المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة فصلت [41: 47] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٢٥

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة فصلت [41: 47]

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِى قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} :

سبب النزول: أن اليهود أو قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الساعة إن كنت رسولاً، كما تزعم. فنزلت هذه الآية ردّاً على سؤالهم كما قال مقاتل وروى الطبري.

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، أيْ: إليه وحده يرجع علم الساعة (أيْ: متى تقوم الساعة).

وعلم الساعة لا يعلمه إلا الله عز وجل، والساعة هي لحظة تهدم النظام الكوني الحالي. وتختلف عن يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، أيْ: يوم البعث وخروج الناس من قبورهم.

وليس فقط يعلم الساعة، بل يعلم {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} الأكمام: جمع كم وكم الثوب مخرج اليد، أي: المواضع التي كانت مستترة فيها وغلاف كل شيء كُمُّه، أيْ: يعلم سبحانه كل ثمرة تخرج من وعائها ووقت ظهورها.

{مِنْ ثَمَرَاتٍ} : من استغراقية.

{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} : من أنثى: من استغراقية تحمل من ذكر أو أنثى أو توءَم أو غيرها.

ويعلم ما تحمل من أنثى: تشمل كل جنس من الإنس والجن والحيوان والنبات، وما تحمل ومتى تضع وشكله وأوصافه ولونه، تام الخلق أم لا.

{وَلَا تَضَعُ} : زمن الولادة ومكان الولادة ولا تضع إلا بأمره وعلمه.

{إِلَّا} : أداة حصر. {بِعِلْمِهِ} : الباء للإلصاق واللزوم.

وتكرار (وما) يفيد التوكيد. وما تنفي الحال عادة ولا تنفي الاستقبال. فهذه الأمور الثلاثة يجب ردُّها إلى الله سبحانه، فهي نوع من علم الغيب.

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} : يوم مفعول به لفعل محذوف تقديره: واذكر يومَ يناديهم.

وقد يسئل سائل: ما مناسبة ذكر هذا الجزء من الآية؟ فبما أن الله سبحانه يُخبر أن علم الساعة لا يعلمه إلا هو. أراد سبحانه أن يذكرهم بما يحدث في ذلك اليوم، فقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِى قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} .

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} : أيْ: يوم القيامة، يناديهم: أيْ: ينادي المشركين.

{أَيْنَ شُرَكَاءِى} : أين: استفهام عن المكان استفهام مجازي، فهو سبحانه يعلم مكانهم حقيقة، وإنما هو للتبكيت والتقريع.

{الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} : أنهم شركاء لله تعالى تزعمون في الدنيا وتزعمون من زعم: وهو قول بلا دليل، وأكثر ما يقع في الباطل.

{قَالُوا آذَنَّاكَ} : أعلمناك الآن.

{مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} : ما: النافية، منا من: استغراقية، أيْ: لا أحد منا يشهد أن لك شريكاً. وشهيد صيغة مبالغة لشاهد، ولم يقولوا: ما منا من شاهد. الشهيد: هو الذي يعلم بواطن الأمور وظواهرها.

ارجع إلى سورة المجادلة آية (6) لمزيد من البيان، وسورة البقرة آية (133) لمعرفة الفرق بين الشاهد والشهيد.

ص: 1

سورة فصلت [41: 48]

{وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} :

{وَضَلَّ عَنْهُم} : أيْ: غاب عنهم ولم يحضر لنصرتهم أو شفاعتهم.

{مَا} : للعاقل وغير العاقل نكرة.

{كَانُوا يَدْعُونَ} : ما كانوا يدعون: يعبدون.

{مِنْ قَبْلُ} : أيْ: في الدنيا.

{وَظَنُّوا} : الظن هنا بمعنى اليقين (أو الظنِّ الراجح) أو الظن يراد به العلم، أيْ: وعلموا ما لهم من محيص.

{مَا لَهُمْ} : ما: النافية، لهم: خاصة لام الاختصاص، {مِنْ}: استغراقية، أيْ: مخرج أو منفذ يهربون منه أو ملجأ يلجؤون إليه.

{مَحِيصٍ} : مهرب أو منفذ من حاص يحيص إذا هرب.

ص: 2

سورة فصلت [41: 49]

{لَا يَسْـئَمُ الْإِنسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَـئُوسٌ قَنُوطٌ} :

{لَا يَسْـئَمُ الْإِنسَانُ} : لا النافية لجميع الأزمنة. ولا يمل ولا يفتر والسآمة: هي الملالة والضجر.

{مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} : من: ابتدائية، دعاء الخير: طلب العفو والمغفرة والفوز بالجنة والنجاة من النار والسعة في الرزق والصحة والعافية والعلم والذرية الصالحة.

{وَإِنْ} : شرطية تدل على الاحتمال والافتراض.

{مَسَّهُ الشَّرُّ} : المس هو أقل اللمس مجرد المس. أو اللمس الخفيف. والشر: الشدة والمرض أو البلاء أو الفقر.

{فَيَـئُوسٌ قَنُوطٌ} : الفاء: جواب الشرط، يؤوس: منقطع رجاؤه من حصول الخير، أيْ: ظن أن ما أصابه من شر لن يزول وأصابه القنوط: وهو أشد اليأس.

وأما الخيبة: فهي انقطاع نيل الأمل والخائب المنقطع أمله.

ص: 3

سورة فصلت [41: 50]

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِى وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} :

{وَلَئِنْ} : الواو: عاطفة، لئن: اللام لام التوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض، بينما لو قال: وإذا التي تدل على حتمية الحدوث وبكثرة.

{أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} : ولئن آتيناه أو أنعمنا عليه وفرَّجنا عنه كربه، أو أغنيناه من بعد فقر، أو شفاء بعد مرض، أو أنزلناه منزل جاهٍ بعد ذلٍّ.

والفرق بين أذقناه وأنعمنا عليه: الإذاقة تكون في الخير والشر والرحمة والضر، أما أنعمنا فتكون فقط في الخير.

{رَحْمَةً} : نكرة تشكل كل أنواع الرحمة، والرحمة تعني: جلب ما يَسُرُّ ودفع ما يَضُرُّ.

{رَحْمَةً مِنَّا} : ولم يقل: رحمة من عندنا، أو من لدنا؛ لأن رحمة منا تعني: رحمة عامة تعم كل المخلوقات، والصالح والطالح، بينما رحمة من عندنا: تخص أو تأتي في سياق المؤمنين، ورحمة من لدنا: تأتي في سياق الرسل والأنبياء والمقربين خاصة إلى الله سبحانه.

{مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} : الضراء ما يصيب المجتمعات، وبالتالي الفرد من زلازل وبراكين وأوبئة أو حرائق أو عواصف.

الضُّر: يكون مقصوراً على النفس أو ما يصيب الفرد.

وأما الضَّر: ضد النفع.

{لَيَقُولَنَّ هَذَا لِى} : اللام لام التوكيد، والنون في يقولنَّ لزيادة التوكيد.

{هَذَا لِى} : الهاء للتنبيه وذا اسم إشارة، أيْ: ما حصل من فرج أو تغير في الحالة من فقر إلى غنى، أو مرض إلى صحة وعافية، أو ما حصل له من جاه بعد ذلٍّ.

{هَذَا لِى} : أيْ: هذا شيء أستحقه بسبب ما فعلته بجهدي وتفكيري وقدرتي على كذا وكذا أو ذهابي إلى الطبيب، أو بسبب ما قمت به من وقاية مثل تركت المكان أو التجأت إلى كذا أو هو إكرام من الله لي، ومن بطر النعمة يغفل عن شكر المنعم، وينشغل بالنعمة، ولا يعلم أنه ابتلاء واختبار من الله تعالى.

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} : ولا يكتفي بالقول هذا لي، بل يتعدَّى ذلك إلى القول: لا حساب لا جزاء، لا بعث ولا آخرة، أيْ: ينكر كل ذلك بما فيها الساعة.

{وَلَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال والشك. أيْ: في حال أن هناك حساباً ورجوعاً إلى ربي، ولم يقل: وإذا؛ ارجع إلى مطلع الآية لمعرفة الفرق بين لئن وإذا.

{رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى} : للتوكيد، {عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}: أي: الجنة واللام في للحسنى: لام الاختصاص والاستحقاق، أي: استحق الجنة؛ لأن الله راض عني أو سيعطيني كما أعطاني في الدنيا.

{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : أيْ: يوم القيامة لننبئنَّ الذين كفروا: لننبئنَّ من النبأ، وهو الخبر العظيم، أيْ: لنخبرنَّهم بالخبر العظيم. واللام والنون في لننبئنَّ: للتوكيد وزيادة التوكيد.

{بِمَا} : الباء للإلصاق والإلزام، ما: اسم موصول بمعنى الذي عملوا أو مصدرية بأعمالهم وما تفيد العموم والشمول كل شيء عملوه.

{عَمِلُوا} : في الحياة الدنيا من الآثام والذنوب والسيئات والشرك والكفر.

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} : الواو عاطفة واللام والنون في لنذيقنهم للتوكيد وزيادة التوكيد.

{مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} : من: ابتدائية، عذاب غليظ: نوع من أنواع العذاب ومنها الشديد والمهيمن والعظيم والغليظ، وقد يعني المضاعف.

ص: 4

سورة فصلت [41: 51]

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} :

{وَإِذَا} : الواو عاطفة، إذا شرطية تعني حتمية الحدوث وكثرة الإنعام على العباد.

{أَنْعَمْنَا} : عليه برغد العيش أنعمنا عليه بالمال والولد، وبأسباب الخير من صحة ورزق وجاهٍ، وغيره.

{أَعْرَضَ} : عن شكر المنعم وتقاعس أو أهمل طاعة الله وعبادته.

ونأى بجانبه كقوله: {ثَانِىَ عِطْفِهِ} [الحج: 9]، والعطف هو الجانب والجانب هو الناحية والمكان. ونأى بجانبه: أيْ: تكبَّر عن عبادة الله وابتعد بنفسه قليلاً قليلاً، ولم يَعُدْ يمتثَّل أوامر الله ويتجنَّب محارمه. بسبب كونه مشغولاً بالنعمة وناسياً ذكر الله وطاعته.

{وَإِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث وكثرته.

{مَسَّهُ الشَّرُّ} : المس هو أخف اللمس يعني: أصابه الشر إصابة طفيفة لا تُذكر مثل المرض العارض أو نقص في المال أو الأهل.

{فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} : ذو: صاحب، دعاء عريض: أيْ: طويل. والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة، في الدعاء تعني: أطال الدعاء وأكثر فيه.

ص: 5

سورة فصلت [41: 52]

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} :

{قُلْ} : له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{أَرَءَيْتُمْ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير. والمخاطب الكفار والمشركون المكذبون بالقرآن.

أرأيتم: الرؤية هنا رؤية قلبية فكرية.

{إِنْ} : شرطية تفيد الافتراض، أيْ: لنفرض أن القرآن كان من عند الله وكفرتم به.

{كَانَ} : أي: القرآن.

{مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : أيْ: منزلاً من عند الله تعالى، أيْ: تحقَّق وتبيَّن لكم يقيناً أنه منزل من عند الله.

{ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ} : بعد العلم اليقين أنه منزَّل من عند الله، ثم تفيد الاستبعاد.

{مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} : أيْ: تبيَّن لكم أنه الحق من ربكم وكفرتم به، من سيكون أضل منكم. من: استفهام للتوبيخ والتهكم، أيْ: لا أحد أكثر ضلالاً منكم وكفراً وبعداً عن الحق وعداوة ومحاربة لدين الله.

{فِى شِقَاقٍ} : في مخالفة ومعاداة لله تعالى من الشق وهو الجانب؛ لأن كل واحد من الفريقين يكون في شقٍّ غير شقِّ الآخر.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية (52) من سورة فصلت وهي قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} : والآية (10) من سورة الأحقاف وهي قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

آية فصلت تعني: إذا تبيَّن لكم أن القرآن - علماً يقينياً بعد زمن طويل من التجارب والاكتشافات والآيات الكونية والأدلة والبراهين- أنه منزَّل من عند الله وكفرتم به، ثم في هذه الآية تعني: التراخي في الزمن.

آية الأحقاف تعني: إذا تبيَّن لكم أن القرآن أنه منزل من عند الله وشهد على ذلك شاهد من بني إسرائيل. قيل: هو عبد الله بن سلام على مثله، فآمن واستكبرتم.

في آية فصلت إذا كفرتم بعد الأدلة والتجارب أنتم أضل الضالين، أيْ: ليس هناك من هو أضل منكم على الإطلاق.

أما في آية الأحقاف فأنتم من الظالمين لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

فآية فصلت أشدُّ، أيْ: درجة كفر الكافرين في آية فصلت أشدُّ بكثير من درجة كفر الظالمين في آية الأحقاف.

ص: 6

سورة فصلت [41: 53]

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} :

{سَنُرِيهِمْ} : السين للاستقبال القريب، أيْ: سنريهم في الحياة الدنيا والمخاطب في هذه الآية الكل عامة وخاصة الكفار المكذبين بالقرآن وضعاف الإيمان وغير المؤمنين.

{آيَاتِنَا} : الكونية، ولم يقل: سنريهم الآيات، وإنما قال: آياتنا: لعظمة هذه الآيات وأهميتها نسبها سبحانه إليه واستعمل صيغة الجمع للتعظيم.

{فِى الْآفَاقِ} : جمع أفق وتعني: أقطار السموات والأرض، في الكون ونشأته والأرض والسماء وعلوم الفلك وعالم النبات والحيوان.

{وَفِى أَنفُسِهِمْ} : أيْ: في خلق الإنسان وتطوره ونشأته. وسيرونها قبل أن يؤمنوا أو بعد أن يؤمنوا، وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} : أنه: للتوكيد، الحق: أي: القرآن هو الحق وما دعاكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحق هو الأمر الثابت الذي لا يتغيَّر ولا يتبدل.

{أَوَلَمْ يَكْفِ} : الهمزة همزة استفهام وتعجُّب وتقرير.

{بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : أيْ: مطلع إلى ظاهرهم وباطنهم وعلى أقوالهم وأفعالهم في السر والعلن، وشهيد على ما يفعلون وكفى بالله شهيداً.

ارجع إلى سورة المجادلة آية (6) للبيان، والبقرة آية (133).

لنقارن هذه الآية (53) من سورة فصلت وهي قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} مع الآية (93) من سورة النمل، وهي قوله:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

آية فصلت سنريهم، آية النمل سيريكم: سنريهم لمن جاؤوا من قبلكم للأجيال الماضية، وسنريكم أنتم ومن يجيء بعدكم.

في سورة فصلت بيَّنت نوع الآيات (في الآفاق وفي أنفسهم) في سورة النمل الآيات بشكل عام (الكونية وفي أنفسهم والقرآنية والمعجزات).

ص: 7

سورة فصلت [41: 54]

{أَلَا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ} :

{أَلَا} : أداة استفتاح وتنبيه.

{إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ} : في شك من البعث والحساب ولقاء ربهم ويوم القيامة بعد ما تبيَّن لهم الحق والمراء هو الجدال بعد ظهور الحق.

{مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} : يوم القيامة.

{أَلَا} : تكرار ألا تفيد التوكيد.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{بِكُلِّ} : الباء للإلصاق، كل: للتوكيد.

{شَىْءٍ مُّحِيطٌ} : بعلمه وقدرته محيط بخلقه وكونه محيط بكل شيء باطنه وظاهره لا تخفى عليه خافية.

ص: 8

سورة الشورى [42: 1]

سورة الشورى

سورة الشّورى [الآيات 1 - 10]

ترتيبها في القرآن (42) وترتيبها في النّزول (62).

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

ص: 9

سورة الشورى [42: 2]

{عسق} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

ص: 10

سورة الشورى [42: 3]

{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} : أي: مثل ما يوحي إليك الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الّذين من قبلك من الرّسل وسائر الأنبياء، ويوحي بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكرار، والوحي لغة: الإعلام بخفاء، وشرعاً: هو ما يُلقي الله إلى أنبيائه ورسله من تكاليف وتعاليم دينية وآيات بطريق الوحي جبريل عليه السلام. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.

{اللَّهُ} : الله: الاسم الدّال على الذّات الإلهية الّذي تفرد به الحق سبحانه واختصه لذاته العلية، وهو الاسم الجامع لجميع صفات الكمال والدّال على أنّه المعبود وحده.

{الْعَزِيزُ} : الّذي يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر القوي الممتنع.

{الْحَكِيمُ} : في تدبير خلقه وكونه وشرعه، الحكيم: من الحكمة فهو أحكم الحكماء، والحكيم من الحكم فهو أحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

ص: 11

سورة الشورى [42: 4]

{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} :

{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : لام لاختصاص أو الملكية، وتقديم له يعني حصراً وقصراً له ما في السّموات السّبع وما فيهن وما في الأرض نفسها وما فيها، له ما في السّموات والأرض مُلكاً وخلقاً، وهذا يدل على أنّه لا شريك له في خلق السّموات والأرض ولا مُلكهما، وتكرار (ما في) يفيد التّوكيد وفصل كلّ من السّموات والأرض على حدةٍ أو كلاهما معاً.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.

{الْعَلِىُّ} : علو الجلال والكمال، العلي بسلطانه وقدرته وعرشه وعلمه، العلي بذاته وصفاته وأسمائه يعلو كلّ مخلوق وكلّ شيء تحته.

{الْعَظِيمُ} : صيغة مبالغة من العظم والعظيم بقدرته وصفاته، والعظم هو الفخامة والعز والمجد والكبرياء، لا يدرك أيّ عقل عظمته ورفعته وجلاله، رب العرش العظيم، ذكر هذا الاسم (6) مرات في القرآن العظيم في آية الكرسي، وهذه الآية، والواقعة الآيتين (74-96) والحاقة الآيتين (33-52).

ص: 12

سورة الشورى [42: 5]

{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

{تَكَادُ} : من أفعال المقاربة.

{السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} : يتشققنّ أو يتصدعن:

1 -

من عظمة وهيبة الله مالكهن ومدبرهن.

2 -

أو من قول المشركين: اتخذ الله ولداً.

3 -

أو لكثرة ما عليهن من الملائكة كما ورد في حديث أبي ذر، والذي رواه الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطَّت السّماء وحق لها أن تئط من ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى» ، والمعنى: أطبقت السماء عن عظمة رب العالمين، أو ثقلت السماء من كثرة الملائكة.

{مِنْ فَوْقِهِنَّ} : من للابتداء، فوقهن: أي كلّ سماء تنفطر فوق الّتي تليها، أي يبدأ الانفطار في السّماء السّابعة فالسّادسة فالخامسة وهكذا، أو يتفطرن من فوقهن (أي الأرضين).

{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} : يسبحون بحمد ربهم: ينزهون الله تعالى من كلّ عيب ونقص وشريك وولد، التّنزيه: هو الثّناء، يسبحون بشكل مستمر متواصل بلا انقطاع، والحمد لله هو الشّكر. ارجع إلى الآية (2) من سورة الفاتحة لبيان معنى الحمد، وسورة الإسراء آية (1)، والحديد آية (1) لبيان معنى يسبحون.

{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الْأَرْضِ} : أي لعامة المسلمين، وغيرهم من أهل التّوحيد ولمن آمن بالله رباً وإلهاً، واللام في لمن: لام الاختصاص، ومن: بعضية بعض من في الأرض وهم المسلمون بالله رباً وإلهاً ولا يستغفرون للمشركين والكافرين.

{أَلَا} : أداة تنبيه واستفتاح.

{إِنَّ اللَّهَ} : تفيد التّوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.

{الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة على وزن فعول، من: غفر؛ أي كثير الغفر وهو السّتر؛ أي يستر الذّنوب ويمحوها ويعفو عنها، ومهما عمل المكلفون من أعمال صالحة يبقون مقصرين فهم بحاجة إلى مغفرة ورحمة. وغفور للذنوب الكبيرة إذا تاب العبد وأناب إلى ربه وغفار للذنوب الكثيرة.

{الرَّحِيمُ} : صيغة مبالغة على وزن فعيل، أي كثير الرّحمة لعباده المؤمنين. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمزيد من البيان.

ولمقارنة هذه الآية (5) من سورة الشّورى وهي قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِى الْأَرْضِ} والآية (7) من سورة غافر وهي قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، ارجع إلى سورة غافر الآية (7) للبيان والمقارنة.

ص: 13

سورة الشورى [42: 6]

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} :

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} : من دون الله سبحانه؛ أي: من غير الله، أو سواه. اتخذوا: شركاء لله تعالى. الّذين: اسم موصول يفيد العموم، اتخذوا من دونه أولياء: أي يعبدونهم، أو ليقربوهم عند الله زلفى أو ليشفعوا لهم أو لمساعدتهم، من: استغراقية تستغرق كلّ الأولياء الآلهة والأصنام وعيسى وعزيراً.

{اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} : أي الله رقيب على أقوالهم وأفعالهم؛ أي: عليم بها يحفظها ويحصيها لهم؛ ليحاسبهم عليها.

{وَمَا أَنْتَ} : الواو: عاطفة، ما: النّافية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

أنت: للتّوكيد.

{عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} : بموكَّل للدّفاع عنهم أو مسؤول عن أعمالهم وهدايتهم، ارجع إلى سورة الأعراف الآية (89) لبيان معنى الوكيل والتوكل، فقط عليك البلاغ المبين، الباء (بوكيل) للإلصاق والتّوكيد. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان.

ص: 14

سورة الشورى [42: 7]

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} :

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : أي كما أوحينا إليك هذا القرآن أوحينا إلى الرّسل من قبلك التّوراة والإنجيل والزّبور والصّحف، أوحينا: ارجع إلى الآية (3) للبيان، وسورة النساء آية (163). أو: كما أنزلنا الكتب السّماوية السّابقة التّوراة والإنجيل والزّبور والصّحف أنزلنا إليك قرآنا عربياً.

{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} : سمي قرآناً: لأنّه يقرأ من السّطور والتّلقي، عربياً: بلغة عربية، بلسان قومك.

{لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} : اللام للتعليل، تنذر أم القرى؛ الإنذار: هو الإعلام (والتبليغ) والتحذير والتخويف؛ أي: تنذر أهل مكة من عدم مخالفة أوامر الله وتنذره من النّار والعذاب، وسميت أم القرى: لأنّها هي الأصل والأم لكلّ قرية أخرى على الأرض، ولها أسماء مثل بكة والبلد الأمين، وتسميتها بأم القرى؛ لأنّها كانت أول جزيرة بركانية ظهرت على قشرة الأرض ثم مدّت الأرض من حولها تدريجياً، حتى شكلت القارة الأم الّتي تشققت إلى القارات الحالية بشبكة من الصدوع الّتي أزاحت القارات عن بعضها كما نراها الآن. فهي أول قرية تشكلت على اليابسة وهي تقع وسط اليابسة، وكذلك فيها أول بيت وضع للناس فهي أم القرى من حيث النشأة ومن حيث الفضيلة. ارجع إلى سورة الأنعام آية (92) لمزيد من البيان.

{وَمَنْ حَوْلَهَا} : من: استغراقية تشمل كلّ القرى حولها، الحول هو المحيط، فكلمة (حولها) تشمل كلّ مكان؛ أي: العرب وسائر النّاس، وخصوا بالذّكر لأنّهم أوّل المنذَرين، والخطاب وإن كان موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود به أمته أيضاً.

{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} : تكرار (وتنذر) للتوكيد، يوم الجمع: يوم القيامة، وله أسماء كثيرة منها يوم الحشر والجمع والقيامة والتّناد، والفصل والخروج والتّغابن، والصّاخة والحاقة والطّامة وغيرها. وسمي يوم الجمع؛ لأنّ الله سبحانه يجمع فيه الأولين والآخرين من الخلائق كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 49ـ50]، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 38].

{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا: النّافية، ريب فيه: الرّيب: الشّك والتّهمة؛ لأنّهم يشكون في قيامه ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات الله.

{فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ} : بعد الجمع يحصل الحساب والجزاء والقضاء، ثم الفصل والتّفرق: يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السّعير.

ص: 15

سورة الشورى [42: 8]

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} :

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} : الواو استئنافية، لو شرطية.

{لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} : اللام لام التّوكيد والتّعليل، لجعل النّاس جميعاً على دين واحد وشريعة واحدة.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك.

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ} : أي يدخل هؤلاء الّذين اختاروا طريق الطّاعة والإيمان بالله وبرسله، في رحمته: في دينه ورحمته ويزيدهم هداية وتوفيقاً لطاعته.

{وَالظَّالِمُونَ} : المشركون والظّالمون لأنفسهم بارتكاب الكفر والشّرك والمعاصي والذّنوب.

{مَا لَهُمْ} : ما النّافية، لهم: لام الاختصاص والملكية، ما لهم في الآخرة من ولي ولا نصير.

{مِنْ وَلِىٍّ} : من استغراقية تعني: ما لهم أيُّ ولي، أيّ قريب يعينهم ويساعدهم ويتولى أمورهم.

{وَلَا نَصِيرٍ} : لا النّافية، نصير: ينصرهم من عذاب الله؛ أي ينقذهم أو يدافع عنهم أو يخفف عنهم أو يشفع لهم. وتكرار (لا) يفيد التّوكيد وفصل كلّ من ولي ولا نصير أو كلاهما معاً؛ أي لا هذا ولا ذاك ولا كلاهما معاً.

في هذه الآية لابد أن نذكر بأنّه حين يقول سبحانه: ما لهم من ولي ولا نصير؛ أي في الآخرة؛ لأنّه في الآخرة تنقطع الولاية والنصرة فلا داعي لذكر من دون الله، وحين يقول سبحانه ما لهم من دون الله من ولي ولا نصير هذه تعني في سياق الدّنيا.

وكذلك لا بدّ أن نقارن هذه الآية (8) وهي قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ} بالآية (25) من سورة الفتح وهي قوله: {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} : في سورة الشّورى قدّم المشيئة على الرّحمة، وفي سورة الفتح قدّم الرّحمة على المشيئة. ارجع إلى سورة الفتح آية (25) للبيان.

ص: 16

سورة الشورى [42: 9]

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{أَمِ} : للإضراب الانتقالي، والهمزة للاستفهام الإنكاري.

{اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (6) زاعمين أنّ هذه الآلهة تعينهم أو تنصرهم أو تشفع لهم.

{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ} : الفاء للعطف والتّوكيد، هو: ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد، الولي: المعين لأوليائه القيّم على أمر أوليائه، وتقدير الآية: أي إن أرادوا ولياً فالله هو الولي الحق ولا ولي في الآخرة إلا هو.

{وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى} : وهو وحده (هو للتوكيد والحصر) الّذي يحيي الموتى للحساب والجزاء. ولمعرفة كيف يتم هذا الإحياء ارجع إلى سورة الرّوم آية (19).

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : أي حصراً على كلّ شيء قدير، وتكرار (هو) يفيد التّوكيد، ولكونه سبحانه هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير كلّ هذه الأدلة تدعو إلى الإيمان به وحده وعبادته وطاعته.

ارجع إلى سورة البقرة آية (20) للبيان.

ص: 17

سورة الشورى [42: 10]

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما مطلقة للعاقل وغير العاقل.

{اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْءٍ} : أي في أمر من أمور الدّين أو الدّنيا (أحكام الدّين) أو (الخصومات) وغيرها مع بعضكم بعضاً أو مع غيركم من غير المسلمين، من استغراقية، شيء: نكرة تشمل أيَّ شيء مهما كان، وسواء أكان حسياً أم معنوياً.

{فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} : أي يجب ردُّ حكمه إلى الله وإلى رسوله (إلى القرآن والسّنة)؛ ليفصل بينكم ويحكم بينكم بالحق.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى} : ذلكم: اسم إشارة يفيد التّعظيم واللام للبعد والكاف للمخاطب، الله: أي الإله الحق المعبود واجب الوجود، ربي: الخالق المربّي والولي والرّازق.

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} : تقديم (عليه) للحصر والقصر؛ أي عليه وحده أتوكل: أي أفوّض أموري إليه وحده في الدّنيا ليساعدني على القيام بها. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) للبيان في معنى التوكل.

{وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} : إليه تفيد الحصر والقصر، أنيب: أرجِع في معرفة بيان الحكم؛ وتعني: الإسراع في التّوبة، وتعني: أرجِع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه، وتعني: كثرة الرّجوع إليه.

سورة الشّورى [الآيات 11 - 15]

ص: 18

سورة الشورى [42: 11]

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} :

عدد من الصّفات الدّالة على كمال قدرته وعظمته على الخلق، والموصوف بكلّ صفات الكمال، وأنّه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد وحده ويتوكل عليه وأنّه وحده الرّب الرّزاق.

{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي ابتدأ خلقهما وأظهرهما للوجود، من انفطر: انشقّ؛ أي المظهر لوجود السّموات والأرض، وقيل: فاطر السّموات والأرض: خالقهما على غير مثال سابق؛ أي لأوّل مرة.

{جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} : الجعل يكون بعد الخلق، جعل لكم من جنسكم من الجنس البشري أزواجاً ذكوراً وإناثاً.

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} : من ابتدائية، الأنعام (الضأن والماعز والإبل والبقر) أزواجاً ذكراً أو أنثى، أزواجاً للتكاثر.

{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} : الذّرء: يعني التّزاوج بالتّكاثر، يذرؤكم: يكثركم بالتّزاوج فيه: تعود على الذّرء؛ أي: التّزاوج.

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} : ليس للنفي، كمثله: الكاف لتوكيد النّفي والتّشبيه فجاء بأداتين لنفي الشبه، أو المثلية هما ليس والكاف؛ أي ليس مثله شيء، لا نظير لا مثيل له في ذاته وصفاته وأفعاله وحكمته وقدرته وعلمه وخلقه، فهو لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يشبههُ أحد، فهو الواحد الأحد ليس كمثله شيء ولو من شيء بعيد أو قريب أو مهما كان، فهذه الآية تنزّه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين؛ أي: خلقه، ولا ننسى قوله تعالى:{كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقالوا كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم والله سبحانه هو الأول والآخر لكل ما سواه بلا بداية وبلا نهاية ولذلك لا يقال لله سبحانه شيء؛ لأنه خالق الأشياء.

{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : السّميع لأقوال عباده يسمع ما في الكون من قول وسر وعلن ونجوى، البصير: بأعمال عباده وأحوالهم، يبصر كلّ شيء وإن دقَّ وصغر، أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار السّموات والأرض.

ص: 19

سورة الشورى [42: 12]

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

يستمر في ذكر صفات الله الدّالة على كمال قدرته وعظمته ووحدانيته.

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : مقاليد: جمع أقليد، وقيل: جمع مقلاد؛ أي: يُسند إليه يفوّض إليه تصريف وإدارة وتدبير أمور السّموات والأرض. ارجع إلى الآية (63) من سورة الزّمر. للبيان المفصل في مقاليد السموات والأرض.

{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} : أي يوسّع الرّزق لمن يشاء من خلقه ابتلاءً، ويقدر؛ أي: يضيّق الرّزق لمن يشاء من خلقه ابتلاءً. ارجع إلى سورة سبأ الآية (36) والآية (39) لبيان معنى آيات بسط الرزق، كقوله تعالى:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [سبأ: 39]، و {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ: 36].

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{بِكُلِّ} : الباء للإلصاق والإلزام.

{شَىْءٍ عَلِيمٌ} : بكل ما يحدث في كونه وما يعمله خلقه، عليم بالغني والفقير، وعليم بكلّ شيء مهما كان نوعه وشكله ولونه وحاله وقدرته. عليم صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم وهو عالم الغيب والشّهادة وهو علّام الغيوب.

ص: 20

سورة الشورى [42: 13]

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} :

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} :

شرع: أوضح وأظهر الحق من الباطل، أو أوجب، لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة، من الدّين؛ الدّين: يعني الإسلام، والدين: هو الطاعة والانقياد والشريعة والعقيدة، ويعني: الجزاء والحساب والخضوع وحكم الله وقضاؤه. ارجع إلى سورة البقرة الآية (132) لمزيد من البيان في معنى الدين والملة، ما وصّينا به نوحاً والّذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، استعمل (ما) واستعمل (الّذي) فما الفرق بينهما: ما تستعمل للشيء غير المحدد والأكثر شمولاً كالتوراة التي حرفت أو ما وصى به نوحاً وهو غير معروف، وكذلك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى غير محدد وأكثر شمولاً، والّذي تستعمل للشيء المحدد المعروف؛ أي: القرآن وتختصّ المفرد المذكر، بينما ما تستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، استعمل (ما) لما وصى به نوحاً واستعمل (الذي) أوحينا إليك: الخطاب إلى محمّد صلى الله عليه وسلم؛ ويعني القرآن والتّكاليف والتّعاليم، ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمعرفة معنى: أوحينا إليك.

{وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا} : وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين؛ أن: مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد، والوصية هي: أن أقيموا الدّين، ولم يقل وأقيموا الأديان؛ لأنّ كلّ الرّسل والأنبياء لهم دين واحد وهو الإسلام، وإقامة الدّين تعني: تطبيق أحكامه وامتثال أوامره وتجنب نواهيه. ارجع إلى سورة النساء آية (11) لبيان معنى وصينا. فالدين واحد، ولكن {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

{وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} : لا تنقسموا إلى مذاهب وشيعٍ وطرائق، ولم يقل ولا تفرقوا، وإنما تتفرقوا: إضافة التّاء؛ لتدل على الكثرة، كثرة الأمم المخاطبة مثل أمة محمّد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح مقارنة بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] عندما خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحدها، ولكونها جزء من الأمم الأخرى ومن أصغرها.

{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} : أي شقّ وعظم على المشركين ما تدعوهم إليه من التّوحيد وإقامة الدّين وترك عبادة الأصنام والإيمان بالبعث والحساب والجزاء.

{اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} : يجتبي: يصطفي إليه من يشاء من عباده من اختار لنفسه طريق الطاعة والإيمان.

{وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} : الإنابة سرعة الرّجوع إلى الله والتّوبة؛ أي يوفّق من يشاء بالرّجوع إليه والتّوبة.

ص: 21

سورة الشورى [42: 14]

{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.

{تَفَرَّقُوا} : أي قريش أو أهل الكتاب، وأصبحوا مذاهب وشيعاً وطوائف في دين الله، فآمن بعضهم وكفر بعضهم أو آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.

{إِلَّا مِنْ بَعْدِ} : إلا أداة حصر.

{مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} : العلم هو القرآن الكريم والرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم، بغياً بينهم: تفرّقوا بسبب الحسد وحبّ الجاه والسّيطرة والحرص على الدّنيا.

وتعريف البغي: هو أخذ حق الغير بقهر وقوة وتعسُّف.

{وَلَوْلَا} : لولا حرف شرط.

{كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} : بتأخير العقوبة والإمهال وتأخير الحساب ليوم القيامة.

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : هو يوم القيامة.

{لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : حكم بينهم أو فصل بينهم بإنزال العذاب على المكذّبين ونجاة المؤمنين.

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} : من بعدهم؛ أي من بعد اليهود والنّصارى (أهل الكتاب) هم العرب، الكتاب: التّوراة أو الإنجيل أو القرآن، من بعدهم: من بعد أنبيائهم، أو من بعد الأولين أو الأمم الّتي سبقتهم.

{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} : اللام في (لفي) للتوكيد، شك منه: منه تعود على القرآن الكريم، إذا كان المقصود هم العرب الّذين أورثوا الكتاب فهم في شك من القرآن أنّه منزل من عند الله، وأنّهم يتّهمون النّبي صلى الله عليه وسلم بأنّه افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وإذا كان المقصود هم أهل الكتاب الّذين أورثوا الكتاب؛ أي: التوراة والإنجيل، لفي شك من القرآن أو التّوراة أو الإنجيل مريب: والرّيب: هو الشّك والتّهمة.

ص: 22

سورة الشورى [42: 15]

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} :

{فَلِذَلِكَ} : الفاء استئنافية، لذلك: اللام للتعليل والتّوكيد، ذا اسم إشارة يشير إلى منع التّفرق ونبذه، والكاف للمخاطب.

