المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الزمر [39: 32] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٢٤

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الزمر [39: 32]

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} :

{فَمَنْ} : استفهام يحمل معنى الإنكار والتّعجب.

{أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} : الجواب: لا أحد أظلم من هذا الّذي يكذب على الله أظلم على وزن أفعل وأفظع وأعظم الكذب على الله بأن يزعم أنّ لله ولداً أو شريكاً أو صاحبة، أو يقول: أوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء وغيرها من أنواع الافتراء والاختلاق.

{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} : بالقرآن والإسلام والنّبي والتّوحيد والبعث والحساب والجزاء والباء للإلصاق واللزوم، وسُمِّي الصّدقَ؛ لأنّه كلام الله سبحانه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النّساء: 87].

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النّساء: 122].

كذَبَ وكَذَّب: الأولى كَذَبَ بالتّخفيف والثّانية كذَّب بالتّشديد فيها مبالغة في الكذب والكثرة، أيْ: تكذيبه للقرآن كان أشد وأكثر تنوعاً.

كقوله: سحر وشعر وإفك وأساطير الأولين وافتراء.

{إِذْ جَاءَهُ} : إذ ظرف للزمان الماضي ويفيد الفجأة، أيْ: مجرد أن سمع آياته كذبها أو فاجأه بالتّكذيب مقارنة بمن تريث ونظر وتمعَّن قبل أن يكذب فما مصير ذلك الظّالم الّذي لا يوجد أظلم منه.

{أَلَيْسَ} : استفهام تقرير وإثبات وإنكار للتكذيب.

{فِى جَهَنَّمَ} : في ظرفية، جهنم: كلمة مشتقة من الجِهام: القعر البعيد، وسميت بجهنم لبعد قعرها. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

{مَثْوًى} : كلمة لا تستعمل في القرآن إلا مع جهنم فقط، ويعني مكان الإقامة الجبرية المؤبدة (كالحبس) ويعني: مكاناً ضيقاً غير متسع ومطبقاً عليهم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (151) لمزيد من البيان، ومعرفة الفرق بين مثوى ومأوى.

{لِّلْكَافِرِينَ} : اللام للاختصاص والاستحقاق، الكافرين: جمع كافر تدل على العمل، أيْ: كفرهم ولم يقل: الكفار، الكفار تدل على المبالغة وكثرة العدد والصنف مقارنة بالكافرين. الكافرين: التي تدل على الحدث أو الفعل.

ص: 1

سورة الزمر [39: 33]

{وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} :

{وَالَّذِى} : اسم موصول يفيد المدح، أيْ: رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعني: جبريل عليه السلام، والّذي صدق به محمّد صلى لله عليه وسلم.

{جَاءَ بِالصِّدْقِ} : بالقرآن والإسلام دين الحق الباء للإلصاق، أيْ: هو الصّدق بذاته.

{وَصَدَّقَ بِهِ} : أمثال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي بكر وخديجة رضي الله عنهما وعمر وعثمان وعلي وسائر المؤمنين، وقد تعني: من صدق به أيضاً من النّاس.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} : أولئك اسم إشارة واللام للبعد وتفيد المدح وعلو المنزلة.

{هُمُ} : تفيد التّوكيد، أيْ: هم المتقون حقاً، أو إذا كان هناك متقون فهم المتقون لا غيرهم.

{الْمُتَّقُونَ} : جملة اسمية تفيد الثّبوت ثبوت التّقوى كصفة لهم، أي: المطيعون لأوامر الله تعالى والمجتنبون لنواهيه.

ص: 2

سورة الزمر [39: 34]

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} :

{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

{مَا يَشَاءُونَ} ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية ما يشتهونه ويتمنونه أو يحبون، ما: عامة وتعني: منتهى الغاية والطّلب.

{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : عند: ظرف مكان أو زمان هذه العندية في الآخرة هي أفضل وأشرف العنديات على الإطلاق، عندية السّلام والأمن والقرار.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة في الآخرة واللام للبعد، ويشير إلى النِّعم وما يشتهون.

{جَزَاءُ} : الجزاء يكون من جنس العمل، وفيه معنى المقابلة مقابلة الشّيء بالشّيء مقابلة الحسنة بعشر أمثالها، أو (70 ضعف)، أو (700 ضعف)، أو أكثر من ذلك كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

{الْمُحْسِنِينَ} : ولم يقل: جزاء المتقين، بل رفعهم إلى منزلة المحسنين وجزاهم الله كما يجزي المحسنين بفضله وكرمه.

المحسنين: جمع محسن صفة الإحسان أصبحت ثابتة لهم، ولمعرفة معنى الإحسان ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة للبيان.

ص: 3

سورة الزمر [39: 35]

{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ} : اللام لام التّعليل، يكفر: الكفر هو السّتر ويعني يمحو الله عنهم أسوأ الّذي عملوا.

{عَنْهُمْ} : تعود على المتقين.

{أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا} : أي: الكبائر (السّيئات هي الصّغائر) وهذه بشرى من الله تعالى، أيْ: يغفر الذنوب جميعاً، وهذا من فضل الله تعالى وسعة رحمته.

وهناك أعظم درجة من ذلك، وهي أن يبدل الله سبحانه سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].

{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ويجزيهم أجرهم: الأجر مقابل العمل، بأحسن: الباء للإلصاق على وزن أفعل التّفضيل.

الّذي: اسم موصول معرفة ويعني: الإيمان والتّصديق ويعني: ذلك الجزاء جزاء خاص بهم وحدهم.

كانوا يعملون: في الحياة الدّنيا من الأعمال الصّالحة.

يعملون تضم الأقوال والأفعال.

فآية الزّمر هذه وآية العنكبوت (7) جاءتا بقوله: {بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} أيْ: جزاء خاص بهم وحدهم.

أما آية النّحل آية (97) فجاءت بقوله تعالى: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ما: عامة ونكرة فالجزاء في آية النّحل جزاء عام لكلّ مؤمن ومؤمنة كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} . ارجع إلى سورة النّحل آية (97) للبيان، ومعرفة الفرق بين الآيتين.

ص: 4

سورة الزمر [39: 36]

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} :

{أَلَيْسَ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير وتثبيت والجواب بلى.

{اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} : الباء في بكاف للتوكيد، عبده: محمّد صلى الله عليه وسلم أو أي عبد من عباده، بكاف عبده شر من عاداه من الكافرين والّذين حاولوا قتله أو إخراجه أو تثبيته.

وكاف عبده بالرّزق والإنعام عليه بالعافية وما يحتاجه في دنياه.

كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : إضافة النّون في يخوفونك بدلاً من يخوفوك تدل على التّوكيد ويخوفونك جهلاً وضلالاً.

بالّذين من دونه: أيْ: بالآلهة والأوثان والأصنام، من دونه: من غير الله فلا تخف فإنّ الله ناصرك وعاصمك من النّاس وتخويفهم هو عبثاً وباطلاً والتّخويف بإصابتك بالضّر أو المكروه.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} : من شرطية.

يضلل الله: الله سبحانه لا يُضل أحداً أبداً أيْ: من يُضلل ويختار لنفسه طريق الضّلال والفساد ويصر على ذلك بسبب فسقه وظلمه، ويبتعد بعيداً عن دينه، فما له من هاد يهديه.

فما له من هاد: الفاء للتوكيد، ما النّافية، له: اللام للاختصاص، من: استغراقية، هاد: يهديه أو يعيده إلى الطّريق الحق والهداية والرّشاد، إلا الله وحده.

ص: 5

سورة الزمر [39: 37]

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انْتِقَامٍ} :

{وَمَنْ} : شرطية.

{يَهْدِ اللَّهُ} : يوفقه للإيمان والإسلام والتّقوى والعمل الصّالح، أيْ: هذا المهتد هو الّذي اختار لنفسه طريق الهداية وسار فيها وطلب المساعدة والعون من الله سبحانه فالله سبحانه وعده بالزّيادة في الهدى والتّقوى، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمّد: 17].

{فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلٍّ} : الفاء جواب شرط، ما: النّافية، له: اللام لام الاختصاص، من استغراقية تستغرق أيَّ إنسان أو جنٍّ. مضل: اسم فاعل يدل على الثبوت.

{أَلَيْسَ} : الهمزة همزة استفهام تقريري.

{بِعَزِيزٍ} : الباء للتوكيد، عزيز، أيْ: قوي لا يُغلب ولا يُقهر وممتنع لا يضره ولا ينفعه أحد.

{ذِى انْتِقَامٍ} : قادر على أن ينتقم ممن عاداه أو عادى رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين أيْ: أليس الله بغالب وقاهر لكلّ شيء الجواب بلى.

ص: 6

سورة الزمر [39: 38]

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} :

{وَلَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو النّدرة.

{سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين، اللام للتوكيد والنّون في ليقولن لزيادة التّوكيد، من: استفهامية، خلق السّموات والأرض: ارجع إلى سورة فصلت آية (9 - 12) وسورة الأنبياء آية (30) فهم يعترفون ويقرون بأنّ الخالق هو الله، ومع ذلك لا يعتبرون ذلك دليلاً على وحدانيته وقدرته، فيلجؤون إلى عبادة الأصنام والآلهة ظانين أنّها تشفع لهم أو تقرِّبهم عند الله زلفى، وما لهم بذلك من علم إلا اتباع الظّن.

ثم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم سؤالاً آخر.

{قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أفرأيتم: الهمزة للاستفهام التّقريري والإنكار، أرأيتم: أيْ: أخبروني بعلم، ما: لغير العاقل وتشمل العاقل.

{تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : ما تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة وعيسى وعزير والملائكة.

{إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو الفرض وتدل على النّدرة والقلة في الحدوث، بضُر: بضم الضّاد الباء للإلصاق، بضر بصيغة النّكرة لتشمل كلّ أنواع الضّر من مرض وفقر وشدة وخوف. وأما الضَّر: بفتح الضّاد: فضد النّفع.

{هَلْ} : للاستفهام تفيد النّفي.

{هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} : هل الأصنام والأوثان قادرة على أن تزيل ضُره أو ترفعه عنهم.

{أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} : من صحة أو غنى أو خير أو أمن أو أي رحمة مهما كانت.

{هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} : أيْ: مانعات رحمته أن تصل إلى العبد الجواب لا واستعمل صيغة التّأنيث؛ لأنّهم كانوا يسمون الآلهة باللات والعزة ومناة الأخرى تسمية الأنثى، وتكرار (هل هن مرتين) يفيد التّوكيد ونفي كلٍّ منهما على حِدَةٍ كشف الضّر أو الإصابة برحمته أو كلاهما.

{قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أجابوك بقولهم بلا فهم قد أقروا بالحق، وإن لم يجيبوك أو امتنعوا عن الإجابة، فقل عندها: حسبي الله، أيْ: يكفيني الله في دفع الضّر عني أو جلب الخير لي أو الرّحمة؛ لأنّ هذا الجواب يقيم عليهم الحُجَّة وما أنت بحاجة إلى أحد سواه أبداً.

{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} : تقديم الجار والمجرور للدلالة على القصر أيْ: عليه وحده يتوكل المتوكلون، جمع متوكل، المتوكلون أعلى درجة من المؤمنين، فكل متوكِّل مؤمن، وليس كلّ مؤمن متوكِّلاً.

ويتوكل المتوكلون: بصيغة المضارع؛ لأنّ عملية التّوكل مستمرة ودائمة لا تتوقف والتّوكل يعني: تقديم كلّ الأسباب أولاً، ثم تفويض الأمر لله حتّى يساعدك على تحقيق الغاية المرجوة. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لبيان المزيد في معنى التوكل.

ص: 7

سورة الزمر [39: 39]

{قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{يَاقَوْمِ} : يا أداة نداء ينادي الأعلى الأدنى يا قوم نداء فيه عطف ومحبة.

{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ} : أي: ادعوهم إلى الإيمان أولاً والتّصديق بما أنزل الله تعالى، فإن لم يستجيبوا لك ولم تفلح أيُّ الحجج معهم والبراهين الّتي تثبت بطلان عبادتهم لتلك الآلهة، عندها قل لهم: اعملوا على مكانتكم.

{مَكَانَتِكُمْ} : ولها معانٍ مختلفةٍ، قد تعني: المكان مكان الإقامة أو المكانة الدّرجة والمنزلة الاجتماعية أو الطّريقة العادة والسُّنة، أو التّمكين في الأرض: القدرة والطّاقة، وتعني هذه الآية: أي: استمروا وابقوا على حالتكم من العناد والإعراض وعدم الإيمان والاستكبار والتّكذيب، أو اعملوا ما في وسعكم (طاقتكم) من الكفر والعناد أو جهدكم.

{إِنِّى عَامِلٌ} : وأنا عامل على مكانتي في تبليغ الرّسالة والدّعوة إلى الله والحرص على هدايتكم، أو عامل أقصى استطاعتي أو جهدي في تبليغ رسالتي.

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : الفاء للتأكيد، سوف للاستقبال البعيد والتّراخي في الزّمن، أيْ: سوف تعلمون بعد موتكم أو بعثكم.

وفي الآية تهديد ووعيد لكلّ كافر أو مشرك، ولم يقل: فسوف تنظرون؛ لأنّ سوف تعلمون أوسع في المعنى؛ لأنّ العلم أوسع وأعم من النّظر أو البصر؛ لأنّ العلم يأتي من كلّ جهة ومصدر وكل زمن تنظرون الجهة محددة ومقصورة على الرّؤيا والحادثة المعينة.

لنقارن هذه الآية (39) من سورة الزّمر وهي قوله تعالى: {قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مع الآية (93) من سورة هود، وهي قوله تعالى:{وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

نلاحظ أنّه في آية الزمر استعمل قل يا قوم واستعمل معها في نهاية الآية فسوف تعلمون القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتهديد والوعيد فيها أشد؛ فقد جاءت في سياق الدعوة والتبليغ، ونلاحظ في آية هود استعمل يا قوم (من دون قل) استعمل معها سوف من دون الفاء والسبب قد يعود أنه حين استعمل قل يا قوم ناسب التّوكيد بفاء التّعقيب والمباشرة فقال فسوف، وعندما لا يستعمل قل لا يؤكد فيأتي بـ (سوف)، والقائل هنا هو شعيب عليه السلام ، وليست في سياق الدعوة والتبليغ؛ فالتهديد والوعيد فيها أقل، وعلى حافظ القرآن أن يتذكر ذلك؛ أي:(قل يقابلها فسوف، بدون قل يقابلها سوف).

ص: 8

سورة الزمر [39: 40]

{مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} :

{مَنْ} : ابتدائية وهي هنا اسم موصول بمعنى الّذي وتشمل المفرد والمثنى والجمع وللعاقل، بينما الذي تشمل المفرد فقط؛ فسوف تعلمون الّذي يأتيه أو هي اسم استفهام فهي تعني من الّذي يأتيه عذاب يُخزيه.

{يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} : أيْ: يفضحه ويُذله الله في الدّنيا.

{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} : أيْ: دائم مستمر لا ينقطع ولا يخفف وهو عذاب الآخرة.

ولماذا اختار كلمة يحل عليه بدلاً من يأتيه عذاب مقيم؟

لأنّ يأتيه تحمل معنى احتمال أن يأتيه ثم يذهب عنه ويزول ولا يستمر أيْ: غير دائم مثل عذاب الدّنيا حتّى ولو استمر ينتهي بموته بينما يحل عليه عذاب مقيم يعني: ثابت لا يتغير ولا ينقطع وهو عذاب الآخرة.

سورة الزّمر [الآيات 41 - 47]

ص: 9

سورة الزمر [39: 41]

{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} :

{إِنَّا} : للتعظيم.

{أَنزَلْنَا} : ولم يقل: نزلنا، أنزلنا تعني: جملة واحدة أو دفعة واحدة، الكتاب من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر.

ونزلنا تعني: منجماً على دفعات بشكل تدريجي خلال (23) سنة وفقاً للحوادث.

{عَلَيْكَ} : ولم يقل: إليك، عليك تعني الجهة، أيْ: من السّماء، تفيد العلوية وتفيد الاستعلاء والمشقة، عليك تأتي في سياق الدّعوة إلى الله والتّبليغ مثلاً.

أمّا إليك من إلى التي تفيد كلّ الغايات (البداية والنّهاية أو ما بينهما)، وإليك تفيد أو تعني الانتهاء. أيْ: أنزلنا إليك: أنزلنا الكتاب لينتهي أو يصل إلى أمتك. ارجع إلى الآية (2) من نفس السورة، والآية (4) من سورة البقرة لمزيد من البيان في أنزلنا عليك وإليك.

{الْكِتَابَ} : القرآن وجاء بأل التّعريف للدلالة على الكمال، أي: الكتاب الكامل التّام وسُمِّي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في اللوح المحفوظ ومكتوب في السّطور ولمزيد من البيان في كلمة الكتاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (2).

{لِلنَّاسِ} : اللام لام الاختصاص أيْ: للناس كافة والنّاس مشتقة من النّوس أي: الحركة وتشمل الثّقلين الإنس والجن.

{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق والملازمة أيْ: هو الحق، والحق هو الكتاب. والحق: هو الأمر الثابت الذي لا يتغير، أو يتبدل، وليس هناك غيره.

{فَمَنِ اهْتَدَى} : الفاء للتوكيد، من قد تكون اسم موصول بمعنى الّذي أو استفهامية تعني: من الّذي يهتدي.

{فَلِنَفْسِهِ} : الفاء للتوكيد واللام لام الاستحقاق أو الملكية أيْ: لصالح نفسه أو يفيد نفسه أي: الهداية تعود عليه بالنّفع.

{وَمَنْ ضَلَّ} : مثل من اهتدى.

{فَإِنَّمَا} : الفاء للتوكيد، إنما للحصر والتّوكيد.

{يَضِلُّ عَلَيْهَا} : على تفيد الاستعلاء، أيْ: وبال أو عاقبة ضلالة واقع عليه.

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} : ما النّافية، أيْ: ما أنت مكلف بالدّفاع عنهم أو مسؤول عنهم وعن هدايتهم، كما في قوله: وما أنت عليهم بجبار، أيْ: لا تستطيع أن تجبرهم على الإيمان، إنّ عليك إلا البلاغ والبيان.

{بِوَكِيلٍ} : الباء للتوكيد.

ص: 10

سورة الزمر [39: 42]

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

{اللَّهُ} : قدَّم الفاعل على الفعل ليدل على الحصر والقصر، أيْ: هو وحده القادر على ذلك.

{يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} : يتوفى لها معانٍ عدة الاستيفاء والتّمام أيْ: يسترد الأمر أو الشّيء تاماً ولها معنى الموت.

{الْأَنفُسَ} : جمع نفس والنّفس ليست هي الرّوح كما دلت البراهين والأدلة العلمية، وهذا قاله ابن عباس: إن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشّمس فالنّفس الّتي بها العقل والتّمييز، والرّوح هي الّتي تبعث الحياة في كلّ الجسم وكلّ عضو؛ العين والبصر والعقل والقلب والرّئتين وغيرها.

أمّا النّفس: تعني شيء محسوس لها علاقة بالحركة بشكل عام؛ فهي قد تتمثل بمنطقة الوعي والإدراك والذاكرة والتّمييز والأحاسيس والإرادة والنّطق (الكلام) والضّحك والبكاء والنّوم. والّتي سماها {بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] وتشير البحوث العلمية أنّها تقع في الفص الجبهي للدماغ، والّتي يمكن تعطيلها بالنوم (بما تفرزه الغدد من هرمونات تؤدي إلى النوم)، وعدم الحركة، وكما نراه يحدث حين حقن المادة المخدرة، كما يحدث في عمليات الجراحة فينام المريض ولا يشعر بالألم، وتبقى الروح سارية في الجسم بدون أن تتأثر.

فالله سبحانه في هذه الآية يدلنا على عظمته وقدرته. فهو يتوفى الأنفس في حالتين حين موتها: عند خروج الرّوح من البدن (بالموت أو القتل) وخروج الرّوح يؤدِّي إلى وفاة النّفس، فحين تخرج الرّوح تموت النّفس أو تتعطل وحين تبقى الرّوح وتتعطل النفس (يتوفى الأنفس) كما يحدث في النّوم، وغيره من الحالات، وهناك فرق بين الأنفس والنفوس؛ الأنفس: عادة تدل على جمع قلة، والنفوس: تدل على جمع كثرة، وتشمل كل النفوس، ونحن نعلم أن جمع القلة إذا دخلت عليه أل التعريف، أو الاستغراق يتحول إلى جمع كثرة بمعنى لكل الأنفس، ولماذا لم يستعمل كلمة نفوس التي هي للكثرة ما دامت الأنفس جمع كثرة، والنفوس جمع كثرة من البداية؟ لأن العرب تختار عادة وتفضل اللفظ الخفيف (الأنفس)، ولا تختار أو تفضل اللفظ الثقيل (النفس).

{وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} : أي: الله سبحانه يتوفى الّنفس عند النّوم والرّوح ما زالت تعمل في البدن، أيْ: يعطل عمل النّفس عند اللزوم ويتم ذلك بإفراز هرمونات خاصة تسري في الدّم وتعطل عمل النّفس ينام الإنسان في تلك الفترة، وإذا أراد الله سبحانه أن يبعث النّفس مرة أخرى في البدن عندها يستيقظ النّائم، ويتكرر ذلك كل ليلة إلى أن ينقضي أجله، وإذا أراد أن يمسكها يبقيها إلى فترة طويلة يصاب الإنسان بسبات، أيْ: فقد الوعي يستمر إلى مرحلة حتّى يستيقظ من سباته أو تقبض روحه (تخرج) وتموت معها أو تتعطل معها النّفس حتّى تبعث في القبر.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : إن: تفيد التّوكيد.

{فِى ذَلِكَ} : في ظرفية، ذلك تَوَفِّي الأنفس عند الموت وعند النوم.

{لَآيَاتٍ} : اللام لام التّوكيد.

{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : اللام لام الاختصاص، أيْ: ينتفع بها القوم الّذين يتفكرون، التّفكر: هو النّظر في الدّلائل (الآيات) للوصول إلى الحقيقة وهي أنّ الله هو الإله الحق الّذي يجب أن يعبد وحده ولا يشرك به، وأنّه الخالق المصور والبديع والفاطر لقوم يتفكرون بقدرته وعظمته في الخلق والتدبير والسيطرة، يتفكرون بخلق الإنسان وما أودع الله سبحانه فيه من أسرار الخلق التي يكتشف بعضها علماء الطب في كل يوم.

ص: 11

سورة الزمر [39: 43]

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْـئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} :

بعد أن بيَّن الله سبحانه القدرة العجيبة على تَوَفِّي الأنفس ما كان يصح أو يُعقل أن يتخذوا شفعاء من دونه.

{أَمِ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{اتَّخَذُوا} : جعلوا أو صيَّروا، اتخذوا من اتخذ على وزن افتعل فيها معنى التّكلف والمشقة.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{شُفَعَاءَ} : جمع شفيع، كي يشفعوا لهم عند الله، ولتعريف الشّفاعة ارجع إلى سورة النّساء آية (85).

أي: بدلاً من أن يسألوا الله المغفرة والعفو سألوا الآلهة والأصنام أن تكون واسطة لهم، وليس هناك داعٍ لذلك إلا قصر عقولهم، وللشفاعة شروط على كل حال:

الأول: هو أن يأذن الله تعالى للشافع أن يشفع ويأذن للمشفوع له.

الثّاني: أن يكون المشفوع له من أهل التّوحيد ويستحق الشّفاعة.

فهذه الشّفاعة الّتي يرجونها باطلة وغير مقبولة عند الله سبحانه وتعالى.

{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْـئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} : قل لهم يا رسول الله أَوَلَوْ: الهمزة للاستفهام للتوبيخ والتّقريع.

كانوا لا يملكون: لا يملكون مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك.

{شَيْـئًا} : والشيء: هو كل ما يُعلم ويُخبر عنه سواء أكان حسياً، أم معنوياً، والشيء: أقل القليل، وشيئاً: نكرة تشمل أي شيء من مقومات الشفاعة، ومهما كان نوعه.

ولا يعقلون تكرار لا النّافية تفيد التّوكيد وفصل لا يملكون عن لا يعقلون فهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ولا كلاهما معاً ولا يعقلون؛ لأنّهم أصنام وحجارة ليس لها عقول، أو هم ليس لهم عقول حقة يعقلون بها.

ص: 12

سورة الزمر [39: 44]

{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا رسول الله.

{لِلَّهِ} : اللام لام الاختصاص، وتقديم لله يفيد القصر.

{الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} : لتعريف الشّفاعة ارجع إلى الآية (85) من سورة النّساء.

جميعاً: للتوكيد، أيْ: هو بيده الشّفاعة جميعاً فلا يشفع أحد إلا بإذنه ولمن يشاء الله ويرضى، أيْ: هو مالك الشّفاعة جميعاً.

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور له يدل على الحصر والقصر له وحده ملك السّموات الأرض ولا شريك له.

{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فهو الحاكم والمالك للسموات والأرض والشفاعة لا تتم إلا بإذن من الحاكم والمالك للشّفاعة جميعاً.

{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي الزّمني.

{إِلَيْهِ} : تقديم إليه يفيد الحصر، أيْ: إليه وحده.

{تُرْجَعُونَ} : يوم القيامة للحساب والجزاء على شرككم وكفركم ترجعون قسراً من دون اختيار أو إرادة.

ص: 13

سورة الزمر [39: 45]

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني.

{ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} : من دون ذكر آلهتهم، أيْ: ذكر الله بالتّوحيد، أيْ: قيل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

{اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : الشّمْزِ: وهو نفور النّفس مما تكره أو ضيق في النّفس وغم ويظهر أثره على الوجه، اشمأز: انقبض واقشعر أو ذعر والمشمئز: النّافر والكاره المذعور.

{الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : أي: لا يصدقون بالبعث والحساب والجزاء.

{وَإِذَا} : ظرفية زمانية تفيد حتمية الحدوث وبكثرة.

{ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} : أي: الآلهة أو الأصنام والشّركاء من دونه من سواه إذا هم يستبشرون.

{يَسْتَبْشِرُونَ} : يشعرون بالسّرور والفرح والاستبشار هو امتلاء القلوب سروراً يظهر ذلك على بشرة الوجه، يستبشرون: لفرط ارتباطهم بالأصنام وميلهم إلى الشّركاء ولأنّهم يظنون أنّهم يشفعون لهم أو يقربوهم عند الله زلفى.

ص: 14

سورة الزمر [39: 46]

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

{قُلِ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : اللهم عبارة عن لفظ الجلالة (الله) ألحقت به الميم المشددة بدلاً من حرف النّداء الياء (يا الله) الّتي تفيد البعد؛ لأنّه سبحانه قريب وأقرب إلينا من حبل الوريد، وتحولت إلى (اللهم).

{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فاطر: الّذي أخرج وأظهر للوجود السّموات والأرض.

فاطر: اسم فاعل من فعل فطر، شق فظهر وقيل: تفطر الشّجرة إذا تشقق بالورق، وفطر السّموات والأرض أوجدهما وأظهرهما ولا يقال: فاطر إلا لله وحده.

{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : ارجع إلى الآية (73) من سورة الأنعام للبيان.

{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : أنت: للتوكيد، تحكم: تفصل، ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لبيان معنى تحكم.

فيما: في ظرفية، ما: تعني الّذي أو مصدرية.

كانوا فيه يختلفون: أيْ: في الدّنيا. في أمور الدّين والعبادات والعقائد ومن كلّ على الحق أو الصواب أو من كان على الباطل أو الخطأ.

ص: 15

سورة الزمر [39: 47]

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} :

{وَلَوْ أَنَّ} : لو: شرطية، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

{لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} : اللام للاختصاص، ظلموا: أشركوا أو ظلموا أنفسهم بالشّرك والمعاصي أو خرجوا عن منهج الله تعالى؛ مما أدَّى ظلم أنفسهم وإيقاعها في التّهلكة.

{مَا فِى الْأَرْضِ} : من أموال وملك وذخائر وخزائن وأشياء ثمينة وعلى فرض أنّهم يملكون ذلك.

{جَمِيعًا} : للتوكيد.

{وَمِثْلَهُ مَعَهُ} : وعلى فرض أنّه مضاعف؛ أي: ضعفين.

{لَافْتَدَوْا بِهِ} : اللام لام التّعليل.

افتدوا به: أيْ: على فرض قدَّموه ومثله معه فداءً لهم للنجاة.

{مِنْ} : ابتدائية.

{سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أشد العذاب كماً ونوعاً وأفظعه ما تُقبل منهم.

{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} : بدا لهم: أظهر وبان لهم كثير من الحقائق لم تكن تختطر على بالهم.

1 -

كثيراً من السّيئات دون أن يشعروا بها أنّها سيئات.

2 -

كثيراً ما عملوا من السّيئات نسوها وأحصاها الله.

3 -

كثيراً مما زين لهم الشّيطان من السّوء فرأوه حسناً.

4 -

أن الآلهة والأولياء وعيسى والملائكة وغيرهم لن يشفعوا لهم.

5 -

أن سادتهم وكبرائهم يتبرؤون منهم.

6 -

أن أعمالهم قد حبطت وأصبحت هباءً منثوراً بسبب شركهم وريائهم.

7 -

ظهر لهم من غضب الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدثوا أو يفكروا به.

سورة الزّمر الآيات [48 - 56]

ص: 16

سورة الزمر [39: 48]

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَبَدَا لَهُمْ} : ظهر وبان لهم.

{سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} : سيئات جمع سيئة والسّيئة هي كلّ ما يسوء النّفس، أيْ: تظهر لهم كلّ أعمالهم السّيئة القبيحة حين يقرؤون كتبهم، كما قال تعالى:{يُنَبَّؤُا الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].

ويظهر لهم بعدها جزاؤها وعقوبتها والجزاء من جنس العمل.

{مَا} : الّذي أو مصدرية.

{كَسَبُوا} : من الكفر والشّرك والفسق والعصيان.

استعمل كسبوا بدلاً من اكتسبوا لتدل على أنّهم كانوا يعملون السّيئات مثل المعاصي والشّرك والكفر من دون مشقة أو افتعال أو حذر أو خوف أن يطلع عليها النّاس وأنّهم مارسوها دون تكلف فأصبحت سهلة وأمر عادي وأما كسبوا فعادة تستعمل لأفعال الخير والحسنات.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : أحاط بهم أو نزل بهم العذاب الّذي كانوا به يستهزؤون حيث كانوا لا يظنون أنّه واقع بهم أو كانوا يستعجلونه كقولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

{مَا} : عامة تشمل كلّ ما كانوا به يستهزؤون سواء بالله أو آياته أو رسله أو الدّار الآخرة أو الجنة أو النّار.

والاستهزاء يعني: التّصغير والحط من شأن الآخر أو الشّيء والعيب والاستخفاف به من دون أن يقوم المستهزئ به أي بعمل سابق يستحق الاستهزاء به، كما هو الحال في السّخرية الّتي يسبقها فعل من المسخور منه، وفيها معنى التّذليل.

ص: 17

سورة الزمر [39: 49]

{فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

المناسبة: جاء الله سبحانه بهذه الآية لتبين عمى بصيرة بعض الجاحدين لنعم الله، أو غير الشاكرين لله تعالى.

{فَإِذَا} : إذا ظرفية زمانية شرطية، تستعمل للشيء المحقق حدوثه.

{مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} : ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة (الزّمر).

{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} : ثم: للترتيب الذّكري، إذا: ظرفية شرطية تستعمل للشيء المحقق حدوثه.

{خَوَّلْنَاهُ} : أعطيناه أو آتيناه، ولا تعني: التّمليك.

{نِعْمَةً مِنَّا} : النّعمة تعريفها: هي ما يهبه الله لعبده من خير أو يمنحه نعمة أو منفعة أو يدفع عنه مضرة.

نعمة نكرة للتعظيم، ولتشمل كلّ أنواع النّعم الظاهرة والباطنة مثل الصّحة والعافية والغنى والأمن والرّخاء، منا: نعمة عامة ولم يقل من لدنا أو عندنا الّتي تدل على أنّها نعمة خاصة.

{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} : زعم الجاحد والمشرك أنّ هذه النّعمة بسبب علمه أيْ: قدرته ومعرفته وخبرته كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى} [القصص: 78]، أو زعم باطلاً أنّ الله علم أنّه يستحق ذلك، وهو أهل لذلك فأعطاه ما دعاه إليه، وهذا ليس بصحيح.

{بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} : بل للإضراب الإبطالي.

هي: للتوكيد.

فتنة: ابتلاء؛ أي: ما يجريه رب العزة على عباده لاختبارهم والفتنة أشد من الاختبار وأبلغ، وتكون في الخير والشّر، ولا يقصد بالفتنة هنا تغير حاله من الضّراء إلى السّراء فقط، وإنما المراد بها معرفة شدة كفره وجحده لنعم الله أو شكره للمنعم (ليشكر أو يطغى) وكذلك فتنة إذا لم يعطها له ولم يستجب دعائه.

ونتيجة الفتنة لتكون حُجَّة عليه أو حُجَّة له، والله سبحانه غني عن أن يفتن العبد لمجرد الفتنة.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أكثر النّاس لا يعلمون أنّها فتنة لتكون حُجة عليهم أو حُجة لهم، والقليل يعلمون أنَّ ما يصيبهم من ضراء أو سراء أو خير أو شر، فتنةٌ.

ص: 18

سورة الزمر [39: 50]

{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{قَدْ} : للتحقيق والتّوكيد.

{قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : أيْ: مثل قولهم: إنما أوتيته على علم عندي، قد قالها قارون من قبلهم، أو غيره من النّاس.

{مِنْ قَبْلِهِمْ} : من تفيد الزّمن القريب، قبلهم: تعود على كفار قريش، قد قالها: الهاء هنا تعود على الكلمة إنما أوتيته على علم عندي.

{فَمَا أَغْنَى} : الفاء عاطفة، ما النّافية، أغنى عنهم، ما دفع عنهم العذاب أو خففه أو نفعهم.

{مَا كَانُوا} : تعني: الّذي أو مصدرية أيْ: كسبهم في الدّنيا. وما: أوسع شمولاً من الذي.

كانوا: في الدّنيا.

{يَكْسِبُونَ} : من متاع ومال وعرض أو عبادة الأصنام أو كفر النّعمة والشّرك حين يكسبون بصيغة المضارع للدلالة تكرار كسبهم، أو عدم توبتهم، أو على حكاية الحال للدلالة على شنيع كسبهم، وكأنّهم يكسبون السّيئات الآن.

ص: 19

سورة الزمر [39: 51]

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

{فَأَصَابَهُمْ} : الفاء للتوكيد، أصابهم سيئات ما كسبوا: الضّمير هنا يعود على الّذين قالوا الكلمة (إنما أوتيته على علم)، أصابهم: حل بهم ونزل.

{سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} : أيْ: جزاء سيئاتهم (أي: العذاب) جزاء الّذي كسبوا في الدّنيا من الكفر والشّرك والظّلم والفسق والمعاصي، ومنه ما كان في الدّنيا من هزيمة ومرض وشدة وقتل، ومنه ما هو قادم يوم القيامة.

{وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ} : والّذين أشركوا الظّلم قد يعني الشّرك، أو ظلموا أنفسهم بالخروج عن منهج الله تعالى أو عدم الإيمان.

{مِنْ هَؤُلَاءِ} : من ابتدائية استغراقية، هؤلاء تعود على كفار مكة أو مشركيها أو غيرهم.

{سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} : السّين للاستقبال القريب، يصيبهم سيئات ما كسبوا: سيصيبهم العذاب جزاء ما كسبوا من الشّرك والكفر والمعاصي والفسق. ارجع إلى مطلع الآية.

وتكرار ما كسبوا للتوكيد، وقد يكون اكتساب هؤلاء ليس هو نفس هؤلاء؛ لذلك فصل الأول عن الثّاني أو كلاهما.

{وَمَا هُمْ} : ما النّافية، هم للتوكيد.

{بِمُعْجِزِينَ} : الباء للإلصاق، معجزين: غالبين أو فائتين من العذاب أو ناجين بالهرب والإفلات من العقوبة.

ثم بيَّن لهم الحق سبحانه وصحَّح لهم اعتقادهم فقال: إنّ الرّزق بيد الله وحده، وليس كما قالوا: إنما أوتيته على علم عندي.

