المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الجاثية [45: 33] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٢٦

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الجاثية [45: 33]

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَبَدَا لَهُمْ} : ظهر لهم، وتبيَّن لهم في الآخرة، تدل على الفجأة، أيْ: يفاجَؤون بسيئات أعمالهم.

{سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} : ما حرف مصدري أو اسم موصول بمعنى الّذي عملوا، أيْ: ظهر لهم وتبيَّن لهم قبيح أعمالهم أو جزاء أعمالهم السّيئة.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : نزل بهم وأحاط بهم. ارجع إلى سورة غافر آية (45) لمزيد من البيان، والفرق بين حاق ونزل.

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : ما اسم موصول بمعنى الّذي كانوا به يستهزئون: أيْ: نزل وأحاط بهم العذاب الّذي كانوا في الدّنيا يستهزئون به ويستبعدون حدوثه، كالاستهزاء بالله وآياته ورسوله، والاستهزاء يعني: العيب والتّحقير والتّصغير بشأن المستهزَأ به.

ص: 1

سورة الجاثية [45: 34]

{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} :

{وَقِيلَ} : مبني للمجهول، أي: القائل غير معلوم قد يكون الله سبحانه أو الملائكة، المهم هنا هي المقالة.

{الْيَوْمَ} : هو يوم القيامة يوم الحساب.

{نَنسَاكُمْ} : أيْ: نترككم في العذاب في النّار، أو نترككم تنتظرون حسابكم، كما قال تعالى {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، أو لا نبالي بكم، والله سبحانه لا ينسى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، والنّسيان يعني: نترككم ونهملكم.

{كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} : الكاف كاف التّشبيه، نسيتم: النّسيان (بقصد) والمتعمَّد، أيْ: أعرضتم وتركتم الاستعداد لهذا اليوم ولم تصدقوا به، ارجع إلى سورة السّجدة الآية (14) لمزيد من البيان.

{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} : المأوى: المكان الّذي تأوي إليه للاستقرار والإقامة.

{وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} : ما النّافية، لكم: اللام لام الاختصاص، أيْ: لكم خاصة، من استغراقية تشمل أيَّ ناصر، ناصرين: يدفعون عنكم العذاب أو يمنعونه عنكم، أو من يخلصكم أو ينقذكم.

ص: 2

سورة الجاثية [45: 35]

{ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} :

{ذَلِكُمْ} : ذا اسم إشارة، اللام للبعد، وتشير إلى عدة أمور، وللمبالغة مقارنة بذلك الّتي تشير إلى أمر واحد، وأشد توكيداً من ذلك، وتشير إلى النّسيان والدّخول في النّار سببه:

بأنكم: الباء السّببية.

{اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} : اتخذ من أفعال التّصيير، آيات الله هزواً: الاستخفاف والعبث بآيات الله ولم تقيموا لها وزناً. ارجع إلى الآية السّابقة (33) من نفس السّورة، وسورة الزمر آية (48) لمزيد من البيان في الاستهزاء.

{وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : بجمالها وزينتها ومتاعها وشهواتها وطول الأمل وخدعتم بها والغرور يوقع المغرور فيما هو غافل عنه من الضّرر. ارجع إلى سورة فاطر الآية (5) لمزيد من البيان، ولمعرفة الفرق بين الغُرُور والغَرُور.

{فَالْيَوْمَ} : الفاء استئنافية.

{لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} : لا النّافية، يخرجون منها (من النّار).

{وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} : تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي، هم: يفيد التّوكيد، ولا يستعتبون: لا يُطلب منهم العُتبى وإذا هم طلبوا العتبى بأنفسهم لا يَستعتبون، لا يُطلب منهم وإذا طلبوا العتبى لا يؤذن لهم.

يُستعتبون: من العتاب والعتاب مأخوذ من العَتْب، وأصله الغضب على رجل آخر صدر منه إساءة، أو شيء لم يكن متوقعاً منه، وبعد أن يهدأ الغضب إما أن تعتب على من أساء إليك، وتوضح له ما أغضبك، فربما له عذر أو أساء لك من غير قصد، فإن أوضح لك الأسباب وأرضاك فقد أعتبك. ارجع إلى سورة الرّوم آية (75)، وارجع إلى سورة فصلت آية (24) لمزيد من البيان.

ص: 3

سورة الجاثية [45: 36]

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{فَلِلَّهِ} : الفاء استئنافية وتوكيد، لله: جار ومجرور يفيد الحصر، أيْ: له، له وحده الحمد، واللام لام الاختصاص والاستحقاق والحصر؛ لأن سياق الآية في الآخرة، وإذا قارنا هذه الآية بقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] هذه الآية في سياق الدنيا.

{الْحَمْدُ} : حمداً مطلقاً غير مقيد بزمن؛ لأنّه هو وحده المستحق للحمد على الدّوام بسبب فضله وإنعامه، له الحمد لذاته وصفاته، ولأنّه رب السّموات ورب الأرض رب العالمين. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (2) لمزيد من البيان في الحمد.

{رَبِّ السَّمَاوَاتِ} : خالق السّموات ومدبرها.

{وَرَبِّ الْأَرْضِ} : خالق الأرض ومدبرها، عطف الشّيء على مرادفه يفيد التّوكيد، رب كلّ منهما على حِدَةٍ وربهما معاً، وهو رب العالمين.

{رَبِّ الْعَالَمِينَ} : خالق عالم الملائكة والثّقلين عالم الجن وعالم الإنس. ورب كل شيء.

ص: 4

سورة الجاثية [45: 37]

{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{وَلَهُ} : الواو عاطفة، له وحده، تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص والاستحقاق.

{الْكِبْرِيَاءُ} : له العظمة والجلال والكمال والسّلطان له الكبرياء؛ لأنّ له ملك حكم السّموات والأرض وله ما فيهما، فهو الإله الحق واجب الوجود الذي ظهرت آثار عظمته وكبريائه في كلّ أقطار السّموات والأرض.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْعَزِيزُ} : له العزة جميعاً عزة القوة وعزة الغلبة وعزة القهر والامتناع.

{الْحَكِيمُ} : الحكيم في شرعه، وتدبير خلقه وكونه فهو أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء لا يخلق عبثاً سبحانه وتعالى. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

ص: 5

سورة الأحقاف [46: 1]

سورة الأحقاف

ترتيبها في القرآن (46)، وترتيبها في النّزول (66).

{حم} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

ص: 6

سورة الأحقاف [46: 2]

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :

ارجع إلى الآية (1) من سورة الزّمر للبيان.

انظر كيف انتهت السّورة السّابقة، سورة الجاثية، بقوله: وهو العزيز الحكيم، ولتبدأ هذه السّورة بقوله: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم؛ مما يدل على الترابط الوثيق بين نهاية السورة السابقة مع بداية السورة التالية، وكذلك الترابط بين بداية هذه السورة كقوله تعالى:{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} آية (3)، مع نهاية هذه السورة، وهي قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحِْىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} آية (33).

ص: 7

سورة الأحقاف [46: 3]

{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} :

{مَا خَلَقْنَا} : ما النّافية، خلقنا: بصيغة الجمع والتّعظيم والخلق: هو الإيجاد من العدم والخلق هو التّقدير. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30) وسورة فصلت آية (10-11) وسورة الأعراف آية (54) للبيان.

{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} : السّموات السّبع والأرض وما بينهما: قيل: هي الطبقة الغازية الّتي لا تعد من مكونات السّماء ولا الأرض. ارجع إلى سورة الفرقان آية (59).

{إِلَّا بِالْحَقِّ} : إلا للحصر، بالحق الباء للإلصاق والمصاحبة أو الملازمة، بالحق، والحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، أيْ: تسير على نظام ثابت لا يتغيَّر ولا تتبدَّل في دورانها وحركتها في فلكها، رغم هذه المليارات من المجرات والنّجوم والكواكب الّتي تجري بسرعات مختلفة وتدور حول مركز مجراتها.

{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} : هو يوم القيامة بعد هذا الأجل تتغيَّر وتزول، وتنتهي كما في قوله:{تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} : أيْ: رغم هذه الأدلة القاطعة على قدرة الله وعظمته ووحدانيَّته، وأنّه الإله الحق الّذي يستحق أن يعبد ورغم إرسال الرّسل وإنزال الكتب السّماوية، الّذين كفروا عما: عن تفيد المجاوزة والمباعدة، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، أي: الّذين كفروا عن الّذي أنذروا به معرضون أو عن إنذارهم معرضون.

معرضون: لا يؤمنون به ولا يصدقونه والإنذار يعني: الإعلام مع التّحذير والتّخويف، والّذين كفروا عما أنذروا معرضون: إخبار فيه تعجُّب من إعراض الكافرين عن دعوة الحق إلى الإيمان والعمل الصّالح والنّجاة من العذاب وعدم الاستجابة لها.

ص: 8

سورة الأحقاف [46: 4]

{قُلْ أَرَءَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

رغم هذه الأدلة القاطعة على قدرة الله تعالى وعظمته ووحدانيته مثل خلق السّموات والأرض وما بينهما وأنّه الإله الحق الّذي يجب أن يُعبد وحده، ها هم يشركون بالله ويجعلون له أنداداً؛ لذلك أخبر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم: أن يسألهم.

{قُلْ} : لهؤلاء الّذين أشركوا بالله تعالى.

{أَرَءَيْتُم} : الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّعجُّب، الرّؤية رؤية قلبية، أيْ: أخبروني إخبار من له علم ودراية، أيْ: بالتّوكيد.

{مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : ما لغير العاقل (أو صفات العاقل) اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، تدعون: تعبدون، من دون الله: من غير الله من الآلهة والأصنام.

{أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} : أروني توكيد لقوله: أرأيتم، ماذا للاستفهام أقوى في الاستفهام والتّوكيد من ما، ومن ابتدائية استغراقية، ماذا خلقوا: أيَّ شيء خلقوا من الأرض.

{أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ} : أم للإضراب الانتقالي، شرك: نصيب ومشاركة في خلق أو ملك السّموات.

{ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} : أي هَلُمَّ بكتاب منزل من قبل القرآن فيه آية تشهد على ما تدَّعون أن الأصنام والآلهة شركاء لله.

{أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} : أيْ: بقية من علم السابقين؛ السّابقين تشهد بصحة عبادة الآلهة أو شيء مأثور من كتب الأولين بصحة عبادة الأصنام.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك، كنتم: في دعواكم، صادقين: أن هذه الآلهة تستحق أن تعبد، وجواب الشّرط محذوف، وتقديره: أنتم غير صادقين.

ص: 9

سورة الأحقاف [46: 5]

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} :

في الآية السّابقة نفى الله سبحانه عن الآلهة والأصنام القدرة على الخلق أو الشّراكة في السّموات وفي الأرض، وفي هذه الآية ينفي عنها العلم:

{وَمَنْ أَضَلُّ} من الاستفهامية تحمل معنى النّفي والإنكار والتّعجب، أيْ: لا أحد أشد ضلالاً وأعجب حالاً.

{مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أيْ: يعبد غير الله أو يدعو معبوداً لا يستجيب له لدعائه أو قضاء حاجته، ولو انتظر إلى يوم القيامة؛ لأنّ هذه الآلهة لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل لكونها حجارة أو معادن منحوتة بأيديكم.

{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} : وصفهم بضمير العاقل تهكماً وتقريعاً لهم، عن: تفيد المجاوزة والمباعدة، عن دعائهم غافلون: أيْ: عبادتهم لا تجدي لهم نفعاً ولا ضراً؛ لأنّها أصناماً لا تشعر بهم ولا تعقل ولا تدرك من أفعالهم شيئاً.

غافلون: جمع غافل تدل على الثّبوت والاستمرار. ارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان في معنى الغفلة.

ص: 10

سورة الأحقاف [46: 6]

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} :

المناسبة: بعد نفي الخلق أو الشّراكة في السّموات والأرض ونفي العلم عن تلك الآلهة الّتي يعبدونها في الآيات السّابقة، يذكر في هذه الآية موقف هذه الأصنام من عُبادها يوم القيامة.

{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{حُشِرَ النَّاسُ} : يوم القيامة حشر العابدون والمعبودين أو التّابعون والمتبوعين والسّادة والرّؤساء والضّعفاء.

{كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} : كانت الأصنام لهم، لمن عبدها في الدّنيا أعداء جمع عدو، أعداء في كثير من الأمور أو العبادات والطّاعات، ولم يقل: عدوٌّ الّتي تعني: عدوّاً في أمر واحد.

{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} : أي: الأصنام والآلهة تكفر وتكذب وتجحد بعبادتهم لها، أيْ: يتبرأ كلٌّ من الآخر.

ص: 11

سورة الأحقاف [46: 7]

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

المناسبة: بعد نفي الشّركاء وإثبات عقيدة التّوحيد ينفي في الآيات التّالية الشّبهات حول القرآن الكريم ونبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَإِذَا} : ظرف زمان بمعنى حين وشرطية وتفيد حتمية الحدوث، وإذا سمع الّذين كفروا آيات القرآن:

{تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} : واضحة المعنى والدّلالة على أن القرآن حق والرسول صلى الله عليه وسلم حق.

{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ} : اللام لام الاختصاص للحق؛ أيْ: للقرآن حين أنزل عليهم قالوا هذا سحر مبين؛ أي: افتراء وباطلاً.

{لَمَّا} : ظرفية زمانية بمعنى حين.

{جَاءَهُمْ} : أي: أنزل عليهم.

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يفيد القرب، ويشير إلى القرآن.

{سِحْرٌ مُبِينٌ} : اتهموا القرآن بالسّحر لشدة تأثيره في القلوب والأنفس، وكونه خارقاً للعادة، وسحراً واضحاً لا يخفى على أحد، أو سحراً ظاهراً لا يحتاج إلى بيِّنة أو دليل، ولتعريف السّحر ارجع إلى سورة طه آية (58) للبيان.

ص: 12

سورة الأحقاف [46: 8]

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} :

لم يكتفوا بالقول أو بوصف القرآن بأنّه سحر مبين، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، وقالوا أنّه مفترى والافتراء هو الكذب المختلق المتعمَّد:

{أَمْ} : المنقطعة أو للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام والإنكار، وقد تأتي بمعنى: بل يقولون افتراه.

{يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ} : أيْ: هو كذب اختلقه أو اخترعه محمّد صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم بقوله تعالى: قل يا رسول الله لهؤلاء الكفرة:

{إِنِ افْتَرَيْتُهُ} : إن شرطية تفيد الشّك. افتريته: جئت به من عندي.

{فَلَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، لا النّافية.

{تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : أيْ: لا تقدروا أن تردُّوا عني عذابه، أو سيعذبني وحدي وأنتم لا تملكون أيَّ وسيلة أو حيلة لدفع العذاب عني، من استغراقية، شيئاً: نكرة، أيَّ شيء لمساعدتي، ومهما كان حسياً أو معنوياً، والشيء: هو أقل القليل.

{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} : هو للتوكيد تعود إلى الله سبحانه، أعلم على وزن أفعل للمبالغة، بما: الباء للإلصاق، ما: أي: الّذي أو مصدرية، تفيضون فيه: مشتقة من فاض الماء أيْ: سال منصباً، مندفعين بقول الباطل والخوض فيه والطّعن في القرآن وأنّه سحر وأنّه مفترى.

{كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} : أيْ: كفى بالله سبحانه وتعالى شهيداً، ولم يقل: شاهداً، شهيداً صيغة مبالغة، أيْ: عالماً بما نخفي وما نعلن وبما هو ظاهر وباطن، أيْ: يكفي أن يشهد أنّ القرآن منزل من عنده وليس من عندي.

وتقديم شهيداً على بيني وبينكم: جاء على الأصل، وإذا جاء الشيء على الأصل لا يُسأل عنه، وقد يؤخر كما في قوله تعالى في سورة العنكبوت آية (52):{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} ، وهذه الآية الوحيدة في القرآن أخَّر فيها شهيداً على بيني وبينكم. ارجع إلى سورة العنكبوت لبيان السبب في التأخير.

{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : هو للتوكيد، الغفور: صيغة مبالغة كثير الغفر، أيْ: ستر الذّنوب ومحوها، الغفور لمن تاب من بعد ظلمه، الرّحيم بتأخير العذاب عن عباده لعلهم يدركون الحقيقة بالتدبر والتفكر ويتوبون إليه وينيبون.

ص: 13

سورة الأحقاف [46: 9]

{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

{قُلْ} : يا رسول الله للذين كفروا:

{مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} : ما النّافية، وانظر كيف تكررت ما النافية في هذه الآية ثلاث مرات لتوكيد النفي، والإشارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول قد خلت من قبله الرسل، وأنه لا يعلم الغيب، وما هو إلا وحي يوحى، والأمر كله لله سبحانه؛ بدعاً من الرّسل: رسولاً جديداً أو مخترعاً شيئاً جديداً، أي: النّبوة، فقد سبقني الكثير من الرّسل إليها، ورسالتي هي إحدى الرسالات.

{وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ} : وما النّافية لتوكيد النّفي، أدري، ما: اسم موصول أو استفهامية، أي: وما أعلم الغيب إلا ما يوحى إلي، وما أدري: أعلم بأي وسيلة ما يُفعل بي ولا بكم في الدّنيا ولا في الآخرة، وما أدري ما سيحل بي أو بكم هل أبقى في مكة أو أخرج منها أو أقتل أو أموت، وهل ستعجل لكم العقوبة أو تمهلون.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ} : إن النّافية أقوى نفياً من ما، أيْ: ما أتبع إلا ما يوحى إليَّ إلا تفيد الحصر، أيْ: أتبع فقط ما يوحى إليّ من ربي، ولذلك قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النّجم: 4-5]، ولمعرفة معنى الوحي ارجع إلى سورة النّساء آية (163).

{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} : ما النّافية، أنا إلا أداة حصر، نذير مبين: الإنذار هو الإعلام من التّحذير والتّخويف إعلان مقترن بتهديد، نذير مبين: منذر لكلّ فرد منكم، مبين: تام الإنذار لا أخفي منه شيئاً، نذير صيغة مبالغة، أيْ: وكثير الإنذار، نذير لأمتي وللناس كافة ونذير لمن خالف منهج الله تعالى.

لنقارن هذه الآية (9) من سورة الأحقاف وهي قوله: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، والآية (115) من سورة الشّعراء وهي قوله:{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

آية الأحقاف جاءت في سياق الدّعوة والحوار، وآية الشّعراء جاءت في سياق التحدي والمحاربة والتّكذيب للرسل، ولذلك استعمل (إن) الأشد نفياً من (ما) في سورة الشّعراء.

ص: 14

سورة الأحقاف [46: 10]

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : ارجع إلى الآية (4) من نفس السّورة للبيان والخطاب موجَّه إلى الّذين كفروا وكذبوا بالرّسول صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.

{إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} : إن شرطية، كان من عند الله: أي: القرآن على سبيل الحقيقة وليس الاحتمال والافتراض؛ أي: هو حق من عند الله تعالى.

{وَكَفَرْتُم بِهِ} : أيْ: واستمررتم وأصررتم على كفركم، جواب الشّرط محذوف، وتعني: من سيكون أشد منكم كفراً.

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} : قيل: هو عبد الله بن سلام، شهد على مثله: مثل القرآن شهد على مثل ما في القرآن في التّوراة، أيْ: نفس ما في التّوراة من علامات وبينات وحقائق في القرآن أو شهد أنّ القرآن منزل من عند الله تعالى، فآمن: الشّاهد عبد الله بن سلام أو غيره، واستكبرتم: أن تؤمنوا وتصدقوا به ألستم بظالمين. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (52) وهي قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} . ارجع إلى سورة فصلت للبيان.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.

{لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : لا النّافية، يهدي القوم الظّالمين: الّذين اختاروا طريق الشّرك والضّلال وأصروا على ضلالهم وابتعادهم عن الدّين، ولم يعد هناك أمل في توبتهم وعودتهم إلى الإيمان، فهؤلاء انتهى أمرهم ولن يهديهم الله بعد ذلك. ارجع إلى سورة الجمعة آية (5) لمزيد من البيان في معنى إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

ص: 15

سورة الأحقاف [46: 11]

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} :

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الذين كفروا؛ قيل: هم قريش، وقيل: بنو عامر وأسد وأشجع وغطفان، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب، أو يهود المدينة.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} : اللام لام الاختصاص، أيْ: أسلموا مثل قبائل جهينة ومزينة وأسلم وغفار.

{لَوْ} : شرطية كان هذا القرآن أو الإيمان أو الإسلام.

{كَانَ خَيْرًا} : شيئاً مفضلاً.

{مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} : أيْ: ما سبقنا إلى القرآن والإيمان والإسلام، هؤلاء أمثال بلال وعمار وصهيب وخباب وغيره من ضعفاء المسلمين.

{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا} : ظرف للزمن الماضي، لم: النّافية، يهتدوا بالقرآن العظيم.

{فَسَيَقُولُونَ} : الفاء عاطفة تربط السّبب بالمسبب، السّين للاستقبال القريب، أيْ: سيقولون عن قريب والنّون في يقولون للتوكيد.

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب تشير إلى القرآن العظيم.

{إِفْكٌ قَدِيمٌ} : كذب متعمَّد قديم أَفِكَه أناس غير محمّد، وجاؤوا به ومحمّد صلى الله عليه وسلم عثر على ذلك الإفك أو تعلمه من غيره.

ص: 16

سورة الأحقاف [46: 12]

{وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} :

{وَمِنْ قَبْلِهِ} : الواو استئنافية، من ابتدائية، قبله: أيْ: قبل إنزال القرآن أنزلنا كتاب موسى، أي: التّوراة.

{إِمَامًا} : قدوة يؤتم به في دين الله كما يؤتم بالإمام.

{وَرَحْمَةً} : يجلب ما يَسُرُّ ويدفع ما يَضُرُّ، والرّحمة تعني: دفع الضّر (أي: الوقاية) من المعاصي والآثام.

{وَهَذَا كِتَابٌ} : هذا: الهاء للتنبيه ذا اسم إشارة للقرب والتّعظيم ويشير إلى القرآن، هذا كتاب: أي: القرآن، وجاء بالنّكرة للتعظيم.

{مُّصَدِّقٌ} : لكتاب موسى أو لما بين يديه من الكتب السّماوية السّابقة. ولم يقل: مصدقاً، وإنما مصدقٌ؛ لأنها نعت الكتاب، أو خبر ثان؛ أما لساناً: تعرب حال.

{لِسَانًا} : أيْ: بلغة.

{عَرَبِيًّا} : بلغة عربية توكيداً.

{لِيُنْذِرَ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، وينذر من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف.

{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : الّذين أشركوا وظلموا أنفسهم بالمعاصي وخرجوا عن منهج الله تعالى لينذرهم من عذاب عظيم.

{وَبُشْرَى} : من البشارة وهي الخبر السّار لأوّل مرة، بشرى لأهل الإحسان والتّقوى والإيمان.

{لِلْمُحْسِنِينَ} : اللام لام الاستحقاق والاختصاص، المحسنين جمع محسن، ولمعرفة الإحسان وتبيانه، ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة، المحسنين: جملة اسمية تدل على ثبوت صفة الإحسان لهم.

ص: 17

سورة الأحقاف [46: 14]

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد تشير إلى علو منزلتهم.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} : من المصاحبة، أي: الملازمة.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : من الخلود: هو استمرار البقاء من وقت دخولهم إياها.

{جَزَاءً} : يكون مقابل العمل الصّالح أو السّيئ، أيْ: يأتي في سياق النّفع والضّر، وهو أعم من الأجر والأجر يكون مقابل عمل، ولا يستخدم إلا في النّفع.

{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : الباء باء السّببية أو تعليلية، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية، كانوا في الدّنيا يعملون (تضم الأقوال والأفعال).

ص: 19

سورة الأحقاف [46: 15]

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :

{وَوَصَّيْنَا} : كلفنا أمرنا من وصَّى فيها حثٌّ واهتمام.

الفرق بين وصَّى وأوصى: وصَّى تستعمل لما هو أهم مثل أمور الدِّين والأمور المعنوية، وأوصى تستعمل للأمور المادية عادة، أيْ: طَالَب وأوصاه: طلب منه. ارجع إلى سورة النساء آية (11) للبيان المفصل.

{بِوَالِدَيْهِ} : الباء للإلصاق والملازمة، الوالدان: تطلق على الأب والأم بحكم الإنجاب؛ أي: الوالدة: من الولادة التي تقوم بها الأم، والوالد من الولادة، أما الأبوان: الأب والأم بحكم التّربية.

{إِحْسَانًا} : أعلى درجات البر والحُسن إحساناً: أمكن وأفضل من (حسناً) وتعني المعاملة الحسنة وزيادة، (حسناً): كلمة تجمع كلّ معاني الحُسن وأقل درجة من (إحساناً). ارجع إلى سورة النساء آية (36)، وسورة البقرة آية (112) لمزيد من البيان في معنى الإحسان.

{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} : كُرهاً: بضم الكاف: ما أكرهت نفسك عليه؛ لأنّك راغب في القيام به رغم أنّه شاق ومضنٍ، فالمرأة تفرح بالحمل وبولادة الولد رغم مشاق الحمل والآلام، ولا تمانع في الحمل فهو محبوب لديها، أمّا الكَره: بفتح الكاف فهو ما أكرهك غيرك على فعله، أيْ: تقوم به وأنت كاره له حقيقة وقسراً؛ أي: الكره الحقيقي كقوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [محمد: 9].

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} : الحمل والرّضاعة (30) شهراً، والرّضاعة: حولين (24) شهراً لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أيْ: (24) شهراً، فإذا طرحنا (24) شهراً من (30) شهراً تبيَّن لنا أن الحمل (6-9) أشهر، ومن هذه الآية نعلم أنّ الوليد الخديج يمكن أن يعيش إذا ولد بعد 6 أشهر. وهذا من الإعجاز العلمي الطبي للقرآن الكريم.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية، إذا عاش وبلغ أشده.

{إِذَا} : ظرف زماني.

{بَلَغَ أَشُدَّهُ} : كمال القوة البدنية وهي (30) سنة أو (33) سنة.

{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} : كمال القوة العقلية وهو سن النّبوة عند الجمهور، ولم ينبئ نبي قبل الأربعين إلا عيسى ويحيى عليه السلام .

{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} : رب أوزعني تعريف الوزع: هو الكف والمنع، أيْ: كفني أو امنعني عن كل ما يؤدِّي إلى كفران نعمتك، وقيل: الوزع: الإلهام، أيْ: ألهمني أن اشكر نعمتك، وقيل: الوزع الإغراء، أي: الولوع بشكر النّعمة، أيْ: لا أنفك عن شكر نعمتك والدّوام على ذلك أو اجعلني ملازماً ذاكراً أن أشكر نعمتك.

{الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ} : نعمة الإيمان والتّوحيد ونعمة الإسلام والهداية والرّشد والصّحة والعافية وسعة العيش، النّعمة: لا تعدُّ ولا تحصى، وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها، وعلى والدي: الوالد والوالدة المؤمنين.

{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا} : الواو للعطف، أن للتوكيد، أعمل صالحاً: الفرائض والسّنن وكل ما يحقق رضا الله عز وجل.

{تَرْضَاهُ} : تتقبله.

{وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى} : الذرية: هم الأولاد أو النسل، وقيل: الذرية: النساء والأولاد، والذرية قد تعني أيضاً: الآباء والأجداد؛ أيْ: وفقهم للعمل الصّالح، وفي تفيد الاستمرار في العمل الصّالح، أيْ: زدهم علماً في الدِّين وصلاحاً ورشداً وهداية.

{إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ} : إنّي للتوكيد، تبت إليك: من ارتكاب السّيئات وعدم العودة إليها والنّدم عليها. ارجع إلى سورة النساء آية (17-18) لمزيد من البيان في أركان التوبة.

{وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} : وإنّي للتوكيد، من ابتدائية، المسلمين: المخلصين الموحدين لك والمطيعين الخاضعين لأمرك ونهيك.

ص: 20

سورة الأحقاف [46: 16]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّـئَاتِهِمْ فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى التّعظيم وعلو المنزلة.

{نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} : نتقبل عنهم، ولم يقل: نتقبل منهم أعمالهم الصّالحة، فما هو الفرق بين نتقبل عنهم ونتقبل منهم؟

نتقبل عنهم: أيْ: نتقبل العمل الصّالح نفسه أو العمل الصّادر عن العبد كالصّلاة والصّدقة والصّوم.

نتقبل منهم: أيْ: نتقبل من الجهة القائمة بالعمل الصّالح، أيْ: من العبد نفسه.

مثال: الصّلاة كعبادة هي عمل صالح، ولكن لا يقبلها الله من المنافق أو المبدع أو المحدث هنا تقول: لا نقبل منهم.

مثال: إنسان مؤمن موحد يعمل صالحاً نتقبل عنه عمله الصّالح ونتقبل منه؛ لأنّه مؤمن.

مثال آخر: إنسان مؤمن يتصدق رياء لا نقبل صدقته الصّادرة عنه ونتقبل منه صلاته، وقد يسأل سائل أحسن ما عملوا: أحسن على وزن أفعل التّفضيل فما بال العمل الحسن ألا يتقبل منه، نقول له: الأحسن يشمل الحسن والأحسن.

{وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّـئَاتِهِمْ} : أيْ: نعفو عنها ولا نعاقبهم عليها بعد التّوبة والإنابة إلى الله تعالى، حتّى لا تتلاشى حسناتهم فلا نطبق فرضية إنّ السّيئات يذهبن الحسنات، ولو طبقت هذه الفرضية لكان كلّ واحد منا مفلساً يوم القيامة.

{فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} : ولم يقل: مع أصحاب الجنة: أيْ: هو من المكرمين فهو أحد منهم وليس معهم؛ لأنّ معهم قد يكون معهم وليس فيهم منعزلاً لوحده، وهو موجود معهم.

{وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} : في الدّنيا، وقيل: الوعد: هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [التّوبة: 72] وعد الصّدق: أيْ: وعد الحق الّذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وعد: مصدر مؤكَّد لفعل وعد وقوله تعالى: نتقبل ونتجاوز، فهذا وعد من الله سبحانه.

ص: 21

سورة الأحقاف [46: 17]

{وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :

سبب النّزول: ذكر في بعض كتب التّفسير أنّها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر، ولكن عائشة رضي الله عنها نفت ذلك، وقالت: إنّها نزلت في رجل آخر، ولنعلم أنّ عبد الرّحمن بن أبي بكر أسلم وحسن إسلامه، والمهم هو عموم اللفظ وليس بخصوص السّبب، فهي تمثل العاق لوالديه، والمكذب بالبعث.

{وَالَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم في هذه الآية.

{قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} : ارجع إلى الآية (15) من نفس السورة. أفٍ: فعل مضارع بمعنى التّضجر، أيْ: لا أطيق ما تقولانه لي، أو يكفي ما تقولانه.

{أَتَعِدَانِنِى} : أني سأبعث من جديد، وأخرج من قبري بعد أن مضت القرون (الأجيال) من قبلي، ولم يخرج من قبره أحدٌ ممن مات.

والقرن: الجماعة من النّاس الّذين يعيشون في زمن واحد (قرن)، والقرن: يقارب (100) عام، الهمزة في أتعدانني للاستفهام والاستنكار.

{أَنْ أُخْرَجَ} : أن للتعليل والتّوكيد، أخرج من القبر.

{وَهُمَا} : تعود على والديه.

{يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ} : يطلبان من الله أن يوفقه للإيمان ويرده إلى سبيل الهدى والرّشاد، ويقولان له ويلك: يا هلاكك إن لم تؤمن بالله وبالبعث وبما أنزل والويل دعاء بالهلاك والثّبور.

{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} : إنّ للتوكيد، وعد الله بالبعث والرّجوع إليه والحساب والجزاء حق، أيْ: أمر ثابت لا يتغيَّر ولا يتبدَّل.

{فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : فيقول الولد مكذباً بالبعث، ما: النّافية، هذا: الهاء للتنبيه، وذا اسم إشارة يفيد القرب، ويشير إلى الوعد والخروج من القبر، إلا: أداة حصر، أساطير الأولين: أكاذيب الأقدمين الّتي سطروها في كتبهم أو أباطيل الأولين، أساطير: جمع أسطورة: وتعني حكاية أو قصة قديمة.

ص: 22

سورة الأحقاف [46: 18]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد (دنو المنزلة).

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم.

{حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} : وجب وثبت لهم العذاب، ولم يقع بعد أو حق عليهم القول لأملأن جهنم من الجِنَّة والنّاس أجمعين. وقيل القول: العذاب.

{فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} : أيْ: منضمون إلى أمم قد مضت وسبقتهم في الكفر والإلحاد، أنّهم من أهل النّار.

{إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} : إنّهم للتوكيد، كانوا خاسرين لأنفسهم ولأهليهم.

ص: 23

سورة الأحقاف [46: 19]

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

{وَلِكُلٍّ} : الواو استئنافية، لكلّ: اللام لام الاختصاص، لكلٍّ من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس.

{دَرَجَاتٌ} : في الجنة أو في النّار، في الجنة درجات، وفي النّار دركات. وبالنسبة للذين آمنوا لهم درجات عند ربهم، ولا ننسى قوله تعالى أيضاً:{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163]؛ لهم درجات في الجنة كما قيل مئة درجة وأكبر من ذلك؛ هم درجات عند ربهم: وتعني القرب الحقيقي؛ أي: قرب المنزلة والمكانة من الله سبحانه.

{مِمَّا عَمِلُوا} : جزاء ما عملوا من الخير والشّر في الدّنيا.

{وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} : اللام لام التّعليل يوفيهم: من وفى: أعطاه حقه، أيْ: أعطاهم جزاء ما عملوا من خير، أو شرٍّ.

{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{لَا يُظْلَمُونَ} : لا النّافية، يظلمون: الظلم: أخذ حق الغير أو حرمانه منه؛ أي: لا يظلمون في الآخرة أو يوم الحساب مثقال ذرة أو بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

ص: 24

سورة الأحقاف [46: 20]

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} :

{وَيَوْمَ} : الواو استئنافية، يوم: ظرف زمان، يعني: يوم القيامة.

{يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} : العرض يتم بطريقتين الّذين كفروا هم يعرضون على النّار، وفي آية أخرى هي تعرض عليهم {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]، ارجع إلى الآية (45) من سورة الشّورى للبيان، والعرض يعني: أظهر له أو أبرز إليه، أو الكشف، يعرض الّذين كفروا على النّار، أيْ: يجيء بهم إليها فيكشف لهم عنها، أو تظهر لهم وتبين ويروها بأم أعينهم.

{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} : الهمزة للتوبيخ والتّقريع، أيْ: لم يبق لكم شيء من الطّيبات اليوم، فقد استوفيتم وأخذتم طيباتكم في حياتكم الدّنيا وتمتعتم بها، أيْ: لم يبق لكم اليوم شيء حتّى تتمتعوا فيه.

{فَالْيَوْمَ} : الفاء للتوكيد، اليوم: يوم القيامة.

{تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} : عذاب الهوان، أي: الخزي والذّل.

{وَبِمَا} : الباء للتعليل أو السّببية، ما اسم موصول أو تعليلية.

{كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : كنتم في الأرض، ارجع إلى الآية (87) من سورة البقرة للبيان.

{وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} : وبما كنتم: تكرار بما كنتم يفيد التّوكيد، كنتم تفسقون: تخرجون عن طاعة الله ورسوله وتعصونه، الفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى ومخالفة أوامره، تفسقون: فعل مضارع يدل على التّجدُّد والتّكرار والاستمرار، ارجع إلى الآية (26) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

ص: 25

سورة الأحقاف [46: 21]

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

المناسبة: بعد ذكر الّذين كفروا من قريش وكيف يستكبرون في الأرض بغير الحق ويفسقون، يذكر قصة قوم عاد الّذين كانوا أكثر أموالاً وقوة من مشركي قريش أهلكهم الله سبحانه بسبب كفرهم.

{وَاذْكُرْ} : إذ أو اذكر حين.

{أَخَا عَادٍ} : هو هود عليه السلام أخو عاد أخوهم في النّسب، لا في الدِّين، أيْ: من قبيلتهم.

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.

{أَنْذَرَ} : من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف أنذرهم ألا يعبدوا إلا الله.

{بِالْأَحْقَافِ} : جمع حقف وهو الهضبة من الرّمل العظيم المستطيل المرتفع المعوج مع الانحناء، والأحقاف في شمال حضرموت في شمالها المسمى الرّبع الخالي، وفي شرقها عُمان، وهي الآن عبارة عن تلال من الرّمال الخالية.

{وَقَدْ} : الواو حالية، قد للتحقيق والتّوكيد.

{خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} : خلت: مضت، النّذر: جمع نذير وهم الرّسل، من بين يديه: من قبل مجيء هود ومن بعده، الكلّ فعلوا ذلك، أيْ: أنذروا أقوامهم كما أنذر هود قومه عاد بأن لا يشركوا بالله شيئاً، هناك من قال أنّ هذه جملة اعتراضية وأصل الآية: أنذر قومه بالأحقاف ألا تعبدوا إلا الله إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.

{أَلَّا} : أصلها أن لا: أن تعليلية، لا النّاهية

{تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} : إلا أداة حصر، أيْ: لا تعبدوا إلا الله وحده، والعبادة هي طاعة المعبود فيما أمر به أو نهى عنه ولها أجر ومنهج وثواب. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لبيان معنى العبادة.

{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} : إن عبدتم غير الله أن يحل عليكم أو ينزل بكم.

{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : بسبب شرككم، عذاب عظيم لا ينجو منه أحد، وهو يوم القيامة ونكرَّه للتهويل والتّعظيم. وعظيم قد تكون صفة أو نعت للعذاب نفسه أو لليوم يوم عظيم يوم القيامة.

ص: 26

سورة الأحقاف [46: 22]

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{قَالُوا} : أيْ: قال قوم عاد لهود عليه السلام .

{أَجِئْتَنَا} : الهمزة همزة استفهام إنكاري.

{لِتَأْفِكَنَا} : اللام لام التّعليل لتأفكنا: لتصرفنا عن عبادة آلهتنا، الإفك: الصّرف، والإفك هو الكذب المتعمَّد وقلب الحقائق، أيْ: لتكذب علينا ولتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة الله وحده.

{عَنْ آلِهَتِنَا} : عن تفيد المجاوزة والمباعدة، أيْ: عن عبادتها.

{فَأْتِنَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط المقدَّر.

{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما بمعنى الّذي أو مصدرية.

{تَعِدُنَا} : من العذاب، أيْ: هم يستعجلون بالعذاب وحين يقع لا يصدقون بحدوثه، فيرد الله عليهم بقوله تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية (24) من نفس السّورة.

{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : إن شرطية تفيد الشّك والاحتمال، أيْ: نشك أن تكون من الصّادقين، الصّادقين في إنذارك ووعيدك ودعوتك.

ص: 27

سورة الأحقاف [46: 23]

{قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} :

{قَالَ} : هود عليه السلام رداً عليهم حين قالوا: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين:

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: متى سيحل عليكم العذاب أو يأتيكم لا أحد يعلم بذلك إلا الله سبحانه وحده.

{وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} : أيْ: ما عليّ إلا البلاغ: أيْ: إيصال الرّسالة إليكم كقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، ما: بمعنى الّذي أو مصدرية، أبلغكم ما أوحي إليَّ هذه مُهمتي، وليس مهمتي أن آتيكم بعذاب أو أخبركم متى سيحل عليكم.

{وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} : أراكم رؤية قلبية جهلاء حين لا تؤمنوا بالله وحده، وحين تستعجلون بالعذاب، وتجهلون عاقبة أمركم ومصيركم إذا حلَّ عليكم العذاب تجهلون ما ينفعكم وما يضركم. ارجع إلى سورة الفرقان آية (63) لمزيد من البيان في تجهلون.

ص: 28

سورة الأحقاف [46: 24]

{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{فَلَمَّا} : الفاء عاطفة، لما: ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشّرط.

{رَأَوْهُ} : الهاء تعود إلى العذاب.

{عَارِضًا} : العارض السّحاب الّذي يعرض في أفق السّماء، يعترض جو السّماء، أيْ: يظهر أو يبرز.

{مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} : متوجِّهاً، الاستقبال: التّوجُّه نحو الشّيء ليكون قبالته، مستقبل: اسم فاعل من الفعل السّداسي استقبل؛ أي: متجه نحو أوديتهم: جمع وادٍ.

{قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} : هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب، ويشير إلى العارض، عارض ممطرنا: سحاب سيأتينا بالمطر، ممطر أرضنا المصابة بالجفاف، ممطر: اسم فاعل من الفعل الرّباعي أمطر.

{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} : القائل هو هود عليه السلام ، أو الله سبحانه وتعالى، بل: للإضراب الإبطالي، أيْ: ليس بالسّحاب الممطر كما تظنونه، بل هو العذاب القادم على شكل ريح لا تحمل الخير كما هو الحال في سياق الرياح.

{رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} : ريح مدمرة تظهر بشكل سحاب مظلم تهب بسرعة شديدة (ريح عقيم). وكلمة ريح في القرآن تأتي في سياق الشر والعذاب.

ص: 29

سورة الأحقاف [46: 25]

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} :

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ} : تدمر كلّ شيء تمر به أو تأتي عليه، كل شيء من بشر وحيوان وشجر وسكن، فهي لا تُبقي ولا تذر، وقد تصل سرعتها إلى أكثر من (200كم) بالسّاعة.

{بِأَمْرِ رَبِّهَا} : بإذنه وإرادته ومشيئته، وقد أتت على قوم عاد فأهلكتهم.

{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} : أيْ: آثارها وبعض الجدران القائمة، لا يرى الرّائي إذا نظر إلى مساكنهم إلا مساكن خالية من أهلها هامدة، الفاء تدل على المباشرة، حتّى جثثهم تطايرت وتشتت أشلاؤهم.

{كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} : أيْ: كما جزيناهم بهذه الرّيح المدمرة نجزي كلّ مجرم لا يؤمن بربه ويشرك به، ويهلك الحرث والنّسل، ويسبب في الأرض الفساد، ولمعرفة معنى القوم المجرمين. ارجع إلى سورة الجاثية آية (31) للبيان، وسورة الأنعام آية (55).

ص: 30

سورة الأحقاف [46: 26]

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْـئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْـئِدَتُهُم مِنْ شَىْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق، أيْ: قد تحقق ذلك.

{مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} : أيْ: مكَّنا قوم عاد في الأرض بالقوة والسّلطة والغنى الّتي لم نمكنكم أنتم يا قريش من مثلها، فكانوا أشد منكم قوة في الأرض، ولقد مكناهم فيما: في + ما: في ظرفية ما بمعنى الّذي، إن مكناهم فيه: إن لها احتمالين بمعنى ما النّافية، أو ما زائدة للتوكيد، أيْ: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، أو نافية وتعني: ولقد مكناهم فيما لم نمكنكم فيه.

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْـئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْـئِدَتُهُم مِنْ شَىْءٍ} :

{وَجَعَلْنَا} : الجعل يكون بعد الخلق؛ أي: مرحلة تالية للخلق.

{سَمْعًا} : السمع مصدر، والمصدر بحد ذاته لا يجمع إلا إذ تعدد مصدر السمع.

{وَأَبْصَارًا} : أي الأعين التي نبصر بها، ولمعرفة لماذا قدم السمع على البصر، وأفرد السمع وجمع البصر؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (7)، وسورة الملك آية (23).

{وَأَفْـئِدَةً} : الأفئدة: جمع فؤاد، وقيل: الفؤاد القلب، أو خلايا القلب المميزة التي تختص بالعاطفة والذاكرة. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان؛ إذ لم يستفيدوا منها من شيء، من استغراقية، شيء نكرة تعني: لم يستفيدوا من سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم أيَّ فائدة مهما كانت قليلة أو كثيرة، ومهما كان نوعها من سماع الآيات والنذر، وما حل بالكفار من قبلهم، ومن رؤية آثار الأقوام الهالكة، أو من التفكر والتدبر بما سيحل بهم أو بعاقبة أمرهم، والشّيء هو أقل القليل، وتكرار (لا) يفيد نفي التّوكيد وفصل كلاً على حِدَةٍ، فما أغنى: ما النّافية أو ما استفهامية.

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي وفيه معنى التّعليل.

{يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} : الجحد هو إنكار الشّيء الظّاهر والآيات شيء ظاهر، وتشمل الآيات القرآنية والكونية الدّالة على قدرة الله وعظمته والمعجزات والبراهين الدّالة على أنّه الإله الحق.

{وَحَاقَ بِهِمْ} : أحاط بهم ونزل. ارجع إلى سورة غافر آية (45) لمزيد من البيان.

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : أيْ: أحاط بهم العذاب أو العقاب بسبب استهزائهم وإعراضهم. والاستهزاء: هو تصغير قدر أو شأن الآخر أو الشّيء والتّحقير والعيب والاستهزاء بالله وآياته ورسوله.

لماذا أفرد السّمع وجمع الأبصار والأفئدة: ولماذا قدَّم السّمع على البصر: ارجع إلى الآية (7) من سورة البقرة، وسورة الملك آية (23).

ص: 31

سورة الأحقاف [46: 27]

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو عاطفة، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.

{أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِنَ الْقُرَى} : (قرى عاد وثمود ولوط ومدين)، من القرى تعني: أهل القرى، والقرية تعني البناء، أي: السَّكن والأفراد، والمخاطب هم كفار قريش.

{وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} : التّصريف؛ أي: بيَّناها؛ يعني: آية واحدة نأتي بها بأشكال وأساليب متعدِّدة مختلفة. ارجع إلى سورة البقرة آية (164) للبيان.

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : إلى الإيمان والتّوحيد أو إلى ربهم بالتّوبة لعل: هنا تفيد التّعليل، ولا تعني الرّجاء.

ص: 32

سورة الأحقاف [46: 28]

{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{فَلَوْلَا} : الفاء عاطفة، لولا: ليست أداة حضٍّ، وإنما للتوبيخ.

{نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : فهلا منعتهم من العذاب والهلاك آلهتهم الّتي اتخذوها قرباناً آلهة، أي: اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله.

{قُرْبَانًا آلِهَةً} : قربان مصدر واسم لما يتقرب به إلى الله سبحانه وجمعه قرابين، أيْ: لولا نصرتهم هذه الأوثان الّتي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله تعالى بأيِّ وسيلة مثل الشّفاعة أو دفع العذاب أو تخفيفه.

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{ضَلُّوا عَنْهُمْ} : أيْ: غابوا عن نصرتهم عند نزول العذاب عليهم ولم يحضروا ليدافعوا عنهم أو يشفعوا لهم.

{وَذَلِكَ} : الواو للتوكيد، ذلك اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى الضّياع والإفك.

{إِفْكُهُمْ} : وذلك كذبهم، والإفك قلب الحقائق والكذب.

{وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : الواو استئنافية، ما: اسم موصول بمعنى الّذي، يفترون: الافتراء هو اختلاق الكذب، ويفترون بصيغة المضارع لتدل على التّكرار والتّجديد، أو حكاية الحال وما كانوا يفترون قبل إهلاكهم بأنّها آلهة حقة تشفع لهم ويستفاد منها.

ص: 33

سورة الأحقاف [46: 29]

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنْذِرِينَ} :

المناسبة: بعد أن وبَّخ الله تعالى كفار قريش وذكرهم بقوم عاد، يذكرهم هنا بالجن، فهم أفضل من كفار قريش؛ لأنّهم آمنوا مجرد سماع القرآن، وسبب نزول هذه الآيات، كما ورد في الصّحيحين البخاري ومسلم من حديث ابن عبّاس: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطّائف إلى مكة بعد أن عومل شر معاملة من ثقيف، وحين كان يقرأ سورة الرّحمن في صلاة الفجر ببطن نخلة جاء نفر من الجن يستمعون القرآن من دون أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم يستمعون إلى قراءته، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، فلما قُضي ولو إلى قومهم منذرين.

{وَإِذْ} : تعني: واذكر، أو اذكر حين صرفنا إليك نفراً من الجن، وإذ: الواو عاطفة، أيْ: واذكر أخا عادٍ، واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن.

{صَرَفْنَا إِلَيْكَ} : وجَّهنا نحوك أو أرسلنا إليك. المخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} : النّفر جماعة دون العشر قيل: (7-9) من الجن، جن نصيبين، وكانوا سبعة أو تسعة وقيل من جن نينوى قرب الموصل، وقيل: من أشراف الجن وساداتهم.

{يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} : وأنت تقرؤه في صلاة الفجر ببطن نخلة، يستمعون: سماع بنية وقصد، ولم يقل: يسمعون سماع عادي غير مقصود، فهم أرسلوا إليك لهذه الغاية. وفي سورة الجن قال تعالى:{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]؛ لنعلم أن سورة الجن نزلت قبل نزول سورة الأحقاف التي أشارت خاصة إلى القرآن بينما سورة الجن تحدثت عن أحوال الجن وعلاقتهم بالإنس وأفعالهم ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ومصيرهم في الآخرة.

{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} : الفاء عاطفة، فلما حضروه: حضروا استماعه كان صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر، وقيل: كان يقرأ بسورة الرّحمن، لما: ظرف زماني يتضمن معنى الشّرط.

{قَالُوا أَنصِتُوا} : أمر بعضهم بعضاً بالإنصات وهو: السّكوت والاستماع في نفس الوقت.

{فَلَمَّا قُضِىَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، لما: ظرف زماني يتضمن معنى الشّرط، فلما قضي: فرغ من تلاوته.

{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُنْذِرِينَ} : ولى: انصرف قاصداً؛ أي: انصرفوا قاصدين إلى (من ورائهم) من قومهم منذرين: من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف، وكما قلنا، لم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضورهم والاستماع إليه إلا فيما بعد. ارجع إلى سورة الجن للبيان، منذرين: أيْ: أبلغوا قومهم ما سمعوه وحذروهم من مخالفة القرآن، وتبيِّن هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث للجن والإنس (للثقلين).

ص: 34

سورة الأحقاف [46: 30]

{قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{قَالُوا يَاقَوْمَنَا} : ياء النّداء فيها معنى الحنان واللطف إلى قومهم.

{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} : إنا للتوكيد، وبالجمع سمعنا كتاباً: أيْ: قرآناً كتاباً.

{أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} : أيْ: هم لا يعرفون إلا كتاب موسى عليه السلام أو هم على دين اليهودية، والله أعلم. والسؤال: ماذا عن الإنجيل الذي أنزل من بعد موسى؟ قيل: هؤلاء من الجن الذين لا يؤمنون أو يعترفون بالإنجيل أو بعيسى عليه السلام ، وربما هناك من الجن من يؤمن بالإنجيل وعيسى لم يكونوا من بين هؤلاء، والله أعلم.

{أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} : على محمّد صلى الله عليه وسلم.

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : أيْ: موافقاً لما تقدِّمه من الكتب السّماوية التّوراة والإنجيل.

{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ} : أي: الإسلام أو العقائد الصّحيحة والحق هو الشّيء الثّابت الّذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل. وفي سورة الجن آية (2) قال تعالى: {يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} ، ما هو الفرق بين يهدي إلى الحق، ويهدي إلى الرشد؟

الحق: أعم من الرشد، والرشد من الحق، والحق: يوصف به العاقل وغير العاقل مثل الجنة حق، القتل بحق، أما الرشد: فهو خاص بالعاقل فقط.

{وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} : ولم يقل إلى صراط مستقيم؛ الطريق: هو السبيل الذي يسار عليه ليس بالواسع أو السهل؛ أما الصراط: الطريق الواسع السهل الذي يوصل إلى الغاية بأقل زمن ومسافة؛ والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه.

ص: 35

سورة الأحقاف [46: 31]

{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} :

{يَاقَوْمَنَا} : ارجع إلى الآية السّابقة.

{أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} : داعي الله وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، أجيبوا داعي الله (رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعو إليه من طاعة الله سبحانه وتوحيده.

{وَآمِنُوا بِهِ} : آمنوا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} : من للتبعيض بعض ذنوبكم، بينما لو قال: يغفر لكم ذنوبكم: أي: جميع ذنوبكم، وهذه فقط خاصة بالمؤمنين من أمة محمّد.

{وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} : أيْ: يحميكم من عذاب أليم، الإجارة: الحماية والوقاية، من: ابتدائية بعضية، وأغلب المفسرين يقولون: إنّ للجن من الثّواب والعقاب كما هو الحال لبني آدم.

ص: 36

سورة الأحقاف [46: 32]

{وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{وَمَنْ لَا} : الواو عاطفة، من شرطية، لا النّافية.

{يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ} : أي: رسوله ويصدقه؛ أيْ: ويعصي الله ولا يؤمن به، ولا يتمثَّل أوامرَه.

{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الْأَرْضِ} : الفاء جواب الشّرط، ليس للنفي، الباء للإلصاق والتّوكيد، معجز: لا يعجز الله أيْ: لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه أحد، وإن هرب فهو سيبقى في الأرض ولا سبيل للخروج منها. ولم يقل: في السّماء؛ لأن السّماء مُلئت حرساً وشهباً.

{وَلَيْسَ لَهُ} : تكرار ليس لتأكيد النّفي للذي لا يجب داعي الله، اللام للاختصاص أو الاستحقاق.

{مِنْ دُونِهِ} : من غير الله أو سواه.

{أَوْلِيَاءُ} : جمع ولي وهو القريب، أو المعين القائم بأمره والحليف الّذي ولاه أو وكله أمره، ولم يقل: من أولياء من الاستغراقية؛ لأنّ هناك أولياء يُستفاد منهم.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يشير إلى الّذين لا يستجيبون للرسل وإلى دنو منزلتهم.

{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : في: بعد عن الحق والهدى والصّواب وبُعد عن الصّراط المستقيم ظاهر جلي لا يخفى على أحد، وضلال مبين واضح لا يحتاج إلى من يكشفه ويوضحه.

ص: 37

سورة الأحقاف [46: 33]

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحِْىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي وإنكاري، وجواب بلى إنّه على كل شيء قدير، والواو في أولم للتوكيد.

{يَرَوْا} : رؤية قلبية فكرية، وبمعنى العلم (هؤلاء المنكرون للبعث والقيامة والحساب) أولم يعلموا أنّ الله خلق السّموات والأرض.

{أَنَّ} : للتعليل والتّوكيد.

{الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} : ولم يعي: العي: التّعب وانقطاع الحيلة والقوة.

{بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحِْىَ الْمَوْتَى} : الباء للإلصاق والمصاحبة لمعرفة كيفية إحياء الموتى. ارجع إلى سورة الرّوم آية (19).

{بَلَى} : هو قادر على إحياء الموتى، وبلى جواب للاستفهام المنفي ولا يجوز القول بنعم؛ لأنّه لو قال: نعم، لكان المعنى نعم هو غير قادر على أن يحيي الموتى.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : ارجع إلى الآية (20) من سورة البقرة للبيان.

ص: 38

سورة الأحقاف [46: 34]

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} :

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} : ارجع إلى الآية (20) من نفس السّورة للبيان.

{أَلَيْسَ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.

{هَذَا بِالْحَقِّ} : هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب ويشير إلى العذاب، أليس هذا العذاب بالحق: جواباً لقولهم وما نحن بمعذبين، القائل غير معلوم، المهم المقولة.

{قَالُوا بَلَى} : بلى لا تكون إلا جواباً لما كان فيه جحد والجحد هنا كان للعذاب، ولا يجوز القول بنعم بدلاً من بلى (فهي جواب للاستفهام في النّفي).

{وَرَبِّنَا} : واو القسم، أيْ: أقسموا بربهم تأكيداً أنّه الحق.

{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} : قال: فذوقوا: الفاء للمباشرة والتّعقيب، ذوقوا العذاب بما: الباء بدلية أو سببية أو تفيد التّعليل، ما كنتم: في الحياة الدّنيا، تكفرون: بالله وآياته ورسله وكتبه، تكفرون تدل على التّجدُّد والتّكرار والاستمرار.

ص: 39

سورة الأحقاف [46: 35]

{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} :

بعد تقرير البعث والتّوحيد يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالصّبر فيقول له:

{فَاصْبِرْ} : الفاء للتوكيد.

{كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} : الكاف للتشبيه، ما اسم موصول كما صبر أصحاب العزم والثّبات والحزم وهم أصحاب الشّرائع أمثال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصّلاة أجمعين، وقد ذكرهم الله سبحانه في سورة الأحزاب الآية (7) فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وهذا هو الأرجح، من الرّسل: من للتبعيض، ولا ننسى غيرهم من الرّسل، وهناك من قال: من للتبيين لا للتبعيض، تعني: كلّ الرّسل.

{وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} : لا النّاهية، لهم: اللام لام الاختصاص لهم خاصة، أيْ: لكفار قريش وغيرهم؛ أي: لا تظن أن تأخير العذاب عنهم هو خير لهم.

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} : من العذاب، ما تعني: الّذي يوعدون.

{لَمْ يَلْبَثُوا} : لم النّافية، يلبثوا: من اللبث: الإقامة لزمن محدَّد (أيْ: كأنّهم حين يرون ما يوعدون في الآخرة من العذاب يشعرون أنّهم لم يقيموا في الدّنيا أو يلبثوا فيها إلا ساعة واحدة من نهار.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{سَاعَةً مِنْ نَّهَارٍ} : ساعة، تعني: أيَّ ساعة من نهار، ليست ساعة محدَّدة.

{بَلَاغٌ} : أيْ: هذا القرآن وما فيه من الآيات والنذر والتعاليم بلاغ من الله تعالى إلى خلقه، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم: 52].

وقوله تعالى: {إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]، والبلاغ مصدر بمعنى التّبليغ، والتّبليغ: هو إيصال الرّسالة وإفهام النّص إلى الّذين أرسل إليهم.

{فَهَلْ} : الفاء للتوكيد، هل: للاستفهام ويفيد النّفي.

{يُهْلَكُ} : الهلاك نقض البنية والموت. ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لبيان معنى الهلاك.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} : الخارجون عن طاعة الله العاصون مع الإصرار على الكفر والشّرك، القوم: اسم للجنس يشمل كلّ من فسق. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لمزيد من البيان في معنى الفاسقين.

ص: 40

سورة محمد [47: 1]

سورة محمد

سورة محمد صلى الله عليه وسلم [الآيات 1 - 11]

ترتيبها في القرآن (47) وترتيبها في النزول (95).

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} :

المناسبة: انتهت سورة الأحقاف بقوله تعالى: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وابتدأت سورة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يدل على تطابق نهاية السورة مع بداية السورة التالية لها.

أسباب النزول: كما رُوي عن ابن عباس نزلت في كفار مكة {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} (هم الأنصار) وقيل في رواية: نزلت في كفار مكة الذين خرجوا لغزوة بدر، وسمُّوا المطعمين.

والمهم بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب؛ فالحديث عن الكفار عامة، وعن الذين آمنوا عامة.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} : أيْ: جحدوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أيْ: صرفوا ومنعوا غيرهم من الدّخول في الإسلامَ، أو حاربوا دين الله لكي يشوهوا صورته أو سمعته للآخرين.

وسبيل الله: دين الله (وهو الإسلام)، كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : من معاني الضلال النسيان والضياع والهلاك والإبطال أيْ: أبطل أعمالهم وأحبطها فلا ثواب لها ولا جزاء، أو جعلها ضالة، أيْ: لا ثواب لها ولا جزاء أو أجر. بسبب كفرهم بالله تعالى والكفر من محبطات العمل الصالح.

وقد تعني: أبطل كيد الّذين كفروا وصدوا النّاس عن الدّخول في الإسلام.

وأضل أعمالهم: أصلها الغيبة والاضمحلال، أيْ: أضاع أعمالهم.

ص: 41

سورة محمد [47: 2]

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} :

مقابل الّذين كفروا {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّهِمْ} : أيْ: آمنوا وعملوا الصّالحات. ارجع إلى سورة البقرة آية (25) للبيان. وآمنوا بالقرآن العظيم؛ أي: صدقوا وأطاعوا واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وآمنوا بالقرآن العظيم (وهو الحق من ربهم)، والحق هو الأمر الثّابت الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ} : أيْ: محا أو غفر لهم ذنوبهم وكفر بمعنى ستر، والسّتر يعني: العفو وعدم العقاب عليها. والسيئات قيل: هي الصغائر والكبائر، جمع سيئة وقيل: السيئات هي الصغائر فقط.

{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} : البال يطلق على الحال والشّأن، ويعني: التّوفيق في الدّين والدّنيا، أيْ: أرشدهم ودلهم على أعمال الخير، فلم يشركوا أو يكفروا أو يفسدوا، والبال قد يطلق على العقل والتّفكير.

ص: 42

سورة محمد [47: 3]

{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى إضلال أعمال الكافرين.

{بِأَنَّ} : الباء للتعليل أو باء السّببية.

