا شعيباً عليه السلام ، وقوم لوط كذبوا لوطاً عليه السلام .
{أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} : الأحزاب: الجماعات المتحزبة ضد رسلهم، أو المحاربة لرسلهم.
وجاء ذكر تكذيبهم كخبر عام بدون إيضاح سبب التّكذيب، ثمّ بيّن نوع التّكذيب في الآية (14) فقال تعالى:{كَذَّبَ الرُّسُلَ} .
سورة ص [38: 14]
{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} :
{إِنْ} : نافية تعني: ما من أحد من هؤلاء الأحزاب إلا كذّب من أرسل إليهم من الرّسل، ولكن لم يقل الرّسول وإنما" الرّسل"؛ لأنّ من كذب واحداً من الرّسل كأنما كذب جميع الرّسل.
{إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} : إلا أداة حصر.
{فَحَقَّ عِقَابِ} : وجب وثبت عليهم عقاب الله بسبب تكذيبهم للرسل، والعقاب مشتق من كونه يعقب الذنب، والعقاب يتراوح بين الشديد واليسير، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (14) من سورة (ق) وهي قوله تعالى:{فَحَقَّ وَعِيدِ} : نجد الوعيد يسبق العقاب، والعذاب: وهو يُعد إنذاراً وتهديداً لوقوع العقاب.
سورة ص [38: 15]
{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} :
{وَمَا} : النّافية.
{يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ} : أي ما ينتظر كفار قريش.
{إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} : إلا أداة حصر، صيحة واحدة، قيل: هي نفخة الفزع كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49-50].
{مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} : ما لها من رادٍّ أو دافع؛ أي: من يصرفها أو يمنعها، ولن يعطوا إلا زمناً لا يزيد عن الزّمن ما بين حلبتي النّاقة وهو فواق النّاقة؛ أي: حتّى يمتلأ الضّرع بالحليب مرة أخرى بعد الحلبة الأولى؛ أي: لن ينتظروا طويلاً حتّى تقوم السّاعة ويحل بهم العذاب.
سورة ص [38: 16]
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} :
{وَقَالُوا} : كفار مكة.
{رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} : القط: أي نصيبنا من العذاب الّذي توعّدتنا به ولا تؤخّره إلى يوم الحساب. قالوا ذلك استهزاءً فهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالآخرة ولا بالوعيد؛ أي: أرسله إلينا الآن قبل يوم الحساب، والقطّ: قد يعني الكتاب أو صحيفة الأعمال (الحسنات والسّيئات) كما قال ابن عباس؛ أي: عجّل لنا صحيفة أعمالنا أو الكتاب لنرى ما كتب فيها. وقيل: القط: الحساب أو القضاء.
سورة ص [38: 17]
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} :
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} : الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أمته على ما يقولون: على ما يقوله كفار مكة عنك بأنّك ساحر أو كاهن أو شاعر وغيره من الأباطيل، واصبر على ما يقولون: ربنا عجّل لنا قطّنا، استهزاءً، ويقولون: بصيغة المضارع؛ أي: اصبر بشكل متجدد ومتكرر أو دائم الصّبر، اصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل أو كما صبر إخوانك من الرّسل.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} : اصبر واذكر: صبر داود على العبادة والطّاعة فقد ذكر في الصّحيحين (البخاري ومسلم) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبُّ الصّيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحبُّ الصّلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. عبدنا: اختار هذه الكلمة تشريفاً له إنه كان عبداً ونبياً وملكاً، ذا الأيد: أي ذا القوة في العبادة والطّاعة رغم كونه نبياً مكلفاً بأعباء النّبوة، والملك: الحكم.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} : إنّه: للتوكيد، أوّاب: صيغة مبالغة؛ أي: كثير الرّجوع إلى ربه بالتوبة والإنابة، أو سريع التّوبة إلى الله، أوّاب: صيغة مبالغة من آب الرّجل إلى أهله؛ أي: رجع، وإذا قارنا أواب، وأناب، كما في الآية (24) من نفس السورة، أواب: كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار، وأناب: سريع التوبة، أو الرجوع إلى الله تعالى؛ أي: الإقبال.
سورة ص [38: 18]
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{سَخَّرْنَا} : من التّسخير: أي التّذليل، وسخّر: أخضع، سخّره: أخضعه وقهره ليفعل ما يريده بدون اختيار من المسخّر، وكما قال تعالى في سورة الأعراف آية (54):{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} ، أي: مسيّرات خاضعات مقهورات بأمر الله وإرادته لا باختيارها، وهي الّتي اختارت أن تكون مسخّرة بعد أن عرض عليها الأمانة فاختارت أن تكون مسخّرة.
{سَخَّرْنَا الْجِبَالَ} : أي أخضعنا وقهرنا.
{مَعَهُ} : أي مع داود.
{يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ} : يسبحن لله تعالى، وكما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فالجبال والسّموات والأرض وكل شيء يسبح تسبيحاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والمعجزة هنا ليست التّسبيح بذاته فقط وإنما أن تسبّح الجبال مع داود وتردّد معه؛ أي: تسبّح مع تسبيحه، يسبّحن ولم يقل وسخّرنا الجبال معه مسبّحات، ولكن يسبّحن: بصيغة المضارع للدلالة على حكاية الحال والتّكرار والتّجدد؛ أي: يسبّحن الآن وكأنّنا نسمع تسبيحها وهي تسبّح، وإذا أخبرنا هذا الخبر الله سبحانه فهو أصدق من أسماعنا وعيوننا فيما لو كنا نسمعه ونراه.
بالعشي: الباء للإلصاق والدّوام، والعشي: من الزّوال إلى الغروب (من العصر إلى المغرب) أو من الظّهر إلى المغرب، والإشراق: أي شروق الشّمس.
وقد أخذ بعض الأئمّة من هذه الآية دليلاً على مشروعية صلاة الضّحى أو صلاة الشّروق، وكونها جاءت بصيغة المعرفة "بالعشي والإشراق" فهذا يدل على الدّوام، ولم يقل مثلاً بكرة وعشياً الّتي تدل على وقت محدد.
وإنما تدل على التّسبيح الدائم ولكل مكان زمان للعشي وزمان للإشراق.
سورة ص [38: 19]
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} :
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} : مجتمعة (الحشر هو السَّوق والجمع) والحشر يعني جملة واحدة وليس جماعة بعد جماعة، وهناك فرق بين الحشر والجمع: الحشر هو السَّوق، والجمع ويكون للجماعة، محشورة حول داود تسبّح معه.
{كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} : تعني الجبال والطّير وداود الكل لله أوّاب؛ أي: يردد التّسبيح، كلّ له مطيع بالتّسبيح أو خاضع له وراجع له، له: لله تعالى، وقد تعني لداود أيضاً؛ أي: مطيعة لداود تأتيه وتسبّح معه.
سورة ص [38: 20]
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} :
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} : أي قوّيناه بكلّ أسباب القوة المادية والمعنوية من نصر ومهابة، وقوّيناه بالحرس والجنود وإلقاء الرّعب في قلوب أعدائه.
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} : النّبوة، وقيل: علم الأحكام والشّرائع أو الزّبور، وقيل: الحكمة كلّ كلام وافق الحق فهو حكمة. ارجع إلى سورة البقرة آية (269) لبيان معنى الحكمة.
{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} : القضاء والحكم في الخصومات والدّعاوي، والفصل يعني التّمييز بين الشّيئين، وقيل: الكلام البيّن الّذي لا لَبسَ فيه.
سورة ص [38: 21]
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} :
{وَهَلْ} : الواو عاطفة، هل للاستفهام والتّعجب والتّشويق إلى الاستماع.
{نَبَأُ الْخَصْمِ} : النّبأ هو الخبر العظيم الّذي ينبغي أن يُعلم ويُهتمّ به وفيه فائدة مهمة، والخصم: يطلق على المفرد والمثنى والجمع، والذّكر والأنثى.
{إِذْ} : ظرف للزمان الماضي.
{تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} : السُّور: الحائط المرتفع؛ أي: علو سور المحراب تسلقوا الحائط ودخلوا من أعلى الحائط، ولم يدخلوا من الباب، وتسوّروا: جاءت بصيغة الجمع؛ لأنّ الخصم يطلق على الواحد أو الاثنين أو الأكثر، والمحراب: مسجده مكان صلاته، فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان.
اختلف في تفسير الخصم الّذين تسوّروا المحراب: قيل: كانا ملكين، وقيل: كانوا إنساً من الإنس تسوّروا الحائط ودخلوا عليه وهو في غير وقت جلوسه للحكم، ففزع منهم ظاناً أنّهم يريدون قتله ظناً خطأً فاستغفر ربه من الظّن السّيئ وخرّ راكعاً وأناب، أو عزم أن ينتقم منهم وقتلهم ففكر عندها أنّ قتلهم غير مبرر ولا يحق له، والعفو أولى وأقرب إلى الصّواب.
سورة ص [38: 22]
{إِذْ} : ظرف للزمان الماضي أو بمعنى لما:
{دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، فزع منهم: الفزع: الخوف المفاجئ الّذي يؤثّر في القلب فيؤدي إلى تسرّع ضربات القلب فيدل على شدة الخوف والاضطراب في القلب، ففزع منهم؛ لأنّهم دخلوا عليه في غير زمن القضاء أو الحكم بين النّاس وبغير إذنه. وانظر كيف قال: ففزع منهم، ولم يقل: منهما، وقد سبق ذلك قوله تعالى: خصمان، وقال الخصم؛ لأن كلمة الخصم ـ كما قلنا ـ تأتي في سياق المفرد والمثنى والجمع.
{قَالُوا لَا تَخَفْ} : لا النّاهية، لا تخف: حين رأوه في حالة الفزع، وقولهم: لا تخف يدل على أنّهم من الملائكة؛ لأنّ لا أحد يجرؤ أن يقول لداود: لا تخف ولا يجرؤ أحد أن يدخل على داود عليه السلام لأنّ الحرس يمنعهم ولكونهم من الملائكة فهم أهلٌ لذلك.
{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} : بغى: من البغي وهو التّعدّي أو أخذ حق الغير بقهر وقوة وتعسُّف.
{فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} : فاحكم: الفاء للمباشرة، احكم: افصل بيننا بالحق: الباء للإلصاق، ولا تشطط: ولا تبتعد عن الحق أو لا تَجُرْ أو تتجاوز الحد، وهذا الطّلب: احكم بالحق ولا تشطط لا يجرؤ على قوله أحد لنبي وملك إلا الملائكة.
{وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} : أي دلّنا أو أرشدنا إلى سواء؛ يعني الوسط؛ أي: العدل، والصّراط: الطّريق المستقيم؛ أي: احكم بالعدل وعدم الجور أو لا تمِل عن الحق.
سورة ص [38: 23]
{إِنَّ} : للتوكيد.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى أخيه.
{أَخِى} : أخوه في الدّين أو في الصّداقة أو الشّراكة، ومن حق الإخوّة أن لا يأخذ حق أخيه بقهر أو تعسُّف.
{لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} :
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} : ضمّها إليّ فاجعلني كافلها: يعولها وينفق عليها.
{وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} : غلبني في المحاجَّة أو الكلام.
سورة ص [38: 24]
{قَالَ} : داود لصاحب النّعجة الواحدة.
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} : فهو يؤكد ظلم صاحب النِّعاج (99) بدون أن يستمع له، وهذا خطأ لا يجوز في القضاء.
وقيل: أخطأ داود عدة أخطاء.
1 -
لم يستمع داود عليه السلام للطرف الآخر: لصاحب (99) نعجة.
2 -
حكم داود وهو في حالة الفزع والخوف، وهذا مخالف لأركان الحكم الصّحيح أو القواعد الشّرعية.
3 -
حكم بدون أيِّ بينة.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} : وإنّ للتوكيد، كثيراً من الخلطاء: من الشّركاء في التّجارة أو المال؛ أي: خلطوا أموالهم مع بعضهم البعض.
{لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} : اللام للتوكيد، يبغي: من البغيّ وهو: التّعدي؛ وهو أخذ مال أو حق الغير بقهر وتعسُّف وظلم.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : لأنّ إيمانهم يمنعهم من أن يبغي بعضهم على بعض.
{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} : أي عددهم قليل، قليل: نكرة تفيد التّهويل والتّعجب من قلتهم، وما: تفيد التّوكيد.
{وَظَنَّ دَاوُودُ} : الظّن هو الاعتقاد أو الاحتمال الرّاجح؛ أي: علم داود.
{أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} : أن مصدرية قد تقلب الظّن يقيناً، فتنّاه: ابتليناه.
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، استغفر ربه: لأنّه شعر أو أحسّ بالذّنب أو الخطأ في حكمه.
{وَخَرَّ رَاكِعًا} : بدلاً من وخرّ ساجداً، وهذه هي الآية الوحيدة الّتي قيل فيها: خرّ راكعاً، وبقية الآيات: خرّ ساجداً، فكيف نفسر ذلك؟ قيل: أطلق الرّكوع وأريد به السّجود (عبر بالرّكوع عن السّجود) أي: خرّ راكعاً ثمّ سجد أو خرّ بعد أن كان راكعاً، أو خرّ مطأطئاً رأسه؛ أي: سجد. والرّكوع يعني: الخضوع، وقد ثبت في السّنة أنّ داود بعد انحنائه خضوعاً سجد لله بعد ذلك، أسرع بالرّجوع إلى الله بالتّوبة.
وهناك من قال: إنّ داود لم يرتكب معصية متعمدة وإنما اجتهد في حكمه، والخطأ في الحكم أقل من المعصية، والمعصية تحتاج إلى سجود والخطأ غير المتعمد يناسبه الرّكوع الّذي هو دون السّجود.
سورة ص [38: 25]
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـئَابٍ} :
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، غفرنا: أي مَحَونا ذنبه أو الخطأ الّذي ارتكبه.
له: اللام لام الاختصاص. ذلك: أي ذنبه أو خطأه.
{وَإِنَّ} : للتوكيد له: لداود.
{عِنْدَنَا لَزُلْفَى} : اللام للتوكيد، زلفى: قربى، منزلة أو درجة، أو مكانة عالية عند الله من الله تعالى كما قال تعالى:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163].
{وَحُسْنَ مَـئَابٍ} : حسن مرجع أو مآل؛ أي: الدّرجات العلى في الجنة كما قال تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4].
سورة ص [38: 26]
{يَادَاوُودُ} : نداء بيا النّداء للبعد؛ لاسترعاء انتباه المخاطب والاهتمام بما سيقال له.
{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} : إنّا: للتعظيم، خليفة في الأرض: خليفة خلافة عامة، خليفة لمن قبلك وليس خليفة لله تعالى، وقد تعني: خليفة لمن سبقك من الأنبياء، أو حاكماً أو ملكاً.
{فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} : الفاء للتوكيد، احكم بين النّاس بالحق: أي بالعدل والقسط، والحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، والباء: للإلصاق والدّوام.
{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} : الهوى ما تميل إليه النّفس باطلاً بما لا ينبغي ولا دليل، وبعيد عن الحق ويغلب على الهوى الذّم.
{فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : الفاء السّببية، يُضلك عن سبيل الله: أي عن دين الله (عن تفيد المجاوزة والمباعدة) أي: يبعدك عن دين الله؛ أي: لا تحكم إلا بما أمر الله به وبالبينة والشّهود وعدم التّسرع في الحكم، والاستماع إلى الطّرفين.
{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ للتوكيد، الّذين: اسم موصول.
{يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أي دين الله؛ أي: ينحرفون ولا يرشدون.
{لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا} : اللام لام الاستحقاق، عذاب شديد في الدّنيا والآخرة.
{بِمَا} : الباء السّببية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي وهي أوسع شمولاً من الذي.
{نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} : لم يستعدّوا له بالتّقوى، نسوا: من النّسيان المتعمد بالإهمال وترك الاهتمام به، ويسمى يوم القيامة: يوم الفصل يوم الدّين، وسمّي يوم الحساب؛ لما يجري فيه من حساب، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
سورة ص [38: 27]
وما: الواو استئنافية، ما: النّافية، خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلاً: أي عبثاً لا جدوى منه ولا فائدة، وبلا حكمة، والباطل ضد الحق، فهي تسبّح الله وهي تعتبر سقفاً محفوظاً ومصدراً للرزق، وما خلقنا السّموات والأرض وما بينهما إلا بالحق؛ أي: بالدّقة التّامة وبالقوانين الثّابتة الّتي تحكم السّموات وما فيها من أجرام ومجرّات ونجوم تجري في أفلاك ثابتة لا تصطدم ببعضها منذ خلقها الله تعالى.
والسّماء تعريفها: كلّ ما علاك، وتشمل السّموات السّبع والسُّحب والطّبقات الغازية المحيطة بالأرض.
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة، واللام للبعد، والكاف للخطاب، ذلك: إشارة إلى خلقهما عبثاً.
{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : ظنوا ذلك باطلاً؛ لأنّهم لا يؤمنون أنّها تسبّح وتسجد وأن لها مهمة كما لهم مهمة، وأنّها من الآيات الدّالة على وحدانيته وقدرته وعظمته، وظنهم لا يغني من الحق شيئاً.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : الويل: الهلاك والعذاب، للذين: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، الّذين كفروا: الّذين لم يؤمنوا بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر، تهديد ووعيد للذين كفروا حتّى يرتدعوا ويرجعوا إلى الإيمان.
{مِنَ النَّارِ} : من عذاب النّار.
سورة ص [38: 28]
المناسبة: لو كان خلق السّماء والأرض عبثاً أو باطلاً لبطل الجزاء والحساب، ولاستوت عند الله أحوال المصلحين والمفسدين والمتقين والفجّار، ولفسدت السّموات والأرض وما بينهما، ولكن هذا لا يتّفق مع حكمة الله ورحمته.
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام والإنكار أم للإضراب الانتقالي (أم المنقطعة)، إنكار التّسوية بين الفريقين الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات والمفسدين؛ أي: من ظن (الظّن: هو الاعتقاد أو الاحتمال الرّاجح، رجحت فيه صفة الإثبات فوق صفة النّفي)، إنّ الله يساوي بين المتقي والفاجر والمؤمن الصّالح كالمفسد في الأرض، فقد ظنّ ظناً باطلاً خطأً قبيحاً جديراً بالإنكار.
والفاجر: هو الفاسق الّذي يصرّ على المعاصي ويتوسّع فيها، فكأنّها أصبحت تتفجّر منه كالينابيع وكالزّنى القتل والفساد. والفجار: تدل على الثبات والدوام على المعاصي والمحارم.
سورة ص [38: 29]
{كِتَابٌ} : أي هذا كتاب: قرآنٌ، وبصيغة النّكرة للتعظيم.
{أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} : أنزلناه جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، إليك: تفيد النّهاية إليك أوّلاً ثمّ إلى أمتك.
{مُبَارَكٌ} : كثير الخير والنّفع والبركة سواء المنافع الدّنيوية والأخروية يأتي بالخير الكثير الإلهي والثّابت، مبارك مشتقة من: البركة وهي النّمو والزّيادة.
{لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} : اللام لام التّعليل، وأصلها: ليتدبروا آياته، واختار يدَّبَّروا مبالغة في التّدبر؛ أي: يحتاج إلى تدبر عميق وفهم بالغ، وأمّا ليتدبروا؛ أي: يحتاجون إلى طول التّدبر (زمن أطول) فهم بحاجة إلى تدبر عميق، ولو قال ليتدبروا؛ يعني طول تدبُّر وتمعُّن زمن أطول.
والتّدبر: هو النّظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، ويكون بالعقل والقلب والنّظر في الأمور الخفية والحكمة وليس النّظرة السّطحية مع الاستفادة والتّطبيق.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} : اللام للتعليل، وليتذكر أولوا الألباب: أي يحتاجون إلى وقت أطول للتذكر والتّأمل، أمّا لو قال وليذكر أولوا الألباب: أي يحتاجون إلى وقت قصير للتذكر، التّذكر: يكون لأمر يعرفونه سابقاً، أولوا الألباب: أصحاب العقول النّيرة الواعية، والألباب مشتقة من: لب المخ؛ أي: منطقة الإدراك والتّفكير والفهم والبصيرة، ولمزيد من البيان ارجع إلى سورة البقرة الآيتين (179، 197)، وسورة الزّمر آية (18).
سورة ص [38: 30]
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} :
{وَوَهَبْنَا} : الوهب عطاء بدون مقابل، والوهب لا يكون خاضعاً لقانون أو أسباب حتّى ولو توفرت؛ لأنّ الأسباب في ذاتها قد تكون هبة، والإنجاب كُلُّهُ يعد هبة من الله تعالى بدون مقابل، في كلّ القرآن.
{لِدَاوُودَ} : اللام لام الاختصاص.
{سُلَيْمَانَ} : ابنه سليمان.
{نِعْمَ الْعَبْدُ} : يعني سليمان، نعم: من أفعال المدح العامة.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{أَوَّابٌ} : كثير الإنابة والرّجوع والتّوبة إلى الله مع الإسراع، لا ينتظر طويلاً. ارجع إلى الآية (17) من نفس السورة.
سورة ص [38: 31]
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} :
{إِذْ} : ظرف للزمان الماضي.
{عُرِضَ عَلَيْهِ} : من العرض وهو: الإحضار أمام الرّائي للشّيء المعروض، وهي الجياد، وعليه: تعود على سليمان عليه السلام ؛ أي: أحضرت أمامه الجياد في عرض كالعرض العسكري أو الرّياضي.
{بِالْعَشِىِّ} : العشي: ما بين الظّهر والمغرب، أو من الزّوال إلى الغروب، وقيل: من العصر إلى الغروب، والباء للإلصاق.
{الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} : الصّافنات: جمع صافن وهو الجواد (الحصان) الأصيل العريق الّذي يقف على ثلاث قوائم والرّابعة يقف على طرفها؛ أي: على الحافر أهبة واستعداداً للجري والانطلاق، وتعني السكون عند الوقوف فالصّافن تعني كلا المعنيين.
الجياد: جمع جواد وهو الفرس القوي السّريع (شديد العدو)، وقد تطلق على الإنسان: السّريع الكرم.
سورة ص [38: 32]
{فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} :
{فَقَالَ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، قال سليمان عليه السلام لنفسه.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّى} : الخير تعني: الصّافنات الجياد؛ أي: آثرت حب الصّافنات الجياد، عن: للمجاوزة والإبعاد، ذكر ربي يعني: صلاة العصر أو نسيت ذكر ربي؛ أي: لم أذكره (أسبّحه أو أحمده) طوال ذلك الزّمن (زمن العرض).
{حَتَّى} : حرف غاية نهاية الغاية.
{تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} : حتّى غابت الشّمس عن أعين النّاس أو توارت عن أعين النّاس.
فعندها قام يذكر ربه ويصلي وبعد إتمام ذلك قال ردّوها عليَّ.
سورة ص [38: 33]
{رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} :
{رُدُّوهَا عَلَىَّ} : أعيدوها عليَّ.
{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} : الفاء: للمباشرة والتعقيب؛ طفق: شرع وبدأ يمسح بيده سُوقها وأعناقها تكريماً لها فقد تبيّن من الدراسات العلمية أنّ سُوقها وأعناقها هي أكثر المناطق حساسية والمسح عليها من أفضل طرق ترويض الخيل البري، حيث اتهمها وهي لا ذنب لها بأنّها شغلته عن صلاته أو ذكر ربه.
وما ترشد إليه الآية هو: تجنب الانشغال عن الصّلاة وعن ذكر الله حين يحين وقتها مهما كان الأمر وترك أمور الدّنيا والانتقال من الانشغال بالدّنيا (بالكون) إلى الانشغال بالمكوِّن (وهو الله سبحانه).
وأمّا القول بأنّه شرع طفقاً بالسُّوق والأعناق؛ أي: بالسّيف، فهذا لا يليق بأخلاق النّبوة وهو من الإسرائيليات وغير صحيح.
سورة ص [38: 34]
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} :
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} : الفتنة: الاختبار والفتنة: ارجع إلى سورة العنكبوت الآية (2) الفتنة أشد من الاختبار وأصلها عرض الذّهب على النّار؛ ليتبين درجة جودته من فساده وتكون في الخير والشّر، فتنة سليمان قيل: هي أنه لم يرزقه الله أيّ ولد. رغم الملك الواسع وتسخير الرّيح والجن والقصور والمحاريب.
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} : الجسد: بدن مع روح بدون نفس؛ فرغم كلّ المحاولات لإنجاب الأطفال لم يستطع، وأخيراً ولدت له إحدى نسائه بوليد غير كامل البناء كأنّه مشلول غير قادر على الحركة، جاءت به المولدة ووضعته على كرسيه؛ أي: عرشه بعد الولادة، وهناك من قال: إن سليمان مرض مرضاً شديداً وضعف جسده بعد أن كان قوياً مسيطراً على الجن وغيرهم، وأراد الله أن يبتليه بالمرض؛ أي: السّقم.
{ثُمَّ أَنَابَ} : ارجع إلى الآية (17) من نفس السورة. اعتبر سليمان عليه السلام عدم رزقه بولد كامل البنية ابتلاء أو عقوبة على ذنب ارتكبه أو بغير ذنب، أو اعتبر مرضه المضني الّذي أفقده قوته وعافيته ابتلاء أو عقوبة، ثمّ أناب: أي أسرع بالتّوبة والرّجوع إلى الله والاستغفار، ثم: تفيد التّرتيب الذّكري، وقيل: ثمّ أناب؛ رجع إلى حالته الأولى صحيحاً معافى، ثم: قد تفيد التّرتيب والتّراخي في هذه الحالة.
سورة ص [38: 35]
{قَالَ} : سليمان عليه السلام .
{رَبِّ اغْفِرْ لِى} : بدون استعمال ياء النّداء؛ لأنّه علم أنّ ربه قريب سميع الدّعاء فلم يحتاج إلى ياء النّداء الدّالة على البعد، اغفر لي: اغفر لي ذنبي أو ذنوبي؛ أي: امحوها واعفو عني وتقبل صالح أعمالي.
{وَهَبْ لِى مُلْكًا} : هب: من الهبة. ارجع إلى الآية (30) لمعرفة معنى الهبة، ملكاً: الملك: استفاضة الملك واتساع المقدور؛ أي: ملكاً أعظم من مُلكي السّابق.
{لَا يَنبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى} : لا: النّافية؛ أي: ملكاً لن تعطي أحداً مثله من بعدي، أو قيل: لا يسلبه أحد مني ولم يكن في ملكه يومئذ الرّيح والشّياطين.
{إِنَّكَ أَنْتَ} : أنت: ضمير متصل يفيد الحصر والقصر؛ أي: أنت وحدك الوهاب.
{الْوَهَّابُ} : صيغة مبالغة تدل على كثرة الوهب: العطاء بدون مقابل وبدون أسباب، واهب جميع النّعم الباطنة والظّاهرة، دائم الإحسان الّذي شمل ببره وكرمه كلّ الكائنات.
سورة ص [38: 36]
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} :
{فَسَخَّرْنَا} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب، سخرنا: ارجع إلى الآية (18) من السّورة نفسها لمعرفة معنى التّسخير؛ وهو التّذليل بصورة عامة، سخرنا: بنون التّعظيم.
{لَهُ} : اللام لام الاختصاص له خاصة.
{الرِّيحَ} : أي أضفنا الرّيح إلى ملكه.
{تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً} : رخاء: لينة هادئة ناعمة أو عاصفة كما في سورة الأنبياء (81)؛ أي: لها عدة استعمالات حسب ما يريد من السّرعة، أو يأمرها سليمان.
{حَيْثُ} : ظرف مكاني.
{أَصَابَ} : من الصّواب؛ أي: حيث أراد الصّواب، أي السّفر أو القصد أي: النية.
سورة ص [38: 37]
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} :
{وَالشَّيَاطِينَ} : جمع شيطان، والشّياطين: كفَرَة الجن، وسخرنا له الشّياطين: بالإضافة إلى الرّيح استجابة لدعائه: هب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي.
{كُلَّ بَنَّاءٍ} : كلّ بناء يحتاجه؛ لكي يبنوا له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجِفان كالجواب وقدور راسيات.
{وَغَوَّاصٍ} : في البحار؛ لكي يستخرجوا له الحلية من اللآلئ والمرجان، كلّ بناء وغواص: هؤلاء كانوا من الشّياطين المطيعين له.
سورة ص [38: 38]
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ} :
{وَآخَرِينَ} : أي: شياطين آخرين بالإضافة إلى كل بناء وغواص.
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ} : هم مَرَدة الشّياطين غير الصالحين، مقرونين في الأصفاد، مشدودين في القيود للتأديب والكف عن الفساد.
{الْأَصْفَادِ} : جمع صفد: السّلسلة أو القيد.
سورة ص [38: 39]
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} :
{هَذَا عَطَاؤُنَا} : هذا: الهاء للتنبيه، وذا اسم إشارة للقرب يشير إلى الرّيح والشّياطين.
عطاؤنا: العطاء فيه معنى التّملك؛ أي: جعلناه مُلكاً لسليمان بعكس الإيتاء ليس فيه تملك؛ أي: يمكن استرداده، وكل الأمور الّتي أعطيت لسليمان هي من نوع العطاء.
{فَامْنُنْ} : فأعطِ من تشاء.
{أَوْ أَمْسِكْ} : أو امنع وأمسك عمن تشاء.
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} : لا حساب عليك في ذلك العطاء أو الإمساك، فلن نسألك كم أعطيت أو منعت.
سورة ص [38: 40]
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـئَابٍ} :
ارجع إلى الآية (25) من السّورة نفسها.
سورة ص [38: 41]
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} :
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} : من سلالة إسحاق عليه السلام أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق، واذكر: يا رسول الله لقومك قصة أيوب، أو صبر أيوب على ما ابتلاه الله تعالى، عبدنا أيوب: وصفه بعبدنا تشريفاً له، والعبودية لله تعالى كلها عز وشرف للعبد.
{إِذْ} : ظرف زماني للماضي بمعنى: حين نادى ربه.
{نَادَى رَبَّهُ} : النّداء يكون برفع الصّوت، أمّا الدعاء يكون برفع الصّوت أو خفضه.
{أَنِّى} : للتوكيد.
{مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ} : المس: هو دون اللمس؛ أي: أدنى درجات اللمس فهو اعتبر الإصابة بالمرض لسنين طويلة لمجرد المسِّ، ونسب المرض والنُّصب والعذاب الّذي يلاقيه إلى الشّيطان تأدباً مع الله سبحانه.
فقد أصابه المرض الشّديد لسنين طويلة، فكان الشّيطان يوسوس له بخواطر السّوء وكيف يحدث له ذلك وهو رسول ونبي ويتركه الله ولا يشفيه! فكانت وساوس الشّيطان تسبب له عذاباً نفسياً شديداً أشد من عذابه البدني، ورغم أنّ الله سبحانه هو ابتلاه بالمرض، فلم يذكر ذلك أبداً تأدباً مع الله تعالى. وفي سورة الأنبياء آية (83) قال:{مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
{بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} : بضم النّون والنُّصب: الضُّر ولم يقل بنَصب بفتح النّون وتعني: التّعب والمشقة كلّ ما أصابه من عمل الشّيطان ووساوسه، وعذاب: نكرة يشمل خسارة الأولاد والمال والفقر وابتعاد النّاس عنه خوفاً من العدوى رغم أنّ مرضه كان غير معدٍ.
سورة ص [38: 42]
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} :
{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} : الضّرب أي: اضرب برجلك الأرض؛ أي قلنا له: اضرب برجلك، ويقال: ركض الدّابة: جعلها تركض، إذا ضربها برجليه وهو يركبها ليحثها على السّرعة، فركضَ برجله الأرض فخرج الماء: نبع الماء فاغتسل بالماء ثمّ شرب من النّبع.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى الماء الّذي هو مغتسلٌ لك وشرابٌ.