ص: 20

سورة الزمر [39: 52]

{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

أو لم يعلموا: هذا أسلوب من أساليب البيان بدلاً من أن يخبرك الله بالخبر مباشرة يأتي لك بالخبر بصورة استفهام ليكون الجواب من المستمع، ولم يقل: أولم يروا، وإنما قال: أولم يعلموا؛ العلم أوسع من الرّؤية.

أي: فليعلموا. ارجع إلى سورة سبأ آية (36) و (39) للبيان.

{أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} : يوسع الرّزق لمن يشاء سواء كان صالحاً أو طالحاً أو مؤمناً أو كافراً والرّزق لا يعني المال فقط، بل يعني العلم والصّحة والعافية والأهل والمتاع.

{وَيَقْدِرُ} : يضيق على من يشاء، والبسط والقبض لحكمة يعلمها الله تتعلَّق بحال العبد وليس عبثاً.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إن للتوكيد، في: ظرفية، ذلك: التّوسيع والقبض.

{لَآيَاتٍ} : اللام للتوكيد.

{لِّقَوْمٍ} : اللام لام الاختصاص.

{يُؤْمِنُونَ} : أيْ: آيات ودلائل ينتفع بها الّذين يؤمنون فتزيدهم إيماناً مع إيمانهم. ارجع إلى الآية (36-39) من سورة سبأ للبيان، ولمعرفة الفرق بين {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقوله تعالى:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت: 62].

ص: 21

سورة الزمر [39: 53]

{قُلْ يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

سبب النّزول: كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أناساً من الّذين أشركوا وقتلوا وزنوا كبُرَ عليهم ذلك، وقالوا: نبعث إلى محمّد نسأله أو هم أتوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فسألوه: هل من توبة؟ فنزلت هذه الآية، وقد ذُكرت أسباب أخرى لنزول هذه الآية والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

{قُلْ} : لهم يا رسول الله يناديكم ربكم ويقول:

{يَاعِبَادِىَ} : يا النّداء للبعد، عبادي: ولم يقل: عبيدي، عبادي تعني: الّذين اختاروا الإيمان على الكفر والطّاعة على العصيان فشرفهم بإضافتهم إليه فقال: يا عبادي. ارجع إلى الآية (17) من نفس السورة، والآية (186) من سورة البقرة لمعرفة الفرق بين عبيد، وعبادي، وعباد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد العموم.

{أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} : أفرطوا في ارتكاب المعاصي والذّنوب والآثام والسّيئات والإسراف هو تجاوز الحد في كلّ فعل يفعله الإنسان مما لا يحله الله تعالى.

{الَّذِينَ أَسْرَفُوا} : ولم يقل: المسرفين (أي: صفة الإسراف عندهم ثابتة).

أسرفوا: أيْ: يمكنهم الكف عن الإسراف والعودة إلى الاعتدال.

والانتقال من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب للفت الانتباه.

{عَلَى أَنفُسِهِمْ} : على تفيد الاستعلاء والمشقة؛ لأنّ وبال الإسراف يعود على المسرف بالضّر والعذاب.

{لَا} : النّاهية للجنس ولكافة الأزمنة.

{تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ} : القنوط هو أشد اليأس.

{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.

{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} : تعليل للنهي عن القنوط من رحمة الله تعالى.

يغفر الذّنوب إلا الشّرك والكفر، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النّساء: 166].

أي: إذا مات المشرك أو الكافر، ولم يتب، أمّا إذا تاب فإن الله يتوب عليه إن شاء؛ أي: يقبل توبته.

{جَمِيعًا} : للتوكيد.

{إِنَّهُ هُوَ} : إنه للتوكيد هو للحصر والتّوكيد.

{الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة أيْ: كثير الغفر أو الغفران ويعني: يمحو الذّنب ويعفو عنه ومهما عظم أو كثر إذا تاب الإنسان وأناب إلى ربه.

{الرَّحِيمُ} : كثير الرّحمة صيغة مبالغة على وزن فعيل رحيم؛ لأنّه لا يعجل بالعقوبة.

ص: 22

سورة الزمر [39: 54]

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} :

المناسبة: بعد ذكر المغفرة قيدها بشروط ثلاثة هي:

1 -

الإنابة.

2 -

الإسلام له.

3 -

اتباع القرآن أو السّنة.

{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} : الإنابة: السّرعة في التّوبة والرّجوع إليه بالكف عن المعاصي والنّدم وعدم العودة إليها وكثرة النّوافل والإحسان ورد الحقوق إلى أهلها.

فلا مغفرة من دون إنابة وتوبة إلى الله وحده.

{وَأَسْلِمُوا لَهُ} : أخلصوا له من الشّرك ظاهراً وباطناً بالتّوحيد توحيد الألوهية لا تعبدوا إلا إياه وتوحيد الرّبوبية والصّفات والأسماء، أسلموا له: اعبدوا الله وحده، ولم يقل: له أسلموا.

ارجع إلى سورة الحج آية (34) معرفة الفرق.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} : أن يحل عليكم أو ينزل بكم العذاب في الحياة الدّنيا أو في الآخرة (عذاب القبر أو عذاب جهنم). وهناك فرق بين يأتيكم العذاب، ويحل عليكم العذاب، يأتيكم العذاب؛ أي: يمكن أن يأتيكم ثم يزول وينكشف، أما يحل عليكم: تدل على الثبوت والدوام وعدم الزوال.

{ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} : ثم للترتيب والتّراخي في الزّمن، ثم يوم القيامة، لا: النّافية، تنصرون: في الآخرة، فتجدون أيَّ نصير أو معين يمنع أو يدفع عنكم عذاب الله.

ص: 23

سورة الزمر [39: 55]

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} :

{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ} : أحسن على وزن أفعل، أفعل التّفضيل، اتبعوا: امتثلوا أوامره وتجنبوا نواهيه، أيْ: أحلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه.

{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ} : أي: من الآيات والذكر الحكيم، وأحسن ما أنزل إلينا من ربنا تعني الصّلاة لوقتها والفرائض الأخرى والإحسان والعبادات القلبية الخشوع والإنابة والتّوكل والخوف والرّجاء والنّصح وغيرها.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{بَغْتَةً} : فجأة فلا يستطيع التّوبة أو قد لا تقبل منه.

{وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} : غافلون فلا تشعرون بقدومه فبادروا إلى التّوبة والإنابة أو الإسراع في القيام بالأعمال الصالحة، وفي الآية تهديد ووعيد.

وحين يُطلب منكم الإنابة والتّسليم، واتباع أحسن ما أنزل لكي لا تتحسر أنفسكم أو تندم حين لا ينفع النّدم وتقول:

ص: 24

سورة الزمر [39: 56]

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِى جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} :

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

{تَقُولَ نَفْسٌ} : نفس جاءت بصيغة النّكرة للتهويل أو التّكثير لتشمل كلّ نفس، ومنها نفس الظّالم لنفسه والمقتصد حتّى السّابق بالخيرات.

{يَاحَسْرَتَى} : يا النّداء، حسرتاه: أصلها يا حسرتي أبدلت ياء المتكلم بالألف، والعرب تحول الياء إلى الألف في كلّ كلام معناه الاستغاثة ليخرج الكلام كالدّعاء، أيْ: يا حسرتي فهذا زمنك.

والحسرة تعريفها ندم أو غم يصيب النّفس بسبب فوت فائدة.

{عَلَى مَا فَرَّطْتُ} : على تفيد الاستعلاء والمشقة فرَّطت التّفريط التّقصير أو الغلو.

{فِى جَنْبِ اللَّهِ} : في طاعة الله تعالى وعبادته وفي حق الله تعالى (واجباته وفرائضه) أو في القرب من الله؛ أي: المكانة أو المنزلة أو الدرجات العلى في الجنة.

{وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} : إن للتوكيد، أيْ: لم يكتف بالتّقصير بأن ضيع عبادة الله، بل ذهب أبعد من ذلك أن سخر من أهلها، أيْ: ممن يعبدون الله، ومن آيات الله وسخر من الفرائض والسّنن، وما جاء به الرّسول وذهب إلى أبعد من ذلك بأن فرط في سخريته فأصبحت السّخرية صفة ثابتة عنده.

{السَّاخِرِينَ} : جمع ساخر والسّخرية: التّحقير ولا تكون إلا في الأشخاص والأفراد أو أعمالهم، ولا بُدَّ من أن يسبقها فعل قام به المسخور منه.

ولِمَ قالت النّفس: وإن كنت من السّاخرين، ولم تقل: من السّاخرات. لأنّ النّفس مؤنثة، وقيل: إنّ النّفس تشير إلى صاحبها أو تعبر عن صاحبها (الإنسان) أو النّفس جزء من الإنسان (أي: عبَّر عن الجزء وأريد به الكل).

سورة الزّمر [الآيات 57 - 67]

ص: 25

سورة الزمر [39: 57]

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} :

{أَوْ} : ليست للتخيير في هذه الآية، وإنما تقول أيضاً: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله، وتقول: لو أن الله هداني وتقول: لو أن لي كرة أخرى فهي نفسها تقول كلّ هذه الأقوال تتمنى ثلاث أماني.

{لَوْ} : للتمني وليست شرطية، فلو كانت شرطية لكان يعني أنّ قضاء الله سبحانه هو سبب ضلالتهم، وهذا ليس صحيحاً.

{أَنَّ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

{اللَّهَ هَدَانِى} : إلى الإسلام أو إلى دينه وطاعته.

{لَكُنْتُ} : اللام لام التّوكيد أو التّعليل.

{مِنَ} : ابتدائية بعضية.

{الْمُتَّقِينَ} : جمع متقٍّ، التّقوى: هي طاعة وامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، لكنت من المتقين فأنجو من العذاب ومن سخط الله، أيْ: ما هداني الله وما كنت من المتقين؛ لأنّ الله سبحانه لم يشأ، وهذا الادعاء هو كذب وافتراء، فالله سبحانه أرسل أفضل رسله وأحسن كتبه، وبيَّن له الحق من الباطل والحلال من الحرام، ولم يترك له حُجَّة يحتج بها، وانتبه إلى طمع النّفس والارتقاء، فهي لم تكتف بالقول: لكنت من المؤمنين، بل من المتقين الّذين هم أعلى درجة من المؤمنين، وفي الآية التّالية: لكنت من المحسنين.

انتبه إلى التّدرج في الطّمع في دار الآخرة تدرجت من كونها من السّاخرين إلى المتقين إلى المحسنين، والسّؤال هنا: لِمَ لَمْ تفعل ذلك وهي في الدّنيا (دار التّكليف).

ص: 26

سورة الزمر [39: 58]

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

{أَوْ} : ارجع إلى الآية (57) للبيان.

{تَقُولَ حِينَ} : ظرفية زمانية.

{تَرَى الْعَذَابَ} : يوم القيامة رؤية عينية حقيقية حين تعاين العذاب. كقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91].

{لَوْ} : للتمني وشرطية.

{أَنَّ} : للتعليل والتّوكيد.

{لِى كَرَّةً} : لي خاصة، اللام لام الاختصاص، كرة: رجعة أو عودة إلى الدّنيا وكرة اسم مرَّة واحدة.

{فَأَكُونَ} : الفاء جواب الشّرط، ولم تقل: أكن أو أكُ، بل قالت: أكون صيغة مبالغة من أكن للتأكيد.

{فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : ولم يقل: من المؤمنين أو المتقين، بل ذهب إلى أعلى درجات الإيمان فقال: من المحسنين، ولمعرفة معنى الإحسان ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة، وقد أخبرنا الله سبحانه في سورة الأنعام آية (28) أنّه لو استجاب له لعاد لما كان عليه سابقاً، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

ص: 27

سورة الزمر [39: 59]

{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} :

{بَلَى} : حرف جواب لا يأتي إلا بعد نفي، ولو نظرنا في الآيات لا نرى النّفي الصّريح، ولكن جاء النّفي في قوله: لو أن الله هداني، أي: النّفس تنفي الهداية عن نفسها؛ لذلك جاء الجواب: بلى هديناك حين جاءتك آياتي، ولكنك اخترت الضّلالة.

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.

{جَاءَتْكَ آيَاتِى} : القرآنية والكونية والمعجزات والدّلائل والبراهين والبينات.

{فَكَذَّبْتَ بِهَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، أيْ: كذبت بها مباشرة فوراً بلا تأخير وتريُّث ولم تدرسها أو تتمعن فيها.

{وَاسْتَكْبَرْتَ} : الألف والسّين والتّاء تعني: الطّلب، أيْ: طلبت الكبر وأنت لا تملك مؤهلاته أو مقوماته استكبرت عنها شعرت بعظم نفسك فوق ما تستحقه. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان، والفرق بين استكر، وتكبر، ومتكبر.

{وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} : ولم يقل: وكنتِ أو استكبرتِ وكذبتِ؛ لأنّ الله سبحانه يخاطب الإنسان ولا يخاطب النّفس.

{مِنَ} : ابتدائية بعضية.

{الْكَافِرِينَ} : الجاحدين سواءً كان كفر عقيدة أو كفر نعمة، لم تشكر الله على آياته القرآنية أو الكونية، انظر إلى تدرجه في الإسراع في التّكذيب بالآيات، ثم الاستكبار، ثم الكفر، والثبات عليه (الكافرين جملة اسمية تدل على الثبات).

ص: 28

سورة الزمر [39: 60]

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} :

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} : كذبوا على الله بالقول بأن الله لم يهدهم ولم يرسل لهم رسله وكتبه، أو كذبوا على الله بأن زعموا أن له ولداً أو شريكاً أو صاحبةً أو وليّاً، أو كذبوا بأن قالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقالوا:{نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، أو قال أحدهم:{أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} [الأنعام: 93]، وغيرها من المفتريات، أو كذبوا بآياته.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كذب على الله سبحانه.

{الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} : بأن قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]، أو نسبوا إليه الشريك، أو قالوا أحل الله، ولم يحل الله، أو حرم الله ولم يحرم.

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى} : رؤية بصرية وليست رؤية قلبية.

{وُجُوهُهُمْ مُّسْوَدَّةٌ} : كقوله تعالى في سورة آل عمران آية (106): {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} .

مسودة: من السّواد والسّواد من الظّلمة، وهو كناية عن الكآبة والحزن والغيظ الّذي يصيب الكافر الّذي يكذب على الله تعالى، أو كما قال تعالى:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40-41]، أيْ: تغشاها قترة من الغبار وهو الهواء الممتلئ بالدخان الأسود النّاجم عن الاحتراق في نار جهنم.

{أَلَيْسَ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير.

{فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى} : مثوى، ارجع إلى الآية (32) من نفس السّورة لبيان معنى مثوى، وسورة آل عمران آية (151) لمزيد من البيان، والفرق بين مثوى ومأوى، وسورة الرعد آية (18) لمعرفة دركات النار.

{لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} : اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، المتكبرين: جمع متكبر وهو الّذي يرى الكل أدنى منه ويرى في نفسه الكمال والعظمة وهي رؤية كاذبة ونظرة باطلة، للمتكبرين: عن الإيمان وطاعة الله تعالى وصفة الكبر عندهم ثابتة مستمرة. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان في المتكبرين.

ص: 29

سورة الزمر [39: 61]

{وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} :

في الآية السّابقة بين حال المتكبرين على الله يوم القيامة، وفي هذه الآية بين حال المتقين.

{وَيُنَجِّى اللَّهُ} : من النّجاة: من نار جهنم. النّجاة: الخلاص.

ولمقارنة النّجاة بالفوز: الفوز يعني: النّجاة والوصول إلى الغاية أو المطلوب، والنّجاة تعني: النّجاة من المكروه أو الأذى من دون الوصول إلى الغاية.

{الَّذِينَ اتَّقَوْا} : الّذين اسم موصول يفيد المدح.

اتقوا: أيْ: أطاعوا أوامر ربهم وتجنَّبوا نواهيه أو اتقوا النّار بإطاعة أوامر ربهم وتجنُّب نواهيه.

{بِمَفَازَتِهِمْ} : الباء للإلصاق أو السّببية.

المفازة: على وزن مَفْعَلة من الفوز مثل السّعادة والمفازة فسرها قوله: {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وسبب مفازتهم الإيمان بالله والعمل الصّالح.

بمفازتهم: بسبب فلاحهم. من المفازة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (188) لمزيد من البيان.

{لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} : لا النّافية للجنس، يمسهم السّوء: المس هو أخف اللمس، أيْ: مجرَّد التقاء الماس بالممسوس، ولو كان بأقل الزمن.

السّوء: هو ما يسيء إلى النّفس أو تكرهه مهما كان، مثل الخوف والحزن والعذاب والغم.

{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} : تكرار (لا) لتوكيد النّفي وفصل كلاً من السّوء عن الحزن، فلا يصابون بأيٍّ منهما أو كلاهما.،

هم: تفيد التّوكيد.

يحزنون: من الحزن أشد الهم والغم أو غلظ الهم. ارجع إلى الآية (34) من سورة فاطر للبيان.

ولمعرفة الفرق بين الحَزن والحُزن ارجع إلى سورة الأنعام آية (33).

ص: 30

سورة الزمر [39: 62]

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} :

{اللَّهُ} : لفظ الجلالة: الاسم الأعظم الّذي تفرد به سبحانه واختصه لنفسه وهو الاسم الجامع لجميع الصفات الإلهية.

{خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} : كل: تفيد العموم وتدل على كلّ فرد: (ملائكة وجن وإنس) وجنس نبات وحيوان وجماد، وتدل على كلّ شيء على انفراد بعكس جميع تدل على كلٍّ مجتمعين. وشيء: سواء أكان حسياً أم معنوياً.

الله: مبتدأ، خالقُ: خبر، كلِّ: مضاف إليه.

{كُلِّ شَىْءٍ} مخلوق؛ أي: الله خالقه، فما الّذي صرفهم ألَّا يؤمنوا بخالقهم وحده.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} : وهو تفيد التّوكيد، وهو القائم بأمور العباد، والقائم بأمور كونه بحفظ وتدبر وتصريف كلّ ما خلق أو الموكول إليه تدبير وتصريف كلّ شيء.

وهو على كلّ شيء وكيل يدل على إحاطة علمه بكل شيء وبكمال قدرته وبكمال حكمته.

ص: 31

سورة الزمر [39: 63]

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، أيْ: له وحده مقاليد السّموات والأرض.

{مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : المقاليد: جمع أقليد من قلد، وقيل:(جمع مقلاد أو مقْليد)؛ أي: مالك أمرها وموكل إليه أمر السموات والأرض؛ أي: السيطرة التامة؛ فهو أهل العقد؛ أي: الإلزام، وأهل الحل؛ أي: تدبيرها وتسييرها وحفظها ورعايتها، وقيل: المقاليد المفاتيح والخزائن، والمفتاح يستعمل للإغلاق، والفتح بأن واحد والإغلاق فيه معنى العقد؛ فهو يعقد الأمور ويحلها؛ أي: الربط والحل بيده؛ أي: إليه يرجع الأمر كله للنظر فيه واتخاذ القرار وموكل إليه مقاليد السّموات والأرض وهذا توكيد لقوله: وهو على كلّ شيء وكيل، ذكر الخاص بعد العام للأهمية.

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول.

{كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : جحدوا بآيات الله الدّالة على وجوده وقدرته وعظمته ووحدانيته، وأنّه الإله الّذي يجب أن يعبد ويطاع ولم يؤمنوا بها.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد الذّم والتّحقير.

{هُمُ} : يفيد التّوكيد.

{الْخَاسِرُونَ} : مقابل قوله تعالى: {وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لأنفسهم ولأهليهم في الآخرة. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، وسورة هود آية (22) لمعرفة الفرق بين خاسرون والأخسرون والخسران والخسارة.

ص: 32

سورة الزمر [39: 64]

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} :

سبب النّزول: كما ورد عن ابن عباس أنّ المشركين دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهَه، فنزلت هذه الآية:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} .

{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{تَأْمُرُونِّى} : النّون لزيادة التّوكيد أعبد أصلها أن أعبد أيّها الجاهلون.

{أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} : جمع جاهل، وصفهم بالجاهلين؛ لأنّ ما دعوا إليه رسولَ الله أن يعبد آلهتهم يدلُّ على جهل.

والجهل: يعني عدم العلم، وهذا هو أصل الجهل، أو بخلاف الحق، وقد يأتي الجهل بمعنى اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه أو الكذب، أو فعل الشيء بخلاف ما كان يجب أن يفعل مثل أن ينكر الصلاة عمداً، أو قد يأتي الهزو بمعنى الجهل كقوله: أتتخذنا هزوا؟ قال: عوذ بالله أن أكون من الجاهلين، والجهل: قد يعني السفه كقوله: وإذا خاطبهم الجاهلون؛ أي: السفهاء بالأذى، وقد يأتي في سياق الشذوذ عن الفطرة كما خاطب قوم لوط بالقول:{أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]، أو يأتي في سياق استعجال العذاب، أو عقاب الله تعالى كقوله:{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 22-23]، أو في سياق طلب عبادة الأوثان كقوله تعالى:{قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، أو رداً على طلبهم بإنزال الآيات والمعجزات لكي يؤمنوا؛ كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].

أو: كيف تأمروني أعبد غير الله بعد كلّ هذه الآيات والدّلائل، وهو خالق كلّ شيء، وعلى كلّ شيء وكيل، وله مقاليد السّموات والأرض. أيّها الجاهلون: بعظمة الله وقدرته.

ص: 33

سورة الزمر [39: 65]

{وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{وَلَقَدْ} : والواو عاطفة، لقد: اللام للتوكيد وقد للتحقيق.

{أُوحِىَ إِلَيْكَ} : الوحي لغة إعلام بخفاء، وشرعاً ما يُلقي الله على رسله وأنبيائه من التّكاليف والتّعاليم والآيات عن طريق جبريل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود به أمته.

ولمعرفة معنى الوحي ارجع إلى سورة النّساء آية (163).

{وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} : من الرّسل أنّه لا إله إلا الله فاتقون.

{لَئِنْ} : اللام لام التّوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.

{أَشْرَكْتَ} : بالله منْ شيء بالقول أن لله ولداً أو صاحبةً أو وليّاً أو ندّاً، أو أشركت بعبادته شيئاً، والخطاب موجَّه إلى أمته.

{لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} : اللام والنّون كلاهما للتوكيد، ليحبطن عملك الصّالح والإحباط الإبطال وضياع الأجر أو الثّواب، وليحبطن مشتقة من حبط الماشية. ارجع إلى الآية (17) من سورة التّوبة، وسورة البقرة آية (217) للمزيد من البيان في معنى حبطت أعمالهم.

{وَلَتَكُونَنَّ} : اللام والنّون للتوكيد.

{مِنَ الْخَاسِرِينَ} : من ابتدائية، الخاسرين لأنفسهم ولأهليهم.

ص: 34

سورة الزمر [39: 66]

{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

{بَلِ} : للإضراب الإبطالي، أيْ: أعرض عن دعوتهم الباطلة، واعبد الله وحده مخلصاً له الدِّين.

{اللَّهَ فَاعْبُدْ} : تقديم المفعول على الفعل للقصر، أي: اقصر عبادتك لله وحده دون سواه؛ أي: أخلص عبادتك لله؛ أي: اعبد الله وحده لا شريك له، الفاء في كلمة فاعبد للتوكيد.

{وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} : لله وحده؛ لأنّه لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذّل، وكن من الشّاكرين على نعمة النّبوة والعظمة والرّسالة، أو الشاكرين على نعمه، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام والتوحيد والإيمان والقرآن، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الشاهد والمبشر والنذير والسراج المنير.

ص: 35

سورة الزمر [39: 67]

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : ما عظموا الله التّعظيم اللائق به وما قدروه حقَّ قدره حين أشركوا في عبادته.

ونسبوا إليه الصّاحبة والولد والبنات والشّريك والنّد.

{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : والأرض: الواو: واو الحال، وفي هذه الآية إشارة إلى نهاية الكون، ونهاية حياة الإنسان على هذه الأرض عند النفخة الأولى (نفخة الفزع والصعق)، ثم يعود ويخلق مرة أخرى (النشأة الأخرى) عند النفخة الثانية (نفخة البعث أو القيام). والأرض جميعاً قبضته: تعني أيضاً تحت سيطرته وهيمنته، وتعني: القوة والقدرة على التحكم فيها.

ومراحل الآخرة: المرحلة الأولى: بعد أن تقوم السّاعة وتمور السّماء وتنفطر وتتشقق، وتكون وردةً كالدِّهان، وتسير الجبال وتتفتت، وتتطاير كالعهن المنفوش، والبحار تسجر والشّمس تكور.

المرحلة الثّانية: مرحلة قبض الأرض وطي السّماء (السّموات السّبع).

المرحلة الثّالثة: التّبديل يوم تبدل الأرض غير الأرض والسّموات. {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} تدل على أنّ قدرة الله سبحانه العظيمة على جميع مليارات النّجوم، ومليارات الكواكب والمجرات، رغم بعدها عن بعض مليارات السّنين الضّوئية، ورغم اتساعها كلها تعود كما بدأت إلى نقطة البدء والخلق، وكما قال تعالى:{يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، ثم يخلق الله سبحانه سماء جديدة، وأرضاً جديدة، كما قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، سبحانه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} : أيْ: يا رب أصفك بكل كمال وأنزهك تنزيهاً كاملاً مطلقاً عما لا يليق بجلالك وعظيم سلطانك، تنزيهاً لذاتك وصفاتك وأفعالك وأسمائك تنزيهاً عن أيِّ شيء يوجد في البشر، ومن كلّ نقص أو عيب، ومن الشّريك والصّاحبة والولد والبنت والنّد والمثيل والولي، ومما يقولون عليك غير الحق، وأنت العلي الأعلى لا يعلوك أحد، وأنت الأعلى على كلّ واحد علو القدر والصّفات والعلم والملك والكبرياء والجلال والمجد والعزة والقهر، العلي عن الأشباه والأمثال والشّريك والولد والنّد والنّظير.

سورة الزّمر [الآيات 68 - 74]

ص: 36

سورة الزمر [39: 68]

{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} :

يذكرُ الله تعالى في هذه الآيات بعض الأحداث الّتي تقع يوم القيامة وتبدأ بالنّفخة الأولى نفخة الصّعق والموت.

{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} : نفخ فعل ماض رغم أنّ النّفخ سيقع في المستقبل؛ مما يدل على أنّ الحدث كأنّه قد وقع وانتهى، والزّمن عند الله الماضي والحاصر والمستقبل واحد، فهو خالق الزّمان والمكان.

ونفخ بصيغة المبني للمجهول رغم أنّ النّافخ إسرافيل عليه السلام كما بينت السّنة النّبوية ويكون النّفخ يوم الجمعة. والصّور: البوق.

{فَصَعِقَ} : الفاء تدل على التّرتيب والمباشرة، والصّعق له معنيان: فَقْدُ الوعي والإغماء، أو الموت والهلاك.

يُصعق كلّ إنسان وجن وحيوان وتموت الخلائق جميعاً.

{مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ} : من استغراقية تشمل كلّ من في السّموات، وكل من في الأرض. من: تستعمل للعاقل، ويمكن أن تنزل غير العاقل منزلة العاقل، وتشمل كل المخلوقات؛ لأن الصعق (الموت) والبعث والقيامة لأجل محاسبة العقلاء.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{مَنْ شَاءَ اللَّهُ} : أيْ: من شاء الله ألَّا يصعق ويموت، وهؤلاء لا يعلمهم إلا الله تعالى، ومن تعني: الواحد أو الاثنين أو الجمع، وقيل: هم الملائكة المقربون مثل حملة العرش.

أو الحور العين.

أو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يميتهم الله تعالى بعد ذلك، والله أعلم.

{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي.

{نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} : أيْ: نفخة البعث (القيام) وما بين النّفختين، كما بيَّنت السّنة قد يكون (40) يوماً، أو (40) شهراً، أو (40) سنةً، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون» ، وقد سئل أبو هريرة عن معنى الأربعين فأبى أن يحدد هل هي أربعون سنة، أو أربعون شهراً، أو أربعون يوماً.

{فَإِذَا} : الفاء للتعقيب والتّرتيب والمباشرة: إذا: ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث وتفيد الفجائية.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} : قيام من قبورهم، ينظرون إلى ما حولهم من الأحداث إلى الأرض الجديدة والسّموات الجديدة، أو ينظرون ما يُفعل بهم.

لنقارن هذه الآية (68) من سورة الزّمر {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} : مع الآية (26 ـ 27) من سورة الرّحمن {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .

كل من عليها فان، هذه تعني: كلّ من على الأرض فان (ميِّت) أيْ: أهل الأرض (الجن والإنس) يموتون.

أما آية الزّمر: فتشمل كلّ من في السّموات ومن في الأرض، فآية الزّمر أوسع وأشمل تشمل العالم العلوي والسّفلي.

ص: 37

سورة الزمر [39: 69]

{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِااءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسّموات، أيْ: تكون سماءً جديدة وأرضاً جديدة، وبعد أن تكون شمس الدّنيا قد كورت، أي: انطفأ نورها وضوءُها، وليس هناك حاجة لشمس ولا لقمر.

وتشرق الأرض بنور ربها: دون أن ترى مصدر هذا الإشراق.

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} : الكتاب اسم جنس، والمراد به صحائف أعمال العباد: سجل الأعمال.

وكما قال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13].

{وَجِااءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدَاءِ} : بالنّبيين ليشهد كلّ نبي على أمته أنّه بلغ أمته.

والشّهداء: وهم أولو العلم والشّهداء من أمة محمّد (علماء هذه الأمة) يشهدون على الأنبياء والأمم الأخرى. ارجع إلى سورة البقرة آية (143) للبيان. وإلى سورة الحج آية (78) للبيان.

والشّهداء قد تعني أيضاً: الّذين قتلوا في سبيل الله، والشّهداء من الملائكة والشّهداء من الجوارح والألسن والأيدي والجلود لإقامة الحُجَّة عليهم وقطع المعذرة، وقد تعني كلَّ ذلك.

{وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} : بين الخلائق بين العباد. والذي يقضي هو الله سبحانه وتعالى ويقضي بالحق الباء للإلصاق، والحق هو العدل. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لبيان معنى الحكم والقضاء والفصل.

والقِسط، أيْ: قضاء لا ظلم فيه يقضي الله سبحانه للمظلوم من الظّالم.

{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{لَا يُظْلَمُونَ} : لا ينقصون من ثوابهم حسنة ولا يزاد في سيئاتهم سيئة، وكما جاء في آية أخرى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

ص: 38

سورة الزمر [39: 70]

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} :

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} : أيْ: أعطيت كلّ نفس جزاءَها كاملاً من خير أو شرٍّ. ووفيت بصيغة الماضي كأن الأمر قد حدث وانتهى، رغم أنّه لم يقع بعد، والزّمان الماضي والحاضر والمستقبل عند الله واحد؛ لأنّه هو خالق الزّمان والمكان.

ما عملت: ما: الّذي عملت، العمل يشمل القول والفعل معاً.

{وَهُوَ} : ضمير يعود على الله سبحانه يفيد التّوكيد.

{أَعْلَمُ} : على وزن أفعل أو أفضل صيغة مبالغة.

لا يحتاج إلى كتاب أو سجل أعمال، ولا يحتاج إلى شهود في حكمه وقضائه.

{بِمَا يَفْعَلُونَ} : الباء للإلصاق، ما: الّذي أو مصدرية.

بما يفعلون بقصد، أو بغير قصد، أيْ: بغير نية.

ولم يقل: بما فعلوا، يفعلون بصيغة المضارع حكاية الحال، أيْ: كأنّه يفعلونه الآن

وهو أعلم بما يفعلون الآن في الدّنيا؛ لذلك جاء بصيغة المضارع.

لماذا لم يقل: بما يعملون، واختار يفعلون:

يعملون: العمل يشمل القول والفعل. والعمل يكون غالباً بقصد ونية. والعمل أكثر ما يكون صادر عن الإنسان، وقلما ينسب إلى الحيوان.

يفعلون: الفعل: جزء من العمل ويكون بقصد ونية، أو بغير قصد ونية يصدر عن العاقل وغير العاقل.

فاختار يفعلون: لتضم كلّ الأفعال بنية (بقصد) أو بغير نية (بغير قصد) وتعم العاقل وغير العاقل.

ولو قال: يعملون: لما تضمَّنت الأفعال بغير قصد (بغير نية).

ص: 39

سورة الزمر [39: 71]

{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} :

{وَسِيقَ} : من السّوق: وهو الحث على السّير بعنف وشدة والسّائق هم الملائكة، يسوقون الّذين كفروا.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يقل: بربهم: حذف ذكر ربهم؛ لأنهم لا يستحقون أن تضاف إليهم كلمة ربهم، وكلمة الرّب تحمل معنى المحبة والأمن والتّشريف، والربوبية: فيها معنى الرعاية، والرحمة، والتكريم، فهم لا يستحقون ذلك.

{إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} : إلى جهنم: ارجع إلى الآية (32) من نفس السورة لبيان معنى جهنم. الزّمرة الجماعة القليلة. زمراً: تعني: جماعات بعضها في أثر بعض. يتلو بعضها بعضاً: جماعة المشركين، جماعة الظّالمين، جماعة الكافرين، جماعة المجرمين، المنافقين، تاركي الصّلاة.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{إِذَا} : ظرفية زمانية شرطية.

{جَاءُوهَا} : وصلوا إلى جهنم أو قدِموا إليها.

{فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} : جواب الشّرط: أيْ: فتحت بعد أن كانت مغلقة ففتحت ليدخلوها، كما هو الحال في السجن الذي أبوابه مغلقة ثم تفتح لدخول المجرمين.

{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} : قال لهم خزنة جهنم: اللام لام الاختصاص، لهم خاصة وليس لغيرهم.

{أَلَمْ} : الهمزة همزة استفهام تقريع وتوبيخ.

{يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} : أيْ: يأتكم رسل من جنسكم تعرفونهم ويعرفونكم.

{يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} : يتلون من التّلاوة والتّلاوة مقيدة بأن تكون من الكتب المنزلة كالقرآن والتّوراة والإنجيل

وتلا يعني: قرأ، وتكون تلاوة من كتاب أو عن حفظ.

ولم يقل: يقصون عليكم آيات ربكم؛ لأن يقصون تشمل ما أنزل من الكتب، وما لم ينزل من غير كتاب وقصَّ أعم من تلا، كما قال تعالى:{يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} [الأعراف: 35] وبني آدم تعني الكل الجن والإنس، وكذلك:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} [الأنعام: 130]، وتعني الجمع، أما آية الزمر: فتعني قسم قليل من أولئك؛ أي: جماعة من كفرة المسلمين، أو غيرهم من أصحاب الكتب.

{وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} : الإنذار يعني: الإعلام مع التّحذير والتّخويف من شر يومكم هذا، أيْ: يوم القيامة ينذرونكم حتّى تستعدوا بالتّقوى بالإيمان والعمل الصالح. وأكد الإنذار بزيادة النّون في ينذرونكم ولم يقل: ينذروكم.

{قَالُوا بَلَى} : أيْ: أتونا وتلوا علينا.

{وَلَكِنْ} : للتوكيد والاستدراك.

{حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} : حقت: وجبت كلمة العذاب على كلّ من كفر وأشرك بالله، وقيل: كلمة العذاب: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

فهم اعترفوا بذنوبهم.

ص: 40

سورة الزمر [39: 72]

{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} :

بعد الإقرار والاعتراف بذنوبهم قيل لهم من الملائكة:

{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} : حيث لها سبعة أبواب {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44].

وقيل: الأبواب أبواب الدّركات أيْ: أحد الأبواب السبعة. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان، وسورة الحجر آية (44) للبيان، وذكر الأبواب في هذه الآية، ولم يذكر أبواب الجنة قد يشير إلى عدم خروجهم منها كما قال تعالى:{فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35].

{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود يبدأ من زمن دخولهم جهنم، ويستمر إلى ما شاء الله، ولم يذكر {خالدين فيها أبداً}: لعل بعض هؤلاء من أهل التوحيد، ولن يبقوا فيها أبداً.

{فَبِئْسَ} : الفاء للتوكيد بئس فعل من أفعال الذّم العامة مثل ساء (من الأفعال الخاصة).

{مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} : ارجع إلى الآية (60) من نفس السّورة للبيان، والآية (151) من سورة آل عمران للبيان، والفرق بين مثوى ومأوى، وارجع إلى سورة البقرة آية (87) لبيان معنى المتكبرين.

وقدم سيق {الذين كفروا} على سيق {الذين اتقوا ربهم} ؛ لأن سيق هذه الآية قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره} وربما لكثرة عددهم والله أعلم.

ص: 41

سورة الزمر [39: 73]

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} :

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} : سوق بتكريم وعطف، وذكر معهم كلمة ربهم؛ لأنهم يستحقون التشريف والرعاية من ربهم بعكس الذين كفروا لم يذكر معهم كلمة ربهم.

{زُمَرًا} : جماعات جماعات. انظر في الآية (71) من نفس السّورة.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{إِذَا جَاءُوهَا} : انظر في لآية (71) من نفس السّورة.

{وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} : أيْ: أبوابها فتحت لهم من قبل وصولهم تكريماً لهم واستقبالاً، أيْ: يجدونها مفتوحة لهم، كما قال الله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50].

بينما أهل النّار فتحت لهم (من دون واو) يجدونها مغلقة أمامهم، ثم تفتح لهم.

{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : أي: الملائكة الموكلون بالجنة.

قالوا لهم: اللام لام الاختصاص.

{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} سلامٌ: بصيغة النكرة؛ لأنها أعم وأشمل من السلام، فالسلام تعني: سلام التحية فقط، أما سلام (النكرة): هو سلام تحية وسلام من كلّ آفة ومرض وسلام أمن.

{طِبْتُمْ} : سعدتم سلمتم نجيتم أو طاب سعيكم.

{فَادْخُلُوهَا} : الفاء للتّعقيب والمباشرة أو السّببية والتّعليل.

ادخلوها: أي: الجنة.

{خَالِدِينَ} : الخلود البقاء الدّائم المستمر يبدأ من زمن الدّخول إليها.. إلى ما لا نهاية.

ص: 42

سورة الزمر [39: 74]

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} :

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} : وهل عندهم أدنى شك في صدق الله لوعده؟

المعنى: الحمد لله الّذي وفقنا لأنْ نكون أهلاً لوعده.

{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} : أرض الجنة الأرض الجديدة كأنّهم ورثوها من غيرهم.

لأنّ أهل الجنة يرثوا عن أهل النّار مقاعدهم في الجنة، ويرث أهل النّار عن أهل الجنة مقاعدهم في النّار.

{نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} : أيْ: يتبوأ وينزل ويسكن في جنته حيث يشاء من شدة سعتها، ولا يعني ذلك نسكن حيث نشاء أو كيف نشاء، ولكن فيما خصص الله سبحانه له وحسب درجته. ارجع إلى سورة يونس آية (87)، وآية (93).

{فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : الفاء للتوكيد، نعم: من أفعال المدح.

فنعم أجر العاملين: يعني: الأجر العظيم بزيادة الفاء، وجاءت بزيادة الواو:{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]، وجاءت بدون الفاء أو الواو (نعم أجر العالمين) كما في سورة العنكبوت آية (58)، فما هو الفرق بين تلك الآيات؟

فإذا قارنا قوله تعالى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} مع قوله تعالى: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]؛ نجد أن: فنعم (بالفاء) أعظم أجراً من (ونعم)، ونعم (بالواو) أعظم أجراً من (نعم) بدون الفاء والواو؛ إذن: الدرجة الأولى: فنعم، والدرجة الثانية: ونعم، والدرجة الثالثة: نعم.

أمثلة: فنعم بالفاء: تشير إلى أعظم الأجر؛ الأجر العظيم.

ونعم بالواو: تشير إلى الأجر الأقل درجة من الأجر العظيم (قبل الأجر الكبير).

نعم بدون فاء أو واو: تشير إلى الأجر الأقل درجة من الكبير (مثل الأجر الحسن أو الكريم).

ويكون التّدرج من الأعلى إلى الأدنى على التّالي فنعم، ونعم، نعم.

ص: 43

سورة الزمر [39: 75]

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ} : سادة الملائكة أشراف الملائكة (أي: المقربين).

{حَافِّينَ} : جمع حافٍّ، حفَّ بالشيء أحاط به والحفاف الجوانب والحفَّة: الجانب.

{مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} : من تعني القرب والإلصاق، أيْ: ليس هناك فراغ بين العرش والملائكة كأنّهم ملتصقين بالعرش.

{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : كقوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] بمعنى الصّلاة، و {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166].

{يُسَبِّحُونَ} : بالذّكر والقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.

والتّسبيح هو تنزيه الله تعالى. ارجع إلى الآية (67) من نفس السّورة للبيان، وسورة الإسراء آية (1).

يسبحون: تفيد التّكرار التّجدد والاستمرار تسبيحاً مصحوباً بالحمد؛ لأنّ التّسبيح ثناء على الله، أمّا الحمد فهو شكر الله على نعمة الظّاهرة والباطنة.

{وَقُضِىَ بَيْنَهُم} : قضي من القضاء وهو الحكم والفصل بينهم، أيْ: بين الملائكة كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، أيْ: يأخذ كلّ منهم منزلته وجزاءَه الّذي يستحقُّه، أو بين النّبيين وأممهم والشّهداء والأمم، أو بين أهل الجنة وأهل النّار: بإدخال أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النّارِ النّارَ.

{وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : (وقيل) مبني للمجهول، القائل إمّا الملائكة، أو الملائكة وأهل الجنة كلاهما. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لمزيد من البيان في معنى الحكم والقضاء والفصل.

ص: 44

سورة غافر [40: 1]

سورة غافر

ترتيبها في القرآن (40) وأمّا ترتيبها في النّزول (60) نزلت بعد سورة الزّمر.

سورة غافر: سميت بهذا الاسم؛ لقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ} وتسمى سورة المؤمن (مؤمن آل فرعون).

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة: وهذه أول سور القرآن الّتي تبدأ بـ (حم) فهناك سبع سور في القرآن متتالية تبدأ بـ (حم) وهي: غافر، فصلت، الشّورى، الزّخرف، الدّخان، الجاثية، والأحقاف.

ص: 45

سورة غافر [40: 2]

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية (1) من سورة الزّمر للبيان.

العليم: ذكر اسم العليم (140) مرة في القرآن، وعليماً (22)، وعلام (4)، والعليم: صيغة مبالغة لعالِم؛ أي: كثير العلم.

العليم: المحيط علمه بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه خافية؛ فهو عالم غيب السموات والأرض، وعلام الغيوب؛ أحاط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل، وعنده مفاتح الغيب، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا يعلمه.

العليم بمثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وذرات الرمال.

العليم بجميع خلقه وكونه ما يجري فيه من أحداث، العليم بما يعملون ويصنعون ويفعلون، العليم بالمتقين والمفسدين والظّالمين، والعليم بكل شيء وبذات الصّدور، والمحيط علمه بجميع المخلوقات ذواتها وأوصافها وأفعالها وأمورها ومستقرها ومستودعها، والعليم بالعالم العلوي والسفلي وكل العوالم.

وجاء اسم العليم مقترناً مع: السّميع العليم، والحكيم العليم، والعزيز العليم، والفتاح العليم، والعليم الخبير، والعليم القدير، والعليم الحليم، والعليم الحكيم.

ثم وصف ذاته بست صفات فقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .

ص: 46

سورة غافر [40: 3]

{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} :

{غَافِرِ الذَّنْبِ} : يغفر الذّنب، فلا يعاقب عليه ويعفو عنه ويمحوه؛ لأنّه هو الكريم. والذّنب تعريفه: كلّ فعل تستوخم عقباه، والذّنوب قيل: هي الخطايا. وغافر: اسم فاعل يدل على الثّبوت والاستمرار، والتجدد.

{وَقَابِلِ التَّوْبِ} : زيادة الواو فقط إلى هذه الصّفة، أو فصل بالواو بين غافر الذّنب وقابل التّوب؛ للاهتمام والتّوكيد على هذه الصّفة والاهتمام بها؛ أي: التوبة عن غيرها فهو سبحانه يغفر الذّنب ويقبل التوبة.

وقابل التّوب (اسم فاعل) يدل على الثّبوت؛ أي: دائم القبول للتوبة فهو غافر الذّنب وقابل التّوب. التّوب: جمع توبة، والتّوب مصدر تاب وهي الرّجوع عن الذّنب، ولم يقل قابل التّوبة (الواحدة) وإنما قابل التّوب (جمع توبة) أي: يقبل كل توبة عن عباده. قابل التّوب للمؤمنين التّائبين للترغيب والحث على الإيمان. ارجع إلى لآيتين (17-18) من سورة النّساء لبيان معنى التوبة وأركانها.

والاستغفار يأتي قبل التّوبة؛ أي يستغفر ثم يتوب.

والتّوبة من أسباب المغفرة، والتّائب غير المعتذر. المعتذر يبرر خطأه ويقدم العذر، أمّا التّائب يقول: لا عذر لي ويعترف بذنبه.

{شَدِيدِ الْعِقَابِ} : العقاب مأخوذ من التّعقيب والمعاقبة، وفاعل الذّنب يستحق المعاقبة بعد فعل الذّنب مباشرة بدون تأخير؛ أي: يستحق العقاب مباشرة في الدنيا، ولكنه سبحانه يؤخره لعله يتوب ويسقط عنه؛ فالعقاب: يقع في الدّنيا فقط بينما العذاب قد يؤخّر وقد يقع في الدّنيا والآخرة، والعذاب أوسع من العقاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (211) لمزيد من البيان، والفرق بين العقاب، والعذاب.

{ذِى الطَّوْلِ} : ذي الفضل، أو أهل الطَّول والفضل، الطَّول: الغنى والسّعة، واستعمال (ذي) بدلاً من صاحب أو غيرها؛ لأنّ ذا أو ذي أشرف في اللفظ وأبلغ في الثّناء والمعنى من صاحب؛ لأنّ ذا تضاف للتابع مثال:(ذا النّون) وصاحب تضاف للمتبوع (صاحب الحوت) والتّابع أشرف وأفضل من المتبوع، مثال: له المال، وصاحب المال، فقولك: صاحب المال أدنى من قولك: له المال – وإذا نظرنا إلى السّياق نجد أنّ ذا النّون جاءت في سياق ذكر النّعم، وصاحب الحوت جاءت في سياق النّهي عن العجلة فقال تعالى:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} .

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى الآية (255) من سورة البقرة للبيان.

{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : إليه تقديم الجار والمجرور؛ ليدل على الحصر؛ أي حصر إليه مرجع الخلائق كلها، إليه النّهاية: أي الوقوف بين يديه هو المصير (للمحاسبة).

ص: 47

سورة غافر [40: 4]

{مَا يُجَادِلُ فِى آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَادِ} :

المناسبة: كأنّه قيل: ما دام هذا القرآن منزلاً من عند الله العزيز العليم فما يجادل في آيات الله إلا الّذين كفروا.

{مَا} : النّافية.

{يُجَادِلُ} : من الجدال هو: حوار بين طرفين أو أطراف لإثبات حق أو إظهار حجة أو دفع شبهة، يحصل فيه اختلاف في الآراء.

{فِى آيَاتِ اللَّهِ} : في الآيات الدّالة على البعث والحساب والدّار الآخرة ووحدانيته وأنّه هو الإله الحق، أو صدق ما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم أو صدق نبوته.

{إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} : إلا أداة حصر، الّذين كفروا: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث والحساب، وجدال الذين كفروا هو: جدال بالباطل ليدحضوا به الحق كما قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56].

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: النّاهية.

{يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَادِ} : الغرر: هو إيهام يحمل الإنسان على أن يظن شيئاً أو أمراً ما حسناً وهو ضد ذلك، فكأنّ الغرور يوقع المغرور فيما هو غافل عنه من الضّرر، وأصل الغرور الغفلة. والخطاب موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.

أي: فلا تغتر أنت ومن اتبعك من المؤمنين بتقلب الّذين كفروا في البلاد، بتجارتهم وزراعتهم وصناعاتهم وسعة رزقهم وما هم فيه من رغد العيش.

{تَقَلُّبُهُمْ} : يعني ضربهم في الأرض؛ أي: سفرهم للتجارة وكسبهم المال، وغيرها.

لنقارن هذه الآية (4) من سورة غافر قوله: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَادِ} مع الآية (196) من سورة آل عمران قوله: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَادِ} .

في آية آل عمران أكد النّهي بعدم الاغترار بإضافة نون النّسوة إلى يغرنك؛ لأنّ السّياق في آل عمران في الهجرة والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس.

أما السّياق في آية غافر: في الجدال في الآيات.

ص: 48

سورة غافر [40: 5]

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} :

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} : أي كذبت قبل قريش قوم نوح، ونوح هو أول رسول بُعث للنهي عن عبادة الأصنام وكذبت، ولم يقل كذب؛ للدلالة على الكثرة (تاء التّأنيث تدل على الكثرة) وكذب تدل على القلة، كذبت قبلهم قوم نوح نوحاً عليه السلام ولم يؤمنوا به رغم مرور (950) سنة على دعوته إياهم.

{وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} : الأحزاب جمع حزب، من بعدهم: أي من بعد قوم نوح وهم الأمم الّذين تحزبوا على رسلهم وأنبيائهم بالتّكذيب والإعراض وعدم الإيمان والقتل أمثال: عاد وثمود ومدين وأصحاب الأيكة وقوم لوط وقوم فرعون.

{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} : وهمّت من الهم، والهم نوعان: ثابت إذا كان معه العزم، وعارض هو حديث النّفس ولا عزم.

{كُلُّ} : للتوكيد.

{أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} : من الأخذ وهو: الأسر أو الحبس أو القتل والتّعذيب، والأخيذ وهو الأسير أصلاً، والأخذ قد يكون معناه الهلاك كقوله تعالى:{ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44]. والباء برسولهم: للإلصاق.

{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ} : إذن هناك جدال بالحق أو جدال بالباطل.

والجدال بالحق هو جدال حسن، وكما قال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وجدال بالباطل وهو المذموم.

والباطل هو الذّاهب الزّائل، وقيل: ما لا وجود له، وقيل: هو الكذب أيضاً.

والباء للإلصاق والملازمة، فجدالهم كان كله باطلاً.

{لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} : اللام لام التّعليل. ليدحضوا به الحق: الدّحض مأخوذ من الطّين الّذي يلزق؛ أي تزل القدم في الطّين؛ أي: أرادوا إزالة الحق بالباطل فلم يستطيعوا. فهذه الآية تبين ما هو الهدف أو الغاية من وراء جدالهم.

{فَأَخَذْتُهُمْ} : الفاء للتوكيد، أخذتهم: أهلكتهم، والأخذ بقوة وشدة؛ يعني: العقاب.

{فَكَيْفَ} : استفهام فيه تقرير وتعجب.

{كَانَ عِقَابِ} : ارجع إلى الآية (3) من السّورة نفسها لبيان معنى عقاب. وعقاب: نكرة للتّهويل والتّعظيم؛ بالصّيحة بالرّجفة بالصّاعقة وبإرسال حجارة من طين، وغيرها من أنواع العقاب؛ أي: انظروا كيف كان عاقبتهم بالسّير في الأرض ورؤية مساكنهم أو آثارهم.

ولمقارنة هذه الآية: {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} مع قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ارجع إلى سورة الرّعد آية (32).

وانتبه إلى ترابط الآيات السابقة في الآية (4) قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِى آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} تبين من هم الّذين يجادلون في آيات الله.

وفي الآية (5): {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} تبين ما هو الهدف أو الغاية أو الدّافع إلى الجدال في آيات الله هو إبطال الحق وردّ المؤمنين إلى الكفر، أو منع الآخرين من الإيمان أو الدّخول في الإسلام واتباع الحق.

وأما قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [الحج: 8][لقمان: 20]. فهي تبين حالة هؤلاء الّذين يجادلون في الآيات، يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

ص: 49

سورة غافر [40: 6]

{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} :

{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ} : أي كما وجب أو حكم بالعذاب على الأمم الماضية المكذّبة لرسلهم، وجب أو ثبت على الّذين كفروا بمحمّد من كفار قريش أنّهم أصحاب النّار.

{كَلِمَتُ رَبِّكَ} : قيل: كلمة ربك هي: كلمة العذاب، أو:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، أو قوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].

{عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} : حقّت وثبتت على الّذين كفروا؛ لأنّهم هم الّذين كفروا اختاروا ذلك، ولم تحقّ عليهم بقهر وجبروت أو ظلم.

{أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} : أن للتوكيد، أصحاب النّار: ارجع إلى الآية (39) من سورة البقرة للبيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (33) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : نجد أن آية يونس جاءت في سياق الكل (المؤمن والكافر)، فمن خرج عن الحق أو المنهج هو فاسق فهم لا يؤمنون، وآية غافر: جاءت في سياق الذين كفروا فهم أصحاب النار.

ص: 50

سورة غافر [40: 7]

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} :

المناسبة: مقابل الحكم ووجوب كلمة العذاب على الّذين كفروا برسلهم من الأمم الماضية، أوجب الله تعالى لعباده الّذين آمنوا أشرف الملائكة المقربين؛ ليستغفروا لهم ويدعوا لهم بالوقاية من السّيئات، وأن يرزقوا الجنة ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح والعلوّ.

{يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} : العرش هو أعظم المخلوقات على الإطلاق، أعظم من خلق السّموات والأرض ومن خلق الإنسان، العرش الّذي تحته جنة الفردوس، العرش الّذي لا يحيط بعلمه إلا من خلقه سبحانه، وحملة العرش قيل: هم أربعة ويوم القيامة يصبحوا ثمانية؛ لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . ارجع إلى سورة هود آية (7)، وسورة طه آية (5) لبيان معنى العرش، وارجع إلى سورة الحاقة آية (17) لمزيد من البيان في يحمل عرش ربك.

{وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : ومن حوله من الملائكة المقربين الحافّين من حول العرش بدون أيّ مسافة أو فراغ بينهم وبين العرش، وهم سادة الملائكة وأشرافهم يسمون العالين كقوله تعالى:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75].

{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : يسبّحون ينزّهون الله سبحانه.

ارجع إلى الآية (75) من سورة الزّمر للبيان، يسبّحون تسبيحاً مقروناً بالحمد على نعم الله الباطنة والظّاهرة، وسورة الإسراء آية (1).

{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} : ألم يقل سبحانه: يسبّحون بحمد ربهم، ألا يدل ذلك على الإيمان به؟ فلماذا عاد وذكر: يؤمنون به؟ هذه الكلمة (يؤمنون به) لها معنى خاص بديع؛ أي: رغم كونهم حملة العرش أو من حول العرش يسبّحون بحمد ربهم وأنّهم العالين أشراف الملائكة، فهم لا يرون ربهم رغم قربهم منه فهم يؤمنون به بالغيب ولا يرونه.

{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} : اللام في الّذين لام الاختصاص، يستغفرون خاصة للذين آمنوا، فهؤلاء الّذين يحملون العرش ومن حوله يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم بالنّجاة ودخول الجنة، ولم يقل:(يستغفرون لمن في الأرض).

كما ورد في الآية (5) من سورة الشّورى وهي قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

فالملائكة المقربون (الخاصة) يستغفرون للذين آمنوا فقط، وعامة أو باقي الملائكة يستغفرون لعامة النّاس.

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} حذفت ياء النّداء للبعد؛ لأنّ الله سبحانه سميع قريب، وشيء: نكره يشمل كل شيء، والشيء كل ما يعلم، ويخبر عنه سواء كان حسياً أو معنوياً ويعني أقل القليل.

وذكر الملائكة ثلاث صفات لله تعالى هي: الرّبوبية والرّحمة والعلم، فالرّبوبية تعني أنت الخالق والمدبّر والمسيطر والرّزاق، ورحمتك وسعت وطالت وشملت كلّ شيء؛ لأن رحمته عامة تشمل المؤمن والكافر، والرّحمة من معانيها الوقاية من العذاب، وكذلك وسع علمك أو أحاط علمك بكل شيء فلا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السّماء.

{فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} : فاغفر: الفاء للتوكيد، اغفر: الغفر هو السّتر، اغفر: استر. والغفران: أخص من الستر، ويقتضي الثواب؛ لأن الستر وحده يعني: عدم فضحه، ويجوز أن يستر على الكافر والفاسق في الدنيا، فاغفر من الغفران، والغفران يعني: إسقاط العقاب، وإيجاب الثواب، فلا يستحق الغفران إلا المؤمن.

للذين: اللام لام الاختصاص، الّذين اسم موصول يفيد المدح، تابوا: من الشّرك والمعاصي والذّنوب وندموا على ما فعلوا ولم يعودوا إلى ذنوبهم.

{وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} : دين الإسلام؛ أي أخلصوا دينهم لك وعبدوك وحدك.

{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : نجِّهم من عذاب الجحيم: الجحيم من جحم النّار: أو قدرها فاشتد لهيبها، والجحيم: النّار المتأججة أو شديدة التأجج، وقيل: هي دركة من دركاتها السّبع.

ص: 51

سورة غافر [40: 8]

{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدتَّهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

المناسبة: قيل: أكمل الدّعاء طلب الجنة والنّجاة من النّار معاً، وهكذا كان دعاء الملائكة: اشتمل على الأمرين معاً.

{رَبَّنَا} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} : عدن تعني إقامة دائمة لا تزول ولا تنتهي.

ارجع إلى سورة ص آية (50) للبيان.

{الَّتِى وَعَدتَّهُمْ} : على لسان رسلهم وفي كتابك العزيز.

{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} : من ابتدائية استغراقية؛ أي: كلّ من صلح، صلح: أي كان مؤمناً موحّداً قد عمل الصّالحات.

وأزواجهم: أي الذّكور والإناث (الزّوج يعني الذّكر والأنثى)، وذرياتهم:(الأولاد والبنات)، وهذا من فضل الله ورحمته على عباده المؤمنين.

{إِنَّكَ أَنْتَ} : إنك للتوكيد، أنت للاختصاص والتّوكيد.

{الْعَزِيزُ} : القوي الغالب الّذي لا يُغلب والقاهر الّذي لا يُقهر، والممتنع لا يضره أحد من خلقه ولا يحتاج لأحد من خلقه.

{الْحَكِيمُ} : في تدبير خلقك وكونك، فأنت أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الطّور آية (21): {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} .

ص: 52

سورة غافر [40: 9]

{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} : يا رب، وفقهم للأعمال الصالحة وجنّبهم فعل المعاصي أو اصرف عنهم السّيئات، وبالتّالي جنّبهم العذاب النّاجم عنها، والسّيئات: جمع سيئة وهي: فعل القبيح، والسّيئات تشمل الصّغائر، وقيل: تشمل الصغائر والكبائر، وهي كلمة خاصة بينما السّوء كلمة عامة، والسّوء اسم مصدر ويعني: كلّ ما يُسيء إلى النّفس من الأقوال والأفعال.

والوقاية تكون بتجنّب السّيئات وقبول التّوبة.

{وَمَنْ} : شرطية.

{تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} : أي من تقِه برحمتك؛ أي: تجنّبه عمل السّيئات أو تقِه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تعاقبه عليها.

{فَقَدْ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، قد للتحقيق والتّوكيد.

{رَحِمْتَهُ} : برحمتك الواسعة؛ أي: سترته وعفوت عنه وأنجيته من النّار.

{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : حرف الواو والضمير هو: كلاهما يفيدان التّوكيد، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد تشير إلى الوقاية من السّيئات، الفوز العظيم. تعريف الفوز: هو النّجاة أو الخلاص من المكروه وبلوغ الغاية أو المحبوب (المطلوب أو المرجو).

والفوز العظيم: هو الفوز الّذي لا يعلوه فوز؛ أي: أعظم درجات الفوز وأعظم من الفوز المبين، أو الفوز الكبير. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان.

ص: 53

سورة غافر [40: 10]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} :

بعد أن ذكر الله سبحانه في الآية (4): {مَا يُجَادِلُ فِى آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} يُبين الله سبحانه في هذه الآية أحوال الذين كفروا يوم القيامة واعترافهم بذنوبهم فيقول:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : إن للتوكيد، الّذين كفروا: في الدّنيا وماتوا وهم كفار.

{يُنَادَوْنَ} : أي يوم القيامة، ويُنادَون (مبني للمجهول)، تناديهم الملائكة أو خَزَنة جهنم، وهم يعذّبون في النّار، ينادون: فيها نون التّوكيد على المناداة.

{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} : اللام للتعليل، المقت: هو أشد الكره، وأكبر: على وزن أفعل؛ أي: أشد درجات البغض والكره، ودرجات الكره والبغض بالتّدرج من الأدنى إلى الأشد: البغض القلي الشّنآن ثم المقت (فقه اللغة).

أي: إن كنتم تمقتون أنفسكم الآن وتكرهونها أشد الكراهية، فاعلموا أنّ مقت الله لكم في الدّنيا كان أشد من مقتكم أنفسكم وأنتم في النّار أو الآن؛ لأنّكم كنتم تُدعون إلى الإيمان فتكفرون.

{إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} : إذ ظرفية زمانية بمعنى حين، وشرطية أي: مقت الله لهم في الدّنيا كان أشد من مقتهم أنفسهم الآن؛ حيث كانوا يكفرون بالله حين يدعون إلى الإيمان، ولم يقل إذ دُعيتم إلى الإيمان، تدعون تدل على المرات العديدة والتّجدد والتّكرار في الدّعوة، ودُعيتم تدل على القلة أو المرة الواحدة، فتكفرون: الفاء رابطة (جواب الشّرط) وتكفرون تفيد التّوكيد والتّكرار والتّجدد في الكفر. وتكفرون: تدل على الحدث؛ أي: فعل الكفر.

ص: 54

سورة غافر [40: 11]

{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} :

تعريف الموت: هو عدم الحياة مطلقاً هو انعدام الحياة (عدم وجود أي أثر للحياة)، ويكون ذلك بخروج الروح من الجسم (الجسد)، أو عدم وجود لا جسم ولا روح؛ فالروح هي التي تبعث الحياة في الجسم، والموت: هو إذهاب الحياة بعد الموت؛ أي: خروج الرّوح من البدن، فالموت هو العدم المطلق سواء كان قبله حياة أو لم تكن قبله حياة.

{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} : أي إماتتين أو موتتين الأولى حين كنا أمواتاً في أصلاب الآباء، والثّانية: الموت الّذي يحدث بانقضاء الأجل (الموت المعروف) بعد الحياة الدّنيا.

{وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} : الأول: حين الولادة والقدوم إلى الحياة الدّنيا أو التي بدأت (في أرحام الأمهات) والثّاني: حين البعث والنّشور.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].

{فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، بذنوبنا: كالشّرك والكفر والفساد والعصيان وإنكار البعث والحساب أو الجدال في الآيات.

أما سرّ اعترافهم هذا: هو أنّهم يرجون من وراء الاعتراف الخروج من النّار مستعطفين قائلين: فهل إلى خروج من سبيل؟ وقد بيّن الله سبحانه في آية أخرى أنّ الاعتراف بالذّنب في ذلك الوقت يوم القيامة لا ينفع كما قال الله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11].

وقولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السّجدة: 12].

{فَهَلْ} : الفاء للتوكيد، هل: استفهام للتمنّي.

{إِلَى} : تشمل كلّ الغايات.

{خُرُوجٍ} : خروج نكرة؛ تعني أيّ نوع من الخروج: سريع بطيء قريب أو بعيد. أو خروج من أيّ عذاب مهما كان نوعه أو شكله.

{مِنْ} : استغراقية تشمل أيّ سبيل أو طريق أو وسيلة مهما كانت.

{سَبِيلٍ} : من طريق للخروج والنّجاة؛ سبيل: نكرة؛ أي: هل هناك من أيّ طريق للخروج من النّار والعودة إلى الدّنيا أو النّجاة من النّار؟

إذن فلا خروج ولا سبيل كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100].

وقولهم هذا دليلٌ على يأسهم وتحيّرهم، وجواب الاستفهام حُذف؛ أي: لا سبيل ولا خروج، وعلل ذلك بقوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].

ص: 55

سورة غافر [40: 12]

{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} :

{ذَلِكُمْ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب، ولم يقل ذلك؛ لأنّ (ذلكم) أهم وأوكد من ذلك ولأنّها تشير إلى أكثر من أمر.

وذلكم: أي الاعتراف بالذّنوب لا ينفع الآن ولا سبيل للعودة إلى الدّنيا أو الخروج من النّار.

{بِأَنَّهُ} : الباء: للتعليل؛ أن: للتوكيد؛ أي: سبب ذلك أنّه إذا دُعي الله وحده كفرتم؛ أي: كفركم وشرككم بالله تعالى.

{إِذَا} : ظرفية للزمن الماضي بمعنى حين، وشرطية.

{دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ} : إذا دعاكم أحد في الدّنيا إلى الإيمان بالله وحده كفرتم.

{كَفَرْتُمْ} : أي جحدتم وكذبتم ولم تؤمنوا. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لمزيد من البيان في الكفر.

{وَإِنْ يُشْرَكْ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والشّك، يُشرك بالله: بأن له ولداً أو شريكاً في الملك أو آلهة أو أصناماً.

{تُؤْمِنُوا} : تصدقوا وتقروا بالشّرك وتدعوا إليه.

{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} : الفاء للتوكيد، الحكم: القضاء بما أشركتم وكفرتم. لله: اللام لام الاختصاص، الحكم لله وحده يوم القيامة وهو الحكمُ العدل {وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرّعد: 41]. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) لبيان معنى الحكم والقضاء.

{الْعَلِىِّ} : علو الجلال والكمال العليّ بسلطانه وقدره، عليُّ الذّات والصّفات والأسماء. ارجع إلى سورة الحج آية (62) لمزيد من البيان في العلي.

{الْكَبِيرِ} : العظيم الشّأن أكبر من كلّ شيء وأعظم من كلّ شيء، وكلّ شيء بالنّسبة له صغير، وأكبر من أن تدركه العقول والحواس.

ص: 56

سورة غافر [40: 13]

{هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} :

{هُوَ} : تعود على العلي الكبير الصّفة الأولى، هو للتوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} : الصّفة الثّانية، آياته الكونية بما أودع في سمائه وأرضه من الآيات الدّالة على عظمته وقدرته ووحدانيته مثل الشّمس والقمر والليل والنّهار والنّجوم والكواكب والجبال والبحار والسّحاب والبرق والرّعد والصّواعق الدّالة على أنّه هو الإله الحق واجب الوجود.

الخطاب للناس كافة، يريكم: رؤية بصرية.

{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص (الصّفة الثّالثة).

{مِنَ السَّمَاءِ} : من السّحاب الرُّكامي، والسّماء تعريفها: هي كلّ ما علاك.

{رِزْقًا} : أي المطر سمي بالرّزق (بالمجاز المرسل) المطر الّذي هو سبب الرّزق لكم كما قال تعالى: {مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [النّحل: 11].

والرّزق يشمل الطّاقة الشّمسية وإنزال الحديد، والنّجوم المليئة بالمعادن الثّمينة.

{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} : الواو: استئنافية، ما النّافية.

يتذكر: هذه الآيات ويتعظ بها ولا ينساها.

إلا: أداة حصر؛ أي: لا يغفل عن آيات الله الّذي ينيب إلى الله مراراً وتكراراً.

من: استغراقية.

ينيب: الإنابة: السّرعة في التّوبة وكل منيب تائب وليس كلّ تائب منيباً، فالمنيب هو الّذي يذنب الذّنب فيسارع في التّوبة، والمنيب سريع التّذكر كلما أذنب أعقبها بتوبة سريعة.

والتّذكر والإنابة يوجبان الإخلاص.

ص: 57

سورة غافر [40: 14]

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} :

{فَادْعُوا اللَّهَ} : الفاء: ادعوا الله؛ أي: اعبدوه وحده وتضرّعوا له بالدّعاء وطلب العون.

{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : مخلصين في عباداتكم بدون أيّ شرك أو رياء، موحّدين توحيد الألوهية والرّبوبية والأسماء والصّفات.

له: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر والقصر له وحده.

الدّين: ارجع إلى سورة البقرة آية (132) لبيان معنى الدين.

{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} : الواو للتوكيد، كره: أي يؤلم ويشق على الكافرين توحيدكم وإخلاصكم، فلا تبالوا بهم.

ص: 58

سورة غافر [40: 15]

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} :

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} : هذه هي الصّفة الرّابعة، رفيع على وزن: فعيل من الفعل رفع.

رافع الدّرجات لأوليائه الصّالحين كقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] بأن أنزل عليهم كتبه وأرسل إليهم رسله وشرع لهم الإسلام ديناً، فبذلك رفعهم ولم يتركهم بدون منهج.

أو قد تأتي على وزن: مفعول؛ أي: مرتفع الدّرجات في ذاته وصفاته صفات الجلال والكمال، مرتفع عن كلّ شيء وعلى كلّ شيء وعلى خلقه بصفاته العلى ودرجاته وقدره وشأنّه.

{ذُو الْعَرْشِ} : الصّفة الخامسة، ذو: ارجع إلى الآية (3) للبيان.

ذو العرش: خالقه ومالكه؛ أي: رب العرش العظيم ورب العرش الكريم. ولمزيد من البيان ارجع إلى الآية (129) من سورة التّوبة، وسورة طه آية (5)، وسورة هود آية (7).

{يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : يُلقي الرّوح (أي الوحي) فسمى الوحي روحاً، والوحي يعني: القرآن، والقرآن هو روح، أو غيره من الكتب والصّحف السّماوية كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]؛ (أي القرآن الكريم) وسمي روحاً؛ لأنّه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح.

{مِنْ أَمْرِهِ} : من قضائه أو بأمره ومن أقواله أو من شرائعه.

{عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : على من يصطفي من عباده من الرّسل والأنبياء.

{لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} : اللام للتعليل؛ أي: للتبليغ والدّعوة والإنذار، والإنذار: هو الإعلام مع التّحذير والتّخويف، يوم التّلاق: يوم القيامة وسمي يوم التّلاق؛ لالتقاء أهل السّماء بأهل الأرض، والأولين والآخرين والتّابع والمتبوع. والظالم والمظلوم يلتقي فيه العباد.

لينذر يوم التّلاق: أي للاستعداد لذلك اليوم وتجنّب شره.

يوم التّلاق: ولم يقل يوم التّلاقي؛ حذف ياء المتكلم ليتناسب مع قصر زمن التّلاق فلن: يدوم التّلاقي بينهم طويلاً كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45].

وكقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34-36].

ص: 59

سورة غافر [40: 16]

{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} :

{يَوْمَ هُمْ} : يوم التّلاق، أو يعني يوم البعث، وجاء بصيغة النّكرة للتهويل والتّعظيم، وهم للتوكيد.

{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} : من البراز، الظّهور والانكشاف.

{بَارِزُونَ} : خارجون من الأجداث (ظاهرون) لا يسترهم شيء من جبل أو شجر أو أكمة أو بناء أو لباس، يساقون إلى أرض المحشر، وبارزون في أرض المحشر؛ الأرض الجديدة كما وضعها عز وجل:{وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105-107].

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 28].

عراة لا يسترهم شيء.

{لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ} : لا النّافية، لا يستتر على الله منهم أحد بجبل أو شجر أو منخفض أو مرتفع، أو الكل بارزون لا يخفى عليه منهم شيء في أرض المحشر، وفي هذا تهديد ووعيد لهم؛ لأنّ الله سبحانه لا يخفى عليه منهم شيء لا اليوم ولا يوم الحشر ولا أيّ يوم، فإذا كانوا يتوهمون أنّهم يستطيعون أن يستتروا من الله يوم القيامة فالله سبحانه يخبرهم بأنه لن يحدث ذلك.

كقوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 23].

{مِنْهُمْ} : قد لا تعني فقط كأفراد بل كذلك أعمالهم أو حتّى نواياهم وغيرها؛ لأنّ (من) استغراقية.

{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} : يسأل الله سبحانه هذا السّؤال، قيل: بعد نفخة الصّعق وفناء الخلائق فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: لله الواحد القهار.

{لِلَّهِ} : اللام لام الاختصاص والملكية، فهو المنادي وهو المجيب.

{الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} : الواحد: الّذي لا شريك له ولا ولد، ولا آلهة ولا أصنام. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) لبيان معنى أحد وواحد. القهار: صيغة مبالغة من القهر، والقهر: هو الغلبة والقدرة سواء أكانت طوعاً أم كرهاً، وسواء أكان كماً أم كيفاً؛ أي: الّذي يقهر ولا يُقهر، الّذي قهر الخلق بالموت والغلبة والقهر الّذي ذلّت له كلّ مخلوقاته. ارجع إلى سورة (ص) آية (65) لمزيد من البيان.

ص: 60

سورة غافر [40: 17]

{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :

{الْيَوْمَ} : يعني يوم القيامة يوم الحساب.

{تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} : تجزى من الجزاء على العمل، والجزاء يكون بالخير أو الشّر.

{كُلُّ} : للتوكيد.

{بِمَا كَسَبَتْ} : الباء للإلصاق والتّوكيد، ما: بمعنى الّذي كسبت أو مصدرية، كسبت من خير أو شر، وكسبت تستعمل في سياق الخير إذا أطلق أو في سياق الشّر إذا أصبح ممارسة الشّر هيناً أو تدرب عليه المسيء فأصبح يمارسه كما يمارس الخير بدون أي خشية أو خوف واكتسبت تستعمل في سياق الشّر عادة.

{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} : توكيد لـ: (تجزى كلّ نفس بما كسبت).

لا: النّافية، ظلم اليوم: بنقص حسنة من ثواب الفرد، أو زيادة سيئة في عقابه.

والظّلم يعني النّقص في إعطاء الحق كاملاً لصاحبه.

{إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} : إن للتوكيد، سريع الحساب: قادر على محاسبة خلائقه جميعاً كما يحاسب نفساً واحدة إذا شاء. أو حسب ما يختار من الزّمن؛ لأنّه سبحانه خالق الزّمان.

ص: 61

سورة غافر [40: 18]

{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} :

{وَأَنذِرْهُمْ} : الإنذار هو الإعلام المقترن بالتّحذير والتّخويف، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنذر قومك؛ أي أمتك وبالتّالي النّاس أجمعين.

وكما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].

{يَوْمَ الْآزِفَةِ} : يوم القيامة، والآزفة: تعني القريبة كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ويوم الآزفة؛ أي: دنا واقترب يوم القيامة، وسميت الآزفة لقربها، أنذرهم ما سيحدث في ذلك اليوم من الأهوال والحوادث المرعبة؛ لكي يستعدوا له.

{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} : إذ ظرفية بمعنى حين وتعني الفجأة، فمن شدة الهول والخوف وفظاعة الأمر كلّ ذلك يؤدي للتّأثير في القلب فيؤدي إلى تسرعه وشدة النّبض مما يجعل الخائف يشعر ضربات قلبه كأنّها صادرة عن حنجرته أي: كأن القلب تحرك وارتفع من مكانه وأصبح بجوار الحنجرة، دليلاً على شدة الفزع والخوف، وإذا قارنا لدى الحناجر (لدى جاءت بالألف المقصورة) مع الآية (25) في سورة يوسف، وهي قوله تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} نجد لدا جاءت في هذه الآية بالألف الممدودة، وقيل: الألف الممدودة جاءت في سياق الأمر المادي والمحسوس، وهو: الباب والألف المقصورة جاءت في سياق الأمر المعنوي كون القلوب لدى الحناجر.

{كَاظِمِينَ} : من الكظم وهو الإمساك عن إظهار الغيظ أو تجرّع الغيظ واحتماله والصّبر عليه.

أي: ممسكين غمّهم وغيظهم وحزنهم؛ لئلا يظهر للغير كما يمسك صاحب القربة فمها لئلا يخرج منها الماء، كناية عن شدة الفزع والغم.

{مَا لِلظَّالِمِينَ} : ما النّافية، للظالمين: اللام لام الاستحقاق أو الاختصاص.

{مِنْ} : ابتدائية استغراقية.

{حَمِيمٍ} : قريب ينفع، يقال: احتم فلان لفلان؛ أي: احتدّ لحمايته وفسر الحميم بالصّديق أو المحب.

{وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} : ولا شفيع يشفع له فتقبل شفاعته؛ أي حتّى ولو كان يستطيع الشّفاعة؛ أي مؤهّل للشفاعة، لا يطاع ولو يطاع لا تقبل شفاعته، نفي الحالتين معاً.

ص: 62

سورة غافر [40: 19]

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} :

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} : الله يعلم كلّ حين تنظر العين إلى ما نُهي عنه؛ أي حين تنظر إلى شيء محرم أو إلى ما لا يحل إليه النّظر؛ أي: مسارقة النّظر إلى الشّيء المحرم ناهيك عن المجاهرة.

الخائنة: الخائنة صفة للنظرة تكون باستراق النّظر أو الاختلاس، والأعين جمع: عين، أداة النّظر، وعين قد تجمع عيون وهي عيون الماء الّتي تكون تحت الأرض.

{وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ} : أي القلوب من خير وشر، أو ما تحدّث به النّفس صاحبها من الهم أو العزم على المحرم أو التّخلي عنه، فالله سبحانه لا تخفى عليه خافية، وهذا إنذار وتحذير لكلّ من يرتكب تلك المعاصي ويظن أن الله لا يراه.

ص: 63

سورة غافر [40: 20]

{وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} :

وبما أنّ الله سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فهو قادر على أن يقضي بالحق.

{وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ} : تقديم الفاعل على الفعل للاهتمام.

يقضي: يحكم، بالحق: أي بالعدل وبالقسط، الباء للإلصاق والملازمة؛ أي: دائماً يقضي بالحق يجزي السّيئة بالسّيئة والحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، أو يغفر أو يعفو لمن تاب.

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} : الّذين اسم موصول يفيد الذّم.

يدعون من دونه: يعبدون غيره من الشّركاء والأصنام.

{لَا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ} : لا النّافية، يقضون: يحكمون، بشيء: وشيء نكرة تعني: أيّ شيء صغيراً أو كبيراً، أو حسياً، أو معنوياً، والشيء: هو أقل القليل.

{لَا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ} : لأنّهم لا ينطقون ولا يسمعون ولا يبصرون؛ لأنّها جمادات.

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ} : إن: للتوكيد، هو: تفيد التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : لأقوالهم ودعائهم وسرّهم ونجواهم وما يعلنون.

{الْبَصِيرُ} : بأعمالهم وعبادتهم وما يجري في معابدهم، وما يحدث في أقطار السّموات والأرض.

ص: 64

سورة غافر [40: 21]

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِى الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} :

المناسبة: إذا كان الإنذار والوعيد لا يهزّ ولا يؤثر في قلوب هؤلاء الكفرة والمشركين، فلِمَ لا يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان هلاك من سبقهم من الأمم الّذين كذّبوا رسلهم؟!

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا} : الهمزة للاستفهام والحثّ، الواو تدل على الكثرة، ولكون الآية مجرد إخبار، ولو كان قبلها سبباً لما بعدها لجاء بالفاء فقال: ألم يسيروا في الأرض.

{فِى الْأَرْضِ} : ولم يقل على الأرض؛ لأنّ الغلاف الجوي حول الأرض يعدّ من الأرض.

{فَيَنظُرُوا} : الفاء للمباشرة والتّعقيب.

أي: يسافروا في الأرض بنية وقصد رؤية الآثار والمساكن الخاوية على عروشها، الّتي سكنها الّذين أهلكهم الله وعذّبهم بذنوبهم من الأمم الماضية أمثال عاد وثمود ولوط وفرعون وغيرهم، ولم يقل ثم ينظروا؛ والتي تعني التّراخي في الزّمن؛ أي: يسيروا في الأرض لأسباب مختلفة وبعدها ينظروا إلى آثار الأمم السّابقة الّتي أهلكها الله سبحانه

{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} : كيف للاستفهام والتّحذير.

{كَانَ عَاقِبَةُ} : حين يذكر العاقبة ويسبقها (كان) تعني العذاب والهلاك، أي: كيف كان هلاك وعذاب الّذين (اسم موصول يفيد الذّم).

{كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} : أي جاؤوا من قبلهم أمثال عاد وثمود ولوط وفرعون، وحين يؤنث العاقبة فيقول: كيف كانت عاقبة بدلاً من فكان؛ تعني: الجنة والعاقبة الحسنة. وهذا من خصائص القرآن الكريم.

{كَانُوا هُمْ} : تكرار كانوا مرتين للتوكيد على العاقبة أولاً، وعلى شدة قوتهم وأثاراً في الأرض ثانياً، وهم: للتوكيد.

{أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} : أشد منهم (من كفار قريش وأمثالهم) بعددهم وعدّتهم وكبر الأجسام.

{وَآثَارًا فِى الْأَرْضِ} : وبما بنوا وشيّدوا من الحصون والقصور وأقاموا المدن والحضارات القديمة، وأكبر دليل على ذلك الأهرامات في مصر وقوة الآثار تدل على قوة من بناها.

{فَأَخَذَهُمُ} : الفاء للتوكيد، فأخذهم الله بذنوبهم؛ أي: عاقبهم بذنوبهم فعذّبهم ودمّرهم، والباء بذنوبهم باء السّببية؛ أي: بسبب ذنوبهم.

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} : ما النّافية، كان: تشمل كلّ الأزمنة، لهم: اللام لام الاختصاص لهم خاصة.

من الله: من ابتدائية، الله: اسم العلم الدّال على واجب الوجود سبحانه.

من واق: من استغراقية تستغرق كلّ واقٍ؛ أي: يقيهم من العذاب أو يدفع العذاب، يحميهم وينقذهم أو يخفف العذاب عنهم.

ص: 65

سورة غافر [40: 22]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد؛ أي: ذلك العذاب والأخذ الّذي حلّ بهم من الهلاك والدّمار.

{بِأَنَّهُمْ} : الباء باء التّعليل، أنّهم: أن للتوكيد، والضّمير (هم) يعود على الكفرة من الأمم الماضية.

{كَانَتْ تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالحجج الواضحة والمعجزات والآيات الدّالة على صدق الرّسل، والدّالة على وجوب الإيمان بالله وحده.

{فَكَفَرُوا} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ أي: كفروا مباشرة بالرّسل ولم ينتظروا ويفكروا.

{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} : الفاء للتوكيد، أخذهم الله: أي عاقبهم بشدة فعذّبهم وأهلكهم. والأخذ فيه معنى الشّدة والقوة.

{إِنَّهُ} : إن للتوكيد.

{قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : قوي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء.

شديد العقاب: العقاب ارجع إلى الآية (3) من السّورة نفسها؛ لمزيد من البيان. قوي شديد العقاب فيها مبالغة في التّحذير والإنذار.

وإذا قارنّا هاتين الآيتين (21 – 22) من سورة غافر مع آيات أخرى مماثلة مثل:

الآية (69) من سورة التّوبة: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِى خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .

والآية (9) من سورة الرّوم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

والآية (44) من سورة فاطر: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} .

نجد أنّ هاتين الآيتين من سورة غافر: فيهما الكثير من التّوكيدات مثل زيادة (هم) وتكرار (فأخذهم الله)(مرتين){وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} ، {إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} هذه التّوكيدات تدل على شدة الإنذار والتّحذير والعاقبة أكثر من الآيات الأخرى.

ص: 66

سورة غافر [40: 23]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :

المناسبة: بعد ذكر أحوال المكذبين برسلهم من الأمم الماضية وما نزل بهم من الهلاك، يذكّرنا أيضاً بما فعل فرعون وجنوده بموسى عليه السلام.

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: قد تحقّق ما سنذكره في الآيات القادمة.

{أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} : ولم يقل بعثنا. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان.

الباء للإلصاق، آياتنا: التّسع ومنها: العصا واليد. وقوله: آياتنا، نسب الآيات إليه سبحانه؛ لأهميتها ولم يقل ولقد أرسلنا موسى بالآيات.

{وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : سلطان عطف على (آياتنا) ومبين: نعت للسلطان، وسلطان مبين: هو الحجة القوية الّتي لا تدحض؛ لقوة دلالتها والدّليل القاطع الّذي تأكد بالحس والإدراك بالحواس فهو يشبه عين اليقين، والسّلطان نوعان: إما سلطان القوة والغلبة والقهر، أو سلطان البرهان والحجة.

وسلطان مبين: عطف الخاص على العام؛ للتوكيد على أهميته.

{مُبِينٍ} : الواضح لكلّ فرد يطّلع عليه وظاهر بنفسه لا يحتاج إلى دليل أو توضيح.

ص: 67

سورة غافر [40: 24]

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} :

{إِلَى فِرْعَوْنَ} : ملك مصر، ذكر في القرآن (74) مرة. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون.

{وَهَامَانَ} : وزير فرعون ذكر في القرآن (6) مرات. ارجع إلى الآية (36) من السّورة نفسها، وسورة القصص آية (6) للبيان المفصل.

{وَقَارُونَ} : ارجع إلى سورة القصص آية (76) للبيان، وذكر في القرآن (4) مرات. قدم فرعون في هذه الآية؛ لأن موسى عليه السلام أرسل إلى فرعون أولاً، بينما في سورة العنكبوت آية (39): قدم قارون على فرعون وهامان؛ لأن قارون كان من قوم موسى، وعنده علم بالتوراة فهو مقارنة بفرعون وهامان يُعد من المستبصرين الذين جاء ذكرهم في الآية (38) من سورة العنكبوت فيكون الترتيب: وكانوا من المستبصرين وقارون، أو ربما لأن الآيات في سورة العنكبوت جاءت في سياق العذاب؛ أي: الخسف الذي أصاب قارون قبل فرعون وهامان الذين أغرقوا في اليم.

{فَقَالُوا} : الفاء تدل على المباشرة؛ أي: مجرد ما جاءهم موسى كذّبوه ولم يصدقوا بما جاء به من الآيات: المعجزات.

{سَاحِرٌ كَذَّابٌ} : ساحر: اسم فاعل؛ أي: الذي يعمل السحر، أو يزاوله، أو يجيء به، ولمعرفة معنى السّحر ارجع إلى الآية (58) من سورة طه. واتّهموه بالسّحر؛ لأنّ ما جاء به من آية العصا واليد أشياء خارقة للعادة وأثّرت في نفوسهم فقالوا: إنّها سحر.

كذاب: ساحر كثير الكذب، وكذاب: صيغة مبالغة من كذب؛ أي: كأن حرفته الكذاب، أو دائماً يكذب.

ص: 68

سورة غافر [40: 25]

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ} :

{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب العددي أو الذّكري، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.

{جَاءَهُمْ} : لم يقل أتاهم؛ المجيء فيه مشقة وصعوبة مقارنة بالإتيان، وجاءهم أي: موسى، جاء فرعون وهامان وقارون.

{بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} : الباء للإلصاق والاستمرار، بالحق: بالصّدق، والحق: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل، وبالحق (قد تعني بالمعجزات الّتي تدل على صدق نبوته).

{قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (49)، والأعراف آية (141) للبيان. ويجب الانتباه إلى اختلاف الزّمن بين هذه الآية من سورة غافر والآية (4) من سورة القصص:

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} .

فآية القصص زمنها عند ولادة موسى، وآية غافر زمنها عندما أصبح موسى نبياً ورسولاً؛ أي: بعد عودته من مدين.

ففرعون أمر بالذّبح وقتل الذّكور من بني إسرائيل مرتين:

المرة الأولى: قبل ولادة موسى كما ورد في آية القصص.

والمرة الثّانية: في هذه الآية آية غافر، ففرعون يأمر بذبح أبناء الّذين آمنوا مع موسى (بالله رب العالمين).

{وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} : أي أبقوا نساءهم أحياء للخدمة والإذلال.

{وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ} : وما: الواو حرف عطف، ما: النّافية.

كيد فرعون: الكيد هو أقوى من المكر، والكيد: هو إيقاع الضّرر أو المكروه بالغير قهراً سواء علم الخصم أم لا يعلم.

وكيد فرعون سواء كان بقتل أبناء الّذين آمنوا مع موسى واستحياء نسائهم، أو إذاقة بني إسرائيل سوء العذاب وغيره من القهر والذّل.

{إِلَّا فِى ضَلَالٍ} : وما كيد فرعون بموسى والذّين آمنوا معه، إلا: أداة حصر، في ضلال: في ظرفية، ضلال: في خسران وضياع وباطل لا جدوى منه ولا فائدة؛ لأنّ الله سبحانه أعظم كيداً وهو القوي العزيز.

ص: 69

سورة غافر [40: 26]

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ} :

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى} : أي دعوني اتركوني، قال ذلك لأنّه كان يريد قتل موسى من قبل حين كان موسى وليداً وفرعون كان يخاف من موسى حيث قذف الله في قلبه الرّعب من موسى، والآن يبدو أنّه أشد تصميماً على تنفيذ القتل ويبدو أن فرعون بدأ يشعر بتهديد موسى ويخاف على ملكه وهلاكه.

{وَلْيَدْعُ} : الواو عاطفة، ليدع: اللام لام التّوكيد.

{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} : ليدع موسى ربه الّذي يزعم أنّه أرسله إلينا؛ ليمنعه من القتل أو يدفع عنه القتل.

{إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} : إني: للتوكيد، أخاف: أخشى إن لم أقتله، أن: مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

يبدل دينكم: أن يُغيّر دينكم؛ أي: ما أنتم عليه من عبادتكم لآلهتكم لكي تعبدوا إلهه وحده. أو أن يظهر في الأرض الفساد: أو هنا ليست للتخيير وإنما جاءت بمعنى الواو؛ أي: إني أخاف أن يبدّل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد؛ أي: يوقع الفتنة والخلاف بين النّاس من وجود فريق يؤمن بفرعون إلهاً وفريق يؤمن بموسى وربه فيكثر الفساد في الأرض فتكثر الخلافات والخصومات والقتل والخراب.

ص: 70

سورة غافر [40: 27]

{وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} :

{وَقَالَ مُوسَى} : حين سمع ما قاله فرعون: ذروني أقتل موسى، وأبناء الّذين آمنوا معه.

{إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} : إني للتوكيد، عُذت: استجرت بربي وربكم أو لجأت إلى ربي وربكم من شر فرعون وشر أمثاله، فهو القادر على نصرتي وحمايتي وحماية كلّ مؤمن.

{مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} : من استغراقية، تستغرق كلّ متكبر مكذّب بالجزاء والحساب؛ ويعني فرعون وأمثاله.

ولكن لم يذكر اسم فرعون حتّى لا يجعل فرعون ندّاً ومثيلاً لله سبحانه، أو لكونه تربّى في بيت فرعون فراعى موسى حق التّربية والرّعاية فلم يذكر اسم فرعون.

جمع بين الاستكبار والتّكذيب بيوم الحساب (الجزاء).

ولم يكتفِ بالقول (ربي) وإنما أضاف إلى ذلك (ربكم) للتوكيد على ربوبية الله تعالى للكل، وبذلك يخرج فرعون من دائرة الرّبوبية؛ لأنّ فرعون قال: أنا ربكم الأعلى.

ص: 71

سورة غافر [40: 28]

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَّبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} :

المناسبة: بعد أن دعا موسى ربه بقوله: إني عُذت بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، استجاب له ربه فقيّض له من بين الأسباب لمساعدته رجلاً مؤمناً من آل فرعون، قيل: هو ابن عم فرعون من آل فرعون؛ أي: حاشية فرعون.

{يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} : يخفي إيمانه؛ لأنّ قوة طغيان وقهر فرعون وملئه أكبر بكثير من موسى والذّين آمنوا معه؛ أي: يكتم إيمانه خوفاً من بطش فرعون.

{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ} : قام الرّجل مدافعاً عن موسى بعد أن سمع بتهديد فرعون لقتل موسى فقال بجرأة أمام فرعون وملئه: أتقتلون: الهمزة همزة استفهام إنكاري.

رجلاً أن يقول ربي الله: رجلاً؛ أي: موسى، أن يقول: أن تفيد التّعليل، ربي الله.

(ربي الله جمع الرّبوبية والألوهية معاً).

أتقتلون رجلاً لا ذنب له ولا يستحق القتل بسبب قوله: ربي الله ويجهر بها أمام فرعون الّذي قال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري؟ ولا شك أن فرعون يستمع ولا تصدق أذناه ما يسمع من قول هذا الرّجل.

{وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَّبِّكُمْ} : الواو الحالية تفيد التّوكيد، قد للتحقيق؛ أي: تحقق مجيئه بالبينات من ربكم؛ أي: المعجزات أو الآيات التّسع وها هو يعيد ويكرر لتسمع آذانهم مرة بعد المرة قول: جاءكم بالبينات {مِنْ رَّبِّكُمْ} ، يقول:{رَبِّىَ اللَّهُ} ..

جاءكم: المجيء يكون عادة شاقاً صعباً.

بالبينات: من عند ربكم فيها حث على الإيمان بطريقة غير مباشرة.

{وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} : الواو حالية تفيد التّوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال والشّك.

يك: ولم يقل يكن، لتدل على: إن يك كاذباً أدنى الكذب أو أقل الكذب.

فعليه كذبه: أي جزاء أو وبال كذبه سيقع عليه فلا حاجة لقتله أو لا يضركم كذبه.

{وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} : مثل وإن يك كاذباً.

وإن يك صادقاً أقل وأدنى الصّدق.

{يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ} : أي يصبكم بعض العذاب في الدّنيا، الّذي يعدكم به على كفركم، أو النّجاة إن آمنتم به أو ببعض الّذي يعدكم من الصّدق؛ أي: النّجاة وقيل: ذكر البعض ليوجب الكل؛ لأنّ الجزء يدل على الكل.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} : إن الله للتوكيد (هذه تتمة لقول الرّجل المؤمن).

لا يهدي: لا النّافية، يهدي إلى الحق أو إلى سبيله.

من: استغراقية.

هو: للتوكيد.

مسرف: المفرط في فعل أو قول ما لا خير فيه؛ أي: متجاوز حدود الله ويقيم على المعاصي أو المكثر فيها.

كذاب: صيغة مبالغة كثير الكذب.

وإذا نظرنا إلى ما قاله الرّجل المؤمن في هذه الآية وما سيقوله في الآيات التّالية: نجد أنّه قد استخدم الكثير من أساليب الدّعوة إلى الله رغم أنّه يكتم إيمانه، فكيف به لو كان يجهر بالدّعوة إلى الله، فقد استخدم أسلوب المنطق والعقل حين قال: أتقتلون رجلاً؛ أن يقول: ربي الله، وإن يك كاذباً

أو يك صادقاً

إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (34) في نفس السورة، وهي قوله:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} : نجد في الآية (28) مسرف كذاب سبقها القول فعليه كذبه، وفي الآية (34) مسرف مرتاب سبقها القول:{فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} ناسبها مسرف مرتاب.

ص: 72

سورة غافر [40: 29]

{يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} :

ينتقل الرّجل المؤمن في دعوته إلى أسلوب العاطفة والحنان وأسلوب الإنذار والتّحذير في هذه الآية.

{يَاقَوْمِ} : نداء فيه العطف والرّحمة على قومه.

{لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} : اللام في لكم للاختصاص، الملك: لكم ملك مصر الواسع، اليوم؛ أي: في الدّنيا أو في هذا الزّمن.

{ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ} : غالبين في الأرض منتصرين على غيركم، يقال: فلان ظاهر على فلان؛ أي: غالب عليه.

{فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} : فمن: الفاء للتوكيد، من استئنافية.

ينصرنا من بأس الله: من عذاب الله، أو يدفع عنا عذاب الله.

إن جاءنا: إن جاءنا بعد قتل هذا الرّجل، أو جاءنا بأس الله بسبب قتله فمن سيدفع عنا العذاب؟ أو إن شرطية تفيد الاحتمال والشّك، وجواب الشّرط محذوف؛ أي: لا أحد ينصرنا أو ينجينا.

إن جاءنا: أدرج نفسه معهم فلن ينجو أحد منا، فهو يشعرهم أنّه معهم وليس مع موسى وهو يخاطبهم مباشرة.

{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} : ردّ فرعون على سؤال الّذي آمن من آل فرعون، حين سأل: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، فقال فرعون: ما أريكم: ما أشير عليكم إلا ما أرى: أي نقتله ونتخلص منه

{وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} : وما النّافية، أدلكم عليه هو سبيل الرّشاد؛ أي: سبيل الصّواب والصّلاح، إلا أداة حصر؛ أي: هو الوحيد والسّبيل للصلاح؛ أي: تكذيب موسى وقتله وتصديقي هو سبيل الصّلاح أو الصواب.

الرّشاد من الرَّشد بفتح الرّاء، ويختلف عن الرُّشد بضم الرّاء:

الرَّشد: يستعمل في الأمور الأخروية فقط.

الرُّشد: يستعمل في الأمور الدّنيوية والأخروية، والرُّشد أعم من الرَّشد.

ص: 73

سورة غافر [40: 30]

{وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} :

يستمر الرّجل المؤمن في دعوته ويحذر قومه مرة أخرى ولم يُبالِ بما قاله فرعون ولم يخف من فرعون.

{وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَاقَوْمِ} : نادى الّذي آمن قومه نداء فيه نوع من الحنان والعطف عليهم.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{أَخَافُ عَلَيْكُم} : إن كذبتم موسى ولم تؤمنوا به أو قتلتموه.

{مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} : أي أن ينزل بكم العذاب ويحلّ عليكم كما نزل وحلّ بالأمم المكذبة لرسلها؛ أي: الأحزاب، وهم قوم: نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم.

وقال تعالى: (يوم)(مفرد). ولم يقل أيام: أي وقائع أو ما حدث في تلك الأيام من دمار وخراب. فهو جمع الأحزاب وأفرد اليوم ولم يقل مثل أيام الأحزاب أيام هلاكهم وعذابهم؛ أي: رغم كونهم أحزاباً مختلفة؛ أي: أمماً أو أقواماً مختلفة متعددة، كذبوا برسلهم ولم يصدقوا بهم ورفضوا الإيمان فما وقع لكلّ حزب من هلاك ودمار هو نفسه تكرر وتجدد ولذلك وحّد كلمة (يوم) فقال: يوم الأحزاب (لأنّهم أحزاب متعددة) فمن يكذّب برسوله كأنّه يكذّب بكل المرسلين عامة؛ لأنّ رسالتهم واحدة.

ص: 74

سورة غافر [40: 31]

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} :

الدّأب: العادة والشأن، دأب على الأمر: اعتاد عليه وأقام عليه ولم يتركه.

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} : أي أخاف عليكم أن تقيموا على كفركم وعدم تصديقكم بموسى، كما دأب قوم نوح حين أقاموا على كفرهم وعدم تصديقهم بنوح فحلّ بهم الطّوفان، أو دأب قوم عاد حين كذبوا أخاهم هوداً، أو دأب قوم ثمود حين كذبوا نبيهم صالحاً، والذّين من بعدهم؛ أي: مثل قوم لوط.

{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} : ما النّافية، الله: قدّم الفاعل للاهتمام، يريد ظلماً للعباد: أي وما يريد الله تعالى أن يعذّبهم بذنب لم يفعلوه ولا يترك الظّالم منهم بغير انتقام، للعباد: اللام لام الاختصاص، العباد كافة.

ص: 75

سورة غافر [40: 32]

{وَيَاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} :

{وَيَاقَوْمِ} : ارجع إلى الآية (30).

{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} : إني للتوكيد، أخاف عليكم يوم التّناد (في الآخرة) بينما أخاف عليكم يوم الأحزاب (في الدّنيا) فهو يحذرهم أن يحلّ عليهم عذاب أو هلاك في الدّنيا أو في الآخرة أو كلاهما معاً.

{يَوْمَ التَّنَادِ} : له معنيان: يوم المناداة. ينادي كلّ إنسان للحساب والجزاء أو ينادي أصحاب الجنة أصحاب النّار، وأصحاب الأعراف أصحاب الجنة. وأصحاب النّار أصحاب الجنة، والنّداء هو الدّعاء والطّلب أو الحضور أو للاستغاثة.

ولم يقل يوم التّنادي، قال: يوم التّناد حذف الياء؛ لأنّ النّداء لا يطول فيه زمناً طويلاً.

ويوم التّناد قد يعني: يوم التّشرد والبُعد كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34-36]. أي: يوم الفرار والهرب.

التّناد هنا مشتق من فعل: ندَّ؛ أي: بعُد وشرد {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37].

ص: 76

سورة غافر [40: 33]

{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} :

{يَوْمَ} : يوم نكرة للتهويل والتّرويع يوم القيامة.

1 -

{تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} : منصرفين من الموقف (المحشر){وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71].

2 -

{تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} : تولون: فارّين هاربين حين يؤمر بهم إلى النّار

{مَا لَكُمْ} : ما النّافية، لكم: اللام لام الاختصاص.

{مِنَ اللَّهِ} : من ابتدائية.

{مِنْ عَاصِمٍ} : من استغراقية تشمل أيّ عاصم؛ أي: يعصمكم من عذاب الله؛ أي: يمنعكم أو يدفع عنكم عذابه، يقال: عَصَمه الطّعام؛ أي: منعه من الجوع، أو ينجيكم منه.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} : السّؤال هل يُضل الله أحداً؟ الجواب: لا طبعاً، من: شرطية؛ أي: من يختار طريق الضّلال والضّياع والكفر ويصر على ذلك ويمتنع عن التّوبة والإنابة، ويبتعد بعيداً عن الدّين، يتركه الله يفعل ما يريد، فإذا وصل درجة لا يُرجى معها العودة إلى الهداية عندها يطبع الله على قلبه فلا يدخله إيمان ولا يخرج منه كفر، ولن يجد له من هاد يهديه.

{فَمَا} : الفاء للتوكيد، ما النّافية.

{لَهُ} : الجار والمجرور، تقدم للاختصاص: له خاصة.

{هَادٍ} : يهديه إلى الصّراط المستقيم أو الدّين، ولم يقل: فما له من هادي.

لنقارن هذه الآية (33) من سورة غافر: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

مع الآية (186) من سورة الأعراف: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِىَ لَهُ} .

في آية غافر قال: فما له من هاد، نفى (بما) (تنفي الحال) وقدّم له: للحصر، من: استغراقية هاد؛ أي: هاد سواء كان رسولاً هادياً أو عالماً أو صديقاً هادياً واحداً يهديه ولو زمناً قصيراً.

في آية الأعراف: فلا هادي له نفى بـ (لا)(تنفي المستقبل وكل الأزمنة) وأخّر (له) أي: له ولغيره هادٍ ولو استغرقت هدايته زمناً طويلاً.

ولو جمعنا الآيتين نقول: من يضلل الله لا هادي له الآن ولا في المستقبل، ولن يستطيع أحد أن يهديه ولو صرف زمناً طويلاً أو قصيراً في هدايته.

ص: 77

سورة غافر [40: 34]

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} :

يتابع الرّجل المؤمن النّصح لقومه ويلجأ إلى الاستعانة بالتّاريخ فيقول:

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: تحقق وحدث ذلك.

{جَاءَكُمْ} : أي جاء وكان مجيئه بمشقة وصعوبة وليس بسهولة، والمخاطب هو فرعون وقومه؛ أي: جاء آباءكم وأجدادكم.

{يُوسُفُ} : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.

{مِنْ قَبْلُ} : من قبل موسى عليه السلام الّذي تريدون قتله أو عدم تصديقه. انتبه حين قال: جاءكم يعني جاء آباءكم وأجدادكم؛ لأنّه حين جاء كان الحاكم هو عزيز مصر ولم يكن هناك أيّ فرعون، وتفسير ذلك: أن الهكسوس دخلوا مصر قبل مجيء يوسف وقضوا على حكم الفراعنة وألغوا الفرعونية وجعلوا أنفسهم ملوكاً، فجاء يوسف في زمن حكم هؤلاء، ثم بعد ذلك عادت الفرعونية إلى مصر وراحوا يضطهدون بني إسرائيل؛ لأنّهم كانوا موالين ومن أنصار الملك العزيز.

فهذا الرّجل المؤمن يعلم القصة التّاريخية فجاء بها ليذكّرهم بما حدث لعلّهم يؤمنوا بموسى.

إذن: جاءكم يوسف: يوسف لم يجئ لهم وإنما جاء لآبائهم فنسب ما للآباء للأبناء؛ لاشتراكهم جميعاً في الضّلال والتّكذيب بالرّسل فليس هناك فارق بينهم وبين آبائهم وأجدادهم.

{بِالْبَيِّنَاتِ} : بالآيات الدّالة على وحدانية الله والدّالة على صدق نبوته، والبينات: هي تأويل الأحلام، ولنذكر قول يوسف حين دعا صاحبي السّجن فقال:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَاءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَىْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 37-40].

{فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} : الفاء للتوكيد.

زلتم في شك مما جاءكم به؛ أي: كنتم في شك. الشّك: هو التّردد بين أمرين على حد سواء (أي تساوي طرفي الإثبات والنّفي) طوال زمن يوسف؛ أي: كنتم تشكون في صدق رسالته وعبادة الله وحده؛ أي: كفرتم به.

{حَتَّى إِذَا هَلَكَ} : حتّى حرف نهاية الغاية، إذا ظرف زماني للماضي وشرطية تفيد حتمية الحدوث.

هلك: أي مات يوسف.

{قُلْتُمْ} : القائل قد يكون ممن عاصر يوسف أو ممن جاء بعدهم من أسلافهم.

{لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} : لن لنفي المستقبل القريب والبعيد (أي موسى وغير موسى) أي: قلتم ذلك وحكمتم بدون علم ولا برهان وفي نيتكم تكذيب أيّ رسول سواء كان يوسف من قبل أو موسى الآن.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} : كذلك: أي مثل هذا الضّلال يكون حال من يضله الله تعالى؛ لإسرافه في المعاصي.

مسرف: متجاوز الحد في المعاصي والشّرك والكفر.

مرتاب: من الرّيبة وهي: الشّك والتّهمة، وسبقها القول:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} ولذلك جاء بعدها مسرف مرتاب. ارجع إلى الآية (28) في نفس السورة للمقارنة.

أي: هو مسرف في فعل المعاصي ومرتاب في دينه؛ أي: يشك ويتّهم الآخرين بالباطل؛ لكي يجد لنفسه مبرراً لعدم إيمانه.

ص: 78

سورة غافر [40: 35]

{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} :

هذا كلام الله سبحانه معترض بين كلام مؤمن آل فرعون وكلام فرعون، هذه الآية تبدو كأنّها تتمة لقوله:(كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الّذين يجادلون في آيات الله).

{الَّذِينَ} : اسم موصول تفيد الذّم وتعود على المسرفين المرتابين أو الّذين كفروا {مَا يُجَادِلُ فِى آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4].

{يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ} : الجدال نوعان: جدال لإظهار الحق وهو جدال غير مكروه، وجدال بالباطل وهو مكروه.

الذين يجادلون في آيات الله؛ أي: يجادلون بالباطل وفي آيات الله الدّالة على صدق نبوة أنبيائه بأن يقولوا: ساحر أو كاهن أو كذاب، أو يجادلون في آيات الأحكام، أو يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

أما الآيات الكونية فلا أحد يستطيع أن يجادل فيها؛ لأنّ مبلغ علمهم قليل لا يُذكر.

{بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} : السّلطان إما سلطان علم وبرهان وحُجة، أو سلطان قوة وقهر، وهم لا يملكون كلاهما ولذلك هم يجادلون بالباطل.

{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} : أي هذا النّوع من الجدال هو جدال ممقوت؛ لأنّهم يجادلون الحق بالباطل، كبر مقتاً عند الله: أي يبغض الله سبحانه هذا النّوع من الجدال خاصة بغضاً شديداً ويبغضه الّذين آمنوا الّذين يتبعون الحق وإعلاء كلمة الله وإقامة الدّين.

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : أي كما يطبع الله على قلوب هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم، يطبع على كلّ قلب متكبر جبار.

والطّبع أشد من الختم، والطّبع على القلب يعني: لا يدخل قلوبهم أيّ إيمان ولا يخرج منها أيّ كفر، والطّبع على قلوبهم هم سببه فهم الّذين اختاروا ذلك واستمروا في الجدال والكفر وابتعدوا كثيراً عن سبل الهداية فلم يعد هناك أملٌ في توبتهم فطبع الله على قلوبهم.

{عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} : الكبر هو إظهار عظم الشّأن ورفع النّفس فوق ما تستحق.

متكبر: عن قبول الإيمان بآيات الله والتّوحيد والجدال في آيات الله، متكبر بدون أن يملك أيّ مؤهلات للكبر.

{جَبَّارٍ} : صيغة مبالغة وهو القاسي المتكبر، الّذي يُكْرهُ النّاس على فعل ما لا يحبون فعله مستخدماً وسيلة الظّلم والقوة والقهر، أو يتعاظم بالقهر والقتل، والجبار: أبلغ من المتكبر.

لنقارن هذه الآية وهي قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ولو قال كذلك يطبع الله على قلب كلّ متكبر جبار؛ أي: بتقديم كلمة (كل) على كلمة (قلب) أو تأخيرها.

تقديم كلمة (كل) كقوله: كذلك يطبع الله على كلّ قلب متكبر جبار؛ تعني: كلّ قلوب المتكبرين الجبارين عموماً تصاب بالطّبع، وتعني الطّبع على القلب طبعاً تاماً كاملاً يشمل كلّ جزء من أجزاء القلب.

أما تأخير كلمة (كل) كقوله: كذلك يطبع الله على قلب كلّ متكبر جبار؛ تعني: كلّ قلوب المتكبرين الجبارين تصاب بالطّبع، وتعني الطّبع على القلب لا يشمل كلّ جزء من أجزاء القلب.

ص: 79

سورة غافر [40: 36]

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} :

عاد فرعون مرة ثانية إلى مقاطعة كلام الّذي آمن راجياً أن لا يكون نُصحُ الّذي آمن قد أثّر في قلوب المستمعين، فأسرع بسؤال هامان أمام قومه مستخفاً بعقولهم:

{يَاهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا} : هامان: وزيره هامان كان المسؤول على البناء، بناء المشاريع الكبرى، وبناء المشاريع الكبرى يطلق عليها هامان أي اسمه هامان ووظيفته هامان (بناء المشاريع الكبرى) وكان مقرباً إلى فرعون. وذكر هامان في القرآن إعجاز على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ أهل الكتاب ينكرون هامان في كلّ قصة موسى؛ أي: لا وجود لهامان مع موسى. ارجع إلى سورة القصص آية (6) لمزيد من البيان.

{ابْنِ لِى صَرْحًا} : الصّرح هو البناء الشّامخ العالي الظّاهر الّذي لا يخفى على النّاظر من بُعد كالأبراج العالية، صرحاً: من صَرَح الشَيء وصرّحَه؛ أي: بيّن الشّيء وأظهره فلم يعد يخفى.

{لَّعَلِّى} : للتعليل.

{أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} : جمع سبب، والسّبب: هو ما يتوصّل به إلى الشّيء كالحبل أو السُّلم ويطلق على الطّريق.

وقيل: أبواب السّموات؛ أي: الطّرق طرق السّموات.

لعلّي أبلغ الطّرق التي توصل من سماء إلى سماء المؤدية إلى الوصول إلى إله موسى، وكما قال تعالى في سورة الكهف الآيتين [84-85]:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا} وارجع إلى سورة ص آية (10) لمزيد من البيان.

ص: 80

سورة غافر [40: 37]

{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ} :

{أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} : أبوابها ومنافذها وطرقها. ارجع إلى الآية السابقة (36) من نفس السورة.

{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} : أي انظر إلى إله موسى، ويعني النّظر الموصل إلى الحقيقة والغاية.

{وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} : أكد فرعون بأنّ موسى كاذبٌ (بإنَّ وبالياء) في (إني) واللام في لأظنه كاذباً في زعمه أن له إلهاً غيري فوق السّموات؛ أي: لعلي أصعد في الصّرح فأصل إلى أبواب السّموات ومنافذها، وأسير في طرقها من طريق إلى طريق حتّى أصل في النّهاية فأجد إله موسى، يريد بذلك أن يوهم قومه أنّه قادر على ذلك وأنّ ما يزعمه موسى هو شيء باطل، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (38) وهي قوله تعالى:{وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فإذا جمعنا بين الآيتين أي: كاذباً من الكاذبين؛ كاذباً: هو الأصل.

وفي قوله: {لَّعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} فيها شيء من التّكرير فمن الممكن القول لعلي أبلغ أسباب السّموات وانتهى.

هذا ليس تكراراً وإنما يسمى الإيضاح بعد الإبهام؛ للتفخيم، فالوصول إلى أسباب السّموات ليس بالأمر الهين، بل أمر عظيم يزعم فرعون أنّه قادر على فعله؛ ليجعل السّامع يتعجب لقدرة فرعون على فعل ذلك.

{وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} : وكذلك؛ أي: مثل ذلك التّزيين ظن أنّه سيبلغ السّموات ويطلع إلى إله موسى.

{زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} : من الشّرك والتّكذيب، وزيّن مبني للمجهول والمزين هو الشّيطان بوسوسته كما قال الله تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النّمل: 24].

{وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} : أي سبيل الهدى والرّشاد، وسبب ذلك كفره وشركه وظلمه، عن: تفيد المجاوزة والمباعدة، وصد عن السّبيل هو وقومه.

{وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ} : ما النّافية، كيد فرعون: ارجع إلى الآية (25) من السّورة نفسها.

إلا: أداة حصر.

في: ظرفية.

تباب: في ضياع وخسران وهلاك من: تبّ الشّيء: قطعه.

ص: 81

سورة غافر [40: 38]

{وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} :

يتابع الّذي آمن نصحه إلى قومه ويكرر: يا قوم، وتكرار يا قوم فيها نوع من العطف والحنان مع قومه حتّى يتبعوه.

{اتَّبِعُونِ} : فيما أدعوكم إليه وأنصحكم على فعله.

ولم يقل اتبعوني، حذف ياء المتكلم؛ أي: اتبعوني ولو شيئاً قليلاً أو حاولوا اتباعي في بعض ما أنصحكم، أمّا اتبعوني تتطلب اتباعاً تاماً في القول والعمل وفيه صبر والتزام.

{أَهْدِكُمْ} : أدلكم، انتبه إلى قول الّذي آمن: أهدكم، بينما كان قول فرعون في الآية (29): أهديكم، فرعون يؤكد عليهم أن يتبعوه؛ لأنّه يعلم أنّ القوم في شك مما يقوله لهم ويدعوهم إليه، ويزعم باطلاً أن الهداية بيده، بينما الّذي آمن لا يؤكد عليهم؛ لأنه يعلم أنّ الهداية بيد الله فهو الهادي وحده.

{سَبِيلَ الرَّشَادِ} : السّبيل هو الطّريق الواسع السّهل السّريع، والصّراط أفضل من السّبيل.

سبيل الرّشاد: شرع الله أو سبيل الصّلاح المؤدّي إلى الغاية؛ أي: النّجاة والسّداد والخير.

ص: 82

سورة غافر [40: 39]

{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ} :

{يَاقَوْمِ} : ارجع إلى الآية السّابقة؛ للبيان.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : هذه الهاء للتنبيه، ذه اسم إشارة للقرب يشير إلى الحياة الدّنيا.

{مَتَاعٌ} : المتاع كلّ شيء ينتفع به وزائل متاع قليل، ارجع إلى سورة القصص آية (60) للبيان.

{وَإِنَّ الْآخِرَةَ} : إن للتوكيد، الآخرة: الدّار الآخرة.

{هِىَ} : للتوكيد.

{دَارُ الْقَرَارِ} : دار البقاء والخلود والدّوام؛ أي: الجنة، ومن أسمائها دار السّلام، جنات عدن، جنات الفردوس، جنات النّعيم، دار الخلد.

ص: 83

سورة غافر [40: 40]

{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} :

{مَنْ} : شرطية.

{عَمِلَ سَيِّئَةً} : ارتكب معصية، والسّيئة قد تكون صغيرة أو كبيرة (سيئة جاءت بصيغة النّكرة؛ لتشمل أيّ سيئة).

{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّافية.

{يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} : لأنّ الزّيادة على مقدار جزاء السّيئة ظلم.

كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160].

{وَمَنْ} : شرطية.

{عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} : من ابتدائية وتشمل المفرد والمثنى والجمع، (هو) للتوكيد؛ أي: قرن الإيمان بالعمل الصّالح.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء للتوكيد، أولئك: اسم إشارة للبعد ويفيد المدح ويشير إلى الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات.

{يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} : بغير حساب تعني كثرة الرزق، والحقيقة هم يرزقون فيها حسب درجات أعمالهم الصالحة كما جاء في سورة النبأ الآية (36) وفي قوله تعالى:{عَطَاءً حِسَابًا} . ارجع إلى الآية (212) من سورة البقرة لبيان قوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

ص: 84

سورة غافر [40: 41]

{وَيَاقَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} :

{وَيَاقَوْمِ} : انتبه في هذا النّداء وهو النّداء الثّالث حيث أضاف الواو فقال: ويا قوم الواو تدل على الاهتمام وزيادة في التّنبيه واليقظة، وبدأ في هذه الآية يصرح بإيمانه بالله وحده بينما في الآيات السّابقة نصح عام.

{مَا لِى} : ما استفهامية فيها معنى التّعجب وتفيد معنى كيف.

{أَدْعُوكُمْ} : أصل الدّعاء طلب الفعل، من: دعا يدعو.

{إِلَى النَّجَاةِ} : من النّار ودخول الجنة (هو دعاهم إلى الجنة في الآية السّابقة) ودخول الجنة؛ يعني: النّجاة من النّار ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بالله وحده وتصديق موسى عليه السلام. فهو يؤكد لهم ذلك والسبيل إليها.

{وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ} : وقد بيّن كيف يدعونه إلى النّار في الآية التّالية.

{تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ} ، بعدم اتباع موسى وأكد دعوتهم له بزيادة النّون في: تدعونني، ولم يقل تدعوني.

ص: 85

سورة غافر [40: 42]

{تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} :

{تَدْعُونَنِى} : تطلبوا مني، وسواء طلبوا منه حقيقة أم لا، دأبهم على الكفر والشّرك فيه معنى الدّعوة الغير مباشرة.

{لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، بالله: الباء للإلصاق والدّوام، وهذه الباء تعني كفر العقيدة؛ أي: الجحود بالله تعالى.

{وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} : به: بالله، في عبادته؛ أي: إلوهيته وربوبيته، أي وكيف أشرك به وما ليس لي به علم.

{مَا} : النّافية.

{لَيْسَ} : توكيد النّفي.

{لِى بِهِ عِلْمٌ} : أي الآلهة والأصنام.

وتعني: كيف أشرك بالله هذه الآلهة المزعومة (بما فيها فرعون) بدون علم أنّها آلهة أو بدون برهان أو دليل، أو كيف أشرك به شيئاً أعلم أنّه ليس بآلهة؛ أي: هو نفسه يعلم أنّها ليست إلهاً.

{وَأَنَا أَدْعُوكُمْ} : إلى الإيمان بالعزيز الغفار أو لعبادته وتوحيده.

{الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} : عدل عن ذكر الله تعالى إلى ذكر صفتين من صفاته توجبان الإقرار بإلوهيته والعبودية له وهما:

العزيز: القوي الممتنع الّذي يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر، وحذف وأنتم تدعونني إلى ما لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر.

الغفار: صيغة مبالغة من: غفر أي كثير المغفرة أو الغفران، يغفر الذنوب مهما كثرت ومهما كبرت، والمغفرة تعني يستر الذّنوب ويمحوها ولا يعاقب عليها ويثيب على العمل الصّالح، يغفر الذّنوب جميعاً ويغفر لكم أيضاً شرككم وذنوبكم إذا تبتم وأنبتم إليه.

ص: 86

سورة غافر [40: 43]

{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} :

{لَا جَرَمَ} : تعني لابد أو حقاً، أو: لا محالة، وتعني ثبت، ومشتقة من الجرم: جرم اللحم: قطع اللحم، ارجع إلى سورة هود آية (22) لمزيد من البيان. وردت في القرآن في خمس آيات.

{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 22]، {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النّحل: 23]، {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} [النّحل: 62]، {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [النّحل: 109]، وآية غافر (43).

{أَنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} : أي حقاً ما تدعونني إلى عبادته من دون الله من الأصنام أو الآلهة أو فرعون أو غيره.

{لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ} : ليس حرف نفي، له: اللام لام الاختصاص.

دعوة في الدّنيا ولا في الآخرة: أي هو نفسه لا يدعو أحداً إلى عبادته؛ لأنّه لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يغني شيئاً، إذن ليس له دعوة توجب عبادته، وإن دعوتموه أنفسكم، لا يسمع دعاءكم حتّى ولو سمع ما استجاب لكم؛ لأنّ الله قادر على منعه.

إذن هو ليس له شفاعة في الدّنيا ولا في الآخرة ليشفع لكم أو ليقرّبكم إلى الله زلفى.

في الدّنيا ولا في الآخرة: تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي: لا في الدّنيا وحدها ولا في الآخرة ولا في كلاهما.

{وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} : وأن: الواو استئنافية، أن مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

مردّنا إلى الله: أي مرجعنا إلى الله، فالواجب أن نؤمن به وحده، وقدّم مردّنا بدلاً من القول وإلى الله مردّنا؛ للحصر والتّوكيد: إلى الله وحده. ولم يقل مرجعنا؛ لأنّ مردّنا تعني الرّجوع بدون إرادتنا مكرهين، وأما الرّجوع يكون بإرادتنا وبدون كره.

{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} : وأن للتعليل والتّوكيد.

المسرفين: جمع مسرف متجاوز الحد في الحرمات؛ ويعني الإفراط في الكفر والشّرك. وتعريف المسرف: هو المفرط في فعل أو قول لا خير فيه متجاوز لحدود الله، والمقيم على المعاصي والشّرك وغيرهما. وقد تعني الظّلم وسفك الدّماء. و (المسرفين) جملة اسمية تدل على الثّبوت.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد كأنّهم هم وحدهم أصحاب النّار أو هم أصحاب النّار الحقيقيون.

{أَصْحَابُ النَّارِ} : ارجع إلى الآية (39) من سورة البقرة للبيان.

ص: 87

سورة غافر [40: 44]

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} :

{فَسَتَذْكُرُونَ} : الفاء للتوكيد، ستذكرون: السّين للاستقبال القريب؛ أي: عما قريب إذا حلّ بكم عذاب الله عندها ستذكرون ما قلت لكم، أو يُذكّر بعضكم بعضاً.

{مَا} : اسم موصول؛ أي: الّذي قلته لكم، أو مصدرية.

{أَقُولُ لَكُمْ} : أنصحكم، وما أقوله لكم الآن: بالإيمان بالله وحده والكفّ عن الشّرك والمعاصي.

{وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ} : التّفويض: يعني الرد الأمر إلى الله تعالى وحده لكي يعصمني منكم من كلّ سوء، ويبدو أنّه قد شعر بأنّهم غير راضين عنه ويرفضون دعوته وربّما توعّدوه بالسّوء.

{إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} : إن للتوكيد، بصير: مطّلع على أعمال عباده ونواياهم دائماً، الباء للإلصاق وتعني: الدّوام والاستمرار؛ أي: مطّلع على أعمالكم، وما تدبّروه أو تمكروه بي وبغيري.

ص: 88

سورة غافر [40: 45]

{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} :

{فَوَقَاهُ اللَّهُ} : الفاء للتوكيد، وقاه: حفظه الله وعصمه.

{سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} : سيئات: جمع سيئة، والسيئة: كل فعل قبيح؛ أي ما أرادوا به من قتل أو تعذيب أو حبس موسى عليه السلام ، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أو مصدرية بمعنى سيئات مكرهم أبشع ما مكروا.

مكروا: المكر هو: التّدبير الخفي بتدبّر وتفكّر؛ لإيقاع الضّرر بالغير بدون علم الغير، ولم يقل كيدهم: الكيد هو التّدبر الخفي لإيقاع الضّرر بالغير قهراً سواء علم أو لم يعلم. وقيل: إنّه (أي الرّجل المؤمن) نجا مع موسى من الغرق بعد خروجهم من مصر.

{وَحَاقَ} : نزل، وهناك فرق بين حاق ونزل؛ حاق: لا تأتي إلا في سياق نزول المكروه فقط، والنزول: عام في كل شيء، وحاق بآل فرعون؛ أي: نزل بآل فرعون سوء العذاب، وقيل: أصل حاق: حق، وهناك من قال حاق: نزل ولزم وحق، وهناك من قال: حاق: أحاط.

{بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} : آل فرعون: اتباعه وأنصاره؛ سوء العذاب: السوء كلمة عامة تعني: كل ما يسيء إلى النفس؛ سوء العذاب: في الدّنيا، السّوء هو المكروه يسوء النّفس، يعني: الغرق في البحر فلم ينجُ منهم أحد، وسوء العذاب: في الآخرة هو النّار (في البرزخ ويوم القيامة).

ص: 89

سورة غافر [40: 46]

{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} :

{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} : يعني يصلونها أو يُحرقون بها؛ أي: آل فرعون.

{غُدُوًّا} : الغداة: اسم الوقت ما بين طلوع الفجر وطلوع الشّمس.

{وَعَشِيًّا} : من الزّوال إلى الغروب.

{غُدُوًّا وَعَشِيًّا} : صباحاً ومساءً، ولم يقل بالغدوّ والعشيّ: الّتي تدل على الدّوام

وهذا العرض على النّار يكون في عالم البرزخ؛ لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} أي: يوم القيامة {أَشَدَّ الْعَذَابِ} .

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : أي فإذا قامت السّاعة يقال لخزنة جهنم:

{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} : أي أشدّ أنواع عذاب النار؛ أي: جهنم.

ص: 90

سورة غافر [40: 47]

{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} :

انتهى الحديث عن آل فرعون، ويبدأ الحديث عن الكفار عامة يوم القيامة، بما فيهم آل فرعون.

{وَإِذْ} : أي واذكر، أو ظرفية بمعنى حين، واذكر حين، حجاج وتخاصم أهل النّار.

{يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ} : من المحاججة: أو الحجاج، الأصل في الحجاج: هو إظهار الحجة كلّ طرف يحاول تقديم حجته للطرف الآخر ويحاول أن يلقي باللائمة على الآخر وتبرئة نفسه ويُحملُ الإثم والذّنب على الآخر.

هذا الحجاج سيكون بعد دخول آل فرعون النّار، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (96) في سورة الشعراء وهي قوله تعالى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} : نجد أن يختصمون تتلو مرحلة الحجاج؛ أي: الحجاج أولاً ثم الخصام يحدث بعد ذلك؛ فالله سبحانه يريد أن يطلعنا على بعض مشاهد يوم القيامة وما يحدث بين الأتباع والمتبوعين والذين استكبروا والضّعفاء فيقول:

{فَيَقُولُ الضُّعَفَاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : الضّعفاء التّابعون للذين استكبروا المتبوعين الأقوياء. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (21) لمعرفة الفرق بين الضعفاء والضِعفؤا والضَعف والضُعف سورة البقرة آية (282).

{إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} : إنّا للتوكيد، كنا في الدّنيا، لكم: اللام لام الاختصاص.

تبعاً: أي نفعل كما تأمروننا ونسير على خطاكم؛ أي في العقيدة والفعل.

{فَهَلْ} : استفهام للترجّي.

{أَنْتُمْ} : للتوكيد.

{مُّغْنُونَ عَنَّا} : حاملون من خطايانا شيئاً، أو مدافعون عنا أو مانعون عنا العذاب.

{نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} : قسماً أو شيئاً قليلاً، أو جزءاً، من: ابتدائية من النّار.

ص: 91

سورة غافر [40: 48]

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} :

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : المتبوعون للتابعين. استكبروا: ارجع إلى سورة البقرة آية (87) للبيان والفرق بين استكبر ومتكبر.

{إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} : إنّا كلٌّ: للتوكيد، فيها: في نار جهنم.

أي: نحن وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف نغني عنكم نصيباً من العذاب؛ أي: لو استطعنا لدفعنا عن أنفسنا العذاب.

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} : إن الله للتوكيد، قد للتحقيق، حكم بين العباد: أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النّار النّار، حكم: قضى ولا رادّ لحكمه ولا مبدّل. ارجع إلى سورة الأنعام آية (62) للبيان والفرق بين الحكم والقضاء.

ص: 92

سورة غافر [40: 49]

{وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ} : يعذبون في النّار.

{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} : جمع خازن؛ أي: حراس جهنم. ارجع إلى سورة الرعد الآية (18) لبيان معنى جهنم.

{ادْعُوا رَبَّكُمْ} : ولم يقولوا ربنا وربكم، فهم لا يزالون على حالهم كما كانوا في الدّنيا من الكبر والغباء.

{يُخَفِّفْ عَنَّا} : أي ادعوا أو اشفعوا لنا عند ربكم، فهم يشعرون أنّهم ليسوا أهلاً أن يسألوا الله بأنفسهم أو يدعوه بأنفسهم، وقد يكون قد يئسوا من رحمته تعالى بأنه لن يستجيب لهم.

{يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} : يسألون حتّى ولو يوماً واحداً لا غير أو قدر يوم من أو أيّ شيءٍ من العذاب.

ص: 93

سورة غافر [40: 50]

{قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاؤُا الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ} :

هذا ردُّ الملائكة (خزَنَة جهنم) على أهل النّار حين سألوهم أن يسألوا ربّهم أن يخفّف عنهم يوماً من العذاب.

{قَالُوا} : أي خزَنَة جهنم لأهل النّار.

{أَوَلَمْ تَكُ} : الهمزة همزة استفهام وتوبيخ وتقريع، تك: ولم يقل تكن أو تكون؛ أي: أولم تأتكم رسلكم ولو لفترة قليلة أو زمن وجيز.

{رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالآيات أو الحجج والبراهين الدّالة على وجوب الإيمان بالله وحده وطاعته وترك الشّرك.

{قَالُوا بَلَى} : أي قد جاءتنا رسلنا بالبينات، وهذا إقرار على أنفسهم.

{قَالُوا فَادْعُوا} : قالت الملائكة (خزَنَة جهنم) مادامت قد جاءتكم رسلكم وكفرتم وكذّبتم بهم، فنحن لن ندعو لكم فكيف ندعو ربنا وهو لم يأذن لنا بالدّعاء والاستغفار لكم؟! فادعوا بأنفسكم.

{وَمَا دُعَاؤُا الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَالٍ} : ما النّافية، دعاء الكافرين إلا: حصراً، في ضلال: باطل في ضياع ولا يجدي ولا ينفع، وهو خسارة ولا يُقبل أصلاً.

ص: 94

سورة غافر [40: 51]

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} :

بعد أن ذكر حال آل فرعون في الدّنيا والبرزخ ويوم القيامة، وحال الّذين كفروا رسلهم، يذكر حال الّذين آمنوا، ومنهم الرّسل فيقول تعالى:

{إِنَّا} : للتعظيم.

{لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : اللام: للتوكيد، ننصرهم في الحياة الدّنيا بالقوة والعدّة والغلبة على المكذبين والكافرين، أو ننصرهم بالحجة والبرهان أو بأيّ وسيلة بالقوة والسيف أو الحرب، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (21) في سورة المجادلة وهي قوله تعالى:{لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} : نجد أن آية غافر تشمل الرسل والذين آمنوا، وآية المجادلة خاصة برسل أمروا بالقتال.

{وَيَوْمَ} : يوم القيامة. (يوم يقوم الأشهاد) والأشهاد: هم الملائكة يشهدون للأنبياء على أنّهم بلّغوا، وعلى الأمم بالتّكذيب.

فالأشهاد: هم الرّسل والأنبياء يشهدون على أممهم وأممهم تشهد عليهم.

والمؤمنون وأولو العلم من الأشهاد.

والأشهاد قد تكون أيضاً: الجلود والألسُن والأرجل والأيدي والأعين.

وقد يكون الكل: الملائكة والأنبياء والرّسل والمؤمنون، والأشهاد: جمع شاهد، وشاهد تجمع على: شهود وأشهاد. ولتعريف الشاهد، والشهيد: ارجع إلى سورة البقرة آية (133)، وسورة المجادلة آية (6) للبيان.

ص: 95

سورة غافر [40: 52]

{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} :

{يَوْمَ} : جاء نكرة للتهويل والتّعظيم؛ أي: يوم القيامة.

{لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ} : لا النّافية، لا ينفع الظّالمين: أي المشركين.

{مَعْذِرَتُهُمْ} : أي إن اعتذروا لا يقبل أو ينفعهم أيُّ عذر؛ لأنّه عذر باطل أو أنّه لا يؤذن لهم أصلاً ليعتذروا كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36].

{وَلَهُمُ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وتقديم لهم؛ أي: كأنّ اللعنة خاصة بهم.

{اللَّعْنَةُ} : الطّرد والبعد عن رحمة الله.

{وَلَهُمْ} : تكرار (ولهم) للتوكيد، وفصل اللعنة عن سوء الدّار فلهم اللعنة ولهم سوء الدّار ولهم كلاهما.

{سُوءُ الدَّارِ} : دار الآخرة؛ أي: أقبح العذاب.

لنقارن هذه الآية (52) من سورة غافر: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} مع الآية (87) من سورة آل عمران: {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .

{وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق؛ أي: يستحقون اللعنة.

عليهم اللعنة: على تستعمل للأفعال الشّاقة الثّقيلة الّتي يقع وبالها أو عقابها؛ أي: جزاء الّذين كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حق وجاءتهم البينات. فالآية تتحدث عن الجزاء، والآية في سورة غافر تتحدث عن الاستحقاق.

ص: 96

سورة غافر [40: 53]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، اللام للتوكيد، قد للتحقيق؛ أي: قد حدث ذلك.

{آتَيْنَا مُوسَى} : آتينا من الإيتاء: وهو العطاء مع عدم التّملك. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

{الْهُدَى} : التّوراة. والهدى: الدّلالة الموصلة إلى البغية؛ أي: بيّنّا له طريق الحق من طريق الباطل.

{وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ} : أورثنا التّوراة الّذين اصطفينا من بني إسرائيل (بني يعقوب)، كما قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32].

ص: 97

سورة غافر [40: 54]

{هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ} :

{هُدًى} : تعود على الكتاب (التّوراة) أو هو هدى يهدي للحق ويهدي للغاية.

{وَذِكْرَى} : تعود على الكتاب (التّوراة) تذكرة أو تذكيراً.

{لِأُولِى الْأَلْبَابِ} : اللام لام الاختصاص، أولي الألباب: ذوي أو أصحاب العقول المستبصرة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (7) والبقرة الآيتين (179، 197) للبيان.

ص: 98

سورة غافر [40: 55]

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِبْكَارِ} :

{فَاصْبِرْ} : الفاء للتوكيد، اصبر: الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، اصبر على طاعة الله، اصبر على ما يقولون، اصبر على أذاهم، اصبر لحكم ربك، واصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل، واصبر حتّى يحكم الله.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : إن للتوكيد، وعد الله: الوعد هو الإخبار بالخبر قبل وقوعه، والوعد يستعمل عادة في الخير إذا كان مطلقاً، والوعيد يستعمل عادة في الشّر.

حق: الحق الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل.

{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} : لها معان كثيرة، والمهم ألَّا تظن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خالف منهج الله سبحانه ووقع في ذنب أو معصية كما نفعل نحن، فالمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته.

فإذا كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: استغفر إذا وقع منك خطأٌ بغير نية أو قصد، مثل:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2]، أو ما وقع منك قبل النبوة والعصمة.

والاستغفار من أنواع الذّكر للتقرب إلى الله ولو بدون وقوع صغيرة أو ذنب. وإذا كان الخطاب للمؤمنين؛ أي: استغفروا ربكم لذنوبكم وسيئاتكم مهما كان نوعها وسببها وتوبوا إلى الله عز وجل لعلكم تفلحون.

وقد يكون على ما حصل منك قبل النّبوة والعصمة.

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِبْكَارِ} : أي سبّح ربك تسبيحاً مقروناً بالحمد، أو موصولاً بالحمد؛ لأنّ التّسبيح: هو ثناء على الله، أمّا الحمد: فهو شكر الله على نعمه الظّاهرة والباطنة، والتّسبيح: تنزيه الله تنزيهاً كاملاً مطلقاً عما لا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، تنزيهاً لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، ومن الشّريك والولد والصّاحبة والنّدّ.

وقيل: إنّ معنى سبّح: صلِّ، وسبّح بالعشي والإبكار؛ أي: صلِّ الصّلوات الخمس، وقيل: صلاة الفجر وصلاة العصر، وقيل: ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي قبل أن تفرض الصّلوات الخمس.

{بِالْعَشِىِّ وَالْإِبْكَارِ} : العشي: من صلاة الظّهر (أو الزّوال) إلى المغرب.

والإبكار: من صلاة الفجر إلى الضّحى.

وبالعشي والإبكار: معرفة، مقارنة بقوله: بكرة وعشياً (نكرة)، بالعشي والإبكار تعني: الدّوام؛ أي كن دائماً مسبّحاً بحمد ربك، وتعني: ليس هناك وقت محدد؛ أي سبّح في أيّ وقت، أو في أي يوم فليس هناك أيام محددة أو وقت محدد.

أما بكرة وعشياً: تعني في وقت محدد مخصص بعينه، ويوم محدد.

وقرن الصّبر مع التّسبيح والحمد والاستغفار؛ لأنّ مما يساعد على الصّبر الصّلاة والتّسبيح والاستغفار، أو قالوا: من مقومات الصّبر الصّلاة والتّسبيح والاستغفار.

ص: 99

سورة غافر [40: 56]

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} :

{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} : ارجع إلى الآية (5)، والآية (35)، والآية (69) من السّورة نفسها للمقارنة.

فالآية (5) تتحدث عن الدّافع أو الغاية من جدالهم وهو إبطال الحق وردّ المؤمنين إلى الكفر.

والآية (35) تتحدث عن منزلتهم عند الله وعند الّذين آمنوا: المقت (أشد الكراهية).

الآية (56) تتحدث عن كبرهم، والآية (69) تتحدث عن تكذيبهم بالكتاب والرّسل ومصيرهم في الآخرة وما سيحلّ بهم.

إن: للتوكيد، {فِى}: ظرفية.

{صُدُورِهِمْ} : أي قلوبهم.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كِبْرٌ} : أي تكبّر عن الإيمان بالله والاستجابة لرسوله، تكبّر دفعهم إلى عدم الاستماع لآيات الله وما نزل من الحق، وعدم إيمانهم بالبعث والحساب، وأخذوا يجادلون فيها ويتجدّد ويتكرّر جدالهم.

{كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} : ما النّافية، هم تفيد التّوكيد؛ أي: لن يتحقق أملهم ويصلوا إلى غاياتهم، والباء للتوكيد، وهو كبرٌ كاذب وزائل وإثمه عائد عليهم. والكبر تعريفه لغوياً: إظهار عظم الشّأن ورفع النّفس فوق ما تستحق، وعدم قبول الحق. ارجع إلى الآية (87) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : الفاء للتوكيد، استعذ بالله: أي اِلجأ إلى الله واطلب منه العون، من الكِبرْ، وكِبرْ هؤلاء وشرهم وكيدهم، واستعذ بالله. لم يذكر ما يستعيذ منه؛ ليفيد التّعميم.

{إِنَّهُ هُوَ} : إن للتوكيد، هو لزيادة التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : لأقوالهم وأسرارهم ونجواهم وما يسرون وما يعلنون.

{الْبَصِيرُ} : بأحوالهم وأفعالهم وبما تمله جوارحهم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (200) في سورة الأعراف وهي قوله تعالى:{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} : جاءت في سياق الاستعاذة من الشيطان، وآية غافر الاستعاذة من كبر الذين يجادلون في آيات الله؛ فالله سبحانه يسمع ويعلم ما ينزغه الشيطان (في الأعراف) ويعلم الله ويبصر (يرى) كبر الذين يجادلون في آيات الله.

ص: 100

سورة غافر [40: 57]

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

المناسبة: في الآية السّابقة ذكر الّذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، وجدالهم ناتج عن الكبر الّذي أدى إلى عدم إيمانهم بوحدانية الله تعالى، وعدم إيمانهم بالبعث والحساب والجزاء، فردّ الله عليهم بكثير من الآيات والأدلة والبراهين القاطعة الّتي تدل على أنّه الإله الحق واجب الوجود، وتدل على عظمته وقدرته على البعث والحساب، منها:

1 -

خلق السّموات والأرض.

2 -

جعل الليل ليسكنوا فيه والنّهار مبصراً.

3 -

جعل الأرض قراراً والسّماء بناءً.

4 -

صوّركم فأحسن صوركم.

5 -

رزقكم من الطّيبات.

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : اللام لام التّوكيد، وهناك من يقول: إنّها لام القسم.

{أَكْبَرُ} : من خلق النّاس، أكبر على وزن: أفعل وتعني: أعظم.

ومن الأمثلة على ذلك مجرة التّبانة الّتي فيها حوالي (200) مليار نجم، والتي هي مجرتنا، وهناك أكثر من ألف مليون مجرة، وهذه النّجوم تدور وفي كلّ ثانية تكون في موقع جديد، والشّمس تجري بسرعة (19) كم في الثّانية نحو مستقرها؛ أي:(صولرايبكس)، وفي الوقت نفسه تجري حول مركز المجرة بسرعة (220كم/ ثانية) لتكمل دورتها حول مركز المجرة في (250) مليون سنة، والشمس تعتبر نجماً من هذه المليارات النجوم والكون فيه آلاف الملايين من هذه النجوم والكواكب.

والشّمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة، وحرارتها تصل إلى (20) مليون درجة في مركز الشّمس، وطول ألسنة لهبها يصل أكثر من نصف مليون كم، وتبعد عن الأرض (150) مليون كم والأرض تدور حول الشّمس بسرعة (30) كم في الثّانية، ولو انطفئت الشّمس لتجمدت الأرض ووصلت درجة حرارتها إلى (270) درجة تحت الصّفر، وتدور الأرض حول نفسها بسرعة تبلغ في خط الاستواء (1600) كم بالسّاعة، ومع ذلك لا نشعر بحركتها، وتصور باقي النجوم والكواكب التي لا يعلمها إلا الله.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : آيات الله في الآفاق (والكون) ولا في أنفسهم.

ص: 101

سورة غافر [40: 58]

{وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِاءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} :

في الآية السّابقة قال تعالى: {أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أن خلق السّموات والأرض أعظم من خلق الإنسان، وفي هذه الآية قال:{وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} .

{الْأَعْمَى} : هو الّذي لا يعلم أنّ خلق السّموات والأرض أكبر وأعظم من خلق النّاس ولا يؤمن بالله وبالبعث وبوحدانيته، فهذا الأعمى لا يستوي مع أعمى آخر يعلم بدرجة قليلة أو بدرجة كبيرة أنّ خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس، والأعمى الّذي لا يريد أن يعلم على الإطلاق أن خلق السّموات والأرض أكبر من خلق النّاس.

أو الأعمى: الغافل الّذي لا يتفكر ولا يتأمل بآيات خلق السّموات والأرض ويبقى غير مؤمن بالله.

{وَالْبَصِيرُ} : الّذي يتفكر بخلق السّموات والأرض ويتأمّلها ويستدلّ على واجب الوجود والإيمان والوحدانية والبعث.

والنّفي قد يكون نفي الجنس. ارجع إلى سورة فاطر الآيتين (18 – 22).

وما يستوي الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات؛ أي: لا يستوي كلّ منهم مع الآخر فهناك السّابق بالخيرات وهناك المقتصد.

ولا يستوي المسيء مع المسيء، فهناك من يعمل الكبائر وهناك من يعمل الصّغائر؛ ناهيك عن استواء الذي يعمل الصالحات مع المسيء، أو المؤمن والكافر فهذا أمر واضح.

{قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} : قليلاً: أي إما العدد؛ أي: الّذين يتذكرون عددهم قليل، أو مقدار ما يتذكرون قليل، أو الزّمن الّذي تقضونه في التّذكر في ذكر خلق السموات والأرض قليل جداً.

ما: للتوكيد.