{فَادْعُ} : الفاء للتوكيد، ادعُ: إلى دين الله الحق وهو الإسلام الدّين الحنيف، ادعُ النّاس إلى التّوحيد ولا إله إلا الله وطاعته وعبادته وترك عبادة الأصنام والشّرك.

{وَاسْتَقِمْ} : أي الزم منهج القرآن والسّنة، وأتمَّ الفرائض وتجنّب المحارم، وقيل: الاستقامة: الاعتدال أو الوسطية لا إفراط ولا تفريط في الدّين، والتّوبة تساعد على الاستقامة، والاستقامة طريق إلى الجنة.

ارجع إلى سورة فصلت آية (30) لمزيد من البيان في معنى الاستقامة.

{كَمَا أُمِرْتَ} : بطريق الوحي أو كما ورد في القرآن؛ أي: كما أمرك الله سبحانه.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} : لا النّاهية، تتبع أهواءهم: جمع هوى والهوى: لتعريفه ارجع إلى سورة الأنعام الآية (56) وتتبع أهواءهم مثل اتّباع ملّتهم.

{وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} : الباء للإلصاق، الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، آمنت: صدقت بما أنزل الله: من استغراقية تشمل القرآن والتّوراة والإنجيل والزّبور، وآمنت بكلّ ما أنزل في الكتاب (القرآن) إيماناً كاملاً فلا أكفر ببعض وأؤمن ببعض.

{وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} : في الحكم والقضاء دون ميل عن الحق.

{اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} : الله الإله الحق واجب الوجود هو ربنا وربكم؛ أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم.

{لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} : أي ثوابها أو وزرها.

{لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} : لا النّافية؛ أي لا حاجة إلى الجدال أو المحاجة والخصومة بيننا وبينكم لإثبات من هو المحقّ ومن هو المبطل بعد الآن؛ لأنّ الحق قد تبيّن وظهر وكذلك الباطل.

{اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} : أي يوم القيامة أو في أرض المحشر لفصل القضاء وتقديم الفاعل على الفعل للاهتمام والتّوكيد.

{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : إليه حصراً وقصراً لا إلى غيره، المصير: المنتهى والمرجع والوقوف بين يديه للحساب والجزاء.

سورة الشّورى [الآيات 16 - 22]

ص: 23

سورة الشورى [42: 16]

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} :

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ} : قال قتادة في مناسبة هذه الآية: إنّ هناك جماعة من اليهود والنّصارى كانوا يقولون للمؤمنين: نبينا خير من نبيكم وكتابنا خير من كتابكم ونحن خير منكم! ليصدوا النّاس عن الدّخول في دين الله، يحاجّون: من الحِجاج هو: إظهار حجة كلّ طرف ومقابلتها بحجة الطّرف الآخر، ويحاجّون: تدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار، في الله: في دين الله أو آيات الله أو ذات الله تعالى، يشككون النّاس بالإسلام أو بالدّين أو بآيات الله؛ لعلهم يردّونهم كفاراً كما قال الله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109].

{مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} : له: تعود إلى دين الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: من بعد ما استجاب النّاس لدين الله ودخلوا فيه أفواجاً، أو استجاب الله لرسوله بنصره على أعدائه وإظهار دينه. راح بعض اليهود والنصارى يحاجون بعض المؤمنين.

{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : حجتهم باطلة زائلة، داحضة مشتقة من: ادحاض القدم، والدّحض هو الطّين الأملس الّذي يؤدي إلى زلق القدم عن موضعها، فالّذين يحاجّون في الله ويريدون أن يبطلوا الحق بحجاجهم؛ أي: يزيلوا الحق بالباطل ويأبى الله تعالى ذلك.

{وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} : طردٌ من رحمة الله وإبعادٌ عنها.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} : لهم: اللام لام الاستحقاق والاختصاص، عذاب شديد في الدّنيا والآخرة.

ص: 24

سورة الشورى [42: 17]

{اللَّهُ الَّذِى أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} :

{اللَّهُ} : سبحانه اسم ذات واجب الوجود المعبود. ارجع إلى الآية (3) من السّورة نفسها.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم والسّمو.

{أَنْزَلَ الْكِتَابَ} : أنزل القرآن جملة واحدة، دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر.

{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق تفيد المصاحبة والملازمة؛ أي: ما فيه هو الحق، والحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل، فالقرآن هو الحق والحق هو القرآن ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، والقرآن لن يتغير إلى يوم القيامة.

{وَالْمِيزَانَ} : هو العدل، العدل الّذي يحكم بين النّاس، وقيل: هو الميزان الّذي يوزن به، ومعنى إنزاله: هو إلهام بعض النّاس أن يخترعوا آلة الميزان ويستخدموا الوزن، وحذرهم من التّطفيف في الميزان؛ أي: أنزل الكتاب وشرع العدل بين النّاس وأمر النّاس بإقامة الوزن والكيل في البيع والشّراء.

{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} : وما: الواو عاطفة، ما استفهامية، وما يدريك: ولم يقل وما أدراك، يدريك تفيد الحال والمستقبل، أمّا أدراك تفيد الماضي، وما أدراك: تنفي أن أدراه في الماضي فقد يدريه في الحال أو في المستقبل.

أمّا قوله تعالى: (وما يدريك) تنفي الإدراك في الحال والمستقبل وتبقى غامضة إلى أن تقوم السّاعة، وقال ابن عبّاس: ما قال تعالى فيه وما أدراك، فقد أدراه، وما قال تعالى فيه وما يدريك ولم يدره به، وما يدريك: جاءت في القرآن في ثلاث آيات كلّها في سياق الغيب والساعة كقوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} : وآية أخرى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63]{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} التّزكية لا يعلمها إلا الله.

وأمّا (ما أدراك) فقد وردت في (13) آية كقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ثمّ شرح ما القارعة: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 1-5].

لعل: تفيد الاستفهام، السّاعة قريب: قيام السّاعة، بدء السّاعة؛ أي: بدء تهدُّم النظام الكوني الحالي، قريب: ولم يقل قريبة؛ لأنّه يجوز التّذكير أو التّأنيث في سياق الزّمن أو المكان وبما أنّها جاءت في سياق الزّمن فيجوز تذكيرها أو تأنيثها، أمّا إذا جاءت في سياق النّسب والقرابة لا بدّ من أن تؤنث كأن تقول: هذه قريبة لي. وما مناسبة ذكر السّاعة بعد ذكر الكتاب والميزان؟ الجواب: أنزل عليكم الكتاب لتعلموا بما جاء به وتقيموا العدل وتستعدوا للساعة قبل أن تأتيكم بغتة.

ص: 25

سورة الشورى [42: 18]

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} :

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} : كقولهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48، الأنبياء: 38، يس: 48]؛ أي: يطالبون بقدومها استهزاءً وإنكاراً وتكذيباً بها؛ لأنّهم لا يصدّقون بقيامها وينكرون البعث والحساب ولا يستعدّون لها؛ لأنّهم لا يخافونها.

لا يؤمنون بها: لا النّافية لكلّ الأزمنة، يؤمنون بها: يصدّقون بها.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} : كقوله تعالى: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]، الإشفاق: هو الخوف الممزوج بخشية وحذر من أن تقوم السّاعة سواء كانت (القيامة الصغرى أو القيامة الكبرى، وهم مقصّرون في حق ربهم من طاعة أو عبادة أو ألَّا تقبل أعمالهم الصّالحة، أو لا يدرون نتيجة أعمالهم)، ومشفقون: جملة اسمية تدل على الثّبوت؛ أي: إشفاقهم دائم مستمر لا ينقطع.

{وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} : أي أنّها آتية لا ريب فيها فهم يستعدّون لها.

{أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ} : ألا: أداة تنبيه واستفتاح، إنّ الّذين: للتوكيد، يمارون في السّاعة: المراء هو الجدال بعد ظهور وتبيُّن الحق أنّها آتية لا محالة، يجادلون في صحة وقوعها بشكٍّ وريبة.

{لَفِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} : اللام للتوكيد، ضلال بعيد: في تِيهٍ وبُعدٍ عن الحق وطريق الهدى لا يرجى معه عودتهم إلى الصّواب أو التّوبة والإيمان.

ص: 26

سورة الشورى [42: 19]

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ} :

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} : يبرُّ عباده ويواصل نعمه عليهم مؤمنهم وكافرهم برِّهم وفاجرهم، لطيف: صيغة مبالغة على وزن فعيل: كثير اللطف؛ أي: الرّفيق بعباده يوفّق عباده لفعل الخيرات، والعليم بكلّ شيء مهما دقَّ وصغر، وبمكانه وصفاته وأحواله؛ لأنّه كلما دقَّ الشّيء؛ أي: لطف، أصبح صعب الإيجاد والعثور عليه، فهو يعلم دقائق الأمور وخفاياها مهما دقّت وتناهت في الصّغر، ويحسن إلى عباده ويكرمهم، بعباده: الباء للإلصاق والملازمة.

{يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} : أي يوسع الرّزق على من يشاء أو يرزق من يشاء بغير حساب.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.

{الْقَوِىُّ} : ذو القوة المتين، القوة له جميعاً، متين القوى؛ أي: شديد القوى، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء.

{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي يَقهر ولا يُقهر ويَغلب ولا يُغلب والممتنع ولا يحتاج إلى أحد ولا أحد قادر على ضره أو نفعه؛ لأنّه هو الضّار النّافع والمعطي والمانع.

ص: 27

سورة الشورى [42: 20]

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} :

{مَنْ كَانَ} : من شرطية، كان: تشمل كلّ الأزمنة.

{يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} : الحرث يعني بذر الحَبّ في الأرض؛ ليصبح زرعاً وثمراً كما قال تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، أي: من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة، نزد له أو نضاعف له ثوابه.

{وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} : ومن كان يريد بأعماله ثواب الدّنيا، نؤته منها ما نريد وما له في الآخرة من نصيب.

{وَمَا لَهُ فِى الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} : من استغراقية؛ أي: ما له أيُّ نصيب مهما كان، والنّصيب: هو القسم المعين، ويكون في المحبوب والمكروه، أمّا الحظ يكون عادة في الخير أو المحبوب، وأما القسط: الحصة العادلة المبنية على العدل.

وتكرار (من كان يريد) مرتين توكيد لفظي غايته تقرير الحكم في أذهان المخاطبين، وقدّم حرث الآخرة على حرث الدّنيا لأنّه هو الأفضل والأهم.

ص: 28

سورة الشورى [42: 21]

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُا شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{أَمْ} : الهمزة للاستفهام ولتوبيخ مشركي قريش، أم للإضراب الانتقالي.

{شُرَكَاؤُا} : جمع شريك، من الآلهة والأوثان والشّياطين.

{شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} : شرعوا أوجدوا، أو سنُّوا لهم شرائع جديدة: أي طرائق وبدعاً ومناهج في الدّين ما لم يأذن به الله.

{وَلَوْلَا} : حرف امتناع لوجود (امتنع القضاء بينهم لوجود كلمة الفصل).

{كَلِمَةُ الْفَصْلِ} : بإمهال الكافرين وتأخير العذاب عنهم حتّى يوم القيامة.

{لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} : بين الكافرين والمؤمنين وبين المشركين وشركائهم، قضي بينهم في الحياة الدّنيا بدون تأجيل؛ أي: حكم بينهم أو فصل بينهم بإنزال العذاب على المكذبين وإهلاكهم ونجاة المؤمنين.

{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} : للتوكيد؛ أي: المشركين أو الظّالمين لأنفسهم أو لغيرهم.

{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، عذاب أليم، نوع من أنواع العذاب ومنها: العظيم المهين والأليم والشّديد.

ص: 29

سورة الشورى [42: 22]

{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} :

{تَرَى الظَّالِمِينَ} : في الآخرة يوم القيامة (المشركين والّذين ظلموا أنفسهم بالعصيان)، ترى رؤية بصرية بالعين.

{مُشْفِقِينَ} : خائفين حذِرين لا يدرون ما سيفعل بهم.

{مِمَّا كَسَبُوا} : من: ابتدائية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي كسبوا، وما: أوسع شمولاً من الذي، أو مصدرية، مشفقين من كسبهم من جزاء ما كسبوا من السّيئات والآثام والشّرك والكفر، كسبوا في الدّنيا، ولم يقل ما اكتسبوا؛ لأنّ كسبهم أصبح أمراً عادياً وسهلاً ولا يحتاج إلى جهد. كسبوا عادة تأتي في سياق المباح وأعمال الخير، اكتسبوا عادة تأتي في سياق الأشياء المحرمة وأفعال الشّر الّتي تحتاج إلى جهد ومشقة، ارجع إلى سورة البقرة الآية (286) للبيان.

{وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} : وهو تعود على الجزاء والعقاب، واقع بهم؛ أي: نازل بهم لا محالة محيط بهم.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} : جمع روضة، والرّوضة: المكان الكثير الخير والعطاء والبهيج والجميل وأحب الأماكن إلى النّفس.

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : لهم: اللام لام الاختصاص، ما يشاؤون عند ربهم: وفيه ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، عند ربهم: عند ظرف مكان.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، يشير إلى روضات الجنات، جنات الفردوس وجنات عدن وجنات النّعيم وجنات المأوى.

{هُوَ} : للتوكيد.

{الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} : الفضل الإلهي الكبير، والفضل: هو الزّيادة على الأجر أو ما يستحقه العبد زيادة على أجره. والفضل الكبير قيل: هو الدّخول في الجنة؛ أي: الفضل الكامل التّام.

سورة الشّورى [الآيات 23 - 31]

ص: 30

سورة الشورى [42: 23]

{ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، يشير إلى الثّواب والنّعيم (روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم).

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : يُبشر من البشارة: وهي الخبر السّارّ، وتكرار (الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات) يدل على التّوكيد، ولم يقل يُبشر به عباده (به) تعني فقط بشارة واحدة، ولم يقل به؛ لأنّ البشارة لا تقتصر على هذه البشارة، فهناك بشارات أخرى مختلفة لم تذكر في هذه الآية.

{قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى} : أي أجراً على تبليغ الوحي أو القرآن أو ما أنزل الله، إلا: أداة حصر، المودة في القربى: أي أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم، وقد تعني: ألا تؤذوني في قرابتي؛ أي: تودوا قرابتي حتّى أبلّغ رسالتي، أو تكفّوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى النّاس حتّى أبلّغ رسالتي.

{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} : من: بمعنى الذي، وتشمل المفرد والمثنى والجمع، والذكر والأنثى؛ يقترف: أي: ومن يكتسب حسنة (بالقول أو الفعل). ولتعريف الحسنة: ارجع إلى سورة فصلت آية (34). والاقتراف: يعني الاكتساب، ويأتي في سياق الحسنة أو السيئة؛ أي: الحسنات والسيئات.

{نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} : أي نضاعفها له. مضاعفة الحسنات: هي الزّيادة في حسنها.

{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.

{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة من غافر: من الغفر؛ وهو السّتر، وكلّ شيء ستره فقد غفره؛ أي: يستر الذّنوب ويعفو عنها، كثير المغفرة يغفر الذّنوب مهما عظمت وكثرت إلا الشّرك والكفر المصحوب بغير توبة.

{شَكُورٌ} : صيغة مبالغة من شكر: شكور؛ يعني: يثيب عباده على طاعتهم، ويقبل العمل القليل ويعطي الثّواب الكبير.

ص: 31

سورة الشورى [42: 24]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

{أَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ، وأم للإضراب الانتقالي.

{يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : أي الّذين كفروا من قريش يقولون: إنّك تفتري على الله كذباً، كذباً: نكرة لا يدل على شيء معيّن من الكذب، وإنما تشمل كلّ أنواع الكذب، ولو قال تعالى افترى على الله الكذب، فهذا يشير إلى كذب معيّن، وكذباً بصيغة التّنكير تشمل كلّ الكذب.

{فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} : فإن: الفاء للتوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض أو الشّك، يشأ الله يختم على قلبك، الختم: أقل شدة من الطبع، والطبع: يأتي في سياق الشر؛ أي: لو افتريت على الله كذباً مهما كان نوعه لختم الله على قلبك بأن يُنسيك القرآن أو يجعلك غير قادر على الافتراء، وفي آية أخرى مماثلة:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-47].

{وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} : أي ولو افتريت أي باطلاً فإنّ الله قادر على إزالته ومحوه محواً تاماً وإقامة الحق.

{وَيُحِقُّ الْحَقَّ} : مكان الباطل؛ أي: يثبت الحق، والحق: هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير أو يتبدل.

{بِكَلِمَاتِهِ} : بما يُنزل في القرآن أو بالحجج والبراهين وبالآيات.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : إنّه للتوكيد، عليم: صيغة مبالغة: كثير العلم.

ذات الصدور: ارجع على سورة آل عمران آية (119) للبيان.

ص: 32

سورة الشورى [42: 25]

{وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} :

{وَهُوَ} : تعود على الله سبحانه واجب الوجود، تفيد الحصر والتّوكيد.

{الَّذِى} : للتعظيم.

{يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} : القبول: هو أخذ الشّيء برضا؛ أي: يقبل التّوبة، وقبول التوبة كأنها صفة خاصة به سبحانه، وهي: الكفُّ عن المعصية وعدم الرّجوع إليها، والنّدم عليها والإكثار من النّوافل وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، عن عباده: ولم يقل من عباده؛ أي: يقبل التّوبة الصّادرة عن عباده؛ أي: يقبل التّوبة نفسها لأنّه سبحانه قد يقبل التّوبة أو يرفضها. وعن: تعني الإبعاد؛ أي: يبعد عنهم سيئاتهم؛ أي: يمحوها ولو قال تعالى يقبل التوبة من عباده لكانت تعني يقبل التوبة من الجهة المصدرة للتوبة؛ أي: من العبد، وحين يقبلها سبحانه يعني يقبلها نفسها، ومن الجهة المصدرة لها؛ أي: من العبد.

{وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} : أي: يعفو عن أصحاب السيئات (عفو مطلق)، والسيئات: جاءت معرفة بأل التعريف. قيل: الصّغائر، ومنهم من قال: الصّغائر والكبائر، والعفو: ترك العقوبة؛ أي يمحوها ولا يعاقب عليها. وانظر: إلى كيفية كتابة يعفو بالواو في هذه الآية، والآية (30) كذلك من نفس السورة، بينما في الآية (34) من نفس السورة جاءت (يعف) بدون واو، والسبب أنها مجزومة بحذف الواو؛ لأنها جاءت معطوفة على الشرط.

{وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} : من خير وشر. انظر: كيف انتقل من صيغة الغيبة إلى صيغة المخاطب، وقال: ويعلم ما تفعلون للتحذير وللفت الانتباه للتوبة، وعدم العودة إلى فعل السيئات.

ص: 33

سورة الشورى [42: 26]

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} :

{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ويستجيب الله سبحانه دعاء الّذين آمنوا لما طلبوه ودعوه، وقيل: السّين والتّاء في (يستجيب) للتأكيد، بمعنى: أجاب الله الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتدل على التّجدد والتّكرار.

{وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} : أي يجيبُ الله الّذين آمنوا ويعطيهم ما سألوه ويزيدهم من فضله على ما يستحقّونه تفضّلاً منه وتكرّماً.

{وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} : لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق. لهم عذاب شديد: نوع من أنواع العذاب الّذي لا يُطاق في جهنم.

ص: 34

سورة الشورى [42: 27]

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} :

{وَلَوْ} : الواو استئنافية، لو: شرطية.

{بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ} : بسط: وسّع ومدَّ لعباده: اللام لام الاختصاص، لَبَغوا في الأرض: اللام لام التّعليل والتّوكيد، لَبَغوا: من البغي: وهو أخذ حق الغير بقهر وقوة وتعسُّف؛ ويعني: الظّلم والفسق والفساد في الأرض والكِبر والتّبذير.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك.

{يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} : أي بتقدير حسب ما تقتضيه حكمته الرّبانية جلّ شأنّه، كقوله:{وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرّعد: 8]، وكقوله:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].

{إِنَّهُ} : للتوكيد، بعباده: الباء للإلصاق.

{خَبِيرٌ} : يعلم بواطن أحوالهم، ويعلم ما هو أصلح لهم وأنفع لحياتهم ودنياهم وآخرتهم.

{بَصِيرٌ} : يعلم ظواهر أحوالهم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (31) في سورة فاطر، وهي قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} نجد زيادة اللام في لخبير، التي تفيد التوكيد؛ لأن السياق في آية فاطر في الكتاب وإقام الصلاة والإنفاق، أما في آية الشورى: في بسط الرزق.

ص: 35

سورة الشورى [42: 28]

{وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ} :

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر، يعود على واجب الوجود وحده.

{الَّذِى} : يفيد التّعظيم.

{يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} : أي: المطر المنزل من السماء؛ أي: من السّحاب، والغيث الماء المنزل الذي يحمل معه الخير والنّفع وسمي غيثاً؛ لأنّه يغيث النّاس من الجدب والقحط، وأما كلمة المطر في القرآن تأتي في سياق العذاب والشّر والفيضانات والغرق، وكلمة الغيث تأتي في سياق الخير والنفع، ينزل: بصيغة المضارع الّتي تدل على التّجدد والتّكرار.

{مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} : القنوط هو شدة اليأس، من: ابتدائية، قنطوا من شدة القحط، قنطوا من رحمة الله تعالى.

{وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} : الرّحمة قيل: هي جلب ما يسُرُّ ودفع ما يضرُّ وتشمل الغيث والصحة والغنى والأمن وغيرها.

{وَهُوَ} : يفيد التّوكيد.

{الْوَلِىُّ} : القيّم على أمور الخلائق والمدبّر أمورهم، والمعين لأوليائه ومحبّهم.

{الْحَمِيدُ} : مشتقة من الحمد، المحمود بحق في كلّ الأحوال من أهل السّموات والأرض، مستحق الحمد أهل الثّناء له الحمد كلّه لبرّه وخيره وإحسانه ورحمته، وله الحمد على خلقه وشرعه ودينه وهدايته وثوابه. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2).

ص: 36

سورة الشورى [42: 29]

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} :

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ومن: بعضية، آياته الدّالة على أنّه الإله الحق، والدّالة على كمال قدرته وعظمته، خلق السّموات والأرض: ارجع إلى سورة فصلت الآيات (9-12)، وسورة الأنبياء آية (30)، وسورة الأعراف آية (54) للبيان، ونسبة الآيات له تدلّ على عظمتها وتشريفها وكونها آيات كبرى.

{وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} : (أي السّموات والأرض)، بثّ: نشر ووزّع خلقه في كلّ أقطار الأرض، ونشر الملائكة في كلّ أقطار السّموات، وإذا قارنا هذه مع الآية (4) في سورة الجاثية، وهي قوله تعالى:{وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} نجد أن يبث: فعل مضارع يدل على التجدد، والتكرار، والاستمرار في البعث، بينما آية الشورى (بث) فعل ماض تدل على الماضي؛ أي: ابتداء الخلق؛ أي: ابتداء البعث.

{مِنْ دَابَّةٍ} : من للعاقل، دابّة: كلّ من يدبّ على الأرض من إنس وجن وحيوان وفي السّماء من الملائكة، وهناك من قال فيهما: تعني في إحداهما من دابّة؛ أي: الأرض، وهذا يسمى نسبة الشّيء إلى الكلّ والمراد البعض، كقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} والمقصود يخرج من أحدهما وهو المالح، وهناك من قال: دابة تعني الحيوان فقط ولا تعني الإنس والجن.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد ويعود على الله سبحانه.

{عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ} : إذا: ظرفية بمعنى حين يشاء؛ أي: في أيّ زمن أو حين يشاء، يوم الجمع: أي يوم الحشر أو يوم القيامة.

{قَدِيرٌ} : صيغة مبالغة من قادر؛ أي: ذو القدرة، القادر على كلّ شيء في السّموات وفي الأرض فلا يعجزه شيء، والقادر: أي المسيطر على الكون وعلى مخلوقاته بقدرته المطلقة.

ص: 37

سورة الشورى [42: 30]

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما شرطية.

{أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ} : من استغراقية تشمل كلّ مصيبة؛ أي: مرض أو حادثة طارئة أو بلاء في الدّنيا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات أو الخوف أو عقوبة.

{فَبِمَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، الباء سببية أو بدلية، ما بمعنى الّذي.

{كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} : أي بسبب السّيئات الّتي اقترفتموهما؛ أي: هي كفارات لذنوبكم. ارجع إلى سورة الحديد الآية (22)، وسورة التغابن الآية (11) لمقارنة الآيات التي وردت في المصائب مع آية الشورى.

{وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} : عن كثير من المعاصي فلا يعاقب عليها، وقد يكون: ما أصابكم من مصيبة أيضاً بغير ذنب وإنما لزيادة الأجر ورفع درجاتكم وكلّ ما يصيب المؤمن من خير أو شر هو خير له في النهاية؛ لكي تحط عنه خطاياه وترفع درجاته إذا صبر واحتسب.

ولنقارن قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} و: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشّورى: 48]، المصيبة قد تكون نتيجة ما كسبت الأيدي أو قدّمت، كسبت تأتي في سياق آيات الكسب؛ لذلك ننظر إلى ما قبلها وما بعدها من الآيات إذا فيها كسب تأتي: كسبت أيديكم، وإذا ليس فيها كسب تأتي: قدمت أيديهم.

ص: 38

سورة الشورى [42: 31]

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} :

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ} : الواو عاطفة، ما النّافية أقوى نفياً من ليس وتنفي الحال عادة وقد تنفي الماضي والمستقبل، بمعجزين في الأرض: الباء للتوكيد، معجزين في الأرض: أي بفائتين من العذاب بالهرب أو الاختفاء.

{وَمَا لَكُمْ} : تكرار (ما) يفيد توكيد النّفي، لكم: لام الاختصاص.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله، من سوى الله.

{مِنْ وَلِىٍّ} : من استغراقية، وليّ: معين وقريب تلقون إليهم بالمودة.

{وَلَا نَصِيرٍ} : تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي، نصير: ينصركم من دون الله بالقوة أو الإمداد أو العدة أو العتاد، أو ينصركم من عذاب الله بالدّفع أو الشّفاعة.

لا ولي ولا نصير ولا كلاهما معاً. لنقارن هذه الآية (31) من سورة الشّورى وهو قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، والآية (22) من سورة العنكبوت وهي قوله:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} :

في سورة العنكبوت أضاف السّماء؛ لأن التحدي أشد يشمل من في السماء؛ أي: الملائكة. ارجع إلى سورة العنكبوت الآية (22) للمقارنة ومعرفة السّبب.

ولنقارن قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشّورى: 31] مع قوله تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشّورى: 8].

الفرق هو حين يضيف (من دون الله) تكون الآية في سياق الحياة الدّنيا، وحين لا يضيف (من دون الله) تكون الآية في سياق الآخرة؛ لأنّه في الآخرة ليس هناك سوى الله تعالى حتّى نتّخذه ولياً أو نصيراً.

سورة الشّورى [الآيات 32 - 44]

ص: 39

سورة الشورى [42: 32]

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} :

{وَمِنْ آيَاتِهِ} : ومن بعضية، بعض آياته الدّالة على كمال قدرته وعظمته وخلقه، وإضافة الآيات إليه بقوله: آياته، تدل على عظمتها وتشريفها وبديع وصفه.

{الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} : أي السّفن الكبيرة، وسميت (الجوار) لكونها تجري على الماء، توصف بالجاريات، واسمها: العلم الجوارِ، وشبّهها بالأعلام: أي كالجبال، والجبل سمّي علماً؛ لأنّه يستعمل كعلامة يُهتدى بها على الأرض كما أنّ العَلَم يشير إلى الدّولة، وها نحن نرى اليوم السّفن الّتي تضم الطّوابق العديدة والغرف وتحمل آلاف المسافرين، وتحمل الطّائرات الحربية ومدرجاتها كأنّها الجبال الشّامخات والحاملة لآلاف الأطنان من المتاع.

ص: 40

سورة الشورى [42: 33]

{إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} :

{إِنْ يَشَأْ} : إن: شرطية تفيد الاحتمال والافتراض، يشأ: إن يرِدْ سبحانه وتعالى. والمشيئة: هي بدء العزم على الفعل، والإرادة: هي تمام العزم على القيام بالفعل.

{يُسْكِنِ الرِّيحَ} : أي يهدِّئ الرّيح فلا تهبّ ولا تعصف، والرّيح لم ترد في القرآن إلا عذاباً؛ أي: في سياق الشّر والأذى، بخلاف الرّياح الّتي تحمل معنى الرّحمة والنّفع.

{فَيَظْلَلْنَ} : الفاء تدل على التّعقيب والمباشرة، يظللن: تعود على الجوار في البحر.

{رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} : تجري بسكون كأنّها لا تتحرك، أو تشعر بحركتها رغم سرعتها العالية، فماء البحر راكد؛ أي: ساكن، والسّفن رواكد على ظهر البحر، ولم يقل مستقرات أو ثابتات؛ لأنّ ذلك يعني أنّهن راسيات على الشّاطئ.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} : إنّ واللام في كلمة (لآيات) تفيدان التّوكيد؛ أي: هذه السّفن الهائلة الحجم من النّعم الكبيرة الّتي تحتاج لشكر كثير دائم لا ينقطع؛ أي: شكور (مبالغة في الشّكر) شكر المنعم على نعمه الكثيرة فالجري وتسكين الرّيح والسّفن نفسها، وما تحمل من بشر ومتاع كلّها آيات تحتاج إلى شكر كثير، وكذلك إلى صبر وليس صبر عادي (بل صبّار) صبر كثير وذلك حين تعصف الرّيح أو حين صناعتها. وقدم الصبر على الشكر؛ لأن الصبر على الشدائد والكرب يسبق الشكر، والصبر نفسه يحتاج إلى شكر.

ص: 41

سورة الشورى [42: 34]

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} :

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} : أو: تعني للتقسيم؛ أي: يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظهره، أو يوبقهن: مشتقة من أوْبقه: حبسه أو أهلكه، يوبقهن: يغرقهن.

{بِمَا كَسَبُوا} : الباء باء السّببية أو البدلية، ما: تعني الّذي أو مصدرية؛ أي: يوبقهن بما كسبوا من الذّنوب والآثام؛ أي: ارتكبوا من المنكرات وهم على ظهر تلك السّفن، أو كسبت أيديهم سابقاً حين كانوا في البر.

{وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} : عن تفيد المجاوزة والمباعدة، ويعفُ: سبحانه فلا يعاقب على الكثير من الذنوب؛ أي: يعفو عن ذنوبهم وآثامهم فلا يعاقبهم عليها لعلّهم يتوبون، أو يُهلك أناساً ويُنجي أناساً بالعفو عنهم.

ص: 42

سورة الشورى [42: 35]

{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} :

{وَيَعْلَمَ} : الواو عاطفة، يعلم الّذين يجادلون في آياتنا: أي المكذّبون أو المنكرون الجاحدون بالله وآياته.

{يُجَادِلُونَ} : من الجدال وهو حوار بين طرفين أو أطراف لإثبات حق أو إظهار حجة، أو دفع شبهة، والجدال أشد من الحوار حدّةَ ومخاصمة.

{فِى آيَاتِنَا} : الكونية أو المعجزات أو الآيات القرآنية أو الدّلائل والبراهين على البعث والحساب والآخرة، وأنّ الله هو الإله الحق المستحق للعبادة، ويعلم الّذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص: والسّؤال متى يحدث هذا العلم؟ قيل: هناك احتمالان: الأوّل: قبل موتهم وغرقهم، والثّاني: إذا عفى عنهم وبقوا أحياء يعلمون قدرة الله وعظمته فيكون هذا تحذيراً لهم وإيقاظاً لهم من سباتهم والتّوبة والرّجوع إلى الله، أو إذا استمروا على ما هم عليه من كفر وجحود يعلمون أن ليس لهم مهرب أو ملجأ إذا يشاء الله أن يهلكهم، سواء كانوا في البر أو البحر.

{مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} : ما النّافية، لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، من: استغراقية، محيص: مهرب أو ملجأ أو منفذ فمشيئة الله تعالى نافذة لا محالة، وتكون بهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين، أو هلاك الكلّ أو نجاة الكلّ حسب ما تقتضي الحكمة الإلهية.

ص: 43

سورة الشورى [42: 36]

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} :

{فَمَا} : الفاء استئنافية، ما شرطية، وإذا قارنا هذه {فَمَا أُوتِيتُمْ} مع الآية (60) في سورة القصص، وهي قوله تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ} نجد أن الاختلاف في حرف (الفاء) وكلمة الزينة، والسبب يعود إلى أن آية الشورى جاءت في سياق {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فحذف منها وزينتها؛ لأن الذين آمنوا لا يفترون بالزينة، وأضاف حرف الفاء؛ لأن ما قبلها يتعلق بما بعدها، وأما آية القصص جاءت في سياق الذين يفترون بالحياة الدنيا وزينتها، والواو: استثنائية (كلام جديد) أو آية جديدة.

{أُوتِيتُمْ مِنْ شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أوتيتم من الإتياء؛ وهو العطاء بدون تملّك، ويمكن استرداده، والإيتاء أعمّ من العطاء، من: استغراقية تستغرق كلّ شيء من مال ومسكن وملبس ومركب ونكاح، فمتاع الحياة الدّنيا: الفاء رابطة لجواب الشّرط، متاع الحياة الدّنيا: هو ما ينتفع به الإنسان في حياته، وهو متاع مؤقّت وزائل أو زهيد بالنّسبة لما في الآخرة من نعيم دائم وباقٍ، ارجع إلى سورة القصص الآية (60) للبيان والمقارنة.

{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} : من نعيم، خير وأبقى: لأنّه نعيم دائم لا ينقطع ولا ينفد.

{لِلَّذِينَ} : اللام لام الاختصاص، الّذين: اسم موصول يفيد المدح.

{آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : أي ما عند الله خير وأبقى لهؤلاء الّذين آمنوا بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر وعلى ربهم يتوكلون؛ ارجع إلى سورة الأعراف الآية (89) لبيان معنى التوكل؛ ثم وصفهم بعشر الصفات التّالية في الآيات (36-39) وهي:

1 -

الإيمان.

2 -

التّوكل.

3 -

اجتناب كبائر الإثم.

4 -

الفواحش.

5 -

عدم الغضب والمغفرة لمن أساء إليهم.

6 -

استجابوا لربهم في كلّ ما دعاهم إليه.

7 -

أقاموا الصّلاة.

8 -

أمرهم شورى بينهم.

9 -

مما رزقناهم ينفقون.

10 -

إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.

آمنوا بربهم وبرسله وملائكته واليوم الآخر.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} : التّوكل يعني: رد الأمر إلى من يملك تدبير كلّ الأمور راجياً عونه وتيسيره وتوفيقه للوصول إلى الغاية. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان في التّوكل.

ص: 44

سورة الشورى [42: 37]

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} :

{وَالَّذِينَ} : الواو عاطفة، الّذين: اسم موصول.

{يَجْتَنِبُونَ} : الاجتناب: أشد من التّحريم؛ ويعني ليس فقط عدم فعل الكبائر والفواحش بل حتّى الاقتراب منها، ويجتنبون: بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدد وتكرار تجنّبهم وليس فقط مرة واحدة.

{كَبَائِرَ الْإِثْمِ} : جمع كبيرة؛ أي: كلّ ما يوجب الحد كالقتل العمد والسّرقة والقذف والشّرك.

{وَالْفَوَاحِشَ} : كالزّنى وشرب الخمر، وقيل: كبائر الإثم تعني الفواحش، وهذا يسمى عطف الخاص على العام.

{وَإِذَا} : ظرف زماني بمعنى حين.

{مَا غَضِبُوا} : ما للتوكيد، غضبوا من الغضب: هو الانفعال النفسي الناجم عن عدم الرضا عن شيء، أو أمر لحقه من الغير ومعاقبته، ويظهر آثاره على الجوارح.

{هُمْ يَغْفِرُونَ} : يعفون ويغفرون لمن أساء إليهم وأغضبهم؛ أي هم من الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس، ويغفرون بصيغة المضارع؛ لتدل على الاستمرار والتّكرار والتّجدد.