{مُغْتَسَلٌ} : أي ماء تغتسل به فتشفى به من مرضك الجلدي، وكان من غير الأمراض المعدية؛ لأنّ زوجته لم تصب به غير الّذي كان يظنه النّاس.
{بَارِدٌ} : لماذا بارد؛ لأنّ مرضه الجلدي كان يشعر معه بحكة وألم كالحرق، والحرق حين تضع عليه شيئاً بارداً كان يخفف الألم.
{وَشَرَابٌ} : شراب لك تشربه.
سورة ص [38: 43]
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ} :
{وَوَهَبْنَا} : ارجع إلى الآية (30) من السّورة نفسها للبيان.
{لَهُ أَهْلَهُ} : تقديم "له" يدل على الحصر، أهله: أولاده.
{وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} : عاد إليه أهله بعد شفائه من المرض بعد أن ابتعدوا عنه؛ أي: الذّرية، وعادوا بزيادة الضعف من بنين وحفدة (الذّرية: الآباء والأبناء).
{رَحْمَةً مِنَّا} : رحمة عامة للمؤمن وغير المؤمن، وأمّا رحمة من عندنا أو من لدنا: فهي رحمة خاصة فقط بالمؤمنين، منا: لأنّ هذه الرّحمة لم تخصه وحده بل شملت أولاده فكانت رحمة عامة، وفي سورة الأنبياء قال تعالى:{رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا} فهذه الرّحمة خاصة بأيوب، ورحمة منا رحمة له ولذريته.
{وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ} : تذكرة لذوي العقول النّيرة. ارجع إلى الآية (29) من السّورة نفسها للبيان.
وفي سورة الأنبياء قال تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} تذكرة للعابدين باللجوء إلى الله والصّبر على ما أصابهم وعدم اليأس، إذن ما حدث لأيوب ذكرى للعابدين بشكل عام وذكرى لأولي الألباب بشكل خاص، أو ذكرى للعابدين، فإن لم يتذكر هؤلاء فعلى الأقل تكون ذكرى لأولي الألباب، ويبدو أنّ الآيات في سورة الأنبياء أخص في سياق تكريم الأنبياء، وسياق الآيات في سورة ص سياق عام.
سورة ص [38: 44]
تدل هذه الآية {وَلَا تَحْنَثْ} : على أنّ أيوب حلف يميناً على زوجته؛ لأنّها قد فعلت فعلاً وهو مريض أغضب أيوب فدلّه الله سبحانه في هذه الآية كيف يوفي بيمينه ولا يحنث، والحنث: هو الإثم والذّنب.
والحنث في اليمين إذا لم يوف بما حلف عليه يأثم ويذنب، ولذلك يجب الوفاء باليمين المؤكد أو المعقود.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} : الضّغث: جمعها: أضغاث، وتعني: التداخل وعدم الوضوح؛ أي: مختلطة؛ أي: حزمة من عيدان يابسة أو قضبان أو القش مختلطة ببعضها.
{فَاضْرِب بِهِ} : أي زوجتك، ولم يبين من يضرب به إكراماً لها؛ لأنّها كانت زوجة صابرة صالحة، فاضرب به ضربة واحدة وانتهى الأمر ويكون قد برَّ بيمينه وخرج من حنثه.
{وَلَا تَحْنَثْ} : في يمينك؛ أي لكي لا تأثم بعدم الوفاء بما حلفت به، ولتكون قدوة لمن غيرك في الوفاء والبر بالقسم.
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} : على البلاء.
{نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} : نِعم من أفعال المدح، العبد: أي أيوب، إنّه: للتوكيد، أوّاب: كثير وسريع الرّجوع إلى الله بالتّوبة والإنابة.
سورة ص [38: 45]
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ} :
المناسبة: بعد أن وصّى الله سبحانه رسوله بالصّبر على ما يقوله كفار مكة وذكره:
أوّلاً: بصبر داود على طاعة الله وعبادته (صيام يوم وإفطار يوم) وقيام الليل.
وبصبر سليمان على ما ابتلاه ربه، ولم يهبه ولداً رغم ملكه العظيم وتسخير الرّيح له والجن.
وبصبر أيوب على ما ابتلاه ربه بالمرض والفقر والأهل.
جاء في هذه الآية ليذكّره بصبر إبراهيم حين ألقي في النّار وحين أمر بذبح ولده.
وبصبر إسحاق في دعوته لبني إسرائيل إلى الإيمان والصّلاح.
وبصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره.
وبصبر إسماعيل حين تلَّه للجبين (بالذّبح).
وبصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل.
فقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} : عبادنا: إبراهيم الأب، وإسحاق الابن، ويعقوب ابن الابن (ابن إسحاق) عليه السلام .
{أُولِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ} : أولي: أصحاب، الأيدي: جمع يد؛ وتعني القوة والكرم؛ أي: أصحاب القوة في العبادة وطاعة الله والصّبر والإيمان.
والأبصار: أولي البصيرة، أو أصحاب البصائر في الفقه في الدّين والعلم ومعرفة الأحكام.
سورة ص [38: 46]
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{أَخْلَصْنَاهُم} : ميّزناهم بشيء خاص بهم، وأخلصناهم قد تعني: الإخلاص؛ أي: اصطفيناهم وجعلناهم من المخلَصين: بفتح اللام؛ أي: لنا خالصين.
{بِخَالِصَةٍ} : الباء للإلصاق والدّوام، خالصة: مزيّة صفة لا شائبة فيها وهي ذكرى الدّار؛ أي: دار الآخرة، كثيرو الحديث عن الموت وما بعده والدّار الآخرة والجنة ويذكِّرون النّاس بها.
سورة ص [38: 47]
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} :
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ} : لمن: اللام للتوكيد، من: ابتدائية بعضية.
{الْمُصْطَفَيْنَ} : الاصطفاء: هو الاختيار من الأشياء المتشابهة المتناظرة مثل: تختار من نفس الجنس الإنس؛ أي: المختارين من بين النّاس أولاً، والمصطفين من بين المرسلين.
{الْأَخْيَارِ} : أي هم من خير البرية، اخترناهم للنبوة وحمل الرّسالة، كانوا من الأخيار بإيمانهم بربهم والاستقامة على دينه وشرعه، وبأخلاقهم ومعاملتهم وصبرهم وطاعتهم المثلى.
سورة ص [38: 48]
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} :
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ} : الرّسول النّبي الحليم ومن الصّابرين على ابتلاء الله بالذّبح، والّذي كان صادق الوعد، وكان من الأخيار يأمر أهله بالصّلاة والزّكاة وكان عند الله مرضياً.
{وَالْيَسَعَ} : واذكر اليسع من الّذين فضّلنا على العالمين ومن الأخيار، وقد ورد ذكره في آيتين فقط الآية (86) من سورة الأنعام:{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} ، وورد ذكره في هذه الآية (48) من سورة (ص):{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} ولم يذكر القرآن من هو ولا متى بُعث ولا لمن أرسل.
{وَذَا الْكِفْلِ} : ورد ذكره في آيتين فقط أيضاً من الصّابرين ومن الصّالحين ومن الأخيار: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85-86]، {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 48].
وهناك من قال: إنّ ذا الكفل هو ابن أيوب عليه السلام ، وهو الوحيد من بين أولاده أصبح نبياً وسمي ذا الكفل؛ أي: الحظ والنّصيب؛ لأنّه اصطفي للنبوة.
{وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} : الواو في كلمة "وكلّ" تدل على هؤلاء وغيرهم؛ أي: كلّ من ذكر داود وسليمان وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذو الكفل وغيرهم من الأنبياء والرّسل من الأخيار، الأخيار: ارجع إلى الآية (47) للبيان.
سورة ص [38: 49]
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـئَابٍ} :
{هَذَا ذِكْرٌ} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب، ذكر: أي هذا ذكر بعض الأنبياء والرّسل. أو شرف وثناء جميل لهم يُذكرون في أقوامهم ومن جاء بعدهم. وقد تعني: هذا من الذّكر الحكيم؛ أي: القرآن لما جرى من ذكر هؤلاء الأنبياء.
{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} : إنّ للتوكيد، للمتقين: اللام للاختصاص والاستحقاق، خاص بالمتقين.
{لَحُسْنَ مَـئَابٍ} : اللام في "لحسن": للتوكيد، مآب: مرجع؛ أي: الجنة، يرجعون إليها بعد البعث والحساب، وهناك فرق بين الإياب والرّجوع، الإياب: يستعمل للرجوع إلى منتهى الغاية أو القصد ويسكن بعدها ويستقر.
سورة ص [38: 50]
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} :
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} : عدن: إقامة واستقرار، إقامة دائمة بلا زوال أو تحوّل.
{مُّفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} : مفتّحة: اسم مفعول يدل على المبالغة في فتحها؛ أي: ليلاً ونهاراً دائماً مفتّحة، مفتّحة لهم: تكريماً لهم مفتّحة لا تغلق، ولو قال مفتوحة تعني: تفتح أحياناً وتغلق أحياناً أخرى، وكما جاء في الآية (73) من سورة الزمر:{وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ؛ أي: وجدوها مفتوحة لهم.
سورة ص [38: 51]
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} :
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا} : متكئين فيها؛ أي: في جنات عدن على الأرائك، المتكئ: هو ما بين النّائم والجالس، أو ما بين النّائم والقاعد، والاتكاء يدل على الوضع الّذي يأخذ فيه الإنسان راحته كقوله تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرّحمن: 54]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} [الرّحمن: 76].
{يَدْعُونَ فِيهَا} : يطلبون فيها (في جنات عدن).
{بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} : الباء للإلصاق والدّوام، فاكهة: اسم جنس تشمل كلّ الفواكه مختلفة الأنواع والكثيرة الكمية.
{وَشَرَابٍ} : من مختلف الأنواع منه ما مزاجه من تسنيم، وشراب مزاجه من كافور، وشراب من عسل مصفى، وشراب من لبن لم يتغير طعمه ومن خمرٍ لذة للشاربين، ولم يذكر الطّعام؛ لأنّ الفاكهة والشّراب للتلذذ والمتعة أمّا الطّعام فلا داعي لذكره؛ لأنّه موجود قبل الفاكهة والشّراب.
سورة ص [38: 52]
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} :
{وَعِندَهُمْ} : عند المتقين.
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} : الطّرف: أي: العين، وفي سورة الصافات: وصفهن بقاصرات الطرف عين؛ قاصرات الطّرف: لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
{أَتْرَابٌ} : جمع تِرب: متساويات في الحسن وفي السّن كلّهن جميلات في سن واحدة، قيل: في سن (30) وحُسن القوام تتقلب في الصّورة الّتي يحبها.
سورة ص [38: 53]
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} :
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة ويشير إلى جنات عدن والنّعيم، والفاكهة والشّراب، وقاصرات الطّرف أتراب.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي، أو ما مصدرية.
{تُوعَدُونَ} : من الوعد الّذي يعدكم ربكم يوم القيامة.
{لِيَوْمِ الْحِسَابِ} : اللام للتوقيت ظرفية زمانية، يوم الحساب: يوم الدّين يوم الجزاء.
سورة ص [38: 54]
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} :
{إِنَّ هَذَا} : إنّ للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يفيد القرب.
{لَرِزْقُنَا} : اللام للتوكيد، رزقنا: عطاؤنا.
{مَا} : النّافية.
{لَهُ} : لرزقنا.
{مِنْ نَفَادٍ} : أي انقطاع أو فناء (زوال)، من نفد: فني وذهب أو زال أو قل.
سورة ص [38: 55]
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَـئَابٍ} :
{هَذَا} : تعني الكلام السّابق أو المذكور للمتقين.
{وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} : الواو استئنافية، إنّ للتوكيد، للطاغين: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، الطّاغين: جمع طاغٍ: وهو الّذي تعدّى حدود الله وخرج عن طاعة الله تعالى، وتمرّد وأصرّ واستمر بدون أن يتوب، طغوا في الكفر والفساد والضّلال.
{لَشَرَّ مَـئَابٍ} : اللام للتوكيد، شر: أسوأ مآب مرجع أو مآل منقلب، ثمّ فسره بالآية التّالية:
سورة ص [38: 56]
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} :
{جَهَنَّمَ} : شر مآب جهنم دركة من دركات النّار، ومشتقة من كونها بعيدة القعر، وما يدل على بعد قعر جهنم ما رواه مسلم في صحيحه، عن أنس بن مالك قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة (صوت سقوط الشيء) كقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]،؛ أي: سقطت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حجر رمي به في جهنم منذ سبعين خريفاً، وهو يهوي فيها الآن حتى انتهى إلى قعرها» . ارجع إلى الآية (18) من سورة الرّعد لمزيد من البيان.
{يَصْلَوْنَهَا} : يدخلونها يقاسون حرها، يحرقوا بها، من: صَلَى اللحم يَصليه: ألقاه في النّار ليشويه
{فَبِئْسَ} : الفاء للتوكيد، بئس: فعل من أفعال الذّم.
{الْمِهَادُ} : الفِراش، شبّه ما تحتهم من النّار بالمهد المريح الّذي يُعدّ للوليد ليحميه من الأذى؛ أي: لبئس ما مهدوه لأنفسهم في الدّنيا.
سورة ص [38: 57]
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} :
{هَذَا} : تستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض، أو تثنية للغرض الّذي قبله.
{فَلْيَذُوقُوهُ} : الفاء للتوكيد، ليذوقوه: اللام للتعليل، والهاء تعود على العذاب المتضمن الحميم والغسّاق، من الإذاقة والذّوق فليذوقوا العذاب.
{حَمِيمٌ} : الحميم: الماء البالغ أقصى درجات الغليان.
{وَغَسَّاقٌ} : صديد يسيل من أجسام الطّاغين من أهل النّار، غسق الجرح: إذا سال منه ماء أصفر يسمى القيح، غسقت العين: سال دمعها؛ أي: شرابهم الحميم والغسّاق.
سورة ص [38: 58]
{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} :
{وَآخَرُ} : أي وعذاب آخر كالحميم والغسّاق.
{مِنْ شَكْلِهِ} : من ابتدائية، شكله: مثله؛ أي: مثل الحميم والغسّاق في الشّدة والكره.
{أَزْوَاجٌ} : أصناف وأجناس مثل الزّمهرير وعذاب السّموم وأكل الزّقوم، سأرهقه صعوداً.
سورة ص [38: 59]
{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} :
{هَذَا} : قد تستعمل للانتقال من غرض إلى غرض، والهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة يدل على القرب يشير إلى نوح.
{فَوْجٌ} : الجمع الكثير من الكافرين والضّالّين، وجمعه: أفواج، فوج من الأتباع. انظر هذا التّدرج من القلة إلى الكثرة: نفر رهط شرذمة قبيلة عصبة طائفة ثلّة فوج فرقة حزب زمرة فئة جيل.
{مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} : المقتحم الدّاخل أو الرّامي بنفسه في جهنم، من: أقحم الفرس في النّهر؛ أي: أدخل الفرس بشدة وبعنف.
فهم يرمون بأنفسهم؛ لأنّهم يضربون بمقامع من حديد فيلقون بأنفسهم في النّار خوفاً من الضّرب بالمقامع من حديد، معكم: أي أيّها الرّؤساء أو المتبوعون.
{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} : دعاء يقوله الرّؤساء أو المتبوعون رداً على قول خزنة جهنم: هذا فوج مقتحم معكم، فيقولون: لا مرحباً بهم؛ الرّحب: هو السّعة؛ أي: لاتسعت بهم أمكنتهم ولا رحبت عليهم الأرض أو جهنم، وهذا يدل على انقطاع الصّلة والمودة بين الرّؤساء والأتباع.
ودليل على أنّ جهنم مكان ضيق مطبق غير واسع؛ لكي لا يشعروا بالرّاحة، وهذا نوع آخر من أنواع العذاب.
{إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} : إنّهم للتوكيد، صالو النّار: داخلون في النّار ومقاسون حرّها ولهيبها، من: صَلَى اللحم، يصليه؛ أي: يلقيه في النّار ليشويه.
سورة ص [38: 60]
{قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} :
{قَالُوا} : أي الأتباع للرؤساء الّذين لم يرحبوا بهم.
{بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} : بل للإضراب الإبطالي؛ أي: أنتم أحق بما قلتم، وعللوا ذلك الرّد بأنّكم أنتم قدمتموه لنا؛ أي: الكفر والضّلال والفساد، أو دعوتمونا إليه بسبب إغوائكم إيّانا وإضلالكم لنا في الدّنيا ولولا أنتم لم نقع فيه.
{فَبِئْسَ الْقَرَارُ} : الفاء للتوكيد، بئس: من أفعال الذّم، بئس المقرّ والمآب أو المقام.
سورة ص [38: 61]
{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} :
{قَالُوا} : أي الأتباع.
{رَبَّنَا} : اعترفوا وآمنوا بأنّه ربهم، آلآن؟ ويدعوه، فهم يحاولون أن يظهروا بمظهر المظلوم والمغرّر به. قالوا ربنا: حذف ياء النّداء الدّالة على البعد.
{مَنْ} : شرطية.
{قَدَّمَ لَنَا هَذَا} : أي من أضلّنا وأغوانا ودعانا للكفر والشّرك، وبالتّالي أوردنا النّار وسبّب لنا هذا العذاب.
{فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، زده عذاباً ضعفاً: أي ضاعف له العذاب بأن يصبح ضعفين أو مضاعفاً، كقوله تعالى:{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 86].
سورة ص [38: 62]
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} :
{وَقَالُوا} : الرّؤساء وقادة الضّلال والشّرك من كفار قريش ومشركيها، قالوا يوم القيامة.
{مَا لَنَا} : ما للاستفهام، تحمل معنى الإنكار والتّحقير.
{لَا نَرَى} : في النّار بعد أن نظروا حولهم.
{رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} : أين هم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم أمثال بلال وعمار وصهيب وسليمان وخباب الّذين كنا نعدّهم من الأشرار.
من ابتدائية، الأشرار: ضد الأخيار، جمع: أشرّ. اعتبروهم من الأشرار؛ لأنّهم اتبعوا دين محمّد صلى الله عليه وسلم وخالفوا دين آبائهم.
سورة ص [38: 63]
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} :
{أَتَّخَذْنَاهُمْ} : قرأ نافع وحفص والجمهور، الهمزة في "أتخذناهم" كهمزة استفهام وحذفوا همزة الوصل، أتخذناهم: الهمزة للاستفهام والإنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم؛ لأنّهم أدركوا أنّ أصحاب محمّد في الجنة.
{سِخْرِيًّا} : من السخرية: وهي استنقاص حق من يسخر منه، وأصلها الذّلّة. ارجع إلى الآية (79) من سورة التّوبة للبيان، ولمعرفة الفرق بين سِخرياً: بكسر السين، وسُخرياً: بضم السين؛ ارجع إلى الآية (32) من سورة الزخرف.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، الهمزة للتشكيك.
{زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} : أي كأنّهم ليسوا في النّار معنا، أو هم في النّار معنا ولكن لا نراهم، زاغت عنهم: مالت عنهم الأبصار لم تعد تراهم، عنهم: تفيد المجاوزة والمباعدة، الأبصار: أي الأعين.
ولمقارنة سِخرياً بكسر السّين مع سُخرياً بضم السّين ارجع إلى الآية (32) من سورة الزّخرف للمقارنة.
سورة ص [38: 64]
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} :
{إِنَّ} : للتوكيد
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة، واللام للبعد، ويشير على الّذي أخبرناك به بما يجري من حوار بين الرّؤساء والقادة من أئمّة الكفر والضّلال، والضعفاء أو الأتباع والمتبوعين في النّار.
{لَحَقٌّ} : اللام للتوكيد، والحق: هو الأمر الثّابت الّذين لا يتغير ولا يتبدل، وكأنّه وقع لا محالة (رغم أنّ السّياق في المستقبل).
{تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} : شبّه ما جرى بينهم من سؤال وجواب وحجاج أو جدال بالتّخاصم؛ أي: شعور بنوع من الكراهية والعداوة بينهم.
سورة ص [38: 65]
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} :
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قل لكفار مكة والنّاس عامة.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{أَنَا مُنذِرٌ} : منذر: اسم فاعل من: أنذر، والإنذار: هو الإعلام مع التّحذير والتّخويف من عقاب الله وعذابه، منذر لكلّ من يكفر بآيات ربه ولقائه وعبادته، منذر لكم من القهار الجبار، والنّذير: كثير الإنذار صيغة مبالغة في الإنذار، ولم يقل: بشيراً ونذيراً؛ لأن الآيات جاءت في سياق جهنم، وذكر النار، والحميم والغساق.
{وَمَا مِنْ إِلَهٍ} : الواو عاطفة، ما: النّافية المطلقة؛ أي: الشاملة، من: استغراقية لا وجود لأي آلهة إلا الله.
{إِلَّا اللَّهُ} : إلا: أداة حصر وقصر، الله: الواحد القهار.
{الْوَاحِدُ} : الّذي لا شريك له ولا ولد. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان ومعرفة الفرق بين أحد وواحد.
{الْقَهَّارُ} : صيغة مبالغة من القهر، والقهر يعني: الغلبة والقدرة كماً وكيفاً؛ أي: القادر على قهر كلّ شيء بقوته وجبروته وعزته وعلمه، والمسيطر على كلّ شيء والخاضع له كلّ شيء، وقد ذكر الاسم الواحد القهار في ست آيات في القرآن.
سورة ص [38: 66]
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} :
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : أي خالق ومالك وحاكم السّموات السّبع والأرض وما بينهما.
{الْعَزِيزُ} : مشتقة من: العزة، عزة القوة والقهر والغلبة والمنعة، القوي الّذي لا يُقهر ولا يُغلب، والممتنع لا يحتاج لأحد ولا يضره ولا ينفعه أحد.
{الْغَفَّارُ} : صيغة مبالغة من: غفر، كثير المغفرة، يمحو السّيئات ويغفر الذّنوب جميعاً مهما كثرت أو تعددت إلا الشّرك والكفر، وأما الغفور: أي: دائم المغفرة، ولمعرفة المزيد من الفرق بين غفّار وغفور؛ ارجع إلى سورة طه آية (82).
سورة ص [38: 67]
{قُلْ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك وإلى النّاس أجمعين.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ ويعني القرآن الكريم.
{نَبَأٌ عَظِيمٌ} : النّبأ هو الخبر العظيم، والنبأ: أهم من الخبر، وفيه فائدة للناس، ويعني النبأ؛ أي: القرآن الكريم وما فيه من الأنباء والآيات والأحكام والوعد والوعيد وأنباء الرسل والغيب والبعث والوحدانية ولا (إلهٍ إلا الله الواحدُ القهار).
سورة ص [38: 68]
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} :
{أَنتُمْ} : للتوكيد، عن: تفيد المجاوزة والابتعاد.
معرضون: أي لا ترغبون في سماعه أو تأبَون سماعه ولا تهتدون به ولا تؤمنون به، وفي الآية توبيخ لهم.
{مُعْرِضُونَ} : تدل على أنّ الإعراض عندهم أصبح صفة ثابتة فيهم.
سورة ص [38: 69]
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} :
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} : ما النّافية، ينفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بهذه الآية علم الغيب، كان: تشمل كلّ الأزمنة، من علم: استغراقية، أيّ علم، بالملأ الأعلى: أي الملائكة إلا عن طريق الوحي.
{إِذْ} : ظرف زمان للماضي.
{يَخْتَصِمُونَ} : ولم يقل إذ اختصموا، يختصمون: للدلالة على حكاية الحال؛ أي: يريد أن يضع فعل يختصمون كأنّه يحدث الآن وأمام مرأى العين، حين اختصموا بعد أن أخبرهم الله سبحانه أنّه جاعلٌ في الأرض خليفة، قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، وفي شأن السّجود لآدم وامتناع إبليس. وبيّن نوع الخصام في الآية (71) القادمة.
سورة ص [38: 70]
{إِنْ يُوحَى إِلَىَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
{إِنْ} : تفسيرية أو نافية.
{يُوحَى إِلَىَّ} : الوحي لغة: إعلام بالخفاء، وفي الشّرع: ما يُلقي الله سبحانه على أنبيائه ورسله من تكاليف وتعاليم دينية وآيات ووعد ووعيد. ارجع إلى سورة النّساء آية (163).
{إِلَّا} : للحصر.
{أَنَّمَا} : للقصر.
{أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} : بيّنٌ واضح الإنذار، نذير: صيغة مبالغة من الإنذار، وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف، نذير لكلّ مسلم ولكلّ إنسان، وبيّن الإنذار واضح لا يخفى على أحد ولا يحتاج إلى دليل أو برهان.
سورة ص [38: 71]
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} :
{إِذْ} : ظرف تعني: واذكر إذ أو إذ بمعنى حين؛ أي: واذكر حين قال ربك للملائكة.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} : أي آدم، من ابتدائية، طين: يعني تراب + ماء. ارجع إلى سورة الحجر آية (26) للبيان. والدراسات العلمية تشير إلى أن تركيب جسم الإنسان فيه (16) عنصراً من عناصر التّربة أو أكثر مثل الصّوديوم والبوتاسيوم والحديد والكلورايد والماغنزيوم والكالسيوم، خالق: بالتّنوين ليدل على الحال أو الاستقبال.
سورة ص [38: 72]
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} :
ارجع إلى الآية (29) من سورة الحجر للبيان. والسؤال: ما هو الفرق بين: (فقعوا له)، أو (اسجدوا) أو (خروا سجداً)؟
فقعوا له: أي: مباشرة اسجدوا وبسرعة وبدون أي تأخير.
خروا سجداً: هبوط فيه صوت يشبه خرير الماء.
وأما السجود: فهو السجود المعتاد سجود الصلاة أو التلاوة.
سورة ص [38: 73]
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} :
ارجع إلى الآية (30) من سورة الحجر للبيان.
سورة ص [38: 74]
{إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء، استثناء منقطع؛ أي: المستثنى ليس من المستثنى منه أي:
{إِبْلِيسَ} : المستثنى، والمستثنى منه: الملائكة، وهو ليس من جنسهم فهو من الجن وكان مع الملائكة آنذاك، والأمر بالسّجود كان للملائكة وله أيضاً.
{اسْتَكْبَرَ} : أبى أن يسجد بسبب استكباره، وبيّن سبب استكباره في الآية (76) القادمة، وارجع إلى الآية (87) من سورة البقرة لبيان معنى استكبر وتكبر.
{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} : كان لا تعني الزّمن الماضي، فهي تستعمل للحاضر والمستقبل أيضاً، كان بدءاً من تلك اللحظة من الكافرين ومن قبل لم يكن، من ابتدائية، ولم يقل أول الكافرين؛ لأن هناك من سبقه إلى الكفر من شياطين الجن.
سورة ص [38: 75]
{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} : ما للاستفهام، وهل سبحانه لا يعلم ما منع إبليس من السّجود ليستفهم؟ طبعاً لا، ولكن هذا نوع من الاستفهام ليظهر للبشر الّذي لدى إبليس من التّكبر الّذي كان سبباً لطرده من الجنة، فلا يفعلوا ما فعل إبليس. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (32) من سورة الحجر وهي قوله تعالى:{مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} ، والآية (12) من سورة الأعراف وهي قوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ؛ ارجع إلى سورة الأعراف آية (12) لبيان الفرق.
{أَنْ تَسْجُدَ} : أن حرف مصدري للتعليل والتّوكيد، وأصلها أن لا تسجد، والمانع إمّا أن يكون من الغير "عامل خارجي" مثل القهر والإكراه، وإمّا أن يكون عاملاً داخلياً مثل الكِبر أو التّكبر.
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} : لما: للذي خلقت بيدي، بيدي: تكريماً له؛ أي: آدم عليه السلام .
{أَسْتَكْبَرْتَ} : الألف والسّين والتّاء تعني: الطّلب والهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّقريع لإبليس. ارجع إلى سورة البقرة آية (87).
{أَمْ} للإضراب الانتقالي.
{كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} : قيل: العالين نوع من الملائكة مثل حملة العرش الّذين لم يشملهم الأمر بالسّجود.
سورة ص [38: 76]
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} :
قال إبليس: أنا خير منه؛ أي: من آدم؛ خلقتني من نار وخلقته من طين، كان من الأفضل لإبليس أن يكتفي بالصّمت بقوله: أنا خير منه، ولكنه يريد أن يخبر أنّ النّار أفضل من الطّين، فهذا كان تصور إبليس وظنه.
سورة ص [38: 77]
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} :
{قَالَ} : سبحانه لإبليس.
{فَاخْرُجْ مِنْهَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، منها: من الجنة.
{فَإِنَّكَ} : الفاء تعليلية، إنّك للتوكيد.
{رَجِيمٌ} : تعني من المبعدين والمطرودين من رحمة الله ومن كلّ خير، والرّجيم: الملعون والمذموم أو المرجوم بالشّهب الثّاقبة [الصافات: 10]، أو الشهب المبينة [الحجر: 18].
سورة ص [38: 78]
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} :
{وَإِنَّ} : الواو عاطفة، إنّ للتوكيد.
{عَلَيْكَ لَعْنَتِى} : على تفيد الاستعلاء والمشقة، واللعنة تعني: الطّرد من رحمة الله ومن كلّ خير، وقوله: لعنتي ولم يقل {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35] لعنتي أقوى تأكيداً وشدة من قوله: وإنّ عليك اللعنة، ولعنتي تفيد الاستمرار واستبعاد العفو؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (161-162) لمقارنة آيات اللعن في القرآن.
{إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} : يوم الحساب والجزاء، ارجع إلى الآية (161) من سورة البقرة؛ للمقارنة والبيان.
سورة ص [38: 79]
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} :
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى} : قال إبليس: رب فأنظرني: الفاء للتوكيد، أنظرني: أخّرني أو أمهلني، وهذه الآية نفسها ذكرت في سورة الحجر آية (36)، وفي سورة الأعراف آية (14)؛ حذف الفاء {قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} والسبب في وجود الفاء في آيتي (ص) والحجر: أنها تعيد السبب (أي: فاء السببية)؛ أي: ما قبلها سبب ما بعدها.
{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : إلى حرف غاية (لعموم الغايات) يوم يبعثون؛ أي: يوم البعث، فهو يريد أن ينجو من نفخة الموت، النّفخة الأولى نفخة الصّعق والموت، ويبقى أحياناً إلى النفخة الثانية (نفخة البعث)، ولم يستجيب الله سبحانه له.
سورة ص [38: 80]
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} :
{قَالَ فَإِنَّكَ} : قال تعالى فإنّك: الفاء للمباشرة، إنّك للتوكيد.
{مِنَ الْمُنظَرِينَ} : من ابتدائية، المؤخَّرين أو الممهلين إلى يوم الوقت المعلوم حتّى النّفخة الأوّلى.
سورة ص [38: 81]
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} :
{إِلَى} : حرف غاية لعموم الغايات (بداية أو نهاية أو ما بين ذلك).
{يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} : أي يوم أو وقت النّفخة الأولى نفخة الصّعق والموت حيث تموت كلّ الخلائق.
سورة ص [38: 82]
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} :
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} : قال إبليس، فبعزتك: الفاء: للعطف، وتفيد التوكيد، بعزتك يا رب عن خلقك وغناك عنهم وعن طاعتهم، وأنّك تَقهر ولا تُقهر، وتَغلب ولا تُغلب، ولا يضرك ولا ينفعك أحد من خلقك، فبعزتك: الباء باء القسم، يقسم بعزة الرّب.