تتذكرون: التذكر من الذكر، وهو العلم بعد النسيان؛ أي: قليلاً ما تتذكرون؛ أي: هذه الآيات الكونية مثل خلق السّموات والأرض وغيرها، مثل خلق الإنسان تدعوا إلى الإيمان بالله وعظمته وقدرته وعلمه، وأنه الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويطاع. تتذكرون: تعني أنها تحتاج إلى زمن أطول وتفكير عميق حتّى يهتدوا بها ويؤمنوا؛ لجهلهم بها وعدم معرفتها سابقاً، ولو قال: تذكرون لدلّ ذلك على زمن أقل.

ص: 102

سورة غافر [40: 59]

{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} :

جاءت هذه الآية رداً على الّذين يجادلون في البعث والحساب والدّار الآخرة وينكرون قيام السّاعة، وبعد أن جاء بالدّليل على قدرته سبحانه في خلق السّموات والأرض الّذي هو أكبر من خلق النّاس، أخبر بوقوعها لا محالة فقال تعالى:

{إِنَّ السَّاعَةَ} : إن للتوكيد، السّاعة: أو قيام السّاعة. وسميت السّاعة وهي لحظة بدء تهدّم النّظام الكوني الحالي.

{لَآتِيَةٌ} : اللام للتوكيد، الخطاب موجّه إلى منكري البعث خاصة، والكفار والذين يجادلون في آيات الله، لذلك ناسب التّوكيد بإنّ واللام.

{لَا رَيْبَ فِيهَا} : لا النّافية، الرّيب: الشّك مع التّهمة؛ أي: هم يشكون في السّاعة ويكذبون بالآيات الّتي تخبرهم بقدومها، ويتّهمون الرّسول صلى الله عليه وسلم بالأباطيل. ارجع إلى سورة طه الآية (15) للمقارنة والبيان.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} : أي لا يصدقون بالبعث وبالساعة والقلة يؤمنون بها ويعلمون أنّها الحق ولذلك يستعدون لها.

وإذا قارنّا هذه الآية (59) من سورة غافر: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} مع الآية (15) من سورة طه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} نجد أنّه في سورة غافر أكد بإن واللام ولا ريب فيها: ثلاث توكيدات؛ لأنّ الخطاب موجه لمنكري البعث والسّاعة، بينما في سورة طه لم يؤكد بشيء؛ ذلك لأنّ الخطاب لموسى عليه السلام وهو رسول الله ومؤمن بالسّاعة والبعث فلا يحتاج إلى أيّ توكيد. ارجع إلى سورة طه آية (15) لمزيد من البيان ومقارنة الآيات المماثلة.

ص: 103

سورة غافر [40: 60]

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} :

وبعد أن أكد قيام السّاعة بيّن في هذه الآية مصير هؤلاء الّذين لا يؤمنون بالسّاعة ولا يدعون ربهم ويرجعون إليه ويستكبرون عن عبادته فقال:

{وَقَالَ رَبُّكُمُ} : ربكم؛ أي: الّذي خلقكم وأمدّكم وربّاكم ورزقكم.

{ادْعُونِى} : ادعوني تأتي بمعنى: اعبدوني، الدّعاء: العبادة، والدّليل هو في تتمة الآية:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} أو تأتي بمعنى الدّعاء نفسه.

والعبادة تنطوي على الدّعاء، والدّعاء باب من أفضل أبواب العبادة، ولتعريف العبادة: ارجع إلى سورة النحل آية (73) للبيان.

{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} : أعطيكم ما تسألوني أو أرزقكم، أو أعينكم على حوائجكم، وأستجب لكم: أغفر لكم وأثيبكم على عبادتكم.

{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} : إن للتوكيد، يستكبرون عن عبادتي: أي لا يطيعون أوامري ولا يتجنبون نواهيَّ؛ ويعني الخضوع والذّلّة له وتوحيده والتّوكل عليه. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لبيان معنى الاستكبار والتكبر.

{سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} : السّين للاستقبال القريب؛ أي: مهما طالت أعمارهم فأجلهم قريب وبعدها يدخلون جهنم، وتعني: بعيدة القعر، وجهنم اسم من أسماء النّار. ارجع إلى سورة الرّعد آية (18) للبيان.

داخرين: صاغرين أذلّاء من دَخِر: صَغُرَ وذَلّ، وأدْخَره: أذلّه.

ص: 104

سورة غافر [40: 61]

{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} :

هذا دليل آخر على قدرته وعظمته سبحانه على الخلق والبعث وفضله على النّاس.

ولنعلم أنّ هذه الآية ذُكرت لأهميتها في ثلاث سور من القرآن، وتدل على عظمته وقدرته ورحمته بالناس، وتعتبر من آيات الإعجاز العلمي في القرآن بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيها والنّهار مبصراً.

هذه السّور هي:

سورة يونس آية (67): {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} .

سورة النّمل آية (86): {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} .

سورة غافر آية (61){اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} .

{جَعَلَ لَكُمُ} : الجعل يكون بعد الخلق؛ أي: سبحانه خلق السّموات والأرض أولاً ثم جعل الليل والنّهار.

{لَكُمُ} : اللام لام الاختصاص، جعل لكم الليل والنّهار؛ أي: جعل لكم الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض الّتي تسمى (النّهار) وتضيء بأشعة الشّمس، ولا توجد هذه الطّبقة الغازية حول أيّ كوكب إلا الأرض فهذا خاص بكم. ارجع إلى سورة يونس آية (67) لمزيد من البيان.

وجعل لكم {الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} : اللام في كلمة (لتسكنوا) للتعليل، ولتسكنوا فيه: من السّكون، الانقطاع عن الحركة؛ أي: الرّاحة والنّوم والسّكينة الهدوء، و (تسكنوا) جاء بصيغة المضارع ليدل على التّجدد والتّكرار (بالنّوم) ودلالة على نعمة الرّاحة في الليل ليكون الإنسان نشيطاً في الصّباح ويزاول عمله مرة أخرى.

{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} : ارجع إلى الآية (67) من سورة يونس للبيان.

{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.

{لَذُو فَضْلٍ} : اللام للتوكيد، ذو: صاحب وذوا شرف من صاحب، فضل: الفضل هو الزّيادة عما يستحق العبد.

{عَلَى النَّاسِ} : على تفيد العلويّة؛ أي: فضله ينزل على النّاس.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} : لا يشكرون ربهم على نعمة الليل، ونعمة السكن، ونعمة الضياء، والتقلب في النهار، ولا يشكرونه على نعمه وفضله عليهم؛ بسبب انشغالهم بالنّعمة ونسيان المنعم، أو بسبب الشّيطان الّذي يُنسي الإنسان ذكر ربه، أو بسبب الظّن أنّ النّعمة تنحصر فقط بالمال وينسى نعمة الصّحة والعافية والأهل والأمن والطّمأنينة – والعلم – وغيرها.

وتكرار كلمة النّاس: للتوكيد على الكفر بنعمة الله؛ أي: سترها وجحدها، أو غفلتهم.

{لَا} : النّافية.

{يَشْكُرُونَ} : أي أكثر النّاس لا يشكرون والقليل يشكرون، أو كمية الشّكر الصّادرة عنهم قليلة مقابل النّعم الكثيرة.

ولا يشكرون بصيغة المضارع تدل على تجدد وتكرار عدم شكرهم المنعم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان.

ص: 105

سورة غافر [40: 62]

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :

{ذَلِكُمُ} : ذا اسم إشارة، ولم يقل ذلك الله ربكم، ذلكم: فيها تعظيم وتدل على الإشارة لعدّة نعم، أو دلائل على قدرة الخلق.

{اللَّهُ رَبُّكُمْ} : الله: الإله المعبود واجب الوجود، ربكم؛ أي: الخالق المدبر والمربي والرّزاق.

فقوله: الله ربكم: جمع صفتي الألوهية والرّبوبية معاً.

{خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} : خالق من الخلق: وهو التّقدير، كل: للتوكيد، شيء نكرة تعني: أيّ شيء مهما كان – وكما قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فكونه خالق كلّ شيء فهذا يدل على ربوبيته.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا النّافية، إله: معبود، إلا: أداة حصر، هو: للتوكيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (255) لمزيد من البيان في {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (102) في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} : نجد آية الأنعام جاءت في سياق الشريك الولد والصاحبة، ولذلك نفى الشريك، وقدم كلمة التوحيد {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، ثم ذكر الخلق؛ أما في آية غافر الآية جاءت في سياق الخلق وليس الشرك، ولذلك قدم الخلق وأخر {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .

وكونه لا إله إلا هو، فهذا يدل على وحدانيته.

{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} : الفاء للتوكيد، أنّى: تعني كيف ومن أين، وللاستفهام والتّعجب والإنكار على إفكهم، وفيها سعة في المعنى (توسع) أكثر من كيف.

أي: كيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع وجود كلّ هذه الأدلة والآيات على وحدانيته، أو كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، تؤفكون: الإفك وهو الكذب المتعمد لقلب الحقائق.

ص: 106

سورة غافر [40: 63]

{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :

{كَذَلِكَ} : أي مثل إفك هؤلاء وانصرافهم عن عبادة الله وحده إلى عبادة غيره من أصنام وغيرها، كذلك يصرف: يؤفك {الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} : كذلك يصرف كلّ جاحد بآيات الله، والجحد إما عقائدي إنكاري؛ أي: إنكار وجود الله تعالى، أو جحود: ستر لنعمة الله وإنكار لها.

ص: 107

سورة غافر [40: 64]

{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :

هذا دليل آخر على قدرته وعظمته: أنّه هو المنعم الّذي يستحق العبودية.

{اللَّهُ} : اسم ذات يحمل في طياته كلّ صفات الكمال ويدل على الإله الحق واجب الوجود.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الاختصاص؛ أي: وحده الّذي.

{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} : جعل (لكم) خاصة (واللام لام الاختصاص والملكية) والكاف للخطاب.

قراراً: ساكنة رغم حركتها التي تقدر بـ (30كم/ ثانية)، ولا تعني: لا تتحرك كما تفسرها كثير من كتب التّفسير، هذه الأرض التي تتركب من سبع طبقات تشمل لبّ هذه الأرض كتلة صلبة ضخمة من الحديد والنّيكل، تصل نسبة الحديد إلى أكثر من (90%) هذه الكتلة الصّلبة من الحديد هي الّتي تعين في جعل الأرض قراراً.

وكتلة الأرض تقدر بـ (6) آلاف مليون مليون مليون طن رغم أنّها معلقة في الفضاء ولا ننسى الجبال (الرّواسي) والصّفائح تحت القارية كذلك التي تساعد على استقرار الأرض، فالأرض تدور حول نفسها مرة كلّ (24) ساعة وتدور حول الشّمس مرة كلّ (365) يوماً (سنة) سرعة دورانها حول الشّمس (30) كم/ ثانية (19) ميل بالثّانية.

وسرعة دوران الأرض حول خط الاستواء (460) متراً بالثّانية، ولماذا لا نشعر بدورانها؟ لأنّنا كلنا ندور بنفس السّرعة كما يحدث عندما نركب سيارة ونسير بسرعة (60) كم داخل السّيارة نشعر بقرار وسكون رغم أن السّيارة متحركة بسرعة هائلة.

{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} : السّماء تعني السّموات السّبع: ومنها السّماء، السّماء الدّنيا المبنية من طبقات مثل: تروبوسفير، ستراتفير، ميزوسفير، ثرموسفير، اكسَّفير وكلها يطلق عليها اتمسفير..

سماوات سبع متماسكة كالبناء؛ لما فيها من قوى الجاذبية فهي سماوات يغلف الخارج منها الدّاخل مركزها الأرض.

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} : في المنظر والشّكل واللون؛ أي: ميّز بعضكم على بعض بالصّورة أو السّمة بحيث لا يشبه الواحد الآخر بحسب الشّفرة الوراثية لكلّ فرد. ارجع إلى سورة آل عمران آية (6) وسورة الأعراف آية (11) للبيان..

{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : الطّيب هو ما كان طاهراً غير نجس ولا مستقذر تعافه النّفس، وكذلك حلالاً.

والحلال ما أذن به الله تعالى.

الطّيبات: تشمل المأكل والمشرب والملبس والمنكح، وغيرها.

{مِنَ} : بعضية.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} : ارجع إلى الآية (62) للبيان.

{فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} : الفاء للتوكيد، تعالى قدرةً وتعاظم وتنّزه وتقدّس عن شبه ما سواه، وعظم خيره وعمّت بركته على خلقه ودام وثبت إنعامه وإحسانه. ارجع إلى سورة الملك آية (1) لمزيد من البيان.

ص: 108

سورة غافر [40: 65]

{هُوَ الْحَىُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{هُوَ الْحَىُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (255) للبيان.

{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : أي فاعبدوه وحده لا شريك له: مخلصين له الدّين؛ أي: الطّاعة الخالصة من الشّرك والرّياء. ارجع إلى الآية (14) من السّورة نفسها، وسورة الزمر آية (2) لبيان معنى الإخلاص، وسورة البقرة آية (132) لبيان معنى الدين.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : أي احمدوا الله على نعمه الّتي أنعم بها عليكم: نعمة الخلق (الإيجاد) ونعمة الإمداد ونعمة الهداية، ارجع إلى الآية (2) من سورة الفاتحة.

ص: 109

سورة غافر [40: 66]

{قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِىَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَّبِّى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخطاب موجّه إلى رسول الله والمقصود به أفراد أمته.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{نُهِيتُ} : النّهي: المنع؛ أي مُنعت.

{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أن مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

نهيت أن أعبد هذه الأصنام أو الآلهة الّتي تدعون: تعبدون من دون الله، من دون الله: من غير الله؛ أي: سواه.

{لَمَّا} : ظرف زماني بمعنى حين، أو منذ ذلك الزّمن: لما جاءني.

{جَاءَنِىَ الْبَيِّنَاتُ} : بالتذكير وتعني: الأحكام والأوامر من ربي، ولم يقل جاءتني البينات؛ التّأنيث التي تدل على أنّها بينات معجزات تدل على صدق نبوة الرّسول.

{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : وأُمرت أن: تعليلية، أسلم لرب العالمين؛ أي: إسلام الوجه، ويعني الإخلاص والتّوحيد، لرب العالمين: لام التّوكيد، ويقصد به الإسلام الّذي ارتقى إلى التّقوى والإحسان وإسلام الذّات.

ص: 110

سورة غافر [40: 67]

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

{هُوَ} : تعود على رب العالمين.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم والكمال.

{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} : وتعني خلق أباكم آدم من تراب وكلكم من ذرية آدم، وقد تعني: أنّ العناصر الّتي يتركب منها جسم الإنسان هي نفسها موجودة في التّراب حيث وجد أنّ (16) عنصراً مثل الكالسيوم والحديد والصّوديوم والمغنيزيوم والكلوريد وغيرها هي نفسها تشكل بعض عناصر التّربة وتشكل بعض عناصر الإنسان، أو أنّ الحيوان المنوي والبويضة منشؤهما مما نأكله من الأغذية النّباتية والحيوانية (اللحوم) والنّبات والحيوان من التّراب. ارجع إلى سورة الرّوم آية (20) لمزيد من البيان.

{ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ} : أي نطفة الرّجل وهي الحيوان المنوي ونطفة البويضة.

{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} : سميت علقة؛ لكونها تعلق في جدار الرّحم وتنمو. ارجع إلى سورة الحج آية (5).

{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} : ولم يذكر مرحلة المضغة ونفخ الرّوح ومرحلة العظام والإكساء باللحم كما بينها في سورة المؤمنون الآيات (12 – 14) والحج آية (5).

{ثُمَّ} : للترتيب العددي أو الذّكري، وقد تكون للترتيب والتّراخي في الزّمن.

{لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} : اللام لام التّوكيد، الأشد: قيل ما بين (18 – 30) سنة.

{ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} : سن الشّيخوخة ما بين (50 – 80) سنة، أو من تجاوز الـ (60) سنة.

{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} : أي قبل أن يصل إلى مرحلة الشّيخوخة أو مرحلة (أشدكم) أو مرحلة الطّفولة.

{وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} : هو الموت، أو أجلاً مسمى في اللوح المحفوظ، معلوماً، بعد نفخ الرّوح يؤمر الملك بكتب أجله، وقد يكون أياماً أو شهوراً أو سنين.

{وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : لعل: للتعليل، أو لمطلق التّوقّع.

تعقلون: من عقل الشيء؛ أي: بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه إن الله قادر على بعثكم وإحيائكم بعد الموت، أو أنّ الله هو الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد ولا يُشرك به.

ص: 111

سورة غافر [40: 68]

{هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} :

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر: هو المتفرد بذلك.

{الَّذِى} : للتعظيم.

{يُحْىِ وَيُمِيتُ} : بشكل متجدّد ومتكرر على مرّ الزّمن.

{فَإِذَا} : الفاء للتوكيد، إذا ظرفية زمانية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{قَضَى أَمْرًا} : أراد أو حكم.

{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} : فإنما: الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنما كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

يقول له: كن فيكون. ارجع إلى سورة النّحل آية (40) للبيان.

وردت هذه الآية في ست سور هي:

البقرة آية (117)، آل عمران آية (47)، النّحل آية (40)، مريم آية (35)، يس آية (82)، غافر آية (68).

ص: 112

سورة غافر [40: 69]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} :

بعد إيراد الأدلة والآيات الكثيرة على قدرة الله وعظمته، وقدرته على الخلق والإحياء والبعث والآيات الدّالة على وحدانيته، وأنّه هو الإله الحق الّذي يستحق العبادة.

عاد مرة رابعة في السّورة نفسها لذكر الّذين يجادلون في آيات الله. ارجع إلى الآية (56) من السّورة نفسها.

{تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ} : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل مع وضوح الأدلة، ويكذبون بالرّسل والكتب السّماوية وما أنزل الله، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم.

{أَلَمْ} : الهمزة استفهام إنكاري.

{تَرَ} : ترَ قلبية، أو رؤية فكرية.

{إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية (35).

{أَنَّى يُصْرَفُونَ} : أنّى: كيف ومن أين، واستفهام إنكاري فيه تعجب. يصرفون: عن توحيد الله إلى الشّرك به، عن الحق إلى الباطل، عن الإيمان بالله وحده إلى الجحود به.

ص: 113

سورة غافر [40: 70]

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم، يعود على الّذين يجادلون في آيات الله.

{كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} : بالقرآن، الباء للإلصاق، ويدل على الدّوام.

{وَبِمَا} : ما: اسم موصول تعني الّذي، وما أوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية.

{أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} : الرّسل يعني الأنبياء والرّسل، وبعضهم أرسلوا إلى أقوامهم بدون كتب يدعون إلى الإيمان بالله وتوحيده والإيمان بالبعث والحساب والجزاء كالأنبياء.

{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} : الفاء للتوكيد، سوف للاستقبال البعيد؛ أي: يوم القيامة، فسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم أو وبال كفرهم.

ص: 114

سورة غافر [40: 71]

{إِذِ الْأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} :

{إِذِ} : ظرف للزمن المستقبل حلّت محل إذا، أو إذ الفجائية، يفاجؤون بوضع الأغلال في أعناقهم والسّلاسل في أرجلهم.

{الْأَغْلَالُ} : جمع غل؛ وهي قيود توضع في الأيدي وتشد إلى الأعناق.

{وَالسَّلَاسِلُ} : من حديد تقيّد بها الأرجل.

{يُسْحَبُونَ} : يجرّون بالسّلاسل.

ص: 115

سورة غافر [40: 72]

{فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} :

{فِى} : ظرفية؛ أي: هم داخل النّار أو النّار محيطة بهم من كلّ جانب.

{الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} : تملأ بهم النّار؛ أي: تصبح مكتظة بهم ثم تسعّر بهم النّار، أو توقد بهم النّار.

في الحميم: أي يشربون. الحميم: الماء المتناهي في الحرارة في غاية الحرارة، ثم تسعّر بهم النّار فيصبحون وقوداً لجهنم. وقيل: سجر التّنور؛ أي: ملأه وقوداً.

يسجرون: بصيغة المضارع يدل على التّكرار والاستمرار.

ص: 116

سورة غافر [40: 73]

{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب الذّكري أو العددي.

{قِيلَ لَهُمْ} : القائل مبني للمجهول.

{أَيْنَ} : استفهام توبيخي.

{مَا} : لغير العاقل أو العاقل.

{كُنتُمْ تُشْرِكُونَ} : أين الأصنام الّتي كنتم تعبدون في الدّنيا، أين شركاؤكم؛ أي لمَ لا يحضرون لإنقاذكم؟!

ص: 117

سورة غافر [40: 74]

{مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْـئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} :

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} : أي لا نراهم، تاهوا عنا أو غابوا عنا، أو لم يهتدوا إلينا.

{بَلْ لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْـئًا} : بل للإضراب الإبطالي، لم نافية؛ أي: لم نكن نعبدهم أو ندعوهم أصلاً من قبل في الحياة الدّنيا؛ فهم ينكرون أنّهم أشركوا بالله أبداً.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} : أي مثل ضلال آلهتهم عنهم وضلالهم عن آلهتهم.

يضل الله الكافرين: في الحياة الدّنيا عن الهداية للحق؛ لأنّهم اختاروا لأنفسهم طريق الضّلال واستمروا عليه وابتعدوا كثيراً فلم يعد يؤمل توبتهم فطبع الله على قلوبهم.

ص: 118

سورة غافر [40: 75]

{ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} :

{ذَلِكُمْ} : ذا اسم إشارة، واللام للبعد والكاف للخطاب، ويشير إلى ما وقع من أنواع العذاب (السّلاسل والأغلال والحميم).

واستعمل (ذلكم) بدلاً من (ذلك) للتوكيد؛ ولأنّها تشير إلى عدة أمور وليس أمراً واحداً.

{بِمَا} : الباء السّببية أو البدلية.

{كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : كنتم: للتوكيد، تفرحون في الأرض: الفرح نوعان: بالحق وبغير الحق.

الفرح بالحق أو الفرح المحمود: الفرح بمغفرة الله أو رحمة الله، أو الاهتداء للإسلام وإنجاز طاعة الله مثل: صيام رمضان والفرح بالعيد أو إتمام شعيرة الحج، فرح محمود.

الفرح بغير الحق: الفرح المذموم فرح النّفس بالمعصية كالزّنى وكسب المال الحرام أو الشّرك. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لمزيد من البيان في معنى الفرح وأنواعه.

{وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} : تكرار (بما) مرتين يفيد التّوكيد، وفصل الفرح عن المرح أو كلاهما معاً، تمرحون: المرح لا يكون إلا بالباطل، قيّد الأول (الفرح) بغير الحق وأطلق المرح، والمرح: شدة الفرح مثل: الغناء والطّرب والرّقص.

ص: 119

سورة غافر [40: 76]

{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} :

هذه الآية تشبه آية (72) من سورة الزّمر وهي قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . ارجع إلى سورة الزمر للبيان.

{ادْخُلُوا} : تعود على الّذين كذّبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رُسُلنا، والذين يجادلون في آيات الله.

{أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} : لها سبعة أبواب كما ورد في الآية (44) من سورة الحجر وهي قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} وقيل: سبعة أبواب؛ لأنّ لها سبع دركات وهي:

جهنم، لظى، الحُطمة، السّعير، سقر، الجحيم، الهاوية، اسم جهنم مشتق من الجهنَّام: القعر البعيد. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود يبدأ من زمن دخولهم جهنم، والخلود يعني البقاء على حالهم إلى ما لا نهاية.

{فَبِئْسَ} : الفاء للتوكيد، بئس: من أفعال الذّم والتّحقير.

{مَثْوَى} : تشمل معانٍ عدةً: الإقامة والاستقرار ومكان الإقامة الجبرية (الحبس) والإقامة الدّائمة، وأنّها مكان ضيق غير متسع مطبِق عليهم وهم عاجزون عن القيام بأيّ عمل. ارجع إلى سورة آل عمران آية (155) لبيان معنى المثوى والمأوى.

{الْمُتَكَبِّرِينَ} : عن الإيمان بالله وحده وآياته ورسله، والمتكبر عن قبول الحق. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

ص: 120

سورة غافر [40: 77]

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} :

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : ارجع إلى الآية (55) من السّورة نفسها وهي قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، والآية (46) من سورة يونس وهي قوله:{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} .

{فَاصْبِرْ إِنَّ} : فاصبر: الفاء للتوكيد، اصبر: حث على الصّبر، والصّبر في هذه الآية على أذى المشركين، والدّعوة وإظهار الدّين والغلبة على الكافرين والمشركين.

وأما الصّبر في الآية (55) على طاعة الله واجتناب نواهيه والصّلاة والتّسبيح وعلى ما أصابك.

أو الآية (77) توكيد للآية (55) على الصّبر بكل أنواعه، والخطاب موجّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود به أيضاً أمته.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : ثابت وقادم لا محالة، بالنّصر والغلبة لله ولرسوله ولدينه وللمؤمنين.

{فَإِمَّا} : حرف تفصيل وتوكيد، ومركبة من إن الشّرطية مدغمة بـ ما للتوكيد، وجواب الشّرط محذوف.

{نُرِيَنَّكَ} : النّون في (نرينّك) للتوكيد أيضاً، نرينّك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت حي؛ أي: في حياتك.

{بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ} : قسم أو جزء من الّذي نعدهم؛ أي: من العذاب في الدّنيا بالقتل والهزيمة والخسارة والفقر والتّشريد والعذاب.

{أَوْ} : للتقسيم والتّخيير.

{نَتَوَفَّيَنَّكَ} : النّون في (نتوفينك) للتوكيد، والخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتوفينك قبل أن نرينك عذابهم في الدّنيا.

{فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} : أي يوم القيامة، الفاء للتوكيد، (إلينا) تقديمها يدل على الحصر؛ أي: إلينا وحدنا يُرجعون: بضم الياء، أي قسراً وبدون إرادتهم، يرجعون للحساب أو للثواب أو للعقاب، ولو قال يَرجعون بفتح الياء هذا الرّجوع يكون بإرادتهم وليس قسراً.

ص: 121

سورة غافر [40: 78]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُم مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَنْ لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق؛ أي: تحقق إرسال الرّسل وتمّ، وقد تفيد التكثير في هذه الآية.

{أَرْسَلْنَا} : ولم يقل بعثنا، هناك فرق بين الإرسال والبعث. ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة لمعرفة الفرق.

{رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} : الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: عددهم كما أخرج الإمام أحمد عن أبي ذرّ أن رسول الله قال: عدد الأنبياء مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرّسل من ذلك ثلاث مئة وخمسة عشر.

{مِنْهُم مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} : أي في القرآن حيث ذكر الله سبحانه بعض الرّسل وعددهم (25) رسولاً ونبياً.

{وَمِنْهُم مَنْ لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} : قصصنا: من قصّ والقَصَص.

ليس فيها خيال بل هي حق، وليس فيها افتراء أو اختلاق كما هو الحال في القِصص بكسر القاف الّتي قد يخالطها كذب وافتراء.

{وَمَا كَانَ} : الواو عاطفة، ما النّافية، كان: يجوز أو يحق أو يصح، وكان تشمل جميع الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.

{لِرَسُولٍ} : اللام لام الاختصاص.

{أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ} : أن للتعليل والتّوكيد، يأتي بآية: دلالة أو بينة أو آية معجزة دالة على نبوته، أو أيّ آية مهما كانت.

{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : إلا أداة حصر، بإذن الله: بأمر الله وإرادته. والإذن: اسم للكلام الذي يفيد بأخذ فعل أو قول، والإذن: يأتي في سياق العمل الذي ليس لنا تدخل فيه؛ أي: هو خارج عن إرادتنا بينما القول إن شاء الله تستعمل في سياق الأمور التي لنا شأن فيها، أو تدخل، أو نقوم بها.

{فَإِذَا} : إذا شرطية ظرفية تفيد الحتمية.

{جَاءَ} : أي وقع الحدث.

{أَمْرُ اللَّهِ} : قد يكون: واحد من الأمور الشؤون، أو واحد من الأوامر مثل:

1 -

إنزال العذاب والهلاك في الدّنيا.

2 -

يوم القيامة.

3 -

قضاءه.

4 -

الفصل بين الرّسل وأعدائهم (المكذبين).

{قُضِىَ بِالْحَقِّ} : حكم الله بالحق بين الرّسل وأقوامهم، بين عباده وبين الأمم. بالحق: الباء للإلصاق والملازمة؛ أي: الملازم للحق، والحق: هو الأمر الثابت الذي لا يتغير، والذي ليس هناك غيره.

{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} : المبطلون: جمع مبطل: هو المصرّ على الباطل ومات مصرّاً على الباطل، والباطل: هو ما لم يأتِ به الشّرع، والباطل لغةً: هو الزائل الذاهب.

والباطل قد يطلق على الكذب والظّلم والشّرك والإحباط؛ أي: (حبطت أعمالهم). وخسر المبطلون أنفسهم وأهليهم.

ص: 122

سورة غافر [40: 79]

{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} :

{اللَّهُ} : اسم ذات واجب الوجود يحمل في طياته كلّ صفات الكمال المطوية في بقية أسمائه الحسنى.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{جَعَلَ لَكُمُ} : لكم خاصة وليس لغيركم، والجعل مرحلة تتبع الخلق، أو اللام لام التّعليل.

{الْأَنْعَامَ} : وهي ثمانية أزواج: من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين.

{لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} : اللام لام التّعليل، تركبوا منها: منها هنا بعضية؛ أي: لتركبوا بعضها مثل الإبل، ولا نركب البقر والغنم والمعز.

{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} : منها: استغراقية بعكس الأولى البعضية، تستغرق كلّ الأنعام؛ أي: تشمل الكل، ومنها تأكلون: نأكل اللحم لحم الغنم والبقر والمعز والإبل، ونأكل من ألبانها.

ص: 123

سورة غافر [40: 80]

{وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} :

{وَلَكُمْ} : اللام لام الاختصاص أو التّعليل.

{فِيهَا} : تعود على الأنعام.

{فِيهَا مَنَافِعُ} : غير الرّكوب والأكل مثل: الوبر والصّوف والشّعر وصناعة الملابس والأثاث والمتاع، استعمال جلودها لأغراض مختلفة.

{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} : اللام لام التّعليل، عليها: تفيد العلويّة والمشقة.

والحاجة هو الأمر المهم الّذي نحتاجه للسفر للحج والتّجارة، وحمل الأثقال من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس؛ أي: بالتّعب والجهد والمشقة.

{وَعَلَيْهَا} : أي الإبل.

{وَعَلَى الْفُلْكِ} : السّفن وتطلق على الواحدة و الجمع.

{تُحْمَلُونَ} : تركبون في البر والبحر أنتم وأمتعتكم.

ولنقارن هذه الآية (80) من سورة غافر وهي قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ، والآية (40) من سورة هود وهي قوله تعالى:{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} .

ففي آية غافر استعمل (عليها) واستعمل فيها للركب على الفلك أو في الفلك؛ لأنّ السّفن لها طوابق مختلفة، يركب فيها أو يركب عليها؛ على ظهرها.

انتبه إلى قوله تعالى: لتركبوا منها ولتبلغوا عليها حاجة، أدخل لام التّوكيد، وتأكلون وتحملون بدون لام التّوكيد؛ لأنّ الأكل والانتفاع منها أقل أهمية من الرّكوب عليها في الصّحارى وبلوغ الحاجة.

ص: 124

سورة غافر [40: 81]

{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَىَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} :

بعد أن ذكر الله خلق السّموات والأرض والليل والنّهار، وجعل الأرض قراراً والسّماء بناء، وصوركم وأحسن صوركم، فهو سبحانه قادر على أن يريكم آيات أخرى دالة على قدرته وعظمته وإلوهيته وربوبيته.

{فَأَىَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} : الفاء للتوكيد؛ أي: استفهام إنكاري للتوبيخ والتّعجب؛ أي: هذه الآيات الدّالة على كمال قدرته وأنّه الإله الحق الّذي يستحق أن يعبد وحده، وأنتم تنكرون.

أي: ولم يقل أية، جاء بصيغة الكثرة مع أنّ الآيات مؤنثة؛ لأنّ (أي) تدل على الكثرة، وأية تدل على القلة؛ أي قلة آيات الله.

{تُنْكِرُونَ} : الإنكار: يكون عادة للأشياء الظّاهرة والباطنة، ويكون مع العلم وغير العلم به.

أي: كلّ الآيات واضحة وظاهرة لا يجوز لكم إنكارها لا بشكل ظاهر وعلني؛ أي: بألسنتكم وأفعالكم، ولا بشكل باطني؛ أي: بقلوبكم وصدوركم.

ولمعرفة الفرق بين الإنكار والجحد ارجع إلى الآية (14) من سورة النّمل.

ص: 125

سورة غافر [40: 82]

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِى الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{أَفَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والحث والإنكار على هؤلاء المجادلين في آيات الله والكافرين، والذين يكذبون بالكتاب وبما جاء به الرّسل، لمَ لا يسيرون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة ومصير الأمم السّابقة الّتي كذبت وعصت رسلها أمثال قوم عاد وصالح ولوط وفرعون. ارجع إلى الآية (21) من السّورة نفسها للبيان.

{يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} : عدداً؛ أي: كانوا أكثر عدداً من مشركي قريش وأشد قوة: قوة الأجسام وقوة العدة والعتاد، وآثاراً في الأرض؛ أي: عمروا الأرض أكثر مما عمرها مشركو قريش؛ أي: بإقامة الحصون والقصور والمصانع والمدن والحضارات والسّدود ومظاهر العمران والحضارة والغنى.

{فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : فما: الفاء للتوكيد، ما: النّافية أو قد تكون استئنافية.

أغنى عنهم: أي لم ينفعهم أو يفدهم ما كانوا يكسبون حين حل بهم العذاب في الدّنيا من مال وحضارة وحصون وقوة وجاه، ومُلك وجنات وزروع ومقام كريم.

ما كانوا: ما هذه مصدرية، أو بمعنى الّذي اسم موصول؛ أي: ما نفعهم كسبهم أو نفعهم الّذي كسبوه.

ص: 126

سورة غافر [40: 83]

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{فَلَمَّا} : ظرف للزمان الماضي بمعنى حين.

{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : تعود على الّذين من قبلهم من الأمم جاءتهم رسلهم (أمثال هود وصالح ولوط وموسى) بالبينات: بالآيات الواضحة الدّالة على أنّ الله هو الإله الحق الواحد، والدّالة على وحدانيته وعلى وجوب الإيمان وتصديق الرّسل، والدّالة على البعث والحساب والجزاء.

{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} : فرحوا: ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه؛ فرحوا بما عندهم من العقائد الباطلة وتقليد الآباء، وما عندهم من علوم الدّنيا كقوله تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرّوم: 7] فقالوا: لسنا بحاجة إلى رسل ولا كتب، وقالوا: نحن نعلم أنّا لن نبعث ولن نعذب {وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

أي: علومنا تكفينا واستهزؤوا بعلوم الدّين وبالرّسل، وسموا ذلك علماً؛ لجهلهم، أو سُمي علماً تهكماً بهم وتقريعاً.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : أحاط بهم ونزل بهم؛ أي: بالّذين كذبوا بالرّسل وكذبوا بوقوع العذاب. ارجع إلى الآية (45) من نفس السورة لمزيد من البيان، والفرق بين حاق ونزل.

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : أي عاقبة ما كانوا به يستهزؤون، ما: بمعنى الّذي؛ أي: حاق بهم استهزاؤهم ولم ينفعهم كسبهم أو قوتهم أو عددهم، أو يمنع أو يدفع عنهم العذاب. ارجع إلى سورة الزمر آية (48) لبيان معنى يستهزؤون.

ص: 127

سورة غافر [40: 84]

{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء للتوكيد، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.

{رَأَوْا بَأْسَنَا} : عاينوا بأسنا: عذابنا سيحل بهم أو واقع بهم.

{قَالُوا} : في تلك السّاعة آمنّا بالله وحده.

{وَكَفَرْنَا بِمَا} : جحدنا بما: بما الباء للإلصاق، ما: تعني الّذي، أو مصدرية، كفرنا بشركنا؛ أي: تبرّأنا وتُبنا.

{بِهِ} : تعود على الأصنام والآلهة والطّاغوت وغيرها من المعبودات.

{مُشْرِكِينَ} : في الدّنيا، مشركين: جمع مشرك، وجاءت بصيغة الثّبوت؛ أي: كان الشّرك صفة ثابتة لهم طوال حياتهم.