ص: 45

سورة الشورى [42: 38]

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} :

{وَالَّذِينَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (37) وتكرار (الّذين) يفيد التّوكيد والمدح.

{اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} : لما دعاهم إليه من التّوحيد والإخلاص وإطاعة أوامره وتجنّب نواهيه، استجابوا: فيها السّين والتّاء تفيدان التّوكيد؛ أي استجابوا بحرص وتلهّف واجتهاد.

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : أدّوها على أوقاتها وخشوعها وأركانها وشروطها وسننها وطهارتها.

{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} : من التّشاور وهو تبادل الآراء لمعرفة الصّواب والأفضل، وكلمة الشّورى مشتقة من فعل: شار، وشار العسل؛ أي: استخرجه من الخلية فكأن عملية الشّورى عملية لاستخراج أطيب وأفضل النتائج. والشورى عبادة ومنهج تسد باب الخلاف للحفاظ على وحدة الأمة أو المجتمع. ووردت كلمة الشّورى في آيتين هذه الآية والآية (159) من سورة آل عمران.

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : مما (من + ما) من بعضية، ما بمعنى اسم موصول، ينفقون: أي الإخراج من مال الملك ومن الطّيب ينفقون في سبيل الله، ونرى قوله تعالى:(استجابوا لربهم وأقاموا الصّلاة وأمرهم شورى بينهم) جاء بصيغة الماضي؛ لأنّ الاستجابة وإقامة الصّلاة وأمرهم شورى تحدث في أوقات معينة ومحددة، بينما التّوكل واجتناب الإثم والفواحش والغفران والإنفاق أمور تتجدد وتتكرر فجاءت بصيغة المضارع.

ص: 46

سورة الشورى [42: 39]

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} :

{وَالَّذِينَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (37) للبيان، وتكرار (الّذين) تفيد التّوكيد والمدح.

{إِذَا} : ظرفية زمانية بمعنى حين.

{أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ} : الظّلم والجور؛ أي: إذا تعرضوا للظلم والاعتداء كانوا قادرين على استرداد حقوقهم بدون اعتداء على حقوق غيرهم ولا يقبلون الذّل والإهانة.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{يَنْتَصِرُونَ} : يغلبون باتباعهم الحق وما شرع الله لهم ورسوله وبتأييد الله سبحانه لهم بسلطان القوة أو الحكمة والحلم والصبر.

ص: 47

سورة الشورى [42: 40]

{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} :

{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} : الجزاء: العقاب، القصاص وهل جزاء السّيئة؛ السيئة في هذه الآية: لا تعني السيئة الشرعية؛ أي: ضد الحسنة، وإنما تعني: جزاء المسيء العقوبة؛ لأنّه سبحانه يقول: ادفع بالتي هي أحسن، وجزاء السّيئة تكون سيئة بالنّسبة لمن وقعت عليه؛ أي من ارتكب سيئة يجب أن يعاقب عليها بسيئة مثلها أو بما أوجبه الله تعالى كما قال:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45].

والسّيئة كلّ ما يسيء إلى النّفس مثال: السّارق حين يسرق يرتكب سيئة نضرب على يديه فذاك يعتبر سيئة على السّارق، فهو قام بسيئة وعوقب بسيئة مماثلة فهذه هي المرتبة الأولى مرتبة العدل وأحسن وأفضل من ذلك مرتبة الفضل وهي: فمن عفا وأصلح فأجره على الله.

{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : فمن: الفاء للتوكيد، من شرطية، عفا وأصلح: عفا عن ظالمه؛ أي: سامحه فأجره إلى الله، فالله سبحانه يعفو عن سيئاته ويثيبه على عفوه عن أخيه، وأصلح: ما بينه وبين ظالمه بالدّفع بالّتي هي أحسن {فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وغيرها من وسائل الإصلاح.

{فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : الفاء جواب الشّرط، أجره على الله: ثواب عمله على الله حتماً، وهذا وعد فيه خير وقد يكون الأجر محوَ سيئاته أو كبائره أو النّجاة من النّار والفوز بالجنة، فالعفو والإصلاح خير له وأبقى من مرتبة العدل والانتقام وشفاء لما في الصّدور.

ويجب الانتباه إلى هذه الملاحظة وهي: إذا كان الظّالم أو الجاني لا يستحق العفو؛ لأنّه فعل ذلك سابقاً مراراً وتكراراً وكانت المصلحة العامة والشّرعية تفضل ذلك، فعندها لا يعفو عنه والأفضل القصاص منه والعقاب.

{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} : إنّه للتوكيد، والهاء تعود على الله سبحانه، لا: النّافية، يحب الظّالمين: أي لا يعاقبون الجاني أو الظّالم بأكثر من جنايته أو بأكثر مما أوجبه الله، فالزّيادة ظلم والله سبحانه لا يحب الظّالمين.

ص: 48

سورة الشورى [42: 41]

{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبِيلٍ} :

{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} : اللام في (لمن) للتوكيد، من: اسم موصول بمعنى الّذي أو شرطية؛ أي إذا كان الظّالم لا يستحق العفو أو لا ينفع العفو عنه؛ لأنّه لم يتُب في السّابق ويتكرر ظلمه وفساده عندها يعاقب الظّالم بمثل ما فعل أو قوبل الظّالم بمثل فعله.

والسّؤال هنا: لماذا سمي ذلك انتصاراً ومدح المنتصرين؟ لأنّ معاقبة الظّالم والمتكبر والمفسد الّذي يخاف منه النّاس وردعه عن ظلمه أو الانتقام منه يعتبر نصراً، وأفضل من أن يسمى عفواً.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء للتوكيد، أولئك: اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب؛ أي: للذين انتصروا بعد ظلمهم ولمن ينصرونهم.

{مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبِيلٍ} : أي ما عليهم من حرج أو إثم أو مؤاخذة أو لوم على ما فعلوه.

ص: 49

سورة الشورى [42: 42]

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} : إنما الإثم والمؤاخذة أو اللوم أو العقوبة تقع على الّذين يبدؤون بالظّلم.

{وَيَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : البغي هو مجاوزة الحدّ ظلماً أو كبراً أو فساداً، والبغي: هو أخذ حق الآخرين بالقوة والتّعسُّف والقهر وبغير الحق، وهل هناك بغي بحق؟ نقول: نعم إذا كنت وكيلاً أو وصياً على سفيه يبذر وينفق أمواله في المحرمات، عندها تأخذ أموال السّفيه منه وتمنعه من التّبذير. ففي الظّاهر تأخذها بغير الحق وفي الباطن أخذها بحق؛ لأنّه يصبّ في مصلحة السّفيه أو الّذين يفسدون في الأرض بالإجرام والظّلم والشّرك، يظلمون ويبغون بصيغة المضارع؛ أي: أنّ أفعالهم هذه تتكرر وتتجدد ولا يكفّون عن فعل ذلك.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد وتفيد الذّم.

{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي شديد الإيلام لا يطاق يوم القيامة أو في النّار، إذن نفى في الآية (41) السّبيل عن المنتصر وأثبت السّبيل؛ أي: الإثم والذنب والعقاب في هذه الآية على نوعين من النّاس الّذين يظلمون النّاس والّذين يبغون في الأرض بغير الحق.

ص: 50

سورة الشورى [42: 43]

{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} :

{وَلَمَنْ} : اللام للتوكيد، من شرطية.

{صَبَرَ} : على الظّلم ولم يؤذِ أخاه المسلم، ولم ينتصر وهو قادر على أن ينتصر لنفسه.

{وَغَفَرَ} : ستر الظّالم ولم يفضحه ابتغاءَ وجه الله، وفوّض أمره إلى الله محتسباً إلى الله تعالى لعلّ الظّالم يرتدع ويعود إلى صوابه ويتوقف عن غيّه وفساده وظلمه بمعاملتك له بالحسنى.

{إِنَّ ذَلِكَ} : إن: للتوكيد، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد، ذلك الصّبر والغفر.

{لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : أي من الأمور العظيمة الّتي تحتاج إلى عزم وإرادة وقوة (عزيمة قوية لا تنفد) ولا يستطيع القيام بها إلا أولو العزم وأولو الألباب، والتّدرج يكون من الأدنى إلى الأعلى كما يلي: من أساء إليك وظلمك كيف تقابله:

1 -

تعفو عنه.

2 -

وتصبر على أذاه.

3 -

تصفح عنه ولا تذكره بما فعل.

4 -

تدعو له بالإصلاح والهداية.

لنقارن هذه الآية (43) من سورة الشّورى وهي قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مع الآية (17) من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} : في آية الشّورى ذكر صفتين مطلوبتين: الصّبر والغفران (ولمن صبر وغفر)، في آية لقمان ذكر صفة واحدة مطلوبة وهي: الصّبر (واصبر على ما أصابك). وكذلك في آية الشّورى ذكر فيها الإساءة والأذى والظّلم الحاصل من الظّالم أو الجاني، بينما في آية لقمان وهي عبارة عن وصية أب لابنه لم يذكر فيها أيّ أذى أو إساءة، ولذلك أكّد في آية الشّورى فقال: إن ذلك لمن عزم الأمور (أكد باللام) بينما في آية لقمان لم يؤكد فقال: إنّ ذلك من عزم الأمور.

ص: 51

سورة الشورى [42: 44]

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِىٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} :

{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من شرطية.

{يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِىٍّ مِنْ بَعْدِهِ} : أي من اختار لنفسه طريق الضّلالة وسعى إليها واستمر على ذلك، وفرح بها ولم يتُب ولم يعد هناك أملٌ في عودته إلى طريق الرّشاد والتّوبة، فما له: الفاء للتوكيد، له: اللام لام الاختصاص، من وليّ من بعده: من استغراقية، وليّ من بعده: أي من بعد الله، قادر على هدايته؛ أي: لن يجد أيّ وليّ يتولاه، يتولى أمره من قريب أو بعيد ويُعينه على العودة والإنابة إلا الله.

{وَتَرَى الظَّالِمِينَ} : رؤية بصرية يوم القيامة، الظّالمين: المشركين الكافرين بالله، والمكذبين بالبعث والآخرة والظّالمين أنفسهم بالمعاصي والفساد وصدّ النّاس عن دين الله، ومحاربة دين الله.

{لَمَّا} : ظرف زماني بمعنى حين.

{رَأَوُا الْعَذَابَ} : رأوا بصيغة الماضي بدلاً من المستقبل، كأنّ العذاب حدث وانتهى.

{يَقُولُونَ} : عند رؤية العذاب وجهنم.

{هَلْ} : استفهام يحمل معنى الاستبعاد والنّفي.

{إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} : هل إلى مردٍّ إلى الدّنيا من سبيل، من استغراقية؛ أي: أليس هناك طريق أو وسيلة نسلكها للعودة للدنيا لنؤمن بالله ونعمل صالحاً من سبيل تشمل: الملجأ أو سبيل إلى الهداية، كقولهم:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] وكقولهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27].

سورة الشّورى [الآيات 45 - 51]

ص: 52

سورة الشورى [42: 45]

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُقِيمٍ} :

{وَتَرَاهُمْ} : تعود على الظّالمين والمشركين والكافرين، وغيرهم من المكذبين بالبعث والحساب.

{يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} : على النّار، والعرض نوعان: هم يعرضون عليها كما في هذه الآية، أو هي تعرض عليهم كما في قوله تعالى:{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]، والعرض من عرض: أي ظَهرَ، وعرضته له: أظهرتُهُ له وأبرزته إليه، فهم يعرضون كالسّلعة الّتي تعرض وجهنم المشتري، أو بالعكس جهنم هي السّلعة وهم المشترون.

{خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} : الخشوع هو الخضوع من الذّل والانكسار والضّعف أو العجز.

{يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِىٍّ} : الطَّرف: العين، ويعني كذلك تحريك الجفن عن الجفن بالانفتاح؛ أي يسترِقون النّظر ويحاولون عدم النّظر إلى النّار بملء أعينهم من شدة خوفهم وذلّهم؛ أي: كأنّهم لا يريدون أن يعرف أحد أنّهم ينظرون إلى النّار، من: ابتدائية.

{وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أي: وقال الّذين آمنوا يوم القيامة حين يرون الظّالمين في تلك الحالة من الذّل والهوان، وهم يعرضون على النّار: إنّ الخاسرين الّذين خسروا أنفسهم؛ بأن أوردوها النّار بسبب كفرهم وشركهم وأهليهم يوم القيامة فإن كان أهلوهم من أصحاب الجنة، فلم يعودوا يرونهم وحُرموا منهم، فذلك خسارة لكلا الطّرفين، وإن كان أهلوهم من أصحاب النّار؛ فلأنّهم اتبعوهم واقتدوا واهتدوا بهديهم، فالكلّ سواء في النّار.

{أَلَا} : أداة تنبيه واستفتاح، وهذا الجزء من الآية هو تتمة كلام المؤمنين أو تصديق من الله لهم.

{إِنَّ الظَّالِمِينَ} : إنّ للتوكيد، الظّالمين: المشركين والظّالمين لأنفسهم بكسب المعاصي وظلم الآخرين. والخروج عن منهج الله.

{عَذَابٍ مُقِيمٍ} : عذاب دائم لا ينتهي ولا يخفّف.

ص: 53

سورة الشورى [42: 46]

{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} :

{وَمَا كَانَ لَهُمْ} : الواو استئنافية، ما النّافية، كان: تشمل كلّ الأزمنة، لهم اللام لام الاختصاص.

{مِّنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ} : من استغراقية، أولياء: جمع ولي معين يمنعهم من عذاب الله أو ينقذهم أو يشفع لهم.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله سبحانه.

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} : من شرطية، يضلل الله: الله لا يُضلّ أحداً أبداً، وتعني: إذا هم اختاروا طريق الضّلال والابتعاد عن دين الله واستمروا في ذلك وتمادوا في ضلالهم، ولم يعُد هناك أملٌ في توبتهم، فعندها لن يجدوا لهم من سبيل يسلكونه إلى التّوبة أو الرّجعة والنّجاة من النّار.

{فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} : الفاء جواب الشّرط، ما النّافية، من استغراقية، سبيل: ملجأ أو هاد يهديه أو طريق يوصله إلى الغاية (الهداية أو الجنة).

ص: 54

سورة الشورى [42: 47]

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَّكِيرٍ} :

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} : أي أدّوا أو أطيعوا ما أمركم ربكم به ورسوله بالقول والفعل، أطيعوا الله وأطيعوا رسوله، استجيبوا: السّين والتّاء للتوكيد، واستجيبوا ليس فيها معنى الاختيار (القبول أو الرّفض).

كما لو قال: أجيبوا؛ فيها معنى القبول أو الرّفض، فالاستجابة فيها معنى القبول فقط؛ أي: يجيبك من طلبت منه ما طلبته ويحقّقه لك؛ أي: استجيبوا لربكم لما طلب منكم وحقّقوه، لربكم: اللام لام التّوكيد والاستحقاق؛ أي الاختصاص.

{مِنْ قَبْلِ} : من ظرفية زمانية، قبل: كسر اللام لا تدلّ على زمن معين، ولو قال من قبلُ بضم اللام تدلّ على زمن معين.

{أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} : أن للتوكيد، يأتي يوم لا مردّ له من الله: أي هو يوم القيامة الكبرى، أو قد يكون يوم الموت يوم القيامة الصّغرى، لا مردّ له من الله: لا النّافية للجنس، أي لا يردّه الله بعد أن حكم به؛ أي: إذا أتى لا يُردّ، لا يُلغيه، ولا يُوقف، أو لا يقدر أحد على ردّه؛ أي: منعه.

{مَا لَكُمْ} : ما: النّافية، لكم: اللام لام الاختصاص، تكرار (ما) لتوكيد النّفي.

{مِنْ مَّلْجَإٍ} : من استغراقية، ملجأ: اسم مكان يُلجأ إليه عند الحاجة والضّرورة ملجأ للأمن أو ملاذ أو حصن، ما لكم من مكان كالنّفق أو المغارة أو المُدخل تفرّون إليه للنجاة والخلاص من العذاب.

{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة (يوم البعث) أو يوم القيامة الصغرى.

{وَمَا لَكُمْ مِنْ نَّكِيرٍ} : كالسّابقة، من: استغراقية تشمل كلّ نكير، نكير: كالقناع الّذي يوضع على الوجه فلا يُعرف الفرد الّذي يلبسه؛ أي: لا تجدوا شيئاً تتنكّرون فيه أو تختفوا خلفه مهما كان لا في السّموات ولا في الأرض، أو قادرون على إنكار أيّ ذنب اقترفتموه أو سيئة.

ص: 55

سورة الشورى [42: 48]

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} :

{فَإِنْ} : الفاء عاطفة، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.

{أَعْرَضُوا} : عن الاستجابة لله وللرسول، أعرضوا عن الإيمان بالله واختاروا طريق الضّلال، أعرضوا عن طاعة الله ورسوله.

{فَمَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، ما: النّافية.

{أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} : أو موكّلاً بهم ومسؤولاً عنهم وعن إيمانهم وهدايتهم، أو تحفظ أعمالهم وتحصيها عليهم؛ لتحاسبهم عليها.

{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} : إن نافية بمعنى: ما عليك إلا البلاغ، و (إن) أقوى نفياً من (ما)، إلا: أداة حصر. البلاغ: يعني إيصال الرّسالة؛ أي تبليغهم ما أنزل إليهم من ربهم وتبيين ذلك؛ لكي يفهموه كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، وقوله تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرّعد: 40]، ثمّ يضرب لنا مثلاً على إعراض الإنسان عن ربّه وكفره لمجرد الابتلاء، وينسى كلّ النّعم الّتي أنعمها الله عليه.

{وَإِنَّا إِذَا} : إنّا للتعظيم، إذ: شرطية تفيد حتمية الحدوث؛ أي لا بدّ أن يحدث هذا الأمر: هو الابتلاء وتفيد الكثرة؛ أي: حدوثه بكثرة.

{أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} : الإنسان: اسم جنس يشمل المفرد والمثنى والجمع؛ الإذاقة تكون في الخير والشّر، وأنعمنا تكون في الخير فقط، والإصابة: تكون في الحسنة أو السّيئة، رحمة: نكرة تشمل أيّ رحمة، والرّحمة تعريفها: جلب ما يسرّ ودفع ما يضرّ، مثل الصّحة والغنى والأمن والأهل والجاه. وتقديم منّا: للاهتمام، منّا رحمة: هنا الرّحمة تشمل المؤمن والكافر، ولو قال من لدنّا أو من عندنا، لكانت تعني فقط المؤمن أو المقرّبين، (هذا من خصائص القرآن).

{فَرِحَ بِهَا} : ونسي شكر المنعم، وانشغل بها. ارجع إلى سورة هود آيتين (9-10) لمزيد من البيان. وهذ الآية جاءت في سياق الإنسان (حالة فردية) بينما أذقنا الناس (حالة عامة)، ويستعمل إذا الحتمية الحدوث والكثرة، ويستعمل إن للاحتمال أو الشك في الحدوث كما رأينا في سورة هود آية (9){وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} .

{وَإِنْ} : إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض والنّدرة.

{تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : سيئة من بلاء وفقر ومرض وجدب، وخسارة أو خوف أو جوع، سيئة؛ أي: تسيء إلى أنفسهم، يكرهونها ولا يطيقونها، بما: الباء سببية أو بدلية ما بمعنى الّذي، قدّمت أيديهم من الذّنوب والخطايا.

{فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنّ: للتوكيد، الإنسان كفور: اسم فاعل من كفر، وصيغة مبالغة في الكفر؛ أي: كثير الكفر، والجحود بالنِّعم، وينسى كلّ النِّعم السّابقة، ومقارنة كفور بكفار، كفار: تفيد التجدد والتكرار، وكفور: تعني الثبات والدوام، وليس بعد كفور أشد من ذلك.

انتبه إلى هذا التّدرّج في الكفر والظّلم: ففي هذه الآية (48) من سورة الشّورى قال سبحانه: {فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ} في سياق الإصابة بالسّيئة، وفي سورة إبراهيم الآية (34) قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} : إنّ الإنسان لظلوم كفّار جاءت في سياق الجحد بنِعم الله الكثيرة، وكفّار أبلغ من الكفور.

وفي سورة الزّخرف الآية (15) قال سبحانه: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} جاءت في سياق الإشراك بالله، وفي سورة الإسراء الآية (67) قال سبحانه:{وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} جاءت في سياق النّجاة من الغرق والإعراض عن الله تعالى، فهو سبحانه يؤكّد في بعض الآيات بإنّ وأحياناً بإنّ واللام، وكفور وكفّار حسب السّياق.

ولمقارنة قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، وقوله تعالى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ارجع إلى الآية السّابقة (30) من سورة الشّورى.

ص: 56

سورة الشورى [42: 49]

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} :

المناسبة: إذاقة الإنسان بالرّحمة أو الإصابة بالسّيئة هو ابتلاء من الله حاكم السّموات والأرض، ومن مظاهر عظمته وكمال قدرته أنّه يخلق ما يشاء يَهَبُ الإناث والذّكور.

{لِلَّهِ} : اللام لام الاختصاص والملكية.

{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : المُلك: يعني الحكم والملك معاً فهو الحاكم والمالك للسموات والأرض وما فيهنّ؛ أي: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} : حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية، وذكر مثالاً على ذلك كيف يهب الإناث والذّكور.

{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} : الهبة عطاء بدون مقابل، ارجع إلى سورة ص الآية (30) للبيان، لمن يشاء: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، إناثاً: يخصّ بعض عباده بالإناث فقط.

{وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} : يخصّ بعض عباده بالذّكور فقط.

ص: 57

سورة الشورى [42: 50]

{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} :

أي: يهب لبعض عباده الذّكور والإناث معاً الجنسين في حمل واحد، وهو حمل التّوأم أو الحمل الثّلاثي أو الرّباعي والخماسي.

وما هو الفرق بين: ذُكراناً والذّكور؟.

{ذُكْرَانًا} : تدلّ على القلة، أمّا الذّكور تدلّ على الكثرة، تشمل الشّيوخ والشّباب والأطفال.

{وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} : فلا يهب لهم أيّ ولد مهما كان سواء كان ذكراً أو أنثى.

{إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} : أنّه للتوكيد، عليم: صيغة مبالغة: كثير العلم، عليم بخلقه مَنْ هو عقيم ومَن له أولاد، وعددهم، وذكوراً وإناثاً، عليم بما يصلح عباده من الأولاد، قدير: أن يهب أو يمنع الأولاد لمن يشاء، قدير على أن يرزق عباده بالتّوأم أو الحمل الثّلاثي والرّباعي أو الأكثر من ذلك، قدير أن يجعل المرأة عاقراً أو عقيماً أو قادرة على الإنجاب.

وسرّ تقديم الأنثى على الذَّكر في هذه الآيات قد يكون عائداً إلى كثرة عدد الإناث مقارنة بالذّكور، أو للاهتمام بالأنثى لكونهم كانوا في الجاهلية يفضّلون الذّكر على الأنثى، فجاءت آيات الله لترفع من شأن الأنثى وتبطل تلك الأعراف البائدة.

ص: 58

سورة الشورى [42: 51]

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَائِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ} :

سبب نزول هذه الآية كما قال كثيرٌ من المفسرين أمثال ابن حجر وذكره الواحدي في (أسباب النّزول): أنّ اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلّم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلّمه موسى ونظر إليه؟! فردّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ موسى لم ينظر إلى الله ولم يرَه، ونزلت هذه الآية.

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} : الواو استئنافية، ما: النّافية، كان: تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، لبشر: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وسواء كان نبياً أو رسولاً أو أيّ بشر؛ أي: ما صحّ وما حقّ لبشر أو استقام.

{أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

{إِلَّا وَحْيًا} : إلا أداة حصر.

الأوّل: وحياً: الوحي لغة: هو الإعلام بالخفاء، شرعاً: هو ما يُلقي الله سبحانه إلى أنبيائه ورسله من التّكاليف والتّعاليم الشّرعية، والآيات والوعد والوعيد.

الثّاني: من وراء حجاب؛ أي: يكلّمه من وراء حجاب كما كلّم الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من وراء حجاب، وكما كلّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام.

الثّالث: أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء: يرسل رسولاً مثل جبريل عليه السلام (الرّوح الأمين)، في صورة إنسان، أو بالخفاء فيوحي بإذنه: فيُلقي جبريل ما أرسله الله سبحانه به على رسوله من تكاليف وآيات فيوحي ما يشاء أن يوحي بإذن الله. ارجع إلى سورة النّساء آية (163) لمزيد من البيان.

{إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ} : إنّه للتوكيد، عليٌّ: علوّ الجلال والكمال، علوّ الذّات والصّفات والأفعال، علوّ القدر، العليّ على خلقه، حكيم: فهو أحكم الحكماء، وأحكم الحاكمين، الحكيم في تدبير شؤون خلقه وكونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

وقيل: إنّ الوحي الأوّل غير الوحي الثّاني:

الوحي الأوّل: هو الإلهام: مثل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ..

الوحي الثّاني: هو الإيحاء إلى الرّسل بطريق جبريل.

سورة الشّورى [الآيات 52 - 53]

ص: 59

سورة الشورى [42: 52]

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{وَكَذَلِكَ} : أي كما أوحينا إلى سائر الرّسل من قبلك، أوحينا إليك. ولمعرفة معنى (أوحينا إليك): ارجع إلى سورة النّساء آية (163).

{رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} : أوحينا إليك قرآناً بأمرنا من شأننا سمّاه (روحاً) فهو الرّوح الحقيقة أو الرّوح الثّانية للإنسان، ويمكن القول: إنّ للإنسان روحين: روح تسري في بدنه وتنفخ فيه حين تشكّله في الرّحم، وروح تحيي القلوب وتهدي إلى خالقها ومبدعها، هذه الرّوح الّتي يغفل عنها كثيرٌ من النّاس وتتمثل في القرآن الكريم.

{مَا كُنْتَ} : ما: النّافية، كنت: قبل الإيحاء إليك، تدري ما الكتاب: تعرف ما القرآن.

{تَدْرِى مَا الْكِتَابُ} : ما استفهامية، ما القرآن، وسمّي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في الأسطر. تدري: من درى؛ بمعنى: علم، وهناك فرق بين الدراية، والعلم؛ العلم: أعم من الدراية، فالدراية: تكون بمنزلة الإخبار، وتكون بعد الجهل بالشيء، ولذلك لا تستعمل في حق الله تعالى، أما علم أو العلم: يستعمل في حق الله وغيره.

{وَلَا الْإِيمَانُ} : لا النّافية للجنس؛ أي: ولا تدري؛ أي: تعلم الإيمان بالقول والفعل؛ أي: الشّرائع والتّوحيد والأحكام الرّبانية.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك للتوكيد.

{جَعَلْنَاهُ} : أي القرآن الكريم.

{نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} : به: أي القرآن؛ لأنّه يهدي من الظّلمات إلى النّور، من نشاء: من ابتدائية؛ أي: من نريد والمشيئة تأتي قبل الإرادة، من عبادنا: المؤمنين، من بعضية.

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} : إنك، واللام للتوكيد، الخطاب موجّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهدي هداية عامة؛ أي: ترشدهم إلى، وتبين لهم طريق الهداية أو الحق والخير، هداية دعوة أو هداية دلالة، أمّا هداية الله سبحانه فهي هداية خاصة هداية عون؛ أي: هو سبحانه يدخل الإيمان في قلوبهم، ولست أنت، وهذا يفسر لنا قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].

{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : أي تهدي إلى دين الله الإسلام، الصّراط المستقيم الّذي لا اعوجاج له. ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (6) والآية (7) لمزيد من البيان.

ص: 60

سورة الشورى [42: 53]

{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} :

في الآية السّابقة قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفي هذه الآية عرف الصراط المستقيم بالقول الذي هو: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} .

{صِرَاطِ اللَّهِ} : دين الله، الصّراط المستقيم الّذي هو الإسلام، الصّراط الموصل إلى الغاية العظمى بأقصر زمن ومسافة وبدون عائق.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{لَهُ} : اللام لام الاختصاص والملكية، له حصراً؛ أي: لله وحده.

{مَا فِى السَّمَاوَاتِ} : وله ما في السموات خلقاً وملكاً، وما في السّموات ذاتها وكلّ شيء فيها له وحده.

{وَمَا فِى الْأَرْضِ} : وله ما في الأرض خلقاً وملكاً، وكلّ شيء، وما في الأرض ذاتها وما فيها.

{أَلَا} : أداة تنبيه.

{إِلَى اللَّهِ} : وحده لا إلى أحد غيره.

{تَصِيرُ الْأُمُورُ} : أي ترجع وتنتهي جميع الأمور للقضاء فيها والحكم والفصل.

ص: 61

سورة الزخرف [43: 1]

سورة الزخرف

سورة الزّخرف [الآيات 1 - 10]

ترتيبها في القرآن (43)، وترتيبها في النّزول (63).

وهذه رابع سورة تبدأ بـ حم، فهناك سبع سور متتالية تبدأ بـ حم، وتسمَّى الحواميم، أولها سورة غافر، وآخرها الأحقاف.

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة.

ص: 62

سورة الزخرف [43: 2]

{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} :

{وَالْكِتَابِ} : الواو: واو القسم، يقسم الله سبحانه، والله غني عن القسم يقسم بالكتاب لعلو شأنه ومكانته عند الله سبحانه، والكتاب: هو القرآن الحكيم، وسمي الكتاب؛ لأنّه مكتوب في السّطور واللوح المحفوظ. ارجع إلى الآية (2) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

{الْمُبِينِ} : الواضح لكل فرد يقرأه ويطلع عليه، وقادر على فهم معناه، والواضح في أحكامه وشرائعه ووعده ووعيده.

ص: 63

سورة الزخرف [43: 3]

{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

{إِنَّا} : للتعظيم.

{جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} : أي: صيرناه، وهذه الآية تذكرنا بآية أخرى مشابهة في سورة يوسف وهي قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [آية: 2]، جعلناه قرآناً عربياً: هناك فرق بين الإنزال والجعل، جعلناه؛ أي: صيرناه قرآناً عربياً قبل إنزاله، ثم أنزلناه قرآناً عربياً، والسياق لا يذكر أي وحي حتى يذكر الإنزال، وإنما هو {فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} ، وفي سورة يوسف آية (2) قال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ؛ لأنها جاءت في سياق الوحي {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وإنزال قصة يوسف، وفي كلا الآيتين قال تعالى:(لعلكم تعقلون) للتوكيد.

{لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : لعل: تفيد التّعليل، تعقلون: تفهمون معانيه، وما تؤمرون به وما تنهون عنه وتعملون آياته وتعملون بما فيه، تعقلون: من عقل الشيء عرفه بدليله، وفهمه بأسبابه ونتائجه، أيْ: تصلون إلى الحقيقة وهي أن الله سبحانه هو أنزل هذا القرآن، وأنه هو الإله الحق الّذي يجب أن يطاع ويُعبد.

ص: 64

سورة الزخرف [43: 4]

{وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} :

{وَإِنَّهُ} : أنّ القرآن مثبت مكتوب.

{فِى أُمِّ الْكِتَابِ} : في اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21ـ22]. وسمي أم الكتاب؛ لأنه مصدر لكل الكتب السماوية.

أو أم الكتاب الأصل وهناك اللوح المحفوظ فهو في كلاهما.

{لَدَيْنَا} : عندنا.

{لَعَلِىٌّ} : اللام للتوكيد، لذو علو شأن ومكانة على الكتب السّابقة ورفيع المنزلة والقدر.

{حَكِيمٌ} : محكم لا تناقض فيه، ذو حكمة محكم لا يتعارض بعضه مع بعض. ارجع إلى سورة هود آية (1).

ص: 65

سورة الزخرف [43: 5]

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} :

{أَفَنَضْرِبُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ، ونضرب عنكم الذّكر، أيْ: أننحِّيه ونبعده عنكم.

{عَنْكُمُ} : خاصة.

{الذِّكْرَ} : القرآن.

{صَفْحًا} : الصّفح: مشتقة من صفحة الوجه، أيْ: جانبه والإعراض بصفح الوجه يعني: أشد الإعراض، ويقال: صفحت عنه، أيْ: أعرضت عنه وصافحين معرضين، أيْ: أنمسك إنزال القرآن عليكم أو نعرض عنكم فلا ننزل عليكم شيئاً فلا توعظون ولا تؤمرون أو نهملكم، فلا ننزل عليكم شيئاً أو نترككم في كفركم.

{أَنْ} : أن مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

{كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} : مشركين مسرفين بالذّنوب والآثام وفي الضّلالة والجهالة أو بالإعراض وعدم الطّاعة، أم ننزله عليكم ونوضِّح لكم ما فيه فإن آمنتم فهو خير لكم، وإن تولَّيتم فقد قامت عليكم الحُجَّة.

مسرفين: جملة اسمية تدل على صفة الإسراف ثابتة عندهم لا تتغير.

ثم يخبر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنّه قد أرسل الكثير من الرّسل من قبله فاستهزأ بهم قومهم فأهلكهم الله.

ص: 66

سورة الزخرف [43: 6]

{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَّبِىٍّ فِى الْأَوَّلِينَ} :

{وَكَمْ} : الواو استئنافية، كم الخبرية تفيد أو تدل على الكثرة، أيْ: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم الماضية.

ص: 67

سورة الزخرف [43: 7]

{وَمَا يَأْتِيهِم مِنْ نَّبِىٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.

{يَأْتِيهِم مِنْ نَّبِىٍّ} : من ابتدائية استغراقية.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : الاستهزاء: هو تصغير قدر الآخر أو الشّيء والتّحقير أو الاستخفاف به، أو إلحاق العيب به يستهزئون: تدل على التّجدد والتّكرار أو حكاية الحال بدلاً من استهزؤوا به، يستهزئون كأنّه تقع الآن للدلالة على عظم الاستهزاء بالأنبياء أو كلاهما معاً.

وفي سورة الحجر آية (11) قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي: الرّسل لم يكونوا أفضل حظاً من الأنبياء، فالكل استهزأ بهم قومهم. ولنعلم أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.

ولمعرفة الفرق بين الرّسول والنّبي ارجع إلى سورة النّساء آية (164).

ص: 68

سورة الزخرف [43: 8]

{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} :

{فَأَهْلَكْنَا} : الفاء تدل على المباشرة والتّعقيب.

{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم} : أيْ: من هو أشد من قومك.

ولمعرفة معنى الهلاك ارجع إلى سورة الأعراف آية (4).

{بَطْشًا} : أيْ: قوةً وسطوةً وعنفاً من قريش من بطش يبطش، أيْ: أخذه؛ أي: عاقبه بقوة وعنف.

{وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} : ومضى: سبق في الآيات القرآنية صفة هلاكهم وعذابهم مثل قوم نوح عاد وثمود المؤتفكات وفرعون، أيْ: ذكرت قصصهم الّتي يمكن اعتبارها مثل للآخرين.

ص: 69

سورة الزخرف [43: 9]

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} :

{وَلَئِنْ} : الواو استئنافية، لئن: اللام للتوكيد، إن شرطية.

{سَأَلْتَهُم} : سألت قومك، أيْ: هؤلاء المشركين.

{مَّنْ} : استفهامية تفيد التّقرير.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : الخلق: الإيجاد والتّقدير.

ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30) وفصلت آية (10-11) لمزيد من البيان في خلق السموات، وسورة الأعراف آية (54).

{لَيَقُولُنَّ} : اللام والنّون في يقولنَّ للتوكيد.

{خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} : أيْ: هم لا ينكرون أنّ الله العزيز العليم الّذي خلق السّموات والأرض، العزيز: القوي الغالب الّذي لا يُغلب والقاهر الّذي لا يُقهر الممتنع على كل شيء.

العليم: بأحوال الكون وأحوال خلقه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض. ورغم اعترافهم بأن خالق السّموات والأرض هو الله، فهم بربهم يعدلون ويشركون، وينسون أنه أيضاً الّذي أنعم عليهم بأن جعل لهم الأرض مهداً وسلك لهم فيها سبلاً، وأنزل من السّماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها، وخلق الأزواج كلها والفلك والأنعام، وكل ما يركبونه، وبدلاً من أن يشكروه يشركوا به، ويجعلون له الولد والبنت، وغيرها، كما سنرى في الآيات القادمة.