أيْ: سببه أنّ الكافرين اتبعوا الباطل والباطل: وهو ما لم يشرع الله، وليس له دليل أو سلطان وضد الحق.

{وَأَنَّ} : للتعليل والتّوكيد.

{الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَّبِّهِمْ} : أي: القرآن الكريم والوحي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} : أيْ: مثل هذا البيان.

{يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} : أيْ: يضرب الله تعالى الأمثال لإزالة أي غموض؛ لأن الأمثال دائماً تكون من باب المبين (الظاهر أو الواضح).

{يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} : أمثالهم تعود على الفريقين {الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَّبِّهِمْ} .

فالأمثال هي كل من يتبع الباطل في عمله فعمله يشبه عمل الذين كفروا، وكل من يتبع الحق في عمل فعمله يشبه عمل الذين آمنوا، وعمل الذين كفروا نتيجة الضلال وعمل الذين آمنوا نتيجة الفوز المبين.

ص: 43

سورة محمد [47: 4]

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} :

بعد ذكر حال الّذين كفروا وحال الذّين آمنوا يذكر في هذه الآيات واجب المؤمنين إذا نشبت بينهم وبين الذين كفروا حرب.

{فَإِذَا} : الفاء فاء السّببية، إذا: ظرف للزمن المستقبل وتفيد حتمية الحدوث متضمن معنى الشّرط.

{لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : اللقاء هنا يعني: الحرب أو القتال.

{فَضَرْبَ الرِّقَابِ} : الفاء رابطة للجواب، ضرب الرّقاب: أيْ: فاضربوا رقابهم ضرباً (مجازاً عن القتل) جاء بالمصدر ضرب للتوكيد؛ لأن ضرب الرّقبة يعني: القتل بسرعة أو الإسراع في القتل، والقتل بأبشع صورة، ونصب الضربَ ولم يأت بالرفع كقوله: فضربُ الرّقاب؛ لأنّ الضرب موقوف بالمعركة بزمن المعركة وليس أمراً دائماً.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} : إذا: ظرفية شرطية. أثخنتموهم: أيْ: أكثرتم فيهم القتل أثخنتموهم بالجراح، والإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتّى يضعف ويوهن ولا يقدر على النّهوض والوقوف أمامكم.

{فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} : أيْ: فأسروهم، وأحْكِمُوا القيد قيد من أسرتموهم حتى لا يفلتوا منكم، والوثاق بفتح الواو: اسم لما يوثق به كالقيد والحبل، الإسار ما يوضع في يد الأسير، ليُقاد به، والشّد: الرّبط، الوَثاق: بفتح الواو تعني: الأسر، ومنهم من قال: الوِثاق: بكسر الواو تعني: القيد أو الحبل أو الإسار الّذي يوضع في يد الأسير، والأسر بعد الإثخان المبالغة في القتل والإصابة بالجراح.

{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} : الفاء للترتيب والمباشرة، إما للتخيير، منَّا: تطلقوا سراحهم بعد الأسر بغير عوض أو فدية؛ أي: العفو والصفح عنهم.

{وَإِمَّا فِدَاءً} : أي: المفاداة أيْ: إطلاق الأسير في مقابل مال أو مبادلة الأسرى.

{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} : حتى حرف نهاية الغاية، أيْ: لا مناً ولا فداءً حتّى تضع الحرب أوزارها، بعدها لكم الخيار في المن أو الفداء.

الأوزار: آلات الحرب كالسّلاح.

حتّى: تنقضي الحرب وتتوقف بهزيمة العدو.

{ذَلِكَ} : أي: افعلوا بهم ما ذُكر.

{وَلَوْ يَشَاءُ} : لو شرطية.

{لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} : اللام لام التّعليل، انتصر منهم: بغير قتال ولو شاء انتقم منهم بالرعب أو الريح أو بالخسف والغرق والرّجفة وأهلكهم بشتى الوسائل.

{وَلَكِنْ لِّيَبْلُوَا} : لكن للاستدراك والتّوكيد، اللام في ليبلوكم للتعليل. والبلاء: يعني: استخراج ما عند المبتلَى من طاعة أو معصية بتحمُّله التكليف.

{بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} : أيْ: ليبلوَ المؤمنين بالكافرين، يعلم المجاهدين في سبيله والصّابرين على ابتلائه ويعلم نواياهم ويعلم المنافقين أو العاصين بعدم الخروج للجهاد في سبيل الله ويعلم الصّادق من الكاذب؛ لإقامة الحُجَّة عليهم يوم القيامة، فهو سبحانه يعلم نواياهم وحالهم قبل أن يخلقهم.

{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} : الّذين: استشهدوا في سبيل الله أثناء المعركة، فلن: الفاء للتوكيد، لن لنفي المستقبل القريب والمستقبل البعيد، يضل أعمالهم: لن يضيع أجرهم وثوابهم.

ص: 44

سورة محمد [47: 5]

{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} :

{سَيَهْدِيهِمْ} : السّين للاستقبال القريب، سيهديهم بعد القتل والشهادة، أو الموت في سبيل الله في حياة البرزخ، أما غير الشهيد يهديه في الدنيا لما فيه سعادة الدارين.

{وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} : شأنهم وحالهم بالرضا والطمأنينة، ويرتاحوا من عناء الدنيا وما فيها.

ص: 45

سورة محمد [47: 6]

{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} :

{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} : بعد البعث ويوم القيامة.

{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ} : في الآخرة.

{عَرَّفَهَا لَهُمْ} : لهم اللام لام الاختصاص، عرفها لهم: وصفها لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 46

سورة محمد [47: 7]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} :

{يَاأَيُّهَا} : ياء النّداء للبعد والهاء للتنبيه.

{الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد بتكليف أو حكم جديد.

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو الافتراض.

{تَنْصُرُوا اللَّهَ} : بالقول والفعل، تنصروا دينه وبإعلاء كلمته وتنصروا رسوله، وبالّدعوة بشتى الوسائل، بكل أنواع النّصر والجهاد أو القلم أو المحاججة بالقول أو المساعدة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق.

{يَنصُرْكُمْ} : بالمقابل على عدوكم بالغلبة وبالسّلطان، وبالتّمكين وبالقول والرّأي.

{وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} : في مواطن الحرب بالصّبر والثّبات. والتمكين في الأرض بالقوة والطمأنينة والحُجَّة والسّلطان، وهذا وعد من الله العزيز الحكيم.

ص: 47

سورة محمد [47: 8]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} :

{فَتَعْسًا لَّهُمْ} : الفاء للتوكيد، تعسا لهم: هلاكاً لهم، اللام لام الاستحقاق، أيْ: أتعسهم الله، وتعساً تعني: الشّقاء والخيبة وقبحاً لهم. فتعساً لهم: دعاء عليهم بالتعس غير مقيد بفاعل، وغير مقيد بزمن معين؛ فهو دعاء عام.

{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} : أبطلها وأحبط ثوابها، فلا تقبل ولا جزاء لها.

ص: 48

سورة محمد [47: 9]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة يشير إلى التّعس والخيبة وإضلال أعمالهم.

{بِأَنَّهُمْ} : الباء تعليلية أو سببية، أنهم للتوكيد.

{كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : أيْ: كرهوا القرآن وآياته، كرهوا أحكامه وشرعه، كرهوا وعده ووعيده. ووحيه.

{مَا} : تعني: الّذي أنزل جملة واحدة.

{فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} : الفاء للمباشرة والتّوكيد، أحبط أعمالهم: أبطل ثوابها وأصبحت هباءً منبثاً. ارجع إلى سورة البقرة آية (217) لمزيد من البيان.

ص: 49

سورة محمد [47: 10]

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} :

{أَفَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التقريري والتّوبيخ، الفاء للتوكيد، لم النّافية.

{يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا} : يخرجوا من منازلهم ويسافروا في الأرض.

فينظروا: الفاء للمباشرة والتّوكيد، ينظروا: رؤية عينية وقلبية، ينظروا إلى كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؛ أي: آثارهم وما خلَّفوه وراءَهم.

{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : قاعدة في القرآن: حين يُذكر العاقبة، فيقول: كان بدلاً من كانت تدل على العذاب، وحين يؤنث العاقبة فيقول: كانت عاقبة، فهي تدل على الجنة والمغفرة.

عاقبة: مصير وقال الّذين من قبلهم مثل قوم عاد وثمود ولوط وفرعون.

{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : التّدمير يشمل الأنفس والمساكن والحيوانات والشجر والدّواب، أي: أهلكهم الله وأهلك أموالهم وممتلكاتهم. ارجع إلى سورة الإسراء آية (16) لمزيد من البيان.

{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} : وللكافرين أمثال تلك العاقبة والدمار والخزي والهلاك، واللام في كلمة (وللكافرين) لام الاختصاص والاستحقاق.

ص: 50

سورة محمد [47: 11]

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} :

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة، اللام للبعد ويشير إلى نصر المؤمنين، أو ما أصاب الكافرين من التّدمير والهلاك.

{بِأَنَّ} : الباء للإلصاق والمصاحبة، أن: تعليلية وللتوكيد.

ما أصاب المشركين من الدّمار والهلاك سببه أن الله.

{مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} : أي: ولي الّذين آمنوا متولي أمورهم وناصرهم والقائم عليهم، والمولى: المعين والمحب.

{وَأَنَّ} : تكرارها يفيد التّوكيد، وأن للتعليل، والتّوكيد.

{الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} : لا النّافية، لا مولى لهم: لا ناصر لهم ولا معين.

ص: 51

سورة محمد [47: 12]

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} :

المناسبة: بعد ذكر بعض صفات الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ومنها:

1 -

آمنوا بما نُزل على محمّد.

2 -

واتبعوا الحق من ربهم.

3 -

وأنهم ينصرون الله ويقاتلون في سبيله.

4 -

وأن الله هو مولاهم.

يذكر في هذه الآية جزاءَهم وهو جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأما الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله واتبعوا الباطل، وكرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم.

يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وجزاؤهم النار هي مثوى لهم.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} : منشغلون بمتاع الدّنيا الزّائل من طعام وشراب ولباس وأثاث ومساكن ومراكب همهم اللهو واللعب والفرح والمرح والأكل والشّرب لا تهمهم الآخرة.

{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} : المثوى: مكان الإقامة الجبرية الدّائم والضّيق المطبق عليهم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (151) لبيان معنى مثوى.

ص: 52

سورة محمد [47: 13]

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} :

سبب النزول: نزلت هذه الآية، كما قال ابن عباس، حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة التفت إلى مكة، وقال:«ما أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ ولَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» .

{وَكَأَيِّنْ} : قيل: مركبة من كاف التّشبيه وأيٍّ الاستفهامية المنونة.

وقيل: هي اسم بسيط غير مركب وهي تفيد التّكثير والتّفخيم.

{مِنْ} : للتوكيد.

{قَرْيَةٍ} : أي: أهل قرية والقرية تطلق على ساكني أهل القرية من النّاس، وعلى البناء (المساكن).

{هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} : قريتك، أي: مكة، وتسمَّى أم القرى، أضافها إليه تشريفاً لها وتكريماً، أيْ: وكم من قوم هم أشد قوة من قومك الّذين أخرجوك أهلكناهم.

أخرجوك: أي: كانوا سبباً في خروجك.

{أَهْلَكْنَاهُمْ} : بالخسف أو الصّيحة أو الرّيح أو الحاصب.

{فَلَا} : الفاء عاطفة، لا النّافية للجنس.

{نَاصِرَ لَهُمْ} : ينصرهم من الهلاك أو ينقذهم من عذاب الله إذا حلَّ بهم.

ص: 53

سورة محمد [47: 14]

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} :

{أَفَمَنْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، الفاء للتوكيد، من اسم موصول بمعنى الّذي.

{كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} : البينة: أي: القرآن العظيم، أي: كان على حُجَّة وبرهان من ربه ويعبد الله على علم. ويعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{كَمَنْ} : الكاف للتشبيه، من اسم موصول بمعنى الّذي، ومن: تشمل المفرد والمثنى والجمع.

{زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} : وهم مشركو مكة، زين لهم الشّيطان أعمالهم مثل الشّرك والصّد عن سبيل الله والكفر والمعاصي.

{وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} : الهوى تعريفه ارجع إلى الآية (56) من سورة الأنعام. وجواب الاستفهام محذوف؛ لأنه واضح وبيِّن.

ص: 54

سورة محمد [47: 15]

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} :

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} : مثل الجنة: يضرب المثل لإزالة غموض الاجمال أو أمر ما.

{وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} : من الوعد المطلق هو عادة يأتي في سياق الخير وعد المتقون في الآخرة.

{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} : فيها أنهار من ماء فرات (ماء غدق). ماء لم يتغيَّر طعمه أو رائحته لطول مكثه.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} : وفيها أنهار من لبن خالصاً سائغاً للشاربين. أي: لم يتغيَّر طعمُهُ كالحامض، أو الفاسد.

{وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} : للشاربين اللام لام الاختصاص لا يسبب شربها ذهاب عقل أو صداع أو نزف.

{وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} : منقَّى خالٍ من الشّمع والقذى والفضلات. أربعة أنهار للشرب والطعام (اللبن) والمتعة واللذة.

{وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} : من استغراقية، كل الثمرات: من سائر أنواع الثّمار والفاكهة.

{وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَّبِّهِمْ} : لسائر ذنوبهم والمغفرة تعني: العفو وعدم العقوبة والإثابة على الحسنات.

{كَمَنْ هُوَ} : الكاف للتشبيه، من: تفيد المفرد أو الجمع وما بينهما وتشمل الواحد والاثنين والجمع، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{خَالِدٌ فِى النَّارِ} : لا يخرج منها من زمن دخولها.

{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} : ماء متناهٍ في حرارة الغليان، واليحموم: الدخان الشديد السواد كما في قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43].

{فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} : الفاء للمباشرة، من شدة حرارته والأمعاء الدقيقة والغليظة. وفي آية أخرى {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19].

ص: 55

سورة محمد [47: 16]

{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} :

{وَمِنْهُم} : ومن الذين كفروا أو نافقوا.

{مَنْ} : بعضية، يستمع ولم يقل: يسمع إليك، ومن: أي: بدون نية أو قصد، ومن: تأتي للمفرد والمثنى والجمع.

{يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} : في مجلس أو خطبة جمعة أو أيِّ مناسبة.

يستمع إليك، أي: بقصد ونية واهتمام، فهم يقومون بذلك يتظاهرون بالاستماع، يستمعون عبثاً من دون نفع أو فائدة، يستمعون نفاقاً بلا وعي، ولو سمعوا حقيقة لوعوا ما قاله لهم صلى الله عليه وسلم.

{مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} : من: تأتي للمفرد والمثنى والجمع، وبما أنّ الجميع يسمعون نفس الكلام فهم يمثلون في الاستماع مستمعاً واحداً، أما حين يخرجون أو يقولون فكل واحد يمثل نفسه.

ولذلك أفرد يستمع وجمع خرجوا وقالوا.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} : إذا ظرفية، أي: بمجرد ما يخرجون من عندك من مجلسك، قالوا للذين أوتوا العلم.

{قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : سألوا الذين أوتوا العلم؛ العلم الشرعي والمعرفة بالدين؛ أي: العلماء المتقون ومخاطبتهم بأولي العلم فيها مدح وثناء أمثال: عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء أو غيرهم من أصحاب رسول الله الذين أوتوا العلم.

{مَاذَا قَالَ آنِفًا} : استخفافاً واستهزاءً: ماذا قال سابقاً؛ لأنهم لم يعوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقولوا: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتراماً وتوقيراً له. أو حتى يذكروا اسمه صلى الله عليه وسلم.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد والتّحقير.

{الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : طبع الله عليها بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله كثيراً، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر. والطبع أشد من الختم.

{وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} : بدلاً من اتِّباع ما أنزل الله تعالى، اتَّبعوا أهواءَهم، أي: الباطل. ارجع إلى سورة الأنعام آية (56) لبيان معنى الهوى.

ص: 56

سورة محمد [47: 17]

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} :

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.

{اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} : اهتدوا إلى الإيمان والعمل الصّالح، اهتدوا إلى الطّريق المستقيم (الإسلام)، زادهم هدى: بالتّوفيق والإرشاد والطّاعة لمزيد من العمل الصّالح.

{وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} : أعانهم على تقواهم، بالتّوفيق والتّقوى، طاعة أوامر الله وتجنب نواهيه.

ص: 57

سورة محمد [47: 18]

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} :

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ} : الفاء استئنافية، هل استفهامية تفيد النفي، أي: ما ينتظرون إلا الساعة وتعود على الكافرين والمنافقين. وينظرون تدل على قصر الزمن أو قرب وقوعها، ولم يقل: ينتظرون التي تدل على طول الزمن، زمن الانتظار.

{إِلَّا السَّاعَةَ} : إلا أداة حصر الساعة: السّاعة: تعني: آخر ساعة من عمر الأرض. عندها يبدأ تهدم النظام الكوني الحالي.

{أَنْ تَأْتِيَهُم بَغْتَةً} : أن تعليلية، تأتيهم: وهم غافلون.

{فَقَدْ} : الفاء استئنافية، قد للتحقيق.

{جَاءَ أَشْرَاطُهَا} : أمارتها وعلاماتها، شرط وهو العلامة. وقيل: من أشراطها مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والدخان.

{فَأَنَّى لَهُمْ} : الفاء للتوكيد، أنَّى: كيف لهم أو من أين لهم التّذكر، الاستفهام بأنَّى أقوى من كيف، وفيها معنى التّعجُّب، أشراطها: أي: ظهرت معظم علاماتها الصغرى.

{إِذَا جَاءَتْهُمْ} : إذا ظرفية للمستقبل، جاءتهم، أي: لا ينفعهم حينئذ بأن يتوبوا أو تنفعهم توبتهم أو ينفعهم إيمانهم إذا لم يؤمنوا قبل مجيء العلامات الكبرى.

ص: 58

سورة محمد [47: 19]

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} :

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} :

فاستقم واثبت واستمر على ما أنت عليه من التّوحيد ومراقبة النّفس واستمر على تقوى الله، الخطاب موجَّه إلى الرّسول وأمته عليه الصلاة والسلام.

فاعلم أنه لا إلا الله: (كلمة التوحيد). ارجع إلى سورة البقرة آية (255) لمزيد من البيان.

{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} : تب إلى الله واطلب منه العفو والغفران لك وللمؤمنين والمؤمنات. فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة. ليغان: أفتر عن الذكر.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} : بالنّهار، أي: يعلم أشغالكم بالنّهار والتّقلب والتّصرف في أمور دنياكم. وقيل: متقلبكم في أصلاب آباءكم.

{وَمَثْوَاكُمْ} : مأواكم بالليل، أي: نومكم أو مثواكم في القبور أو مثواكم في الآخرة.

ص: 59

سورة محمد [47: 20]

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} :

بعد أن ذكر حالة من يستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبثاً أو استهزاءً، وبعد أن يخرج من عنده يسئل الّذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً فكأنهم لا يسمعون.

يَذكر نوعً آخرَ من الّذين في قلوبهم مرض حين يسمعون آيات الجهاد وكيف يكون شأنهم وحالهم.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} : من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقولُ: بصيغة المضارع تدل على تجدُّد قولهم وتكراره.

{لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} : لولا: للتمني والحصر، أي: يتمنى المؤمنون حقاً أن يشرع الله الجهاد حتى يدافعوا عن أنفسهم وأهليهم وعن دين الله وإعلاء كلمة الله.

نزلت سورة تبيح لنا الجهاد أو القتال في سبيل الله، نزلت سورة: أي: سورة خاصة بنا، نزلت علينا.

{فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} : إذا: ظرفية شرطية، أنزلت ولم يقل: نزلت فما هو الفرق بين نزلت وأنزلت، أنزل: أي: بشكل عام، أي: يفرض فيها القتال على جميع المؤمنين بينما نزلت: بشكل خاص بهم فقط، أي: من يتمنون الجهاد فئة خاصة.

ونزلت: تدل على تكرار دعواهم وطلبهم بإنزال سورة، وأما أنزلت: فتدل على مرة واحدة أنزلت وانتهى الأمر بفرض الجهاد.

إذا ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} : محكمة: واضحة لا شبهة فيها ولا احتمال، ومحكمة وتعني: غير منسوخة، وذكر فيها القتال: أي: أُمر أو فرض فيها القتال أو دعت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.

{رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : أي: مرض النّفاق أو الشّك أو ضعف الإيمان.

{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} : أي: خافوا وزلزلوا ودب الرّعب في قلوبهم وأصبحت أعينهم تنظر إليك تدور كعيون المحتضر الذي لا أمل له في الشّفاء. ونظر المغشي عليه من الموت، أي: الذي يفارق الحياة تراه لا يتحكم بحركة عينيه، فإذا أدرت رأسه إلى اليمين ترى عينيه تتحرك إلى اليسار، وإذا أدرت رأسه إلى اليسار ترى عينيه تتحركان إلى اليمين، أي: إلى الجهة المعاكسة، ويقال لهذا في عالم الطب منعكس عيني الدُمية ويدل على إصابة جذع النخاع الشوكي للدماغ.

وهذه آية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن.

{فَأَوْلَى لَهُمْ} : أي: أجدر بهم وأحرى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض، وأفضل لهم بدلاً من أن ينظرون نظر المغشي عليه من الموت، أي: من الخوف من القتل أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.

ص: 60

سورة محمد [47: 21]

{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} :

أي: أجدر بهم وأفضل لهم أن يطيعوا أمر الله والرّسول بالجهاد وبالإخلاص له.

وأجدر بهم أن يقولوا قولاً معروفاً، قولاً حسناً يدل على الرّضا بما كتب الله وقدَّر.

{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} : الفاء للتوكيد، إذا شرطية تفيد حتمية الحدوث، عزم الأمر: أي: عزم الأمر على الجهاد في سبيل الله.

{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} : فلو: الفاء للتوكيد، لو شرطية، صدقوا الله وأخلصوا له النّية وعزموا على الوفاء بما فرض الله وكتب عليهم.

{لَكَانَ} : اللام لام التّوكيد، كان تشمل كل الأزمنة.

{خَيْرًا لَّهُمْ} : أفضل لهم وأزكى من مخالفة ومعصية الله سبحانه ورسوله.

ص: 61

سورة محمد [47: 22]

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} :

{فَهَلْ} : الفاء للتوكيد، هل للاستفهام والتّوبيخ.

{عَسَيْتُمْ} : عسى من أفعال الرّجاء والمتوقع حدوثها، وعسى ليست منسوبة إلى الله تعالى؛ لأنّه سبحانه يعلم منذ الأزل ما سيكون وما كان وإنما ليتم الحُجَّة على الّذين في قلوبهم مرض.

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والافتراض.

{تَوَلَّيْتُمْ} : أي: أعرضتم عن القتال في سبيل الله أو توليتم عن طاعة الله ورسوله بالجهاد وتنفيذ أحكامه.

{أَنْ} : للتعليل والتّوكيد.

{تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} : أي: إن أعرضتم عن الجهاد في سبيل الله ولم تحاربوا أهل الباطل والظلم والبغي وتدافعوا عن أهليكم وأموالكم ودياركم، فهذا سيؤدي إلى انتشار الفساد في الأرض وقتل أهليكم وتقطع أرحامكم وانتشار الظلم والبغي والسلب والنهب وأكل أموال النّاس بالباطل والخوف.

{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} : الكلام بصيغة الغائب.

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} : الكلام بصيغة المخاطب.

والانتقال من صيغة الغائب إلى المخاطب يدل على المبالغة والتوكيد في التوبيخ والتقريع لعدم الجهاد في سبيل الله.

ص: 62

سورة محمد [47: 23]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} :

{أُولَئِكَ الَّذِينَ} : أولئك اسم إشارة والام للبعد، للتحقير والذّم.

وتشير إلى الذين فسدوا في الأرض بإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله وقطعوا أرحامهم.

{الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} : طردهم من رحمته وأبعدهم عنها.

{فَأَصَمَّهُمْ} : عن سماع الحق؛ لأنّهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك أي لا يريدون الاستماع إلى آيات الله والانتفاع بها، والإذعان لها والعمل بها والجهاد وغيره.

{وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} : عن رؤية الحق واتباعه فالبصيرة معطلة عندهم رغم أنهم يرون ويبصرون ما يحبون وليسوا عمين بعمى النظر فاستحقوا أن يُعمي الله أبصارهم (بصيرتهم).

ص: 63

سورة محمد [47: 24]

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} :

بعد بيان إعراض المنافقين عن الاستماع للقرآن فإنّه من الأفضل لهؤلاء المعرضون عن كتاب الله أن يتدبرونه ويتأملونه ليعلموا الحق من الباطل. وما هو خير لهم وما هو شر لهم.

{أَفَلَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ؛ لعدم تدبر القرآن والتّعجب، ألا: أداة تنبيه وحضٍّ وتحمل معنى الأمر (أن تدبروا القرآن).

{يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} : التّدبر: يعني الفهم والتّأمل والتّفكر في آيات القرآن، والتّدبر يعني: النّظر في المعنى ومدلول اللفظ ظاهره وباطنه ومعطياته. وتطبيق أوامره والعمل به والتدبر في فضيلة الجهاد في سبيل الله.

{أَمْ} : الهمزة: للاستفهام؛ أم: منهم من قال: أم المنقطعة، ومنهم من قال: أم المتصلة للإضراب الانتقالي، أو الإبطالي (يعني: هم ليسوا متدبرين للقرآن)؛ لأن قلوبهم مقفلة.

{عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} : الأقفال هي العوائق الّتي تحول بين الإنسان وتدبر القرآن، والأقفال مثل المعاصي والمنكرات كل واحدة هي قفل وهي مكتسبة.

وكلمة قلوب: نكرة لتشمل قلوبهم وقلوب غيرهم، وشبه القلوب بالأبواب المقفلة فهي لا تفهم ولا تتأمل ولا تتفكر بالقرآن.

ص: 64

سورة محمد [47: 25]

{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} :

بعد أن نهى الله عن الإعراض عن القرآن وأمر بتدبر القرآن وتفهمه، ينذر الّذين ارتدوا عن دينهم إلى الكفر بإحباط أعمالهم وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الاحتضار، أو في يوم القيامة.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم} : قيل: هم الّذين كفروا بعد إسلامهم وإيمانهم، وقيل: هم اليهود الّذين كانوا يؤمنون بالنّبي القادم، فلما تحققوا أنّه هو الموصوف في كتبهم كفروا به، وقيل: هم المنافقون الذين ارتدوا بسبب الشّيطان سوَّل الذي لهم وأملى لهم.

{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} : أي: كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما تبيَّن أنه هو النبي الموصوف. والهدى يعني الإسلام، أي: بعد ما تبيَّن لهم الدِّين الحق.

{الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} : زين لهم الكفر (الباطل) وحسنه وحببه إليهم ليفعلوه.

{وَأَمْلَى لَهُمْ} : من الإملاء والتأخير، أي: الإبقاء، منَّاهم بطول العمر والأمل وسعة العيش، ولن يحاسبوا أو يعذبوا يوم القيامة.

ص: 65

سورة محمد [47: 26]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} :

{ذَلِكَ} : الارتداد، ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى الارتداد والإضلال.

{بِأَنَّهُمْ} : الباء باء السّببية، وأنّهم تعود على المنافقين.

{قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} : أي: قالوا لليهود أو المشركين.

{سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الْأَمْرِ} : في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وعداوته ومخالفة أمره، أو ما جاء به وعدم قتالكم قالوا ذلك سراً.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} : أي: ما تآمروا به سراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

تعريف السر: هو ما تسرُّه في نفسك، أيْ: تخفيه في نفسك أو يسرُّون إلى بعضهم بعضاً.

ص: 66

سورة محمد [47: 27]

{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} :

{فَكَيْفَ} : الفاء استئنافية، كيف: للاستفهام والتعّجب والإنذار، أي: كيف يكون حالهم وشأنهم.

{إِذَا} : ظرفية للمستقبل.

{تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} : توفتهم ملائكة الموت والوفاة أو الاحتضار: هي المرحلة السّابقة للموت وخروج الرّوح، يضربون وجوههم وأدبارهم.

وجاء هذا موضحاً في آيات أخرى مثل سورة الأنفال آية (50).

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} . والأنعام آية (93): {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} .

ص: 67

سورة محمد [47: 28]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} :

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد والكاف للخطاب، ويشير إلى الضّرب على الوجوه والأدبار.

{بِأَنَّهُمُ} : الباء تعليلية أو السّببية تعود على المنافقين والّذين في قلوبهم مرض.

{اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} : اتبعوا ما تعني الذي أو مصدرية، وما: أوسع شمولاً من الذي. أسخط الله من الكفر وكتمان صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وعصيانه ورسوله وتآمرهم مع أعداء الرسول على محاربة النّبي وعدم تصديقه.

والإسخاط استجلاب السّخط وهو الغضب، والسّخط لا يكون إلا من الكبير على الصّغير، بينما الغضب يكون من الصّغير على الكبير، ومن الكبير على الصّغير، والسّخط خلاف الرّضا.

وكرهوا رضوانه: الرضا يتضمن التسليم لله ـوطاعته والقيام بما أمر به أو نهى عنه، والرضا يتضمن قبول العطاء أو المنع. أي: هم كرهوا التسليم لله وعصوا الله وجحدوا أو أنكروا ما آتاهم الله ورسوله من فضله.

{فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} : أبطل ثوابها لم تعد تُجدي وليس لها أجرٌ.

ص: 68

سورة محمد [47: 29]

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} :

{أَمْ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام المصحوب بالإنكار.

{حَسِبَ} : هو الظن الرّاجح، وتعني: أعتقد وحسب مشتقة من الحساب وتشمل الحساب الحسي والقلبي القائم على التّجربة والنّظر في الحساب.

{الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : الشّك والنّفاق والرّيبة والحسد والعداوة أطلق عليه مرض، وهو عدة أمراض؛ لأنها كلها أمراض نفسية متشابهة.

{أَنْ} : تعليلية.

{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب والبعيد.

{يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} : الضّغن: الحقد الشّديد وأضغانهم جمع ضغن، أحسبوا أنّ الله لن يكشف لرسوله وللمؤمنين، من هم هؤلاء الذين في قلوبهم مرض؛ أي: يفضح الله سرهم وشأنهم وحقدهم وعداواتهم للمؤمنين عاجلاً أم آجلاً.

ص: 69

سورة محمد [47: 30]

{وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} :

{وَلَوْ} : الواو عاطفة، لو: حرف امتناع لامتناع.

{نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} : اللام للتوكيد، أريناكهم: الرّؤية رؤية عينية بصرية.

{فَلَعَرَفْتَهُم} : أي: لو نشاء لجعلنا لهم علامات فارقة مميزة خاصة بهم تعرفهم بها حين تراهم، ولكنه لم يشأ ستراً لخلقه ومن رحمته ولطفه أخفى ذلك.

{بِسِيمَاهُمْ} : الباء للإلصاق، السّمة علامة خاصة. ارجع إلى سورة البقرة آية (73) من البيان.

{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ} : الواو عاطفة، واللام للتوكيد، والنّون في تعرفنهم لزيادة التّوكيد. أي: رغم أننا لن نبين لك من هم فهم لن يخفوا عليك فستعرفنهم في لحن القول، أي: في أسلوب القول أو طريقة كلامهم ومغزاه حين يطعنون بالمسلمين ويتحدثون على المسلمين بطريقة التورية والتّعريض، أي: يعرضون عن التّصريح إلى التّعريض والإبهام: أو يستعملون ألفاظاً معينة أو إشارات خاصة بهم متعارفون عليها.

ويقال: لحنْتُ له: إذا قلت له قولاً يفهم عنك ويخفى على غيره.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} : أي: أقوالكم وأفعالكم وسيجازيكم عليها.

ص: 70

سورة محمد [47: 31]

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} :

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} : الواو استئنافية، لنبلونكم: اللام والنّون كلاهما للتوكيد، فهذا الابتلاء كائن لا محالة والابتلاء أشد من الاختبار، ويكون في الخير والشّر والابتلاء هنا يعني الجهاد بالمال والنّفس وبالتّكاليف.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية، وهي العلم من سيخرج في سبيل الله ومن يتخلف عن الجهاد، ومن الصابر أو غير الصابر والمرائي من المخلص.

{نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ} : وهل الله سبحانه بحاجة إلى هذا العلم طبعاً لا فهو يعلم منذ الأزل، وقبل خلق الإنسان ما سيعمل أو ما لا يعمل وغاية العلم لإقامة الحُجَّة على العبد أولاً، وحتى يعلم من حوله، أيْ: أنتم وغيركم شأنه وصدقه وكذبه وتكونوا شهوداً عليه.

والجهاد نوعان: الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر، مجاهدة النّفس ومجاهدة العدو. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (6) لبيان معنى الجهاد.

{وَالصَّابِرِينَ} : على الطّاعات واجتناب النّواهي والقضاء والقدر.

{نَعْلَمَ} : الصّابرين من غير الصّابرين ودرجات صبرهم.

{وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} : في القرآن الخبر: هو النبأ العادي، والنبأ: هو الخبر العظيم؛ أي: نكشف أخباركم أو نبلوكم بشتى الابتلاءات بالزّيادة في الخبر أو النّقصان منه أو الإخبار عنه بخلاف ما هو عليه أو نطلع على أخباركم هل تصدقون أم لا، أو هل تتبيَّنوا صدق الأنباء قبل الإعلان بها.

الفرق بين الابتلاء والاختبار:

الابتلاء: لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاق، ويكون في الخير والشّر وغاية الابتلاء، هو معرفة أو استخراج ما عند المبتلى من الطّاعة والصّبر أو المعصية من جراء المشقة، والابتلاء قد يؤدِّي إلى كشف الأسرار أو الفضيحة، وليس الغاية من الابتلاء ليعلم الله؛ لأن الله سبحانه يعلم نتيجة ابتلائهم.

الاختبار: يكون بفعل المحبوب أو المكروه وغاية الاختبار وقوع الخبر والخبر هو العلم بكنه الشيء وحقيقته.

ص: 71

سورة محمد [47: 32]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْـئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} :

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : إن للتوكيد، الّذين: اسم موصول يفيد الذم.

{كَفَرُوا} : بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمّد نبياً ورسولاً، أو كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : صرفوا أو منعوا غيرهم من الدّخول في الإسلام، أو فعل الخيرات والأعمال الصّالحة، أو حاربوا الإسلام، أو إعلاء كلمة الله بشتى الوسائل.

{وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} : أي: خالفوا الرّسول وعادوه وحاربوه، وأصل المشاقة أن تصير في شق غير شق عدوك.

والشّق هو الّذي يفصل بين الشّيئين ويعني: الخلاف من جراء الاستهزاء بالدين، أو الآيات، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} : أي: من بعد أن تبيَّن لهم في كتبهم صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه حق والإسلام حق، والمرجح أن هذه الآية نزلت في يهود بني قريظة والنضير؛ لأن إضافة وشاقوا الرسول تدل على اليهود، وخاصة أنه قد سبق ذكر المشركين والكفار والمنافقين في الآيات السابقة.

{لَنْ} : أداة نفي تنفي المستقبل القريب والبعيد.

{يَضُرُّوا اللَّهَ} : أي: بكفرهم وصدهم عن سبيل الله تعالى دين الله وإصرارهم على الكفر، لن يضروا الله الآن ولا في المستقبل القريب والبعيد ولا في أيِّ زمن.

{شَيْـئًا} : نكرة، أي: مهما كان نوع أو شكل هذا الضرر ومقداره وجهته، والشيء هو أقل القليل، وسواء أكان حسياً أم مادياً.

وشقاق الرسول صلى الله عليه وسلم أو شقاق المؤمنين هو شقاق لله تعالى ومعاداة الرسول أو معاداة المؤمنين هي معاداة لله تعالى.

وفي هذه الآية تهديد لهؤلاء الكفار.

{وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} : السين للاستقبال القريب، أي: في الدنيا ناهيك عن الآخرة، إذن نفهم من هذه الآية أن معاداة الرسول من محبطات العمل الصالح.

ص: 72

سورة محمد [47: 33]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف أو حكم أو أمر وهو طاعة الله تعالى وطاعة رسوله. ارجع إلى سورة النساء آية (59)، وسورة آل عمران آية (32) للبيان والفرق.

{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} : تحبطوا أعمالكم الصالحة بمحبطات العمل كالشّرك والكفر والبدع، ومشاقة الرّسول صلى الله عليه وسلم والمن والكبرياء وغيرها. ارجع إلى سورة البقرة آية (217) لمزيد من البيان.

ص: 73

سورة محمد [47: 34]

: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} :

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : ارجع إلى الآية السابقة (32).

{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.

{مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} : ماتوا ولم يتوبوا من الكفر أو الشّرك، ماتوا على ملة الكفر، وهم ضمير فصل يفيد التوكيد.

{فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} : الفاء: للتوكيد؛ لن: أداة نفي تنفي المستقبل القريب والبعيد معاً.

لن يغفر الله لهم كفرهم وشركهم في الدنيا.

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و116].

ص: 74

سورة محمد [47: 35]

{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} :

{فَلَا} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدر هو إذا لقيتم الّذين كفروا فلا تهنوا أو نودي للجهاد فلا تهنوا: لا النّاهية.

{تَهِنُوا} : من الوهن وهو الشعور بالضعف والخور، وأن يفعل الإنسان فعل الضّعيف، وهو قوي والضعف هو نقصان القوة، فالوهن ليس هو الضّعف حقيقة، أي: لا تفعلوا فعل الضّعفاء وأنتم أقوياء.

{وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} : بكسر السّين وفتحها، أي: الصّلح أو المسالمة، أي: لا تدعوا إليها وأنتم الأعلون.

{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} : أي: الغالبون والقاهرون.

{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} : بالعون والنصر، أي: ناصركم وممدكم بحاجاتكم.

{وَلَنْ} : أداة نفي للمستقبل القريب والبعيد.

{يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} : أيْ: لن ينقصكم أجور أعمالكم، أيْ: ثوابها ولو بحسنة، لا الآن ولا في المستقبل يقال: وتره حقَّه: أيْ: نقصه حقَّه، أو سأله ماله من دون حقٍّ.

ص: 75

سورة محمد [47: 36]

{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْـئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر.

{الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} : اللعب هو شغل لا يُلهي عن واجب، واللهو هو شغل يُلهي عن واجب.

فاللعب قد يصبح لهواً إذا شغل الإنسان عن واجبه، واللهو أسوأ من اللعب، وهو أعم من اللعب، والحياة الدنيا مليئة باللعب واللهو. ارجع إلى سورة الأنعام آية (32) للبيان. وقدم اللعب على اللهو في ثلاث آيات: في سورة الأنعام آية (32)، وفي هذه السورة (محمد صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الحديد آية (20)، وقدم اللهو على اللعب في سورة العنكبوت آية (64)؛ ارجع إلى سورة العنكبوت للمقارنة.

{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} : إن شرطية.

تؤمنوا: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

وتتقوا: أيْ: تطيعوا أوامر الله وتتجنبوا نواهيه، أيْ: تعملوا عملاً صالحاً.

{يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} : أيْ: ثواب أعمالكم ثواب إيمانكم وتقواكم، الإيتاء هو العطاء ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمعرفة الفرق بينهما، والأجر يكون مقابل العمل.

{وَلَا يَسْـئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} : لا يطلب منكم جميع أموالكم، بل زكاة أموالكم، وما ترغبون أن تتصدقوا به وعدم ذكر الزكاة أو الصدقات؛ لأن نسبتها قليلة جداً (2، 5%)، فهي نسبة ضئيلة لا تذكر قليلة جداً مقارنة بما عندكم من الأموال، وما تنفقوا منها فكأنه لا يستحق ذكرها أو إذا أخرجت الزكاة أو الصدقات، فكأن الأموال تبقى نفسها ولا تنقص، ولذلك قال: ولا يسألكم أموالكم في الحقيقة، وإنما هي أمواله.

ص: 76

سورة محمد [47: 37]

{إِنْ يَسْـئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} :

{إِنْ} : شرطية تفيد الافتراض والاحتمال والندرة.

{يَسْـئَلْكُمُوهَا} : أيْ: يسألكم الزكاة والصدقات، وجاءت بصيغة المضارع لتكرار الزكاة والصدقات.

{فَيُحْفِكُمْ} : الفاء للتوكيد، يحفكم: ألح في طلب أموالكم أو بالغ أو كرَّر عليكم لوجدكم تبخلوا أحفى في المسألة ألح فيها أو ألح في طلبها، والإنسان يكره أن يلح عليه آخَرُ مرةً بعد الأخرى.

{تَبْخَلُوا} : يجدكم تبخلوا جواب الشرط.

{وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} : أحقادكم وبغضكم وكراهيتكم للسؤال.

ص: 77

سورة محمد [47: 38]

{هَاأَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} :

{هَاأَنتُمْ} : الهاء للتنبيه، أنتم للتوكيد.

{هَؤُلَاءِ} : تكرار الهاء للتوكيد على التّنبيه والاستماع، أولاء اسم إشارة، هؤلاء بمعنى الّذين.

{تُدْعَوْنَ} : أيْ: أنتم أيها المخاطبون تدعون الآن أو في المستقبل لتنفقوا.

{لِتُنْفِقُوا} : اللام لام التعليل جزءاً من أموالكم كالزكاة والصدقات والقرض الحسن.

{فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : ابتغاء مرضاة الله كالجهاد أو مساعدة الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي سبيل الله قد تشمل الدعوة إلى الله وغيرها.

{فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} : الفاء للتوكيد، منكم من بمعنى الّذي، يبخل: يكره أن ينفق ولا يخرج زكاة أمواله.

{وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَّفْسِهِ} : الواو استئنافية من شرطية، فإنما: الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنما كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

يبخل عن نفسه: يحرم نفسه رضا الله أو عن الثواب والأجر، وعن تفيد المجاوزة والمباعدة، أيْ: يبعد نفسه عن مصلحتها أو عن الخير.

أما لو قال: إنما يبخل على نفسه: أيْ: فعاقبة بخله تعود على نفسه كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} [يونس: 23].

أو بخله يعود عليه، أي: هو يبخل على نفسه.

{وَاللَّهُ الْغَنِىُّ} : عنكم وعن أموالكم وعن العالمين، هو الغني الذي يعطيكم المال وكل ما سألتموه ولا يبخل عليكم.

{وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} : إليه في كل حاجة من حوائجكم.

{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} : إن شرطية تفيد الاحتمال والافتراض تقولوا عن الإيمان والتقوى وعن الإنفاق في سبيله والبخل أو ترجعوا كفاراً، وتتولوا قد تكون معطوفة على (وإن تؤمنوا وتتقوا

وإن تتولوا

).

{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} : أيْ: يذهبكم ويأتِ بآخرين أفضل منكم.

{ثُمَّ} : للتباين في الصفات، وليس للبعد الزمني.

{لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} : في الطاعة والعبادة والإنفاق في سبيل الله.

بل أفضل منكم وأطوع وأكرم، وأسرع امتثالاً لأوامر الله تعالى.

ص: 78

سورة الفتح [48: 1]

سورة الفتح

ترتيبها في القرآن (48) وترتيبها في النّزول (111).

أسباب النزول: قيل: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة بعد صلح الحديبية بعد أن شعر الصحابة بالحزن والألم؛ لأنه حيل بينهم وبين دخول مكة للعمرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت عليَّ آية أحب إليَّ من الدنيا وما فيها وهي: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 2].

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} :

{إِنَّا} : للتعظيم.

{فَتَحْنَا لَكَ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتحنا: من الفتح، في اللغة يعني: إزالة الإغلاق، والفتح شرعاً: هو النّصر والغلبة بدون استخدام القوة أو الدّخول في حرب، وفتحنا جاءت بصيغة الجمع للتعظيم.

وأمّا النّصر: فهو الغلبة أو الظّفر باستخدام القوة والسّلاح أو الحرب.

والفتح هنا في رأي الجمهور: هو صلح الحديبية في السّنة السّادسة للهجرة، وهناك من قال: إنّه فتح مكة، وكما قال الله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فهناك فرق بين النصر والفتح.

فتحنا لك: ولم يقل فتحنا عليك، لك: اللام لام الاختصاص؛ أي: لك خاصة.

فتحنا لك: إذا كان الفتح فيه خير ولصالح المفتوح له يقال: فتحنا لك.

فتحنا عليك: إذا كان الفتح فيه ضرر وشر ولغير صالح المفتوح له.

كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77].

وسمّي صلح الحديبية فتحاً مبيناً؛ لأنّه لم يكن هناك فتحٌ أعظم منه؛ لما حققه من فتح مكة وانتشار الإسلام.

ص: 79

سورة الفتح [48: 2]

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} :

{لِّيَغْفِرَ لَكَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

أي: مع هذا الفتح نبشرك بأنّا غفرنا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.

ليغفر لك: المغفرة الشّاملة ما تقدم وما تأخر، ما تقدم؛ أي: قبل الرّسالة (النّبوة)، وما تأخر؛ أي: بعد الرّسالة (النّبوة)، ولا يعني أنّ رسول الله ارتكب ذنباً؛ لأنّ الأنبياء معصومون عن الذّنوب والكبائر.

وقدّم (لك) أي: لك خاصة أو حصراً.

{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} : بالإضافة إلى النّبوة يتم نعمته عليك بالنّصر والفتح أيضاً، ودخول الناس في دين الله أفواجاً وبعد ذلك فتح مكة وخيبر وانتشار الإسلام، وإرسالك للثقلين بشيراً ونذيراً أو للناس كافة ورفع ذكرك في العالمين.

وكلمة (نعمته) الضّمير يعود على الله سبحانه نعمته تشمل سائر النّعم (نكرة) التي لا تعدّ ولا تحصى.

{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} : أي يرشدك ويثبّتك على الاستقامة على دين الإسلام للوصول إلى الغاية العظمى وهي رضوان الله تعالى.

ص: 80

سورة الفتح [48: 3]

{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} :

{نَصْرًا عَزِيزًا} : نصراً منيعاً قوياً، لا ذلّ بعده، ينصرك على أعدائك. والنصر يكون بالقوة والسلاح والجهاد ـ كما قلنا سابقاً ـ أو الفتح يكون بالغلبة بدون قتال وسلاح؛ أي: بالحجة والسلطان وإظهار الإسلام على الدين كلِّه.

ص: 81

سورة الفتح [48: 4]

{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} :

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم والوحدانية يعود على الله سبحانه.

{أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} : السّكينة: من سكون النفس، والسكينة أشد من الطّمأنينة والشّعور بالأمن، والسكينة قد تكون عامة تشمل كل المؤمنين أو خاصة تخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو فئة معينة، وعندها بدلاً من أن يقول السكينة يقول تعالى: سكينته، يضيف إليها هاء التشريف؛ أي: سكينة خاصة. ارجع إلى الآية (18) من السّورة نفسها لمعرفة الفرق بين السكينة وسكينته والمقارنة.

{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، إيماناً مع إيمانهم ليزدادوا إيماناً بالكم والكيف، مع إيمانهم؛ أي: يزدادوا يقيناً واستقامة؛ أي: كلما نزلت فريضة أو آية زادتهم إيماناً مع إيمانهم السابق.

وفي هذه الآية دليل أنّ الإيمان يزيد وقد ينقص.

{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : جنود تشمل الملائكة والرّياح والسّحاب والرّعد والبرق والصّواعق والنّار والقوى الكونية. ارجع إلى الآية (7) من السورة نفسها لبيان الفرق بين جنود السموات والأرض في كلا الآيتين.

{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} : اختار عليماً حكيماً؛ لأنه سبق ذلك ذكر الفتح، وازدياد الإيمان والهداية، وجنود السموات والأرض، وإنزال السكينة؛ فالسياق سياق علم وحكمة؛ عليماً بأفعال وأقوال خلقه وأحوالهم في الأمن والخوف والسّكينة والرّعب، ويعلم مصالح عباده وما ينفعهم وما يضرهم. وعليماً: صيغة مبالغة كثير العلم.

حكيماً: من الحكمة، حكيماً في تدبير شؤون خلقه وكونه، فهو أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء، (كان) تشمل كل الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل. ارجع إلى سورة البقرة آية (129).

ص: 82

سورة الفتح [48: 5]

{لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} :

{لِّيُدْخِلَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، يدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار.

{جَنَّاتٍ} : جمع جنة جنات الفردوس، جنات النّعيم، جنات عدن، دار السّلام.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : تنبع من تحتها الأنهار، خالدين فيها خلوداً يبدأ من وقت دخولهم إلى ما لا النهاية.

{وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ} : يستر عليهم سيئاتهم ويمحوها ويعفو عنها فلا يعاقبهم عليها، والسيئات: قيل هي الصغائر، وهناك من قال هي الصغائر والكبائر، والكبائر لا بد لها من توبة.

{وَكَانَ ذَلِكَ} : التّكفير عن السّيئات وإدخال الجنات يُعدّ عند الله تعالى فوزاً عظيماً.

{عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} : الفوز العظيم هو أعظم فوز، لا يعلوه فوز. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته والمقارنة بينها.

ص: 83

سورة الفتح [48: 6]

{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} :

قدّم المنافقين على المشركين؛ لأنّ المنافقين خطرهم أشد وأسوأ على المؤمنين من الكافرين.

{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} : في الدّنيا والآخرة بشتى أنواع العذاب.

{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} : أنّ الله لن ينصر رسوله، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم سيُهزم أو يُقتل، وأنّ المؤمنين سوف يهلكوا أو يقتلوا، أو الظّانين بالله أن له شريكاً أو ولداً.

ظن السوء: تشمل كل ظن سيئ بالله سبحانه.

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} : أي ما يظنون بالمؤمنين من ظن السّوء هو دائر عليهم؛ أي: محيط بهم وواقع عليهم جميعاً من كل جانب كما تحيط الدّائرة بما كائن فيها.

{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} :

{وَلَعَنَهُمْ} : طردهم وأبعدهم عن رحمته.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} : وهيّأ وجهّز لهم جهنم، لهم: اللام لام الاختصاص؛ أي: لهم خاصة، جهنم: اسم للنار مشتق من كونها بعيدة القعر؛ أي: شدة التّأجّج بالنّار؛ أي: شديد الاحتراق. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

{وَسَاءَتْ مَصِيرًا} : المصير: المنتهى. المصير: هو انقلاب الشّيء إلى خلاف الحال التي كان عليها.

وأمّا المرجع فهو انقلاب الشّيء إلى الحال التي كان عليها.

ص: 84

سورة الفتح [48: 7]

{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} :

{وَلِلَّهِ} : وحده، تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة يفيد الحصر.

{جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : إعادة هذه الآية لا تعني التّكرار، ولكن الآية (4) تعني جنود الرحمة المختصين بإنزال السكينة والرحمة، وأما الآية (7) تعني جنود العذاب، وكذلك أعقبها بقوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، ولكون الجنود من أجناس مختلفة قال تعالى:(جنود) ولم يقل جند (جند) يدلّ على أنهم من جنس واحد وغايتهم أو مهمتهم واحدة.

{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} : اختار عزيزاً حكيماً؛ لأنه سبق ذلك ذكر إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنات، وعذاب المنافقين والمشركين، وجنود السموات والأرض، فالسياق سياق عزة؛ أي: قدرة، وحكمة في الجزاء والثواب.

{عَزِيزًا} : قوياً لا يُغلب ولا يُقهر وممتنع لا يضره أحد من عباده، له العزة جميعاً؛ عزة القهر وعزة القوة والقهر وعزة الامتناع، وذكر العزة يتناسب مع العقاب والتهديد.

{حَكِيمًا} : مشتقة من الحكم ومن الحكمة، فهو حاكم السماوات والأرض، وهو كذلك مالك السموات والأرض فهو أحكم الحاكمين وهو أحكم الحكماء في شرعه وتدبير شؤون كونه وخلقه، وإدخال المؤمنين الجنة وطرد المشركين والكفار من رحمته وإعداد جهنم لهم مصيراً، ارجع إلى سورة البقرة آية (129).

ص: 85

سورة الفتح [48: 8]

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} :

{إِنَّا} : للجمع والتّعظيم.

{أَرْسَلْنَاكَ} : يا رسول الله، أرسلناك بالحق للناس كافة، ولمعرفة الفرق بين (أرسلناك وبعثناك) ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة للبيان.

{شَاهِدًا} : على أمتك يوم القيامة بتبليغ الرّسالة؛ لقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

{وَمُبَشِّرًا} : بالثّواب بالفوز والجنة مبشراً للمتقين وللمؤمنين الذين يعملون الصّالحات.

{وَنَذِيرًا} : من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف منذراً للكافرين والمشركين والمجرمين والمكذبين، منذراً بالعذاب وبالنّار، نذيراً: كثير الإنذار، وقدم مبشراً على نذيراً؛ لأن المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريماً له ولقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، والبشارة: هي رحمة.

ص: 86

سورة الفتح [48: 9]

{لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} :

{لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} : اللام لام التّعليل، بالله: الباء للإلصاق، إيمان العقيدة والتّوحيد والألوهية والرّبوبية والأسماء والصّفات.

{وَرَسُولِهِ} : تصدقوا برسوله صلى الله عليه وسلم.

{وَتُعَزِّرُوهُ} : تعود على (رسوله)، وقد تعود على الله؛ التّعزير: هو الإعانة، والنّصرة تكون بالقوة، وتعزير الرسول: هو تعزير لله ولم يقل وتعزروهما، توقير الرسول هو توقير لله تعالى.

{وَتُوَقِّرُوهُ} : تعود على الله ورسوله، التّوقير هو الاحترام مع التّعظيم.

{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} : تعود على الله وحده سبحانه، وقد تكون كل الضمائر السابقة تعزروه، وتوقروه، وتسبحوه: تعود على الله سبحانه، وهناك من قال: أن تعزروه، وتوقروه تعود على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قد تكون مشتركة تعود على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما التسبيح: فلا يكون إلا لله وحده عز وجل؛ التّسبيح: هو تنزيه الله عمّا لا يليق به من كل نقص وعيب وشريك وولد وندٍّ ومثيل. والتسبيح لا يكون إلا لله وحده ولا يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم.

البكرة: أول النّهار، الأصيل: آخر النّهار، ارجع إلى سورة مريم آية (11) لمزيد من البيان.

والتّسبيح قد يعني الصّلاة، وبكرةً وأصيلاً يعني: طول النّهار.

ص: 87

سورة الفتح [48: 10]

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد المدح.

{يُبَايِعُونَكَ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبيعة: هي العهد على الطاعة لولي الأمر، وبشكل عام: هي أخذ العهد على فعل ما، وإذا بايعوا الولي جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك البائع والمشتري، ولذلك سميت بيعة، وهي بيعة الرّضوان بالحديبية في السّنة السّادسة من الهجرة. والحديبية: قرية صغيرة قرب مكة تدخل في حدود الحرم، وكانوا (1400) مسلم.

بايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل مكة؛ لأنّهم منعوهم من دخول الحرم للعمرة فبايعوه على الموت في سبيل الله وعدم الفرار.

يبايعونك: مشتقة من البيع؛ أي: هم باعوا أنفسهم في سبيل الله بالجنة.

{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة تفيد التّوكيد.

{يُبَايِعُونَ اللَّهَ} : أي جعل الله سبحانه مبايعة النّبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة مبايعتهم له سبحانه.

أي: من يبايعونك إنما يبايعون الله، وهذا تشريف عظيم له صلى الله عليه وسلم.

{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} : لتأكيد البيعة، فقد كان كل صحابي يأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعه، يد الله فوق أيديهم هذا مجاز لغوي؛ يعني: الله سبحانه حاضر وشاهد على البيعة.

{فَمَنْ نَكَثَ} : الفاء للتوكيد، من: شرطية، نكث: نقض العهد أو البيعة فلم يقاتل وينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} : أي عاقبة أو وبال نقضه العهد يرجع عليه وحده ولا يتجاوزه إلى غيره.

فإنما: الفاء للتوكيد، إنما كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

ينكث على نفسه: أي وقع عقاب النّقض أو النّكث على نفسه وحده.

{وَمَنْ أَوْفَى} : من شرطية، أوفى: أي أتمّ عهده ولم ينكث، وحافظ على عهده.

{بِمَا} : الباء للإلصاق والملازمة، ما: بمعنى الذي عاهد عليه الله.

{عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} : عليهُ جاء بالضّمة بدلاً من الكسرة ولم يقل عليهِ؛ لأنّ الضّمة أثقل الحركات (من الفتح أو الكسر) جاء بها لتدل على أنّ هذا العهد هو أثقل العهود؛ أي: استعمل أثقل الحركات وهي الضّمة لأثقل العهود أو البيعات. وهناك من قال بناء الضمير (عليهُ) بالضم لغة الحجاز، أو البناء على الضم يدل على التفخيم لكي يفخم هذا العهد.

{فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط تفيد التوكيد.

فسيؤتيه: السّين للاستقبال القريب، الإيتاء هو العطاء وهناك فرق بينهما. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة للبيان.

أجراً عظيماً: أي الجنة.

وقيل: لم ينكث من الصّحابة أحدٌ غير رجلٍ واحدٍ هو الجدُّ بن قيس وكان من المنافقين.

ص: 88

سورة الفتح [48: 11]

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} :

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} : سيقول: السّين للاستقبال القريب أو سيقول لك قريباً.

المخلّفون من الأعراب: الذين تخلّفوا عن الخروج معك إلى الحديبية؛ فقد خرج رسول الله معتمراً وطلب من الأعراب الذين كانوا حول المدينة الخروج معه للعمرة، وساق معه الهدي؛ ليُعلِم أهل مكة أنّه لا يريد حرباً، فتثاقل أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع عن الخروج خوفاً من القتل أو الموت وقالوا: كيف يخرج لملاقاة قوم غزوه في عقر داره؟ أي: بالمدينة وقتلوا أصحابه في أحد، وظن هؤلاء أنه سيهلك هو ومن خرج معه ولن يرجعوا إلى المدينة أحياء، واعتذروا لعدم الخروج بالشّغل في أموالهم وأهليهم؛ أي: ليس هناك من يقوم بالشّغل بدلاً منهم، وأنهم خافوا على أهليهم وديارهم من الغزو، وهم في الحقيقة تخلّفوا مخافة القتل، وليس صحيحاً ما زعموه.

{شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} : للتكثير والمبالغة، ولم يقولوا شغلنا.

{فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} : الفاء السّببية ربط السّبب بالمسبب، استغفر لنا الله من التّخلف وعدم الخروج معك. وطلبهم الاستغفار هو طلب رياء وليس حقيقة أو جادين في طلب الاستغفار؛ والدليل على ذلك:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} . وهذا من علامات النّفاق؛ أي: يقولون كذباً.

ولم يقل يقولون بأفواههم كما ورد في آل عمران آية (167) القول بالأفواه أقوى وآكد من القول باللسان؛ لأنّ اللسان جزء من الفم فإذا كان القول فيه مبالغة أو توكيد، ذُكرت الأفواه، ولو نظرنا في هذه الآية من سورة الفتح والآية (167) من سورة آل عمران لوجدنا:(يقولون بألسنتهم) جاءت على لسان الذين تخلّفوا عن الحديبية والخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة، وزعموا أنهم مشغولون بأموالهم وأهليهم.

أما (يقولون بأفواههم): جاءت على لسان الذين تخلّفوا عن معركة أحد والقتال فيها فقد قالوا: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم. فهو سبحانه استعمل كلمة أفواههم في غزوة أحد التي حدث فيها قتال كبير، واستعمل ألسنتهم في صلح الحديبية الذي لم يحدث فيه قتال.

{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهؤلاء الذين تخلّفوا عن الخروج معك للحديبية، فمن: الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر، من: استفهامية.

لكم: اللام لام الاختصاص، فالخطاب هنا خطاب خاص موجَّهٌ لهؤلاء فقط؛ أي: المخلفون من الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج إلى الحديبية، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (17) من سورة المائدة وهي قوله تعالى:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} : نجد أنه لم يذكر (لكم) في هذه الآية؛ لأن الآية عامة، وليست خاصة بفئة معينة، كما هو الحال في آية الفتح.

شيئاً: نكرة تشمل أيَّ شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً، والشّيء هو أقل القليل نفعاً أو ضراً، وسواء أكان حسياً أم معنوياً.

{إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} : إن: شرطية تفيد الاحتمال، أراد بكم ضراً: قدّم بكم الجار والمجرور للحصر، (بكم) وحدكم، ضراً: بفتح الضّاد، وهو خلاف النّفع مثل: الفقر والقتل والهزيمة والخوف وعدم الأمن وضياع الأموال والموت، ضُراً: بضم الضّاد هو سوء الحال في النّفس مثل: المرض والهم والغم.