ص: 128

سورة غافر [40: 85]

{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} :

{فَلَمْ} : الفاء للترتيب والمباشرة، لم: للنفي.

{يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} : يك ولم يقل يكن؛ أي: لم ينفعهم إيمانهم أدنى أو أقل منفعة يمكن تصورها.

ولو قال فلم ينفعهم إيمانهم، لكان يعني: مهما كان حجم إيمانهم ونوعه وشدته، لم ينفعهم.

{لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} : تكرار هذه في الآيتين (84، 85) ليدل على التّوكيد؛ أي: حين ينزل العذاب بقرية أو بقوم فلن ينفعها إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

{سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ} : السّنة العادة والطّريقة الّتي سنّها الله تعالى، وهي من تاب عند معاينة العذاب توبته لا تقبل، كما حدث لفرعون حين أدركه الغرق قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْـئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90–91].

ولابد من ذكر أن الله سبحانه (وله الأمر كله) استثنى من هذه السّنة قوم يونس فقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].

{سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ} : وفي آية أخرى قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]. ارجع إلى سورة فاطر للبيان.

وفي هذه الآية تحذير وإنذار لكلّ كافر ومشرك ولمن يؤخّرون توبتهم.

{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} : خسر: بمعنى هلك، خسر نفسه.

هنالك: اسم إشارة للمكان البعيد، وقد تعني الزّمان؛ أي: خسروا وقت رؤيتهم العذاب، أو خسروا في ذلك المكان.

وكأنّهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؛ لكونهم كانوا قادرين على التّوبة والإنابة قبل رؤية بأسنا.

{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} : الكافرون؛ لأنّ الآيات في سياق الإيمان والكفر لقوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} فقال: {هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .

ولو قارنّا هذه الآية (85) بالآية (78) السّابقة وهي قوله تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} لوجدنا أنّ هذه الآية جاءت في سياق أو بعد قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} فالحق يقابله الباطل فاختار (المبطلون).

والآية (85) جاءت في سياق الإيمان والكفر، وبما أن إيمانهم جاء متأخراً، وربما جاء قسراً وليس بإرادتهم كإيمان فرعون، ولذلك جاء بقوله تعالى {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .

ص: 129

سورة فصلت [41: 1]

سورة فصلت

ترتيبها في القرآن (41) وترتيبها في النزول (61) نزلت بعد سورة غافر وقبل سورة الشورى.

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

ص: 130

سورة فصلت [41: 2]

{تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} :

{تَنزِيلٌ} : قد يكون التقدير: تنزيلٌ من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته، أو تقديره: هذا تنزيلٌ. وتنزيل نكرة للتعظيم. تنزيل عظيم.

ارجع إلى سورة الزمر آية (1).

{مِنَ} : ابتدائية.

{الرَّحْمَنِ} : من أسماء الله الحسنى مشتق من الرحمة التي هي السمة العامة التي تمثل كثيراً من صفاته.

الرحمن: على وزن فعلان صيغة فعلان تفيد الدلالة على التجدد والتكرار، وهذا الاسم لا يثنى ولا يجمع ولا يطلق إلا على الله سبحانه وتعالى.

{الرَّحِيمِ} : على وزن فعيل، صيغة تعظيم، صفة تفيد الثبوت. الرحمن والرحيم كلاهما من مشتقات كلمة الرحمة.

فهو سبحانه وصف نفسه بالرحمن الرحيم؛ أيْ: أن رحمته متجدِّدة ومستمرة، ودائمة لا تنقطع، وكذلك رحمة ثابتة في الدنيا وفي الآخرة.

الرحمن: بعباده المؤمن والكافر والصالح والطالح بنعمة الإيجاد والإمداد (الإنعام) والهداية العامة.

والرحيم: بعباده المؤمنين يختص برحمته من يشاء ويدخل في رحمته من يشاء.

ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (2) لمزيد من البيان.

ص: 131

سورة فصلت [41: 3]

{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

{كِتَابٌ} : سُمِّي كتاباً وسُمِّي قرآناً كتاباً؛ لأنه مكتوب في السطور أو اللوح المحفوظ، وسُمِّي قرآناً؛ لأنه مقروء من السطور والتلقي.

{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} : أيْ: بينت آياته من أبان الشيء وفصله، وكتاب مفصل مقسم إلى فصول في الخلق والكون والوعد والوعيد والبعث والحساب. وغيرها.

وبينت آياته الحلال والحرام والحق والباطل. أو بُينت معانيها. ارجع إلى سورة هود آية (1) لمزيد من البيان.

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : اللام لام الاختصاص أيْ: تنزيلٌ من الرحمن الرحيم لأجل قوم يعلمون أو فصلت آياته لأجلهم أو لهم خاصة يعلمون من العلم. أيْ: يعلمون معاني الآيات سواء كانت خفية أو جلية أو خاصة بعد أن فصلت، أيْ: قرآناً عربياً لقوم يعلمون؛ أي: يتفكروا ويتدبروا أولاً، ثم يعلمون في النهاية؛ فتكون المراحل هي التالية: التفكر، ثم التدبر، ثم الفقه، ثم العلم؛ أي: يتفكرون، ثم يتدبرون، ثم يفقهون، ثم يعلمون.

ص: 132

سورة فصلت [41: 4]

{بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} :

{بَشِيرًا} : لمن يؤمن بالله ويعمل صالحاً.

{وَنَذِيرًا} : للجميع خاصة الذين أشركوا أو كفروا وعصوا ربهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لمزيد من البيان في بشيراً ونذيراً.

{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} : الفاء للترتيب والتعقيب، أعرض أكثرهم: أيْ: أعرض أكثر أهل مكة وغيرهم عن الاستماع إلى آياته وتدبرها والانتفاع بها.

{فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : الفاء للتوكيد. هم: ضمير فصل يفيد التوكيد أيضاً. فهم لا يسمعون سماع التدبر والانتفاع بالآيات، يسمعون تفيد التجدُّد والتكرار، أيْ: لا يسمعون بشكل متجدِّد متكرِّر.

ص: 133

سورة فصلت [41: 5]

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} :

{وَقَالُوا} : كفار مكة وغيرهم.

{قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} : أكنَّة جمع كنان وهو الغطاء، أيْ: قلوبنا لا تفقه ما تقول يا محمد صلى الله عليه وسلم، أو مغطَّاة بأكنَّة تمنع وصول الفهم إليهم. ارجع إلى سورة الكهف آية (57) لمزيد من البيان.

{مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} : أيْ: نحن لا نسمع أو نفهم ما تقول، رغم أن الله سبحانه وصفهم بقوم يعلمون.

مما: من ابتدائية، ما: الذي تدعونا إليه من الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء والحساب.

{وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ} : ثقلٌ في السمع: أو وقرٌ يمنع وصول السمع، ولم يقولوا: نحن صمٌّ، أيْ: مصابون بمرض الصمم منذ الولادة. ارجع إلى سورة لقمان آية (7) لمزيد من البيان.

{وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} : ومن: تفيد القرب، حجاب: ستار أو حاجز أو مانع (قد يكون إنساناً)، أيْ: رغم قربنا وقربك منا فهناك حجاب يفصل بيننا وبينك. وهذا الحجاب هم أقاموه بنية وقصد.

فالأكنَّة: في قلوبنا، والوقر: في آذاننا، والحجاب: من بيننا وبينك ثلاثة عوائق تمنعنا من قبول ما تدعونا إليه وللإيمان بك.

{فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} : الفاء: للمباشرة والتوكيد، اعمل على طريقتك أو دينك، أي: استمر على ما تقوم به ونحن عاملون على ديننا وطريقتنا.. عاملون: جمع عامل تفيد الثبوت

والعمل يشمل القول والفعل.

ص: 134

سورة فصلت [41: 6]

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} :

{قُلْ} : أيْ: أخبر يا رسول الله هؤلاء المعرضين عن الإيمان بالله والاستماع إلى آياته، والمشركين به والذين يدَّعون أن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر وبينك وبينهم حجاب، قل لهم بعد أن أعرضوا:{إِنَّمَا أَنَا} : إنما كافة ومكفوفة تفيد التوكيد، أنا: للتوكيد.

{بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} : لا أستطيع أن أجبركم على الإيمان. وليست هذه هي وظيفتي إنما وظيفتي الإبلاغ المبين، أيْ: إخباركم أن إلهكم إله واحد.

{يُوحَى إِلَىَّ} : الإيحاء: لغة هو إعلام بخفاء. ويعني شرعاً: إيصال ما أنزل الله سبحانه وشرعه إلى الأنبياء والرسل والناس أجمعين.

ارجع إلى سورة النساء آية (163) لمزيد من البيان.

{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : إنما: للقصر والحصر، واحد: للتوكيد، واحد: لا شريك له ولا ولد ولا صاحبة.

{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} : أي: استمروا بثباتكم على دينه (الصراط المستقيم) كما أمركم على لسان رسله وما نهاكم عنه وما أنزل في كتابه وأخلصوا إليه بالتوحيد وعدم الشرك به في العبادة والاستقامة تشمل الأقوال والأفعال والنيات.

ارجع إلى الآية (30) من نفس السورة للبيان.

{وَاسْتَغْفِرُوهُ} : من ذنوبكم، الفاء للمباشرة والتعقيب، سارعوا إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إليه والاستغفار طلب المغفرة.

{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} : الويل هو الهلاك والعذاب والعرب تستعمل كلمة الويل لكل من وقع في هلكة، وقيل: واد في جهنم. للمشركين: اللام: لام الاختصاص والاستحقاق؛ المشركين: جملة اسمية تدل على الثبوت؛ أي: استمرارهم على الشرك بالله تعالى.

ص: 135

سورة فصلت [41: 7]

{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} :

{الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : الذين: اسم موصول يفيد الذم.

{لَا} : النافية.

{يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : الإيتاء؛ أي: لا يدفعون الزكاة، ولم اختار لا يؤتون الزكان على غيرها من الصفات؛ لأن المال هو من أحب الأشياء إلى الإنسان، ودفع الزكاة دليل على صدق الإيمان، والثبات والاستقامة، وقرن عدم إيتاء الزكاة بالكفر بالآخرة فقال:

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد الذم. بالآخرة: الباء: للإلصاق، هم كافرون: هم: تفيد التوكيد، وكافرون: لا يؤمنون بها، وكافرون: جملة اسمية تدل على ثبوت كفرهم، وعدم تصديقهم بها رغم كل الأدلة والبينات والاستمرار على ذلك.

ص: 136

سورة فصلت [41: 8]

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} :

ومقابل المشركين يذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

قيل: نزلت هذه الآية في المرضى والقاعدين إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل الذين كانوا يعملون حين كانوا معافين قادرين على العبادة.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : قرنوا الإيمان بالعمل الصالح.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص والاستحقاق.

{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} : أجر غير مقطوع؛ ممنون: اشتقت من منت الحبل إذا قطعته؛ كقوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، أو أجر غير ممنون عليهم؛ أي: يستحقونه، ولا يمن الله عليهم به، لا يذكرهم به، وإنما يمن عليهم بالفضل؛ كقوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].

ص: 137

سورة فصلت [41: 9]

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :

المناسبة: تعود الآيات إلى ذكر المشركين وكيف يشركون بالله الذي خلق لهم الأرض والسماء في ستة أيام فقال:

{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قل لمشركي قريش.

{أَئِنَّكُمْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري وتعجب؛ أي: كيف تكفرون.

{لَتَكْفُرُونَ} : اللام: لام التوكيد؛ توكيد الكفر. ارجع إلى سورة البقرة آية (6) لبيان معنى الكفر. كفر العقيدة؛ أي: الكفر: الجحود بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

{بِالَّذِى} : الباء: للإلصاق؛ الذي: اسم موصول يفيد التعظيم، ويختص بالمفرد المذكر.

{خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (22، 29)، وسورة الأنبياء آية (30)، وسورة الأعراف آية (54) لمزيد من البيان المفصل في خلق السموات والأرض.

ففي حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وذكره البخاري في تاريخه، ورواه أحمد والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيها بين العصر إلى الليل» .

وإذا قارنا هذا الحديث بما توصل إليه العلم يمكن ترتيب الحديث كما يلي: خلق الله الأرض أولاً يوم السبت، وألقى فيها الرواسي (الجبال) يوم الأحد، وخلق التربة يوم الاثنين، وخلق النور يوم الثلاثاء، وخلق النبات (الشجر) يوم الأربعاء، وخلق الدواب يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة أو بعد العصر من يوم الجمعة؛ هذا يعني: كل دقيقة تساوي ملايين ملايين السنين، وكل يوم يساوي ملايين ملايين السنين من الأيام الستة التي ذكرها الله تعالى، وهذا يفسر قوله تعالى:{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، خلق أو سوى كل شيء على الأرض، ثم استوى إلى السماء؛ أي: السماء كانت موجودة فسواهن سبع سموات؛ أي: غيرهن سبع سموات؛ أي: حين غير الأرض وخلق فيها كل شيء في نفس الزمن كان يميز السماء ويخلق فيها كل شيء من نجوم وكواكب ومدارات ومجرات وشموس وأقمار.

ومثل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر الإنسان على الأرض بيوم واحد.

ونفهم من هذا الحديث لو كان عمر الإنسان على الأرض يوماً واحداً فقد مضى على وجود الإنسان من آدم إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم (12) ساعة، وبقي (3) ساعات، وهذا ما جاء في حديث آخر رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس» . حديث حسن صحيح.

وعلماء الفلك افترضوا لو أن عمر الكون يوم واحد فالإنسان خلق في آخر عشر دقائق من نهاية الكون؛ أي: من آدم إلى آخر مخلوق على الأرض يمثل (10) دقائق مقارنة بعمر الكون لو فرضنا أنه يوم واحد.

ومن آدم حتى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل (7 دقائق).

ونحن نعيش في آخر ثلاث دقائق من عمر الكون.

وإذا ما قارنا عمر الكون الذي يقدر بمليارات السنين معنى ذلك أن الساعة الواحدة تقدر بملايين السنين والدقيقة الواحدة آلاف السنين، والله أعلم.

{وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} : الند: هو ما كان مثل الشيء يضاده في أموره، ويوم التناد يوم التنافر والتشريد. ارجع إلى سورة البقرة آية (22) لمزيد من البيان.

{ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} : ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد يفيد التعظيم.

الرب: الخالق والمالك والمربي والمنعم والرازق.

العالمين: جمع عالم الملائكة والجن والإنس، أو كل موجود سوى الله تعالى.

ص: 138

سورة فصلت [41: 10]

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} :

{وَجَعَلَ فِيهَا} : تعود إلى الأرض.

{رَوَاسِىَ} : جبال، أيْ: لئلا تميد وتضطرب، وكما قال تعالى:{وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].

ارجع إلى سورة النحل آية (15) وسورة الحجر آية (19) للبيان.

{مِنْ فَوْقِهَا} : من فوق الأرض.

{وَبَارَكَ فِيهَا} : أكثر خيرها بأن خلق فيها الأشجار والثمار، وكل أنواع النبات والحيوانات والمياه والخيرات والبركة تعني الخير والزيادة والنمو.

{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} : أرزاق أهلها. والأقوات: جمع قوت: أقوات الناس والحيوانات.

قدر فيها: قيل: قسم الأرزاق بين العباد والحيوانات. قدَّر كمية الماء واليابسة وقدَّر نسب وأعداد الكائنات الحية وكل ما يتعلَّق بها.

{فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} : في تمام أربعة أيام: أيْ: خلق الأرض، ما في الأرض في تمام أربعة أيام، فالله سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام أو ست مراحل هي: مرحلة الرتق، ثم مرحلة الفتق (الانفجار والدخان) ثم مرحلة التسوية (التميز) ميَّز الأرض إلى سبع أرضين وميَّز السماء إلى سبع سموات، ثم مرحلة (الدحو) وتكوين الغلاف المائي والغازي، ثم مرحلة إلقاء الرواسي (الجبال)، ثم مرحلة تقدير الأقوات، ثم خلق آدم.

وهكذا يمكن القول: أن مرحلة تسوية السماء تمت في نفس الزمن الذي تم فيه تسوية الأرض، أيْ: ميَّز الأرض إلى سبع أرضين وميَّز السماء إلى سبع سموات في نفس الزمن، وكذلك مرحلة الإتيان تمت في نفس الزمن، فلا نفهم أن التسوية والإتيان تمت لكل منهما على حِدَةٍ.

إذن تصبح الأيام الأربعة: الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء.

والقاعدة: كل مجمل يخضع للتفصيل إلا تفصيل العدد فيرجع للمجمل.

فالأربعة أيام هذه تكملة لخلق الأرض في يومين، فاليومان من الأربعة أيام.

وقد يسأل سائل: وهل يحتاج الله سبحانه إلى 6 أيام وهو قادر على أن يقول للشيء: كن، فيكون؟ فسبحانه لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون.

{سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} : سواء لا زيادة ولا نقصان، أربعة أيام تامات مستويات.

للسائلين: اللام لام الاختصاص أو التعليل، السائلين: أيْ: من يسئل عنها، وقيل: هي الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة. لا تزيد ولا تنقص.

ص: 139

سورة فصلت [41: 11]

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} :

{ثُمَّ} : لا تدل على التراخي في الزمان، وإنما الترتيب الذكري العددي.

{اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} : استوى: قصد أو توجَّه إلى السماء.

{وَهِىَ دُخَانٌ} : وهي في حال دخان. كتلة غازية، فخلق منها السموات السبع والكواكب والنجوم والأقمار والمجرات وكل الأجرام.

{فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} : أيْ: أراد تكوين وخلق السماء والأرض حسب ما يشاء.

{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} : كيف خوطبتا واستجابتا يدخل في علم الغيب، ومسألة التأويل، فيجب الوقوف عنده ولا نخوض فيما لا علم لنا به. ويمكن القول: أن الله سبحانه خاطب السموات والأرض كأن لهما عقلاً وأجابتا على سؤاله سبحانه، قالتا: أتينا طائعين.

وقد يشير هذا أو يعني أنه عرض الأمانة على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فسخرها، كما قال تعالى في سورة الأعراف الآية (54):{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} .

ورغم أن السموات سبع لم يقلن: أتينا طائعات؛ مما يدل على أنه جعلها كياناً واحداً والأرض كياناً واحداً وأراد لكل منهما كيانه الخاص به.

ويمكن القول حسب ما توصل العلم: إن خلق السموات والأرض مر بمراحل ست هي:

المرحلة الأولى: كان الكون جرماً واحداً متناهياً في صغر الحجم ومتناهياً في الطاقة والمادة (يفسر قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30]).

المرحلة الثانية: مرحلة الدخان: الناتج عن انفجار هذا الجرم (وهذا يفسره قوله تعالى: {فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]).

المرحلة الثالثة: مرحلة الإتيان: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .

المرحلة الرابعة: مرحلة التسوية، التميز (سوى الأرض سبع أرضين وسوى السماء سبع سموات).

المرحلة الخامسة: مرحلة الدحو: (إخراج الغلاف المائي والغازي) وإرساء الجبال.

المرحلة السادسة: قدَّر فيها أقواتها.

ولا يجوز القول أن الله خلق الأرض أولاً، ثم السماء ثانياً، فهو خلق أرضاً واحدة وسماء واحدة في زمن واحد، وبعد ذلك ميَّزها إلى سبع أرضين وسبع سموات.

ص: 140

سورة فصلت [41: 12]

{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :

{فَقَضَاهُنَّ} : الفاء للمباشرة والتعقيب. قضاهنَّ: من قضى بمعنى خلق أو أمر أو قضى بمعنى انتهى وأتم، أيْ: أتمهنَّ.

{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ} : سبع سموات طباقاً، أيْ: سبع كرات عظيمة يغلف الخارج منها الداخل مركزها الأرض التي لا تقارن بحجم السموات والتي بدورها، أي: الأرض مكوَّنة من سبع أرضين (سبع طبقات) فقضاهنَّ سبع سموات في يومين، أيْ: سواهنَّ أو ميزهنَّ إلى سبع سموات، ونحن لا نعلم إلا الشيء القليل عن السماء الدنيا، وأما باقي السموات لا يعلمها إلا الله سبحانه.

{وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} : خلق في كل سماء خلقها أو ما أراد أن يكون فيها.

{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} : المصابيح هي النجوم. وحفظاً: من الشياطين الذي يسترقون السمع. أو حفظناها حفظاً من الشياطين لمنعهم من استراق السمع بالشهب الثاقبة والشهب المبينة التي تحرق الشياطين حين يحاولون أن يخطفوا الخطفة.

ارجع إلى سورة الصافات آية (10) للبيان.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى الخلق والتزيين والإيحاء.

{تَقْدِيرُ} : الخلق هو التقدير. أيْ: ذلك خلق العزيز العليم.

{الْعَزِيزِ} : الذي يَغْلِب ولا يُغلَب ويَقهَر ولا يُقهَر، والممتنع لا يضره أحدٌ.

{الْعَلِيمِ} : في تدبير خلقه وكونه أحاط علمه بجميع خلقه، العليم صيغة مبالغة تعني: كثير العلم، وهو كذلك عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب.

ص: 141

سورة فصلت [41: 13]

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} :

{فَإِنْ} : الفاء عاطفة، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض والشك.

{أَعْرَضُوا} : أيْ: كفار قريش أعرضوا، أي: ابتعدوا أو تولَّوا أو انصرفوا عن الإيمان والتوحيد، أعرضوا عما تدعوهم إليه.

{فَقُلْ} : لهم الفاء جواب الشرط.

{أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} : الإنذار هو الإعلام مع التحذير والتخويف.

{صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} : الصاعقة كالبرق الذي يؤدِّي إلى توليد طاقة كهربائية بين السحب والأرض، والتي تدوم قليلاً من الزمن، وتحمل في طياتها شحنات كهربائية تتراوح بين (12000) و (20000) أمبير تؤدِّي إلى صعق الإنسان وموته بالتأثير في قلبه حالاً والقضاء عليه.

ص: 142

سورة فصلت [41: 14]

{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} :

{إِذْ} : ظرف زمان للماضي.

{جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} : هود وصالح والرسول يمثل الرسل كقوله: كذبت عاد المرسلين، أيْ: هود. فأما هود عليه السلام فأرسل إلى عاد، وأما صالح عليه السلام فأرسل إلى ثمود.

{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : من تدل على القرب، أيْ: من دون فاصل زمني.

أيديهم: أيْ: جاءت آباءَهم ومن كان قبلهم.

{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : أيْ: مباشرة جاءت من خلف الآباء، أيْ: جاءت الأبناء، أيْ: أنفسهم أو جاءتهم الرسل يدعونهم مباشرة إلى الإيمان والتوحيد جاؤوهم من أمامهم ومن خلفهم قائلين لهم.

{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} : أيْ: ألحوا عليهم بالدعوة في كل مكان، ليلاً ونهاراً.

{أَلَّا} : أن لا، أن: مصدرية تفيد التعليل والتوكيد، لا: ناهية.

تعبدوا إلا: أداة حصر. العبادة: لتعريفها، ارجع إلى سورة النحل آية (73).

{قَالُوا} : أيْ: قوم هود وقوم صالح.

{لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} : لو: شرطية، ربنا: أيْ: خالقنا ومتولي أمورنا، ولم يقولوا: لو شاء الله؛ لأن الله هو المعبود، ويأتي ذكره في سياق العبادة، واختار اسم الرب؛ لأن الرب هو الهادي (بيده الهداية) والمربي.

{لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} : لأنزل: اللام: للتوكيد؛ أنزل ملائكة بدلاً من الرسل، أيْ: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وتأكلون مما نأكل وتشربون مما نشرب.

{فَإِنَّا} : الفاء للتوكيد، إنا: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: الذي، أرسلتم به: من الإيمان بالله وحده والبعث والحساب والاستغفار والتوبة.

{كَافِرُونَ} : جاحدون أو غير مصدِّقين. كافرون: جملة اسمية تدل على الثبوت والإصرار عليه وعدم التفكير بالتوبة.

ص: 143

سورة فصلت [41: 15]

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} :

{فَأَمَّا} : الفاء استئنافية، أما: حرف تفصيل.

{عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : أيْ: أظهروا تكبرهم وعظم شأنهم فوق ما يستحقون، استكبروا: طلبوا الكبر وهم ليسوا أهلاً له؛ استكبروا: بالغوا في الكبر، أو عندهم مقوِّمات الكبر الحقيقية. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان، والفرق بين الاستكبار والتكبر.

{بِغَيْرِ الْحَقِّ} : بالباطل والعدوان والفساد والظلم والقتل وغيره.

أما الاستكبار في الأرض بالحق: فعندما يتكبَّر على عدو الله الذي يستهزئ بما أنزل الله أو بالآيات والقرآن وبالرسول، فهذا استكبار بالحق.

{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} : من: استفهامية، أشد منا قوة: تقديم منا الجار والمجرور لتدل على التوكيد. أيْ: لا أحد أقوى منا قوة.

وكانوا ذوي قوة وصلابة في البنية وذوي أجسام قوية فاغتروا بما بنوه من المصانع والجنات وبأجسامهم وقوتهم حين هدَّدهم هود عليه السلام بالعذاب.

{أَوَلَمْ يَرَوْا} : الهمزة في أولم للاستفهام، والواو للتوكيد.

{أَنَّ اللَّهَ} : أن للتعليل والتوكيد.

{الَّذِى خَلَقَهُمْ} : اسم موصول يفيد التعظيم.

{هُوَ} : تفيد التوكيد.

{أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} : عدَّة وعتاد وجنود السموات والأرض.

{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} : بآيات الله التي جاء بها هود عليه السلام يجحدون والجحد: هو إنكار الشيء الظاهر من الآيات، والجحد هو إنكار متعمَّد. ارجع إلى سورة النمل آية (14) لمزيد من البيان.

ولم يقل جحدوا: لأنه يريد أن يأتي بصيغة المضارع ليدل على حكاية الحال، أيْ: إظهار فعل جحدهم الآن ليدل على قبح فعلهم وإنكارهم.

ص: 144

سورة فصلت [41: 16]

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} :

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ} : الفاء استئنافية، عليهم: على تفيد المشقة والعلو.

{رِيحًا صَرْصَرًا} : الريح في القرآن تستعمل في سياق العذاب والدمار، أما الرياح فتستعمل في سياق الرحمة.

ريحاً صرصراً: أصل صرصر من الصر وهو البرد الشديد. أيْ: ريحاً شديدة البرودة ولها صوت عند هبوبها. فهي تجمع صفتين: البرودة الشديدة وعندما تهب لها صوت، فالبرودة الشديدة تؤذي الجسم فتؤدِّي إلى انقباض الأوعية الدموية في الجلد. وتؤدِّي في النهاية إلى موت الجلد، وبالتالي الحاجة إلى بتر العضو أو الطرف كاليد أو القدم.

{فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} : في: ظرفية زمانية، أيام نحسات: لها معانٍ: مشؤومات، وقيل: شداد أو متتابعات أو ذوات شر ونحوس.

{لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : اللام للتوكيد والاختصاص، نذيقهم عذاب الخزي: الخزي: الذل والفضيحة لنذلهم ونفضحهم في الدنيا أمام الآخرين.

{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} : ولعذاب اللام للتوكيد، عذاب الآخرة أخزى: على وزن أفعل، أيْ: أشد خزياً وفضيحة.

{وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} : هم: للتوكيد، لا: النافية، ينصرون: لا يجدون من ينصرهم أو يعينهم أو يدفع عنهم العذاب.

ص: 145

سورة فصلت [41: 17]

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{وَأَمَّا} : حرف تفصيل.

{ثَمُودُ} : قوم ثمود ونبيهم صالح عليه السلام (من أنبياء العرب).

{فَهَدَيْنَاهُمْ} : الفاء: للتوكيد، هديناهم: لا تعني حصلت لهم الهداية، وإنما دللناهم وبينا لهم طريق الهدية أو سبيل الخير وسبيل الشر بعبادة الله وحده وعدم عقر الناقة وعدم مسِّها بسوء.

{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} : أي: اختاروا الكفر على الإيمان أو طريق الضلالة على النور. والعمى عمى البصيرة على الهدى والرشاد. وعقروا الناقة وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت من الصادقين وهموا بقتل صالح وأهله. ارجع إلى سورة النمل آية (49) للبيان.

{فَأَخَذَتْهُمْ} : الفاء: للمباشرة والتعقيب، أخذتهم: حلت بهم الصاعقة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

{صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} : ارجع إلى الآية (13) من نفس السورة.

العذاب الهون: العذاب الأليم المصحوب بالإهانة، الهون: المهين والذلة.

{بِمَا} : الباء: باء السببية أو البدلية، ما: بمعنى الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية.

{كَانُوا يَكْسِبُونَ} : من الشرك والظلم والكفر والسيئات، ولم يقل: يكتسبون. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) للفرق بين كسبت واكتسبت.

ص: 146

سورة فصلت [41: 18]

{وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} :

{وَنَجَّيْنَا} : تدل على طول الزمن بينما أنجينا: تدل على السرعة أو قصر الزمن.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} : أيْ: صالح والذين آمنوا معه. وكانوا يتقون: يطيعون أوامر الله ويجتنبون نواهيه.

ص: 147

سورة فصلت [41: 19]

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} :

{يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} : الحشر: هو السوق والجمع، أيْ: يساقون إلى أرض المحشر ويجمعون هناك للحساب والجزاء، وأما النشر فهو الإحياء.

{أَعْدَاءُ اللَّهِ} : من الكفار والمشركين أعداء الدين الذين كذبوا بالله وآياته ورسله.

{إِلَى النَّارِ} : إلى: تفيد كل الغايات.

{فَهُمْ} : الفاء عاطفة هم للتوكيد.

{يُوزَعُونَ} : من الوزع: أي: الكف والمنع وزعه عن الأمر: أيْ: كفه أو منعه، أيْ: يكف أو يمنع أولهم عن التقدُّم، وآخرهم عن التأخُّر حتى يلحق الآخِر بالأول، أو يجتمع أولهم وآخرهم، ثم يساقون إلى النار زمراً زمراً.

ص: 148

سورة فصلت [41: 20]

{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{حَتَّى} : حرف لنهاية الغاية وهي الوصول إلى جهنم.

{إِذَا} : ظرفية زمانية.

{مَا} : للتوكيد. (وكانت تسمى: ما الزائدة).

{جَاءُوهَا} : أيْ: أعداء الله وصلوا إلى النار بصعوبة ومشقة. المجيء فيه معنى الصعوبة والمشقة بعكس الإتيان يكون فيه معنى السهولة.

{شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} : أيْ: تشهد عليهم حواسهم تشهد على أصحابها. ولماذا خص الجلود عن بقية الحواس، وليست الأيدي والأرجل أو غيرها؟ لأن الجلود هي التي ذكرت من بين الأعضاء، أما الأطراف التي ستعذب كما قال تعالى في سورة النساء آية (56):{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} .

{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: بمعنى الذي، ولكنها أعم وأشمل.

{كَانُوا} : في الدنيا.

{يَعْمَلُونَ} : العمل يشمل القول والفعل، أيْ: ما كانوا يقولون ويفعلون. ولا ننسى أن هناك شهوداً آخرين؛ الملائكة والأيدي والأرجل والألسن والأرض والسماء كقوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وكقوله تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24].

ص: 149

سورة فصلت [41: 21]

{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

{وَقَالُوا} : أيْ: قال أعداءُ الله يوم القيامة.

{لِجُلُودِهِمْ} : اللام: لام الاختصاص، والجلود تمثل حاسة اللمس. والجلود قيل: الجلود نفسها وقيل: الجلود الجوارح. أو اختار الجلود في هذه الآية من بين الأعضاء الأخرى.

{لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} : لم: استفهام إنكاري واستبعاد أن تشهد عليهم جلودهم وتعجُّب، لم شهدتم علينا (أيْ: ضدنا) ولم يقل: شهدتم لنا (أيْ: لصالحنا) أيْ: كيف شهدتم علينا وكنا ندافع عنكم في الدنيا أو نحميكم.

{قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} : القادر على إنطاق كل شيء، وهذا ليس بأمر عجب على قدرة الله سبحانه.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التعظيم.

{أَنْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ} : شيء نكرة تعم الحيوان والنبات والشجر والسماء والأرض والألسن والأيدي وغيرها.

{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : وهو سبحانه خلقكم بداية فهو قادر على إنطاق كل شيء خلقه، وإليه: تقديمها يدل على الحصر والقصر، أيْ: إليه وحده ترجعون سواء شئتم أم أبيتم، ولم يقل: وترجعون إليه.

ص: 150

سورة فصلت [41: 22]

{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} :

{وَمَا كُنتُمْ} : ما: النافية، كنتم في الدنيا حين كنتم ترتكبون الفواحش.

{تَسْتَتِرُونَ} : خوفاً من {يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} : أيْ: لمَ تخافون الآن من جلودكم وسمعكم وأبصاركم أن تشهد عليكم، وحينما كنتم في الدنيا لم تخافوا من ارتكاب الفواحش والآثام، وكنتم تجاهرون بها وما كنتم تستترون آنذاك أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم أو لأنكم غير قادرين على الاستخفاء، أو لأنكم كنتم لا تؤمنون بالبعث والحساب ولا تظنون أنكم إلينا راجعون.

وتكرار (لا) ثلاث مرات تفيد توكيد نفي التستر. فالأبصار تشهد بما رأت والآذان تشهد بما سمعت والجلود بما لامست.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك.

{ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} : ظننتم الظن الراجح الذي فيه درجة الإثبات أعلى من درجة النفي.

أن الله: للتوكيد، لا: النافية.

لا يعلم كثيراً مما (من الذي) تعلمون: أيْ: في الخفاء أو كثيراً مما تعلمون في الدنيا وتعملون تضم الأقوال والأفعال، ولم يقل: عملتم. تعملون: تدل على حكاية الحال، أيْ: قبح أعمالهم أو تكرار وتجدُّد ما عملوا.

ص: 151

سورة فصلت [41: 23]

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} : اسم إشارة يفيد التوكيد، ويشير إلى ظنهم السيِّئ بعدم العلم. وذلكم، ولم يقل: وذلك؛ لأن ذلكم تستعمل في القرآن في مقام التوكيد والتوسع والجمع، وذلك تستعمل في الأمور الأقل توكيداً والمفردة.

{الَّذِى ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} : أيْ: أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون، ولذلك تجرّأتم على فعل المعاصي.

{أَرْدَاكُمْ} : من الرّدى، أي: الهلاك، أيْ: أهلككم أو طرحكم في النار جزاءً بما كنتم تكسبون.

{فَأَصْبَحْتُم} : الفاء: للتوكيد، أصبحتم: من فعل أصبح من أفعال الشروع؛ أي: صرتم.

{مِنَ الْخَاسِرِينَ} : من ابتدائية بعضية، أيْ: بعض الخاسرين لأنفسهم وربما لأهليهم.

ص: 152

سورة فصلت [41: 24]

{فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} :

{فَإِنْ} : الفاء: للعطف، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الشك.

{يَصْبِرُوا} : فلن ينفعهم الصبر.

{فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} : أيْ: مكان إقامتهم الدائم المؤبد، المكان الضيق المطبق عليهم والمكرهين والمجبرين عليه. ارجع إلى سورة آل عمران آية (15).

{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والشك.

{يَسْتَعْتِبُوا} : يطلبوا أو يسألوا العتبى أنفُسُهُم لكي يعتذروا إلى الله على ما فعلوا لكي يرضى الله عنهم، والعتاب حوار بلطف للدفاع عن التقصير الذي حصل منهم في الحياة الدنيا.

ويجب الانتباه إلى هذه الآية الوحيدة التي يطلبون فيها العتبى بأنفسهم. بينما الآيات الأخرى يُستعتبون بضم الياء، أيْ: يُطلب منهم العتبى.

كما في سورة النحل آية (84) وسورة الروم آية (57) وسورة الجاثية آية (35).

{فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} : فما: الفاء: جواب الشرط، ما: النافية.

هم: ضمير فصل يفيد التوكيد.

من: ابتدائية بعضية.

المعتبين: أيْ: لا يسمح لهم بالعتاب أو الاعتذار سواء طلبوا ذلك بأنفسهم أو طلب غيرهم لهم العُتبى.