ص: 70

سورة الزخرف [43: 10]

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} : بعد أن خلق الأرض جعلها مهداً (تشبيه بليغ) المهد هو فراش الطّفل (المهاد) كي تستقرون فيها، فلا تشعرون بحركتها، فهي تدور حول الشّمس بحركة تقدر بـ (30) كم بالثانية، ولكن لا نشعر بذلك؛ لأننا ندور مع الأرض بنفس السّرعة.

{مَهْدًا} : بساطاً وفراشاً. مريحاً رغم أن الأرض كروية الشّكل.

{وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} : طرقاً، السّبل أفضل من الطّرق من حيث السّير عليها، وأوسع سبلاً (جمع سبيل) تسلكونها إلى حيث تريدون.

{لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : إلى مقاصدكم وأسفاركم، ولعل: للتعليل، تهتدون: تفيد التّكرار والتّجدُّد في الهداية للوصول إلى غايتكم.

سورة الزّخرف [الآيات 11 - 22]

ص: 71

سورة الزخرف [43: 11]

{وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} :

انتهت الآية (9) بقوله: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} .

تكرار الّذي يفيد التّوكيد وتدل على التّعظيم.

{نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : نزل من السّماء: أيْ: من السّحاب (السحاب الركامي)، وتعريف السّماء: هي كل ما علاك؛ فالسحاب هو من السماء. ماءً: له أسماء أخرى الغيث، المطر، الودق، الطّل، نزل تعني: المرات العديدة بينما أنزل من السّماء تعني: مرة واحدة.

بقدر: بكميات معينة مقدرة كبيرة أو قليلة قد تسبب الفيضانات أو قليلة تسبب الجفاف أو معتدلة حسب الحاجة.

فقد قدر العلماء أن كمية الماء على الأرض لا تتغير في الكمية فهنالك 1، 400 مليون كم3 يتبخَّر منها كل عام 600، 000 كم3 من الماء، و500، 000 كم3 يتبخَّر من مياه البحار والمحيطات، و100، 000 كم3 يتبخَّر من اليابسة، وتنفس الحيوانات والنّاس والأنّهار والبحيرات، ويعيد الله سبحانه على اليابسة 165، 000 بزيادة (65، 000كم3) يأخذها من البحار والمحيطات، فيُعيد على البحار والمحيطات (435، 000) بدلاً من (500، 000) تلعب هذه الزّيادة دوراً مهماً في تعرية الجبال، وتفتيت الصخور وإعادة تركيز المعادن وإغناء التربة بالمعادن الضرورية في عملية الإنبات وغذاء الحيوان والإنسان وتلطيف المناخ، فهذا من رحمة الله وكرمه.

{فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} الفاء تفيد المباشرة، أنشرنا به: أحيينا به، أيْ: بالماء وتقديم به يفيد التّوكيد والحصر.

بلدة ميتاً: بلدة مجدبة (لا نبات فيها ولا زرع) المراد به بالماء إحياء الأرض بالنّبات والزّرع. وانتبه إلى الفرق بين:

ميْتاً: بسكون الياء التي تدل على بلدة ماتت بالفعل منذ زمن. وأما لو جاءت الياء مشددة فهي تدل على بلدة ما زالت فيها حياة، وستموت قريباً إذا لم يصلها الماء، كما في سورة فاطر آية (9)، أو أرض غير قابلة للزراعة على الإطلاق، وهو سبحانه قادر على إحياء كلا النّوعين من الأرض.

{كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} : ارجع إلى سورة الرّوم آية (19)، أيْ: مثل هذا الإحياء للأرض الميْتة بالماء تحيون وتخرجون من القبور.

ص: 72

سورة الزخرف [43: 12]

{وَالَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} :

{وَالَّذِى} : تعود على العزيز العليم، الواو عاطفة.

{خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} : الزّوج هو الصّنف، أيْ: خلق الأصناف كلها في زوجيَّة (زوجين) وتشمل الإنسان والحيوان والنّبات، والزّوج: الذّكر والأنثى والسّالب والموجب، كقوله تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذّاريات: 49]، وكقوله تعالى:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [النجم: 45] ليبقى سبحانه وحده المتفرِّد بالوحدانية في هذا الكون.

{كُلَّهَا} : للتوكيد.

{وَجَعَلَ لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص.

{مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} : من بعضية، بعض الأنعام مثل الإبل ما تركبون بينما الغنم والماعز لا نركبها.

الفلك: تطلق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، أي: السّفن.

{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي تركبون، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{تَرْكَبُونَ} : تدل على التّجدُّد والتّكرار.

ص: 73

سورة الزخرف [43: 13]

{لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} :

{لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ} : اللام للتعليل والاختصاص، الاستواء: يعني الاستقرار من استوى: استقر وقعد على كرسيه أو مقعده في السّيارة أو الطّائرة أو المركبة أو السّفينة، على ظهوره ولم يقل: على ظهورها.

{عَلَى ظُهُورِهِ} : التّذكير يفيد القلة فالأنعام الّتي تركب (أي: الإبل) قلة بالنّسبة لعدد الأنعام جميعاً الغنم والبقر والماعز (هذا في القديم) وعلى الاستعلاء الحقيقي أو المجازي والاستقرار، يعني: أيضاً التّمكن من القيادة قيادة السّيارة أو الطّائرة أو المركبة.

{ثُمَّ} : لا تعني هنا التّراخي من الزّمن، وإنما تعني التّباين بين الاستواء وذكر الله والدّعاء دعاء السّفر والتّسمية الّذي هو أهم من الاستواء، أيْ: تقولوا بسم الله مثلاً سبحان الّذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين عند الرّكوب والاستواء، أو عند الإقلاع.

{تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} : نعمة التّسخير والاستواء.

{إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} : إذا ظرفية تفيد الحتمية، استويتم عليه: إعادة ذكر الاستواء مرة ثانية تفيد التّوكيد.

{وَتَقُولُوا سُبْحَانَ} : أي: تنزهوا الله بالتسبيح والقول سبحان الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو عيب في ذاته وصفاته وأفعاله وبديع صنعه وخلقه. ارجع إلى سورة الإسراء آية (1) والحديد آية (1) لمزيد من البيان.

{الَّذِى} : للتعظيم.

{سَخَّرَ لَنَا هَذَا} : ذلل لنا هذا المركب الصّعب أو الدابة أو الطّائرة أو المركبة.

{وَمَا كُنَّا} : الواو واو الحالية تفيد التّوكيد، ما: النّافية.

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر والتّوكيد.

{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} : أيْ: ما كنا بقوتنا وطاقتنا قادرين على توجيهه والتّحكم به حيث نريد والسّيطرة عليه كي نقوده، أو نستوي عليه إلا بتسخير الله لنا هذه المراكب.

من أقرن الشّيء: أطاقه وقوي عليه وفلان قرن لقرن: إذا كان مثله في الشّدة والقوة.

ص: 74

سورة الزخرف [43: 14]

{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} :

{وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا} : إنا: للجمع، إلى ربنا: تقديم إلى ربنا لتدل على الحصر والتّوكيد، أيْ: إليه وحده، لمنقلبون: عائدون إليه، المصير بعد البعث والقيام.

{لَمُنْقَلِبُونَ} : راجعون، ولكنه لم يقل: راجعون؛ لأنّ هناك فرقاً بين الرّجوع والانقلاب، الرّجوع يعني: العودة إلى المكان الّذي خرج منه وبنفس الحالة من غير تغيُّر.

الانقلاب: الخروج من المكان والرّجوع إليه بغير الحال الّذي كان عليها زمن الخروج أو عدم العودة إلى نفس المكان، فاختار كلمة الانقلاب؛ لأنّ المسافر أو الرّاكب في السّيارة أو الطّيارة أو غيرها من الوسائل قد تغرق به السّفينة أو تتحطم به الطّائرة أو يحدث له حادث ولا يرجع إلى داره أو لا يرجع حتّى إلى الدّنيا وإنما ينتقل إلى الآخرة. ويذكرنا بأننا في الدّنيا في حالة سفر دائم إلى الآخرة.

ولم يقل: منقلبون كما في الآية (50) في سورة الشعراء وهي قوله تعالى: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} ، وإنما قال: لمنقلبون: جاء بلام التّوكيد حتّى لا ينسى الرّاكب أو المسافر ذكر الله وأنّه في رحمة الله تعالى حتّى يعود، وأنّه غير منفلت من قضاء الله، وحتّى يكون مستعداً بقلبه ولسانه للقاء ربه، سواء عاد إلى بيته سالماً أم لا، وأما الآية (50) في سورة الشعراء فهي آية خاصة جاءت في سياق سحرة قوم فرعون حين هددهم فرعون بالقتل والصلب، بينما آية الزخرف فهي آية عامة لكل من ركب في الفلك أو دابة.

ص: 75

سورة الزخرف [43: 15]

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} :

المناسبة: رغم اعترافهم بأنّ الله هو الخالق العزيز العليم فهم يشركون به ويفترون على الله سبحانه الكذب بأشكال شتى منها أنهم جعلوا له من عباده جزءاً، أي: المشركون والمسرفون جعلوا له، أيْ: لله سبحانه وتعالى، أيْ: زعموا باطلاً.

{لَهُ} : اللام لام الاختصاص.

{مِنْ} : بعضية، بعض عباده وهم الملائكة.

{عِبَادِهِ جُزْءًا} : جعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن، جزءاً: المراد بالجزء في هذه الآية الولد، أيْ: بنات الله؛ لأنّ الفرع جزء من أصله، أي: الولد جزء من الوالد أو الولد جزء من أبيه.

{إِنَّ الْإِنسَانَ} : للتوكيد.

{لَكَفُورٌ} : اللام للتوكيد والتّعليل، كفور: صيغة مبالغة كثير الكفر والجحود والإشراك بالله أو جاحد لنعم الله.

{مُبِينٌ} : ظاهر كفره وجحوده لكل فرد أو كفره بيِّن واضح لا يحتاج إلى دليل أو بيِّنة وشرح.

ص: 76

سورة الزخرف [43: 16]

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} :

{أَمِ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ، أم للإضراب الانتقالي، أيْ: أنكر على المشركين الّذين زعموا أنّ الملائكة بنات الله سبحانه وزعموا زعماً آخر هو أنّ البنات أدنى من البنين درجة وجعلوا لأنفسهم البنين، ويجعلون لله البنات.

{اتَّخَذَ} : من أفعال التّحويل والتّصيير، أيْ: صير.

{مِمَّا} : (من + ما) من ابتدائية، ما بمعنى الّذي، وهي أوسع شمولاً من الّذي.

{يَخْلُقُ بَنَاتٍ} : أيْ: صيَّر لنفسه البنات (حيث زعموا أنّ الملائكة بنات الله).

{وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} : وآثركم ربكم على نفسه فخصَّكم بالبنين.

{بِالْبَنِينَ} : باء الإلصاق والملازمة، أيْ: أنّ الله فضلكم على نفسه بأنّ أصفاكم بالبنين، واكتفى لنفسه بالبنات، أو أنتم فضلتم أنفسكم على الله فزعمتم أن لكم البنين وله البنات؟ ارجع إلى سورة الصافات آية (153-159) للبيان.

ص: 77

سورة الزخرف [43: 17]

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} :

هذا تتمة الإنكار والتّوبيخ.

{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد الحتمية.

{بُشِّرَ أَحَدُهُمْ} : بما ضرب الرّحمن مثلاً، أيْ: بالأنثى، أيْ: بُشر بأن ولدت له بنت أصيب بالغم والكآبة، والبشارة: هي الخبر السار ولأول مرة تسمعه، واستعمل البشارة على سبيل التهكم والسّخرية.

{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} : تغيَّر وجهه واغتاظ من شدة الحزن على سوء ما بُشر به.

{وَهُوَ} : الواو حالية، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{كَظِيمٌ} : ممتلئ غيظاً وغماً؛ لأنّه لا يريد ذلك أو خوفاً من أن يلحق به العار أو كما كان يزعم أهل الجاهلية باطلاً.

وهذه الآية تشبه آية أخرى هي قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ} [النّحل: 58 – 59]. ارجع إلى آية النحل لمزيد من البيان.

ص: 78

سورة الزخرف [43: 18]

{أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} :

{أَوَمَنْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، من: اسم موصول تشمل المفرد والمثنى والجمع.

{يُنَشَّؤُا} : أيْ: أَجَعلوا لله البنات (اللواتي ينشأن أو يتربَّين في الحلية والزّينة)، وينشؤا فيها مبالغة في النشأة مقارنة بالقول أومن ينشؤا، وتعني المرور بمراحل مختلفة.

{فِى الْحِلْيَةِ} : ظرفية، أيْ: يُربى في الحلية؛ أي: في الزّنية وتضم الذّهب والفضة، والزينة أعم من الحلية، وتشمل كل أنواع الزينة الخارجية والداخلية.

{وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} : وإذا اشتركت أو دعيت إلى الخصام والجدال والحوار فقد تكون غير قادرة أن تبين وتشرح أفكارها وتوضح ما تريده. وهذا كان سببه الجاهلية (جهل الأمم السّابقة) وظنَّهم الخاطئ بشأن الأنثى وحرمانها حقوقها.

وقد يكون سبب كونها في الخصام والجدال غير مبين هو حياؤها وعفتها ووقوفها بين الرّجال يجعلها تشعر بعدم الارتياح في هذا الموقف، فتحاول أن لا تبدي رأيها أو تناقش وتجادل، ولنعلم أنّ هناك كثيراً من النّساء تفوق الكثير من الرّجال في الحوار والجدال والأعمال التّقنية والعلوم والاكتشافات، أما كونها تنشأ في الحلية فهذا شيء أباحه الله لها وليس عيباً.

ص: 79

سورة الزخرف [43: 19]

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْـئَلُونَ} :

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ} : أي: المشركين، جعلوا: زعموا باطلاً أنّ الملائكة إناث من دون أيِّ علم أو دليل.

{إِنَاثًا} : جمع أنثى أو بنات الله.

فردَّ الله سبحانه عليهم بقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} : للاستفهام الإنكاري، والجواب طبعاً: لا لم يشهدوا أيْ: لم يحضروا خلقهم حين خلق الله الملائكة فرأوا أنّ الله خلقهم إناثاً.

ومع ذلك {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} : السّين للاستقبال القريب، سنكتب شهادتهم، شهادة الزّور في صحائف أعمالهم.

{وَيُسْـئَلُونَ} : يوم القيامة عما زعموا من شهادة الزّور بأنّ الملائكة إناثٌ. ارجع إلى سورة الصافات آية (150) لمزيد من البيان.

ص: 80

سورة الزخرف [43: 20]

{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} :

{وَقَالُوا} : أي: الّذين أشركوا للذين أنكروا عليهم عبادة الملائكة أو الأصنام.

{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} : أيْ: لو شاء الله ما عبدنا الملائكة، أيْ: مُنعنا من عبادتهم، أو أنزل علينا الرحمن شيئاً يخبرنا بذلك، وهو كلام حقٍّ يُراد به باطلٌ، أيْ: حُجَّة باطلة.

{مَا} : النّافية، تنفي الحال غالباً.

{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} : ما النّافية، لهم: اللام لام الاختصاص، بذلك اسم إشارة يشير على زعمهم الباطل.

{مِنْ عِلْمٍ} : من استغراقية تستغرق أيَّ علم نُقل إليهم أو نُزل عليهم أو سمعوه من رسلهم بطريقة الوحي أو الإلهام.

{إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} : إن نافية أقوى نفياً من (ما)، هم: تفيد التّوكيد، إلا: أداة حصر.

{يَخْرُصُونَ} : الخرص هو الحزر والخرص من دون تحقيق يشبه الكذب، يخرصون في أقوالهم أنّ الملائكة إناث، أو بنات الله، أو لو شاء الرّحمن ما عبدناهم.

ما هو الفرق بين {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].

الآية: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} جاءت في سياق زعمهم أنّ الملائكة بنات الله. أما الآية: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} : فجاءت في سياق إنكارهم للبعث.

ولنعلم أنَّ (إن هم إلا يخرصون) أسوأ وأقبح من (إن هم إلا يظنون)؛ لأنّ الخرص هو حزر وكذب والظّن هو أعلى درجة من الشّك.

ص: 81

سورة الزخرف [43: 21]

{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} :

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام الإنكاري ينكر عليهم إيتاء أيِّ كتاب مهما كان نوعه (كتاباً: نكرة تشمل أيَّ صحيفة أو كتاب).

{آتَيْنَاهُمْ} : من الإيتاء وهو يشمل الأشياء الحسية والمعنوية، ويختلف الإيتاء عن العطاء. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة لمعرفة الفرق.

{كِتَابًا} : مكتوب فيه اعبدوا الملائكة أو اعبدوا غير الله، أو أن الملائكة إناث وبنات الله، أو الأصنام أو الأولياء أو آتيناهم تشمل أيَّ حُجَّة ودليل يحلُّ لهم الشّرك بالله سبحانه وتعالى.

{مِنْ قَبْلِهِ} : من قبل القرآن العظيم.

{فَهُمْ} : الفاء للتوكيد، وهم للحصر والتّوكيد.

{بِهِ} : تقديم به يدل على الحصر، أيْ: فقط به.

{مُسْتَمْسِكُونَ} : كدليل لهم أو حُجَّة يحتجون بها على صحة أفعالهم وصدق أقوالهم، مستمسكون جمع مستمسك اسم فاعل تدل على الثّبوت، ثبوت صفة الإمساك به، وكذلك على شدة الإمساك به.

ص: 82

سورة الزخرف [43: 22]

{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ} :

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{قَالُوا} : تعود على قريش الذين بعث الله إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذين قالوا: الملائكة بنات الله أو إناث، ولو شاء الله ما عبدناهم، ورد الله عليهم بقوله: ما لهم بذلك من علم؛ لأنّهم لم يشهدوا خلقهم ولم ينزل عليهم كتاب من قبل القرآن يدعوهم إلى عبادة الملائكة، أو يكون دليلاً لهم، وكل أقوالهم مجرَّد خرص وكذب، فبعد أن ردَّ الله على كل أكاذيبهم لم يجدوا ملجأ يلجؤون إليه أو مبرِّراً يبرِّر عبادتهم إلا القول: إنما نحن نقلد آباءَنا.

{وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} : على ملَّة أو طريقة أو مذهب، أمة: مشتقة من الطّريق الّتي تؤم، أيْ: تقصد، يمشي النّاس عليها بكثرة، على: تفيد الاستعلاء.

{وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّهْتَدُونَ} : وإنا للتوكيد، على آثارهم: على هديهم أو سنتهم سائرون، وكان الرد عليهم:{أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الآية: 24] من نفس السورة.

{مُّهْتَدُونَ} : أيْ: هم يزعمون أن آباءَهم على هدى، وبالتّالي هم على هدى حين قالوا: إنّ الملائكة إناث، وهم بنات الله وعبادتهم قام بها الآباء والأجداد، ونحن فقط نسير على سيرهم، وهذا اعتراف صريح وحُجَّة عليهم وليس حُجَّة لهم.

كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصّافات: 69ـ70].

سورة الزّخرف [الآيات 23 - 33]

ص: 83

سورة الزخرف [43: 23]

{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} :

لا بُدَّ من العلم أنّ الآية السّابقة (22) تتحدث عن مشركي قريش، الّذين زعموا أنّ الملائكة إناث، وأنّهم بنات الله، وأنهم يعبدونهم كما عبدهم آباؤهم، وهذه الآية (23) تتحدث عن الأمم السابقة والمترفين الّذين كانوا قبل مجيء مشركي قريش.

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: مثل ما قال مشركو قريش أو مكة: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، قال المشركون والمترفون السّابقون لرسلهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

فما هو الفرق بين الّذين قالوا: إنا على آثارهم مهتدون؛ أي: مشركي قريش والعرب، والّذين قالوا: إنا على آثارهم مقتدون من جاء قبلهم من الكفار والمقربين.

الّذين قالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون، أي: المشركون والمترفون من جاءوا قبل قريش، هؤلاء لا يدّعون الهداية لأنفسهم ولا لآبائهم، ولا تهمهم الهداية، وإنما يهمهم إلا التّرف والشّهوات والمعاصي بسبب ضلالتهم وشركهم، أما مشركو قريش أو مكة هم ومن جاء من آبائهم فهم يدعون باطلاً الهداية لأنفسهم وآبائهم، أيْ: أنّ آباءَهم كانوا مهتدين، وهم يقلدونهم، فهم أسوأ وأشد ضلالاً من المترفين الكافرين أو المشركين الّذين قالوا: إنّهم على آثار آبائهم مقتدون.

{مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} : ما النّافية، أرسلنا من قبلك: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فِى قَرْيَةٍ} : في ظرفية قرية.

{مِنْ نَذِيرٍ} : من استغراقية، نذير: الإنذار الإعلام مع التّحذير، أيْ: يبلغها ما أرسل إليهم به ويحذرها.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{قَالَ مُتْرَفُوهَا} : جمع مترف، والترف: هو التوسع في ملذات الدنيا، وشهواتها والإسراف؛ أي: تجاوز حد الاعتدال، والمترف: هو الغني الذي أطغته النعمة أو الغنى، والمنغمس في ملاذ الدنيا وشهواتها بالتبذير، والإسراف الذي يؤدي إلى فساده. إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. أيْ: بشرائعهم وبسننهم نعمل.

ص: 84

سورة الزخرف [43: 24]

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} :

{قَالَ} : تعني: كل نذير، أيْ: رسول قال لأهل قريته بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمشركي مكة:

{أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} : أولو: الهمزة للاستفهام الإنكاري، جئتكم بشريعة أو ملة أهدى من ملة آبائكم وأهدى من شرككم وضلالكم كان هذا رداً على مشركي قريش.

{قَالُوا} : أي: مشركو قريش والعرب.

{إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} : إنا للجمع والتّوكيد، بما: الباء باء الإلصاق، ما تعني: الّذي وهي أوسع شمولاً من الّذي.

أرسلتم به كافرون: أيْ: لا نؤمن ولا نصدق بأيِّ شيء جئتمونا به، كافرون: صفة تدل على الثّبوت.

ص: 85

سورة الزخرف [43: 25]

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} :

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : الفاء السّببية تربط السّبب بالمسبب، انتقمنا منهم: تعود على الكل؛ أيْ: عاقبناهم على كفرهم بأنواع مختلفة من العذاب، فمنهم من أخذته الصّيحة، ومنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الرّجفة ومنهم من أغرقنا.

{فَانظُرْ} : الفاء جواب شرط مقدَّر تقديره: إن كذبك قومك فانظر كيف كان عاقبة المكذبين، انظر: نظرة قلبية فكرية، نظرة تمعُّن واعتبار.

{كَيْفَ} : استفهام وتحذير.

{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : كيف كان عذاب المكذبين، وتذكير كلمة العاقبة في القرآن كقوله:{كَانَ عَاقِبَةُ} يعني: العذاب، وتأنيث كلمة العاقبة في القرآن تأتي في سياق العاقبة الحسنة كالجنة.

ص: 86

سورة الزخرف [43: 26]

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} :

المناسبة: كان أجدر بهؤلاء مشركي مكة الّذين قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، أن يقلِّدوا ويتَّبعوا إبراهيم عليه السلام وليس آباءهم وأجدادهم.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} : الواو استئنافية، إذ: أي: اذكر، إذ قال إبراهيم: أو اذكر حين قال إبراهيم لأبيه.

{لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} : اللام لام الاختصاص، أبيه: آزر، أو قيل: عمِّه. ارجع إلى سورة الأنعام آية (74) للبيان.

{إِنَّنِى} : لم يقل: إني، قال: إنني للتوكيد (نون التّوكيد).

{بَرَاءٌ} : من برأ منه، أي: تخلَّص منه وتباعد عنه وتبرأت من الأمر أي: تخليت عنه، براءٌ، أيْ: لا أعبد الّذي تعبدون.

براءٌ: مصدر بريء على وزن فعال، وتقال للواحد والاثنين والجمع، إنا براء منك أو منكما أو منكم.

في سورة الأنعام آية (78){قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .

في سورة الزّخرف هذه الآية (26) قال: {إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} .

براءٌ مصدر بريء أو براءة مصدر لفعل برأ يبرأ.

في سورة الممتحنة آية (4){إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} جمع بريء. ارجع إلى سورة الأنعام آية (78) لمعرفة الفرق والبيان.

{مِمَّا تَعْبُدُونَ} : من ابتدائية استغراقية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي وما عامة تشمل كل ما يعبدون إلا الله، كما سيرد في الآية التّالية. ارجع إلى سورة النّحل آية (73) لتعريف العبادة، تعبدون: بصيغة المضارع تفيد التّكرار والتّجدُّد.

ص: 87

سورة الزخرف [43: 27]

{إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} :

{إِلَّا الَّذِى} : إلا: أداة استثناء أو حصر، الّذي: اسم موصول يفيد التّعظيم.

{فَطَرَنِى} : خلقني، أي: الّذي أخرجني للوجود، والفطر هو الإبداع والإيجاد من غير سبق وأصله الشّق، وفطر: طلع وظهر.

{فَإِنَّهُ} : الفاء تعليلية، إنّه: للتوكيد.

{سَيَهْدِينِ} : السّين تدل على الاستقبال القريب، وهل يعني أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن مهدياً (من قبل) الجواب: كلا، كان مهدياً، والدّليل في سورة الشّعراء آية (78) قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:{الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} فلا بُدَّ من الجمع بين الآيتين يهدين وسيهدين أيْ: يهدين للحال وسيهدين للاستقبال، أي: الاستمرار على الهداية والاستقامة عليها، وحذف الياء؛ لأن الهداية لن تخصه وحده بل الهداية تكون له ولغيره من الناس ولو كانت خاصة به وحده لقال سيهديني.

ص: 88

سورة الزخرف [43: 28]

{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} : أيْ: جعل كلمة التّوحيد لا إله إلا الله، أو {إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى} .

{كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ} : في ذريته أو خلفه، أو فيمن يأتي من بعده إلى يوم القيامة، والعقب الولد وولد الولد.

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعل: للتعليل، يَرْجعون بفتح الياء ولم يقل يُرْجعون، يرجعون برغبتهم وإرادتهم بالتوبة إلى عبادة الله وحده، بينما يُرجعون: بالقسر وبغير إرادتهم، لعلهم يَرجعون: إلى ربهم بالإنابة والتّوبة وإليه وحده والإخلاص له، يرجعون إلى توحيد الألوهية والرّبوبية والأسماء والصّفات.

ص: 89

سورة الزخرف [43: 29]

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} :

المناسبة: يعود الله سبحانه ليتحدث عن مشركي مكة كيف أمهلهم ولم يعجِّل لهم بالعقوبة، ومتَّعهم بالنّعيم وطول العمر، وأنزل عليهم القرآن وجاءهم رسولٌ مبين، وماذا فعلوا عندها قالوا: هذا سحرٌ، وإنا به كافرون.

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} : أي: مشركي مكة وآباءهم، متعت: من المتاع: وهو كلُّ ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه ويتمتع به من أثاث وسلعة وأداة وهو متاع زائل، متعتهم بطول العمر والسّعة في الرّزق والأمن، فاغتروا بالنّعم وأسرفوا في شهواتهم وعبادتهم لأوثانهم.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{جَاءَهُمُ الْحَقُّ} : وهو القرآن العظيم.

{وَرَسُولٌ مُبِينٌ} : أيْ: محمّد صلى الله عليه وسلم بين الرّسالة أو الدِّين، مبين: ظاهر لكلّ فرد منهم أنّه رسول الله وليس بكاهن ولا بشاعر ولا مجنون ولا يحتاج إلى بيِّنة أو حُجَّة، مبين: للحق وما جاءَهم من الأحكام والشرائع.

ص: 90

سورة الزخرف [43: 30]

{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} :

{وَلَمَّا} الواو عاطفة، لما: ظرف زماني بمعنى حين، أيْ: وحين جاءهم الحق: القرآن العظيم.

{قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} : قالوا: أيْ: كفار قريش، هذا: اسم إشارة للقرب والهاء للتنبيه إشارة إلى القرآن، سحر: اتهموا القرآن بالسّحر لما رأوا تأثيره القوي في القلوب والأنفس، وكانوا يظنون كل شيء خارق للعادة سحراً. ارجع إلى سورة طه الآية (58) لتعريف السّحر، وسورة البقرة (102) لمزيد من البيان.

{وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} : ضمير الجمع، به: بالقرآن، وقدَّم به للحصر والقصر، كافرون: لا نؤمن به ولا نصدقه، أيْ: جاحدون، كافرون: جملة اسمية تدل على الثّبوت، أيْ: صفة الكفر عندهم ثابتة لا تتغيَّر أو تتبدَّل.

ص: 91

سورة الزخرف [43: 31]

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} :

{وَقَالُوا} : الواو عاطفة، قالوا: أيْ: كفار مكة.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ وحثٍّ.

{نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ} : نُزل، أيْ: بشكل منجم، أي: على دفعات ولو قالوا: أنزل لكان يعني ذلك على دفعة واحدة، هذا القرآن: كما في الآية السّابقة.

{عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} : على تفيد الاستعلاء، ولم يقل: إلى رجل التي تفيد الانتهاء، نُزل من اللوح المحفوظ، أيْ: هم استنكروا أن يُنزل القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم وهو ليس من زعمائهم وسادتهم، رجل من (ابتدائية) القريتين عظيم: رجل من القريتين مكة أو الطّائف. كما قال ابن عباس والرجل العظيم من مكة هو الوليد بن المغيرة القرشي، وقيل: عتبة بن ربيعة والرّجل العظيم من الطّائف، قيل: هو حبيب بن عمرو بن عمير الثّقفي، وقيل: غيره من الأسماء مثل مسعود بن عمرو، رجل عظيم: يعني: ذا جاه ومال وسيد في قومه.

ص: 92

سورة الزخرف [43: 32]

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} :

المناسبة: يرد الله سبحانه على اعتراضهم بإنزال النّبوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: أهم يقسمون رحمة ربك.

{أَهُمْ} : الهمزة: استفهام إنكاري وتحمل معنى التّعجب والضّمير يعود على كفار قريش، أهم يقسمون رحمة ربك أهم الّذين يختارون من يكون رسولاً أو نبياً لهم؟

{يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} : أي: النّبوة، وكما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : نحن: للتعظيم، قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا: أيْ: قسمنا: وزعنا أرزاقهم بينهم في الحياة الدّنيا فمنهم الغني ومنهم الفقير ومنهم التّاجر ومنهم المزارع ومنهم الطّبيب ومنهم الصّانع.

{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} : في الرّزق والغنى والفقر والعلم والجاه والصّحة والعافية والقوة والمهن والحرف والوظائف وغيرها.

{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} : اللام لام التّعليل، سخرياً: أيْ: ليساعد بعضهم بعضاً في سُبل العيش والخدمة، هذا بماله وهذا بعمله، فالطّبيب يحتاج إلى الخباز، والخباز يحتاج إلى الطّبيب، فلو تساوى النّاس في الغنى وفي الحِرف ولم يحتاج بعضهم إلى بعض لتعطَّلت سبل معاشهم وحاجتهم لغيرهم، وهناك فرق بين سُخرياً بضم السين، وسِخرياً بكسر السين، كما ورد في قوله تعالى:{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110] التي تعني: السخرية والاستهزاء، وأما سُخرياً بضم السين: من التسخير؛ أي: يخدم بعضهم بعضاً، والتسخير له معنى آخر هو التذليل كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى الْأَرْضِ} [الحج: 65].

{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} : رحمة ربك، أي: النّبوة أو الهداية والقرآن ونعمة الإسلام والإيمان أو الجنة، خير: أيْ: أفضل من، ما: ابتدائية استغراقية، ما (الّذي) يجمعون من المال ومتاع الدّنيا، يجمعون بصيغة المضارع لتدل على التّكرار والتّجدُّد.

ص: 93

سورة الزخرف [43: 33]

{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} :

{وَلَوْلَا} : لولا: حرف امتناع لامتناع.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

{يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} : أمة واحدة: على ملة واحدة هي ملة الكفر، أيْ: لولا الخوف أن ينقلب كلّ النّاس كفاراً.

لجعلنا (لحقارة الدّنيا) لكلّ كافر بيوتاً سقفها من فضة ومعارج عليها يظهرون ومصاعد عليها يرتقون وأبواباً من فضة وسرراً وزخرفاً في الدّنيا؛ لأنّ ليس لهم في الآخرة من نصيب؛ لأنّ الدّنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ كما ورد في الحديث عن سهل بن سعد الساعدي والذي رواه الترمذي، وهي عاريَّة زائلة مهما طال الأجل.

{لَّجَعَلْنَا} : اللام لام التّعليل، جعلنا: الجعل بعد الخلق والجعل يعني: صيرنا.

{لِبُيُوتِهِمْ} : اللام لام الاختصاص، سقفاً من فضة والبيت كلّ بناء يتشكل من أربع جدران وعليها سقف قائم والبيت وهو مأوى الإنسان بالليل سواء نائم فيه أو لم ينم.

{سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} : فقد تبين من الدراسات الحديثة: أن الفضة هي أفضل العناصر الكيميائية كلّها في القدرة على نقل الحرارة وتوصيلها، وهي أفضل من الذّهب لصنع السّقف؛ لأنّ السّقف الفضية توفِّر جوّاً من الدّفء، وخاصة في المناطق الباردة، فيمكن للصحائف الفضية امتصاص حرارة الشّمس وتوصيل الحرارة إلى الماء المستخدم في تدفئة المنازل وغيرها أو طهي الطّعام وأقل مقاومة لمرور التّيار الكهربائي وعدم إصدار شرر وتفيد في منع التّلوث بكونها تساعد على قتل البكتريا.

وهذه من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الدّالة على أن هذا القرآن مُنزل من الإله الحق.

{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} : أيْ: مصاعد كهربائية يصعدون بها إلى أعالي المباني وسطوحها.

سورة الزّخرف [الآيات 34 - 47]

ص: 94

سورة الزخرف [43: 34]

{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} :

{وَلِبُيُوتِهِمْ} : اللام لام الاختصاص، البيت: مأوى الإنسان بالليل، وبات: أقام بالليل سواء نام أم لم ينم.

{أَبْوَابًا} : من فضة أو من ذهب وفضة.

{وَسُرُرًا} : من فضة أو من ذهب وفضة، وسرُرُاً: جمع سرير.

{عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} : يجلسون، أو الاضطجاع قليلاً.

ص: 95

سورة الزخرف [43: 35]

{وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} :

{وَزُخْرُفًا} : الزّخرف: هو الذّهب والزّينة، أيْ: لجعلنا لهم زخرفاً ذهباً وزينةً في تلك السّقف والسّرر والأبواب، وليست فقط فضة، بل نزينها بالذّهب والنّقوش والحلي.

{وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : الواو استئنافية، إن: نافية تعني ما كلّ ذلك، ذلك: اسم إشارة إلى السّقف والأبواب والسّرر والمعارج والذّهب والحلي، لما: للحصر بمعنى إلا متاع الحياة الدّنيا، متاع الحياة الدّنيا: ما يمتع به وينتفع به من أثاث ومسكن وأدوات وغيرها من متاع الحياة الدّنيا: متاع زائل وفانٍ.

{وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ} : الواو عاطفة، الآخرة عند (ظرف مكاني) أو زماني.

{رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

ص: 96

سورة الزخرف [43: 36]

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} :

{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من شرطية.

{يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} : يَعْشُ: من مرض العشى: هو ضعف البصر أو عدم الرّؤية الجيدة في الليل، والأعشى: هو الّذي لا يبصر جيداً بالليل، أيْ: يُعرض أو يتغافل ويتعامى عن ذكر الرّحمن، ذكر الرّحمن: هو القرآن أيْ: يعرض عن القرآن، ولا يتعظ به، ولا يعمل به، ولا يتدبَّره، ولا يخاف وعيده.