والضر: هو الأذى إذا اشتد فالضرر أشدّ من الأذى وتكون له آثار بعد ذلك، وقدّم الضر على النفع في هذه الآية؛ لكون السياق في التخلف عن الجهاد الذي يعتبر ضراً؛ لكونه يؤدي إلى القتل والسّبي.

{أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} : من ظفر ونصر وغنيمة وأمن.

{بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} : بل للإضراب الانتقالي.

كان الله: (كان) تشمل كل الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، كان ولا يزال وسيبقى خبيراً.

بما: الباء للإلصاق والملازمة، ما: تعني الذي أو مصدرية.

تعملون: العمل يشمل الأقوال والأفعال.

خبيراً: أي عليماً ببواطن أموركم وما تخفي صدوركم من الصدق أو الكذب والنّفاق والرّياء.

وقدّم (تعلمون) على (خبيراً) ولم يقل وكان الله خبيراً بما تعلمون؛ لأن الآيات في سياق عمل المخلّفين (أي أقوالهم بألسنتهم).

ص: 89

سورة الفتح [48: 12]

{بَلْ ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} :

{بَلْ ظَنَنتُمْ} : بل للإضراب الانتقالي، ظننتم: من الظّن: هو الشك مع رجحان كِفَّة الإثبات على النّفي. أي: كان رأيهم الراجح.

{أَنْ لَنْ} : أن للتعليل والتّوكيد، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد؛ أي: أنّ الرّسول والمؤمنين لن يرجعوا سالمين بعد الذهاب للعمرة؛ أي: سيهلكون قريباً أو بعيداً.

{يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} : الانقلاب؛ أي: الرّجوع أو العودة إلى منازلهم أو ديارهم، والانقلاب يختلف عن الرّجوع، الرّجوع: هو العودة إلى المكان الذي خرج منه وبدون تغيير.

الانقلاب: هو الرّجوع إلى غير الحالة التي خرج فيها، فقد يرجع أو لا يرجع وإذا رجع لن تكون حالته كما في السّابق.

{إِلَى أَهْلِيهِمْ} : ولم يقل إلى أهلهم، أهليهم: تضمّ الزوجة والأولاد والعشيرة والأقارب، وأما أهلهم: تعني الزوجة والأولاد فقط.

{أَبَدًا} : للتوكيد؛ أي: سيقتلون حتماً على يد قريش ولن يرجعوا إلى أهليهم بل ينقلبوا إلى القبور.

{وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} : زُيّن: مبني للمجهول، وغالباً من يفعل ذلك هو الشّيطان.

{ذَلِكَ} : أي عدم الانقلاب والعودة إلى أهليهم.

{فِى قُلُوبِكُمْ} : خاصة.

{وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} : ظننتم من الظّن هو الاحتمال الراجح، ارجع إلى مطلع الآية.

ظن السوء: الظن السيء، والسوء: مصدر ساءه، والسوء: هو الاسم، والظن السيء: هو أن الرّسول والمؤمنين سيُقتلون ولن ينقلب أحد منهم إلى أهليهم.

{وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} : بور: جمع بائر، وبار الشّيء: فسد وهلك، بوراً مصدر للمفرد والمؤنث والجمع؛ أي: لا خير فيكم مستوجبين سخط الله وعقابه؛ أي: هالكين أو فاسدين. مشتقة من: أرض بور أي جدباء لا خير فيها.

ص: 90

سورة الفتح [48: 13]

{وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} :

{وَمَنْ لَّمْ} : الواو عاطفة، من: شرطية، لم: للنفي.

{يُؤْمِن بِاللَّهِ} : إيمان عقيدة وتوحيد، والباء للإلصاق والملازمة.

{وَرَسُولِهِ} : إيمان تصديق وطاعة، انتبه إلى كونه جمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله، وهذا مغاير لمن يظن أنّ الإيمان بالله تعالى أو بالقرآن وحده يكفي.

{فَإِنَّا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، إنّا: للجمع والتّعظيم.

{أَعْتَدْنَا} : هيّأنا وحضّرنا.

{لِلْكَافِرِينَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، الكافرين: الذين لم يؤمنوا بالله وروسوله.

{سَعِيرًا} : اسم للنار، سعير (نكرة) للتهويل والتّعظيم، والسّعير: شدة الالتهاب، فمن لم يؤمن بالله ورسوله فهو يستحق السّعير. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.

ص: 91

سورة الفتح [48: 14]

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} :

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ولله حصراً ملك السموات والأرض الحكم، والملك لا يشاركه فيه أحد.

{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} : ومشيئته تابعة لحكمته، يغفر للتائب المنيب.

{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} : ويعذّب المنافق والكافر والمشرك أو العاصي لأوامر الله ورسوله إذا لم يتب ويرجع عن ضلاله.

ورحمته سبحانه سبقت غضبه (عذابه)، ولذلك قدّم المغفرة على العذاب. وقد يكون هذا الكلام معطوفاً على قوله تعالى:{فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : الذي له ملك السموات والأرض يغفر لمن يشاء، انتقال من الإنذار والتّخويف إلى الإطماع في المغفرة والرّحمة.

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} : كان: تشمل جميع الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل؛ أي: كان ولا يزال وسيبقى غفوراً لمن تاب وأصلح وأناب إلى ربه وأخلص دينه لله. غفوراً: صيغة مبالغة من غفر؛ أي: يغفر الذنوب العِظام والكثيرة.

{رَحِيمًا} : بالمؤمنين يستر ذنوبهم ويمحوها ولا يعاقبهم عليها، ويثيبهم على حسناتهم وقد يبدّل سيئاتهم حسنات، فهذا يدل على أقصى درجات الرّحمة. رحيماً: صيغة مبالغة: كثير الرحمة بعباده المؤمنين.

ص: 92

سورة الفتح [48: 15]

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} :

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} : سيقول: السّين للاستقبال القريب؛ أي: سيقول لكم المخلّفون من الأعراب؛ قبائل غفار وجهينة ومزينة وأشجع بعد رجوعكم من الحديبية، وأردتم الخروج إلى غزوة خيبر: ذرونا نتّبعكم.

{إِذَا} : ظرفية زمانية، تفيد الحتمية.

{انطَلَقْتُمْ} : أي: إذا خرجتم لفتح خيبر (مغانم خيبر) حيث وعدهم الله سبحانه بها عند رجوعهم من الحديبية في ذي الحجة من السّنة (6) للهجرة.

{إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} : أي: بعد الانتهاء من فتح خيبر وجلاء اليهود عنها، لتأخذوها: لام التّعليل.

{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} : أي دعونا نخرج معكم لخيبر.

{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} : يريدون ولم يقل يريدوا؛ أضاف نون التّوكيد.

يبدّلوا كلام الله: هو أنّ مغانم خيبر خاصة لمن خرج للحديبية مع الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأن لا يسمح لمن تخلّف عن الخروج للحديبية بالخروج معه إلى خيبر.

{قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن: للنفي القريب أو البعيد، لن تخرجوا معنا ولن تتبعونا إلى خيبر.

{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} : كذلكم ولم يقل كذلك بلفظ الجمع خطاب لهؤلاء الذين قل لهم لن تتبعونا، ويفيد التوكيد.

قال الله من قبل: أي أخبرنا بالوحي قبل عودتنا إلى المدينة بعد الحديبية لن تخرجوا معنا ولن تتبعونا.

{فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} : أي الذين تخلّفوا عن الحديبية سيقولون للذين خرجوا لغزوة خيبر بل تحسدوننا، وفعلاً قالوا ذلك (ليس هذا أمراً من الله) إنّما هو ذريعة وحُجّة باطلة، من عند أنفسهم؛ أي: تحسدوننا على نصيبنا من الغنائم ولذلك لا تريدوننا أن نخرج معكم.

{بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} : بل للإضراب الانتقالي.

كانوا لا يفقهون: لا يفهمون؛ الفقه لغةً: الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها. إلا أداة حصر، قليلاً: أي قلّة الفقه في الدّين، وصفهم الله بالجهل وعدم الفهم. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

{لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} : أي عدد الذين يفقهون قليلٌ والأكثرية جهّالٌ، أو مقدار فقههم قليلٌ.

ص: 93

سورة الفتح [48: 16]

{قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :

{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{لِّلْمُخَلَّفِينَ} : اللام لام الاختصاص، المخلّفين: أي الذين تخلّفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وطالبوا بالخروج معك إلى خيبر؛ ليأخذوا من مغانمها، ومنعهم الله من ذلك.

{سَتُدْعَوْنَ إِلَى} وعدهم الله سبحانه بأنّه سيدعوهم للخروج في المستقبل.

{إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} : لقتال قوم أولي بأس: أصحاب قوة وشدة في الحرب أو القتال، قيل: هم هوازن وغطفان يوم حنين في السّنة الثامنة للهجرة أو بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذّاب، وكان قتالهم في زمن أبي بكر الصّديق رضي الله عنه.

{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} : تقاتلونهم أو يسلمون بدون حاجة إلى القتال.

{فَإِنْ تُطِيعُوا} : الفاء للتوكيد، إن: شرطية تفيد الافتراض أو الاحتمال، تطيعوا: الدّاعي؛ أي: تنفروا للجهاد.

{يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} : أي الجنة.

{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} : إن شرطية، تتولَّوا: تُعرِضوا وترفضوا الجهاد في سبيل الله.

{كَمَا تَوَلَّيْتُم مِنْ قَبْلُ} : أي عام الحديبية، لم تخرجوا للحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : في الدّنيا بالقتل والإذلال والكوارث والبلاء وغيرها من أنواع العذاب، وفي الآخرة بعذاب النار، ثمّ يستثني من هذا العذاب الأعمى والأعرج والمريض.

ص: 94

سورة الفتح [48: 17]

{لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} :

الأعمى والأعرج والمريض، ليس على هؤلاء حرج في عدم الخروج، أو حرج في التّخلف عن الجهاد أو قتال القوم أولي البأس الشديد، لأنّ هؤلاء لما نزلت الآية (16) وقال تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} .

قال أهل الأمراض المزمنة مثل الأعمى والأعرج والمريض: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت هذه الآية (17).

لا حرج عليكم ولا إثم ولا ذنب في التّخلّف وعدم الخروج والجهاد أو قتال هؤلاء القوم.

وتكرار لا يفيد توكيد النّفي، وفصل كل طائفة عن الأخرى أو الكل معاً.

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : من شرطية، تشمل المفرد والمثنى والجمع، يطع الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه. وجمع بين طاعة الله ورسوله؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله تعالى. ارجع إلى سورة النساء آية (59) للبيان المفصل. يطع الله ورسوله بالخروج للجهاد في سبيل الله.

{يُدْخِلْهُ} : جواب الشّرط.

{جَنَّاتٍ} : جمع جنة، هناك جنات الفردوس وعدن والنّعيم، ودار الخلد والسّلام، جنات المأوى.

{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي تنبع من تحتها الأنهار، وهذا وعد صدقٍ من الله تعالى وترغيب في الجهاد في سبيل الله.

{وَمَنْ يَتَوَلَّ} : يعرض ويرفض الخروج إلى الجهاد في سبيل الله.

{يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} : هذا وعيد من الله تعالى لمن يعصي أوامر الله ويترك ويتخلّف عن فريضة الجهاد إذا توفرت شروط الجهاد.

ص: 95

سورة الفتح [48: 18]

{لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} :

{لَّقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.

{رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} : أي الذين خرجوا معه للعمرة وحضروا صلح الحديبية وكان عددهم (1400) رضي الله عنهم إلا المنافق جدّ بن قيس لم يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رضي الله تعالى عن عملهم (البيعة) على الموت في سبيل الله.

{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.

{يُبَايِعُونَكَ} : ولم يقل بايعوك بالماضي وإنما جاء بصيغة الحاضر؛ للدلالة على حكاية الحال؛ أي: كأنّ البيعة تحدث الآن لعظم شأنها، واستحضار صورتها الجليلة. والنون في (يبايعونك) للتوكيد على أهمية البيعة.

يبايعونك على الموت وعدم الفرار، يبايعونك على قتال قريش، وكما روى البخاري ومسلم عن يزيد بن عُبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسول الله؟ قال: على الموت، وسمّيت بيعة الرّضوان؛ لقوله تعالى:{لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} .

{تَحْتَ الشَّجَرَةِ} : اسمها سَمُرة، وجاء بأل التّعريف (الشّجرة)؛ لأنّها معروفة.

{فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} : الفاء للتوكيد، علم ما في قلوبهم: من الصّدق والإخلاص والوفاء للقتال في سبيل الله.

{فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} : الفاء للمباشرة، السّكينة؛ أي: الطّمأنينة والأمن والسّكون والرّضى، عليهم: على الصّحابة رضي الله عنهم (1400) إلا جدّ بن قيس.

قال: السّكينة، ولم يقل سكينته، السّكينة هذه عامة تنزل على الصّحابة والمؤمنين إذا شاء الله، وأمّا سكينته تشريف السّكينة بإضافتها إليه سبحانه، هذه سكينة خاصة تخص الرّسول صلى الله عليه وسلم أو الرّسل الآخرين أو فئة خاصة من المقربين.

{وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} : أثابهم من الثّواب: هو الجزاء على أعمالهم الصّالحة، فتحاً قريباً: هو فتح خيبر.

ص: 96

سورة الفتح [48: 19]

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} :

في الآية السّابقة قال تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} هو فتح خيبر، ومغانم كثيرة يأخذونها: من جراء ذلك الفتح.

فقد كانت خيبر ذات بساتين ومزارع ونخيل وثمر وحصون ومال.

{وَمَغَانِمَ} : جمع غنيمة، وهو ما يؤخذ من أموال المشركين أو الكافرين بقتال.

أما الفيء: هو ما يؤخذ من الأموال والغنيمة بدون قتال، أما الأنفال: ارجع إلى الآية (1) من سورة الأنفال للبيان.

{يَأْخُذُونَهَا} : في المستقبل، وهذا بشارة لهم بالنّصر ولتطمئنّ قلوبهم بعد ما حدث لهم في الحديبية.

{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} : ارجع إلى الآية (7) من السّورة نفسها للبيان.

ص: 97

سورة الفتح [48: 20]

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} :

{وَعَدَكُمُ اللَّهُ} : الوعد يأتي في سياق الخير عادة إذا أطلق وإذا قيد قد يأتي في سياق الشر للتوبيخ أو التقريع، والوعيد يأتي في سياق الشّر.

{مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} : أي في الفتوحات القادمة.

{فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} : الفاء للمباشرة، عجّل لكم هذه؛ أي: مغانم خيبر.

{وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} : الكفّ: الامتناع عن القيام بالفعل أو موالاة الفعل، أي: أيدي اليهود من أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرّعب فولَّوا هاربين.

ولمَ اختار كفّ أيدي النّاس عنكم؟ الكفّ يحدث حين يأتي العدو ويباشر أول خطوة ويحشد قواته ويتحرك تجاه أرض المعركة، فتأتي قوة تمنعه من التّحرك، وهذا ما حدث في خيبر حيث كفّ أيدي العدو اليهود وحلفائهم، وقذف في قلوبهم الرّعب فلم يصمدوا طويلاً أمامهم. أو ما حدث في الحديبية من عدم القتال.

{وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} : الواو عاطفة، اللام لام الاختصاص؛ أي: أخذ المغانم المعجّلة، أو كفّ أيدي النّاس عنكم بالصّلح في الحديبية، أو منع أهل خيبر وحلفاءهم من الوصول إليكم، كل ذلك آية للمؤمنين وعبرة.

أي: علامة تسبق فتح مكة؛ أي: كان فتح خيبر أو صلح الحديبية آية للمؤمنين (دلالة وعلامة) على فتح مكة القادم.

وقدّم الآية على المؤمنين؛ لأهميتها ودلالتها لكونها فريدة وخاصة. ارجع إلى سورة مريم آية (21) للبيان.

{وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} : هو دين الإسلام الموصل للغاية بأقصر مسافة وزمن وبلا مشاقّ. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (6) لمزيد من البيان.

ص: 98

سورة الفتح [48: 21]

{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} :

{وَأُخْرَى} : أي مغانم أخرى، وأخرى قيل: هي مغانم هوازن في غزوة حنين وفتوحات فارس والرّوم.

{لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} : في حالتكم الرّاهنة أو عددكم وعدّتكم.

{قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} : علماً أنّها ستكون لكم وتأخذونها في المستقبل.

{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} : ارجع إلى سورة البقرة آية (20) للبيان.

ص: 99

سورة الفتح [48: 22]

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} :

{وَلَوْ} : لو شرطية.

{قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : مشركو مكة بالحديبية ولم يصالحوكم، لَولَّوا الأدبار، أو قيل: أهل خيبر وحلفاؤهم يوم خيبر، لَولَّوا الأدبار وقد تعني كلاهما.

{ثُمَّ} : لتباين الأهمية بين الهزيمة (لَولوَّا الأدبار) وبين (لا يجدون ولياً ولا نصيراً) لأنّ التّولّي أمرٌ مؤقّتٌ وينتهي، بينما: لا يجدون ولياً ولا نصيراً: أمرٌ دائمٌ.

ولياً: مُعيناً أو مُحبّاً من يلجؤون إليه في الدنيا أو الآخرة.

{نَصِيرًا} : من ينصرهم بأيّ وسيلة بالأيدي أو العدّة والعتاد، أو يدفع عنهم العذاب أو يخفّفه في الدّنيا والآخرة.

وتكرار لا يفيد توكيد النّفي، وفصل الولاية عن النّصرة أو كلاهما معاً.

ص: 100

سورة الفتح [48: 23]

{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} :

{سُنَّةَ اللَّهِ} : تعريف السّنة: طريقته وعادته سبحانه تكون على مثال سابق أجراه الله على خلقه وكونه سابقاً.

{الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} : مضت من قبلُ: بالضّم وتدل على زمن معين. ولم يقل من قبلِ بالكسر التي تدل على زمن بعيد أو قريب؛ أي: في أيّ زمن غير محدد.

{وَلَنْ} : نافية للاستقبال القريب والبعيد.

{تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} : أي يبدّل الهلاك بالعفو مثلاً، أو العذاب بعذاب آخر.

أما قوله تعالى: {وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]؛ تعني: يحوّل العذاب من قوم إلى قوم، فسُنن الله سبحانه لا تُبدّل ولا تتغير ولا تتحوّل، ارجع إلى سورة النساء آية (26) لمزيد من البيان، وإلى سورة فاطر آية (43).

ما الفرق بين السّنّة والعرف والعادة؟

السّنّة كما ذكرنا في مطلع الآية.

العادة: مأخوذة من العَود أو المعاودة؛ أي: التّكرار، العادة تتحقق بتكرار العمل، والعادة تطلق على ما يعتاده الإنسان بنفسه (عادات في الأكل والشّرب والحديث) العادة إذن فردية.

أما العادات التي تعتادها الجماهير أو الجماعات وتقوم بها يطلق عليها: العرف.

العرف: ما تعارف عليه النّاس من قول أو فعل أو ترك، وتواصَوا به في شؤونهم الحياتية، حيث ألِفوه واطمأنّوا إليه فأصبح أمراً معروفاً.

أي: هو ما اعتاده وألِفه النّاس وتعارفوا عليه، واستقرّ في نفوسهم وساروا عليه من قول أو فعل أو العرف (العادة الجارية المشتركة بين النّاس).

والتقليد: أن يقلّد الإنسان من سبقه من الآباء والأجداد، أو أن يفعل ما فعلوه بدون تفكير أو استعمال العقل، فالتّقليد: هو إلغاء للفكر والعقل، وهو مذموم، وهناك تقليدٌ مستحبٌّ مثل تقليد الصحابة.

ص: 101

سورة الفتح [48: 24]

{وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} :

وهذه منَّةٌ أخرى من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين حين حاول ثمانون من المشركين المتسلّحين الغدر بالمؤمنين يوم الحديبية، فأسرهم أصحاب رسول الله وأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، فكان سبب صلح الحديبية. وفي حديث آخر قيل: ثلاثون.

{وَهُوَ الَّذِى} : وهو سبحانه وتعالى، الذي للتعظيم.

{كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} : في الحديبية وسمّى الحديبية (ببطن مكة) وقيل: بطن مكة وادي مكة، وقيل: بطن مكة التّنعيم.

{كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} : أي كفّ أيدي أهل مكة من الكفار والمشركين.

{عَنكُمْ} : عن الرّسول وأصحابه الذين خرجوا للعمرة.

{وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} : حين أسروا (30) أو (80) رجلاً من أهل مكة أرادوا غرَّة رسول الله وأصحابه؛ أي: المفاجأة والنَّيل منكم.

{مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} : بأسر هؤلاء الـ (80) أو (30) منهم. وهناك فرق بين: ظفرت بفلان وظفرت عليه، ظفرت عليه؛ أي: تغلّبت عليه وقهرته أو أسرته، وظفرت به؛ أي: ثقفته أو وجدته وأنت قادرٌ ومتمكِّنٌ منه.

{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} : أي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار السموات والأرض، يبصر ويرى كلّ شيء يجري في كونه سواء كان ظاهراً أو باطناً؛ أي: مطَّلع على أعمالكم (الأقوال والأفعال).

وقدّم (تعملون) على (بصيراً)؛ لأنّ سياق الآيات في الأعمال وليس السّياق في صفات الله تعالى أو أعمال القلوب والنّوايا.

ص: 102

سورة الفتح [48: 25]

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَـئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :

{هُمُ} : للتأكيد، وتعود على كفار مكة؛ كفروا بالله وبرسوله وما فعلوه من منعكم وصدِّكم يستحقون أن يقاتَلوا، ولكنّ الله سبحانه لم يسمح بذلك؛ لأنه كان هناك بين المشركين رجال مؤمنون ونساء مؤمنات.

{وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي منعوكم من الوصول إليه والدّخول إليه للعمرة والزّيارة.

{وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} : الهدي: كل ما يُهدى للبيت من البُدن والغنم؛ حيث ساقوا معهم (70) بدنة، معكوفاً: محبوساً عن أن يبلغ محِلّه: مكان نحره أو حيث نحره؛ أي: مكان منى، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل.

{وَلَوْلَا} : حرف امتناع لامتناع.

{رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} : هذا هو المانع لعدم قتالهم؛ أي: وجود هؤلاء أهل الإيمان بين كفار مكة؛ أي: مختلطون بالمشركين.

{لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} : مَنْ هم، أو غير عارفين بهم.

{أَنْ تَطَـئُوهُمْ} : أن للتعليل، تطؤهم: أي أن تطؤوهم غير عالمين بهم والوطء: الدّوس؛ أي: القتل، أن تطؤوهم؛ أي: أن تقتلوهم خطأ.

{فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : معرَّة: عيب أو مساءة بقتل من هو على دينكم أو إثم بالتقصير في البحث عنهم، وتعيير الكفار لكم من إصابة إخوانكم بالأذى أو القتل.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : أنكم قد آذيتموهم أو أسأتم لهم.

{لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} : ليدخل: اللام لام التّعليل.

{لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} : قدّم الرّحمة على المشيئة؛ لأنّ الآيات جاءت في سياق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمثّلون خير القرون، بينما في سورة الإنسان آية (31) قال تعالى:{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ} ، قدّم المشيئة على الرّحمة؛ لأنّ السّياق في عامة الخلق.

{لَوْ تَزَيَّلُوا} : لو حرف امتناع لامتناع.

تزيلوا: أي لو تميّزوا أو انفردوا عن الكفار أو تفرّقوا عنهم؛ أي: خرجوا من بينهم.

من زيّله: فرَّقه.

{لَعَذَّبْنَا} : اللام للتوكيد.

{لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : بالقتل والهزيمة في الدّنيا أو الكوارث أو الابتلاءات.

ص: 103

سورة الفتح [48: 26]

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} :

{إِذْ} : معناها: واذكر.

{جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : أو بمعنى حين، واذكر حين جعل الذين كفروا.

{فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} : الحميّة حميّة الجاهلية؛ أي: الأنَفَة والتّعاظم والتّكبّر عن قول الحق، وبمنع دخول الرّسول والصّحابة لزيارة البيت الحرام والطّواف به، وقولهم: كيف نسمح لهم بدخول ديارنا ومنازلنا وهم عدو لنا؟ أو كيف يدخلوها رغم أنوفنا؛ أي: بالقوة والقهر. وكذلك حين رفضوا كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم وأن محمّداً رسول الله) في عقد الصّلح.

{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : فأنزل: الفاء للمباشرة، أنزل الله سكينته: ولم يقل السّكينة بل قال: سكينته، أضاف السّكينة إليه سبحانه تشريفاً لها، أنزلها على رسوله وعلى المؤمنين (الصّحابة) حين هَمَّ أو عزم المؤمنون عدم قبول الصّلح، فأنزل سكينته سبحانه؛ أي: الطّمأنينة والرّضى والصّبر والتّسليم لأمر الله سبحانه رغم ما أصابهم من القهر والأذى.

{وَأَلْزَمَهُمْ} : أي المؤمنين.

{كَلِمَةَ التَّقْوَى} : وهي لا إله إلا الله محمّد رسول الله، ألزمهم بحملها والدّعوة إليها، وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم، وقيل: الوفاء بالعهد.

{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} : أولى بها وأجدر بهذه الكلمة كلمة التّوحيد.

{وَأَهْلَهَا} : أهلاً لحمل هذه الكلمة والدّعوة إليها.

{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} : بأقوال وأفعال ونوايا كلٍّ من الفريقين المؤمنين والكفار.

ص: 104

سورة الفتح [48: 27]

{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} :

المناسبة: كما قال قتادة ومجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنّه دخل مكة وأصحابه، وطاف بالبيت وحلقوا رؤوسهم وقصّروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بتلك الرّؤيا وهم في المدينة قبل الخروج إلى الحديبية، فلما رجعوا بدون دخول مكة ولم يعتمروا ويطوفوا بالبيت، شقَّ عليهم ذلك وكانت أكبر فتنة يومها، وقال المنافقون: أين رؤياه التي رآها؟ والحقيقة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بالعام أو الزّمن؛ أي: متى سيدخل مكة.

{لَّقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق والتّوكيد.

{صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ} : أي جعل رؤيا الرّسول صلى الله عليه وسلم حقاً، أو صدقاً.

الرّؤيا: هنا الرّؤيا المناميّة؛ أي: ما يراه النائم وليست الرّؤية البصريّة. والحق: الأمر الثابت الذي لم يتغير أو يتبدل، والحق نقيض الباطل، والريا بالحق: أي: الصدق.

{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} : اللام والنّون للتوكيد، تدخلنَّ المسجد الحرام: للعمرة والزّيارة في العام القادم.

{إِنْ شَاءَ اللَّهُ} : إن شرطية تفيد الاحتمال، شاء الله: بإذن الله تعالى ومشيئته.

{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} : حلق الشعر أو التقصير جزء من مناسك العمرة (والجزء يدل على الكل)؛ أي: آمنين تقومون بأعمال أو مناسك العمرة كاملة لا تخافون، وحلقُ الرّأس والتّقصير يكون بعد إتمام العمرة، وهذا يدل على أنهم سيدخلون، ويتمون العمرة بأمن وطمأنينة، وعدم الخوف.

{لَا تَخَافُونَ} : لا النّافية، عدواً، تخافون: أحداً، والنون للتوكيد بدلاً من القول لا تخافوا.

{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} : أي: علم سبحانه ما لم تعلموا من الحكمة والمصلحة والمنفعة في تأخير العمرة وعدم دخول مكة هذا العام وما في الصّلح من خير للمسلمين. وكذلك علم ما لم تعلموا من أنكم ستفتحون خيبر وأنتم لا تعلمون ذلك.

{فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} : أي جعل من دون فتح مكة أو فتح الحديبية.

{فَتْحًا قَرِيبًا} : هو فتح خيبر.

ص: 105

سورة الفتح [48: 28]

{هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} :

{هُوَ} : ضمير منفصل يفيد الحصر والتّوكيد؛ أي الله الذي أرسل رسولَه.

{أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} : بالهدى؛ أي: بالقرآن.

{وَدِينِ الْحَقِّ} : دين الإسلام. الحق؛ أي: الثابت الذي لا يتغير أو يتبدل.

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} : اللام للتوكيد والتَّعليل، وهاء الضَّمير في (يظهره) تعود على الإسلام، وإظهاره لا يعني بالقوة فحسب، وإنما بالحجج والبراهين للناس، ولا يعني أنّ كل إنسان سيدخل في الإسلام ويصبح مسلماً أو أنّه يمحو الشرائع أو الدّيانات الأخرى. وقيل: ليظهره على الدين كُلِّه عند نزول عيسى ويحكم بالإسلام ويصبح الدين الظاهر على بقية الديانات أو الشرائع.

{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} : الباء للتوكيد، شهيداً: صيغة مبالغة من: شاهد، والشّهيد: العليم بظاهر الأمور، والخبير: هو الشّهيد ببواطن الأمور، والشّهادة تعني: العلم مع الحضور.

فيكفي أن يكون الله شهيداً على نبوّة محمّد أو شهيداً على ما وعده، أو شهيداً أنه سيظهر دينه. ارجع إلى سورة البقرة آية (133) لمزيد من البيان في معنى شهيداً.

ص: 106

سورة الفتح [48: 29]

{مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} :

الآية السّابقة انتهت بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وبدأت هذه الآية: {مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فضلاً من الله ورضواناً؛ أي كفى بالله شهيداً محمّد رسول الله.

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول للمدح.

{مَعَهُ} : ولم يقل والذين آمنوا معه؛ لأنّ (معه) تعني: الصحابة الكرام والصّحبة، وهل يصاحب رسولُ الله إلا مؤمناً؟ إذن لا داعي لذكر: الذين آمنوا معه.

{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} : أشداء على الكفار، ولم يقل شداد؛ أشداء تعني: في الناحية العاطفية والمعنوية؛ أي:، رحماء فيما بينهم؛ أي: يعاملون إخوانهم أو بعضهم بعضاً بالبر والرّحمة، ولو قال: شداد؛ تعني: في القوة المادية أو الحسية.

{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} : منشغلين أو مهتمين بالصّلاة أو كثرة الصّلاة.

{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : يطلبون ثواب الله ورضاه رضواناً: من الرّضوان؛ صيغة مبالغة: كثير الرّضا، فرضاه سبحانه أعظم الرّضا.

{سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} : سيماهم: علامتهم، السّيما هي العلامة، السّيماء: العلامة التي تحدث في الجبهة من كثرة السّجود، أو النّور الذي يحدث في وجوههم من أثر الإيمان، تشعُّ وجوههم بالنّور، وقيل: هو صفرة الوجه من خشية الله. ارجع إلى سورة البقرة آية (273) لمزيد من البيان.