{لَأُغْوِيَنَّهُمْ} : اللام لام التّوكيد، والنّون في "أغوينهم" لتأكيد الإغواء، أغوينهم من الإغواء: الإضلال والفساد؛ أي: أغوين عبادك أجمعين. ارجع إلى سورة الحجر آية (42) لمزيد من البيان.
{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد، فلا ينجو أحدٌ من الغواية لن يُستثنى أحدٌ.
سورة ص [38: 83]
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} : أخلصوا دينهم وطاعتهم لله ووحّدوا الله تعالى وتقبّل الله إخلاصهم فجعلهم من المخلَصين، فهؤلاء لن أقدر على إغوائهم وإضلالهم. ارجع إلى سورة الصّافات آية (40) للبيان.
سورة ص [38: 84]
{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} :
الاحتمال الأوّل:
{قَالَ فَالْحَقُّ} : قال تعالى: فالحق: لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
{وَالْحَقَّ أَقُولُ} : أي ولا أقول إلا الحق.
الاحتمال الثّاني:
{فَالْحَقُّ} : قولي، أو الحق مني.
{وَالْحَقَّ أَقُولُ} : ولا أقول إلا الحق، أو لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
الاحتمال الثّالث:
{فَالْحَقُّ} : أي أنا الحق.
{وَالْحَقَّ أَقُولُ} : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين، والحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل.
سورة ص [38: 85]
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} :
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} : اللام للتوكيد، والنّون في "أملأن" لزيادة التّوكيد.
{جَهَنَّمَ مِنْكَ} اسم من أسماء النّار أو دركة من دركاتها. ارجع إلى سورة الحجر آية (43) لمزيد من البيان، والآية (56) من نفس السورة لبيان معنى جهنم.
منك: من جنس؛ أي: من الشّياطين منك ومن ذريتك.
{وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} : أي مَنْ سار على نهجك واتّبع خطواتك ووساوسك وإغواءك.
{مِنْهُمْ} : من الثّقلين الإنس والجن.
{أَجْمَعِينَ} : توكيد لكلّ من تبعك من ذرية إبليس ومن ذرية آدم.
سورة ص [38: 86]
{قُلْ مَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} :
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} : ما النّافية، أسألكم عليه: على تبليغ الوحي أو الرّسالة أو القرآن.
{مِنْ أَجْرٍ} : من استغراقية تعني: أيّ أجر قليل أو كبير، ولو أدنى الأجر أو أعظم الأجر.
{وَمَا أَنَا} : تكرار "ما" النّافية يفيد توكيد النّفي.
{مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} : المتقوّلين كما في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} لا أزيد ولا أنقص من الوحي، ارجع إلى قوله:{قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] للمقارنة.
سورة ص [38: 87]
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} :
{إِنْ} : النّافية أقوى نفياً من ما.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد، يعود على القرآن الكريم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} : ذكر من الله تعالى، من: الذّكر والتّذكير والبيان كقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، فالقرآن يذكرك بكلّ ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك. ارجع إلى الآية (1) من السّورة نفسها.
العالمين: اللام لام الاختصاص، العالمين: عالم الإنس وعالم الجن (الثّقلين)، وذكر: أقوى وأشد توكيداً من قوله: ذكرى، يستعمل "ذكر" في سياق الدّعوة والتّبليغ والشرف ورفعة القرآن، وذكرى تستعمل في سياق النّسيان والتّذكير العادي، ولا ننسى بداية السّورة (ص) وهي قوله تعالى:{ص وَالْقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ} وختام السّورة قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} مما يدل على أن القرآن كأنه عقد واحد نظمت آياته وسوره على أكمل وجه في الاتصال المحكم الوثيق يدل على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وأنه المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة.
سورة ص [38: 88]
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} :
{وَلَتَعْلَمُنَّ} : الواو عاطفة، لتعلمن: اللام لام التّوكيد، والنّون في "تعلمن" لزيادة التّوكيد.
{نَبَأَهُ} : صدق أخباره وصدق ما وعد به، وصدق وعيده وما ذكر فيه، وصدق ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم.
{بَعْدَ حِينٍ} : بعد: ظرف للزمان والمكان، حين: ظرف للزمان غير محدد الزّمن، وقد يطول أو يقصر.
لتعرفن دلالة هذه الآيات وهذه الألفاظ بعد حين قد يطول أو يقصر، وتعني: لن تعرفوا دلالاتها كاملة في زمن واحد؛ لأنّ دلالات هذه الآيات قد يتضح معناها شيئاً شيئاً مع اتساع معرفة الإنسان، وليبقى القرآن فوق كلّ هذه المعرفة مهما اتسعت دوائرها وحتّى لا تنقضي عجائبه، ولمعرفة الفرق بين الحين والدّهر: الدّهر هو أوقات متوالية مختلفة.
سورة الزمر [39: 1]
سورة الزمر
سورة الزّمر [الآيات 1 - 5]
ترتيبها في القرآن الكريم رقم (39) أمّا ترتيب نزولها فكان (59).
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} : التّنزيل يدل على النّزول على دفعات، تنزيلُ: والإنزال: يدل على النّزول جملة واحدة (دفعة واحدة). ونزل أو أنزل تدل من أعلى إلى أسفل.
وتدل على شرف المنزّل، وهو الله وعلو مكانته، وعلى شرف ما أُنزل (وهو الكتاب) وعلى شرف المُنزل عليه أو إليه (وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل عليك حين يكون المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به صلى الله عليه وسلم، ونزل إليك (إلى تفيد عموم الغايات) وتفيد النهاية، أيْ: أن ينتهي إلى النّاس كافة. أيْ: بداية عليك ونهاية إلى النّاس.
وكما قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشّعراء: 192 ـ 194].
{الْكِتَابِ} : أي: القرآن الكريم سُمِّي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في السّطور، وسُمِّي القرآن؛ لأنّه مقروء ومحفوظ في الصّدور، وجاء بأل التّعريف للدلالة على أنّه الكتاب الكامل التّام. ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{مِنَ اللَّهِ} : الله: اسم علم يدل على واجب الوجود ارجع إلى سورة النّمل آية (26) للبيان.
{الْعَزِيزِ} : مشتقة من العزة عزة القوة والمنعة والقهر والغلبة فهو القوي الممتنع الغني عن خلقه لا يضره أحد ولا ينفعه أحد، القوي الّذي يَقهر ولا يُقهر ويَغلب ولا يُغلب.
{الْحَكِيمِ} : مشتقة من الحكم فهو أحكم الحاكمين، ومن الحكمة فهو أحكم الحكماء، الحكيم في تدبير خلقه وكونه وشرعه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة الزمر [39: 2]
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} : أنزلنا، أيْ: جملة واحدة دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، إليك: تفيد الانتهاء، إليه تستعمل لعموم الغايات، وتستعمل عادة في الأمور التي لا تختص بالدعوة، وعليك: تفيد المشقة والعلو، وتستعمل في سياق الدعوة والتبليغ. ارجع إلى الآية (4) من سورة البقرة لمزيد من البيان.
{الْكِتَابَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (1) وارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة لمزيد من البيان والآية (41) من نفس السّورة.
{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق، أيْ: أنزلناه بالحق، الحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتبدل ولا يتغير وليس هناك غيره، أيْ: أنزلناه بالحق بداية وظل على الحق لم يتغيَّر ولم يتبدَّل وسيظل إلى يوم يُرفع من الأرض، والباء تدل على الإلصاق والملازمة كقوله تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42].
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} : فاعبد: العبادة طاعة العابد للمعبود (أي: الله سبحانه) فيما أمر به وفيما نهى عنه والعبادة لها منهج ولها جزاء ولا تكون إلا للخالق وحده، وحسب ما أراده وتعني: الخضوع مع المعرفة بالمعبود. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لمزيد من البيان.
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} : الفاء لبيان العلة (أي: اعبد الله وحده، أو اعبده موحِّداً إياه لا تشرك به شيئاً).
{لَهُ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، له: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر.
{الدِّينَ} : له وحده العبادة والطّاعة والدّين ما يطاع به المعبود، ويشمل جملة الشرائع، أو الشرعة (ما ورد في القرآن) ويشمل المنهاج (ما ورد في السنة). ارجع إلى سورة البقرة آية (132) لمزيد من البيان في معنى الدِّين.
سورة الزمر [39: 3]
{أَلَا} : أداة تنبيه.
{لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} : لله الجار والمجرور يفيد الحصر له وحده الدِّين الخالص من أيِّ شائبة مثل الشّرك والولد والنّد والمثيل والرّياء، لله الدّين الخالص: لأنّه هو وحدهُ الّذي شرعه وهو الّذي يجزي عليه.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} : والّذين عبدوا من دونه: من غيره (من غير الله أولياء: كالأوثان والأصنام والملائكة وعيسى وعزير).
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أيْ: يقولون: ما نعبدهم (ما نعبدهم ما النّافية)، أو قائلين ما نعبدهم.
{إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : إلا أداة حصر، ليقربونا: اللام للتوكيد يقربونا عند الله زلفى: قربى أيْ: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله بالشّفاعة لنا.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : إن للتوكيد، يحكم بينهم: بين الّذين اتخذوا من دونه أولياء والأولياء، أيْ: بين المشركين وأوليائهم مثل الأصنام والآلهة وعيسى والملائكة وبين الموحدين والمشركين وبين الأمم والخلائق. والحكم أو القضاء يتم بين أفراد الأمة الواحدة، أو الملة الواحدة، بينما الفصل يتم بين الأمم المختلفة أو الملل.
{فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : من أمر الدّين والتّوحيد وعيسى عليه السلام، ولم يقل: فيما كانوا فيه يختلفون؛ لأنّه سياق الآية في الدّنيا وليس في الآخرة.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} : إن الله: للتوكيد، لا يهدي: لا النّافية، يهدي، من: ابتدائية استغراقية، من هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، كاذب: أيْ: مفتر على الله الكذب يقول لله ولد أو يتخذ أصناماً آلهة لتشفع له أو تقربه عند الله زلفى.
كاذب: أي: الكذب صفة ثابتة فيه دائم الكذب.
كَفار: كثير الكفر صيغة مبالغة، وكفار: تدل على الاسم والكثرة، ولو قال: لا يهدي الكافرين؛ الكافرين، أو الكافرون: تدل على الحدث؛ أي: الفعل.
أيْ: لا يوفق ولا يُعين هؤلاء الّذين أرادوا الضّلالة لأنفسهم وأصروا عليها، على الرّجوع عنها، والعودة إلى الهداية والصّراط المستقيم.
سورة الزمر [39: 4]
{لَّوْ} : حرف امتناع لامتناع، امتناع وقوع الجواب لامتناع وقوع الشّرط.
{أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} : فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ ولداً أصلاً ولا حتّى على سبيل الافتراض، ولو أراد ذلك لقال: كن فيكون (أيْ: وقع ما أراد).
{لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، اصطفى: اختار، مما: من +ما، يخلق ما يشاء. ارجع إلى سورة الأعراف آية (144) لمزيد من البيان في معنى الاصطفاء، والفرق بين الاصطفاء والاختيار والاجتباء.
{سُبْحَانَهُ} : أيْ: أنزهه من كلّ شريك وندٍّ ومثيل وولد، ومن كلّ ما لا يليق بذاته وصفاته وأفعاله. ارجع إلى سورة الإسراء آية (1)، وسورة الحديد آية (1) لمزيد من البيان في التسبيح.
{هُوَ اللَّهُ} : هو ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد، الله: واجب الوجود.
{الْوَاحِدُ} : لا ثاني له ولا شريك له ولا ولد ولا ولي، وكذلك هو أحد، أيْ: لا مثيل له، ليس كمثله شيء لا مثيل ولا ندَّ. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) لمزيد من البيان، ومعرفة الفرق بين أحد وواحد.
{الْقَهَّارُ} : صيغة مبالغة من قهر؛ أيْ: ذلَّت له جميع المخلوقات والكائنات؛ لأنّه هو القوي العزيز الجبار؛ فلا يحدث أي شيء في العالمين إلا بإذنه، وجميع الخلائق فقراء إليه. ارجع إلى سورة ص آية (65) لمزيد من البيان.
سورة الزمر [39: 5]
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} : الحق الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيَّر فالسّموات والأرض ثابتة لا تتغير في تركيبها وبعدها ومدارها ودورانها. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (18) للبيان، وارجع إلى سورة الأنبياء آية (30)، وسورة فصلت آية (9-12)، وسورة الأعراف آية (54) لبيان كيفية كان الخلق.
{يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ} : وهذه الآية تشير أنّ الأرض كروية الشّكل وتدور حول نفسها وحول الشّمس فالنصف المقابل للشّمس يضيء بسبب الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض والّتي تضيء بحزمة من أشعة الشّمس فتسبب النّهار، وتكون طبقة الضّياء مكورة لطبقة الظّلام بينما النّصف غير مقابل للشّمس تكون فيه طبقة الظّلام مكورة طبقة النّهار غير المضيئة بأشعة الشّمس (فيكون الليل سائد في ذلك النّصف من الكرة الأرضية).
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُسَمًّى} : ارجع إلى سورة فاطر آية (13) للبيان وسورة الأعراف آية (54) وسورة يونس آية (5).
{أَلَا هُوَ} : أداة تنبيه وافتتاح.
{الْعَزِيزُ} : ارجع إلى الآية (66) من سورة (ص) للبيان.
{الْغَفَّارُ} : ارجع إلى الآية (66) من سورة (ص) للبيان.
وقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُسَمًّى} إشارة إلى حتمية فناء الكون ونهاية الشّمس والقمر، وكل مخلوق له أجل مسمّىً، ومنها الجمادات والنّباتات فكل مخلوق له بداية ونهاية.
سورة الزّمر [الآيات 6 - 10]
سورة الزمر [39: 6]
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : أيْ: خلقَ آدم وخلقَ حواء وخلق كلّ باقي الإنس من نفس واحدة، أيْ: من ذات واحدة من أصل واحد. ارجع إلى سورة النّساء آية (1) والأعراف آية (189) للبيان.
{ثُمَّ} ليست للترتيب والتّراخي، وإنما للتباين في الصّفات، أيْ: رغم أن النّفوس متشابهة في الأصل تبقى مختلفة في الطباع والفطرة، مثل تغليب العاطفة على العقل في الأنثى بشكل عام، ومن ناحية الحب والكراهية وغيرها.
{جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : الجعل هو مرحلة بعد الخلق؛ أي: خلقه ثم جعله، والجعل من جعل؛ أي: صيَّر.
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} : وأنزل لكم: أي: خلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج، والإنزال يجب أن لا ينظر إليه كجهة فقط فالإنزال قد يأتي بمعنى إنزال الماء (المطر) الّذي يسبب النّبات والعشب الّذي تعيش وتتغذَّى به الأنعام فهو سبب عيشها، أو بمعنى أنزل الشّفرة أو الصّفات الوراثية لهذه الأنعام بأن جعل لكلّ زوج صفاته الخاصة به، وقد تعني: أنزلها من جنة أخرى، ولا تعني: جنة الخلد التي في السماء إنما جنة مثل جنة آدم. (جنة على الأرض)، والله أعلم.
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} : من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين. ارجع إلى سور الأنعام آية (143).
{يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} : يخلقكم في بطون أمهاتكم من نطفة، ثم من علقة، ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم مرحلة العظام، ثم يكسو العظام لحماً.
{فِى ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} : قيل ظلمة البطن (جدار البطن)، وظلمة الرّحم (جدار الرّحم)، وظلمة الأغشية المحيطة بالجنين الغشاء غشاء المشيمة، والغشاء الأميونسي، وقيل: الظّلمات الثّلاثة: ظلمة جدار الرّحم وظلمة الغشاء الأميونسي والغشاء الكريوني، وسُمِّيت ظلمة لعدم وجود النّور مثل ظلمة الليل، والظّلمة قد تعني: السّكون والهدوء (في الرّحم).