{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} : هيئنا له أو أعددنا له شيطاناً (نكرة) وجواب الشّرط، شيطاناً تعني: عموم الشّياطين، وليس واحداً، أيْ: نقيِّض له شياطين كثراً؛ لأنّ النّكرة الواقعة بعد الشّرط (ومن) تفيد العموم، والدّليل على ذلك جاء بعدها وإنّهم (بالجمع) ليصدونهم عن السّبيل.

{فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} : الفاء للتوكيد، هو: لزيادة التّوكيد، قرين: مصاحب له يلازمه ولا يفارقه يوسوس ويزين له ويغويه ويضله، والفرق بين القرين والصّاحب: الصّاحب يمكن الانتفاع منه، أمّا القرين فلا فائدة منه ولا منفعة منه، بل ضرر.

ص: 97

سورة الزخرف [43: 37]

{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} :

{وَإِنَّهُمْ} : أي: الشّياطين.

{لَيَصُدُّونَهُمْ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، يصدون: يمنعون والصّد هو المنع عن بلوغ الغاية بسبب الوسوسة والتّزيين والإغواء والإضلال.

{عَنِ السَّبِيلِ} : عن: للمجاوزة والمباعدة، السّبيل: هو دين الله تعالى والهدى والحق.

{وَيَحْسَبُونَ} : من حسب: أي: اعتقد، أيْ: يعتقدون اعتقاداً راجحاً.

{أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} : أنهم: للتوكيد أنهم على طريق الحق والصّواب، مهتدون: جملة اسمية تدل على الثّبوت، أيْ: صفة الهداية ثابتة عندهم.

ص: 98

سورة الزخرف [43: 38]

{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} :

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{جَاءَنَا} : يوم القيامة، والمجيء فيه معنى المشقة والجهد، ولم يقل: أتانا، أتى فيها معنى السّهولة، والضّمير يعود على العاشي عن ذكر ربه، وفي قراءة: جاآنا: أيْ: كلاهما العاشي والقرين.

قال: {يَالَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} : يقول العاشي للقرين: يا ليت: يا: للنداء البعيد والتّنبيه، ليت: أداة تمني للأمور المستحيلة الحصول أو الحدوث، يتمنى لو أنّ بينه وبين قرينه أقصى مسافة بحيث لا يعد يراه أو يلتقي به أبداً. قرينه:(الشّيطان) بعد المشرقين، أيْ: بُعد ما بين المشرق والمغرب وغلب المشرق على المغرب، فقال بعد المشرقين كما نقول الأبوين (الأب والأم ونغلب الأب) أو بعد مشرق الشّمس في أقصر يوم من السّنة ومشرقها في أطول يوم، وتعني أنّه يحاول أن يتبرأ من قرينه الّذي أضلَّه في الدّنيا وأغواه.

{فَبِئْسَ الْقَرِينُ} : الفاء للتوكيد، بئس: من أفعال الذّم، أي: بئس القرين، القرين: ارجع إلى الآية (36) من نفس السّورة لبيان معنى القرين.

ص: 99

سورة الزخرف [43: 39]

{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} :

يقال لهم يوم القيامة توبيخاً لهم أو لبث القنوط في أنفسهم:

{وَلَنْ} : الواو استئنافية، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد.

{يَنْفَعَكُمُ} : ندمكم أو تمنيكم أو تبرؤكم ولا الاعتذار ولا الشّفاعة ولا الصّديق الحميم ولا أنسابكم.

{الْيَوْمَ} : يوم القيامة.

{إِذْ ظَّلَمْتُمْ} : إذ: ظرف للزمن الماضي، أي: إذ تبيَّن ظلمكم، ظلمتم: أنفسكم بالخروج عن منهج الله بالشّرك والكفر والمعاصي والصّد عن سبيل الله وعن ذكر الله.

{أَنَّكُمْ} : أنّ: للتوكيد، أي: أنتم وقرناءَكم.

{فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} : أي: كونكم في العذاب مشتركون لا يعني: تخفيف العذاب عن أيٍّ منكما، ولن ينفعكم أن يواسي أحدكم الآخر ظناً أنّ ذلك يخفف عنه من العذاب، كما يحدث في حال الدّنيا، فلا مواساة بينكم ولا يسئل حميمٌ حميماً.

ص: 100

سورة الزخرف [43: 40]

{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَنْ كَانَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{أَفَأَنْتَ} : الهمزة: للاستفهام التّعجبي والإنكار، والفاء للتوكيد، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{تُسْمِعُ الصُّمَّ} : (استعارة) شبه الكفار بالصّم والعمي؛ لأنّ آلة السّمع والبصر معطلة عندهم فآذانهم لا تعي ولا تنتفع بما تسمع من الآيات والموعظة والوعد والوعيد، وأعينهم لا ترى الحق ولا طريق الهداية، فهم قد فقدوا البصيرة ولا يرون إلا الباطل، فيسيرون وراءَه، فبعد أن وصفهم بالعشي المصابين بمرض العشى، ووصفهم بالصّم والعمي وفي ضلال مبين، فإنّك يا أو رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تستطيع أن تُسمع هؤلاء الكفار أو تهديهم مهما حاولت وأجهدت نفسك؛ لأنّهم قد ضلوا ضلالاً بعيداً من الصّعب أن يرجعوا منه.

{وَمَنْ} : بمعنى الّذي تشمل المفرد والمثنى والجمع، والذكر والأنثى.

{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : في: ظرفية، ضلال مبين: ضلال بين واضح لكلّ فرد وضلال غير خفي ولا يحتاج إلى تبيان.

ص: 101

سورة الزخرف [43: 41]

{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُنْتَقِمُونَ} :

{فَإِمَّا} : الفاء استئنافية، إما (إن + ما) إن: شرطية تفيد الاحتمال والافتراض والشّك، ما للتوكيد.

{نَذْهَبَنَّ بِكَ} : أيْ: نذهبنَّ بك من بينهم بالهجرة، أو الانتقال إلى الرّفيق الأعلى والنّون في نذهبنَّ للتوكيد، والخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذهبنَّ بك قبل الانتقام منهم وإنزال العذاب بهم.

{فَإِنَّا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنا: للتعظيم.

{مِنْهُم مُنْتَقِمُونَ} : أيْ: سننتقم منهم بعد الذّهاب بك من بينهم، فوجودك بينهم رحمة بهم، ويؤيِّد ذلك قول الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].

ص: 102

سورة الزخرف [43: 42]

{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} :

{أَوْ} : للتقسيم أو الاختيار.

{نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ} : نرينك: نون التّوكيد، الّذي وعدناك بالنّصر عليهم وأنت على قيد الحياة وهزيمتهم.

{فَإِنَّا} : للتعظيم، الفاء رابطة لجواب الشّرط.

{عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} : مقتدر على وزن مُفْتَعِل أبلغ من قادر، مقتدرون أبلغ وأعظم من قادرون، مقتدرون على عذابهم وإهلاكهم.

ص: 103

سورة الزخرف [43: 43]

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{فَاسْتَمْسِكْ} : الفاء للتوكيد، استمسك: ولم يقل: فأمسك، استمسك: السّين والتّاء للطلب والتّوكيد والحضِّ، أي: ابذل قصارى جهدك أو ما بوسعك بالتّمسك بالقرآن.

{بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ} : الباء للإلصاق والملازمة، الّذي: للتعظيم، أوحي إليك: أيْ: بالقرآن أوحي إليك من ربك. ولمعرفة معنى أوحي إليك ارجع إلى سورة النّساء آية (163).

{إِنَّكَ} : إنّ للتوكيد، والكاف للخطاب: إنّك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : على تفيد الاستعلاء والمشقة، صراط مستقيم هو دين الإسلام الحق، الصّراط المستقيم الّذي لا عوج فيه والموصل إلى الغاية القصوى، والصراط: هو الطّريق الواسع السّهل المستقيم الموصل إلى الغاية بأقصر مسافة وأقل زمن.

ص: 104

سورة الزخرف [43: 44]

{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْـئَلُونَ} :

{وَإِنَّهُ} : تعود على الّذي أوحي إليك، أي: القرآن وتفيد التّوكيد.

{لَذِكْرٌ لَكَ} : اللام للتعليل والتّوكيد، ذكر لك: شرف عظيم لك ولقومك أنّه نزل إليكم وبلغتكم وعلى رسولكم، وذكر تعني: تذكرة لك ولقومك بالآخرة بالاستعداد لها.

{لَكَ وَلِقَوْمِكَ} : اللام لام الاختصاص.

{وَسَوْفَ} : للاستقبال البعيد (فيه تراخٍ في الزّمن).

{تُسْـئَلُونَ} : عنه يوم القيامة عن العمل به وتطبيق شرائعه وأحكامه وإبلاغه، وتدبره، وعن حقه وشكره.

ص: 105

سورة الزخرف [43: 45]

{وَسْـئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} :

السّؤال وإن كان المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما المقصود به خطاب أمته؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيٌّ عن مثل هذا السّؤال ولم يشك ولم يسأل.

والرّسل قد ماتوا وقد يعني: اسئل أتباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا أيْ: مؤمني أهل الكتاب، سؤال غايته التّقرير ليكون عليهم حُجَّة أو حُجَّة لهم.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْـئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94].

{أَجَعَلْنَا} : الهمزة استفهام إنكاري ونفي، الجعل: أيْ: صيرنا.

{مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} : من غير الرّحمن.

{آلِهَةً يُعْبَدُونَ} : أيْ: هل أذن الرّحمن بعبادة أحد غيره، أو سوغ ذلك لأحد من البشر.

ص: 106

سورة الزخرف [43: 46]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

المناسبة: بعد بيان موقف كفار قريش لما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر وإنا به كافرون، يقص الله سبحانه على نبيه أنّ ما يحدث له من قومه حدث لموسى وعيسى عليهما السلام من قبله، وبيَّن ذلك في عدد من الآيات فقال:

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، واللام للتوكيد، قد للتحقيق.

{أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} : الباء للإلصاق، بآياتنا: أي: التّسع آيات ومنها العصا واليد، والّتي تدل على عظمة الله وقدرته تعالى وعلى وحدانيته وتدعو إلى الإيمان، ومنها الطّوفان والجراد والقمل والضّفادع والدّم والسّنين والثّمرات.

{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : فرعون ملك مصر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون. والملأ هم وجهاء القوم والأعيان الّذين يمثلون القوم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (75) لمزيد من البيان.

{فَقَالَ} : الفاء للترتيب والمباشرة.

{إِنِّى} : للتوكيد، رسول رب العالين. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لبيان معنى رب العالمين.

{رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : وفي سورة الشعراء آية (16) قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كيف نفسر ذلك؟ بالقول أن كلمة رسول في اللغة يمكن أن تطلق على المفرد والمثنى، وعلى الجمع؛ لأن الرسول يمثل الرسل، أو الرسل يمثلهم رسول واحد.

ص: 107

سورة الزخرف [43: 47]

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء عاطفة، لما: ظرف زماني بمعنى حين.

{جَاءَهُمْ} : موسى بآياتنا التّسع.

{إِذَا} : الفجائية.

{هُمْ} : للتوكيد.

{يَضْحَكُونَ} : جاء بصيغة المضارع لتدل على حكاية الحال كأنّهم أمامك يضحكون للدلالة على قبح ضحكهم، فبدلاً من أن يؤمنوا بها وبالله وحده استهزؤوا بها وسمَّوها سحراً.

سورة الزّخرف [الآيات 48 - 60]

ص: 108

سورة الزخرف [43: 48]

{وَمَا نُرِيهِمْ مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما: النّافية لنفي الحال.

{نُرِيهِمْ مِّنْ آيَةٍ} : أيْ: معجزة من المعجزات التّسع، أو الآيات التسع.

{إِلَّا} : أداة حصر (لوقوعها بعد النّفي).

{هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} : أيْ: هي أكبر من الآية الّتي قبلها، أيْ: سبقتها أو كلّ آية حين تحدث يشعرون بعظمتها وتبهر عقولهم، ويظنون أنّ كل آية حصلت في السّابق دونها، أي: يذهلون بعظمتها ولا يستطيعون التّمييز بينها، بل هي أشد من الأخرى.

{وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} : ولم يبيِّن نوع العذاب هنا، وقيل: بالسّنين ونقص من الثمرات، كما بيَّنته آية أخرى. ارجع إلى سورة الأعراف آية (130) للبيان.

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لعل للتعليل، يرجعون: إلى ربهم بإرادتهم واختيارهم بالتّوبة والإنابة إليه، يرجعون إلى الإيمان والتّوحيد وترك الشّرك.

ص: 109

سورة الزخرف [43: 49]

{وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} :

السّؤال كيف يسمُّون موسى السّاحر ويطلبون منه أن يدعوَ ربه بما فضله الله عليهم أن يكشف عنهم العذاب، ووعدوه بأن يهتدوا ويرجعوا عن غيِّهم وضلالهم؛ لأنّهم كانوا يطلقون على العالم الماهر أو البارع ساحر؛ لأنّه جاء بأمور خارقة للعادة مثل العصا واليد، وكل أمر خارق للعادة ومؤثر في أنفسهم كانوا يشبهونه بالسّحر، وكان السّحرة لهم مكانتهم وسلطانهم آنذاك فقولهم: يا أيها السّاحر فيه معنى المدح وليس العيب بالنسبة لهم.

{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} : أن يكشف عنا العذاب.

{بِمَا} : الباء للإلصاق والمصاحبة أو باء السّببية، ما: مصدرية أو اسم موصول.

{عَهِدَ عِنْدَكَ} : من الإيمان والطّاعة والنّبوة أو الدّعوة المستجابة أو عهد عندك أنّه يكشف العذاب عمن آمن أو بما أوصاك أن تدعوه به.

{إِنَّنَا} : للتوكيد.

{لَمُهْتَدُونَ} : اللام للتوكيد، لمهتدون بشرط أن يكشف عنها العذاب، مهتدون: جمع مهتدٍ، جملة اسمية تدل على ثبات صفة الهداية، أيْ: إذا اهتدوا لن يتخلوا عن الهداية أبداً بعدها.

ص: 110

سورة الزخرف [43: 50]

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} :

اللهُ سبحانه هو يعلم منذ الأزل أنّهم سوف ينكثون، فلماذا كشف عنهم العذاب واستجاب لهم الجواب؛ ليقيم عليه الحُجَّة وينكثون بعهدهم ويزدادوا غياً وضلالاً وعذاباً في نار جهنم.

{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والمباشرة، لما: ظرف زماني بمعنى حين متضمن معنى الشّرط.

{كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} : رفعنا أو أزلنا عنهم خاصة العذاب، وسمَّاه الرّجز، كما ورد في سورة الأعراف آية (135).

{إِذَا هُمْ} : إذا الفجائية، هم للتوكيد.

{يَنْكُثُونَ} : ينقضون عهدهم ويستمرون على كفرهم لا يوفون بعهدهم، ورجعوا عن عهدهم وتخلوا عنه.

ص: 111

سورة الزخرف [43: 51]

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ} :

بعد أن كشف الله سبحانه الرّجز عن فرعون وقومه بدعوة موسى ونكث فرعون وقومه العهد وهو إننا لمهتدون، خاف فرعون أن يتبع قومه موسى ويؤمنوا له فنادى فيهم فقال:

{قَالَ يَاقَوْمِ} : نداء فيه حنان واستعطاف حتّى يجلب أنظارهم إليه.

{أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} : الهمزة همزة للتقرير، أيْ: أقروا بذلك، لي: تقديم لي، أيْ: لوحدي لا يشاركني فيه أحد، لام الاختصاص والملكية أو الاستحقاق، ملك مصر: مصر، أيْ: بلاد مصر.

{وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى} : نهر النّيل بفروعه العديدة، من تحتي: أيْ: تحت قصوره أو قصوره المطلة على نهر النّيل.

{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} : الهمزة همزة استفهام وتقرير، والفاء للتوكيد، ألا أداة تنبيه وحضٍّ وحثٍّ على الإبصار (الرّؤية بالعين).

ص: 112

سورة الزخرف [43: 52]

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} :

{أَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري، أم للإضراب الانتقالي.

{أَنَا خَيْرٌ} : أنا أفضل.

{مِّنْ هَذَا} : من ابتدائية، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب ويشير إلى موسى عليه السلام.

{الَّذِى هُوَ} : الّذي: اسم موصول يفيد الذّم، ذم موسى، هو: للتوكيد.

{مَهِينٌ} : ذليل ضعيف حقير.

{وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} : أيْ: لا يفصح بلسانه، ويبيِّن ما يريده بكلامه. ارجع إلى سوره طه آية (27 – 28).

ص: 113

سورة الزخرف [43: 53]

{فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} :

{فَلَوْلَا} : الفاء للتوكيد، لولا: أداة حثٍّ وحضٍّ.

{أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} : أسورة جمع سوار، أسورة جمع قلة بينما أساور جمع كثرة، كما ورد في سورة الحج آية (23) والكهف آية (31) وفاطر آية (33) والإنسان آية (21).

وقدَّم عليه؛ لأنّ سياق الكلام على موسى، أيْ: إذا كان رسولاً حقاً لِمَ لا يُلقي عليه أسورة من السّماء من ذهب: من اسم جنس، كما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8].

{أَوْ} : تعني: وجاء معه الملائكة مقترنين أو للتخيير.

{مُقْتَرِنِينَ} : جمع مقترن اسم فاعل من فعل اقترن على وزن مفتعل: متتابعين يعينونه على رسالته أو يشهدون له بالرّسالة ويشهدون أنّه نبي مرسل.

ص: 114

سورة الزخرف [43: 54]

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} :

{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} : الفاء عاطفة، استخف: استصغر عقول قومه واستهان بها وظن أنّه قادر على حملهم على طاعته والاستجابة لما دعاهم إليه من الضّلالة وعدم اتِّباع موسى.

{قَوْمَهُ} : أي: القبط أو الأقباط.

{فَأَطَاعُوهُ} : الفاء للتوكيد، أطاعوه: فرعون في تكذيب موسى وعدم الإيمان له.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} : إنّهم للتوكيد، كانوا فاسقين خارجين عن طاعة الله ورسوله أو أطاعوه لكونهم قوماً فاسقين، فقوم فرعون لهم ميزتان الأولى: خفة في عقولهم وضعف، والثّانية: فاسقون، فاسقون: أي: صفة الفسق ثابتة عندهم لا تتغير.

ص: 115

سورة الزخرف [43: 55]

{فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء عاطفة تفيد التّوكيد، لما: ظرف زمان بمعنى حين أسفونا.

{آسَفُونَا} : أسِفَ عليه غضب عليه وآسَفَه أغضبه، الأسَف يعني أيضاً: شدة الحُزن، ويمكن القول: الأسَف حسرة + غضب (أو غيظ) أو الأسَف معناها غضبان على شيء ومتلهف عليه. آسفونا قد تعني: طردناهم من رحمتنا وانتقمنا منهم.

{انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : الانتقام نقيض الإنعام، أيْ: سلب النّعمة بالعذاب، كانوا في نعمة فأغرقناهم.

{فَأَغْرَقْنَاهُمْ} : الفاء: للترتيب والمباشرة، أغرقناهم في اليم (البحر الأحمر).

{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد، فرعون وجنوده، لم ينجُ منهم أحدٌ.

ص: 116

سورة الزخرف [43: 56]

{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ} :

{فَجَعَلْنَاهُمْ} : الفاء عاطفة.

{سَلَفًا} : من سَلَف: أيْ: تقدَّم ومضى، أيْ: سبق غيره في الوجود، والأسلاف: المتقدِّمون.

{وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ} : أيْ: عبرة ومثلاً لغيرهم، أيْ: لمن جاء من بعدهم، لكي لا يقوموا بما قاموا أو يسيروا على دربهم فينتقم الله منهم، فصار يضرب بهم المثل كيف أهلكهم ودمَّرهم الله سبحانه بسبب عصيانهم وفسقهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، للآخرين: اللام لام الاختصاص، الآخرين: بكسر الخاء الأجيال الّتي جاءت من بعدهم.

ص: 117

سورة الزخرف [43: 57]

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} :

{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما: ظرف زماني بمعنى حين.

{ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} : أي: عيسى ابن مريم، والسؤال: لماذا لم يُذكر المسيح عيسى ابن مريم، وقال ابن مريم؟ لأن المسيح ليس اسماً، بل لقب، وعيسى اسم يأتي في سياق التكليف والثناء، وعامة، وابن مريم (كنيته) لا تأتي في سياق التكليف؛ لا بُدَّ من معرفة سبب نزول هذه الآية لتساعد على فهم هذه الآية:

روي عن ابن عباس، وجاء في أسباب النّزول للواحدي أنّه لما نزلت الآية (98) من سورة الأنبياء، وهي قوله تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} شق ذلك على قريش وقالوا: شتم آلهتنا فجاء ابن الزّبعرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهذا لآلهتنا خاصة أو لكلّ من عُبد من دون الله قال صلى الله عليه وسلم: لا بل لكلّ من عُبد من دون الله، فقال ابن الزّبعرى: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أنّ الملائكة عباد صالحون، وأنّ عيسى عبد صالح وأنّ عزيراً عبد صالح، فهذه بنو مليح تعبد الملائكة وهذه النّصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيراً، فإن كان كلّ هؤلاء في النّار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فضج مشركو مكة فرحاً وصخباً.

ضرب ابن مريم مثلاً: أيْ: ضرب كفار قريش ابن مريم مثلاً لما يُعبد من دون الله، فإذا كان في جهنم فلا مانع أن يكونوا هم وآلهتهم معه، أيْ: مع عيسى في جهنم.

{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} : إذا الفجائية، قومك: الّذين أشركوا، قومك منه يصدون: انتبه إلى كلمة يصدون، هناك من يقرأ يصِدون بكسر الصاد وهناك من يقرأ يصُدون بضم الصاد، يصِدون: بكسر الصّاد تعني يصخبون يضجون، أي: الصّخب والضّجيج، يصُدون: بضم الصاد تعني: يُعرضون ويعدلون عن عيسى أو عن القرآن، ويقولون في القرآن تناقض، آية تقول: عيسى في النّار وآية تقول: عيسى مستثنى من النّار، قومك منه: هاء الضّمير قد تعود على عيسى عليه السلام، وقد تعود على القرآن ويجوز كلا التّفسيرين معاً.

ص: 118

سورة الزخرف [43: 58]

{وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} :

{وَقَالُوا} : أي: الّذين أشركوا.

{أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} : الهمزة همزة استفهام وفيها معنى التّسوية: أيْ: آلهتنا ليست خيراً من عيسى، فإذا كان عيسى في النّار فقد رضينا أن نكون معه بمنزلته، أي: نرضى أن نكون معه سواء.

{أَمْ هُوَ} : أم للإضراب الإبطالي طبعاً هو أفضل من آلهتنا. هو: للتوكيد فإذا عيسى سيكون في النّار فأمر آلهتنا هو أمر هين.

{مَا ضَرَبُوهُ} : ما النّافية، أيْ: ما ضربوا ذلك المثل لك يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِلَّا جَدَلًا} : إلا أداة حصر، جدلاً: يجادلونك بالباطل، الجدال: هو الحوار الّذي يحدث فيه اختلاف في الآراء ومشادة في الحوار لدفع شبهة أو إثبات حق.

{بَلْ هُمْ} : للإضراب الانتقالي، هم: ضمير فصل للتوكيد.

{قَوْمٌ خَصِمُونَ} : شديدوا الخصام، أي: الجدال والعداوة وصفة الخصام صفة ثابتة عندهم.

ص: 119

سورة الزخرف [43: 59]

{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} :

{إِنْ هُوَ} : إن: نافية وأشد نفياً من ما، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} : أي: عيسى ابن مريم أنعمنا عليه بالنّعم الكثيرة، ومنها النّبوة والقرب، أيْ: من المقربين والحكمة والعلم والصّلاح.

{وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ} : مثلاً: آية أو أمراً غريباً نادراً من كونه خُلق من غير أب، دليلاً على قدرة الله إذا أراد شيئاً، فإنما يقول: كن فيكون، مثلاً لبني إسرائيل: اللام لام الاختصاص. ثم خاطب كفار مكة بقوله:

ص: 120

سورة الزخرف [43: 60]

{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَّلَائِكَةً فِى الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} :

{وَلَوْ} : شرطية.

{نَشَاءُ} : للتعظيم.

{لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} : نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكة.

{يَخْلُفُونَ} : لها عدة معانٍ:

1 -

يخلف بعضهم بعضاً كما قال ابن عباس.

2 -

يخلفونكم ليكونوا بدلاً منكم.

3 -

يخلفون الرّسل فيكونون رسُلاً إليكم بدلاً منهم.

4 -

أو من يموت منكم نأتي بمَلَك بدلاً منه.

ولمعرفة الفرق بين يخلفون (الخلافة) والاستبدال، ارجع إلى سورة التّوبة آية (39) والأنعام آية (133).

سورة الزّخرف [الآيات 61 - 73]

ص: 121

سورة الزخرف [43: 61]

{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} :

{وَإِنَّهُ} : أيْ: عيسى ابن مريم.

{لَعِلْمٌ} : اللام لام التّوقيت.

{لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أيْ: شرط من أشراط الساعة، أيْ: تُعلم السّاعة بنزوله فهو علامة من علامات وقوع السّاعة والسّاعة تعني: ساعة تهدم النّظام الكوني.

{فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية، تمترن بها: من المراء وهو الجدال بعد ظهور أو معرفة الحق.

{وَاتَّبِعُونِ} : اتبعوا هداي وشرعي.

{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} : أيْ: هذا الدّين القيم، أي: الإسلام هو الصّراط المستقيم. ارجع إلى الآية (43) من نفس السّورة.

ص: 122

سورة الزخرف [43: 62]

{وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} :

{وَلَا} : الواو استئنافية، لا النّاهية.

{يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} : الصّدُّ هو المنع من الوصول إلى الغاية أو القصد يصدنكم بوساوسه وإغوائه وتزيينه عن اتباع دين الله تعالى وعن التّوحيد، ويصدنكم: النّون للتوكيد.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص لكم خاصة.

{عَدُوٌّ مُبِينٌ} : عدو ظاهر العداوة لكلّ إنسان، عدواته ظاهرة بنفسها لا يخفيها ولا تحتاج إلى من يظهرها.

ص: 123

سورة الزخرف [43: 63]

{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} :

{وَلَمَّا} : الواو استئنافية، لما: ظرف زمان بمعنى حين.

{جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} : الباء للإلصاق والملازمة، البينات: المعجزات مثل إحياء الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيه فيكون طيراً وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم.

{قَالَ قَدْ} : للتحقيق.

{جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} : بالنّبوة، وقد تعني: الإنجيل والشّرائع والأحكام.

{وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ} : اللام للتوكيد والتّعليل، لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة.

{بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} : بعض تعني: جزءاً: أيْ: بعض الّذي تسألون عنه، وقد تعني البعض: الكل لأن البعض يشير إلى الكل أو الكل يشير إلى البعض، أيْ: لأبين كلّ ما تختلفون فيه من أمور دنياكم وآخرتكم؛ أي: الاختلاف في الآراء في أمور العقيدة بين أهل الملل المختلفة أو أهل الملة الواحدة.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط المقدر، اتقوا الله: أطيعوا أوامره وتجنبوا نواهيه، وأطيعون: أيْ: عيسى عليه السلام، وأطيعون ولم يقل: وأطيعوني لقلة عدد الطّائفين أو أطيعون بالإيمان أوّلاً والدّخول في الإسلام أو أطيعون، ولو بعض الطّاعة أو كل ما تستطيعون.

ص: 124

سورة الزخرف [43: 64]

{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.

{هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ} : هو ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر، ربي وربكم: أي: الّذي خلقني وخلقكم ورزقني ورزقكم هو ربي وربكم، وإضافة هو بدلاً من القول:(إن الله ربي وربكم): جاءت في سياق الحديث عن عبادة عيسى، واتخاذه إلهاً، ولذلك أضاف هو ضمير الفصل الدال على التوكيد والحصر كما قلنا.

{فَاعْبُدُوهُ} : الفاء للتوكيد، اعبدوه وحده وهذه صفة الألوهية فإنّه الإله الحق المعبود الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً.

{هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} : هذا سبيل ثابت وبيِّن لا عوج فيه أن الإله الحق هو ربي وربكم، وأني عبدُ الله ورسوله ولست ربكم، وأن اتقوا الله واعبدوه ذلك هو الصّراط المستقيم الموصل إلى الغاية.

ولنقارن هذه الآية (64) من سورة الزّخرف مع آية آل عمران (51) وآية (36) من سورة مريم، وهي قوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} نرى زيادة كلمة هو في آية الزّخرف الّتي تدل على التّوكيد. ارجع إلى سورة مريم آية (36) لمعرفة الفرق.

ص: 125

سورة الزخرف [43: 65]

{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} :

{فَاخْتَلَفَ} : الفاء عاطفة، وتدل على التّرتيب والمباشرة.

{الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} : جمع حزب: الأحزاب مثل الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس والحزب جماعة تتحزب على أمر ما، أيْ: تتعاون، فيما بينهم: من ابتدائية، بينهم: النّصارى حيث اختلفوا في شأن عيسى فمنهم من قال أنّه إله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة، اختلفوا في عقائدهم وشرائعهم.

{فَوَيْلٌ} : الفاء عاطفة، ويل: تعني الهلاك أو العذاب. وتعني: تهديد ووعيد للذين ظلموا.

{لِلَّذِينَ} : اللام لام الاستحقاق والإخلاص.

{ظَلَمُوا} : أشركوا بالله وصدقوا أنّ المسيح هو ابن الله، أو ثالث ثلاثة أو هو الإله.

{مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} : يوم القيامة.

لنقارن هذه الآية (65) من سورة الزّخرف وهي قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} مع الآية (37) من سورة مريم، وهي قوله تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

آية الزّخرف تحذر الذين ظلموا (أشركوا) من العذاب وآية مريم تحذر الذين كفروا من المشهد (يوم القيامة)، والكفر أشد من الظلم حيث في آية مريم جاءت في سياق اتخاذ الولد، وفي آية الزخرف اختلف الأحزاب فمنهم من أشرك ومنهم من لم يشرك فوصفهم بالظلم لاختلافهم.

ص: 126

سورة الزخرف [43: 66]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :

{هَلْ} : للاستفهام تفيد النّفي، أيْ: ما ينظرون.

{يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم} : الضّمير هنا عائد للأحزاب (الّذين ظلموا) وقد يعود لقريش، ينظرون إلا: حصراً وقصراً، والسّاعة: لحظة تهدم النّظام الكوني.

{أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} : أن للتعليل، تأتيهم بغتة: فجأة.

{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} : لا يشعرون بوقت مجيئها وهم غافلون منشغلون بأمور دنياهم أو بغتة وهم نائمون أو وهم يخصمون.

ص: 127

سورة الزخرف [43: 67]

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} :

{الْأَخِلَّاءُ} : جمع خليل، أي: الأحباء وهو الصّديق الحميم في الدّنيا خلة قائمة على الكفر ومعصية الله. ارجع إلى سورة النّساء آية (125) لمزيد من البيان في معنى الخليل.

{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة.

{بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : تنقطع الخلة بينهم ويصبحون أعداء.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{الْمُتَّقِينَ} : أي: الّذين امتثلوا أوامر الله وتجنبوا نواهيه فهؤلاء مودتهم وخلتهم تستمر ولا تنقطع؛ لأنّ خلتهم كانت قائمة لوجه الله تعالى وتقوى الله سبحانه ومرضاته.

ص: 128

سورة الزخرف [43: 68]

{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} :

{يَاعِبَادِ} : ينادي الله سبحانه عباده المتقين بياء النّداء يوم القيامة، وفيها معنى الحنان والرّحمة. يا عباد: الكل يطلق عليه عباد في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا يطلق عليهم عبيد، عبادي، عباد. ارجع إلى سورة البقرة آية (186)، وسورة الزمر آية (17) للبيان.

{لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} : لا النّافية، خوف: الخوف أن تتوقع شراً مقبلاً أو ضرر مشكوك فيه، لا خوفٌ بالتّنوين: أيْ: لا خوف واقع عليكم الآن ولا في المستقبل، لا خوف عليكم: أي: أثبت لهم عدم الخوف ولم ينفِ عن الآخرين عدم الخوف.

{الْيَوْمَ} : يوم القيامة.

{وَلَا أَنتُمْ} : تكرار النّفي يفيد التّوكيد.

{تَحْزَنُونَ} : الحَزَن: هو أن يفوتك شيء تحبه وتتمناه، يكون لأمرٍ ماضٍ فهو قد نفى الخوف ونفى عنهم الحزن، ونفى عنهم كليهما معاً، ولا أنتم تحزنون: نفى عنهم الحزن ولم ينفِ عن غيرهم الحزن.

ص: 129

سورة الزخرف [43: 69]

{الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.

{آمَنُوا بِآيَاتِنَا} : أيْ: صدقوا بآياتنا أيْ: بآيات القرآن، والآيات الكونية والأدلة والمعجزات على وحدانيته.

{وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} : كانوا في الدّنيا مخلصين موحِّدين.

ص: 130

سورة الزخرف [43: 70]

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} :

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} : أنتم: للتوكيد، وأزواجكم: أيْ: نساءكم المؤمنات.

{تُحْبَرُونَ} : تنعمون في الجنة، ويسمَّى السّرور حبوراً، وقيل: الحبور الكرامة أو النّعمة الحسنة، والحبور: قيل: هو السّرور الّذي يظهر أثره على الوجه فهو أشد السّرور تحبرون تدل على التّجدُّد والتّكرار.

ص: 131

سورة الزخرف [43: 71]

{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

{يُطَافُ عَلَيْهِم} : أيْ: تُقدَّم لهم الأطعمة في أوانٍ من ذهب. وإذا قارنا يطاف بكلمة يطوف نجد أن كلمة يطاف يقصد بها الآنية أو المشروب، وأما يطوف تأتي في سياق الغلمان أو الولدان المخلدون الذين يقدمون الشراب.

{بِصِحَافٍ} : الباء للإلصاق، صحاف: جمع صحفة كالقصعة إناء يوضع فيه الأكل يكفي خمسة أشخاص.

{مِنْ ذَهَبٍ} : من ابتدائية لبيان الجنس وهو الذّهب.

{وَأَكْوَابٍ} : جمع كوب وهو إناء لا عروة له يشرب منه الشّارب حيث يشاء، أما الكوز: فله عروة تحدِّد جهة الشّرب.

{وَفِيهَا} : أيْ: في الجنة.

{مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ} : الشّهوة تتعلق بما يلذ بالحواس والشّهوة ميل النّفس إلى ما يلذ ويسر.

{وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} : برؤيته ومشاهدته واللذة تعريفها هي: توقَّان النّفس أيْ: ميلها إلى نيل ما تحب رؤياه ومشاهدته، الأعين جمع عين: أيْ: آلة البصر.

{وَأَنتُمْ} : للتوكيد.

{فِيهَا} : ظرفية، أيْ: في الجنة.

{خَالِدُونَ} : البقاء والاستمرار إلى ما لا نهاية ويبدأ من وقت محدد هو زمن دخولهم الجنة بعد الحساب والعرض، خالدون تدل على صفة الخلد الثّابتة عندهم.

ص: 132

سورة الزخرف [43: 72]

{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَتِلْكَ} : الواو عاطفة، تلك: اسم إشارة واللام للبعد وتحمل معنى المدح.

{الْجَنَّةُ} : معرفة بأل التّعريف، أيْ: جنات عدن أو الفردوس أو النّعيم أو المأوى ودار السّلام.

{الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا} : الميراث: لغة: هو البقاء: أيْ: بقية الشّيء الّذي يتركه المورث وراءه، هو ما يأخذه الفرد من دون عوض أو ما يستحقه الوارث من مورثه أو خلافة الحي للميت في ماله أو ما تركه من عقار أو متاع. فكيف نوفِّق بين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].

الأعمال الصالحة: هي سبب من أسباب دخول الجنة، والجنة لن تكون عوضاً عن أيِّ عمل صالح أو أعمال صالحة مهما عظمت؛ لأن العوض لا بُدَّ أن يكون مساوياً للمعوض، فالأعمال الصالحة وحدها لا تكفي للدخول، ولكنها سبب من الأسباب.