{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ} : ذلك: الوصف السابق لأصحاب رسول الله مذكور في التّوراة؛ أي: تلك صفاتهم التي ذكرت في التّوراة قبل تحريفها وهي: أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركّعاً سجّداً، سيماهم في وجوههم.

{وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنجِيلِ} : ووصفهم في الإنجيل.

{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـئَهُ} : الشَّطء: ما يتفرّع على جانب الزرع من فروع، فالشَّطء تعني: الأغصان الجانبية، جمعه: أشطاء؛ أي جوانب؛ أي هم كزرع.

يقال: أشطأ الزرع: إذا فرّخ؛ أي ظهرت له أغضان جديدة.

فآزره: من المؤازرة؛ أي المساعدة؛ أي يشدُّ بعضهم أزرَ بعض ـ آزره على وزن: أفعل.

{فَاسْتَغْلَظَ} : تحوّل من الرّقّة إلى الغلظة؛ أي: نما وازداد حجماً أو غلظ وقوي، وهذا يمثّل ازدياد عدد الصحابة والمؤمنين وازدياد قوتهم وشدتهم.

{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} : استقام أو قام.

وقيل الزّرع: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والشَّطء: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا قليلاً ثم كثروا وأصبحوا أقوياء؛ أي: هم ينبتون كالنبات في الزيادة والقوة.

{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} : لقوامه وغلظته وحسن هيئته؛ أي: يعجب زارعيه (من زرعه) وإذا عجب من زرعه أعجب غيرهم. الزُّرَّاع: جمع زارع جمع تكسير، ويدل على الاسم أكثر مما يدل على الفعل، أو الحدث كما لو قال يعجب الزارعون، وفي سورة الحديد آية (20) قال تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} ؛ الكفار: تعني الزراع، ولذلك لم يقل في سورة الفتح يعجب الكفار ليغيظ بهم الكفار، وإنما استبدل الكفار بالزراع؛ لأن الزارع يحاول إخفاء البذرة في الأرض، والكافر يحاول إخفاء كفره، والزارع لا يزرع إلا ما ينتفع به، وله فائدة، وأما المطر أو الغيث قد يؤدي إلى إخراج نباتات لا فائدة منها، والزراع في آية الفتح هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا يزرعون إلا الخير لغيرهم من الأجيال القادمة، وتحمل الآية معنى المدح والثناء عليهم.

{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} : اللام في (ليغيظ) لام التعليل، والغيط: هو غضب كامن في نفس العاجز عن الانتقام، وهو نوع من الغمّ أو مرحلة من مراحل الغضب وهو أشد من الغضب

ارجع إلى سورة التوبة آية (15) لمزيد من البيان.

والآية تعني: كثّرهم وقوّاهم؛ ليغيظ بهم الكفار حتى يقيموا لهم وزن ويخافوا منهم، أو يشبهوا الزرع في نمائهم في الزيادة والقوة.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} .

منهم: أي من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم خاصة؛ أي: وهذا وعد خاص للصحابة رضي الله عنهم، مَنْ شهد صلح الحديبية.

وإذا قارنّا هذه الآية (29) من سورة الفتح، وهي قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . والآية (9) من سورة المائدة وهي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .

فالآية في سورة الفتح تتحدث عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: منهم (فقط).

والآية من سورة المائدة تتحدث عن المؤمنين والمؤمنات عامة فقال: لهم.

والمغفرة: هي محو الذّنوب وترك العقاب.

وأجراً عظيماً: هو الجنة.

ص: 107

سورة الحجرات [49: 1]

سورة الحجرات

ترتيبها في القرآن (49)، وترتيبها في النزول (106).

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

أسباب النزول:

1 -

روى البخاري والترمذي أنها نزلت حين اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.

2 -

وروي عن الحسن البصري أن أناساً ذبحوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر.

3 -

وأخرج الطبراني عن عائشة رضي الله عنها أن أناساً كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم. والمهم هو عموم اللفظ وليس بخصوص السبب.

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد أو أمر أو حكم.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : يا النّداء للبعد والهاء للتنبيه

{لَا} : النّاهية.

{تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} : لا تتعجلوا بقول أو فعل أو فتوى أو إصدار حكم أو تحليل أو تحريم أو تشريع بغير علم أو إذن من الله ورسوله أو أمر، واتّبعوا ما شرع الله تعالى ورسوله، ولا تقدّموا بآرائكم على ما جاء في الكتاب أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: الزموا الكتاب والسّنّة.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أي أطيعوا أوامر الله تعالى وتجنبوا نواهيه، وقُوا أنفسكم غضب الله وسخطه أو النّار.

{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} : إنّ للتوكيد، سميع لكلّ أقوالكم في السّر والعلن، وما في الكون من سر وعلن، عليم بكلّ الأفعال والنّوايا وذوات الصّدور، وأحاط علمه بخلقه وكونه فلا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

ص: 108

سورة الحجرات [49: 2]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} :

سبب النزول: نزلت في ثابت بن قيس كان جهوريّ الصوت إذا كلّم أيَّ إنسان جهر بصوته فربما كلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذّى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية. رواه الواحديّ في أسباب النزول.

نداء جديد وتكليف جديد أو أمر أو حكم.

{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ} : لا النّافية، ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبي: أي حين تكلّموه إيّاكم أن ترفعوا أصواتكم فوق صوته، فهذا يدل على عدم توقير واحترام للنبي عليه السلام ؛ أي: اخفضوا أصواتكم إذا تحدّثتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} : أي لا تنادوه يا محمّد، ولكن نادوه: يا رسول الله، يا نبي الله، وباحترام وتوقير وعدم التّسرع والعجلة، والحيطة والحذر حين الحديث معه.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل.

{تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} : أي خشية أو لئلّا تحبط أعمالكم؛ أي: يبطل ثوابها من جرّاء رفع أصواتكم، أو معاملته بدون توقير واحترام وتعظيم كما يعامل أحدكم الآخر.

{وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} : أنها بطلت وحبطت وذهب ثوابها، ارجع إلى سورة البقرة الآية (217) لبيان معنى الحبط.

ص: 109

سورة الحجرات [49: 3]

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} :

{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} : يخفضون أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحديث معه أو تكليمه، والخفض يعني: القريب من الهمس، ويدلّ على تعظيم وتوقير واحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد البعد.

{الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} : امتحن: اختبر، والامتحان هو للذين في قلوبهم تقوى، والاختبار: هو الطلب منهم القيام وأداء بعض التّكاليف الشّرعية ومنها: أن يغضّوا أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يخرج ما في قلوبهم من التّقوى والإخلاص لما يوصيهم به ربهم، ولكي يعلموا أنفسهم مدى صبرهم على الالتزام والأخذ واتباع ما أمر الله به، وهذا الامتحان يعلم الله سبحانه مسبقاً نتيجته ولكن ليكون حُجّةً لهم أو حُجّةً عليهم.

{لَهُمْ} : اللام لام الاستحقاق.

{مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} : أي أن يستر ذنوبهم ويمحوها، ويثيبهم على أعمالهم الصالحة، وأجر عظيم: هو الجنة.

ص: 110

سورة الحجرات [49: 4]

{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} :

سبب نزول هذه الآية: قدم وفد من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، وقيل: كانوا (70) رجلاً فلما وصلوا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم راحوا ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات؛ ليخرج إليهم. كما روى محمد بن إسحاق وغيره، وذكره الواحدي في أسباب النزول.

{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ للتوكيد، الذين: اسم موصول.

{يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} : جمع حجرة: وهي الرّقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وتعني: الغرفة، وقد تكون الحجرة أصغر رقعة من الغرفة، والمراد بالحجرات: حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لكلّ واحدة منهنّ حجرة، ولم يقل نسائك ولا حجراتك: وإنما استعمل الصّيغة العامة (حجرات) وهذا من الأدب الرّباني؛ لكي يتعلّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينادونه.

من وراء الحجرات، ولم يقل من خلف الحجرات؛ ما معنى من الوراء؟ من: ابتدائية، وراء: أوسع معنى من خلف من حيث البعد المكاني الذي قد يكون طويلاً أو قصيراً، وقد تعني من أمام الدّار أو الحجرة ولا من خلفها، وإنما هم نادوا وهم لا زالوا بعيدين؛ وتعني: من وراء الجُدُر (جمع جدار) وهو الحائط (أي الحجرات)، فنادوا مناداة بغلظة. ولا يعني أنّ الكلّ اشتركوا بالنّداء، والاحتمال أنّ بعضهم نادوا والباقين كانوا راضين عن ذلك، فكأنّ الكلّ اشترك في النّداء، وقد يحتمل أنّهم تفرّقوا فبعضهم نادى من هذه الجهة أو تلك.

{أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} : أي هناك أقليّة يعقلون، والأكثرية وصفهم بالجهل والسَّفَه؛ لأن هذه المناداة ليست ضرورية، أو مناداته بهذا الشكل لا تدل على توقير واحترم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 111

سورة الحجرات [49: 5]

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{وَلَوْ} : شرطية.

{أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} : أي انتظروا، حتّى: حرف نهاية الغاية، تخرج إليهم: أي لتلقاهم.

{لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} : اللام للتوكيد، لكان أفضل لهم من ذلك النّداء بأعلى أصواتهم، وخيراً لهم وأصلح من الاستعجال، ولما فيه من الثّواب والأجر.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ} : لمن تاب وأناب إلى الله من بعد ظلمه.

{رَحِيمٌ} : حيث لا يعاجلهم بذنوبهم لعلهم يستغفروه ويتوبوا إليه من ذنوبهم.

ص: 112

سورة الحجرات [49: 6]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} :

نداء جديد بتكليف جديد للذين آمنوا.

{إِنْ} : شرطية تستعمل في الأمور النّادرة؛ أي: قليلة الحدوث أو احتمال أن جاءكم فاسق، أو على سبيل الافتراض، ولم يستعمل إذا التي تدل على حتمية الحدوث وكثرته.

{جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} : قيل: فيما رواه الإمام أحمد وغيره، وكثير من المفسرين، وقيل: حديث فيه ضعف. نزلت هذه الآية في عقبة بن أبي المعيط أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق من خزاعة؛ ليأتيهم بصدقات أموالهم، فلما سمعوا بقدومه خرجوا لاستقباله، فخاف منهم أن يقتلوه حيث كان بينهم وبين عقبة عداوة في الجاهلية، فرجع بعد أن سار بعض الطّريق وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم منعوه من الصّدقة وأرادوا قتله، وكان هذا غير صحيح! وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمَّ بغزوهم، فقدِم وفدٌ من بني المصطلق إلى النّبي فأخبروه بكذب عقبة، ونزلت هذه الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

جاءكم فاسق بنبأ: جاءكم من المجيء، والمجيء فيه مشقة، ولم يقل أتاكم؛ لأنّ عقبة رجع وأخبر النبي بخبر غير صحيح واتّهم بني المصطلق، فاسق: نكرة والفاسق: هو الخارج عن طاعة الله ورسوله؛ وتعني: إن جاءكم أيُّ فاسق من الآن وصاعداً بأيِّ نبأ، والنبأ: هو الخبر العظيم أو الخبر الهام.

فتبيّنوا: فتثبّتوا من صحّته: أي انظروا في الخبر وتحقّقوا من صدقه أو كذبه ولا تتعجّلوا بالحكم أو اتخاذ أيِّ قرار.

أن تصيبوا: أن حرف مصدري يفيد التّعليل؛ أي: كراهة أن تتّهموا قوماً، والإصابة أشدّ من المسِّ، ولم يقل أن تمسّوا.

قوماً بجهالة: بجهالة: الباء للإلصاق؛ أي: تتّهموا قوماً جاهلين بحقيقة الأمر، أو تقوموا بعمل سيئ بسبب الجهالة وعدم التّريّث، والطّيش وعدم التّدبّر في إصدار الأحكام وبدون دليل وإثبات. ارجع إلى سورة النساء آية (17) لمعرفة الفرق بين بجهل وجهالة.

{فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، على ما: على تفيد العلوّ والمشقة، ما: اسم موصول بمعنى الذي (ولكنّها أعمّ وأشمل) أو مصدرية، فعلتم: من الخطأ واتّهام الغير بغير الحق أو الإساءة لهم، نادمين: من النّدم وهو الشّعور بالغمّ والأسى على وقوع شيء مع تمنّي لو أنّه لم يقع.

ص: 113

سورة الحجرات [49: 7]

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} :

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} : أن للتوكيد، فيكم رسول الله: قدّم فيكم؛ للتوبيخ، توبيخ بعض المؤمنين لجعل رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعاً لرأيهم، والواجب والمطلوب تقديم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعملوا إن كذبتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه سيطلعه على ذلك فلا تقولوا إلا الحق والصدق، وهذا إنذار وتهديد لكل من يفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في محياه أو بعد مماته.

{لَوْ يُطِيعُكُمْ} : لو: حرف امتناع لامتناع، امتنعت طاعته لكم فامتنع العَنَت عنكم.

{فِى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} : أي فيما تخبرونه أو تطلبون منه القيام به، وكلّ ما يحلو لكم، كما حدث حين أشار بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاربة بني المصطلق بعد سماعهم الخبر الكاذب، ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يُطيعكم غالباً قبل أن يتبيّن له الحق والصدق، وقوله:(في كثير من الأمر): ولم يقل كلّ الأمور فلم ينسب جميع ما يقولونه بالخطأ والكذب، فهناك بعض ما يقولونه صدق وحق.

وقوله: لو يطيعكم: عبّر بصيغة المضارع ولم يقل لو أطاعكم؛ لدلالة التكرار والتجدد في أن يُطيعهم في بعض الأمر (وهناك فرق بين الطّاعة والاستماع) ولو يطيعكم في كثير من الأمر.

{لَعَنِتُّمْ} : اللام للتوكيد، والعنت: هو المشقة والضرر والشدة؛ أي: لوقعتم في المشقة والضرر والإثم بسبب عدم سداد رأيكم أو معرفتكم.

{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} : حرف استدراك وتوكيد؛ أي: هناك طائفة مستثناة من هؤلاء المذكورين سابقاً: هم الذين حبَّب الله إليهم الإيمان.

{وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} : وأمدّهم الله بالإيمان والتّوفيق والهداية. وزيّنه في قلوبهم: أي حسّنه وحبّبه إلى قلوبهم؛ كلمة الزينة: تشمل الزينة الخارجية أو الداخلية؛ أي: الباطنة التي تشمل الاعتقادات الحسنة، وزينة الإيمان والطهارة

وغيرها؛ وكره إليهم الكفر والفسوق: الخروج عن طاعة الله ورسوله وعن الدّين، والعصيان: مخالفة أوامر الله ورسوله، فلم يتّهموا بني المصطلق ويحثّوا على محاربتهم من غير تحقيق في الخبر.

{أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} : أولئك اسم إشارة واللام للبعد وتفيد المدح وإشارة إلى منزلتهم العالية، هم: تفيد التّوكيد، الرّاشدون: الرّشاد هو إصابة الحق واتّباع طريق الاستقامة؛ أي: الرّشد الاستقامة على طريق الحق. وهناك فرق بين الرُّشد بضم الراء ويستعمل في سياق الأمور الدّنيوية والأخروية، والرَّشد: بفتح الرَّاء يستعمل في سياق الأمور الأخروية (الآخرة) فقط. ارجع إلى سورة النساء آية (6) لمزيد من البيان.

والرّشاد، قيل: هو الصّلاح ويعني حبّ الإيمان. والرّاشدون: تدلّ على صفة الرّشد صفة ثابتة عندهم لا تتغير.

ص: 114

سورة الحجرات [49: 8]

{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} : أي هدايتهم وكونهم راشدين هو فضلٌ من الله ونعمة، أو رشدهم وتحبيب الإيمان لهم وتزيينه في قلوبهم، وكراهية الكفر والفسوق والعصيان هو كلُّه فضلٌ من الله: والفضل هو الزّيادة على ما يستحقّون من الأجر، وليس بواجب على الله تعالى وإنما هو فضل منه، ونعمة: وتعريف النّعمة: هي ما يهبه الله تعالى لعبده من خير يجلب له المسرّة أو يدفع عنه المضرّة.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} : بما يفعلونه ويقولونه ويكتمونه، عليم بذات الصّدور، وعليم: صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم.

{حَكِيمٌ} : في تدبير شؤون خلقه وكونه، فهو الحاكم وهو أحكم الحاكمين وهو أحكم الحكماء، وحكيم فيما يشرعه ويأمر به أو ينهى عنه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

ص: 115

سورة الحجرات [49: 9]

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِاءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} :

{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.

{طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : مثنى طائفة، والطائفة: جماعة من النّاس، والطّائفة: جماعة تطوف حول عقيدة أو مبدأ أو فكرة ما تجمعها.

{اقْتَتَلُوا} : همُّوا بالقتال أو باشروا القتال؛ أي: أفراد كلّ طائفة اقتتلوا مع أفراد الطائفة الأخرى، ولم يقل وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلتا بالتّثنية؛ لأنّ الأفراد هم الذين يقاتلون، والطائفة: اسم للجماعة التي تقاتل.

{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} : الفاء: رابطة لجواب الشرط. أصلحوا بينهما: بالوعظ والإرشاد والتّحكيم، أصلحوا ما فسد بالنّصح والدّعوة إلى حكم الله والعفو والغفران، وافعلوا ما تروه مناسباً لوقف القتال بإزالة الشّبهة وأسباب الخصام.

{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، بغت إحداهما على الأخرى: أي تعدّت؛ أي: تجاوزت الحد أو رفضت الصّلح ولم تُذعن لحكم الله والنّصيحة، والبغي في الأصل: هو أخذ حق الغير بالقوة والقهر والتَّعسُّف.

{فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى} : أي قاتلوا الطّائفة الباغية المعتدية بشتى الوسائل حتّى الوصول إلى الغاية وهي وقف القتال.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{تَفِاءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} : تفيء: ترجع إلى حكم الله تعالى إلى الحقّ والرُّشد والصّواب، أو إلى طاعة الله ورسوله وكفِّ القتال.

{فَإِنْ فَاءَتْ} : فإن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة، فاءت: رجعت إلى حكم الله ورضيت به.

{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} : بالحق؛ أي: احكموا بين الطّائفتين بالعدل وتحرُّوا حكم الله تعالى ورسوله.

{وَأَقْسِطُوا} : القِسط هو الحكم بالعدل وتطبيق الحكم، فمجرد الحكم بالعدل لا يكفي؛ أي: القول باللسان فلا بدّ من تنفيذ الحكم وتطبيقه (أي رفع الظّلم وتنفيذ الحكم).

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} : إنّ للتوكيد، يحب المقسطين: الذين يحكمون بالعدل وينفّذون العدل برفع الظّلم والجور عن النّاس. المقسطين: جمع مقسط، وصفة القسط فيهم ثابتة.

ص: 116

سورة الحجرات [49: 10]

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} : الإخوة إما تكون مبنية على النّسب والدّم، وإمّا تكون مبنية على الإيمان والعقيدة والدّين؛ أي: إخوة الدين والإيمان، فأخوّة الدّين والعقيدة أقوى وأدوم من أخوّة النّسب والدّم.

وتعني: إنما المؤمنون كالإخوة في التّراحم والدّين أو الدّم والنّسب.

{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} : إذا تنازعا أو اختصما.

{أَخَوَيْكُمْ} : خصّ الاثنين بالذّكر؛ لأنّهما أقل ما يقع بينهما الشّقاق.

{فَأَصْلِحُوا} : بالجمع؛ لأن الكل مسؤول عن الاشتراك في الصّلح بين الاثنين؛ لأنّ صلاح الجماعة أو القوم مبنيٌّ على صلاح الفرد، ولم يقل فأصلحا بينهما، وتخاصم الاثنين قد يجرّ إلى اتّساع رقعة الخصام لتشمل العائلة والقبيلة والطّائفة.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أطيعوا أوامر الله تعالى وتجنّبوا نواهيه وخافوا غضبه وسخطه وناره.

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : لعل للتعليل، ترحمون: إذا قدّمتم الأسباب مع تقواكم. ارجع إلى سورة الإسراء آية (8) للفرق بين لعلكم ترحمون ولترحموا وعسى ربكم أن يرحمكم.

وهل هناك فرق بين إخوة وإخوان:

كلمة أخ جمعها: إخوة وإخوان، فمن الناحية اللغوية قيل: لا فرق بينهما، أما في المعنى يبدو أن كلمة إخوة غالباً تستعمل في سياق النسب (الولادة) أو الدين أخوة في الدين. أما كلمة إخوان: تطلق على الأصدقاء أو قوم يجمعهم مبدأ واحد، وقيل: إن الكلمتين مترادفتان في المعنى، وقيل: إن كلمة إخوان: أعم وأشمل من إخوة، فتشمل الولادة والدين والصداقة معاً.

ص: 117

سورة الحجرات [49: 11]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} :

نداء جديد إلى الذين آمنوا بتكليف جديد وهو عدم السّخرية والتّنابز بالألقاب.

{لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} : لا النّاهية، يسخر قوم من قوم: من السّخرية، هي الازدراء والتّصغير والاحتقار، والعيب بالقول والفعل في وجه المسخور منه أو في حال غيابه، والسخرية: خاصة بالأشخاص، وأما الاستهزاء عام في الأشخاص وغير الأشخاص.

قوم من قوم: القوم في هذه الآية هم الرّجال دون النّساء، والقوم: الجماعة الكثيرة التي قد تكون بينها نوع من القرابات؛ قوم من قوم: نكّر القوم؛ لتشمل أيَّ قوم مهما كانوا أغنياء أو فقراء أو أقوياء أو ضعفاء.

{عَسَى} : من أفعال الرّجاء للفعل المرجو حصوله في المستقبل البعيد أو القريب.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.

{يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} : عند الله منزلة ودرجة في التقوى أو الصّلاح أو الإيمان أو الأخلاق والدّين، وقوله:(لا يسخر قوم من قوم) ولم يقل رجلٌ من رجل؛ لأنّ السّاخر لا يكون وحيداً فهناك من يشاركه في سخريته بالضّحك أو التّلهّي واللغو والإشاعة، فلا يكاد يكون منفرداً في سخريته إلا نادراً بل يشاركه الكثير من النّاس وعليهم من الإثم والذّنب ما عليه.

{وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} : ولا النّاهية، نساء من نساء: نكرة أيّ نسوة، فالنّساء والرّجال هم سواء في حكم تحريم السّخرية، فلا يحلّ للمؤمنة أن تسخر من أختها المؤمنة.

{عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} : كما ورد في مطلع الآية عسى أن يكون خيراً عند الله منزلة، وحين خاطب الذين آمنوا فهو يشمل الرجال والنساء ولكنه عاد وأكّد بذكرهن.

{وَلَا} : تكرار حرف (لا) يفيد توكيد النّفي، وفصل السّخرية عن اللمز.

{تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} : اللمز العيب أو الطّعن فلا يعِبْ بعضكم بعضاً بالقول أو الإشارة أو الفعل، ويتميز اللمز بالعلن أو الحضور بعكس الهمز الذي يتميز بالطعن بالغيب، أو عدم حضور المطعون فيه.

{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} : سواء كان اللقب محبوباً أو مكروهاً، التّنابز: التّعاير والتّداعي كأن يقول: يا فاسق أو يا كافر، أو يا قصير أو يا طويل.

{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} : بئس: من أفعال الذّم؛ أي: بئس أن يلقّب المسلم المؤمن بلقب الفسق كأن يقال له: يا منافق أو يا يهودي أو يا فاسق.

{وَمَنْ لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : ومن لم: من شرطية، لم النّافية، يتب: يكفّ ويتوقف عن السّخرية من المؤمنين ومخاطبتهم بألقاب لا تليق بالمؤمن وعمّا نهى الله عنه.

فأولئك: الفاء للتوكيد، أولئك: اسم إشارة واللام للبعد.

هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد.

الظّالمون: لأنفسهم بتعريضها للعذاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (54) لمعرفة معنى الظلم.

ص: 118

سورة الحجرات [49: 12]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد أو حكم آخر.

{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} : الاجتناب هو الابتعاد، والاجتناب أشد من التّحريم وهو عدم الاقتراب من الأمر المحرّم؛ أي: ابتعدوا عن سوء الظن بأيّ مؤمن أو بأهل الخير، والظنّ السيّئ يعدّ إثماً ويجب تجنبه مثل حديث الإفك والظّن السيّئ بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو الظّن الذي لا يستند إلى دليل وبرهان.

{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} : هناك القليل من الظّن المباح أو الغير محرم أو الظن الحسن، وقوله:(إنّ بعض الظن إثم): البعض هنا يعني: الكثير المأمور باجتنابه.

أمّا أهل السّوء والفسق فإذا ظهر منهم القبيح والسّوء والفسق، فلا يدخل ذلك تحت الظّن المحظور.

{وَلَا تَجَسَّسُوا} : التّجسس: هو البحث في الخفاء والتستر لكشف أمراً ما غالباً ما يكون في الشر مثل: تتبّع عورات المسلمين أو البحث عن عيوبهم ثم كشفها للآخرين أو الحديث عنها، أو التجسس على العدو لمعرفة عدده وعدته

وغيرها.

{وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} : الواو عاطفة، لا النّاهية.

يغتب: من الغيبة وهي كما عرّفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة (قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذكرُك أخاك بما يكره.

قال: وإن كان في أخي ما أقول؟ قال: وإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهَتَّه) (أي قلت فيه بهتاناً؛ وهو الكذب والباطل المثير للدهشة).

{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} : أيحب: الهمزة للاستفهام الإنكاري، أحدكم: أي منكم.

{يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} : استعارة أو تشبيه المغتاب الذي يغتاب أخاه بمن يأكل لحم الإنسان الميت، مما يدل على بشاعة عمله. ومَيْتاً: جاءت بسكون الياء التي تدل على الموت الحقيقي قد حصل، والميت مات فعلاً، ولو جاءت بتشديد الياء: لدلت على أن الميت لم يمت بعد لا زالت روحه لم تغادر جسمه.

{فَكَرِهْتُمُوهُ} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر.

أي: كما يمتنع أحدكم ويكره أن يأكل لحم أخيه ميتاً، كذلك يجب أن يمتنع عن غيبة أخيه سواء كان حياً أو ميتاً.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أي امتثلوا أوامره وتجنّبوا نواهيه؛ لكي تتجنّبوا غضبه وسخطه وناره.

{إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} : إن الله: للتوكيد.

{تَوَّابٌ} : أي كثير قبول التّوبة، يقبل توبة كل عبد من خلقِه من آدم إلى آخر مخلوق، ومهما كان عددهم وعدد توباتهم فلا يردّ توبة تائب إذا آمن به وتوفرت أركان التّوبة.

{رَحِيمٌ} : لكونه لا يعاقب على الذنب والإثم مباشرة، ولكن يؤخّر العقاب؛ لعلّ العاصي يتوب وبالتّالي يعفو عنه ويغفر له.

ص: 119

سورة الحجرات [49: 13]

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} :

نداء عام إلى النّاس كافة استعمل فيها ياء النداء، والهاء للتنبيه، وكلمة (الناس) مشتقة من النّوس؛ أي: كثرة الحركة.

{إِنَّا} : للتعظيم.

{خَلَقْنَاكُم مِنْ} : ابتدائية استغراقية.

{مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} : أي من آدم وحواء، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ليبقى الله سبحانه متفرداً بالوحدانية، فالكل سواء في الأصل (في الخلق) فلا داعي للتفاخر بالأنساب والألقاب، أو العِرق أو اللون.

{وَجَعَلْنَاكُمْ} : الجعل يتمّ بعد الخلق.

{شُعُوبًا} : جمع شعب، والشّعب: جمع قبائل أو جمع عظيم تجمعه وحدة الوطن (الأرض أو اللغة والتّاريخ) بغير النظر إلى العدد والحيز الجغرافي.

{لِتَعَارَفُوا} : اللام لام التّعليل.

لتعارفوا: والتّعارف يؤدي إلى التّعاون التّجاري والصّناعي والسّياحي وكل مجالات التّعاون.

{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} : إن للتوكيد، أكرمكم عند الله: أي أرفعكم عند الله منزلة أو أشرفكم، أتقاكم: والتقوى تكون بامتثال أوامر الله سبحانه وتجنّب النّواهي، وليس أكرمكم بالأحساب أو الأنساب فالفقير إذا كان تقياً قد يكون أكرم وأفضل عند الله من أغنى الأغنياء على الأرض إذا لم يكن الغني تقياً.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} : إن للتوكيد، عليم: بما تفعلونه وتقولونه، عليم بتقواكم وعليم بظواهركم، وعليم صيغة مبالغة: كثير العلم.

خبير: ببواطن الأمور والأسرار.

ص: 120

سورة الحجرات [49: 14]

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْـئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

أسباب النّزول: قيل: نزلت هذه الآية في أعراب بني أسد الذين قدموا المدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مُجدبة، فأظهروا الإسلام طمعاً في الصدقات أو المغانم ولم يكونوا مؤمنين حقاً وكانوا يمنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم قتاله.

وقيل: نزلت هذه الآية في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار، الذين قالوا: آمنا بالله؛ ليأمنوا على أنفسهم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّوا عنه ولم يخرجوا معه، وهم الذين قالوا:{شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11].

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} : أنّث كلمة (قال) بإضافة تاء التّأنيث التي تدل على الكثرة؛ أي كثرة الأعراب الذين أسلموا؛ أي: دخلوا في الإسلام وادَّعوا الإيمان، ولم يقل قال الأعراب التي تدل على القلة.

فردّ الله تعالى عليهم: {قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تؤمنوا؛ أي: لا يكفي القول باللسان: آمنّا؛ لأن الإيمان لم يصل بعد ويستقر في قلوبكم أو يتمكّن الإيمان في قلوبكم.

{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} : ولكن حرف استدراك وتوكيد.

قولوا أسلمنا: أسلمنا لها معانٍ عدّة: الشهادة: القول لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو أسلمنا: معناه الاستسلام والخضوع خوفاً من القتل أو الإسلام باللسان (بالقول) فقط وعدم موافقة القلب كما يفعل المنافقون.

{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ} : لما حرف نفي تدل على استمرار النفي إلى زمن نزول هذه الآية أو وقت هذا الكلام.

ومن أسلم بلسانه ولم يؤمن بقلبه فهو منافق، وقد بيّن في الآية (15) حقيقة الإيمان ومعنى الصّدق في الإيمان.

{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : وإن شرطية تفيد الاحتمال أو النّدرة، تطيعوا الله ورسوله: وحّد طاعة الله تعالى وطاعة رسوله. ارجع إلى سورة النساء آية (59) للبيان.