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} : ذلكم: ذا اسم إشارة واللام للبعد والتّعظيم والكاف للمخاطب، أي: الّذي خلقكم في ظلمات ثلاث وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج هو الله ربكم، فهذا الخلق والقدرة تدل على عظمته ووحدانيَّته، ولذلك بدأ بقوله:(الله) أي: المعبود والإله الحقيقي الّذي يستحق العبادة وحدَه؛ لأنه خلقكم وأنزل لكم من الأنعام.
{رَبُّكُمْ} : الّذي خلقكم ورزقكم ومربيكم ومدبِّر أموركم، فجمع الألوهية والرّبوبية معاً في هذه الآية. وذلكم: تفيد التعظيم، وأوسع معنى للجمع من ذلك وآكد.
{لَهُ الْمُلْكُ} : له تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، له: اللام لام الاختصاص، له الملك: له الحكم والملك (فهو الحاكم والمالك).
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} : أنى: تعني كيف ومن أين وتعني الاستفهام الإنكاري والتّعجب من انصرافهم عن عبادة الله الإله الحق إلى عبادة غيره أو انصرافهم عن الحق إلى الباطل، ومن التّوحيد إلى الشّرك، رغم هذه الأدلة والبراهين القاطعة.
سورة الزمر [39: 7]
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.
{تَكْفُرُوا} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{فَإِنَّ اللَّهَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط إن الله: للتوكيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لبيان معنى الكفر.
{غَنِىٌّ عَنكُمْ} : أيْ: غني عن إيمانكم وعبادتكم وغني تعني: لا حاجة به إليكم.
{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} : ورغم كونه غنياً عنكم وعن إيمانكم فهو لا يحب أن تكونوا كافرين رحمةً بكم؛ لأنّكم من خلقه ولا يريد أن يعذبكم.
لعباده: اللام لام الاختصاص.
الكفر هو السّتر ويعني: الجحود بوجوده والإيمان به أو عبادته أو بنعمه عليكم.
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} : إن شرطية تفيد القلَّة والنّدرة.
وإن تؤمنوا بربكم وتطيعوه وتستجيبوا له يرضه لكم، الرّضا القبول أن يقبل منكم، ولم يقل: وإن تؤمنوا بربكم قال: وإن تشكروا؛ لأنّ الإيمان والطّاعة من مظاهر الشّكر له، وإن تشكروا الله على نعمه الّتي لا تعد ولا تحصى وعلى نعمة الإيمان والإسلام يرضه لكم.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : لا: النافية، ولا تزر: ولا تحمل أو تتحمَّل، الوزر: الحمل ويعني: الذّنب والإثم، ولا النّافية.
وازرة؛ أي: نفس وازرة آثمة، وزر أخرى: ذنب أو إثم أو جرم نفس أخرى فكل إنسان مجزيٌّ بعمله، أيْ: لا تحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى، ويبدأ ذلك من زمن التّكليف، وعلى شرط أن لا تكون سبباً في إضلال النّفس الأخرى فعندها يتعدَّى ظلم النّفس إلى ظلم نفس الأخرى عندها تتحمَّل إثمها وإثم النّفس الأخرى، كما قال تعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} : وإن لم تؤمنوا بربكم فاعلموا أنكم سترجعون إليه وستجزون على كفركم، ثم: للترتيب والتّراخي في الزّمن.
إلى ربكم مرجعكم: إلى ربكم تقديمها يفيد الحصر والقصر إليه وحده مرجعكم، وإلى تفيد عموم الغايات، أيْ: بعد البعث ترجعون إليه للحساب والجزاء.
{فَيُنَبِّئُكُمْ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، ينبئكم: يخبركم ويطلعكم على سجل أعمالكم في الدّنيا. وينبئكم مشتقة من النّبأ وهو الخبر العظيم الّذي يعني أعمالكم.
{بِمَا كُنتُمْ} : الباء للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
{تَعْمَلُونَ} : في الدّنيا وتعملون تشمل الأقوال والأفعال.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : إنه: إن: تفيد التّوكيد، عليم: صيغة مبالغة كثير العلم أن يعلم ما تسرون وما تعلنون وما تبدون وما تكتمون ويعلم السّر وأخفى، ويعلم خفايا صدوركم، وما يجول في خواطركم وقلوبكم على الدّوام وما يسكن فيها من الأسرار.
سورة الزمر [39: 8]
{وَإِذَا} : الواو استئنافية، إذا: ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث وكثرة الحدوث.
{مَسَّ الْإِنسَانَ} : المس يأتي للضر وغير الضر، يأتي مع الرحمة ويأتي مع العذاب.
ضُر: بضم الضّاد، الضُّر بالضّم يعني: الهزال وسوء الصّحة، أي: المرض وسوء الحال.
أمّا الضَّر بفتح الضّاد فضد النّفع، أيْ: ما تضر به غيرك وتنفع به نفسك مع عدم علمه بأنّك تضره. ولنقارن معنى الضُّر مع السّوء والكرب.
السّوء: ما يسيء إلى النّفس مع العلم به.
والكرب: هو المكروه أو العذاب أو الضّر الّذي لا تملك أو تستطيع دفعه عن نفسك ولا أحد آخر إلا الله وحده. ارجع إلى الصّافات آية (76) للبيان.
{دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} : دعا: من الدّعاء، دعا ربه خالقه ورازقه ومدبر أمره ليكشف عنه الضّر، وأقبل على ربه وتضرع إليه بذل وانكسار وتاب إليه، ووعد ربه بالاستقامة والرّجوع عن ذنبه والإيمان.
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} : ثم: تفيد التّباين بين موقف دعا ربه منيباً إليه وكونه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، أو ثم تفيد التّراخي في الزّمن والتّرتيب، أيْ: بعد مدة طويلة.
{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث وبكثرة.
{خَوَّلَهُ} : أعطاه وملَّكه نعمه من دون عوض.
{نِعْمَةً مِّنْهُ} : النّعمة هي ما يهبه الله لعبده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة، نعمة منه: نعمة جاءت بصيغة النّكرة لتشمل كلّ أنواع النّعم من الصّحة والمال والغنى والأهل والأمن والطّعام والشّراب وغيرها.
نعمة بالتّاء المربوطة، ولم يقل: نعمت بالتّاء المفتوحة؛ فتدل على نعمة ظاهرة للعيان، وليست خفية أو عامة للبشر. ولو جاءت بالتّاء المفتوحة نعمت لدلَّت على أنّها نعمة خاصة أو لا يمكن إحصاؤها، وخاصة بالمؤمنين. نعمة منه: أي: نعمة عامة تخص المؤمن أو الكافر، أو الصالح والطالح، ولم يقل نعمة من عندنا، أو من لدنا التي تخص فقط المؤمنين والأولياء الصالحين، أو الأنبياء والرسل.
{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} : نسي: تعني: نسي من كشف عنه الضّر وأنقذه وهو ما زال يذكر ضره وبليته ولا ينساها، أو نسي ما أصابه من ضر وبلية ونسي من كشف عنه الضّر وأنقذه، أيْ: نسي كلّ شيء.
{مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ} : ما للعاقل وغير العاقل، أيْ: عامة وتعني: الّذي أو مصدرية.
{مِنْ قَبْلُ} : أيْ: حين أصابه الضّر.
فهذا الإنسان ابتلاه ربه فأصابه الضّر، فدعا ربه فكشف عنه ضره، ثم خوَّله ربه نعمة بعد ضره فنسي ما أصابه من ضر، وفرح بها وراح يشرك بالله بدلاً من أن يشكر ربه ويتوب إليه ويستقيم إيمانه.
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} : بدلاً من شكر النّعم والاستقامة اتخذ لله أنداداً، النّد: هو المثيل والنّظير، أيْ: جعل لله تعالى شركاء، أيْ: أشرك بالله تعالى. ارجع إلى سورة البقرة آية (22) لمزيد من البيان.
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : اللام للتعليل، عن سبيله: عن دين الله وشرعه، يُضل: أيْ: يضل نفسه ويُضل غيره عن دين الله وهو الإسلام والتّوحيد.
{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} : قل يا رسول الله له: تمتع بكفرك: التّمتع: الانتفاع والتّلذُّذ العاجل، بكفرك: الباء للإلصاق واللزوم.
الكفر قد تعني جحود نعمة الله وسترها وعدم شكر المنعم، أو كفر العقيدة والإيمان، أيْ: تمتع بالشّرك وعبادة الأصنام وغيرها.
{قَلِيلًا} : أيْ: زمناً قليلاً بقية أجلك (متاع موقوت بالدّنيا أو مدة حياته) ومهما طال فهو قليل بالنّسبة للآخرة.
{إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} : إن للتوكيد، من: ابتدائية.
{أَصْحَابِ النَّارِ} : أصحاب جمع صاحب، وصاحب مشتقة من الصّحبة وتعني: الملازمة فهم لا يفارقونها وهي لا تفارقهم. وفي الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الّذين يفعلون مثل ذلك.
سورة الزمر [39: 9]
{أَمَّنْ} : أصلها أم + من أدغمت أم في من (اسم موصول) أمن الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّخيير بين أمرين، وأم قد تكون للإضراب الانتقالي والاستفهام جوابه محذوف ليشمل كلّ الاحتمالات.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{قَانِتٌ} : من القنوت، أي: الطّاعة والدّعاء، قانت مطيع لله.
وقد تعني دائم الخضوع والعبادة، وتشمل في معناها الخشوع والدّعاء والخشوع غير القنوت. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (2) للبيان.
{آنَاءَ الَّيْلِ} : آناء جمع إنُو، أيْ: جزء من الليل، أو آناء الليل ساعات الليل ومن حيث التّصرف أأناء قلبت الهمزة إلى مد والواو إلى همزة فصارت أناء.
{سَاجِدًا} : في صلاته أو مصلياً، السّجود جزء من الصّلاة عبَّر عن الكل بالجزء.
{وَقَائِمًا} : في صلاته يتلو آيات ربه ويدعوه.
{يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} : يحذر: يخاف عذاب الآخرة والحذر هو الحيطة.
{وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} : مغفرته وجنته، يرجو يأمل ويطلب منه النّجاة من النّار.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{هَلْ} : للاستفهام وتفيد النّفي.
{يَسْتَوِى} : من الاستواء في الجزاء والثّواب والعلم والجهل.
{الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} : أيْ: علماء الدّين والفقه والشّرع والأحكام.
{وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : أي: الغافلون الجاهلون عن الآخرة، وإن كانوا يعلمون ظاهراً من الحياة الدّنيا علوم الدّنيا.
{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة تفيد التّوكيد.
{يَتَذَكَّرُ} : من التّذكر، وتعني: هذا الشّيء معلوم في السّابق ويتذكره أولو الألباب.
{أُولُو الْأَلْبَابِ} : أصحاب العقول النّيرة المؤمنة الموحدة. ارجع إلى سورة البقرة آية (179، 197).
سورة الزمر [39: 10]
بعد نفي المساواة بين الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون، يعظ الله رسولَه بأن يذكر الّذين آمنوا بالتّقوى والهجرة والصّبر.
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أو قل لهم: يناديكم ربكم بهذا النّداء.
{يَاعِبَادِ} : يا أداة نداء للبعد، عبادِ: أي: الّذين آمنوا واختاروا طريق الإيمان، وهناك فرق ين عباد وعبادي وعبيد؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (186) لمعرفة الاختلاف بينها، والآية (17) من نفس السورة.
{اتَّقُوا رَبَّكُمْ} : بطاعة وامتثال أوامر ربكم وتجنب نواهيه اتقوا غضب وسخط ربكم واتقوا القهار الجبار واتقوا ناره واتقوا ربكم: استقيموا على طاعة وامتثال أوامر وتجنب نواهيه.
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} : اللام لام الاختصاص، الّذين أحسنوا: الّذين تجاوزوا درجة التّقوى وساروا في طريق الإحسان وأحسنوا العمل بالطّاعة والعبادة إحسان الكم وإحسان الكيف وإحسانهم لم يعد مقتصراً عليهم، بل تعداهم إلى غيرهم والّذين عبدوا الله كأنّهم يرونه، وتعريف الإحسان ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة للبيان.
{فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} : في ظرفية، هذه: الهاء للتنبيه، وذا اسم إشارة يشير إلى دار الدّنيا.
حسنة: جاءت بصيغة التّنكير للتعظيم وللدلالة على الكمال ولتشمل أيَّ حسنة، ومنها الصّحة والعافية والغنى والأمن والأهل والنّصر والعزة والعلم وغيرها، وحسنة قد تعني: الجنة أو الدار الأخرة، وقد تعني: في الدنيا والأخرة معاً.
ولمعرفة معنى الحسنة ارجع إلى سورة البقرة آية (201).
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} : وما علاقة أرض الله واسعة بالتّقوى، تعني: إذا لم تتمكَّنوا من إقامة شعائر الدّين والتّقوى في بلدكم فهاجروا إلى أرض أخرى فالأرض جميعها هي أرض الله، كقوله تعالى:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النّساء: 97].
وقيل: أرض الله الواسعة: قد تعني أرض الجنة.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} : يوفى: أي يعطوا أجرهم بغير حساب، الصّابرون لها معانٍ عدة منها: الصابرون الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلا إلى الخالق، والصّابرون على مفارقة أوطانهم والهجرة في سبيل الله، أو الصّابرون في بلادهم على أذى الكفار والمشركين وعدم تمكُّنهم من الهجرة؛ لأنه سبق هذا ذكر وأرض الله واسعة التي تدل على الهجرة، والصّابرون على طاعة الله وتجنُّب معاصيه مثل الصّلاة والصّيام والدّعوة إلى الله، والصّابرون على البلاء ومنها فتنة الدّين وإعلاء كلمة الله. والصابرون: جملة اسمية تدل على الثبات؛ أي: صبرهم دائم ومستمر، وتختلف عن الذين صبروا التي تدل على التجدد والتكرار.
فهؤلاء وغيرهم يوفَّون أجرهم بغير حساب فلا ينصب لهم ميزان ولا يُنشر لهم ديوان، فلم تعد الحسنة بعشر أمثالها ولا بـ (70) ضعفاً أو (700) ضعف، بل أكثر من ذلك بكثير ولا يعلم مقدار أجرهم إلا الله الّذي أعطاهم إياه، وقد يكونوا من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
سورة الزّمر [الآيات 11 - 21]
سورة الزمر [39: 11]
{قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، لقومك:
{إِنِّى} : للتوكيد.
{أُمِرْتُ} : بواسطة الوحي.
{أَنْ} : تفيد التّعليل والتّوكيد.
{أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} : أي: اعبده عبادة خالصة لله وحده من غير شرك أو رياء، أو اعبد الله وحدَه لا شريك له؛ أي: عقيدةً، والآية (12) {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}؛ أي: في الفرائض والتكاليف.
مخلصاً: أيْ: موحِّداً، توحيد الألوهية والرّبوبية والصّفات والأسماء له: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر له وحده.
الدّين: يشمل الشّرعة والمنهج (الأحكام والكتاب والسّنة). ارجع إلى سورة البقرة آية (132) للبيان، ومخلصاً له الدين مقارنة بقوله تعالى في الآية (14) في نفس السورة مخلصاً له ديني؛ لأن عبادة الله بإخلاص مأمور بها كل عبد، أي: وليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
سورة الزمر [39: 12]
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} :
{وَأُمِرْتُ} : تكرار أمرت للتوكيد ولفصل الأمر الأوّل عن الثّاني، فالأمر الأول بالإخلاص والأمر الثّاني بالسّبق ليكون أول المسلمين منزلة في الفرائض والتكاليف كالصلاة، والزكاة، والصيام، وغيرها من العبادات (الجوارح).
{لِأَنْ} : اللام للتوكيد والاختصاص، أن: للتعليل.
{أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} : قد تعني:
1 -
أول المسلمين من هذ الأمة.