أما الأسباب الحقيقية فهي رحمة الله تعالى. أو الأعمال الصالحة توصل إلى رحمة الله ورحمة الله توصل إلى الجنة، أما وراثة الجنة؛ فالمقصود بها كما قال ابن عباس: يرث المؤمن مقعد من أدخل النّار ويرث الكافر مقعد من أدخل الجنة؛ لأن لكل منهما مقعداً في الجنة ومقعداً في النّار، فالمؤمن تصبح له جنتان والكافر يصبح له مقعدان في النّار، الجنة الأولى أو المقعد الأول بسبب عمله، والثاني ما ورثه من غيره.

{بِمَا كُنتُمْ} : الباء للإلصاق، باء السّببية أو التّعليل، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{تَعْمَلُونَ} : كنتم في الحياة الدّنيا، تعملون: العمل يضم الأقوال والأفعال.

ص: 133

سورة الزخرف [43: 73]

{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} :

{لَكُمْ فِيهَا} : اللام لام الاختصاص لكم خاصة، فيها: يعود إلى الجنة.

{فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ} : فاكهة: اسم جنس اسم عام يشمل المفرد والمؤنث والجمع، بينما فواكه: تعني الجمع فقط، فاكهة أعم من فواكه، والفاكهة في الجنة فقط للأكل، وليس لصنع الأشياء الأخرى، فاكهة كثيرة: متعدِّدة ومتنوِّعة.

{مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} : ولم يقل: ومنها تأكلون، كما ورد في سورة المؤمنون آية (19)؛ أيْ: لا حاجة بها إلا إلى الأكل وليس لغرض آخر، ولذلك قال منها تأكلون؛ أما في سياق الدّنيا قال تعالى: منها تأكلون؛ أي: تأكلون منها وتصنعون من الفاكهة مأكولات أخرى، وتأكلون تدل على التّجدُّد والتّكرار.

سورة الزّخرف [الآيات 74 - 89]

ص: 134

سورة الزخرف [43: 74]

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} :

المناسبة: بعد ذكر المتقين وما أعد الله لهم في جنات النّعيم يذكر المجرمين وما أعد الله لهم في الجحيم.

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} : إنّ للتوكيد، المجرمين: تشمل الكفرة والمشركين والعصاة، والجرم أصله القطع، ويعني: الذّنب العظيم، والمجرم هو من قطع كلّ الصّلات بالله تعالى. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.

{فِى} : ظرفية.

{عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} : جهنم: ارجع إلى سورة الرّعد الآية (18) لبيان معنى جهنم. خالدون: باقون باستمرار بلا انقطاع يبدأ من زمن دخولها.

ص: 135

سورة الزخرف [43: 75]

{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} :

{لَا} : النّافية.

{يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} : من فتر يفتر سكن بعد حدة وفَتَر الماء: سكن حره فهو فاتر، أيْ: لا يسكن عنهم العذاب ولا يخفف والضّمير يعود إلى المجرمين.

{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{فِيهِ} ظرفية.

{مُبْلِسُونَ} : جمع مبلس والإبلاس هو شدة اليأس المختلط بالحزن والسّكوت، واليأس النّاشئ من انقطاع رجائهم في النّجاة، والإبلاس: أصبح صفة ثابتة عندهم، ارجع إلى الآية (77) من سورة المؤمنون لمزيد من البيان.

ص: 136

سورة الزخرف [43: 76]

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} :

{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية لنفي الحال.

{ظَلَمْنَاهُمْ} : بإنقاص حسنة أو زيادة سيئة.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك وتوكيد.

{كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} : لأنفسهم بما ارتكبوا من الشّرك والكفر والمعاصي، وخرجوا عن منهج الله. هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

ص: 137

سورة الزخرف [43: 77]

{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} :

{وَنَادَوْا} : أيْ: نادى المجرمون.

{يَامَالِكُ} : خازن النّار، يا: النّداء للبعد نداء استغاثة.

{لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} : اللام للتوكيد، يقضي علينا ربك: قضى عليه: أيْ: أماته لكي يتخلصوا من العذاب المطبق عليهم الدّائم الّذي لا يُفتر لعلهم يرتاحون، إذا أماتهم الله تعالى.

{قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} : قال مالك رداً على ندائهم إنّكم: التّوكيد، ماكثون: مقيمون منتظرون، المكث: يعني: الإقامة والانتظار غير المحدد بزمن أو أمد، ماكثون: تدل على الثّبوت في العذاب.

ص: 138

سورة الزخرف [43: 78]

{لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} :

هذا من كلام الله تعالى:

{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق، أيْ: تحقيق مجيئكم بالحق.

{جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ} : لقد أرسلنا إليكم رسولنا بالحق: بالدّين الحق وبالقرآن والتّوحيد وبما ينجيكم من عذاب الله تعالى، الباء للإلصاق والملازمة، والحق: هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل كالقرآن، وكما قال تعالى:{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الرّوم: 30].

{وَلَكِنَّ} : حرف الاستدراك وتوكيد، أيْ: علة إقامتكم في النّار أنّكم كرهتم دين الله وأعرضتم عنه.

{أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} : أكثركم لدين الله تعالى، أيْ: للإسلام وأحكامه وشرعه كارهون، تفيد الثّبوت على الكراهية، للحق: لام الاختصاص، والكراهية ضد الإرادة وقد تستعمل في نفور الطّبع، وأما الأقلية فيريدون الحق ويميلون إليه.

ص: 139

سورة الزخرف [43: 79]

{أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} :

المناسبة: أيْ: هم لم يكتفوا بالإعراض عن دين الله وكراهيته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فأبرموا أمراً في دار النّدوة بمكة ليقتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أو يحبسوه أو ينفوه بعيداً في الأرض، كما قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30].

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{أَبْرَمُوا أَمْرًا} : الإبرام: الإتقان والإحكام مشتق من الفتل المحكم، يقال: أبرم الحبل إذا أتقن فَتْله، أي: اتخذوا قرارهم وعقدوا العزم للتخلص من رسول الله، أمراً: مكراً أو كيداً.

{فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} : فإنا للتعظيم، أيْ: ونحن كذلك محكمون كيدنا ومكرنا بهم، وكان مثال ذلك يوم بدر باستئصال صناديد قريش.

ص: 140

سورة الزخرف [43: 80]

{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} :

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام الإنكاري.

{يَحْسَبُونَ} : من حسب: اعتقد وتعني: الظّن الرّاجح أو الرّأي الرّاجح وتشمل حساب حسي وحساب قلبي قائم على النّظر والتّجربة والحساب.

{أَنَّا} : للتعظيم.

{لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} : لا: نافية للجنس تنفي كلّ الأزمنة، نسمع سرهم: أي: ما يسرونه من قول أو شر أو كيد أو مكر أو نجوى للضرر بالرّسول صلى الله عليه وسلم، أو بالمؤمنين أو للصد عن دين الله تعالى.

سرهم: أيْ: ما حدثوا به أنفسهم وأخفوه حتّى لا يطلع عليه أحد غيرهم.

{وَنَجْوَاهُم} : النّجوى: لا تكون إلا كلاماً سراً بين اثنين أو أكثر بحيث لا يسمعه غيرهم.

{بَلَى} : حرف جواب للاستفهام المنفي، أيْ: بلى نحن نسمع ما يسرون وما يعلنون ونعلم سرهم ونجواهم، وليس فقط ذلك بلى ورسلنا لديهم أيضاً يكتبون ويسمعون، أي: الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين لكلّ ما يصدر منهم من قول أو فعل، كما قال تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18].

{لَدَيْهِمْ} : معهم.

{يَكْتُبُونَ} : أقوالهم وأفعالهم، ويكتبون تدل على التّجدُّد والتّكرار والاستمرار.

ص: 141

سورة الزخرف [43: 81]

{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} :

المرجَّح هنا {إِنْ} : ليست شرطية ولا تعني: الافتراض أو الاحتمال؛ لأنّ الافتراض والاحتمال لا يجوز بحق الله تعالى، وإنما تعني النّفي، أيْ: قل ما كان للرحمن ولد؛ فأنْ يكون للرحمن ولد هذا مستحيل وممتنع في حقه؛ لأنّ الولد فيه معنى العجز والحاجة لغيره، أو مهما كانت غايته، وإذا قلنا على سبيل الفرض أنّ له ولداً، فهذا فرض محال والمعلَّق على المحال محال.

{فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} : الفاء للتوكيد أنا أوّل العابدين: أي: الموحدين، أيْ: ما كان للرحمن ولد، وأنا أوّل العابدين على يقين أنّه ليس له ولد.

ص: 142

سورة الزخرف [43: 82]

{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} :

{سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أيْ: أنزه الله تنزيهاً عن كونه له ولد أو نقص أو عيب في ذاته أو صفاته أو أفعاله، رب السّموات والأرض: خالق ومالك السّموات والأرض ومدبرهما.

{رَبِّ الْعَرْشِ} : الّذي هو أعظم من خلق السّموات والأرض.

{عَمَّا يَصِفُونَ} : عما: عن + ما، عن: تفيد المجاوزة والبعد، ما: تشمل العاقل وغير العاقل وأوسع من الّذي، يصفون: بأنّ له ولداً أو شريكاً أو ندّاً أو مثيلاً أو صاحبة أو ولياً.

ص: 143

سورة الزخرف [43: 83]

{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} :

{فَذَرْهُمْ} : الفاء للتوكيد، ذرهم: اتركهم دعهم.

{يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} : الخوض في الباطل بأنّ يقولوا: اتخذ الله ولداً أو شريكاً أو ندّاً أو ولياً ويخوضوا في ضلالتهم وغيهم، والخوض: أصله هو الدّخول في الماء دون معرفة عمق الماء أو فيما ستزل قدمه أو لا، ويلعبوا: في دنياهم بإضاعة الزمن، وعدم امتثال أوامر الله، وتجنب نواهيه، واللعب هو شغل لا يُلهي عن واجب ويتحول إلى لهو إذا أشغل الإنسان عن واجبه، أو ما هو مطلوب منه، فأيُّ أمر أو فعل يشغل الإنسان عن الصّلاة مثلاً فلا يؤديها يعتبر لعباً بحقِّه، والخوض واللعب في الدنيا من باب الغفلة والجهل.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} : أيْ: يوم القيامة يوعدون فيه بالعذاب وفي الآية تهديد ووعيد للخائضين في الباطل، وفي دين الله عبثاً.

ص: 144

سورة الزخرف [43: 84]

{وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} :

{وَهُوَ} : الواو استئنافية، هو: ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{فِى السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ} : أيْ: هو الإله المعبود الموحد بحق في السّماء، وهو الله الإله المعبود الموحد بحق في الأرض، ولو قال: وهو في السّماء والأرض إله لكان يعني: هو إله فقط في الأرض، ولو قال: وهو الّذي في الأرض والسّماء إله لكان يعني: هو إله فقط في السّماء فلا بُدَّ من إعادة القول (إله)؛ أي: لا إله إلا هو في السماء، ولا إله إلا هو في الأرض.

{وَهُوَ} : ضمير للتوكيد.

{الْحَكِيمُ} : في صنعه وتدبيره لخلقه وكونه، فهو أحكم الحاكمين وهو أحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

{الْعَلِيمُ} : بأحوال خلقه وكونه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض.

وقدَّم في هذه الآية الحكيم على العليم أيْ: قدَّم الحكمة على العلم؛ لأن السياق في التشريع، والحكم؛ لأنه الإله في السماء والإله في الأرض، وفي آيات أخرى يقدِّم العلم على الحكمة، فيقول: العليم الحكيم، والسّياق هو الّذي يحدد التّقديم والتّأخير، فإذا كان السّياق في التّشريع والجزاء يقدِّم الحكمة، وإذا كان السّياق في العلم يقدِّم العلم على الحكمة، ولنعلم أن ليس كلّ عالم هو حكيماً، أو ليس كلّ حكيم هو عالماً (عليماً).

ص: 145

سورة الزخرف [43: 85]

{وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

{وَتَبَارَكَ} : تعالى قدره وتعاظم وتنزَّه وتقدَّس عن شبه ما سواه، ودام خيره وعمَّ إحسانه لخلقه وثبت إنعامه. ارجع إلى سورة المُلك (تبارك) آية (1) لمزيد من البيان.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي: الحَكم فهو الحاكم حاكم السّموات والأرض وما فيهنَّ، وهو مالك من المُلك، أيْ: له ما في السّموات والأرض.

{وَمَا بَيْنَهُمَا} : من مخلوقات.

{وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} : قدَّم الظّرف (عنده) ليفيد الحصر، أيْ: يعلم أيان مرساها زمن حدوثها، ولا يعلم ذلك ملك ولا نبي ولا رسول ولا أحد من خلقه.

{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : قدَّم إليه للحصر، أيْ: إليه وحده ترجعون، إليه تُرجعون بضم التّاء، أيْ: قسراً وقهراً، ومن دون إرادة ترجعون يوم البعث للحساب والجزاء.

ص: 146

سورة الزخرف [43: 86]

{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} :

{وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} : ولا: الواو استئنافية، لا: النّافية لكلّ الأزمنة، يملك الّذين يدعون: يعبدون، من دونه: من غير الله أمثال الأصنام والأولياء والطّاغوت وأمثال عيسى والعزيز والملائكة، لا يملكون الشّفاعة: تعريف الشّفاعة: هي التّوسط بالقول أو الفعل للوصول إلى منفعة دنيوية أو أخروية أو الخلاص من مضرة، ومن دون أجر أو عوض. ارجع إلى الآية (85) من سورة النّساء لمزيد من البيان.

وللشفاعة شرطان: الأوّل: الإذن من الله، للشافع والمشفوع له، والثّاني: أن يكون المشفوع له من أهل التّوحيد يشهد لا إله إلا الله (يرضى له قولاً).

{إِلَّا} : أداة حصر أو استثناء.

{مَنْ} : ابتدائية.

{شَهِدَ بِالْحَقِّ} : بأنّ الله واحد لا إله إلا هو، أيْ: شهد بوحدانية الله ألوهيته وربوبيته وصفاته وأسمائه، وشهد لرسله بالنّبوة، وشهد بأنّ القرآن حق والبعث والآخرة حق والجنة والنّار.

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : معنى الوحدانية، ولا إله إلا الله بقلوبهم وألسنتهم، ويعلمون أنّ الله هو الّذي خلق عيسى ابن مريم والعُزير والملائكة وما يعبدون.

ص: 147

سورة الزخرف [43: 87]

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} :

{وَلَئِنْ} : الواو استئنافية، لئن: اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.

{سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} : سألت المشركين من: ابتدائية، خلقهم: لأقروا أنّه وحده الخالق.

{لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} : اللام لام التّوكيد والنّون في يقولنَّ لزيادة التّوكيد.

{فَأَنَّى} : الفاء جواب الشّرط، أنى: تعني: كيف ومن أين، وللاستفهام الإنكاري والتّعجُّب من شركهم.

{يُؤْفَكُونَ} : أي: كيف يصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، يصرفون عن توحيده إلى الشّرك به، يؤفكون مشتقة من إفكه عن الشّيء، أيْ: صرفه وقلبه. والإفك هو الكذب المتعمَّد من دون دليل أو سلطان.

ص: 148

سورة الزخرف [43: 88]

{وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} :

وقِيلِهِ: بكسر القاف واللام والهاء، قيل: مصدر قال والضّمير في قيلِهِ يعود إلى النّبي صلى الله عليه وسلم لطول ما دعا النّبي صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإيمان، وهم معرضون عن الحق، ومكذبون بالقرآن وبالرّسول. فقال ابن عباس: شكا النّبي تخلُّف قومه عن الإيمان إلى ربه بقوله: قيله يا رب.

{إِنَّ هَؤُلَاءِ} : إن: للتوكيد، هؤلاء: الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة تشير إلى قومه وتفيد الذّم.

{قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} : لا: النّافية لجميع الأزمنة، لا يؤمنون: بالله ورسوله وكتبه والبعث والآخرة وقيله.

اختلف المفسرون في قِيلِهِ: فمنهم من عطف (قِيلِهِ) على السّاعة: أيْ: عنده علم السّاعة وعلم قِيلِهِ، ومنهم من عطف (قِيلِهِ) على سرهم ونجواهم: أيْ: أم يحسبون أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم وقِيلَهُ.

ومنهم من اعتبر (قِيلِهِ) مصدرَ قال: أيْ: وعنده علم السّاعة وعلمُ قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.

ومنهم من اعتبر (وقِيلِهِ): الواو واو القسم وجواب القسم: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون.

ويمكن قراءتها بالحركات الثلاث:

1 -

نصب اللام وتكتب وقيلَه: فتصبح مرتبطة بالآيات السّابقة، كما يلي:

أم يحسبون أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم وقيلَه.

وتبارك الّذي له ملك السّموات والأرض وما بينهما، وعنده علم السّاعة، ويعلم قيلَه.

2 -

بكسر اللام والهاء قِيلِهِ فتصبح وعنده علمُ السّاعة وعلم قِيلِهِ.

3 -

برفع اللام قِيلُهُ: أيْ: نداؤه: يا رب إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون.

فجاء الجواب من الحق سبحانه بقوله: فاصفح عنهم وقل: سلام.

ص: 149

سورة الزخرف [43: 89]

{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} :

{فَاصْفَحْ} : الفاء للتوكيد، اصفح: ترك اللوم ترك التثريب كقوله تعالى على لسان يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]، الصّفح هو أبلغ من العفو فالصّفح: العفو وترك اللوم، وأما العفو هو ترك العقوبة على الذّنب.

{عَنْهُمْ} : عن هؤلاء الّذين لا يؤمنون عن أقوالهم وأفعالهم الّتي يؤذونك بها.

{وَقُلْ سَلَامٌ} : سلام مفارقة، أيْ: ترك (لا سلام تحية)، كما قال تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

{فَسَوْفَ} : الفاء للتوكيد، سوف: للاستقبال البعيد (للتراخي والتّرتيب).

{يَعْلَمُونَ} : عاقبة كفرهم وعدم إيمانهم ووبال إعراضهم وجرمهم.

ص: 150

سورة الدخان [44: 1]

سورة الدخان

سورة الدّخان [الآيات 1 - 18]

ترتيبها في القرآن (44)، وترتيبها في النّزول (64). نزلت بعد سورة الزّخرف.

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

ص: 151

سورة الدخان [44: 2]

{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} :

{وَالْكِتَابِ} : الواو: واو القسم، يقسم الله سبحانه بالكتاب، والله غني عن القسم، ولا يقسم إلا بالأمر العظيم؛ أي: بالقرآن لعظمته ورفعته، وسمي كتاباً؛ لأنّه مكتوب في الأسطر وفي اللوح المحفوظ. ارجع إلى سورة البقرة آية (2) لمزيد من البيان.

{الْمُبِينِ} : الواضح لكلّ من يقرأه، المبين للأحكام ولكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّنيا والدّين، والمظهر للحق والباطل والحلال والحرام، وافعل ولا تفعل، ارجع إلى سورة النّمل الآية (1) لمزيد من البيان.

ص: 152

سورة الدخان [44: 3]

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} :

{إِنَّا} : جمع التّعظيم.

{أَنزَلْنَاهُ} : دفعة واحدة؛ أي: كاملاً جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا، ولو قال نزلناه، لكان يعني: نزلناه منجّماً؛ أي: مفرّقاً على دفعات وخلال (23) سنة. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان.

{فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} : ليلة: مفرد جمعها ليالي، وفي اللغة: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر التّالي. في: ظرفية، ليلة مباركة: هي ليلة القدر؛ أي: الّتي ابتدأ فيها إنزال القرآن، مباركة؛ لأن القيام فيها لرب العالمين بالعبادة الذكر والدعاء خير من عبادة ألف شهر، وتنزل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربهم من كلّ أمر، تنزل بالرّحمة والبركات، ولأن الله سبحانه اختارها من بين الليالي، ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدّم من ذنبه (رواه البخاري ومسلم).

{إِنَّا} : تكرار إنَّا للتوكيد.

{كُنَّا مُنْذِرِينَ} : من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّرهيب، منذرين من عدم طاعة الله سبحانه واتباع أوامره ومخالفة آياته، منذرين النّاس من الشّرك والكفر والمعاصي.

ص: 153

سورة الدخان [44: 4]

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} :

{فِيهَا يُفْرَقُ} : فيها: تعود على ليلة القدر المباركة، يفرَق: يفصل أو يقدّر فيها الأرزاق والآجال والمقادير والأحداث في الكون من زلازل وخسف وفيضانات وصواعق، وغيرها من الأمور، فهي ليلة القضاء والحكم يوزّع على الملائكة تدبير العام القادم من موت ورزق وإحياء وخير وشر.

{كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} : كلّ أمر صادر عن الله سبحانه هو أمر حكيم، مبني على الحكمة، هناك أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير، وهناك أمور يمكن أن تتغير وتتبدل.

ص: 154

سورة الدخان [44: 5]

{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} :

{أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا} : بما يجب أن يُفعل؛ أي: كما اقتضاه علمنا وحكمتنا.

{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} : أي محمّد صلى الله عليه وسلم ومن جاء قبله من الرّسل بالكتب والرّسالات إلى عبادنا؛ لأجل أن ندلّهم ونهديهم إلى ما يصلح شؤون حياتهم الدّنيوية والأخروية، مرسلين: تدل على الثّبوت والاستمرار، مرسلين بالرّسل وبالكتب وبالوحي.

فكلّ أمر صادر عن السّميع العليم هو أمر حكيم، ولا بد أن يتم ويطبّق، وهو نوع من رحمة الله بعباده ولتستقيم الخلافة في الأرض.

ص: 155

سورة الدخان [44: 6]

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

{رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} : هذا الإرسال بالرّسل والوحي والقرآن والكتب السّماوية هو نوع من رحمة ربك بعباده، والرّحمة تعريفها: هي كلّ ما يجلب ما يسرّ ويدفع ما يضرّ بالوقاية.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{السَّمِيعُ} : لأقوال عباده، وسميع لدعواهم ونجواهم وسرّهم وعلنهم.

{الْعَلِيمُ} : بحال عباده وكونه وما يجري فيه، فلا تغيب عليه غائبة، والعليم بأعمال عباده وخفايا صدورهم وحاجاتهم ونواياهم، والعليم: صفة مبالغة مشتقة من علم؛ أي: كثير العلم.

ص: 156

سورة الدخان [44: 7]

{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} :

رحمة من ربك {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : أي خالقهما ومبدعهما ومالكهما وحاكمهما.

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والافتراض، وجواب الشّرط محذوف؛ ليتضمن كلّ ما يخطر على الفكر.

{كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} : جمع موقن، موقنين: من اليقين، واليقين هو: العلم بالحق الذي لا يتغير ولا يتبدل، ومصدق في عالم الواقع وبالقلب، ولا يحتاج إلى تفكير من جديد أو لينظر فيه مرة أخرى.

إن كنتم موقنين: بأنّه رب السّموات والأرض وما بينهما؛ أي: خالق ومدبّر السّموات والأرض، إذن فآمنوا به وحده واعبدوه وأطيعوه واشكروه، وكونوا موقنين بالبعث والحساب.

ص: 157

سورة الدخان [44: 8]

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} :

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا: النّافية للجنس، إله: لا معبود بحق في الوجود إلا هو.

إلا: أداة حصر وقصر، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، لا إله إلا هو تفيد النّفي وتفيد الإثبات، فقوله:"لا إله" تفيد النّفي، "إلا هو": تفيد الإثبات أو تؤكد النّفي. ارجع إلى سورة البقرة آية (255) لمزيد من البيان.

{يُحْىِ وَيُمِيتُ} : هو وحده الذي يُحيي ويُميت لا يشاركه أحدٌ في الإحياء والإماتة.

{رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} : فهو رب السّموات والأرض وما بينهما، وهو ربكم ورب آبائكم الأولين؛ أي: هو خالق السّموات والأرض وخالقكم وخالق آبائكم الأولين ورازقكم ومدبّر أموركم والمنعم عليكم، فهو المستحق للعبادة لا غيره.

ص: 158

سورة الدخان [44: 9]

{بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ} :

هذا جواب سؤاله: إن كنتم موقنين؛ أي: هم غير موقنين بل هم في شكٍّ يلعبون.

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{هُمْ} : للتوكيد، والضمير يعود على الغير موقنين بالبعث والحساب.

{فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ} : فبدلاً من الإيمان به وتوحيده وطاعته والإيمان بالبعث والحساب، هم في شكٍّ: الشّك هو تساوي طرفي الإثبات والنّفي، فهم لا زالوا في تردّد وحيرة بين التّصديق والتّكذيب في ربوبية الله تعالى وألوهيته وتوحيده، يلعبون: اللعب هو اللهو الّذي يصرف العبد عن واجباته؛ أي: يلعبون بدنياهم ويلعبون بدينهم وعقيدتهم ويقلدون آباءهم، أو حسب ما تقتضيه شهواتهم وأهواءهم.

ص: 159

سورة الدخان [44: 10]

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} :

{فَارْتَقِبْ} : الرّقيب هو الّذي ينتظر ويراقب بكلّ الوسائل؛ لكي لا يخفى عليه أيُّ عمل من أعمال المُراقب أو المراقبة، والخطاب موجّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ارتقب السماء {يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} : اختلف في هذا الدّخان فقد قيل: إنّه لم يحدث بعد وأنّه من أشراط السّاعة كما بيّنت الأحاديث الصّحيحة والحسنة، ويمكث في الأرض (40) يوماً فيصاب المؤمنون منه كهيئة الزّكام ويصاب الكافرون منه بعذاب أليم، كما ورد في الآية التّالية رقم (11)، وقيل: إنّ الدّخان قد حدث حين دعا النّبي على كفار ومشركي مكة بعد أن رأى منهم إدباراً عن دين الله تعالى فقال: اللهم اعنّي عليهم بسنين كسني يوسف، فأصيبوا بالجوع حتّى أكلوا الجلود والميتة، وصاروا يرون بين السّماء والأرض كهيئة الدّخان وليس بدخان، ولكنه من شدة نقص التّغذية والفيتامينات.

إذن هو ليس بدخان حقيقةً، ويحتمل أن يكون قد وقع أو لم يقع بعد ويمكن الجمع بين الحديثين والقول: إنّ كلاهما صحيح دخان قد حدث زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وكان يشبه الدّخان من شدة الفقر والمجاعة، ودخان آخر قادم من أشراط السّاعة.

{بِدُخَانٍ مُبِينٍ} : دخان ظاهر وبيّن لكلّ فرد، وإنّه لا يخفى على كلّ أحد يصاب به، ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى دليل.

ص: 160

سورة الدخان [44: 11]

{يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{يَغْشَى النَّاسَ} : أي الدّخان يحيط بهم ويغطّي النّاس.

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة يشير إلى الدّخان.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : لكونه يسبّب لهم ضيقاً في التّنفس كالّذي يتنفس غاز أوّل أكسيد الكربون فيشعر بألم شديد.

ص: 161

سورة الدخان [44: 12]

{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} :

يقول النّاس عندما يتنفّسون الدّخان ويشعرون بالألم الشّديد:

{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} : أي ارفع عنا العذاب أو أزِله عنا.

{إِنَّا مُؤْمِنُونَ} : إنّا مصدّقون بك وبرسولك، ومؤمنون بما أرسلت إلينا؛ أي: نعدِك بالإيمان إذا رفعت عنا الدّخان.

ص: 162

سورة الدخان [44: 13]

{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} :

{أَنَّى} : كيف لهم الذّكرى؛ أي: أن يتذكّروا ويتّعظوا ولا ينسوا ما حلّ بهم، وكيف يكشف الله عنهم العذاب، ومن أين لهم الذّكرى، يراد به الموضع؛ أي: من الّذي سيذكّرهم، أو من أين تأتي لهم الذّكرى؟ وكلاهما استفهام وتعجّب.

{وَقَدْ} : للتحقيق والتّوكيد.

{جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} : جاءهم: جاء أهل مكة، رسول مبين: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر الصّدق والأمانة لكلّ فرد من قريش وغيرهم، ومبين: في التّوراة والإنجيل اسمه وصفاته يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ورسول مبين: كامل الرّسالة ورسالته بيّنة واضحة لكلّ فرد.

ص: 163

سورة الدخان [44: 14]

{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} :

{ثُمَّ} : للترتيب الذّكري أو العددي.

{تَوَلَّوْا عَنْهُ} : ابتعدوا عنه وأعرضوا عنه.

{وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} : أي يعلّمه بشرٌ.

{مَّجْنُونٌ} : لا عقل له فيما يدّعي من النّبوة، وأن الإله إلهاً واحداً والبعث والحساب.

ص: 164

سورة الدخان [44: 15]

{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} :

{إِنَّا} : بصيغة الجمع للتعظيم.

{كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} : أي رافعو العذاب عنهم زمناً قليلاً لعلّهم يتوبوا ويرجعوا إلى صوابهم.

{إِنَّكُمْ} : للتوكيد.

{عَائِدُونَ} : إلى الشّرك والكفر، عائدون إليه كالسّابق، عائدون: تدلّ على الثّبوت والاستمرار، وما كشف العذاب إلا لإقامة الحُجة عليهم فهو سبحانه يعلم سابقاً أنهم عائدون.

ص: 165

سورة الدخان [44: 16]

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} :

{يَوْمَ} : نكرة؛ للتهويل والتّعظيم، قيل: يوم القيامة، وهناك من قال: إنّه يوم بدر.

{نَبْطِشُ} : من بطش يبطش؛ أي: نعاقبهم وننتقم منهم؛ أي: نأخذهم بشدة وقوة.

{الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} : يوم القيامة أو يوم بدر.

{إِنَّا} : للجمع والتّعظيم.

{مُنْتَقِمُونَ} : إنّا معاقبوهم أشدَّ العقاب بسلب النّعمة منهم، أو الهلاك أو القتل. منتقمون: تدل على الثبوت.

ص: 166

سورة الدخان [44: 17]

{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} :

بعد أن بيّن الله سبحانه حالة المشركين في مكة وإصرارهم على الكفر والشّرك والتّكذيب، يخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ويذكّره بحالة موسى عليه السلام وما فعل به قوم فرعون، فنصره الله عليهم وأغرقهم باليمِّ وجعلهم عبرة لغيرهم.

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: حدث ذلك وتحقّق.

{فَتَنَّا} : من الفتنة، ارجع إلى سورة العنكبوت الآية (2) للبيان.

{قَبْلَهُمْ} : الضّمير على كفار ومشركي قريش.

{قَوْمَ فِرْعَوْنَ} : الأقباط.

{وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} : هو موسى عليه السلام ووصفه بالرّسول الكريم: كريم حسن الخلق، أو كريم على ربّه أو كلاهما.

ص: 167

سورة الدخان [44: 18]

{أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} :

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.

{أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ} : أي أرسلوا معي بني إسرائيل، وصفهم بعباد الله، أو ادفعوا إليّ بني إسرائيل وأطلِقوا سراحهم، أو أدّوا: ارجعوا إليّ وآمنوا بي واتّبعوا سبيلي.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص.

{رَسُولٌ أَمِينٌ} : على الرّسالة والآيات والتّوراة أو على الوحي.

سورة الدّخان [الآيات 19 - 39]

ص: 168

سورة الدخان [44: 19]

{وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّى آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :

{وَأَنْ} : الواو عاطفة، أن: مصدرية تفيد التّعليل.

{لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} : أي: لا تستكبروا عن عبادته أو ألا تقبلوا الحق، وما أنزل إليكم وتؤمنوا به، والعلو: هو الغرور بالقوة أو القدرة.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : السّلطان: هو البرهان ويمثل أعلى درجات الإثبات: إمّا أن يكون سلطان قوة وقهر، أو سلطان حُجة ودليل، والسّلطان هنا سلطان حجة وبيان، ويعني: آية العصا واليد وغيرهما، سلطان مبين: سلطان ظاهر لكلّ فرد، ومبين لا يُخفي نفسه، وعندما قال ذلك توعّدوه بالقتل ولذلك قال: وإنّي عُذت بربي وربكم أن ترجمون.

ص: 169

سورة الدخان [44: 20]

{وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} :

{وَإِنِّى} : للتوكيد.

{عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} : اعتصمت بربي وربكم (خالقي وخالقكم) والتجأت إليه من كيدكم، وعياذ موسى بالله: إنما هو عياذ في الحقيقة من أذى فرعون وملئه.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.

{أَنْ تَرْجُمُونِ} : أن تقتلوني بالرّجم أو القتل والرّجم بالحجارة كان نوعاً سائداً من أنواع القتل، والرّجم قد يكون بالقول أو يكون بالقتل أن ترجمون ولم يقل ترجموني؛ لأن الرجم إذا حديث سيحدث من قلة من الإفراد وليس من الكل والتعوذ مؤقت من فرعون وقومه حتى يهلك فرعون وقومه بالفرق وليس دائم.

ص: 170

سورة الدخان [44: 21]

{وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ} :

{وَإِنْ} : الواو عاطفة، إن: شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض أو الشك.

{لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى} : لم: للنفي، تؤمنوا لي: تصدّقوا أنّي رسول الله إليكم.

{فَاعْتَزِلُونِ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، اعتزلون: خلّوا سبيلي واتركوني: اتركوا أذاي أو الوقوف في طريقي، أو لا تتعرّضوا لي بسوء، أو لا تقربوا مني ولا أقرب منكم، واقطعوا أسباب الصّلة معي.

ص: 171

سورة الدخان [44: 22]

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} :

{فَدَعَا رَبَّهُ} : الفاء عاطفة، دعا موسى ربه:

{أَنَّ} : للتعليل، والتّوكيد، هؤلاء: الهاء للتنبيه والقرب، أولاء: اسم إشارة للجمع.

{قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} : مشركون كافرون ظالمون يستحقون الهلاك، دعا موسى ربّه حين كذّبوه وهمّوا بقتله، دعا ربه: ربّنا اطمِس على أموالهم، واشدُد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم، فردّ الله تعالى عليه: قد أُجيبت دعوتكما [يونس: 88-89]، وارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمون.

ص: 172

سورة الدخان [44: 23]

{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} :

أي: أجاب الله سبحانه دعاءه وأمره أن يسري بقومه ليلاً، وفي الآيات الأخرى قال تعالى:{أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} [طه: 77]، وفي الشعراء آية (52) قال تعالى:{أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} ولم يقل ليلاً.

{فَأَسْرِ} : من السُّرى؛ وهو السّير ليلاً، مبنيّ على السّتر والخفاء؛ فلماذا أضاف ليلاً في هذه الآية؟ لأن في آية طه والشعراء لم يحدد أي ليلة، أو تلك الليلة، وفي آية الدخان حدد تلك الليلة بعينها.

{لَيْلًا} : تعني في تلك الليلة المحددة المعينة، وثانياً: في جزء من الليل ولا تعني كلّ الليل، ولو قال فأسرِ بعبادي الليل؛ يعني: كلّ الليل، ولو قال فأسرِ بعبادي فقط فهو لم يحدّد ليلة معينة؛ أي: أسرِ بعبادي في المستقبل، كما في قوله تعالى في سورة طه آية (77) وسورة الشّعراء آية (52) حين خاطب الله سبحانه موسى عليه السلام فقال: أن أسرِ بعبادي، فقط ولم يقل ليلاً إلا في سورة الدّخان آية (23).

{إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} : ولم يُبين في هذه الآية بمن يتبعهم، ولكنه بينه في آية أخرى في سورة طه الآية (78):{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} ، وفي آية أخرى سورة يونس الآية (90):{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} .

إذن: أسرِ بعبادي ليلاً: أي أسرِ ليلاً في هذه الليلة المحددة، بينما أسرِ بعبادي تعني: في المستقبل، وفيها متّسع من الوقت حتّى يجهّز نفسه وقومه للخروج.

ص: 173

سورة الدخان [44: 24]

{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} :

{وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} : ساكناً على هيئته الّتي هو عليها بعد أن ضربته بعصاك فانفلق فكان كلّ فرقٍ كالطَّود العظيم:

1 -

اتركه رَهواً ساكناً حتّى يدخله فرعون وجنوده، فقد أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه حتّى يرجع البحر كما كان قبل أن ينفلق، فلا يستطيع فرعون وجنوده أن يلحق بهم، ولكن الله سبحانه طلب من موسى أن يتركه قارّاً على حاله؛ حتّى يدخله فرعون وجنوده، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم حتّى يهلكهم بالغرق.