ص: 153

سورة فصلت [41: 25]

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} :

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} : هيأنا وأتحنا، اللام في لهم لام الاختصاص، أيْ: خاصة بهم، وتعود على أعداء الله.

{قُرَنَاءَ} : جمع قرين والقرين: الصاحب الذي لا فائدة منه ولا منفعة، بل ضرر وخسارة، والقرين: هو الشيطان؛ أيْ: هيأنا لهم أتباعاً يتبعونهم أينما ذهبوا أو يصاحبونهم. والصاحب غير القرين، الصاحب الذي تنطوي صحبته على محبة ومنفعة.

فزينوا: الفاء للتوكيد.

{فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : بالوسوسة والإغراء والضلال، وزينوا لهم الباطل والشرك والكفر.

زينوا لهم اللَّذَّات والشهوات الدنيا المحرمة والمعاصي، والبدع والضلالات، ومحاربة الله ورسوله.

{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : ما بين أيديهم من أمر الآخرة القادم بالإضلال والتكذيب والشك والريبة بأن ليس هناك آخرةً وحساباً وجزاءً.

{وَمَا خَلْفَهُمْ} : من أمور الدنيا زينوا لهم المحرمات والشهوات. أو بالعكس ما بين أيديهم من أمور الدنيا وما خلفهم من أمور الآخرة مثل الجنة والنار والحساب والبعث. أو ما بين أيديهم، أيْ: ما فعلوه وما خلفهم، أيْ: ما عزموا على فعله أو سيفعلونه.

{وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} : وجب أو ثبت عليهم القول: قيل: العذاب أو القول {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].

{فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم} : في: ظرفية، قد: للتحقيق، خلت: مضت أو هلكت.

{مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} : بتكذيبهم الرسل أو لتكذيبهم الرسل وسوءُ أفعالهم وعدم إيمانهم، كانوا خاسرين لاستحقاقهم العذاب. وقدَّم الجن على الإنس حسب القدم في الأرض.

{إِنَّهُمْ} : أيْ: هم والأمم، للتوكيد.

{كَانُوا خَاسِرِينَ} : لأنفسهم ولأهليهم أيضاً؛ لأنهم أدخلوهم النار معهم أو إذا أهلهم دخلوا الجنة فلن يروا أهلهم؛ لأنهم سيكونون هم في النار وأهلهم في الجنة.

خاسرين: جمع خاسر تدل على ثبوت صفة الخسارة. ارجع إلى سورة النساء آية (119)، وسورة هود آية (22) لبيان معنى خاسرين، والأخسرون.

ص: 154

سورة فصلت [41: 26]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : من قريش وغيرهم.

{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} : لا: الناهية، تنصتوا لهذا القرآن إذا قَرَأَه عليكم محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَالْغَوْا فِيهِ} : ارفعوا أصواتكم حين قراءته وتكلَّموا مع بعضكم بعضاً كلاماً لغواً لا فائدة فيه، كلاماً: كالصفير والصياح واللهو أو العبث.

{لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} : لعل: للتعليل، تغلبون: فيتوقف عن القراءة أو لا يُفهم ما يقول.

ص: 155

سورة فصلت [41: 27]

{فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{فَلَنُذِيقَنَّ} : الفاء واللام والنون، كلها للتوكيد، أيْ: يوم القيامة.

{الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} : لصدِّ الناس عن سماع القرآن واللَّغو فيه وبسبب كفرهم.

{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} : اللام والنون للتوكيد، ولنجزيهم في الآخرة أسوأ الذي كانوا يعملون، أيْ: نجزينَّهم أقبح أعمالهم في الدنيا مثل الشرك. أما بالنسبة للأعمال الصالحة فقد حبطت وذهبت هباءً منبثّاً بسبب الشرك.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية (27) من سورة فصلت مع الآية في قوله تعالى: {فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84].

ما: أوسع شمولاً من (الذي) كانوا يعملون: تعني كل شيء كانوا يعملون فيه إطلاق بينما الذي كانوا يعملون: الذي، أي: فقط الذي يعملون من اللغو وعدم السماع للقرآن فيه تحديد واختصاص، وما تشمل الذي وغيره مما كانوا يعملون.

ص: 156

سورة فصلت [41: 28]

{ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} :

{ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} : {ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد وهو يفيد الذم، ويشير إلى أن العذاب الشديد هو جزاء أعداء الله.

{جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} : العذاب الشديد في النار.

{لَهُمْ فِيهَا} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، فيها: في النار: في ظرفية.

{دَارُ الْخُلْدِ} : دار الإقامة الخالدة، ويبدأ الخلود من زمن دخولهم إياها إلى ما لا نهاية.

{جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} : ارجع إلى الآية (15) من نفس السورة للبيان.

{بِمَا} : الباء باء السببية أو البدلية. ما: بمعنى الذي أو مصدرية وما مطلقة تشمل كل شيء.

ص: 157

سورة فصلت [41: 29]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بعد أن أُدخلوا النار.

{رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ} : اللَّذَيْنِ اسم موصول للمثنى، {أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}: أيْ: شياطين الجن والإنس أو الرؤساء من الجن والإنس الذين زيَّنوا لنا الكفر والشرك والمعصية.

{أَرِنَا} : أيْ: أطلعنا على هؤلاء اللذين أضلانا.

{أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} : عن طريق الحق، أبعدَانا وزيَّنا لنا طريق الضلال والباطل.

{نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} : في النار انتقاماً منهما.

{لِيَكُونَا} : اللام لام التوكيد.

{مِنَ الْأَسْفَلِينَ} : من: ابتدائية بين الأذلين المهانين في الدرك الأسفل من النار. أرادوا بهذا القول إيقاع اللوم على شياطينهم من الجن والإنس، أو رؤسائِهم.

ص: 158

سورة فصلت [41: 30]

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} :

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} : إن: للتوكيد، ربنا الله: جمعوا بين وحدانية الربوبية ووحدانية الألوهية والأسماء والصفات. أيْ: آمنوا بالله وحده وهو خالقهم.

{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} : ثم حرف عطف، يدل على تباين منزلة الاستقامة على الإيمان، وليست للترتيب والتراخي في الزمن، وإنما تدل على ما بعدها أعظم مما قبلها.

اسْتَقامُوا: التزموا بمنهج الله والقرآن والسنة، والدوام على تقوى الله بإطاعة أوامره وتجنب نواهيه، والتزموا بالوسطية، لا إفراط ولا تفريط. وأخلصوا دينهم لله بالتوحيد (الألوهية والربوبية والصفات والأسماء).

والاستقامة: نقيضها: الاعوجاج ومشتقة من السير على طريق مستقيم لا اعوجاج فيه.

{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} : تتنزل على المؤمنين في حالة الاحتضار مرحلة الوفاة التي تسبق الموت، أيْ: خروج الروح من البدن، ولم يقل: تنزل كما في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]؛ تتنزل: تدل على كثرة التنزل كما هي الحال لقبض الأرواح عند الموت، وهذا يحدث بكثرة، بينما تنزل (تاء واحدة): تدل على قلة التنزل، كما يحدث في ليلة القدر تنزل الملائكة والروح مرة في العام، وليس دائماً، كما نراه حين الوفاة والموت.

{أَلَّا تَخَافُوا} : ألا: مركبة من أن ولا. أن: مصدرية للتعليل والتوكيد، لا: الناهية. تخافوا: من الموت أو البرزخ أو يوم البعث والآخرة. ألا تخافوا: مما هو قادم عليكم والخوف هو الغمُّ الناتج لتوقُّع مكروه قادم مشكوك في وقوعه.

{وَلَا تَحْزَنُوا} : وتكرار (لا): يفيد التوكيد، ولا تحزنوا على ما خلفكم من أهل وولد ومال، ولا تخافوا ولا تحزنوا لفصل الخوف عن الحزن كلًّا على حِدَةٍ، أو كلاهما معاً، والحزن: هو الغمُّ الناتج عن أمر وقع أو فوات نفع في الماضي، لا تخافوا ولا تحزنوا من الآن فصاعداً.

وتحزَنوا: من الحزَن، ولمعرفة الفرق بين الحَزن والحُزن، ارجع إلى سورة الأنعام آية (33) للبيان.

{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} : الباء: باء الإلصاق، وتدخل على ما هو مدار الكلام، والبشرى: الإخبار بأمر مُسر لأول مرة بالجنة.

ارجع إلى سورة النحل آية (89) لمزيد من البيان في معنى بشرى.

{الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} : كنتم في الحياة الدينا توعدون على ألسنة الرسل وفي القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 159

سورة فصلت [41: 31]

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} :

{نَحْنُ} : للتعظيم وتعود على الملائكة.

{أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : الولي المعين، أيْ: نحن حفظة أعمالكم في الدنيا ونتولَّى أموركم بأمر من الله كقوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. أيْ: هم الحفظة من الملائكة.

{وَفِى الْآخِرَةِ} : نشفع لكم ونتولَّى أموركم، كقوله تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23-24].

{وَلَكُمْ فِيهَا} : أيْ: في الجنة.

{مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} ، ما: بمعنى الذي، وأوسع شمولاً من الذي.

{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} : تطلبون وتتمنون من الادِّعاء وهو التمني والطلب. وما: للشمول بينما الذي خاصة.

ص: 160

سورة فصلت [41: 32]

{نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} :

{نُزُلًا} : مشتقة من النُزل وهو ما يهيأ ويعد للضيف من قِرى وتكريم وحفاوة يتضمن المسكن ومكان الإقامة والمأكل والمشرب.

{مِّنْ} : ابتدائية.

{غَفُورٍ} : صيغة مبالغة كثير الغفران، أي: الساتر لذنوب عباده والمتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، يغفر الذنوب جميعاً، وغفور تعني: يغفر الذنوب العظام والجسام وغفار صيغة مبالغة أيضاً تعني: يغفر الذنوب الكثيرة.

{رَّحِيمٍ} : بعباده المؤمنين كثير الرحمة، وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم الراحمين. رحيم تدل على ثبوت صفة الرحمة عنده. والرحمن تدل على تجدُّد وتكرُّر صفة الرحمة عنده، والرحمن: صفة عامة، والرحيم: صفة خاصة.

ص: 161

سورة فصلت [41: 33]

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :

{وَمَنْ أَحْسَنُ} : من: استفهامية تحمل معنى النفي، أيْ: لا أحسن ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، وقال: إنني من المسلمين. والجواب محذوف، ولكنه مفهوم، أيْ: لا أحد أحسن قولاً وأحسن على وزن أفعل التفضيل، أيْ: أفضل.

{قَوْلًا} : تشمل القول والخطابة والكتابة، وأي وسيلة من وسائل النشر.

{مِمَّنْ} : من: الأولى ابتدائية ومن الثانية: اسم موصول بمعنى الذي، وتشمل المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى.

{دَعَا إِلَى اللَّهِ} : دعا إلى الإيمان بالله وعبادته وتوحيده والدخول في الإسلام وإعلاء كلمة الله ودينه.

{وَعَمِلَ صَالِحًا} : بتأدية الفروض والسنن والنوافل وكل ما فيه خير.

{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : أسلم وجهه لله وحده، أيْ: أخلص في إسلامه ولا يعني فقط نطق الشهادة، بل لا بُدَّ من اعتناق الإسلام وتطبيقه والتقوى والإحسان، وأول داع من هذه الأمة كان محمداً صلى الله عليه وسلم وترك لأمته أن تحمل أمانة الدعوة من بعده، وقال: إنني، ولم يقل: إني؛ إنني (زيادة النون) تدل على زيادة التوكيد مقارنة بقوله إني من المسلمين.

ص: 162

سورة فصلت [41: 34]

{وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} :

{وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} : الواو استئنافية. أيْ: لا تستويان في الجزاء والأجر. والاستواء قد يقصد به الاستواء في الجنس، أيْ: حسنة أعظم من حسنة أو سيئة أكبر من سيئة.

الحسنة: تعريفها لغةً: مؤنث حسن، عمل أو قول صالح ضد السيئة، والحسنة: هي الأعلى في الحسن، واصطلاحاً: هي كل عمل خير من قول أو فعل يورث ثواباً. أو هي كل ما يستحسنه الشرع ويتمثل بإطاعة أوامر الله وتجنب نواهيه من قول أو فعل يورث ثواباً. وقال الراغب: الحسنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وماله.

والسيئة لغةً: مؤنث سيء ذنب أو خطيئة عكس حسنة، ويعاقب عليها، وقيل: السيئة: الصغير من الذنوب، وقيل: الخطيئة، وقال الراغب: السيئة: الفعلة القبيحة، وهي ضد الحسنة، وقيل: هي ما يكرهها الله ويعاقب عليها.

وتكرار (لا) يفيد التوكيد. كان بالإمكان القول ولا تستوي الحسنة والسيئة، ولكن أضاف ولا السيئة للتوكيد، وفصل كل منهما عن الآخر، أيْ: لا تستوي الحسنة مع السيئة ولا تستوي الحسنة مع الحسنة، ولا تستوي سيئة مع سيئة، فالحسنات درجات والسيئات درجات.

{ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : الدفع: أي: الرد بقوة.

أما الدرء فهو الرد بسرعة. فدفع (أي: ردُّ) السيئة بالحسنة وبالعفو والصفح ودفع الذم بالمدح والجهل بالعلم والتسرع بالحلم والصبر.

وقد ورد درء السيئة بالحسنة في آيتين، فقال تعالى:{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22] و [القصص: 54].

والدرء يعني كما قلنا: دفع أو رد السيئة بالحسنة بقوة وبسرعة، ومن دون تأخير.

{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتعقيب. إذا: ظرفية زمانية تفيد المفاجأة.

{الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} : أيْ: إذا دفعت السيئة بالحسنة أصبح عدوك أو الذي أساء إليك كالصديق الحميم: أي: القريب في المودة. صديق مقرب مُعين.

وقد تقوم بدفع السيئة بالحسنة وتفعل ما بوسعك إلى الإحسان إليه، ولا يجدي فيه العفو والصفح فعندها فوِّض أمرك إلى الله تعالى.

وإذا حاولت القيام بالدفع فتأكد أن الشيطان سيبدأ يوسوس إليك، ويذكرك بعداوة الذي وقع إليك بالسيئة، فعندها استعذ بالله وعليك أن تطرد الشيطان وتقاومه ابتغاء مرضات الله.

ص: 163

سورة فصلت [41: 35]

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما: النافية.

{يُلَقَّاهَا} : من الإلقاء، ويعني من علو وتدل على علو منزلة الدفع بالتي هي أحسن. ولا يُعطى أو يوهب هذه المنزلة أو الخصلة أو السجية إلا الذين صبروا.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{الَّذِينَ صَبَرُوا} : ولم يحدد نوع الصبر، ويشمل الصبر على طاعة الله والصبر عن المعصية وعلى القضاء والقدر. الذين: اسم موصول يفيد المدح. وقد وصفهم الله في آية أخرى، فقال:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} : [آل عمران: 134].

{وَمَا يُلَقَّاهَا} : الإعادة تفيد التوكيد على هذه الخصلة والفضيلة مقابلة السيئة بالحسنة. وما يلقاها: ولا يقبل هذه الوصية أو يؤتى القدرة على القيام والعمل بهذه الخصلة إلا ذو حظ عظيم.

{إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} : إلا: أداة حصر، ذو: ارجع إلى سورة الأنبياء (87) وغافر (2) لمعرفة معنى (ذو) ومقارنتها بصاحب.

{حَظٍّ عَظِيمٍ} : من الخير والثواب، ويشمل الجنة وبدون الجنة لا يعد الحظ عظيماً.

ص: 164

سورة فصلت [41: 36]

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

{وَإِمَّا} : للتفصيل.

{يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} : حين الدفع أو الدرء بالتي هي أحسن أو حين تبدأ أو تحاول الدفع بالتي هي أحسن مثل الصبر والحلم والعفو يبدأ الشيطان ينزغنك، أيْ: تصاب بالغضب والجهل والغيظ وحب الانتقام، فعندها استعذ بالله، أي: الجأ إلى الله تعالى بسرعة.

وينزغنك من النزغ: وهو الإغواء والإثارة للفساد والغضب، وقيل: النزغ: هو النخس والغرز، وأصله استعمال الإبرة أو طرف العصا أو شيء حاد في الجلد لحث الدابة على الإسراع في المشي. ويعني ذلك: التهييج والإثارة والحث على الغضب، فإن حدث لك ذلك فاستعذ بالله، والنون في ينزغنك للتوكيد.

فالنزغ إحدى وسائل الشيطان، وهناك الوسوسة والتزيين والأزُّ والإغواء والتضليل. ارجع إلى سورة الناس آية (5) للبيان المفصل، والفرق بين الوسوسة، والتزيين، والأز، والإغواء، والتضليل.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : الفاء تدل على المباشرة والتعقيب. استعذ بالله: أي: التجأ إلى الله واعتصم به؛ أي: احتمي به حتى يدفع عنك شر الشيطان وكيده، ويمنعك من المحذور.

{إِنَّهُ هُوَ} : إن: للتوكيد، هو: لزيادة التوكيد.

{السَّمِيعُ} : لأقوال عباده ويسمع ما يجري في الكون من السر والعلن والنجوى يسمعهم في آن واحد. ويسمع الاستعاذة به.

{الْعَلِيمُ} : بما يحدث بينك وبين من أساء إليك من العباد أو الشياطين ويعلم كل ما يفعله عباده في السر والعلن والعفو والصفح والغضب، والعليم بكل شيء لا تخفى عليه خافية.

ولمقارنة هذه الآية (36) من سورة فصلت {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} مع الآية (200) من سورة الأعراف {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ارجع إلى سورة الأعراف آية (200) للبيان.

ص: 165

سورة فصلت [41: 37]

{وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} :

المناسبة: بعد أن بيَّن الله سبحانه أحسن الأعمال وهي الدعوة إلى الله وبيَّن أهمية الصبر والصفح والعفو، يذكر بعض الآيات والأدلة على أنه هو الإله الحق الذي يجب أن يُعبد ووحدانيَّته وكمال قدرته.

{وَمِنْ آيَاتِهِ} : الواو استئنافية، من: ابتدائية بعضية، أيْ: بعض آياته الكونية الدالة على عظمته ووحدانيته وكمال قدرته، جعل الليل والنهار آيتين وأضاف هذه الآيات إليه فقال: ومن آياته، أيْ: نسبها إليه تشريفاً لها ولأهميتها في حياة الناس. واستعمال أل التعريف في الليل والنهار والشمس والقمر تدل على الدوام والكمال.

ارجع إلى سورة يونس آية (5، 67) وسورة الأنبياء (33) للبيان.

{لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} : لا: الناهية، تسجدوا: تعبدوا؛ أي: لا تعبدوا الشمس والقمر أمثال الصابئة وغيرهم.

للشمس: اللام لام الاختصاص وللقمر نفس ذلك.

وتكرار (لا): تفيد التوكيد بعدم فعل ذلك. وفصل كل منهما على حِدَةٍ، أو كلاهما معاً.

{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} : أي: اعبدوا الله وحده. لله: اللام لام الاستحقاق.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد المدح والتعظيم والإفراد.

{خَلَقَهُنَّ} : أي: الآيات الليل والنهار والشمس والقمر

وغيرها من الآيات، وليس فقط خلق الشمس والقمر، بل تعود خلقهن إلى كل الآيات المذكورة من قبل هذه الآية، وكذلك الآيات الأربع، والخلق لغةً: هو التقدير، واصطلاحاً: الإيجاد من العدم.

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال.

{كُنتُمْ إِيَّاهُ} : وحده. {تَعْبُدُونَ} : لتعريف العبادة ارجع إلى سورة النحل آية (73). وقدَّم الليل على النهار؛ لأن الليل (الظلام) هو الأصل.

ص: 166

سورة فصلت [41: 38]

{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْـئَمُونَ} :

{فَإِنِ} : إن شرطية تفيد الشك والاحتمال.

{اسْتَكْبَرُوا} : استكبروا أظهروا الكبر، واستكبروا عن الطاعة لله والإيمان به والسجود له والكف عن الشرك به وعبادة الشمس والقمر. فدعهم وشأنهم ليس الله بحُجَّة لسجودهم أو عبادتهم. والكبر يعني إظهار عظم الشأن ورفع النفس فوق ما تستحق. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} : الفاء جواب الشرط. الذين: اسم موصول يفيد المدح أي: الملائكة لا يستكبرون عن عبادته والعندية هنا تعني المكانة وليس المكان، تشريف لهم وكرامة.

{يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : التسبيح يعني: الصلاة ويعني الذكر مثل الحمد والتسبيح والتكبير الدائم؛ لأن المعرفة (الليل والنهار) تدل على دوام التسبيح.

{يُسَبِّحُونَ لَهُ} : وحده سبحانه، اللام لام الاختصاص والتسبيح، يعني تنزيه الله من كل عيب ونقص وشريك.

ارجع إلى سورة الإسراء آية (1) وسور الحديد آية (1) للبيان.

{بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : الباء: باء الإلصاق والتوكيد، أيْ: على الدوام.

{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التوكيد.

{لَا يَسْـئَمُونَ} : لا: النافيةـ يسأمون: يملون عبادته وتسبيحه من السآمة وهي الملالة والضجر مما يُكرَّرُ فعله، وسام الشيء ملَّه.

ص: 167

سورة فصلت [41: 39]

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ارجع إلى الآية (37) للبيان.

{أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} : ساكنة يابسة هامدة.

{فَإِذَا} الفاء: للترتيب والتعقيب. إذا: ظرفية زمانية بمعنى حين.

{أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ} : ماء المطر.

{اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} : الهز: هو التحريك الشديد، وربت: زاد حجمها وانتفخت من ربا الشيء يربو، أيْ: زاد ونما.

ولفهم معنى اهتزت وربت لا بُدَّ من اللجوء إلى التفسير العلمي الجيولوجي، ولنعلم أن التربة لها أنواع منها التربة الصلصالية، والرملية السطحية وغيرها، وكل نوع له تفاعلات كيمياوية خاصة به. فالطبقة السطحية للأرض أو الغلاف الأرضي يتكون من مواد عضوية تشكل 30% مثل أوراق الشجر والأخشاب والمواد المتحللة ومواد غير عضوية من فتات المعادن (تفكك الصخور بواسطة عوامل التعرية يؤدِّي إلى تكون طبقة رقيقة من فتات المعادن): وهي مواد غير عضوية مثل كربونات الكالسيوم والمغنزيوم وأكسيد الحديد وأيضاً بكتريا التربة وحبيبات الصلصال.

فالاهتزاز يحدث لأن حبيبات التربة المركبة من صفائح بعضها فوق بعض إذا نزل الماء عليها تكونت شحنات كهربائية موجبة وسالبة بينها إذن الماء يسبب التأين بين الشوارد الموجبة والسالبة، والتأين يؤدي إلى اهتزاز الحبيبات بسبب الشحنات الكهربائية التي تتولد بين المعادن المركبة لذرة التراب، ويحدث الاهتزاز بسبب دخول الماء إلى الحبيبات وبين الصفائح؛ لأن الماء يؤدِّي إلى إثارتها كهربائياً مما يجعلها تهتز. وإذا دخل الماء إلى الصفائح، ربت: نمت ازداد حجمها، وكذلك يؤدِّي الماء إلى النشاط في البكتريا.

ارجع إلى سورة الحج آية (5) للمقارنة والبيان.

{إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا} : أيْ: أحيا الأرض بعد موتها، إن للتوكيد.

{لَمُحْىِ الْمَوْتَى} : اللام للتوكيد، محيي الموتى يوم البعث. ارجع إلى سورة الروم آية (19) وإلى سورة فاطر آية (9) للبيان المفصل.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (20) للبيان.

ص: 168

سورة فصلت [41: 40]

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِى آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

{إِنَّ} : للتوكيد، {الَّذِينَ}: اسم موصول.

{يُلْحِدُونَ} : من الإلحاد. من ألحد، أيْ: مال من القصد والاستقامة وألحد في دين الله، أيْ: حاد عن دين الله وعدل عنه.

والإلحاد: في اللغة الميل عن الاستقامة.

والإلحاد يشمل الإنكار، إنكار وجود الله أو أسمائه أو صفاته.

{يُلْحِدُونَ فِى آيَاتِنَا} : يميلون عن آياتنا بالتكذيب والطعن والتحريف والتأويل الباطل واللغو فيها.

{لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} : لا: النافية، يخفون: أيْ: نحن نعلمهم أين هم وما يعملون، وما يكنون في صدورهم، أو يخفون من المكر والكيد. والإخفاء يكون للأمور المادية والمعنوية.

{لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} : هذا وعيد لهم. أيْ: سنجازيهم على إلحادهم بإلقائهم في نار جهنم.

{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام بمعنى التقرير.

{يُلْقَى فِى النَّارِ} : بسبب كفره وإلحاده واتِّباعه الباطل.

{خَيْرٌ} : أفضل وأحسن.

{أَمْ مَنْ} : أم: للإضراب الانتقالي، من: للاستفهام.

{يَأْتِى آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أيْ: غير خائف بسبب إيمانه وتوحيده وعبادته.

قيل: نزلت هذه الآية في:

أبو جهل (يلقى في النار) وأبو بكر الصديق (يأتي آمناً).

أبو جهل (يلقى في النار) وعمار بن ياسر (يأتي آمناً).

الكافر (يلقى في النار) والمؤمن (يأتي آمناً).

ثم أكَّد سبحانه التهديد للكفرة والملحدين بقوله:

{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} : أيَّ شيء تريدون عمله من خير أو شر {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقد يظن، أو يستعمل البعض هذه الآية للدلالة على الإباحة، وهي ليست كذلك؛ فالله سبحانه:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، فالآية جاءت للهداية والإنذار.

ما: مصدرية، أو اسم موصول. (ما) تستعمل للشيء غير المحدد وتستعمل للمفرد والمثنى والجمع.

{اعْمَلُوا} : فعل أمر يراد به هنا التهديد والوعيد، وليس الإباحة كما قلنا، فلا يظن أحد أن الله سبحانه أباح لأيِّ إنسان بأن يعمل ما يشاء ولا يحاسب على عمله، كما قال تعالى:{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].

{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : إنه للتوكيد، وهاء الضمير تعود إلى الله سبحانه.

{بِمَا} : الباء للإلصاق. {تَعْمَلُونَ} : من خير أو شر. {بَصِيرٌ} : عالم بأعمالكم ومطلع عليها.

قدَّم تعملون على بصير؛ لأن الآية في سياق الأعمال، والجملة بما تعملون جملة تعليلية تتضمن الوعيد والتهديد.

ص: 169

سورة فصلت [41: 41]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} :

{إِنَّ} : للتوكيد. {الَّذِينَ} : اسم موصول.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} : بالقرآن لم يصدِّقوا به وجحدوا أو ألحدوا في آياته.

{لَمَّا جَاءَهُمْ} : لما: ظرفية زمانية. أيْ: حين جاءهم.

خبر إن هنا إما محذوف وتقديره: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم (سيجازون أو سوف يجازون على كفرهم) أو هالكون أو لهم نار جهنم. أو خبرها أولئك ينادون من مكان بعيد.

{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ} : إنه: توكيد لكتاب، اللام لام الاختصاص، والكتاب هو القرآن أو الذكر، وسمي كتاباً لأنه مكتوب في الأسطر.

{عَزِيزٌ} : منيع أو عزيز على الله، أيْ: له مكانته ومكرَّم عند الله تعالى ومحفوظ لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

ص: 170

سورة فصلت [41: 42]

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} :

{لَا} : النافية لكل الأزمنة. {يَأْتِيهِ} : لا يعتريه أو يصيبه أو يلحق به.

{الْبَاطِلُ} : لغة: ما لا وجود له ولغة هو الزائل أو الذاهب، وهنا في هذه الآية يعني: الزيادة أو النقصان أو التغيير والتبديل والتحريف، أو ما ليس له دليل.

{مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} : من ابتدائية بين يديه، أيْ: لن يصيبه تحريف أو تغيير أو تبديل لا في الزمن القادم المستقبل (أو بالعكس في الزمن الماضي).

{وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} : ولم يصبه تحريف أو تغيير أو تبديل في الزمن الماضي (أو بالعكس في المستقبل) لأن الله سبحانه قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

{تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} : {تَنزِيلٌ} : أيْ: منزلٌ، من: ابتدائية.

{حَكِيمٍ} : في أفعاله وتدبيره لخلقه وكونه، فهو أحكم الحكماء وهو أحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة آية (119).

{حَمِيدٍ} : أي: المحمود على الدوام والمستحق للحمد على الدوام؛ لأنه صاحب الخير والإحسان والإنعام على خلقه.

ارجع إلى آية (1) من نفس السورة وسورة الزمر آية (1) للبيان.

ص: 171

سورة فصلت [41: 43]

{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} :

{مَا} : النافية.

{يُقَالُ لَكَ} : من هؤلاء كفار مكة ومشركيها من تكذيب وأقوال وباطل وجدال، وساحر ومجنون وكاهن، أو شاعر أو القرآن سحر أو شعر، أو افتراء أو اختلاق، أو أساطير الأولين، وغيرها من الأقاويل.

{إِلَّا} : حصراً وقصراً.

{مَا} : بمعنى الذي، قيل: و (ما) أكثر شمولاً وعموماً من الذي.

{قَدْ} : للتحقيق والتوكيد.

{قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} : اللام للاختصاص.

{مِنْ قَبْلِكَ} : من: ابتدائية استغراقية. فإن أقوامهم كانوا يقولون لرسلهم مثلما يقال لك.

{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} : إن واللام في (لذو) تفيدان التوكيد. ذو: صاحب مغفرة، وذو: أشرف من صاحب. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (87) للبيان.

صاحب مغفرة لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، والمغفرة تشمل ستر الذنب وترك العقاب.

{وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} : وذو ولم يقل: ولذو عقاب أليم؛ لأن رحمته غلبت غضبه ووسعت كل شيء.

ذو عقاب أليم: لمن مات كافراً ولم يتب.

لم يقل: ولذو عقاب أليم: لم يؤكِّد على العقاب الأليم حثاً على التوبة والعودة والإنابة إليه، كما أكَّد على كونه ذو مغفرة.

ص: 172

سورة فصلت [41: 44]

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ آعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} :

{وَلَوْ} : الواو استئنافية: لو: شرطية.

{جَعَلْنَاهُ} : أيْ: لو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن بلغة غير لغة العرب لحق للعرب أن يقولوا لأنفسهم: ما أنزل إلينا أعجمياً واتخذوا ذلك عذراً لهم في الإعراض عنه.

{قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} : بغير لغة العرب. أيْ: لو جعلنا هذا القرآن، أي: الذكر الذي أنزل عليك أعجمياً؛ والأعجمي: يطلق على الكلام الذي لا يفهمه العربي أو يطلق على الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أيِّ جنس كان ولو كان عربياً.

{لَقَالُوا} : اللام للتوكيد. قالوا: تعود على هؤلاء الكفار أو المشركين.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ وحثٍّ.

{فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} : ارجع إلى الآية (3) من نفس السورة (فصلت). هلا بيِّنت آياته بلغة عربية نفهمها.

{آعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ} : استفهام إنكاري.

أكتاب أعجمي ونبي عربي، أيْ: لو كان كذلك لكان حُجَّة لتكذيبهم أو مدعاةً لتكذيبهم به وعدم تصديقهم به، وهم في الحقيقة لا يريدونه لا عربياً ولا أعجمياً؛ لأنهم ينكرونه أصلاً ولا يؤمنون به. كما قال عز وجل:{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198-199].

ثم يبيِّن الله سبحانه مهما كانت لغته عربية أو أعجمية.

{قُلْ} : يا رسول الله لهؤلاء الكفار والمشركين:

{هُوَ} : أي: القرآن أو الذكر ضمير يفيد التوكيد والحصر.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} : اللام لام الاختصاص.

{هُدًى وَشِفَاءٌ} : من الضلال، هدى للذين آمنوا، أيْ: مصدر هدىً أو يهدي الذين آمنوا للحق وللغاية. وهي رضوان الله تعالى والسعادة في الدارين.

{وَشِفَاءٌ} : للصدور من الشكوك والريبة وشفاء تعني: كذلك وقاية من أمراض النفاق ومن الأمراض العضوية والنفسية والمعاصي وشفاء من الجهل والريب والشبهة والشك.

وقد تبيَّن أن الأمراض النفسية تؤدِّي إلى تثبيط الجهاز المناعي في الإنسان؛ مما يؤدِّي إلى نقص في محاربة البكتريا والالتهابات ونقص في محاربة السرطانات وغيرها، وكذلك الأمراض النفسية مثل الغضب والقلق يؤدِّي إلى تقبض الأوعية الدموية مثل الشرايين القلبية، ويؤدِّي إلى الإصابة بأمراض القلب وغيرها. فالقرآن شفاء لما في الصدور من الأمراض النفسية والعضوية معاً.

{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} : بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، ولا يؤمنون بالقرآن.

{فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ} : ثقل أو نقص في السمع مانع يمنعهم عن الاستماع والإنصات إلى القرآن وتدبُّر معانيه وإذا سمعوه لا ينتفعون به.

{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} : على تفيد الاستعلاء، أيْ: معميٌّ على بصائرهم فهم لا يفهمون معانيه وآياته، ولا ينتفعون بها كأنهم أعموا أبصارهم، فلا يريدون سماعه ولا رؤيته ولا ذكره.

{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} : أولئك اسم إشارة واللام للبعد تعود على الذين لا يؤمنون به.

{يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ} : أيْ: هم يشبهون كحال المنادى عليه من مكان بعيد فهو لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به عليه دليل على مدى إعراضهم والبعد عنه.

ص: 173

سورة فصلت [41: 45]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} :

المناسبة: في هذه الآية يُبيِّن الله سبحانه أن التكذيب بكتب الله أمرٌ ليس بجديد، فهو عادة قديمة، ومثال على ذلك موسى فما يحدث لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث لموسى عليه السلام.

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية. لقد: اللام للتوكيد قد: للتحقيق، أيْ: قد حدث وحصل.

{آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : أي: التوراة لمعرفة معنى الإيتاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة.

{فَاخْتُلِفَ فِيهِ} : أيْ: هناك من صدَّق بالتوراة من قوم موسى، وهناك من كذب به أو هناك من آمن ببعض وكفر ببعض. كما اختلف قومك في القرآن، فمنهم من قال: سحر أو مفترى أو أساطير الأولين وغيرها.

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} : لولا: شرطية، {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ}: بتأخير الحساب والعذاب لهؤلاء المكذبين إلى يوم القيامة. كلمة ربك تعني كذلك: الحكم.

{لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : اللام: للتوكيد، قضي بينهم في الدنيا، أيْ: لعجل لهم العذاب في الحياة الدنيا بالقتل والأسر والهزيمة أو الهلاك بالطاغية أو الصيحة أو الصاعقة. وانتهى الأمر.

{وَإِنَّهُمْ} : للتوكيد تعود على كفار قريش، {لَفِى}: اللام لزيادة التوكيد.

{شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} : شك من القرآن أنه منزل من عند الله. وهذا الشك مصحوب باتهام أنه إفك مفترى، أو أعانه عليه قوم آخرون، أو أساطير الأولين أو شعر أو سحر، وإنما يعلمه بشر، وهكذا.

مريب: مشتقة من الريب وهو الشك والتهمة معاً.

ص: 174

سورة فصلت [41: 46]

{مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} :

{مَّنْ} : شرطية، {عَمِلَ صَالِحًا}: العمل يشمل القول والفعل فالقول الطيب أو العمل الصالح مهما كان يعود بالنفع على صاحبه.

{فَلِنَفْسِهِ} : الفاء: جواب الشرط واللام للتوكيد. لام الاستحقاق والاختصاص. أيْ: ثواب العمل الصالح يعود بالفائدة على العبد.

{وَمَنْ أَسَاءَ} : من: شرطية، أساء على نفسه بالقول الفاحش والقبيح والفعل السيِّئ فوبال وجزاء ذلك يعود عليه ويحمل وزره وحده. واستعمل (اللام) في كلمة فلنفسه التي تدل على الاستحقاق والفائدة، واستعمل (على) التي تفيد المشقة والعلو العقاب في كلمة فعليها.

{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} : ارجع إلى سورة آل عمران آية (182) للبيان.

ص: 175