2 -
أو أول المسلمين من لدن آدم إلى قيام السّاعة، أولوية تفوُّق، أيْ: أشدهم إسلاماً، وليست أولوية بالزّمن؛ لأنّ هناك الكثير من الرّسل الّذين أعلنوا إسلامهم قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل نوح وإبراهيم وإسماعيل وكل الرّسل الآخرين.
ولا توجد آية في القرآن تقول: وأنا أول المؤمنين إلا آية واحدة جاءت في سياق موسى عليه السلام حين طلب الرّؤيا فصعق موسى، ولا تعني هذه الآية الإيمان العقدي، وإنما أنا أول المؤمنين بأني غير قادر على رؤيتك يا رب في الدنيا كما قال تعالى:{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]. ارجع إليها للبيان.
سورة الزمر [39: 13]
{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :
{قُلْ إِنِّى} : ارجع إلى الآية (11).
{أَخَافُ إِنْ} : إن: تعليلية، أخاف: من الخوف وهو توقع الضّرر المشكوك في وقوعه.
{عَصَيْتُ رَبِّى} : بعدم الإخلاص له في العبادة والتّوحيد أو عصيته في أي أمور.
{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : أيْ: يوم القيامة، عظيم: أشد أنواع العذاب الأليم والمهين والكبير، كقوله تعالى:{قُلْ إِنِّى لَنْ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن: 22]؛ أي: كوني نبياً لن يشفع لي عصيت ربي شيئاً.
سورة الزمر [39: 14]
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِى} :
ما الفرق بين هذه الآية والآية (11): {قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} :
في الآية (14) قدَّم المفعول على الفعل أو المعبود على العبادة، قدَّم كلمة الله على العبادة.
وفي الآية (11) قدَّم العبادة وأخَّر المعبود (الله) قدَّم الفعل على الفاعل، فهذه الآية جاءت موافقة للترتيب الطّبيعي للجملة الفعل، ثم الفاعل، ثم المفعول.
وتدل على أنّه مأمور من جهة الله بفعل العبادة والإخلاص.
أما الآية (14) فقدَّم المفعول على الفعل ليفيد القصر أو الحصر في العبادة على الله وحده دون غيره، فهو يُبيِّن في هذه الآية أنّ العبادة والإخلاص تخصُّ الله وحدَه دون غيره، وتؤكد كذلك أن العبادة لله تعالى وحده مرة أخرى.
أيْ: كأنه يقول: أنا لا أعبد إلا الله، وأنتم اعبدوا ما شئتم من دونه، كما جاء في الآية (15) التّالية، وقوله تعالى: مخلصاً له ديني وليس مخلصاً له الدين؛ لأن الإخلاص خاص أو أمر يختلف من إنسان إلى أخر. ارجع إلى الآية (11) في نفس السورة للمقارنة.
سورة الزمر [39: 15]
{فَاعْبُدُوا} : الفاء للترتيب والتّعقيب.
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِنْ دُونِهِ} : ظاهر هذه الآية التّخيير والحقيقة هي تهديد ووعيد وتوبيخ إن فعلوا ذلك ولا تعني الإذن لهم بعبادة غير الله، كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون: 6].
{مَا شِئْتُم} : ما اسم موصول لغير العاقل مثل الأصنام والقمر والنّجوم والكواكب والآلهة، وللعاقل مثل عيسى وعزير والأولياء.
{مِنْ دُونِهِ} : من غيره أو سواه ثم بين سبحانه عاقبة الشرك والكفر بالله تعالى.
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} : أيْ: إذا عبدوا ما شاؤوا من دون الله يصبحون ظالمين لأنفسهم بالكفر والشّرك، فعندها سوف يخسرون أنفسهم يوم القيامة ويصبحون من أصحاب النّار.
والسّؤال: كيف يخسروا أهليهم أيضاً، أهليهم، ولم يقل أهلهم أهليهم تعني أولادهم وذريتهم وأزواجهم وأقاربهم، فالذّرية والأهل تعني: فقط الزوجة والأولاد أمام أمرين: إما أن يؤمنوا فلن يكونوا عندها مع الآباء في النّار بل في الجنة، وإما أن يتبعوا آباءَهم في الكفر والشّرك فيكونوا خاسرين كآبائهم، فالآباء خاسرون لذريتهم وأهليهم في كلا الحالتين إنّ ذريتهم دخلوا الجنة أو اتبعوهم؛ أي: يخسروا أهليهم (الذرية والأقارب) بعدم كونهم معاً؛ أي: لن يرونهم؛ لأنه سيكون فريق في الجنة وفريق في السعير، أو خاسرين لهم بأن أدخلوهم النار معهم.
{أَلَا} : أداة افتتاح وتنبيه.
{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويفيد الذّم ويشير إلى الخسران.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْخُسْرَانُ} : على وزن فعلان للمبالغة في الخسارة، ولم يكتف بقوله: الخسران، وإنما أضاف إليه المبين. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، وسورة هود آية (22) لبيان معنى خسر، خسران، خسارة، الأخسرون.
{الْمُبِينُ} : أي: الظّاهر الجلي لكلّ فرد وإنسان وهو خسران واضح لا يحتاج إلى أدلة أو برهان.
سورة الزمر [39: 16]
{لَهُمْ} : اللام للاختصاص والاستحقاق تعود على الخاسرين الّذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
{مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} : كلمة من فوقهم ولم يقل: فوقهم تعني الظّلل ملاصقة لهم من فوقهم مباشرة من دون فاصل مكاني، وكذلك ومن تحتهم ولو قال فوقهم يحتمل أن يكون هناك مسافة مكانية بينهم بين الظّلل، وقوله: ظلل: أيْ: أطباق من النّار أو طبقات كقوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]، وكقوله تعالى:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41].
ظلل: من الظّل والظّل مكان للراحة عادة لا تصله الشمس؛ فاستعمل ظلل جمع ظله، والظلال مفردها ظل، وهو: المكان المظلل الذي يحجب أشعة الشمس كأسلوب للتهكم على الكافرين وتهديد ووعيد وزجر لعلهم يتوبون ويرجعون عن كفرهم. ارجع إلى سورة يس لمزيد من البيان في معنى الظل والظلال.
{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} : ذلك اسم إشارة للبعد يشير إلى العذاب الشّديد الذي يخوف الله به عباده: لكي ينزجروا عن المعاصي والمحارم ولا يقربوا منها.
{يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} : يا أداة نداء فيها استمالة وحنان، فاتقون: الفاء للتوكيد، اتقون: سخطي وغضبي وناري بامتثال أوامري واتقون ولم يقل: واتقوني، أي: اتقون بأيِّ وسيلة ولو بأقل وقاية أو درجة.
سورة الزمر [39: 17]
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح والتّعظيم.
{اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} : الاجتناب: الابتعاد، الطّاغوت: الأصنام والأوثان أو الشّياطين، وكل معبود من دون الله وهو راض بهذه العبادة. ارجع إلى الآية (256) من سورة البقرة لبيان معنى الطاغوت.
أن: مصدرية تعليلية توكيدية.
يعبدوها: ارجع إلى سورة النّحل آية (73) لبيان معنى العبادة.
{وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} : بالإيمان وبه وعبادته وتوحيده، الإنابة سرعة التّوبة والرّجوع إلى الله. أيْ: سألهم أمرين الاجتناب والإنابة.
{لَهُمُ الْبُشْرَى} : لهم اللام للاختصاص والاستحقاق، البشرى: في الحياة الدّنيا والآخرة.
البشرى الخبر السّار لأوّل مرة لهم البشرى في القرآن والتّوراة والإنجيل وعلى ألسنة الرّسل وقيل: إنّ هذه البشرى تكون عند الوفاة وفي القبر وعند البعث.
{فَبَشِّرْ عِبَادِ} : الفاء للتوكيد، بشر عباد: الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر عباد: عباد الّذين وصفهم الله تعالى بقوله: اجتنبوا الطّاغوت وأنابوا إلى الله والّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وهناك فرق بين عبيد، وعبادي، وعباد.
1 -
عبيد: الكل عبيد الله تعالى المؤمن والكافر والمتقي والعاصي كقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182].
2 -
عبادي: أفضل من عبيد هم الّذين آمنوا بالله واختاروا أن يكونوا عباد الله تعالى فوصفهم بالقول عبادي، كما قال تعالى:{يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53].
3 -
وعباد: هم الصّفوة المؤمنة الّذين جاء وصفهم في هذه الآية، والآية (18) القادمة، وأعلى درجة من عبادي، وفي الآخرة الكل يصبح عباد؛ لأنه ليس في الآخرة عبادة، ولا تكليف. ارجع إلى سورة البقرة آية (186) لمزيد من البيان.
سورة الزمر [39: 18]
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح والعلو.
{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} : القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أيْ: كلام الله تعالى وكلام رسوله. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (68) لمزيد في معنى القول والفرق بين القول والقرآن.
{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} : كلمة أحسنه مشتقة من أحسن، وفيها مبالغة، فأحسن على وزن أفعل التّفضيل، وأحسن قائل هو الله ورسوله وأحسن ما قيل في الدّين، أمثلة على ذلك:
{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشّورى: 40] هذا أحسن أو حسن، وأحسن من ذلك {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وأحسن من ذلك:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}: وأحسن من ذلك: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النّحل: 126].
وكما في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} (هذا أمر حسن وأحسن منه ذلك): {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [البقرة: 271].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} : أولئك: اسم إشارة يفيد البعد بعد المنزلة ويشير إلى الّذين اجتنبوا الطّاغوت وأنابوا إلى الله ويستمعون القول فيتبعون أحسنه.
{هَدَاهُمُ اللَّهُ} : هداية: خاصة، أيْ: زادهم هدى وتوفيق.
وكما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمّد: 17].
{وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} : تكرار أولئك يفيد التّوكيد، هم تعني: هم أولو الألباب حقاً وبلغوا أعلى درجاتهم، أولو أصحاب، واللب جزء من الدّماغ تسمَّى منطقة الإدراك والفهم كلّ صاحب لب له عقل، وليس كلّ صاحب عقل له لب.
أولو الألباب أصحاب العقول النّيرة الصّفوة من المؤمنين الّذين يعقلون، يتفكرون، يتدبرون، يتذكرون.
وما هو الفرق بين أولئك الّذين هداهم الله وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90].
الّذين هداهم الله: هم المؤمنون الموحدون الّذين وصفهم الله بكونهم اجتنبوا الطّاغوت وأنابوا إلى الله ويستمعون القول فيتبعون أحسنه، أيْ: هم فئة معينة لهم شريعة واحدة.
الذين هدى الله: تعني: جملة من الرّسل عدد من الرّسل لهم شرائع مختلفة، والرّسل من الّذين هداهم الله.
سورة الزمر [39: 19]
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِى النَّارِ} :
{أَفَمَنْ} : استفهام إنكاري.
{حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} : وجب وثبت حكم الله عليه في سابق علمه على الدّخول في النّار، أأنت قادر على أن تنقذه من النّار، والخطاب موجَّه إلى الرّسول وإلى غيره من المؤمنين.
أفأنت تقدر على هدايته بأن تلح عليه فتنقذه من النّار، جواب الاستفهام محذوف وتقديره طبعاً لا.
وقيل: كلمة العذاب هي: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85].
وقال تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} : تعود على العذاب ولم يقل: حقت، في اللغة يجوز التّذكير والتّأنيث ولكن ذكرها هنا بصيغة المذكر رغم أنّ (كلمة ربك) مؤنثة؛ لأنّ السّياق في الآخرة، ولأنّ كلمة العذاب هي العذاب ذاته أو نفسه.
{أَفَأَنْتَ} : الهمزة: للاستفهام والتقرير، والفاء تفيد التّوكيد أفأنت: أشد توكيداً من قوله: أأنت تنقذ من في النّار؛ لأن الفاء أقوى من الهمزة؛ الخطاب موجَّه إلى الرّسول وغيره، تنقذ: أيْ: بالشّفاعة أو أيِّ وسيلة.
سورة الزمر [39: 20]
المناسبة: بعد أن ذكر الّذين حق عليهم كلمة العذاب يذكر بالمقابل المتقين الّذين لهم غرف من فوقها غرف مبنية.
{لَكِنِ} : حرف استدراك وتوكيد.
{الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} : الّذين اسم موصول يفيد المدح والتّعظيم.
اتقوا ربهم: امتثلوا أوامره وتجنبوا نواهيه.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} : جمع غرفة والغرفة اسم جنس والغرف منازل رفيعة عالية في الجنة أو درجات عالية، والغرفة تعني كلّ بناء عال مرتفع. ارجع إلى سورة الفرقان آية (75) لمزيد من البيان.
{مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ} : منازل ارفع من منازل، فالجنة درجات قيل: مئة درجة.
{مَّبْنِيَّةٌ} : أيْ: بنيت ومهيأة ومعدَّة الآن.
{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع الأنّهار من تحتها، وهذا يدل على عظمة الخالق.
{وَعْدَ اللَّهِ} : وعد مصدر لفعل وعد يعد، والوعد: إذا أطلق اختص بالخير، وقد يستعمل في الشّر على سبيل التّهكم ويعني: الإخبار بشيء سار قبل أوانه والوعد يقتضي الإنجاز والوعيد يكون دائماً في الشّر.
{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} : لا النّافية، يخلف الميعاد: الميعاد مشتقة من الوعد وتطلق على الزّمان والمكان. ارجع إلى الآية (85) من سورة القصص للبيان، ومقارنة ميعاد مع معاد.
سورة الزمر [39: 21]
{أَلَمْ تَرَ} : الهمزة همزة استفهام تحمل معنى التّقرير والتّعجب، لم حرف نفي.
تر: الرّؤية بصرية عينية حقيقة وما يخبرنا به الله تعالى دائماً أصدق مما تراه أعيننا.
ألم تر أقوى وآكد من قوله: ألم تعلم: لأنّ عين اليقين أعلى درجة من علم اليقين، ولكن ألم تعلم: أوسع وأشمل من ألم تر؛ لأنَّ العلم أوسع من الرّؤيا وأعلى من عين اليقين حق اليقين.
{أَنَّ اللَّهَ} : أن مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} : من السّحاب والسّماء تعريفها كلّ ما علاك والسّحاب يعلو الإنسان فالسّماء هنا تعني السّحب الرّكامية ومن ابتدائية.
{مَاءً} : هو ماء المطر.
{فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الْأَرْضِ} : الفاء للمباشرة والتّرتيب، سلكه: ادخله بسهولة في الأرض وجعل له مجاري خاصة به أو مسالك في الأرض كشبكة تحت الأرض، فصار يجري من مكان إلى مكان أو مكان مرتفع إلى منخفض، ويتحول إلى شكل ينابيع أيْ: عيون (جمع عين) وهي الأمكنة الّتي ينبع منها الماء.
ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18) لمزيد من البيان.
{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} : ثم للترتيب والتّراخي في الزّمن، يخرج به الماء، زرعاً: ما ينبت على غير ساق.
والشّجر: ما له ساق وأغصان، والنّبات يشمل الجميع.
{مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} : أخضر وأبيض وأصفر، قمح، شعير، رز، ذرة، وغيره من أنواع الحبوب.
{ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} : ثم للترتيب والتّراخي في الزّمن، يهيج: من هاج يهيج تحرك، أيْ: ثار بمعنى يصبح كثيفاً بسبب نموه وكثرته.
فتراه: الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة.
مصفراً: ييبس ويصفر بعد الخضرة، فلا بُدَّ له أن يصفر ويجف.
{ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} : ثم للترتيب والتّراخي، حطاماً: متفتتاً متكسراً، حطم الشّيء: كسر الشّيء يشبه مرحلة العظام والرّفات.
فهذه التّغييرات الّتي تحدث في الزّرع أو النّبات تحدث في الإنسان فهو يمر بأطوار تشبه الأطوار الّتي يمر بالنّبات، فالنّبات كائن حي يشبه الإنسان فالإنسان يكون وليداً، ثم طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يموت ويصبح عظاماً ورفاتاً.
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن للتوكيد، في ظرفية، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى ما يحدث للزرع والنّبات يحدث للإنسان.