2 -

وقيل الرَّهو: هو الفجوة الواسعة أو الفُرجة بين القدمين، أو الرَّهو: الفجوة بين سنامين، من رها: إذا فتح، (فرّج بين رجليه).

{إِنَّهُمْ جُندٌ} : للتوكيد، جند: اسم جنس تشمل المفرد والمثنى والجمع. ارجع إلى سورة يس آية (28) لمعرفة الفرق بين جند وجنود.

{مُّغْرَقُونَ} : محكوم عليهم بإغراقهم، جملة اسمية تعليلية، أخبر الله سبحانه موسى بهذا الخبر ليطمئنّ قلبه في ترك البحر على حاله؛ لأنّه كان خائفاً أن يُدرَك.

ص: 174

سورة الدخان [44: 25]

{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :

{كَمْ} : الخبرية تفيد التّكثير؛ أي: كم تركوا الكثير من الجنات والعيون.

{تَرَكُوا} : أي فرعون وجنوده تركوا بعد أن أُهلكوا بالغرق.

{مِنْ} : ابتدائية.

{جَنَّاتٍ} : بساتين وحدائق غناء.

{وَعُيُونٍ} : ينابيع جارية، عين جمعها: أعين وعيون، أعين: جمع عين؛ أي: آلة البصر، أما عيون جمع عين: عين الماء.

ص: 175

سورة الدخان [44: 26]

{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} :

{وَزُرُوعٍ} : جمع زرع: وهو ما ينبت على غير ساق والشّجر ما له ساق، والنّبات يطلق على الجميع.

{وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} : مجالس ومنازل مريحة فاخرة، وفي سورة الشعراء آية (57-58) قال تعالى:{فَأَخْرَجْنَاهُم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} بدل الزروع بكلمة الكنوز؛ قيل: الكنوز ما كانوا يدخرونه من الأموال والذهب والفضة، ولأن ما تركوه كلا الأمرين الزروع والكنوز؛ لذلك أخبر في الآيتين ما تركوه، وليس هناك تعارض فضلاً عن الجنات والعيون والمقام الكريم في كلا الآيتين.

ص: 176

سورة الدخان [44: 27]

{وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} :

{وَنَعْمَةٍ} : انتبه إلى لفظ "النَّعمة" ولم يقل نِعمة، نَعمة بفتح النّون في هذه الآية، وكما جاء في سورة المزمل آية (11) وهي قوله تعالى:{وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} هذه النعمة تعني: نعمة لا تحمل معنى الخير، بل هي نعمة مذمومة فيها شر لهم، وتشمل: سعة العيش والرّخاء والبطر والترف، وتحمل معنى الذّم أو: بئس النَّعمة.

نِعمة بكسر النّون: كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} تعني: سعة العيش والشّكر وعدم الإسراف والبطر، تحمل معنى المدح؛ أي: نِعمَ النّعمة نِعمة تحمل معنى الخير والبركة.

{كَانُوا} : في الحياة الدّنيا.

{فَاكِهِينَ} : مترفين متنعمين مستلذين بأكل الفاكهة. ارجع إلى سورة الطّور آية (18) وسورة يس لمعرفة الفرق بين فاكهين وفاكهون.

ص: 177

سورة الدخان [44: 28]

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} :

أي: كما تركوا الجنات والعيون والزّروع والمقام الكريم؛ أي: كذلك وأورثناها قوماً آخرين.

اختلف في هؤلاء: القوم الآخرين (بعد هلاك فرعون وجنوده)، قيل: هم بني إسرائيل الذين لم يخرجوا مع موسى، وقيل: هم من الأقباط من أهل مصر.

وقيل: القوم الآخرين هم بنو إسرائيل من بعد موسى بعد انتصارهم على العمالقة دخلوا مصر مرة ثانية وحكموها، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} [الشّعراء: 59]. ارجع إلى سورة الشعراء آية (59) للبيان المفصل.

ص: 178

سورة الدخان [44: 29]

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} :

{فَمَا} : الفاء للتوكيد، ما: النّافية.

{بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} : استعارة؛ أي: لم تحزن أو تبكِ السّماء والأرض على هلاكهم وموتهم.

أي: لم تكترث السّماء والأرض لموتهم، ولم نقم لهم وزناً؛ لهوانهم على الله بسبب كفرهم وظلمهم.

شبّه السّماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء، وقال علي وابن عبّاس رضي الله عنهما بما معناه: إنّ مصلّى العبد ومصعد عمله يبكي عليه بعد موته.

{وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} : ممهَلين أو مؤخَّرين إلى أن يتوبوا أو إلى يوم القيامة، بل عجّل لهم العذاب في الدّنيا بإغراقهم.

ص: 179

سورة الدخان [44: 30]

{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} :

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق، وقد حصل ذلك.

{نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : ولم يقل أنجينا، نجّينا؛ أي: زمن نجاتهم استغرق زمناً طويلاً من فرعون وقومه نجيناهم.

{مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} : أي العذاب الأليم الذي قام به فرعون وجنوده المختلط بالإهانة؛ لأنّه كان يخالطُه المذلّة، وكان يتمّ أمام أعين النّاس أو على مرأى منهم حيث كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويسومهم سوء العذاب.

ص: 180

سورة الدخان [44: 31]

{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} :

{مِنْ فِرْعَوْنَ} : نجّينا بني إسرائيل من فرعون الطاغية الذي يأمر جنوده بالقيام بعذاب بني إسرائيل.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} : من المستكبرين ومن المسرفين في العذاب؛ لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم.

ص: 181

سورة الدخان [44: 32]

{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} :

{وَلَقَدِ} : ارجع إلى الآية (30) للبيان.

{اخْتَرْنَاهُمْ} : الاختيار: من بين الأمم الّتي كانت في ذلك الزّمن فقد كانوا أفضل أمم زمانهم، ولم يستمر ذلك طويلاً فقد انقلب أكثرهم إلى فاسقين، وضُربت عليه الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.

{عَلَى عِلْمٍ} : أي لم يكن اختيارهم منا أمراً سريّاً أو مخفيّاً الكلّ يعلم به من عالمي زمانهم، أو اخترناهم على علم؛ لأنهم كانوا أفضل من غيرهم في ذلك الزمان.

{عَلَى الْعَالَمِينَ} : عالمي زمانهم؛ أي: على النّاس جميعاً وهم الإنس والجن في ذلك الزّمن وليس كلّ الأزمنة، وقيل: اختيارهم على النّاس؛ لكثرة الأنبياء منهم.

ص: 182

سورة الدخان [44: 33]

{وَآتَيْنَاهُم مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاؤٌا مُبِينٌ} :

{وَآتَيْنَاهُم} : أرسلنا الآيات إليهم؛ أي: المعجزات الخارقة مثل فلق البحر والغمام والمنّ والسّلوى وانفجار الحجر.

{مِنَ الْآيَاتِ} : من المعجزات، ومن التّكاليف الشّرعية القاسية، والسّيئات والحسنات.

{مَا فِيهِ بَلَاؤٌا مُبِينٌ} : أي بلوناهم ما فيه الكفاية بالخير والشر والابتلاءات المبينة؛ أي: الظاهرة الجليّة مثل: رفع الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة، والقرية الّتي كانت حاضرة البحر، واتخاذ العجل، والمنّ والسّلوى، ودخول القرية وغيرها، وتشريدهم في الأرض، وجعل قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد.

ص: 183

سورة الدخان [44: 34]

{إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ} :

المناسبة: بعد ذكر قصة فرعون وقومه مع موسى؛ ليتّعظ بها كفار قريش، يعود الآن ليتمَّ الحديث عن كفار قريش وأنّهم في شك من البعث والقيامة، وهم في إصرارهم على الكفر مثل قوم فرعون الّذين أهلكهم الله وأنجى بني إسرائيل، فيذكر الله سبحانه أنّه قادر على بعثهم، ثمّ توعّدهم بالهلاك كما أهلك قوم تُبَّع وفرعون وقومه.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة للقرب؛ تعني: كفار قريش.

{لَيَقُولُونَ} : اللام للتوكيد.

ص: 184

سورة الدخان [44: 35]

{إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} :

{إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ} : إن: نافية بمعنى ما؛ أي: ما هي إلا موتتنا الأولى، إلا: أداة حصر؛ أي: نهاية الأمر بعد الحياة الدّنيا الموت، وليس هناك بعد الموت حياة أو نشور مرة أخرى. وإذا قارنا هذه الآية بقوله تعالى في الآية (58-59) من سورة الصافات:{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} جاءت (موتَتُنا) في آية الدخان مرفوعة، وفي آية الصافات منصوبة؛ لأن (موتَتَنا) في آية الصافات استثناء، و (موتَتُنا) في آية الدخان خبر، وإذا نظرنا إلى السياق نجد (موتتُنا) في آية الدخان جاءت في سياق الدنيا؛ أي: الذين قالوها وهم لا زالوا أحياء، و (موتَتَنا) في آية الصافات كانت في سياق الآخرة من قالها كان من أهل الجنة.

{بِمُنْشَرِينَ} : بمبعوثين أحياء بعد الموتة الأولى، أنشر الله الميت؛ أي: أحياهُ أو بعثه حياً، وما نحن بمنشَرين: بمبعوثين أحياء، كقوله:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22]، أنشره: أي أحياه.

ص: 185

سورة الدخان [44: 36]

{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

سؤال من المكذّبين بالبعث والحساب إلى رسلهم وأنبيائهم.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : أحيوا لنا من مات من آبائنا وأجدادنا.

إن: شرطية تفيد الاحتمال والافتراض، إن كنتم صادقين في وعدكم بالبعث والحساب، وحذف جواب الشّرط؛ أي: نشكّ أنّكم صادقون، أو أنتم لستم صادقين.

ص: 186

سورة الدخان [44: 37]

{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} :

{أَهُمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{خَيْرٌ} : أي أفضل. أم: الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} : يعني في القوة والمنعة، وليس في العمل الصّالح وعمل الخير والطّاعة؛ لأنّ الكلّ كان كافراً، قوم تبّع وكفار قريش. انتبه الذّم يخصّ قوم تبّع.

أهم: كفار قريش أقوى وأشد من قوم تبّع الحميري: أحد ملوك التّبابعة كانوا في بلاد اليمن، يطلق عليهم قوم تبّع، وتبّع لقب لملوك اليمن.

أقوام تبّع، سمّوا التّبابعة؛ أي: الأقيال، ينامون يتقيّلون في الظّل الذي هو تبعاً يتبع الشّمس.

{وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من الأمم الكافرة مثل عاد وثمود.

{أَهْلَكْنَاهُمْ} : قضينا عليهم بكفرهم ودمّرناهم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لمزيد من البيان.

{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.

{كَانُوا مُجْرِمِينَ} : بالكفر والشّرك والمعاصي والابتعاد عن الله. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لبيان معنى مجرمين.

ص: 187

سورة الدخان [44: 38]

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما النّافية.

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} : لاعبين: أي عبثاً أو باطلاً؛ أي: لا فائدة منهما ولا نفع لمجرد اللعب.

ص: 188

سورة الدخان [44: 39]

{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} : ما: النّافية، خلقناهما إلا بالحق: إلا تفيد الحصر، والحق هو الأمر الثّابت الّذي لا يتغير ولا يتبدل؛ أي: خلقهما دليل وبرهان لإظهار عظمة الله وقدرته، وأنّه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد وحده بلا شريك أو ندٍّ أو مثيل، وخلقهما بالحق: أي دورانهما وجريهما وعدم تغيرهما دليل على الحق وعلى قدرته على البعث والنّشور، والباء "بالحق" تدل على الإلصاق؛ أي: الحق لا ينفصل عنهما أبداً.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك.

{أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : ما يجري في السّموات والأرض من حقائق علمية خارقة لعقل البشر، وإنّ هذا يدل على قدرة الله تعالى وعظمته، ويدل على حكمته وعلمه، أو: لا يعلمون عاقبة أمرهم وكفرهم وشركهم.

سورة الدّخان [الآيات 40 - 59]

ص: 189

سورة الدخان [44: 40]

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} :

{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} : إنّ للتوكيد، يوم الفصل: أي يوم القيامة، وسمّي يوم الفصل؛ لأنّ الله سبحانه يفصل فيه بين العباد، بين المؤمن والكافر، يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون من التّوحيد والشّرك والحق والباطل، ويوم القيامة له أسماء كثيرة نذكر منها: يوم الفصل يوم الدّين اليوم الآخر يوم البعث يوم الحشر يوم الجمع يوم التّغابن يوم الآزفة وغيرها من الأسماء.

{مِيقَاتُهُمْ} : ميقاتهم الزّمني والمكاني، والميقات: ظرف، ظرف زمان أو ظرف مكان. ميعادهم للحشر والحساب والجزاء (زمن حسابهم وزمن عرضهم على ربهم).

{أَجْمَعِينَ} : للتوكيد؛ أي: الكلّ حاضر في أرض المحشر وزمن واحد، أجمعين: الجميع الكلّ حاضرون ومجتمعون.

ص: 190

سورة الدخان [44: 41]

{يَوْمَ لَا يُغْنِى مَوْلًى عَنْ مَّوْلًى شَيْـئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} :

{يَوْمَ} : نكرة؛ للتهويل والتّعظيم؛ أي: يوم الفصل يوم الحساب.

{لَا يُغْنِى مَوْلًى عَنْ مَّوْلًى شَيْـئًا} : لا النّافية، يغني: ينفع، مولى: يطلق على القريب كابن العم وغيره: لا ينفع القريب قريبه، شيئاً: نكرة؛ أي: شيئاً قليلاً أو كثيراً من شفاعة أو مساعدة، تفيد المجاوزة والمباعدة، والشيء: هو أقل القليل، وسواء أكان حسياً أم معنوياً.

{وَلَا} : تكرار "لا" يفيد توكيد النّفي.

{هُمْ} : للتوكيد.

{يُنْصَرُونَ} : لا القريب ينصر قريبه أو يساعده ولا البعيد، ولو بزيادة حسنة أو دفع سيئة أو ينصره من العذاب بأي شيء مهما كان.

ص: 191

سورة الدخان [44: 42]

{إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} :

{إِلَّا} : أداة استثناء أو حصر.

{مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} : من ابتدائية استغراقية، وتشمل المفرد والمثنى والجمع، رحم الله: بالإذن له بالشفاعة، وأن يكون كفؤاً لذلك، ويشفع بعضهم في بعض؛ لأنّ رحمة الله واسعة، أو من رحم الله فلا يحتاج إلى مولى ولا إلى نصير؛ لأنه سبحانه نعم المولى ونعم النّصير، فهو غني عن شفاعة الآخرين، وتكفي رحمة الله فهي حسبه.

{إِنَّهُ} : للتوكيد

{هُوَ} : للتوكيد.

{الْعَزِيزُ} : القوي الّذي لا يُغلب ولا يُقهر، وممتنع على عباده.

{الرَّحِيمُ} : بعباده المؤمنين المتقين.

ص: 192

سورة الدخان [44: 43]

{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} :

شجرة خبيثة مرة الطّعم مُنتنة لا يوجد لها مثيل في الدّنيا، وليست شجرة واحدة، بل {شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة: 52].

{الزَّقُّومِ} : مشتقة من التّزقّم: وهو البلع بصعوبة؛ لكراهية الطّعم ونتن الرّائحة.

لماذا خلقت؟ فتنة للظالمين (سورة الصّافات الآية 63) وطعام الأثيم.

أين تنبت؟ في أصل الجحيم؛ أي: قعر الجحيم (سورة الصّافات الآية 64).

ماذا تشبه؟ تشبه رؤوس الشّياطين (سورة الصّافات الآية 65).

وتسمى الشّجرة الملعونة، ذكر اسم هذه الشّجرة ثلاث مرات في:

سورة الصّافات الآية (62): {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} .

وفي سورة الدّخان الآية (43): {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} .

وفي سورة الواقعة الآية (56): {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} .

ص: 193

سورة الدخان [44: 44]

{طَعَامُ الْأَثِيمِ} :

الأثيم: كثير الإثم، صيغة مبالغة، المبالغ في ارتكاب الآثام والذّنوب؛ أي: الكافر والمجرم، الأثيم: مثل أبي جهل وغيره، فقد كان يأتي بالزّبد والتّمر ويقول لأولاده وغيرهم: تزقّموا فهذا هو الزّقّوم الذي يعدكم به محمّد صلى الله عليه وسلم.

ص: 194

سورة الدخان [44: 45]

{كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ} :

{كَالْمُهْلِ} : الكاف للتشبيه؛ أي: طعامها يشبه المهل: هو دردي الزّيت الأسود؛ أي: عكر الزّيت الرّديء، وقيل: هو النّحاس المذاب أو القطران أو ما ذاب من معادن الأرض. وقيل: المهل مشتقة من الأشياء الّتي تمهل في النّار لتذوب.

ص: 195

سورة الدخان [44: 46]

{كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} :

يغلي في البطون: بطون الكفار، كغلي الحميم: الماء الحارّ المتناهي في الحرارة؛ أي: وصل درجة الغليان.

ص: 196

سورة الدخان [44: 47]

{خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} :

يقال للملائكة: خذوا هذا الأثيم.

{فَاعْتِلُوهُ} : الفاء للمباشرة، جرُّوه أو احملوه بشدة وعنف، العتل: هو الأخذ بمجامع الشّيء وجرُّه بقهر وعنف.

{إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} : وسط الجحيم، الجحيم: اسم من أسماء النّار أو دركة من دركاتها، مشتقة من الجحوم: وهو التّأجّج فلا تخمد. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

ص: 197

سورة الدخان [44: 48]

{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} :

{ثُمَّ} : لا تعني التّراخي في الزّمن، وإنما لتباين الصّفات أو الدّرجة بين الأخذ بعنف والعتل وصبّ الحميم فوق رأسه، أو للترتيب الذكري أو العددي.

{صُبُّوا} : من الصب؛ أي: سكب العذاب فوق رأسه؛ حذف من فوق رأسه؛ لأن (من) تعني القريب؛ أي: هو واقف مباشرة تحت الماء الحميم، أما حذف (من) تحتمل البعيد والقريب.

{الْحَمِيمِ} : هو المصبوب فإذا صبّ عليه الحميم فقد صبّ عليه عذابه، فهو شبّه العذاب بالشّيء السائل (الحميم) الّذي يصبّ عليه، ويدل على شدة وكثرة الصّبّ؛ أي: الصّبّ الكثير المتواصل بلا انقطاع.

وصبّ العذاب: يعني بكلّ أنواعه، ومنها: صبّ الحميم؛ وهو نوع واحد من أنواع كثيرة من العذاب كالزّمهرير والحريق.

{مِنْ} : ابتدائية استغراقية: من كلّ أنواع العذاب.

ولنقارن هذه الآية (48) من سورة الدّخان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} والآية (19) من سورة الحج وهي قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} .

سورة الحج الآية (19) يُصبُّ من فوق رؤوسهم الحميم من فوق رؤوسهم مباشرة ليس هناك فاصل بين الرّأس والصّبّ، من ابتداء الغاية، من فوق يعني: حتّى لا تضيع درجة حرارته؛ لأنه يراد به أن يصهر ما في بطونهم.

سورة الدّخان الآية (48): ثمّ صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم، فوق رأسه يتحمّل القريب والبعيد، الغاية هنا التّحقير والاستهزاء والسّخرية من الّذي ادّعى أنّه هو العزيز الكريم؛ أي: أبي جهل أو غيره.

ص: 198

سورة الدخان [44: 49]

{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} :

أي قولوا له:

{ذُقْ} : للتوبيخ والإهانة والسّخرية لكلّ من يستنكف عن عبادة ربه ويستكبر.

وقيل: نزلت هذه الآية كما أخرج الطّبريّ عن قتادة: في أبي جهل؛ حيث كان يظن أنّه لا أكرم منه ولا أعزّ وأمنع ما بين جبلَي مكة، فقتله الله سبحانه يوم بدر وعيّره بكلمته فقال: ذق إنّك أنت العزيز الكريم، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب، ذق: العذاب.

{إِنَّكَ أَنْتَ} : أنت للتوكيد.

{الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} : بزعمك؛ وتعني: ذق إنّك أنت الذّليل الحقير يا من كنت تظن أنّك أنت العزيز الكريم.

ص: 199

سورة الدخان [44: 50]

{إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} :

{إِنَّ هَذَا} : إنّ: للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب يشير للعذاب.

{مَا كُنْتُمْ بِهِ} : ما: اسم موصول بمعنى الّذي، كنتم به؛ أي: الدّنيا، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{تَمْتَرُونَ} : مشتقة من: المراء وهو الجدال بالباطل بعد تبيّن وظهور الحق؛ أي: ما كنتم تجادلون به، وتستبعدون وتشكّون في حدوثه بعدما بينّاه لكم وحذّرناكم منه في الكتاب وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 200

سورة الدخان [44: 51]

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ} :

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} : إنّ: للتوكيد، المتقين: الّذين امتثلوا أوامر الله فأطاعوه وتجنّبوا نواهيه.

{فِى} : ظرفية.

{مَقَامٍ أَمِينٍ} : بفتح الميم؛ تعني: المنزلة والمكانة الآمنة يأمن صاحبها من كلّ المخاوف، وبضمّ الميم تعني: المكان، مكان الإقامة، ارجع إلى سورة البقرة الآية (125) للمقارنة بين مَقَام ومُقام، ومقام أمين: من كلّ المخاوف بما فيها الموت والتّغيّرات والطّوارئ والمرض.

ص: 201

سورة الدخان [44: 52]

{فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :

{فِى} : ظرفية.

{جَنَّاتٍ} : منها الفردوس وعدن والنّعيم والمأوى ودار السّلام وغيرها.

{وَعُيُونٍ} : جمع عين، عيون: الكافور والسّلسبيل والزّنجبيل والتّسنيم: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرّحمن: 50]{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرّحمن: 66]. وعيون تختلف عن أعين (أعين تعني: أدوات البصر).

ص: 202

سورة الدخان [44: 53]

{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} :

{يَلْبَسُونَ مِنْ} : أي لباسهم، من: ابتدائية للجنس.

{سُنْدُسٍ} : هو ما رقَّ من الحرير (الحرير الرّقيق النّاعم).

{وَإِسْتَبْرَقٍ} : ما غلظ من الحرير.

{مُتَقَابِلِينَ} : على مجالسهم أو سُرُرهم؛ ليستأنس بعضهم ببعض ولينظر بعضهم إلى بعض.

ص: 203

سورة الدخان [44: 54]

{كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} :

أي كما ألبسناهم السّندس والإستبرق، أو كما أكرمناهم بدخول الجنة كذلك وزوّجناهم بحور عين، أو: كما زوّجناهم في الدّنيا نزوّجهم في الآخرة بالحور العين.

{بِحُورٍ} : الباء للإلصاق، الحور العين: زوجات غير زوجاتهم في الدّنيا، الحور: جمع حوراء، وهي الّتي يكون بياض عينيها شديد البياض وسواده شديد السّواد. والعِيْن: جمع عيناء؛ أي: واسعات الأعين يحار الطّرف بجمالهن، وفي آيات أخرى وصفهن:{وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النّبأ: 33]، {أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 36-37].

ص: 204

سورة الدخان [44: 55]

{يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} :

{يَدْعُونَ فِيهَا} : في الجنة يطلبون أو يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفاكهة؛ أي: تقدّم لهم كلّ أنواع الفاكهة، فاكهة: اسم جنس يشمل كلّ أنواع الفاكهة.

{آمِنِينَ} : في سلام وأمن كامل من الموت، ومن كلّ مرض وضرر وأذى وهمٍّ وغمٍّ، وفقر ومطعم ومشرب وملبس ومأوى، آمنين من تغيّر أحوالهم ومن أيّ خوف أو حذر أو إنذار.

ص: 205

سورة الدخان [44: 56]

{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} :

{لَا يَذُوقُونَ} : لا النّافية.

{يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} : فيها: في الجنة لا يذوقون أو يذاقون الموت، خلود بلا موت، إلا: أداة حصر واستثناء، الموتة الأولى: الّتي كانت في الدّنيا وانتهى أمرها، والموتة الأولى: توكيد للنفي؛ أي: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة الّتي ذاقوها في الدّنيا.

{وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} : ووقاهم ربهم عذاب الجحيم: اسم من أسماء النّار، والجحيم من الجحوم: هو التّأجّج بلا خمود أو انقطاع. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

ص: 206

سورة الدخان [44: 57]

{فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

أي: ما أعطى المتقين من جنات وعيون وسندس وإستبرق وحور عين وغيرها من نعيم الجنة والوقاية من عذاب الجحيم كلّه، تفضلاً من ربك وليس بما عملوه من الأعمال الصّالحة والحسنات.

والفضل: هو الزّيادة عما يستحقّ العبد من الأجر أو حقّه، والفضل لا يكون واجباً وإنما هو تفضّل من الله سبحانه بغير سبب.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة، واللام للبعد، ويفيد التّعظيم والمدح.

{هُوَ} : للتوكيد.

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : الفوز الذي لا يعلوه فوزٌ، مقارنةً بالفوز المبين أو الفوز الكبير مقارنة بقوله تعالى في الآية (12) من سور الصف {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} بدون إضافة هو؛ لأن الفوز العظيم درجات أعظمها:{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وأوسطها:{ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وأدناها:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، والفوز العظيم أعلى درجة من الفوز الكبير، والفوز الكبير أعلى درجة من الفوز المبين، والله أعلم؛ ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في معنى الفوز وأنواعه ودرجاته.

ص: 207

سورة الدخان [44: 58]

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} :

{فَإِنَّمَا} : الفاء للتوكيد استئنافية، إنما: كافة مكفوفة تفيد زيادة التّوكيد.

{يَسَّرْنَاهُ} : هاء الضّمير تعود للقرآن العظيم، يسّرناه للحفظ والفهم والتّدبّر والقراءة.

{بِلِسَانِكَ} : الباء للإلصاق والمصاحبة، بلسانك: بلغتك العربية {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} [الزّمر: 28].

{لَعَلَّهُمْ} : لعلّ للتعليل، لعلّهم يتذكرونه ولا ينسونه.

{يَتَذَكَّرُونَ} : خالقهم ورازقهم ووليّهم، يتذكّرون نعمه وإحسانه وفضله، ويتذكّرون وعده ووعيده، ويتذكّرون آياته وأحكامه وحدوده.

يتذكّرون: ولو لزمهم الزّمن الطّويل أو احتاجوا إلى زمن طويل مقارنةً بقوله: يذكرون؛ أي: تذكّرهم لا يحتاج إلى زمن طويل.

ص: 208

سورة الدخان [44: 59]

{فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} :

{فَارْتَقِبْ} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر؛ أي: إن كفروا وأعرضوا فارتقب هلاكهم، ارتقب: من الارتقاب: وهو الانتظار مع المراقبة (بكلّ الوسائل) حتّى لا يفوته أيُّ شيء مما يفعله المُرَاقب، أو ارتقِب: ما وعدناك من النّصر والفوز عليهم.

{إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} : إن: للتوكيد، مرتقبون؛ أي: وهم كذلك مرتقبون ما يحلّ بك من الدّوائر، ومرتقبون: جمع مرتقب: اسم فاعل من الفعل الخماسي: ارتقب.

ص: 209

سورة الجاثية [45: 1]

سورة الجاثية

ترتيبها في القرآن (45)، وترتيبها في النّزول (65).

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

ص: 210

سورة الجاثية [45: 2]

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة الزّمر للبيان.

ص: 211

سورة الجاثية [45: 3]

{إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} :

{إِنَّ فِى} : إنّ: للتوكيد، في ظرفية.

{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ} : اللام للتوكيد، آيات كونية كثيرة تدل على عظمة الخالق ووحدانيَّته وحكمته وقدرته، وأنّه الإله الحق الّذي يستحق أن يعبد وحده.

{لِّلْمُؤْمِنِينَ} : اللام لام الاختصاص، للمؤمنين، أيْ: تنفع المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ويزدادوا هدى وتقوى مع تقواهم.

ص: 212

سورة الجاثية [45: 4]

{وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} :

{وَفِى خَلْقِكُمْ} : أيْ: في خلق الإنسان وأطوار خلقه وتسويته وتصويره وتركيبه. ارجع إلى سورة الحج آية (5)، وسورة المؤمنون آية (12-14) للبيان.

{وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} : البث هو النّشر والتّفرق في الأرض والعيش في الجبال أو الصّحارى أو الوديان والسّهول والمدن والقرى والأرياف، من دابة: من استغراقية، دابة: كلّ ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان وجن.

{آيَاتٌ} : في الخلق والنّشر والتّفرق والعيش آيات، أيْ: دلائل وبينات على عظمة الله وقدرته وحكمته ووحدانيَّته، وأنّه هو الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد.

{لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} : اللام لام الاختصاص، قوم يوقنون: اليقين لا يوجد إلا بعد الإيمان والإيمان حين يزداد يرتقي إلى اليقين، واليقين: هو العلم بالحق الّذي ليس هناك غيره لا يتغير ولا يتبدل، والمستقر في القلب ولا يحتاج إلى مراجعة أو تفكير به من جديد. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان.

فهذه الآيات الكونية وآيات الخلق إذا فكر الإنسان بها وتدبرها وعقلها تكفي للإيمان، وأن يرتقي الإيمان بالله إلى درجة اليقين، لقوم يوقنون: بأنّ الّذي خلق الخلق وبثَّهم ونشرهم لا يقدر عليه إلا الله سبحانه واجب الوجود، وأنّه الحق له وحده الألوهية والرّبوبية والصّفات والأسماء الحسنى، يوقنون تدل على تجدُّد وتكرار يقينهم كلما شاهدوا ورأوا تلك الآيات.

ص: 213

سورة الجاثية [45: 5]

{وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} :

{وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : الدّال على كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشّمس الّذي ينتج عنه تبادل الليل والنّهار والولوج والتكوير من أعظم الآيات الدّالة على قدرة الخالق. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (33) للبيان.

{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِّزْقٍ} : أي: الغيث والطاقة الحرارية والرّياح والمعادن كالحديد وغيره وبعض الأشعة وغيرها من مصادر الطّاقة.

أنزل: تعني: مرة واحدة، نزل: تعني مرات كثيرة.

{فَأَحْيَا بِهِ} : بالماء، وهذه الآية تشير إلى دورة الماء على الأرض. ارجع إلى سورة المؤمنون آية (18).

{الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} : بزمن قصير أو طويل، ولم يقل: من بعد موتها: أيْ: مباشرة من بعد موتها، كما يحدث في كلّ عام. ارجع إلى سورة الحج آية (5، 63)، وسورة فصلت آية (39) وسورة الأنعام آية (99) لمزيد من البيان.

{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} : تغيرها من حال إلى حال، يحولها من ريح طيبة لينة إلى ريح عاصفة مدمرة، ومن ريح حارة إلى باردة إلى سامة (ريح السّموم)، ومن ريح باردة إلى ريح صرصر عاتية، وتصريفها باتجاهات مختلفة تحمل معها السّحاب أو الغبار، والرياح في القرآن تأتي في سياق الخير، وأما الريح تأتي في سياق الضر أو الشر والدمار.

{آيَاتٌ} : كونية.

{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : اللام لام الاختصاص، قوم يعقلون: إذا فكروا بهذه الآيات لأدركوا الحقيقة أنّ الّذي أنزل من السّماء رزقاً وصرف الرّياح وبثَّ فيها من كلّ دابة هو الإله الحق الخالق المدبر الواحد الّذي يجب أن يُعبد ويُطاع.

ص: 214

سورة الجاثية [45: 6]

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} :

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} : تلك: اسم إشارة، واللام للبعد للدلالة على علو شأنها وعظمتها، وتشير على الآيات المتقدمة الّتي ذكرها في الآية (3، 4، 5).

{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} : نتلوها: من التّلاوة أصل التّلاوة اتباع الشّيء بالشّيء نتلوها آية بعد آية: والتّلاوة لا تكون إلا من كتاب الله، والتّلاوة قراءة وليس كلّ قراءة تلاوة، والتّلاوة لا تكون إلا بكلمتين بالحق: الحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغير، بالحق: الباء للإلصاق والمصاحبة، بالحق: بالصّدق يتلوها عليك جبريل عليه السلام .

{فَبِأَىِّ} : الفاء رابطة لجواب مقدَّر، بأيِّ: استفهام إنكاري.

{حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} : أيْ: إذا لم يصدقوا بالقرآن وهو الحق، ولم يصدقوا بآيات الله الكونية أو المعجزات التي تشير إلى نبوة الرسل. لم يصدقوا بالله تعالى وآياته فمن سيصدقون، وإذا لم يصدقوا بتلك الآيات فأيُّ آيات الله الأخرى سيصدقون بها، و من لم يؤمن بكلام الله تعالى ويصدق بآياته، فلن يؤمن من بعد القرآن بأيِّ شيء، ولن يصدق بأيِّ آية أخرى.

ص: 215

سورة الجاثية [45: 7]

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} :

هذا تهديد ووعيد لكلّ من كذَّب بالله وآياته، ثمّ أصر على كفره.

{وَيْلٌ} : كلمة عذاب، أو الهلاك والعذاب.

{لِكُلِّ} : اللام لام الاستحقاق، والاختصاص، كلّ: للتوكيد.

{أَفَّاكٍ} : كثير الإفك صيغة مبالغة، والإفك هو الصّرف عن الحق إلى الباطل، أيْ: قلب الحقائق والإفك نوع من الكذب.

وقيل: نزلت هذه الآية في النّضر بن الحارث، كان يشتري من أحاديث العجم، ويشغل النّاس عن الاستماع إلى القرآن، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.

{أَثِيمٍ} : كثير الإثم والذّنوب، قدمه راسخة في الإثم.

ص: 216

سورة الجاثية [45: 8]

{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} :

{يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} : أيْ: يسمع هذا الأفاك الأثيم: هذه الآيات الّتي تدعوه إلى الإيمان والتّوبة.

{ثُمَّ} : ثمّ لا تعني الترتيب والتّراخي في الزّمن، وإنما للترتيب العددي، أو تباين الدّرجة بين الاستماع والإصرار على الكفر.

{ثُمَّ يُصِرُّ} : يستمر ويقيم على كفره وضلاله ويلازمه ويقال: صر الفرس أذنيه، أيْ: ضمها إلى رأسه.

{مُسْتَكْبِرًا} : عن الإيمان والتّوبة، معجباً بنفسه ومظهراً عظم شأنه رغم أنّه لا يملك مقومات الكبر. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) للبيان.

{كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا} : كأن من أفعال المقاربة، متظاهراً بعدم سماع تلك الآيات، فهو لا يذكرها أبداً أو يسأل عما تعني؛ أي: يتجاهلها أمام النّاس كأنّه أصمُّ أو في أذنيه وقراً مع العلم أن آلة السّمع (أذنيه) غير معطلة.

{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : الفاء عاطفة تربط السّبب بالمسبب، والبشارة إذا أطلقت عادة لا تكون إلا في الخير والخبر بشيء سار، فإذا استعملت البشارة لشيء سيِّئ فهي تعني: التّهكم والسّخرية، بعذاب أليم: مؤلم لا يستطيع أن يتحمله أحد.

ص: 217

سورة الجاثية [45: 9]

{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْـئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} :

{عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْـئًا} : أيْ: إذا بلغه شيئاً من آياتنا عن طريق الآخرين، أيْ: لم تُتْلَ عليه مباشرة، وإنما سمع تلك الآيات من أناس آخرين.

{اتَّخَذَهَا هُزُوًا} : أخذ يستهزئ بها أيْ: يستخف بها ويعيب عليها ويحط من شأنها، ولم يقل: اتخذه هزواً الهاء تعود على العلم، وإنما اتخذها: أيْ: لم يقتصر استهزاؤه بما سمع، بل راح يستهزئ بكل الآيات الّتي سمعها والتي علم بها. والاستهزاء: قد يكون بالأشخاص أيضاً، أو بغير الأشخاص كالاستهزاء بالآيات، والاستهزاء عام أعم من السخرية؛ لأن السخرية خاصة بالأشخاص.