{لَذِكْرَى} : تذكيراً وتنبيهاً واللام للتوكيد، أيْ: حال ما يحدث للزرع والنّبات يحدث لحال الإنسان ولحال الدّنيا.
{لِأُولِى الْأَلْبَابِ} : اللام لام الاختصاص، أولي الألباب: ارجع إلى الآية السّابقة (18).
سورة الزّمر [الآيات 22 - 31]
سورة الزمر [39: 22]
{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير والإثبات وجواب الاستفهام محذوف تقديره لا يستوي مع من لم يشرح الله صدره.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} : أيْ: يُقبل على طاعة الله تعالى وعبادته بعشق وحب وجد بنفس مطمئنة ويؤدِّي الفرائض والتّكاليف بخشوع وكمال ويكثر من النّوافل والذّكر وتلاوة القرآن والاستقامة على ذلك.
للإسلام: اللام لام الاختصاص.
{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} : على تفيد الاستعلاء كأنّه يسير على نور من ربه، هدى من ربه والنّور هو نور القرآن نور معنوي، وليس حسيّاً فهو يعيش حياته على نور من ربه على نور هدي القرآن وتعاليمه وأوامره وأحكامه.
{فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} : الفاء للتوكيد، والويل الهلاك أو العذاب.
للقاسية قلوبهم: اللام لام الاختصاص، أي: الهلاك والعذاب لمن تأبى قلوبهم الإيمان بالقرآن والعمل به، أو ويل لمن يعرضون عن القرآن ولا يتبعونه أو يكذبونه والقساوة: تعني الإعراض أو التّكذيب والنّفور عن القرآن والدّين.
{مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} : أي: القرآن ولم يقل: عن ذكر الله، عن تفيد الابتعاد والمجاوزة.
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله تعني: القسوة حصلت من سماع الذّكر أيْ: بسبب السّماع، أمّا فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله فتعني: القسوة حصلت بالإعراض، بعدم السّماع لآيات الله أو ذكر الله على الإطلاق.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يفيد الذّم.
{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : في ابتعاد عن الحق ظاهر وبين للكل في ابتعاد عن دين الله والهداية وبشكل متعذِّر معه رجوعهم عن ضلالهم وضلالهم، بيِّن لكلّ فرد له اتصال بأولئك وهو ضلال بيِّن لا يحتاج إلى دليل أو برهان.
سورة الزمر [39: 23]
{اللَّهُ نَزَّلَ} : تقديم الفاعل (الله) على الفعل (نزل) للحصر والقصر والاهتمام، نزل: بشكل تدريجي وعلى دفعات، أيْ: منجماً.
{أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} : وهو القرآن الكريم وأحسن على وزن أفعل التّفضيل، أيْ: أبلغ الحديث وأصدقه، وسُمِّي أحسن الحديث وفيه أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. لأنّه كلام الله تعالى وقصص الله تعالى، الحديث يعني: الإخبار بما حدث وسيحدث وما هو كائن بالنّسبة للكون وللخلق، وأمّا الفرق بين الحديث والقول والقيل، فإنّ الحديث يستدعي أنّ هناك محدثاً ومشاركاً، أيْ: متكلماً وسامعاً، أمّا القول والقيل فلا يُشترط ذلك.
{كِتَابًا} : سُمِّي كتاباً لكونه مكتوباً في الأسطر للحفظ من التغير والتبديل.
{مُّتَشَابِهًا} : يشبه بعضه بعضاً في المعاني والألفاظ والبلاغة والإعجاز وحسن النّظم. ولا اختلاف فيه ولا تناقض.
{مَّثَانِىَ} : لأنّ الرّوايات تُتلى وتكرَّر على الدّوام، وكذلك الأنباء والقصص تُتلى وتكرَّر، مثاني من التّثنية، أي: الإعادة والتّكرار، فهو يُتلى ويكرَّر على مدى (24) ساعة.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} : ولإيضاح ما يحدث هو أن تلاوة القرآن أو سماع تلاوة القرآن بخشوع وخوف ينبِّه منطقة بالدّماغ تسمَّى المنطقة تحت السّرير البصري الّتي تسيطر على الأعصاب المسمَّاة الودِّية.
وهذا يؤدِّي إلى تقبض العضلات المسؤولة عن انتصاب الشّعر وحدوث القشعريرة والخوف والخشوع.
{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} : الخشية تعني: الخوف المصحوب بالعلم ممن تخاف والشّعور بمهابة وعظمة الخالق، يخشون ربهم، ولم يقل: بالغيب؛ إذ يخشون ربهم خشية مطلقة غير مقيَّدة بالغيب أو العلن، أيْ: في كلّ زمن في الخفاء أو العلن؛ أي: أمام الناس، وهناك فرق بين الخشية والخوف؛ فالخوف: هو توقع الضرر المشكوك في وقوعه، وأما الوجل: فهو الفزع مع اضطراب القلب.
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} : أيْ: بعد أن تقشعر جلودهم وتضطرب قلوبهم بالتّسرع في الضّربات من سماع آيات الإنذار والوعيد.
{ثُمَّ} : للترتيب العددي (وليس التّرتيب والتّراخي في الزّمن) ثم إذا سمعوا آيات الوعد والبشارة يعودون فيتذكرون رحمة الله وعفوه ومغفرته مما يؤدِّي إلى اطمئنان قلوبهم فتهدأ أعصابهم من إثارتها فتعود فتتوقف عن الإثارة؛ مما يؤدِّي إلى أن تليّن جلودهم وقلوبهم بين سماع آيات القرآن وما أعده الله لعباده الصّالحين.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ} : ذلك: اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى القرآن هدى الله.
يهدي به من يشاء: أيْ: من اختاروا لأنفسهم طريق الهداية وامتثال أوامر الله تعالى وتجنب نواهيه.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} : ومن شرطية تفيد العاقل، يضلل: ينحرف عن طريق الحق والصّراط المستقيم والدّين ويصر على فجوره. ويبتعد بعيداً عن سبيل الله.
فما له من هاد: أيْ: هادٍ يهديه مرة أخرى للرجوع إلى الطّريق المستقيم.
فما له: الفاء للتوكيد، ما: النّافية، له: اللام لام الاختصاص له حصراً أو خاصة، من: استغراقية تستغرق كلّ فرد، هاد: يهديه مرة أخرى إلى الطّريق المستقيم. فما له من هاد بعد أن تخلَّى الله عنه وتركه في غيِّه وضلاله.
سورة الزمر [39: 24]
{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير، وجواب الاستفهام محذوف.
{يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : لأنّ يديه مغلولتان إلى عنقه يوم القيامة، فلا يجد ما يتَّقي به سوء العذاب (النّار وغيرها) سوى وجهه، وليس هناك أيُّ وسيلة أخرى إلا الوجه وهو أعز وأشرف الأعضاء. الّذي يتلَّقى به العذاب.
وحذف الجواب وتقديره: كمن هو آمن يوم القيامة لا يحتاج إلى الاتقاء بأيِّ شيء لا بيده ولا بوجهه.
{يَتَّقِى} : يصون أو يدفع عنه العذاب.
{وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} : القائل مجهول قد يكونون خزنة جهنم، والمهم هنا المقولة، للظالمين: اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، الظّالمين: المشركين أو الظّالمين لأنفسهم وغيرهم من البشر.
{ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} : ذوقوا وبال أو جزاء ما كنتم تكسبون.
{ذُوقُوا} : أصل الذّوق: هو إدراك الطّعم بالفم ويستعمل مجازاً في إدراك غيره من الأشياء المعنوية كالرّحمة والنّعمة. واستعمل حاسة الذّوق الّتي هي مخصصة للطعام والشّراب في الدّنيا لتذوق العذاب الشّديد والمؤلم يوم القيامة، وكما أنّ الطّعام والشّراب يؤثِّر في كافة أعضاء الجسم، وكذلك العذاب سيكون أثره ووباله على كلّ الجسم فلا ينجو عضوٌ منه.
{مَا} : بمعنى الّذي أو مصدرية ذوقوا ما كسبتم.
{كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} : أنتم في الدّنيا تكسبون فلم يقل تكتسبون؛ لأنّ الكسب يكون في الخير والاكتساب يكون للشر، واستعمل تكسبون لأنّهم اعتادوا على اقتراف المعاصي واستمروا عليها، وأصبحوا ذوي خبرة حتّى أصبحت ممارستهم للذنوب والآثام سهلة جداً، كأنّهم حين يقومون بها تشبه قيامهم بصالح الأعمال.
ارجع إلى سورة البقرة آية (286) لمزيد من البيان.
سورة الزمر [39: 25]
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} :
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من، تعني: ليس من زمن بعيد، تفيد القريب، أي: الأمم الماضية الّذين كذبوا رسلهم.
{قَبْلِهِمْ} : أيْ: كفار مكة.
كذب الّذين من قبلهم: كذبوا رسلهم وكذبوا بآيات ربهم.
{فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} : العذاب مثل الخسف والقتل والأسر والخزي والجلاء والزّلازل والكوارث الطّبيعية.
{مِنْ حَيْثُ} : حيث ظرفية مكانية.
{لَا يَشْعُرُونَ} : من حيث لا يحتسبون ولا يعلمون، ولم يخطر لهم ببالهم أنّ العذاب يأتيهم من هذا المكان أو الجهة أو بهذا الشّكل أو بغيره.
سورة الزمر [39: 26]
{فَأَذَاقَهُمُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أذاقهم ارجع إلى الآية (24).
{الْخِزْىَ} : هو الذّل مع الفضيحة في الحياة الدّنيا بالهزيمة والأسر والفقر والتّشريد ويكون عذاب الخزي أحياناً أشد من القتل.
{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ} : اللام للتوكيد عذاب الآخرة أكبر، أيْ: أكبر من الخزي والشّدة من عذاب الحياة الدّنيا؛ لكونه عذاباً مقيماً لا يخفف ولا ينقطع. أيْ: دائم.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : لو: شرطية، كانوا يعلمون: ما كذبوا رسلهم، أو لو كانوا يعلمون شدة العذاب وكبره لانتهوا وآمنوا وما كفروا، لكنهم لا يعلمون لكونهم جهالاً وحمقى.
سورة الزمر [39: 27]
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ} : الضّرب هو إيقاع شيء فوق شيء بقوة ليحدث أثراً.
{لِلنَّاسِ} : اللام لام الاختصاص خاصة للناس، أي: الثّقلين الإنس والجن.
{فِى هَذَا الْقُرْآنِ} : في ظرفية، هذا، الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة القرآن: الكريم وسُمِّي قرآناً؛ لأنّه مقروء من السّطور ومقروء في صدور الحفظة.
{مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} : ضرب المثل غايته توضيح أو تقريب مسألة ما إلى الأفهام والعقول بضرب شيء معنوي بشيء حسي مثلاً.
من: ابتدائية، كل: للتوكيد من كلّ مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم.
{لَّعَلَّهُمْ} : لعل للتعليل.
{يَتَذَكَّرُونَ} : لا ينسون ما ذُكر لهم سابقاً ويستقيمون على الصّراط المستقيم، وهذه هي غاية من غايات ضرب المثل وليست الغاية للتسلية والعبث.
سورة الزمر [39: 28]
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :
{قُرْآنًا} : سُمِّي قرآناً؛ لأنّه مقروء يقرأ من الأسطر أو بالتّلقي.
{عَرَبِيًّا} : أنزل بلسان عربي مبين، فلا عذر لهم من عدم فهمه وتدبره، ومعرفة معناه وغايته.
{غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} : غير: تفيد المغايرة؛ أيْ: بريئاً من الاختلاف والتّناقض والتّضاد واللبس والشّك، أيْ: بريئاً من العوج: العِوج بكسر العين مختص بما ليس مرئياً، ويشمل الرّأي والقول، والعَوج بفتح العين: مختص بما هو مرئي.
{لَّعَلَّهُمْ} : لعل للتعليل.
{يَتَّقُونَ} : الشّرك والكفر والمعاصي ويطيعون أوامر الله ويتجنبون نواهيه أو يتقون النّار، يجعلون بينهم وبينها حاجزاً.
يتقون بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والتّكرار.
سورة الزمر [39: 29]
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : ارجع إلى الآية (27) من هذه السورة، وإلى الآية (74) من سورة النّحل.
{رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} : التّشاكس الاختلاف يتنازعون فيه، وقيل: رجل شكس: صعب الخلق شرس الطّباع، أيْ: عبد لعدة أسياد لا يعرف كيف يرضي كلاً منهم؛ لأنّهم متشاكسون.
{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} : سلماً، أيْ: قد سَلِمَ من غير منازع، أيْ: يأخذ كلّ الأوامر من سيد ومالك واحد مرتاح يعرف ما يرضي سيده. والسَّلم: الذل والاستسلام الكامل الشامل لله وحده.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ} : أيْ: هل يستوي عبد مملوك لجماعة متشاكسين: مختلفين. أخلاقهم سيئة فهو في حيرة من أمره أيهم يُرضي، وعلى أيهم يعتمد، وهذا مثل المشرك الّذي يعبد عدة آلهة فهو مرهق وظالم لنفسه باتخاذ كلّ أولئك الآلهة والأولياء، وعبد موحِّد مملوك خالص لإله واحد ليس له غيره يعرف كيف يرضي سيده.
{هَلْ} : للاستفهام والتّقرير، وهل آكد من الهمزة في الاستفهام، كما لو قال: أيستويان.
{يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} : مثلاً: ولم يقل: مثلين؛ لأنّ كلّ منهما يكفي عن الآخر، وفي هذا المثل الحث على التّوحيد أو ترك الشّرك، والأمر الثّاني توكيد للمثل الأول فهما مثل واحد.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : الّذي لم يجعل له شريكاً ولا ولداً، أو الحمد لله على ضرب المثل، وتبيُّن الحق من الباطل وإقامته الحُجَّة عليهم أو الكلِّ.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ} : بل للإضراب الانتقالي.
{لَا يَعْلَمُونَ} : الحق فيشركون به، ويجعلون له ولداً أو ندّاً أو شريكاً.
ولا يظن أحدٌ خطأ أنّ الحمد لله هنا يعود على أنّ أكثرهم لا يعلمون وقد تكون عائدة إلى الآية القادمة (31) بل أكثرهم لا يعلمون أنك ميت وأنّهم ميتون.
سورة الزمر [39: 30]
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} :
هذه الآية قد تكون تتمة للآية: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقد يعلمون، ولكنّهم يتجاهلون الموت.
{إِنَّكَ} : للتوكيد الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويجب أن نفرق بين:
{مَيِّتٌ} : بفتح الميم وتشديد الياء، تعني أن الموت لم يحدث بعد، سيحدث في المستقبل، وأما سكون الياء (لو سُكنت الياء) كما في قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]؛ فذلك يدل على أن الموت حدث وانقضى.
أي: لا بُدَّ من المسارعة إلى الإيمان، فليس هناك زمن طويل ولا ينتهي الأمر بالموت، بل هناك الاختصام والفصل والحكم عند الرّب الحكيم، ولو قارنا هذه الآية مع الآية (15) من سورة المؤمنون:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} فقد أكد في سورة المؤمنون بزيادة اللام لام التوكيد؛ ارجع إلى سورة المؤمنون للبيان.
سورة الزمر [39: 31]
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{إِنَّكُمْ} : أيْ: إنك وإياهم غلب ضمير المخاطب على ضمير الغائب.
{يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} : هذا دليل على أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم سوف يخاصم قومه، أيْ: يحاججهم بأنّه بلغهم الرّسالة وأدَّى الأمانة، الاختصام: هو التّنازع في الأمر يحدث أمام رب العالمين يستدعي القضاء والفصل.
يوم القيامة: يوم الفصل يوم تصفية المنازعات والقضاء فيه يتخاصم الكافر والمؤمن والظّالم والمظلوم حتّى أن النّفس تجادل عن نفسها كقوله: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا} [النّحل: 111].
سورة الزّمر [الآيات 32 - 40]