كما فعل أبو جهل حين نزلت آية {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43-44] دعا بتمر وزُبد وقال: تزقموا فما يعدكم محمّد إلا هذا.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد يفيد التّحقير، وتشير إلى الأفَّاكين.

{لَهُمْ} : اللام لام الاستحقاق (الاختصاص).

{عَذَابٌ مُّهِينٌ} : هو العذاب الأليم مع الإهانة، عذاب على مرأى النّاس وفيه إذلال وتصغير.

ص: 218

سورة الجاثية [45: 10]

{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيْـئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :

{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} : من ابتدائية، ورائهم: أيْ: أمامهم جهنم ولفظ الوراء هنا يقصد به الأمام، فهي من الألفاظ المشتركة في معنيين أو أكثر، أو الكلمات المتضادة.

{وَلَا يُغْنِى} : الواو عاطفة، لا النّافية، أيْ: لا ينفعهم، الغنى هنا يعني النّفع، وهناك الغنى: ضد الفقر.

{مَا} : حرف مصدري أو اسم موصول بمعنى الّذي و (ما) أوسع شمولاً، وللعاقل وغير العاقل.

{كَسَبُوا شَيْـئًا} : من الأموال والأولاد والمتاع الدّنيوي، يوم القيامة لا يجلب لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضرّاً؛ أي:{لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} [آل عمران: 10].

{وَلَا مَا اتَّخَذُوا} : الواو عاطفة، لا للتوكيد توكيد النّفي، ما اتخذوا: ما بمعنى الّذي أو مصدرية.

{مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} : من الأوثان أو الآلهة والأولياء جمع ولي، وهو القريب، أيْ: لا يشفعون لهم ولا يقربونهم زلفى ولا ينصرونهم ولا يخففون عنهم من العذاب شيئاً.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، عذاب عظيم: أشد أنواع العذاب على الإطلاق، يشمل كلّ أنواع العذاب من حيث الكم والكيف والدّوام، ويشمل الأليم والمهين والشّديد.

ص: 219

سورة الجاثية [45: 11]

{هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} :

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى القرآن ويفيد التّعظيم.

{هُدًى} : مصدر هدى أو سبب للهداية يهدي للحق ويهدي للغاية أو هو الهدى نفسه يهدي إلى الصّراط المستقيم وسعادة الدّارين.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص، أي: الاستحقاق.

{عَذَابٌ مِنْ رِّجْزٍ أَلِيمٌ} : الرّجز في اللغة تتابع الحركات والقلقلة أو الاضطراب.

عذاب من رجز أليم: الرّجز: هو العذاب، كما قال ابن عباس، وقيل: العقاب، وقيل: الطاعون، أو أيُّ عذاب كالرّيح والطاعون، وقيل: الغضب ووساوس الشّيطان وشره.

وهناك فرق بين الرّجز والرّجس: الرّجس هو القذارة والنّجاسة، كما قال ابن منظور في لسان العرب، وقيل: الرّجس إظهار الفساد أو أمر مستقبح شرعاً مثل الخمر والأصنام والأزلام، وقيل: الذّنب والإثم والفسق والشّرك.

عذاب من رجز أليم: أيْ: عذاب من السّماء أليم متتابع. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) للبيان المفصل.

ص: 220

سورة الجاثية [45: 12]

{اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

{اللَّهُ} : تقديم الفاعل على الفعل يفيد الاهتمام.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} : التّسخير هذا التّذليل، سخر البحر اسم جنس، لكم: اللام لام الاختصاص.

{لِتَجْرِىَ} : اللام لام التّعليل.

{الْفُلْكُ} : السّفن وتطلق على المفرد والمثنى والجمع.

{فِيهِ بِأَمْرِهِ} : فيه ظرفية، بأمره: الباء للإلصاق والمصاحبة، بأمره: بإذنه، وقدَّم فيه؛ لأنّ الكلام عن البحر. ارجع إلى سورة لقمان آية (31) لمزيد من البيان.

{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} : الواو هنا تشير إلى منافع أخرى لم تذكرها الآية، واللام في لتبتغوا: للتعليل، لتبتغوا من فضله: لتسافروا في طلب الرّزق من مكان إلى آخر وتستخرجوا منه حلية تلبسوها وتأكلوا منه لحماً طرياً، من ابتدائية، فضله: أيْ: زيادة على ما تستحقون من كلّ هذه النّعم الّتي هي من كرمه وإحسانه لكم، وليست بقوتكم أو ما أوتيتم من العلم.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعلكم تفيد التّعليل، تشكرون المنعم على ما أنعم عليكم من الرّكوب وأكل لحمه واللؤلؤ والمرجان، وغيره من الفوائد.

لنقارن هذه الآية (12) من سورة الجاثية، وهي قوله:{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، مع الآية (12) من سورة فاطر، وهي قوله:{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

في سورة فاطر من دون واو، أيْ: ليس في هذه تعداد أو تذكر بالنّعم الأخرى فقط يريد في هذه الآية الإشارة على النّعم المذكورة في هذه الآية وحدها. وأما في سورة الجاثية يراد بها كل النعم المذكورة في الآية وغيرها مما لم يُذكر.

ص: 221

سورة الجاثية [45: 13]

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} :

{وَسَخَّرَ لَكُمْ} : لكم اللام لام الاختصاص، أيْ: لكم خاصة.

{مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : ما للعاقل وغير العاقل، ما في السّموات: الشّمس والقمر والنّجوم والكواكب والسّحاب والرّياح، وما في الأرض: الجبال والأنهار والبحار والفلك والأنعام ووسائل النّقل.

{جَمِيعًا مِّنْهُ} : جميعاً للتوكيد منه لا من غيره، أي: من فضله سبحانه وتعالى.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : إنّ واللام في كلمة لآيات للتوكيد.

{لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} : اللام لام الاختصاص، قوم يتفكرون في هذه الآيات، فإذا نظرنا فيها توصلنا إلى عظمة قدرة الخالق وعلمه، وأنّ الله هو الإله الحق، وما من إله غيره ولا شريك له، له الملك، أي: الحكم وهو الإله الّذي يستحق العبادة والطّاعة.

ص: 222

سورة الجاثية [45: 14]

{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} : قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا، اللام لام الاختصاص.

{يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} : قيل: نزلت هذه الآية في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يعانون من أذى المشركين، وكانوا في حالة ضعف قبل أن يؤمروا بالجهاد، فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: نزلت في غزوة بني المصطلق حين اختلاف غلام عمر مع غلام عبد الله بن أُبَيٍّ، وقال عبد الله بن أُبَيٍّ تلك المقولة الشّهيرة: سمِّن كلبك يأكلك، فنزلت هذه الآية تطلب من الصّحابة أن يغفروا لهؤلاء الّذين لا يرجون أيام الله.

وهناك من المفسرين من قال: نسخت هذه الآية بآية الجهاد.

{يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} : يتجاوزوا ويعفوا ولا يعاقبوا، للذين: اللام لام الاختصاص، لا يرجون أيام الله: لا النّافية، لا يؤمنون بلقائه أو بالبعث أو الحساب والجزاء، أو لا يرجون أيام الله: أيْ: لا يصدقون ولا يؤمنون بما وقع وما حدث للأمم السّابقة مثل قوم نوح وعاد وثمود، أن يحدث لهم أو يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من المشركين.

وقيل: لا يرجون أيام الله: لا يَدْرُون أو يعلمون كثرة أنعم الله عليهم ولا يشكرون الله عليها.

وقال تعالى: يغفروا ولم يقل: ليغفروا: لم يجئْ بلام التّوكيد، أيْ: لا تردوا السّيئة بالسّيئة، وإنما ادفعوا السّيئة بالّتي هي أحسن.

{لِيَجْزِىَ} : اللام لام التّعليل، الجزاء: أعم من الأجر ويكون مقابل العمل الصّالح أو السّيِّئ.

{قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : فالأجر يأتي في سياق العمل الصّالح والخير والجزاء يأتي في سياق العمل الصّالح أو السّيِّئ، قوماً بما كانوا يكسبون: بما: الباء سببية أو للتعليل، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، قوماً: أيْ: ليجزي كلاً من الفريقين، أي: الّذين غفروا والذين لا يرجون أيام الله، بما كانوا: في الحياة الدّنيا، يكسبون: من الأعمال الصّالحة أو الأعمال السّيئة.

ولمعرفة الفرق بين يكسبوا أو اكتسبوا: ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة.

ص: 223

سورة الجاثية [45: 15]

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} :

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} : من شرطية، عمل صالحاً: نكرة لتشمل أيَّ عمل صالح مهما كان، فلنفسه: الفاء رابطة لجواب الشّرط، واللام في لنفسه لام الاختصاص والاستحقاق، أيْ: أجر أو ثواب ذلك العمل الصّالح يرجع بالفائدة إليه ولا يذهب إلى غيره.

{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} : ومن أساء فعاقبة ذلك العمل السّيِّئ والذّنب يقع على نفسه ليذوق وبال أمره، على تفيد الاستعلاء، استخدم اللام فلنفسه في سياق الثّواب، واستخدم على في سياق الإثم والذّنب والعقاب.

{ثُمَّ} : تفيد التّراخي في الزّمن، أيْ: يوم القيامة.

{إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} : للحساب والجزاء، تُرجعون: بضم التّاء الّتي تدل على القسر والقهر، أيْ: سواء رضيتم أم أبيتم، ولم يقل: تَرجعون بفتح التّاء الّتي تدل على الرّجوع بإرادتهم ورغبتهم، وتقديم إلى تفيد الحصر، أيْ: إلى ربكم وحده ترجعون.

ص: 224

سورة الجاثية [45: 16]

{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} :

المناسبة: بعد أن عدد الله نعمه العامة على عباده يذكر عدداً من نعمه الخاصة على بني إسرائيل، وكيف اختلفوا بينهم، وسوف يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد اللام للتوكيد، قد للتحقيق (أيْ: حدث ذلك وتم).

{آتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : الإيتاء هو العطاء من دون تملك، ويمكن استرداد ما أعطي، والإيتاء أعم من العطاء يشمل الأشياء الحسية والمعنوية، بني إسرائيل: أي: بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام .

{الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} : التّوراة، والحكم: الفقه في الدّين والفصل في الخصومات بين النّاس والفتوى.

{وَالنُّبُوَّةَ} : لموسى وهارون وكثير من الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان.

{وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : من: البعضية، الطّيبات: الطّيب هو الحلال والطّاهر. ارجع إلى سورة الأنفال آية (69) لمزيد من البيان.

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} : عالمي زمانهم من الأمم المعاصرة لهم أمثال الفراعنة والأمم الّتي كانت تسكن بلاد الشّام، ولا يعني التّفضيل الأبدي، وإنما كان مقصوراً على تلك الفترة من الزّمن.

ص: 225

سورة الجاثية [45: 17]

{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} :

{وَآتَيْنَاهُم} : ارجع إلى الآية السّابقة، والواو عاطفة.

{بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} : جمع بيِّنة: أحكام وشرائع في الحلال والحرام مثلاً، وفي المعاملات والعبادات والعلم بمبعث النّبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، وبما في التّوراة من آيات بينات.

{فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} : الفاء عاطفة، ما النّافية، اختلفوا في الأحكام والشّرائع والتّحريم والتّحليل وأمور الدّين والعقيدة وفي عيسى عليه السلام وفي محمّد صلى الله عليه وسلم وأنبيائهم، إلا: أداة حصر، من بعد: من تفيد القرب أي مباشرة من بعد، ما جاءهم العلم: ما بمعنى الّذي جاءهم من العلم عن طريق الإنجيل والقرآن وبعثة عيسى ومحمّد عليه السلام ، بغياً بينهم: من البغي: مجاوزة الحد في الظّلم والفساد وأخذ حق الغير بالقهر والقوة والتّعسف، بينهم: بني إسرائيل.

{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : إنّ للتوكيد، ربك يقضي: يفصل بينهم أيْ: بين بني إسرائيل يوم القيامة. ارجع إلى سورة الأنعام آية (64)، وسورة السجدة آية (28) لبيان معنى القضاء والحكم والفصل.

{فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} : في الدّنيا، يختلفون: من أمور الدّين والعقيدة والأحكام والحلال والحرام وطاعة الرّسل وأمر محمّد صلى الله عليه وسلم وعيسى.

ص: 226

سورة الجاثية [45: 18]

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} :

{ثُمَّ} : لتباين الصّفات، صفات الشّريعة الإسلامية عما سبقها من الشّرائع.

{جَعَلْنَاكَ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{عَلَى شَرِيعَةٍ} : على تفيد العلو والسّمو والمشقة، شريعة: جملة الشّرائع الّتي تشمل العقائد والعبادات والأحكام، والّتي تختلف باختلاف الأمم، شريعة محمّد صلى الله عليه وسلم الإسلام وشريعة عيسى عليه السلام النّصرانية، وشريعة موسى عليه السلام اليهودية، شريعة إبراهيم عليه السلام الحنفية السّمحة، وأما الدّين فهو واحد وهو الإسلام، أمّا الشّرائع، أي: الدّيانات فمختلفة، وكما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، ارجع إلى سورة المائدة الآية (48) لمزيد من البيان.

{شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} : أيْ: من أمرنا، أيْ: مما شرعناه لكم، والأمر هو إما واحد من الأمور أو الشؤون أو واحد من الأوامر.

{فَاتَّبِعْهَا} : الفاء للتعقيب والمباشرة، اتَّبعها كاملة، أيْ: خذ بها والتزم بها.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ} : لا النّاهية، أهواء: جمع هوى: والهوى: هو ما تميل إليه النّفس باطلاً بما لا ينبغي ولا دليل، والهوى يغلب عليه الذّم ويختص بالأداء والمعتقدات.

{الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : أهواء الجهال من قريش أو أهل الكتاب الّذين لا يعلمون أمور الدّين أو الّذين لا يعلمون التّوراة والإنجيل والقرآن وما أنزل الله على رسله.

ص: 227

سورة الجاثية [45: 19]

{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} :

{إِنَّهُمْ} : تعود على الّذين لا يعلمون.

{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب أو البعيد.

{يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : أيْ: لن ينفعوك من الله: من عذاب الله شيئاً أو يشفعوا لك أو يدفعوا عنك من عذاب الله شيئاً أو يعطوك حسنة من حسناتهم، والخطاب موجَّه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أمته وشيئاً نكرة تعني: أيَّ شيء مهما كان نوعه وجنسه، والشّيء هو أقل القليل، وسواء أكان حسياً أم مادياً.

{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} : إن للتوكيد، الظّالمين: المشركين والكافرين والظالمين أنفسهم بالمعاصي، والظّلم يعني: الخروج عن المنهج الرّباني، وإنّ أعظم الظّلم هو الشّرك بالله.

وعبادة غير الخالق والرّازق ومدبِّر الأمر هي أبشع أنواع الظّلم، وكثر في القرآن إطلاق الظّلم على الشّرك، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : أولياء جمع ولي، والموالاة تعني المودة والنّصرة بينهم، المودة: المحبة واتخاذ بعضهم لبعض بطانة، وتعني: يسرون إلى بعضهم بعضاً الأخبار، والنّصرة: تعني: هم أعوان لبعضهم بعضاً وينصرون بعضهم بعضاً بالعدة والعتاد.

{وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} : أيْ: والله المحب والمعين لأوليائه المتقين يواليهم بالمعونة والنّصر والرّحمة ويحفظهم والمتولي أمورهم، ولا يَكِلُهم إلى غيره، المتقين: جمع متقٍّ: وهو الّذي يطيع أوامر الله ويتجنب نواهيه.

ص: 228

سورة الجاثية [45: 20]

{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} :

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى القرآن العظيم.

{بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} : جمع بصيرة: والبصائر تشمل الآيات والبراهين والحجج والشواهد والبينات والمعجزات والحجج الّتي لا لبس فيها من الله وهي ما يتضح بها الحق وتميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والرشاد والغي، وسميت بصائر؛ لأنه لا يمكن الرؤية بدونها، والقرآن كله بصائر وليس بصيرة واحدة؛ فهذه البصائر هي التي تنير لنا الطريق في الدنيا طريق الهداية والوصول إلى الغاية العظمى، وهي رضوان الله تعالى، والسعادة في الدارين.

{وَهُدًى} : هدى: نكرة يشمل كلّ أنواع الهدى، فهو مصدر للهدى أو هو هدى يهدي للحق ويهدي للغاية والصّراط المستقيم. والهدى الكامل التّام.

{وَرَحْمَةٌ} : يجلب ما يسر ويدفع ما يضر (أيْ: وقاية) ونعمة من أعظم النّعم.

{لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} : اللام لام الاختصاص، يوقنون: أن القرآن بصائر وهدى ورحمة لقوم يوقنون لكي يستقر اليقين في قلوبهم وتنكشف لهم الحقائق الرّبانية، ويوقنون من اليقين هو العلم بالحق ولا يكون غيره والرّاسخ في القلب. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان.

ص: 229

سورة الجاثية [45: 21]

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي، الهمزة للاستفهام الإنكاري إنكار.

{حَسِبَ} : اعتقد أو حسب يعني: الظّن الرّاجح، أيْ: ظن الّذين اجترحوا السّيئات ظناً راجحاً أنّ الله سيجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواء محياهم ومماتهم.

{اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} : أي: اكتسبوا السّيئات أيْ: فعلوها عمداً، السّيئات منها الكفر والشّرك والمعاصي، أيْ: قاموا بالسّيئات بجوارحهم (كالعين واليد والرّجل والأذن) كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60].

{أَنْ} : للتعليل والتّوكيد.

{نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أيْ: نسوي بينهم في الدّنيا أو في الآخرة مع الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات، نسوي بينهم في الجزاء والثّواب والابتلاء.

{سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ} : أيْ: في حياتهم الدّنيا.

{وَمَمَاتُهُمْ} : أو في الآخرة، نسوي بينهم في الجنة والنّار.

{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} : ساء: من أفعال الذّم العامة؛ أيْ: بئس ما يحكمون: يقضون به ويصدر عن عقولهم من أحكام، ما: اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية أو ساء حكمهم.

ص: 230

سورة الجاثية [45: 22]

{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

الواو: استئنافية، أيْ: وجعلناك على شريعة من الأمر وأيضاً خلق الله السّموات والأرض بالحق: بالأمر الثّابت الّذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، أيْ: بقوة وإحكام وبالقوانين الفائقة، الثّابتة الّتي لا تتغيَّر، والتي تحكم الأجرام والمجرات والنّجوم منذ (14 ألف مليون سنة).

ولتجزى كلّ نفس: الواو حرف عطف أيْ: معطوف على الحق أيْ: ولتجزى الجزاء من جنس العمل كلّ نفس بالعدل، أو بالحق (من هؤلاء الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وهؤلاء الّذين اجترحوا السّيئات).

{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : فسبحانه خلق لكم السّموات والأرض لتتمكنوا من العيش فيها وسخر لكم ما في السّموات والأرض، وأنزل لكم شرائعه ورسله وبيَّن لكم الحق من الباطل، ولم يخلق كلّ ذلك عبثاً، فلا بُدَّ من أن تجزى كلّ نفس بما كسبت.

لتجزى: اللام لام التّعليل، كلّ نفس بما: الباء للإلصاق والمصاحبة، ما اسم موصول بمعنى الّذي كسبت أو مصدرية، كسبت: من خير أو شر، وهم: للتوكيد، لا النّافية، يظلمون: مقدار ذرة من خير أو شر.

ص: 231

سورة الجاثية [45: 23]

{أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} :

المناسبة: فكيف بعد أن جعلنا لكل أمة منكم شرعة ومنهاجاً وسخرنا لكم السّموات والأرض وما فيهما منكم ما زال يريد أن يتخذ إلهه هواه.

{أَفَرَءَيْتَ} : الهمزة للاستفهام والتّعجب والإنكار، والفاء للتوكيد، أرأيت: الرّؤية هنا قلبية فكرية بمعنى: أخبروني بعلم ويقين.

{مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} : أيْ: من جعل هواه معبوده، أيْ: يعبد هواه ويطيعه كما يخضع العابد للمعبود والهوى، لتعريفه ارجع إلى الآية (18) من نفس السّورة.

{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} : أي: الّذي اتخذ إلهه هواه على علم أنّه على ضلال حين اتبع هواه وبما أنّه استمر على ضلاله ولم يتب ويرجع عن ذنبه وأصرّ على ضلاله، ولم يعد هناك أملاً في هدايته فالله سبحانه تعالى يتركه وشأنه ويزيده ضلالاً؛ لأنّه اختار لنفسه طريق الضّلال.

{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} : ثمّ إذا تمادى في ضلاله يختم الله على سمعه فيصبح كأنه أصم ويختم على قلبه. فلا يدخله إيمان أو يخرج منه كفر.

{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} : فلا يعد يبصر طريق الحق أو الهداية.

{فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} : فمن: الفاء: للتوكيد؛ من: للاستفهام، وتفيد التقرير؛ أي: لا أحد يستطيع أن يهديه من بعد أن ختم الله سبحانه، على سمعه وقلبه.

{أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي والإنكار، فالفاء لزيادة الإنكار على عدم التّذكر، الا: أداة تنبيه وحضٍّ وتحمل معنى الأمر، أي: تذكرون تتعظون وتتبعوا ما أمر الله، وتتجنبوا ما نهى الله عنه، وتتجنبوا الهوى والشهوات، وهذا التّذكر لا يحتاج إلى زمن طويل، كما لو قال: أفلا تتذكرون وأنه لا الذي يحتاج إلى زمن طويل أحد يستطيع هدايته من بعد الله.

ص: 232

سورة الجاثية [45: 24]

{وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} :

{وَقَالُوا} : تعود على الّذين اجترحوا السّيئات واتخذوا إلههم هواهم وختم على سمعهم وقلوبهم وزيادة على ذلك فهم ينكرون البعث والحساب وقالوا.

{مَا هِىَ} : ما النّافية تنفي الحال غالباً، هي: ضمير فصل للتوكيد تعود على الحياة الدّنيا.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} : أي: الحياة محصورة ومقصورة على الحياة الدّنيا الّتي نحياها فليس هناك حياة أخرى أو دار الآخرة، وسُمِّيت بالحياة الدّنيا السّفلى لكونها زائلة وحقيرة.

{نَمُوتُ وَنَحْيَا} : أيْ: بعضنا يموت وبعضنا يُخلق أو يولد، ولا تعني: نموت، ثمّ نحيا نبعث من جديد؛ لأنّهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً.

{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} : ما النّافية، يهلكنا إلا الدّهر: إلا: أداة حصر، أيْ: ما نفنى ونموت إلا بسبب مرور الدّهر: الزّمن الطّويل أو توالي الأيّام. وهذا غير صحيح؛ لأن هناك من يموت في سن مبكرة في سن الطّفولة أو الشّباب.

{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} : من استغراقية، أيْ: ما لهم: ما النّافية، لهم بذلك: اسم إشارة يشير إلى الدّهر هو سبب هلاكهم، فما لهم بذلك من دليل علمي أو كتاب إلهي أو وحي أو حتّى عقل صحيح يوافق ذلك.

{إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} : إن نافية وأقوى نفياً من (ما)، هم إلا: هم ضمير فصل يفيد التّوكيد، إلا أداة حصر، يظنون: من الظّن هو الاحتمال الرّاجح عندهم أو هو الشّك مع رجحان كفة الإثبات على كفة النّفي، قالوا ذلك بناء على تقليد آبائهم.

لنقارن هذه الآية (24) من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} والآية (71) من سورة الحج، وهي قوله تعالى:{وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} :

ما لهم بذلك من علم: من هنا استغراقية تستغرق أدنى علم.

ما ليس لهم به علم: هؤلاء عندهم بعض العلم وأفضل من المذكورين في آية الجاثية.

ولنقارن هذه الآية (24) من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى:{مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} والآية (37) من سورة المؤمنون، وهي قوله تعالى:{إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} :

(إنْ) أشد نفياً من (ما)، فالذين قالوا: إن هي إلا حياتنا الدّنيا أشد تكذيباً بالبعث، والدّار الآخرة من الّذين قالوا: ما هي إلا حياتنا الدّنيا أشد تكذيباً بالبعث والدّار الآخرة من الّذين قالوا: ما هي إلا حياتنا الدّنيا، أيْ: من النّاس من ينكر البعث والحساب بدرجة (اليقين) مطلقة، ومنهم من ينكر البعث والحساب بشكل نسبي أو شك.

ص: 233

سورة الجاثية [45: 25]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{وَإِذَا} : ظرفية زمانية شرطية تدل على حتمية الحدوث.

{تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : عليهم تعود على الّذين اجترحوا السّيئات والمكذبين بالبعث، تتلى عليهم آياتنا: آيات القرآن، بينات: الواضحات الدّالة على قدرة الله على البعث والإحياء، ولمعرفة معنى التّلاوة. ارجع إلى الآية (6) من نفس السّورة.

{مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} : ما النّافية، إلا أداة حصر، أن قالوا: أن تعليلية.

{ائْتُوا بِآبَائِنَا} : أيْ: أعيدوا إلينا آباءنا أحياء حتّى نراهم ونكلِّمهم أو نسألهم.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : على أننا سنبعث ونحاسب، إن شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال في كونهم صادقين.

انتبه: إلى قوله: ما كان حجتهم: بدلاً من القول: ما كان قولَهُم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا، وهذه الحُجَّة ليست بحُجَّة مقبولة، وإنما ساقوا قولهم مساق الحُجَّة على سبيل المستحيل؛ لأنّهم يعلمون ما من أحدٍ مات، ثمّ أعيد إلى الحياة مرة أخرى.

كذلك انتبه إلى قوله تعالى: حُجَّتَهُم بفتح التّاء تدل على أنّهم هم الوحيدون الّذين جاؤوا بهذه الحُجَّة، من بين النّاس، بينما إذا قرأت حُجَّتُهُم بضم التّاء تدل على أنّه لم يكن لهم حُجَّة غيرها فقط حُجَّة واحدة، فهناك فرق واضح بين القولين.

ص: 234

سورة الجاثية [45: 26]

{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{قُلِ} : قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء منكري البعث، والّذين قالوا: ائتوا بآبائنا: ألم يحييكم الله، ثمّ يميتكم.

{اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} : بعد أن كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم وأمّهاتكم، يحييكم حين تتشكَّلون أجنَّة في بطون أمّهاتكم، ثمّ تخرجون إلى هذه الحياة الدّنيا.

{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} : ثمّ للترتيب والتّراخي في الزّمن، يميتكم حين تنقضي آجالكم بالموت.

{ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : ثمّ للترتيب والتّراخي، تبعثون أحياء مرة ثانية من جديد يوم القيامة (يوم البعث) وتحشرون وتجمعون في أرض المحشر، إلى تفيد الانتهاء.

{لَا رَيْبَ فِيهِ} : لا النّافية، لا شك ولا جدال فيه، وفيه تعود إلى يوم القيامة.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أن للكون نهاية، والقلة يعلمون ذلك مثل علماء الفلك والفضاء، أو لا يعلمون أن الله سبحانه قادر على إعادة الخلق، وهو أهون عليه، أو أنهم سيُبعثون وينبَّؤون بما عملوا، وذلك على الله يسير.

ص: 235

سورة الجاثية [45: 27]

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} :

هذا دليل آخر على قدرته سبحانه وعظمته على البعث والإحياء.

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ولله: الواو استئنافية، لله: اللام لام الاختصاص والملكية له وحده سبحانه، ملك: حكم، السّموات والأرض: أيْ: هو حاكم السّموات والأرض وحده، وملك: تعني: المالك فهو الحاكم والمالك للسموات والأرض، أيْ: له ملك السّموات والأرض خلقاً وملكاً وحكماً، فمن يملك السّموات والأرض قادر على البعث والإحياء.

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} : السّاعة جزء من اليوم، فالسّاعة تعني: يوماً، واليوم يعني: السّاعة، أيْ: يوم تهدم النّظام الكوني الحالي، يوم: ظرف زمان، وقدَّم كلمة يوم للاهتمام بدلاً من القول: يخسر المبطلون يوم تقوم السّاعة.

{يَوْمَئِذٍ} : أصلها يوم + إذ (ظرف أضيف إلى ظرف للتوكيد) أو يوم ذاك.

{يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} : يخسروا أنفسهم ويخسروا أهليهم، المبطلون: جمع مبطل: وهو من مات مصراً على الباطل، والباطل هو الزّائل، وما لم يُشرع، أو ما لا وجود له.

مثال على المبطلين: المنكرون للبعث أو المفترون على الله الكذب بأنّ الله غير قادر على بعثهم، والّذين قالوا: وما يهلكنا إلا الدّهر، وتشمل الكافرين والمشركين وغيرهم.

ص: 236

سورة الجاثية [45: 28]

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَتَرَى} : الخطاب عام، ترى يومئذ رؤية عينية، عين اليقين، أمّا الآن فهي رؤية قلبية.

{كُلَّ أُمَّةٍ} : أمة: جماعة من النّاس تجمعهم عقيدة واحدة بغض النّظر عن الكم أو الحيز الجغرافي.

{جَاثِيَةً} : من الجثي: يعني: البارك على ركبتيه من دون القدرة على القيام، وأمّا السّجود أو السّاجد: فيعني البارك على ركبتيه مع القدرة على القيام، وأمّا الجثم أو الجاثم: فمن لزم مكانه وتجمَّد على ما هو عليه، أمّا الجذو: فهو البارك على مقدَّم قدميه، أيْ: أصابع قدميه.

{كُلُّ} : تكرار كل: يفيد التّوكيد.

{أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} : الأمة: جماعة من الناس بغض النظر عن الحيز الجغرافي أو العدد؛ يا أهل القرآن يا أهل التّوراة يا أهل الإنجيل، أو كتابها: والكتاب اسم جنس كتاب أعمالها الّذي فيه حسناتها وسيئاتها، كما قال ابن عباس، أي: السّجل الحفيظ لأعمال البشر. ودليل ذلك قوله تعالى في الآية القادمة (29): هذا كتابنا: أضاف الكتاب إليه سبحانه وإليهم؛ لأنّه سبحانه يملك كتاب أعمالهم فهو كتابه، وما كتب فيه هو كتابهم، فجاء بقوله: كتابنا.

{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} : تجزون: من الجزاء يكون بالثّواب أو العقاب، أو من جنس العمل.

{مَا كُنتُمْ} : ما بمعنى الّذي أو مصدرية، وهي أوسع شمولاً من الّذي.

{تَعْمَلُونَ} : تشمل الأقوال والأفعال، تعملون في الدّنيا.

ص: 237

سورة الجاثية [45: 29]

{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى الكتاب، كتاب أعمالهم.

{كِتَابُنَا} : كتاب الأعمال الّذي تكتبه الحَفَظة أو صحائف أعمالكم، ارجع إلى الآية السّابقة للبيان.

{يَنْطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} : أيْ: يشهد عليكم بالحق: الباء للإلصاق والملازمة بلا زيادة أو نقصان.

{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : إنا: للتعظيم، أي: الله سبحانه وملائكته، كنا: في الحياة الدّنيا، نستنسخ: أيْ: نكتب ما كنتم تعملون (تعني: الأقوال والأفعال) أيْ: أمرنا ملائكتنا بكتابة أعمالكم وتثبيتها، والنّسخ يعني: النّقل ومنه نسخ الكتاب، أيْ: نقل الصورة إلى كتاب آخر، والنّسخ في اللغة: معناه إزالة شيء بشيء آخر كنسخ الشّمس للظل أو نسخ الرّيح لآثار الأقدام، أيْ: إزالتها.

ص: 238

سورة الجاثية [45: 30]

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} :

{فَأَمَّا} : أمّا: حرف شرط وتفصيل.

{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} : الفاء في فيدخلهم تدل على جواب الشّرط، في رحمته: في ظرفية، رحمته: وتعني جنته في الآخرة، وأمّا في الدّنيا الرّحمة فتعني: الإنعام عليهم بسعة العيش والخير والصّحة والعافية والأمن ودفع الضّر عنهم، أيْ: وقايتهم من كلّ مكروه.

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد.

{الْفَوْزُ الْمُبِينُ} : الفوز الظّاهر لا يخفى على أحد ولا يخفي نفسه. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته.

ص: 239

سورة الجاثية [45: 31]

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} :

{وَأَمَّا} : حرف شرط وتفصيل.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} : بلقاء الله والآخرة والحساب والجزاء.

{أَفَلَمْ} : أفلم: الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّوبيخ، وتعني: لقد تليت عليكم آياتي والفاء للتوكيد.

{تَكُنْ آيَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ} : قدَّم آياتي المفعول على الفعل للاهتمام، أيْ: أفلم تكن تتلى عليكم آياتي، آياتي: أيْ: آيات القرآن، التّلاوة: تكون من إحدى الكتب السّماوية، والتّلاوة تكون لأكثر من كلمة ولها أجر، آياتي ولم يقل: الآيات؛ لأنّها آيات خاصة لها أهمية ودلالة أكثر من الآيات الأخرى.

{فَاسْتَكْبَرْتُمْ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، استكبرتم: عن الإيمان بها وتصديقها. ارجع إلى الآية (8) من نفس السّورة لمزيد من البيان. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لبيان معنى الاستكبار والكبر والمتكبر.

{وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} : مجرمين: بسبب استكباركم وعدم إيمانكم بها، مجرمين: كافرين مشركين، ومجرمين: مشتقة من جرم، وجرم الشّيء قطعه فهم قطعوا صلتهم بالله أو بمنهج الله، فتركوا ما أمرهم به وفعلوا ما نهاهم عنه، وجرم: أذنب وجنى جناية وفعلوا القبيح من الأفعال مثل الكفر والشّرك والظلم فأصبحوا بذلك مجرمين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55) لمزيد من البيان.

وإضافة كلمة (قوماً) إلى مجرمين، أيْ: قوماً مجرمين بدلاً من مجرمين تعني: أشد إجراماً من المجرمين؛ لأنّ الإجرام عم الكلّ، كلّ واحد أصبح مجرماً والإجرام خُلُقهم، ويضرب بهم المثل، أمّا (مجرمين) فأقل حالاً وقبحاً من القوم المجرمين.

ص: 240

سورة الجاثية [45: 32]

{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زمان بمعنى حين.

{قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : إنّ للتوكيد، وعد الله حق بالبعث والجمع والحساب، والجزاء والجنة والنّار، وعد الله حق في كلّ ما يعدكم به.

{وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} : أيْ: لا شك فيها قادمة لا محالة ولا جدال ولا إنكار، لا: النّافية، ريب: الشّك + التّهمة. ارجع إلى سورة طه آية (15) لمقارنة الآيات المتشابهة.

{قُلْتُم مَا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} : ما ندري: ما النّافية، ندري: من الدّراية: أي: العلم بعد الجهل، والدّراية أخص من العلم، أيْ: لا نعلم السّاعة من أيِّ مصدر أو خبر أو نبأ، ما السّاعة: ما استفهامية فيها معنى التّعجب واستبعاد حدوثها أو وجود السّاعة.

{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} : إن للنفي أقوى نفياً من ما، الظّن: الرّأي الرّاجح عندهم، وهو الشّك والتردد الّذي ترجح فيه كفة الإثبات على كفة النّفي، إلا: أداة حصر، ظناً: للتوكيد.

أيْ: نظن، وهذا الظّن الوحيد، ولا يوجد سواه (نفي ما سواه)، أيْ: ما جاءنا عن السّاعة أو علمنا بالسّاعة إلا من طريق الظّن فقط، وليس هناك إثبات آخر إلا الظّن.

{وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} : ما النّافية، ما نحن بمستيقنين لها نفس معنى إن نظن إلا ظناً، ولذلك فهي توكيد لها، فالكافرون بالبعث صنفان: الأوّل جاحد له مع الإصرار، والثّاني جاحد له مع الشّك كما هو الحال في هؤلاء المذكورين في هذه الآية.

ص: 241