{لَا يَلِتْكُم} : لا النّافية، يلِتْكم: من ألت يألت: أنقص: لا ينقصكم.

{مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْـئًا} : مِنْ ابتدائية؛ أي: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً ولو كان مقدار حسنة، وأما النفاق فهو يحبط أعمالكم.

{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.

{غَفُورٌ} صفة مبالغة من غفر، وغفر: ستر، والسّتر يؤدي إلى المحو وعدم المعاقبة على الذّنب، وغفور يغفر الذّنوب العِظام مهما عظمت، وأمّا الغفار: يغفر الذّنوب مهما كثرت وتعدّدت.

{رَحِيمٌ} : على وزن فعيل: كثير الرّحمة لعباده المؤمنين ودائم الرّحمة، وأمّا رحمان: فهو متجدد الرّحمة لا يعجل بالعقوبة أو بالعذاب. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (3).

ص: 121

سورة الحجرات [49: 15]

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} : إيماناً خالصاً هو الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً لا ريب فيه.

{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} : ثم للتوكيد، لم النّافية، يرتابوا: من الرّيبة وهو الشّك والتّهمة؛ أي: لم يشكّوا في دينهم أو يتّهموا أحداً.

{وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : والجهاد هو محاربة العدو لإعلاء كلمة الله تعالى ونصر دينه ويكون بالأموال والأنفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.

{هُمُ} : للتوكيد، أي إذا كان هناك صادقون فهم الصّادقون حقاً.

{الصَّادِقُونَ} : في إيمانهم ودعواهم. الصادقون: جملة اسمية تدل على ثبوت صدق إيمانهم.

ص: 122

سورة الحجرات [49: 16]

{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{أَتُعَلِّمُونَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.

{أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} : أتعلمون مشتقة من: علّم وأعلم؛ أي: عَرف أو أخبر؛ أي: أتنبِّؤن الله بإيمانكم؟! أي هو سبحانه يعلم ما أنتم عليه من الإيمان والإسلام، وما نوع إسلامكم ونواياكم.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ} : والله: تقديم الفاعل (اللهُ) على الفعل (يعلم) للاهتمام. يعلم ما: ما أوسع شمولاً من (الذي)؛ تشمل كلّ شيء العاقل وغير العاقل. في: ظرفية.

{السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : من مخلوقات، وأحداث ونوايا، وأقوال وأفعال وتطورات وموت وحياة وكل شيء وحركة وتحول.

{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : لا يخفى عليه شيء ولا يعزُب عن علمه شيء.

ص: 123

سورة الحجرات [49: 17]

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ} : يعدّون إسلامهم منّةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: يمنُّون عليك إسلامهم؛ أي: يذكرون لك أنّهم أسلموا على وجه التّفضُّل عليك أو الصّدقة عليك؛ أي: كأنهم يتصدقون عليك بإسلامهم.

{قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَامَكُم} : قل لهم يا محمّد: لا تتفضّلوا عليَّ بإسلامكم؛ لأن نفع وفائدة إسلامكم يعود عليكم وليس علي؛ أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} : بل للإضراب الانتقالي؛ أي: والله وحده له المنَّة والفضل.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتوكيد على إسلامهم.

{هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} : وفّقكم وأرشدكم إلى الإيمان كما تزعمون وتقولون: آمنّا.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية، كنتم صادقين في ادّعائكم الإيمانَ، فلله المنَّة جميعاً، وقد تعني: إنكم غير صادقين في دعواكم.

ص: 124

سورة الحجرات [49: 18]

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد. الله: الاسم الأعظم الدال على الذات الإلهية الذي تفرّد به الحق واختصّه لذاته وقدّمه على سائر الأسماء، وهو الاسم الجامع لجميع الصفات الإلهية.

{يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الغيب: مصدر غاب، الغيب: كل ما لا يظهر ويُرى للعيان ولا يُدرك بالحواس؛ أي: سبحانه يعلم بكل ما يجري في السّموات والأرض من السّر والعلن من قول وفعل، ويعلم الذين آمنوا ويعلم الكاذبين، وعليم بذات الصّدور، وكل النّوايا والمقاصد والدّوافع والأطماع، يعلم بذلك قبل أن تقع ومنذ الأزل.

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : والله مطَّلع ويرى كل أعمالكم.

بما: الباء للإلصاق والملازمة، ما: بمعنى الذي أو مصدرية، و (ما) أوسع شمولاً من (الذي)؛ تشمل كل شيء.

تعملون: في الدّنيا، وتعملون: تضم الأقوال والأفعال، تعملون من خير أو شر. وقدّم كلمة (بصير) على كلمة (تعملون) ولم يقل والله بما تعملون بصير؛ لأنّ السّياق عن الغيب وصفات الله تعالى وقدرته سبحانه.

ص: 125

سورة ق [50: 1]

سورة ق

ترتيبها في القرآن (50) وترتيبها في النّزول (34).

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} :

{ق} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان.

{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} : الواو: واو القسم، يقسم الله سبحانه بالقرآن المجيد (المقسم به)، والله سبحانه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهو سبحانه غني عن القسم، ويشير إلى أهمية الأمر المقسم به وجواب القسم.

{الْمَجِيدِ} : الرفيع القدر والشّأن والشّرف لا يعلوه شيء، والمجيد، يعني: السّعة في المعاني والأوصاف والمجيد، يعني: كذلك كثير الخير والكرم والبركة، قراءة حرف واحد بعشر حسنات، وجواب القسم محذوف للتوسع في المعنى والتعظيم، وليشمل على كل ما يدور في الفكر مثل البعث والحساب، وقيل: جوابه {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} (الآية: 4)، وقيل:{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى} [آية: 37].

ص: 126

سورة ق [50: 2]

{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} :

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي، من القسم بالقرآن المجيد إلى العجب. أو بل إضراب إبطالي: لم يقبلوا (أبطلوا) كونك منذراً لهم، بل عجبوا.

{عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} : عجبوا من عجب والعجب استعظام الشيء لخفاء سببه. والعجيب: الطريف.

أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

جاءهم منذر منهم: من قريش أو من العرب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذر: من الإنذار هو الإعلام والتّخويف والتّحذير، ينذرهم بالبعث والحساب والجزاء، ينذر المكذبين بدين الله والقرآن وبرسوله صلى الله عليه وسلم.

{فَقَالَ} : الفاء: قد تكون فاء السببية؛ أي: ما قبلها يصلح لأن يكون لما بعدها، وقد تدل على المباشرة والتعقيب.

{الْكَافِرُونَ} : كفار قريش.

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يفيد القرب. ويشير إلى مجيء المنذر منهم.

{شَىْءٌ عَجِيبٌ} : هذا شيء عجيب.

لنقارن هذه الآية (2) من سورة ق، وهي قوله تعالى:{هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} ، مع الآية (72) من سورة هود، وهي قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} ، مع الآية (5) من سورة (ص)، وهي قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} .

سورة (ق) قال: {شَىْءٌ عَجِيبٌ} ، وفي هود قال:{لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} ، وفي (ص) قال:{لَشَىْءٌ عُجَابٌ} .

سورة هود قال: {إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} : أكد بإضافة إن واللام.

سورة (ص) قال: {إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} : أكد بإضافة إن واللام، وبدل كلمة عجيب بعجاب.

السّبب: أنّ آية (ق) جاءت في سياق {أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} فهذا أمر عجيب فلم يؤكد، أما في آية هود فجاءت في سياق الولادة، وهي عجوز وبعلها شيخ؛ فهذا أكثر عجباً من مجيء المنذر، فلذلك أكد بإن واللام:{أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا} ، أما آية (ص) فجاءت في سياق الإشراك بالله والآلهة، وهذا منتهى العجب، وهي اتخاذ الأصنام آلهة، فقال:{إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} فأكد بإن واللام، وأبدل كلمة عجيب بعجاب.

ص: 127

سورة ق [50: 3]

{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} :

{أَإِذَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّعجب، إذا ظرفية تفيد الحتمية.

{مِتْنَا} : بكسر الميم، أيْ: موت عادي طبيعي. ولو ضم الميم فقال: أإذا مُتنا: لكان موتاً غير عادي مثل الموت في سبيل الله، وهذا من خصائص القرآن. ارجع إلى سورة آل عمران آية (157) للبيان.

{وَكُنَّا تُرَابًا} : بعد الموت والتّحول إلى تراب في القبور. ولم يقل: تراباً وعظاماً حذف العظام، واكتفى بذكر التراب الدال على كلاهما.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى التّحول إلى تراب.

{رَجْعٌ بَعِيدٌ} : رَجْعُ: مصدر لفعل رجع؛ أي: رجوع مستبعد بعيد عن التّصديق والإدراك والفهم أن يعاد الإنسان إلى الحياة مرة ثانية للحساب والجزاء بعد أن تحول إلى تراب.

ص: 128

سورة ق [50: 4]

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} :

{قَدْ} : للتحقيق والتّوكيد.

{عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} : أيْ: علمنا ما يموت منهم ويدفن في الأرض على مر الأيّام والسّنين أو الدّهر.

{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} : قيل: هو اللوح المحفوظ: حفيظ يحفظ عددهم وأسماءَهم وأعمالهم سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، محفوظ من التّغيير والتّبديل وتنكير الكتاب (كتاب) للتعظيم.

ص: 129

سورة ق [50: 5]

{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَرِيجٍ} :

{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.

{كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} : بالقرآن، وقيل: بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، أو كلاهما، والباء للإلصاق والملازمة أو المصاحبة.

{لَمَّا جَاءَهُمْ} : لما ظرفية زمانية أو مكانية؛ أي: كذبوا لما جاءهم مباشرة بمجرَّد تبليغهم من غير تفكير ولا تدبُّر.

{فَهُمْ} : الفاء للتوكيد، هم لزيادة التّوكيد.

{فِى أَمْرٍ مَرِيجٍ} : مضطرب مختلط عليهم مرة يقولون: ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون، ثمّ يذكر الله سبحانه أدلة قدرته وعظمته على الخلق والبعث.

ص: 130

سورة ق [50: 6]

{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} :

{أَفَلَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، الفاء للتوكيد، لم للنفي.

{يَنظُرُوا} : نظرة بصرية (عينية) وفكرية، ينظروا بصيغة المضارع لكي تحثهم على إعادة النّظر إلى السماء المرات الكثيرة وليس مرة واحدة.

{إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} : فوقهم: تحتمل المسافة بينهم وبين السماء؛ فوقهم قريبة أو بعيدة، ولو قال: من فوقهم يعني: ليس هناك بينهم وبين السماء فوقهم أي فاصل؛ كيف: للاستفهام؛ أي: السؤال عن الحال؛ بنيناها: أيْ: رفعناها بغير عمد يرونها. ارجع إلى سورة الرعد آية (2)، وسورة الذاريات آية (47) للبيان.

{وَزَيَّنَّاهَا} : بالكواكب والنّجوم والشّمس والقمر. ارجع إلى سورة فصلت آية (12)، وسورة الصافات آية (6)، وسورة الملك آية (5) للبيان.

{وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} : ما النّافية، لها: أيْ: للسماء، من استغراقية، فروج: شقوق، جمع فرج وهو الشّق بين الشّيئين، والمراد بالآية سلامة السّماء من كلّ عيب. ارجع إلى سورة الملك (تبارك) آية (3) للبيان.

فالكون ليس فيه فراغ بين أجرامه، فكل طبقاته مليئة بالمادة والطاقة والغازات، فلا يوجد فيه منطقة فراغ، أيْ: فروج فوقهم سواء كان الفاصل قريباً أو بعيداً.

ص: 131

سورة ق [50: 7]

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} :

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} : بسطناها طولاً وعرضاً إلى ما يُرى منتهاه رغم أن الأرض كروية (بيضاوية).

{وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ} : الجبال وما تحت البحار من الألواح القارية وغيره. ارجع إلى سورة النحل آية (15) لمزيد من البيان، وسورة الحجر آية (19)، وذكرت الرواسي في تسع آيات في القرآن هي: الرعد، والحجر، والنحل، والأنبياء، والنمل، ولقمان، وفصلت، وق، والمرسلات.

{وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ} : أنبتنا: للتعظيم أو الجمع لأن البعض يشارك في عملية الزرع والحرث والسقي. فيها: في الأرض، من: استغراقية.

{كُلِّ} : للتوكيد.

{زَوْجٍ بَهِيجٍ} : زوج صنف من أصناف النّباتات، بهيج: حسن المنظر يسر الناظرين كالأزهار والورود، وأما حين يقول: الزّوج الكريم فهو الصّنف البالغ في الجودة وكثير النّفع والبركة. فهناك من النباتات ما هو للمنظر ومنها ما هو للأكل مثل الفواكه.

ووردت زوج بهيج في آيتين من هذه الآية، والآية (5) من سورة الحج.

ووردت زوج كريم في آيتين الشّعراء الآية (7) ولقمان الآية (10).

ص: 132

سورة ق [50: 8]

{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} :

أي: الأرض مددناها وألقينا فيها وراسي وأنبتا فيها من كل زوج بهيج كلّ ذلك.

{تَبْصِرَةً} : أيْ: لنُري عبادنا قدرتنا على الخلق والبعث، يبصرها كل مؤمن وكل كافر وكلّ جاهل بعظمة الله وقدرته أو من عنده بصيرة.

{وَذِكْرَى} : تذكرة أو تذكير.

{لِكُلِّ} : اللام لام الاختصاص، كلّ للتوكيد، أيْ: ينتفع بهذه التّبصرة والتّذكرة كلّ عبد منيب.

{عَبْدٍ مُنِيبٍ} : عبد كثير الإنابة، والإنابة السّرعة في التّوبة والرّجوع إلى الله تعالى والاستغفار لكلّ عبد يفكر في قدرة الله، ويرجع إليه ويشكره ويحمده ويعبده ولا يشرك به.

ص: 133

سورة ق [50: 9]

{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} :

{وَنَزَّلْنَا} : للتعظيم وتدل على كثرة النّزول. أما لو قال: أنزلنا فتدل على الإفراد.

{مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : أيْ: من السّحاب، والسّحاب تسمَّى السّماء؛ لأن تعريف السّماء هو كلّ ما علاك والسّحب تعلونا، فيمكن تسميته بالسّماء؛ أي:(السحب الركامية).

{مَاءً مُّبَارَكًا} : أيْ: ماء المطر (الغيث) كثير المنافع والبركة. فالله سبحانه يبخر كل سنة حوالي (500، 000) كم3 من ماء البحار والمحيطات ويبخر (100، 000) كم3 من اليابسة؛ لكي ينقي ويطهر هذه الكميات من الماء؛ لأنها لو بقيت راكدة على سطح الأرض لفسدت، وامتلأت بالجراثيم والطين والقاذورات فحين يبخرها ويحركها فهو يطهرها وينقيها من الأملاح والبكتريا بأشعة الشمس، ثم يعيدها إلى الأرض. أكثر من (165، 000) كم3 بزيادة (65، 000) تلعب دوراً مهماً في السقي وتلطيف المناخ، وتركيز المعادن وفي الإنبات والزائد منها يفيض إلى البحار والمحيطات.

{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} : ارجع إلى الآية (7)، به: بماء المطر.

جنات: حدائق وبساتين ذات ثمر وبهجة.

وحب الحصيد: الحصيد؛ أي: المحصود مثل القمح والذرة والرز والشعير وغيرها.

ص: 134

سورة ق [50: 10]

{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} :

{وَالنَّخْلَ} : اسم جنس، وأنبتنا النّخل.

{بَاسِقَاتٍ} : جمع باسقة، وأنث باسق من فعل بسق، والبسوق هو الطّول، أيْ: طوالاً في السّماء.

{لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} : منضود مركب بعضه فوق بعض، والمراد به كثرة ثمره. ارجع إلى سورة الأنعام آية (99) لمزيد من البيان.

ص: 135

سورة ق [50: 11]

{رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} :

{رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} : إنزال الماء وإنبات الجنات وحب الحصيد والنّخل وغيره؛ ليكون رزقاً وقوتاً للعباد.

{وَأَحْيَيْنَا بِهِ} : للتعظيم بالماء، الماء المبارك.

{بَلْدَةً مَّيْتًا} : بتشديد الميم تدل على الأرض أنّها كانت حية فماتت، بسبب انقطاع الماء، أيْ: هي أرض صالحة للزراعة إذا توافر لها الماء من جديد. وأما إذا جاءت الميم بالفتح بدون تشديد: تدل على الأرض التي ماتت منذ زمن طويل، وأعيد أحياؤها من جديد.

{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} : أيْ: كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك تخرجون من القبور. ارجع إلى الآية (19) من سورة الروم للبيان.

والفرق بين الخروج وتخرجون: الخروج: مصدر يدل على اسم الحدث، والإخراج أو تخرجون هو الحدث.

ص: 136

سورة ق [50: 12]

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} :

{كَذَّبَتْ} : ولم يقل: كذب قبلهم، كذبت (تاء التأنيث) تدل على الكثرة، وكذب تدل على القلة، أيْ: كثرة الأمم التي كذبت رسلها.

{قَبْلَهُمْ} : أيْ: كفار مكة.

{قَوْمُ نُوحٍ} : كذبوا نبيهم نوح عليه السلام.

{وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} : أصحاب البئر، اختلفت الرّوايات فيها وأفضل ما قيل فيهم أنّ نبيَّهم هو حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه. وقيل: هم قوم باليمامة. ارجع إلى سورة الفرقان آية (38) لمزيد من البيان.

{وَثَمُودُ} : قوم صالح كانوا يسكنون الحجر، كذبوا نبيَّهم صالحاً عليه السلام. ارجع إلى سورة الأعراف آية (73 ـ 79) وسورة هود آية (61 ـ 68).

ص: 137

سورة ق [50: 13]

{وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} :

{وَعَادٌ} : وكذبت قوم عاد نبيَّهم هوداً. ارجع إلى سورة هود آية (50 ـ 60).

{وَفِرْعَوْنُ} : كذبوا رسولهم ونبيَّهم وهو موسى عليه السلام. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) للبيان.

{وَإِخْوَانُ لُوطٍ} : كلمة أخ تجمع على إِخوة وإِخوان، إِخوة تأتي أو تستعمل في النّسب، وتأتي في سياق إِخوة في الدّين أو الإيمان، وأُخوَّة الدّين أقوى من أُخوَّة النّسب، وإخوان تدل على قوم اجتمعوا على مبدأ واحد خيراً كان أو شراً، وإخوان لوط، ولم يقل: قوم لوط؛ لأن كلمة القوم قد تعني: الذكور والإناث، أما إخوان لوط؛ أي: الذكور؛ أي: خاصة بالذكور الذين يأتون الذكور (أي: الفاحشة). ارجع إلى سورة الحجرات آية (10) للمزيد في معنى إخوة وإخوان.

ص: 138

سورة ق [50: 14]

{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} :

{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} : الغيضة الكثيفة الملتفة الشّجر وهم قوم شعيب كذبوا شعيباً عليه السلام. ارجع إلى سورة الحجر آية (78 ـ 79) للبيان.

{وَقَوْمُ تُبَّعٍ} : تبع الحميري من ملوك اليمن أسلم ودعا قومه للإسلام فكذبوه. ارجع إلى سورة الدخان آية (37) للبيان.

{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} : أيْ: كلّ واحد على حدة من هؤلاء كذب الرّسل، ولم يقل: كذبوا رسولهم؛ لأنهم حين يكذبوا رسولهم كأنّهم يكذبون كلّ الرّسل، فمن يكذب برسول كأنّه يكذب بكلّ الرّسل؛ لأن كلّ الرسل يحملون نفس الرّسالة وهي الإيمان بالله وحده وامتثال أوامره وتجنب نواهيه، ولم يقل: كل كذبوا الرسل، وقال: كل كذب؛ لأنهم لم يكونوا مجتمعين معاً، وكان كل قوم على حدة، وفي أزمان مختلفة.

{فَحَقَّ وَعِيدِ} : الفاء للتوكيد، حق: وجب وحل وعيد: بنزول العذاب بمن كذبوا رسلهم.

وإذا قارنا هذه الآية (14) من سورة (ق) وهي قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} والآية (14) من سورة (ص) وهي قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} ، العقاب أشد من الوعيد فالمخاطبون في حق عقاب أشد كفراً وعصياناً وإنذاراً من المخاطبين في حق وعيد، وإذا كان المخاطبون في الآيتين هم كفار قريش، فيدل على أنّ آية (ق) جاءت بالوعيد، فلما ازداد كفرهم وعصيانهم نزلت آية (ص) حق عقاب، وهذا يدل على أن سورة (ق) نزلت قبل سورة (ص)، ولو نظرنا في ترتيب نزول السور لوجدنا أن سورة (ق) ترتيبها في النزول (34) وسورة (ص) ترتيبها في النزول (38).

ص: 139

سورة ق [50: 15]

{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} :

{أَفَعَيِينَا} : الهمزة للاستفهام التّوبيخي لمنكري البعث والحساب، أفعيينا من الإعياء، أي: العجز وهو انقطاع أو ضعف القوة.

{بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} : أفعجزنا عن بدء الخلق حتّى نعجز عن إعادته. وما دمنا لم نعيَ في بدء الخلق، فلن نعيى في إعادة الخلق، بل هو أهون علينا، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

{بَلْ هُمْ} : بل: للإضراب الإبطالي، أيْ: لم نعيَ أو ما عيينا بالخلق الأوّل: أيْ: كما خلقناهم أول مرة قادرين على إعادة خلقهم مرة ثانية. ضمير فصل يفيد التّوكيد ترجع إلى منكري البعث والحساب.

{فِى لَبْسٍ} : لبس: حيرة وشك أو خلط، لا داعي له؛ لأنّ الإعادة هي أهون من الابتداء إن كانوا يعقلون. والله سبحانه ليس عنده أمر صعب وأمر هين، إنما يخاطب الناس على قدر عقولهم فالكل عنده هيِّن.

{مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} : أي: هم في حيرة وشك من خلق جديد، وهو البعث وليس الخلق الأول؛ لأنه سبحانه قال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].

سورة (ق)[الآيات 16 - 35]

ص: 140

سورة ق [50: 16]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} :

{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، اللام للتوكيد، قد للتحقيق أي تحقق ذلك.

{خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} : بصيغة الجمع للتعظيم، الإنسان: اشتق هذا الاسم من الأُنس: الأُلفة: خلاف النفور، أيْ: يأنس به بنو جنسه أو يأنس بصاحبه ومن كونه يُرى أو ظاهر بخلاف الجن.

{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} : أيْ: نعلم ما تحدثه به نفسه ما يخطر على باله والوسوسة هي الصّوت الخفي، ما: بمعنى الذي وما أوسع وأشمل من الذي تشمل كل شيء وأمر، أو ما مصدرية.

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} : أيْ: نحن أقرب إليه من حبل الوريد: الوريد الوداجي في العنق (في كل جانب)، ولكل إنسان وريدان، والقرب يكون بعلمنا.

ص: 141

سورة ق [50: 17]

{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} :

مع علم الله سبحانه بما توسوس به كل نفس وكلَّ به ملكين من الملائكة يكتبان كل ما يقوله ويعمله، ويحفظان أعماله لإقامة الحُجَّة عليه يوم الحساب ويشهدان عليه أو له يوم القيامة.

{إِذْ} : ظرف زماني ومكاني.

{يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} : مثنى المتلقي، أي: الملكان، يتلقى: كل منهما ما يقول وما يفعل الإنسان الموكلان به بالكتابة والحفظ في سجل أعماله.

{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} : قعيد على وزن فعيل وقعيد صفة مبالغة، أيْ: ملازم مكانه لا يفارقه، ولم يقل: قاعدان، حذف الثاني لدلالة الأول عليه. قعيد واحد عن اليمن وواحد عن الشّمال.

ص: 142

سورة ق [50: 18]

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} :

{مَا يَلْفِظُ مِنْ} : ما النّافية، من استغراقية تشمل أيَّ قول.

{قَوْلٍ} : قيل: يكتبان ما يؤجر عليه أو يؤزر عليه، أيْ: فقط الحسنات والسّيئات. أو يكتبان كل ما يقوله أو يلفظه بلسانه من خير وشر.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} : لديه: ظرف مكاني، رقيب: يراقب قوله وعمله ويكتب ذلك ويمتاز بالعلم والإحاطة ولا يخفى عليه شيء، عتيد: عتيد بمعنى حاضر مهيأ للكتابة سواء كانت خيراً أو شراً، ولا يغيب عنه إلا حين قضاء الحاجة أو الجماع أو العُري.

رقيب عتيد: صفة لكلّ ملك، أيْ: كلاهما رقيب عتيد، ولا يعني أنّ أحدهما رقيب والآخر عتيد، كما يظن البعض؛ أحدهما موكل بكتابة الحسنات، والآخر موكل بكتابة السيئات.

ص: 143

سورة ق [50: 19]

{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} :

المناسبة: بعد كتابة أقواله وأفعاله والاستمرار في ذلك حتّى تأتي سكرة الموت.

{وَجَاءَتْ} : الواو استئنافية، جاءت: بصيغة الماضي كأنّها جاءت وانتهت؛ لأنّ الزّمن عند الله سبحانه واحد الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنه سبحانه خالق الزمان والمكان.

{سَكْرَةُ الْمَوْتِ} : شدته وهوله التي تذهب بالعقل.

{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق والملازمة، والحق: هو الأمر الثّابت الذي لا يتغير ولا يتبدل. وهو {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

{ذَلِكَ} : اسم إشارة تعود على الموت واللام للبعد.

{مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} : المخاطب غير معين، أو الخطاب لكل سامع؛ كنت في الدّنيا، تحيد: تفر منه وتهرب وتتجنب سماعه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].

ص: 144

سورة ق [50: 20]

{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} :

وبعد سكرة الموت والبرزخ يأتي زمن النّفخ في الصّور، النّفخة الثّانية نفخة البعث والقيام.

{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} : النّافخ هو إسرافيل عليه السلام وينفخ في الصّور: وهو القرن.

{ذَلِكَ} : النّفخ في الصور يشير إلى يوم الوعيد يوم البعث يوم القيامة الوعيد الذي كانوا يوعدون.

{يَوْمُ الْوَعِيدِ} : يوم العذاب الذي وعد الله الكفار به.

ص: 145

سورة ق [50: 21]

{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} :

{وَجَاءَتْ} : من المجيء وفيه معنى المشقة والصّعوبة وجاءت كل نفس في ذلك اليوم الذي: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17].

{كُلُّ نَفْسٍ} : مؤمنة أو كافرة.

{مَعَهَا سَائِقٌ} : الملك، قيل: هو الذي يكتب السّيئات يسوقها إلى أرض المحشر.

{وَشَهِيدٌ} : قيل: الذي يكتب الحسنات، أو هو ملك واحد يسوقها ويشهد عليها. شهيد: صيغة مبالغة، أيْ: يعلم ظواهر وبواطن الأمور الخاصة بمن يشهد له أو عليه، ولم يقل شاهد؛ الذي هو أقل شهادة من الشهيد.

ص: 146

سورة ق [50: 22]

{لَّقَدْ كُنْتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} :

{لَّقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.

{كُنْتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} : كنت في الدّنيا المخاطب هنا المؤمن والكافر والفاجر والصالح كنت مشغولاً عن هذا اليوم أو غير مستعد له منهمكاً في ملذات الدّنيا وشهواتها.

قال تعالى: في غفلة من هذا، ولم يقل: عن هذا، جاء بمن ابتدائية، أيْ: كان غافلاً من نفسه فهو مبدأ الغفلة، ولم يكن هناك ما يُغفله عن الموت؛ لأنه يرى الأموات كلَّ يوم.

{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} : الفاء عاطفة تفيد المباشرة، فكشفنا لك عملك لتراه، أو أزلنا عنك الغفلة التي غطت عينيك في الدّنيا. شبه الغفلة كأنها غطاء غطَّى بها حواسه. ارجع إلى سورة البقرة آية (74) لمزيد من البيان في الغفلة.

{فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} : اليوم: يوم القيامة، لم تعد غافلاً، فهذا بصرك اليوم قوي وحاد تبصر به كل شيء كنت غافلاً عنه في الدّنيا أو تنكره أو لا تصدقه. أيْ: يرفع ويكشف ذلك الغطاء غطاء الغفلة، كما يُرفع غطاء النوم عن الإنسان.

ص: 147

سورة ق [50: 23]

{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} :

{وَقَالَ} : الواو واو الحالية للتوكيد.

{وَقَالَ قَرِينُهُ} : القرين: يعني المصاحب، كما ورد في سورة الصافات آية (51) وهي قوله تعالى:{قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ} هذا من الإنس، وأما في سورة الزخرف آية (36) وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فهذا القرين من الجن؛ أيْ: شيطانه في الدنيا الذي قُيض له، والقرين: هو الصاحب الضار الذي لا خير فيه. وقد يكون من الجن أو من الإنس كما قلنا.

فيقول الشيطان:

{هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} : هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب، ويشير إلى الكافر الذي أضله وأغواه، هذا ما أعددته لجهنم، وهيأته لها.

ص: 148

سورة ق [50: 24]

{أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} :

الخطاب إلى الشّاهد والسّائق ألقيا (ألف التّثنية).

{أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ} : هذا الكافر العنيد وأمثاله من الكفار، أو الخطاب إلى ملائكة النّار، بإلقاء في النّار كلّ للتوكيد.

{كَفَّارٍ} : صيغة مبالغة كثير الكفر أو شديد الكفر سواء كان كفرَ عقيدة أو جحوداً بالنّعم.

{عَنِيدٍ} : صيغة مبالغة على وزن فعيل كثير العناد معاند لا يقبل الحق وآيات ربه رافضاً له ومجادلاً بالباطل.

ص: 149

سورة ق [50: 25]

{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} :

{مَّنَّاعٍ} : صيغة مبالغة من فعل منع على وزن فعال، أيْ: كثير المنع للخير وهو الشيء الحسن النافع من قول أو فعل، مثل: مناع للزكاة أو الصّدقة أو المعروف.

{مُعْتَدٍ} : ظالم متجاوز حدود الله أو معتد على حقوق الآخرين أو عباد الله بيده ولسانه.

{مُرِيبٍ} : يشك في دين الله أو الحق ذي ريب، أي: شك وتهمة. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (12) وهي قوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} : نجد أن معتد مريب حالة تسبق معتد أثيم؛ أي: المعتد المريب يتحول إلى المعتد الأثيم.

ص: 150

سورة ق [50: 26]

{الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} :

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير، ويعود على الكفَّار العنيد المناع للخير.

{جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} : أيْ: أشرك بالله بالإضافة إلى كلّ تلك الصفات الخمس الكفر والعناد والمناع والمعتد والمريب.

{فَأَلْقِيَاهُ} : تكرار ألقياه تفيد التوكيد، والفاء للمباشرة، ألقياه في جهنم وفي العذاب الشديد.

{فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} : وهو نوع من أنواع العذاب في جهنم منها الشّديد والعظيم والأليم والمهيمن.

ص: 151

سورة ق [50: 27]

{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} :

{قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} : ولم يقل: وقال قرينه: حذف الواو تشير إلى أنّ هناك مقالة محذوفة، وأنّ الكافر قال لما قال: ألقياه في العذاب الشّديد قال: رب هو أطغاني وأضلني، فهو يحاول أن يجد له عذراً أو مبرِّراً لعدم إلقائه في النّار، فيتهم قرينه الشّيطان، فأجاب الشّيطان (القرين) ربنا ما أطغيته ما النّافية، أطغيته، أيْ: ما أوقعه في الطّغيان (الكفر والشرك والعصيان).

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك وتوكيد.

{كَانَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ} : في بعد عن الحق يصعب الرّجوع عنه، أو تمادى في طغيانه وفساده وبعد عن الحق بنفسه، واستمر على ذلك حتى مات من دون توبة.

ص: 152

سورة ق [50: 28]

{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} :

قال الرّب سبحانه وتعالى عندما رأى كلّاً من الكافر والقرين (الشيطان) يختصمان.

{قَالَ لَا} : لا النّاهية.

{تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ} : أيْ: عندي الآن، أو لا فائدة في اختصامكم الآن.

{وَقَدْ} : الواو حالية تفيد التّوكيد، قد للتحقيق والتّوكيد.

{قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} : أيْ: أنذرتكم ذلك في الدّنيا بإرسال الرّسل وإنزال الكتب، الوعيد يكون بالعذاب غالباً مثال على الوعيد، فأمّا من طغى وآثر الحياة الدّنيا فإنّ الجحيم هي المأوى، الوعيد: دائماً يكون في الشّر، أمّا الوعد: فقد يكون في الخير أو الشّر، الوعد المطلق يدل على الخير الوعد المقيد قد يدل على الشّر.

ص: 153

سورة ق [50: 29]

{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} :

{مَا} : النّافية.

{يُبَدَّلُ الْقَوْلُ} : أيْ: يتغيَّر أو يتحوَّل، والقول هو لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين، أو ما يبدَّل القول: أيْ: ما يبدَّل ما قضيت أو حكمت أو يتغيَّر وعدي.

{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} : ارجع إلى الآية (182) من سورة آل عمران.

ص: 154

سورة ق [50: 30]

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَّزِيدٍ} :

المناسبة: ما يُبدل القول لديَّ في ذلك اليوم يوم نقول لجهنم: هل امتلأت، وتقول: هل من مزيد، أو اذكر لقومك الغافلين يوم نقول لجهنم: هل امتلأت، وتقول: هل من مزيد.

{يَوْمَ} : نكرة للتهويل والتّعظيم.

{نَقُولُ} : نون الجمع الدّالة على العظمة.

{لِجَهَنَّمَ} : اللام لام الاختصاص، جهنم: اسم من أسماء النّار مشتق من بُعد قعرها أو دركة من دركاتها، ارجع إلى سورة الرعد الآية (18).

{هَلِ} : للاستفهام.

{امْتَلَأْتِ} : والله سبحانه يعلم هل امتلأت أم لم تمتلئ، وإنما يذكر ذلك للتحذير والتّرهيب والإنذار من جهنم التي وقودها النّاس والحجارة.

{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَّزِيدٍ} : هذا السّؤال يطرح على جهنم بعد أن يدخلها أهلها من الإنس والجن، فتنطق جهنم وتجيب السّائل هل: استفهام فيه معنى التّهويل والتّعظيم، هل من مزيد لها ثلاثة معانٍ: لم أمتلئ بعد، هل من مزيد أو هل هناك أكثر من هؤلاء الذين دخلوا فيها لفرط كثرتهم، أو تعني امتلأت وانتهى الأمر.

ص: 155

سورة ق [50: 31]

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} :

{وَأُزْلِفَتِ} : الواو استئنافية، أزلفت: أُدنيت وقُربت.

{الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} : اللام لام الاختصاص، أيْ: قُربت الجنة للمتقين حتى يرونها قبل أن يدخلوها.

{غَيْرَ بَعِيدٍ} : وينظرون إليها من قُرب، ينتظرون دخولها بشوق وتلهف.

ص: 156

سورة ق [50: 32]

{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} :

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب يشير إلى الجنة التي أزلفت لهم.

{مَا} : الذي توعدون أو مصدرية.

{تُوعَدُونَ} : أيْ: وعدتم أو وعدناكم وأنتم في الدّنيا، والوعد يكون غالباً في الخير، توعدون بصيغة المضارع حكاية الحال لاستحضار الحالة أمام السّامع، فكأنه يراها لعظم المشهد.

ارجع إلى الآية (28) من نفس السورة.

{لِكُلِّ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، كل تفيد التّوكيد.

{أَوَّابٍ} : من أب؛ أي: رجع إلى ربه، أو رجع عن المعصية، وأواب تعني: كثير الرّجوع إلى الله والتّوبة أو سريع التّوبة والإنابة إلى الله تعالى في كلّ الأوقات سواء أكانت الإنابة صادرة عن ذنب، أم بغير ذنب، وتعني: سرعة الإقبال على الله بعد كل قول وفعل.

{حَفِيظٍ} : محافظ على حدود الله وشرائعه وأوامره ونواهيه. والممسك عما حرم الله تعالى.

ص: 157

سورة ق [50: 33]

{مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} :

تتمة للآية السّابقة الأواب الحفيظ من خشي الرّحمن بالغيب، وجاء بقلب منيب.

{مَّنْ} : ابتدائية للمفرد والمثنى والجمع وللعاقل، وهي اسم موصول بمعنى الذي.

{خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} : الخشية هي الخوف مع التّعظيم والتّوقير.

الرحمن: ارجع إلى سورة الفاتحة آية (3) وسورة الفرقان آية (26) للبيان.

بالغيب: الباء للإلصاق والملازمة بالغيب، أيْ: إذا غاب عن أعين النّاس، أو خلا بنفسه، ويخشى الله تعالى في العلن أمام الناس أيضاً؛ ارجع إلى سورة ياسين آية (11) لمزيد من البيان في الغيب.

{وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} : قلب سريع التّوبة، وكثير الرّجوع إلى طاعة الله (كثير الإنابة) أي: المقبل على الله تعالى جاء بقلبه المنيب يوم القيامة لملاقاة ربه، وهناك فرق بين القلب المنيب، والقلب السليم؛ السليم: هو المطيع الخالي من كلّ مرض مثل الشّك والنفاق والرّيبة والتّردد.

ص: 158

سورة ق [50: 34]

{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} :

{ادْخُلُوهَا} : أي: الجنة.

{بِسَلَامٍ} : أيْ: تحية من الله وملائكته وعباده المؤمنين، وبسلام تعني: من العذاب ومن زوال النّعم ومن كلّ خوف وحزن وموت، وسلام يعني: الأمن والطمأنينة.

بسلام: الباء للإلصاق: أي: الملازمة ملازمة السّلام فلا ينفك عنهم.

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد والتّعظيم ويشير إلى يوم الخلود.

{يَوْمُ الْخُلُودِ} : الخلود هو استمرار البقاء من وقت مبتدأ، أيْ: من زمن دخولها، أمّا الفرق بين الخلود والدّوام، فالدوام استمرار البقاء في كلّ الأوقات ليس هناك بداية أو نهاية، أمّا الخلود فيعني الدّوام، ولكن فيه بداية تبدأ من زمن الدّخول وليس له نهاية.

ص: 159

سورة ق [50: 35]

{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} :

{لَهُمْ} : لأهل الجنة، اللام لام الاختصاص والاستحقاق لهم خاصة.

{مَا} : بمعنى الذي أو مصدرية. وهي أعم وأشمل من الذي.

{يَشَاءُونَ فِيهَا} : أيْ: لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من النّعيم والخيرات وكلّ ما يخطر على البال.

{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} : لدينا من النّعيم والخيرات ما لم يخطر على البال والعقل أيضاً، ومن أعظم المزيد هو رضوان الله تعالى، ومن أعظم النّعيم لذة النّظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.

لنقارن هذه الآية (35) من سورة (ق) وهي قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} أخَّر (فيها).

والآية (16) من سورة الفرقان، وهي قوله:{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} : قدَّم (فيها).

فيها تعني الجنة قدَّم (فيها) في آية الفرقان؛ لأنّ الحديث أو السّياق عن الجنة، وليس أهل الجنة، أما السياق في آية (ق) في أهل الجنة أنفسهم، وليس الجنة بحدِّ ذاتها، ولذلك أخَّرها.

سورة (ق)[الآيات 36 - 45]

ص: 160

سورة ق [50: 36]

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} :

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} : الواو استئنافية، كم الخبرية تفيد الكثير، أيْ: أهلكنا الكثير من القرون.

{قَبْلَهُم} : قبل كفار قريش، ولم يقل: من قبلهم: أيْ: قريباً. أما قبلهم فلا تحدد زمن فقد يكون قريباً أو بعيداً.

{مِنْ قَرْنٍ} : من استغراقية، القرن: أهل كل عصر، والقرن يقدَّر بـ (100) عام.

{هُمْ} : للتوكيد.

{أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} : البطش: الأخذ بقوة وعنف، أيْ: أهلكنا قبل كفار قريش من هم أشد منهم قوة مثل قوم عاد وثمود.

{فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَادِ} : طافوا وفتشوا في البلاد كثيراً بحثاً عن نقب أو نقوبها للهروب من عذاب الله فلم يجدوا، ونقب: أحدث خرقاً أو نقباً أو للدخول فيه والنّجاة، الفاء: فاء السّببية.

{هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} : هل للاستفهام الإنكاري، من استغراقية، محيص: مهرب، هل وجدوا لهم مهرباً أو ملجأ الجواب لا، محيص: من حاص، أيْ: عدل عن الطّريق وهرب.

ص: 161

سورة ق [50: 37]

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} :

هناك من قال أن هذه الآية هي جواب القسم لقوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [آية: 1]، ومنهم من قال غير ذلك؛ ارجع إلى الآية (1) لمزيد من البيان.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} : إنّ للتوكيد، في ذلك: اسم إشارة يشير إلى إهلاك الأمم السّابقة القوية قبلهم.

{لَذِكْرَى} : اللام لام التّوكيد، ذكرى: تذكرة.

{لِمَنْ} : اللام للتوكيد، من: اسم موصول بمعنى الذي، من: للمفرد والمثنى والجمع والعاقل. أي: الذي يأتي بعدهم.

{كَانَ لَهُ قَلْبٌ} : أيْ: عقل يفقه به ويتفكر.

{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} : أي: استمع سماع هداية، أيْ: أصغى بعناية إلى ما ينفعه ويستفيد منه.

{وَهُوَ شَهِيدٌ} : وهو: يفيد التّوكيد، وهو شهيد: حاضر القلب والعقل.

ص: 162

سورة ق [50: 38]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ} :

سبب نزول هذه الآية: قالت اليهود: خلق الله السموات والأرض في ستة أيّام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، ثمّ استراح في اليوم السّابع، ويسمُّونه يوم الرَّاحة، فأنزل الله تكذيبهم فيما قالوه.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} : ولقد: الواو استئنافية، لقد: اللام لام التّوكيد، قد للتحقيق، خلقنا السموات والأرض وما بينهما: ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30) وسورة فصلت آية (9-12) لبيان معنى خلق السموات والأرض.

{وَمَا مَسَّنَا} : ما: النافية؛ المس: أقل اللمس.

{مِنْ لُّغُوبٍ} : من استغراقية، لغوب: الشّعور بالفتور الذي يكون نتيجة النّصب، النّصب: التّعب البدني، وقيل: اللغوب الإعياء النّفسي؛ للدلالة على عظمة قدرته تعالى.

ص: 163

سورة ق [50: 39]

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} :

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} : الفاء للتوكيد، اصبر على ما يقولون: الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يقولون إنّك ساحر أو إنّك كاهن أو إنّك مجنون. وغيره من الافتراءات.

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} : سبح: التّسبيح هو تنزيه الخالق عما لا يليق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله من كل نقص وعيب وشريك وولد والتّسبيح قد يعني: الصّلاة، أيْ: صلِّ لله تعالى حامداً إياه قبل طلوع الشمس وقبل الغروب أو صلِّ لله تعالى ولا تنسَ حمده.

{قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} : قيل: صلاة الفجر.

{وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} : قيل: صلاة الظهر وصلاة العصر. والتسبيح: قد يكون ذكر الله والقول: سبحان الله، أو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وفي سورة طه آية (130) قال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} .

ص: 164

سورة ق [50: 40]

{وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} :

{وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} : أيْ: صلِّ صلاة المغرب والعشاء (صلِّ العشاءين) أو سبحه التسبيح العادي، الفاء للتوكيد.

{وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : أي: سبحه عقب الصلوات، أيْ: عقب أو بعد أو دُبُرَ كلِّ صلاة أيْ: بعد انقضائها.

وفي سورة الطور آية (49) قال تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} أيْ: عقب أو دبر أو بعد اختفاء النجوم. ارجع إلى سورة الطور آية (49) لمزيد من البيان.

ص: 165

سورة ق [50: 41]

{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَّكَانٍ قَرِيبٍ} :

{وَاسْتَمِعْ} : ولم يقل: واسمع استمع تعني: بقصد ونية واهتمام وجند كل حواسك وعقلك لما تسمع في ذلك اليوم، واستمع فيها معنى التشويق لما سيسمع.

يوم ينادي المناد: يوم نكرة للتهويل والتعظيم والمناد نكرة أيضاً، قيل: هو إسرافيل، واليوم هو يوم البعث أو القيامة.

والنداء لم يذكر ما هو.

من مكان قريب: والمكان مجهول أيضاً، للتهويل ويسمعه كل واحد.

ص: 166

سورة ق [50: 42]

{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} :

حتى يسمعوا الصيحة لا بُدَّ أن تبعث الحياة فيهم مرة أخرى وهم في القبور ويصبح القبر حينذاك جدثاً، وبعد ذلك يخرجون من قبورهم، يوم: نكرة للتعظيم والتهويل، ويعني: يوم البعث.

{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} : أي: النفخة الثانية نفخة البعث. حين ينفخ إسرافيل في الصور.

{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق بالحق الأمر الثابت الذي لا يتغيَّر.

ذلك: اسم إشارة واللام للبعد.

{يَوْمُ الْخُرُوجِ} : الخروج من الأجداث، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} : [المعارج: 43].

وكقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25].

وكما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ» .

في حديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيره، عن أوس بن أوس قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ» .

ص: 167

سورة ق [50: 43]

{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} :

{إِنَّا} : للتعظيم.

{نَحْنُ} : للتوكيد، توكيد العظمة والقدرة.

{نُحْىِ وَنُمِيتُ} : في الحياة الدنيا.

{وَإِلَيْنَا} : تقديم إلينا تفيد الحصر.

{الْمَصِيرُ} : مصدر ميمي لفعل صار، ومعنى صار يعني: الانتقال والتحول من حال إلى حال، أي: إلى الله المنتهى والمأل.

ص: 168

سورة ق [50: 44]

{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} :

{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ} : يوم ظرف زمان وجاء بصيغة النكرة: للتهويل والتعظيم، ويعني: يوم البعث. يوم الخروج من الأجداث، تشقق الأرض: الأرض الجديدة: تنتفخ وتتصدع عنهم، تتشقق بفتح التاء وتشديد الشين وأصلها تتشقق أدغمت التاء الثانية في الشين وقلبت إلى شين.

{سِرَاعًا} : أي: يخرجون سراعاً، أي: مسرعين إلى الداع. سراعاً: جمع سريع.

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد.

{حَشْرٌ} : هو السوق والجمع.

{عَلَيْنَا يَسِيرٌ} : تقديم علينا للحصر، يسير: هيِّن.

ص: 169

سورة ق [50: 45]

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} :

في الآية (39) من نفس السورة قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} . وفي هذه الآية يقول تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} كفار قريش وغيرهم من الأقاويل سراً وعلناً مثل قولهم شاعر، ساحر، كاهن مجنون مفتر، يعلمه بشر أساطير الأولين. يقولون، ولم يقل: قالوا؛ لتدل على تكرار قولهم وتجدُّده واستمراره وفيها تهديد ووعيد.

{بِمَا} : الباء للإلصاق، (ما) تعني: الذي و (ما) أوسع شمولاً.

{وَمَا أَنْتَ} : (ما) النافية، أنت: الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} : جبار صيغة مبالغة من جبر: وجبره على الأمر: قهره عليه، أيْ: أنت لم تبعث لتجبرهم على الإسلام أو الإيمان. كقوله تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]. ارجع إلى سورة مريم آية (14) لمزيد من البيان في جبار.

{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} : أي: إنما أنت مذكر فقط، فذكر بالقرآن: الفاء لربط السبب بالمسبب؛ فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي من المؤمنين.

من: ابتدائية، يخاف وعيد: ارجع إلى الآية (28) من نفس السورة.

ص: 170

سورة الذاريات [51: 1]

سورة الذاريات

ترتيبها في القرآن (51) في النزول (67).

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} :

الواو واو القسم. والله سبحانه لا يقسم إلا بشيء مهم وعظيم، وهو سبحانه غني عن القسم، ويشير القسم عادة إلى أهمية الأمر المقسم به وجواب القسم.

{وَالذَّارِيَاتِ} : أي: الرياح جمع ذارية مؤنث الذاري اسم فاعل من ذرا. تشمل الرياح أو الريح، وهي جند من جنود السموات والأرض، فالرياح (الريح اللينة) في القرآن تأتي في سياق الخير والرحمة، وأما الريح في القرآن فتأتي في سياق الهلاك والدمار والشر، وتسمَّى أحياناً الريح العقيم أو العاصفة أو الصرصر، وسُمِّيت بالذاريات؛ لأنها تذر التراب والرمل، وكما قال تعالى:{الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42](ذرواً) مصدر يفيد التوكيد من فعل ذرا: فرق أو انتشر.

ص: 171

سورة الذاريات [51: 2]

{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} :

الفاء: عاطفة، والصفات المعطوفة بالفاء تكون لموصوف واحد، وأما العطف بالواو كما لو قال تعالى: والحاملات وقرا؛ لدل ذلك على تغاير الذات (الصفات)؛ أي: الذاريات غير الحاملات كما ذكر الألوسي؛ الحاملات وقراً: الحاملات: أي: الرياح التي تحمل السحب الركامية التي قد تمتد وترتفع في السماء عشرات، بل مئات الكيلو مترات، وقِراً: الحمل الثقيل (وهي السحب الركامية) التي تحمل ماء المطر، وهو الوِقر: بكسر الواو، وسكون القاف: هو الحمل الثقيل من الماء المقدر بمئات وآلاف الأطنان، وهناك الوَقْر: بفتح الواو، وسكون القاف: وهو الثقل في السمع أو الأذن.

والحاملات وقراً: آية أخرى من آيات الله تعالى أو جند من جنود السموات والأرض يقسم الله بها لأهميتها في حياة الناس. وهذه هي الوظيفة الثانية للرياح حمل السحب الركامية.

ص: 172

سورة الذاريات [51: 3]

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} :

وهذه هي الوظيفة الثالثة للرياح.

الفاء عاطفة تعود على الرياح. ارجع إلى الآية السابقة.

الجاريات: جمع جارية: أي: الفلك، أي: السفن التي تجري على سطح الماء في البحار والمحيطات، وفي الآية (24) من سورة الرحمن قال تعالى:{الْجَوَارِ الْمُنشَـئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، وفي الآية (32) من سورة الشورى قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، فما الفرق بين الجاريات والجوار؟ فالجاريات من حيث اللغة: يراد بها الوصف، والجوار: يراد بها الاسم؛ ارجع إلى سورة إبراهيم آية (32) للتعليل العلمي لجريان الفلك على سطح الماء. وتوربينات الرياح التي تولِّد الطاقة الكهربائية.

يسراً: جرياً بسهولة أيْ: يسر ومن دون كلفة. وكما قال تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ} [الإسراء: 66].

ص: 173

سورة الذاريات [51: 4]

{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} :

وهذه هي الوظيفة الرابعة للرياح.

الفاء عاطفة تعود على الرياح المقسمات جمع المقسمة اسم فاعل من الفعل الرباعي قسَّم.

الرّياح المقسمة للأرزاق مثل الرّياح اللواقح التي تحمل هباءات الغبار لتلقح بها السحب التي تسبب المطر الذي نشرب منه، والذي ينبت به الزّرع والزّيتون والنّخيل، ومن كل الثمرات.

وقيل: المقسمات أمراً: الملائكة: لأنها تقسم الأرزاق، أو تقسم المطر أو الرزق بين العباد.

ص: 174

سورة الذاريات [51: 5]

{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} :

جواب القسم.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{تُوعَدُونَ} : البعث وكل ما وعد الله به من خير وشرٍّ وثواب وعقاب وجنة ونار.

{لَصَادِقٌ} : اللام لام التوكيد. صادق: حق والحق هو الأمر الذي لا يتغيَّر ولا يتبدَّل. وفي الآية (7) من المرسلات قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ، وفي الآية (134) من سورة الأنعام قال تعالى:{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} ، فآية الذاريات: جاءت في سياق الآخرة والحساب لقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ، وأما آية المرسلات جاءت أيضاً في سياق الحساب والآخرة، وأما آية الأنعام فقد جاءت في سياق الدنيا والآخرة لقوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [آية: 136] في سياق الدنيا، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (في الآخرة) في سياق الآخرة، وإذا نظرنا إلى كلمة (وإن ما) في آية الأنعام: نجدها مركبة من (إن+ ما)، أو فصلت (إن) عن (ما)، بينما في آية الذاريات والمرسلات نجدها كلمة واحدة (إنما).

ص: 175

سورة الذاريات [51: 6]

{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} :

معطوفة على جواب القسم السّابق.

{وَإِنَّ} : للتوكيد.

{الدِّينَ} : الجزاء والحساب.

{لَوَاقِعٌ} : اللام لام التوكيد، واقع حاصل لا محالة.

ص: 176

سورة الذاريات [51: 7]

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} :

الواو واو القسم. ولا يقسم الله سبحانه إلا بشيء عظيم وهي السماء ذات الحبك.

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} : أي: السماء ذات البنيان المحكم. ذات الترابط الشديد والانضباط الدقيق، والمتباينة الكثافات بسبب تعدد الأجرام السماوية كالنجوم المختلفة في الكثافة والطاقة والكواكب والأقمار، فهذه الأجرام مرتبطة بقوة الجاذبية التي تشد الجرم الصغير إلى الجرم الكبير، وكذلك بقوة الطرد المركزي التي تدفع الجرم الصغير بعيداً عن النجم الكبير. فالسماء ذات الحبك تعني ذات الشموخ لاختلاف الكثافات والقوى الجاذبة وقوى الطرد.

ص: 177

سورة الذاريات [51: 8]

{إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} :

{إِنَّكُمْ} : للتوكيد والخطاب أهل مكة وغيرهم.

{لَفِى} : اللام للتوكيد، في: ظرفية.

{قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} : متناقض متضارب بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحر شاعر مجنون كاهن مفتر، أو بشأن القرآن تقولون: هو سحر أو شعر أو افتراه، أو أساطير الأولين، أو ليس هناك حشر ولا حساب ولا بعث أو تقولون أنّ الله هو الذي خلق السّموات والأرض وخلقكم، ثم تعبدون غيره، أو تقولون: إنّ محمّداً الصّادق الأمين، ثم تكذِّبون به ولا تصدِّقونه.

ص: 178

سورة الذاريات [51: 9]

{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} :

{يُؤْفَكُ} : يصرف عنه من أَفَكَ: صرف فالأفك نوع من الصرف والتحويل؛ أي: الكذب، وهاء الضّمير تعود للقرآن أو الرسول أو الدِّين. إذن الإفك هو صرف الشيء عن مساره الذي يجب أن يكون عليه. والإفك: نوع من الكذب.

{مَنْ أُفِكَ} : من أفك (كذب) من قريش أو غيرهم من الكفار أو يصرف عنه من كذبَ من قريش أو النّاس أو من هو أفاك كذاب.

ص: 179

سورة الذاريات [51: 10]

{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} :

{قُتِلَ} : دعاء عليهم باللعن؛ أيْ: لُعن الخراصون: ومن لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك.

{الْخَرَّاصُونَ} : جمع خراص من الفعل خرص بمعنى خمن أو حزر، الخرص هو التّخمين والحزر من دون علم ودليل وحقيقة، وقد يعني: الكذب. أيْ: لُعن الكاذبون الذين قالوا: إن القرآن سحر أو محمد ساحر أو افتراه، أو هو أساطير الأولين، وغيرها من الأكاذيب.

ص: 180

سورة الذاريات [51: 11]

{الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد دنو منزلتهم.

{هُمْ} : للتوكيد.

{غَمْرَةٍ سَاهُونَ} : في ظرفية مكانية، غمرة: ما ستره الشّيء وغطَّاه وغمرة، السّهو: عدم تذكر الشّيء مع أن صورته موجودة في منطقة التّذكر. فالسهو عدم التفطن للشيء بسبب انشغال النفس، وأما الغفلة فهي أعم من السهو.

{سَاهُونَ} : عما أمروا به، ساهون تدل على أنّ صفة السّهو ثابتة عندهم لن تتغيَّر، أي: هم في عمى وجهالة بأمر الآخرة وساهون عنها.

ص: 181

سورة الذاريات [51: 12]

{يَسْـئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} :

{يَسْـئَلُونَ} : سؤال استهزاء واستنكار، أيان: ظرف زمان مبهم، ويستعمل في الأمور العظام والتفخيم، ويستعمل في الاستفهام بالمستقبل، ويوحي بالتراخي في الزمن بخلاف متى: التي تستعمل في الماضي والمستقبل والأمور العامة. يسئلون: بصيغة المضارع التي تدل على التكرار والتجدد.

{أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} : متى يوم الحساب أو قيام السّاعة وجواب السّؤال محذوف للتعظيم والتّهويل.

ص: 182

سورة الذاريات [51: 13]

{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} :

{يَوْمَ} : ظرف زمان تقديره يوم يأتي.

{هُمْ} : للتوكيد على النّار.

{يُفْتَنُونَ} : مشتق من الفتنة وأصلها عرض الذّهب على النّار للتخلص من الشّوائب إذن يفتنون يحرقون ويعذبون ويفتنون تدل على التّكرار والتّجدد والاستمرار.

ص: 183

سورة الذاريات [51: 14]

{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} :

{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} : أيْ: ذوقوا عذاب الحريق: (النار).

{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب ويشير إلى العذاب.

{الَّذِى} : اسم موصول يدل على شيء محدد وهو العذاب.

{كُنْتُمْ بِهِ} : أيْ: في الدنيا.

{تَسْتَعْجِلُونَ} : تقولون {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] في هذه الآية شبَّه العذاب بطعام يؤكل، وحذف كلمة الطّعام وأبدلها بكلمة الذّوق، التي تفيد أن العذاب سوف يطول كلَّ عضو من أعضائه كما يصل الغذاء إلى كل عضو.

ص: 184

سورة الذاريات [51: 15]

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الْمُتَّقِينَ} : جمع متَّقٍ، وهو الذي أطاع أوامر الله وتجنَّب نواهيه.

{فِى} : ظرفية.

{جَنَّاتٍ} : جمع جنة، وهي البساتين والحدائق الغنَّاء، جنات الفردوس والنّعيم وعدن وجنات المأوى ودار السّلام والخلد.

{وَعُيُونٍ} : جمع عين وتعني: عيون الماء والتّسنيم والكافور والسّلسبيل والزّنجبيل، وعين قد تجمع على أعين، وتعني التي نبصر بها.

إذن عيون في القرآن تعني: عيون الجنة وأعين تعني: التي نبصر بها وترى الأشياء، وفي الآية (17) من سورة الطور قال تعالى:{فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} : هذا جاء في سياق المتقين، وجنات وعيون في سورة الذاريات جاءت في سياق المحسنين، وهم أعلى درجة من المتقين.

ص: 185

سورة الذاريات [51: 16]

{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} :

{آخِذِينَ} : راضين.

{مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} : ما اسم موصول بمعنى الذي، أتاهم ربهم: من الجنات والقصور والحور العين والطّعام والشّراب. و (ما) أوسع شمولاً من (الذي) وأكثر إبهاماً تقع على كل شيء، وفي الآية (17) من سورة الطور قال تعالى:{فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} ، وهذا ليس بتكرار ما جاء في آية الذاريات يدل على السبب وهو أنهم كانوا قبل ذلك محسنين، وما جاء في آية الطور يدل على الثواب الذي ينالوه في الآخرة.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} : أول صفة.

{إِنَّهُمْ} : للتوكيد.

{كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} : أي: في الدّنيا.

{مُحْسِنِينَ} : جمع مُحسن. تعليل لاستحقاقهم هذا الإيتاء الجنات والعيون هو إحسانهم في الدّنيا.

ارجع إلى سورة البقرة آية (112) لبيان معنى الإحسان.

ص: 186

سورة الذاريات [51: 17]

{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} :

هذه ثاني صفة للمحسنين.

{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ الَّيْلِ} : كانوا: في الدنيا وخص الليل؛ لأنه وقت الراحة والسبات.

{مَا} : للتوكيد.

{يَهْجَعُونَ} : ينامون، الهجوع النّوم القليل.

ص: 187

سورة الذاريات [51: 18]

{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} :

هذه هي الصفة الثالثة للمحسنين.

{وَبِالْأَسْحَارِ} : الباء ظرفية زمانية، جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل. وتخصيص الأسحار بالاستغفار؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة، والعبادة فيها أصفى وأشقُّ.

{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{يَسْتَغْفِرُونَ} : من الاستغفار لذنوبهم والمغفرة تعني: ستر الذّنب وترك العقوبة والثّواب على العمل الصّالح سواء كان استغفار إنابة (من دون ذنب)، أو استغفار لذنب؛ يستغفرون بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار.

ص: 188

سورة الذاريات [51: 19]

{وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} :

وهذه هي الصفة الرابعة للمحسنين.

{وَفِى} : الواو عاطفة، في الظرفية.

{أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} : قيل: ليست الزّكاة المفروضة، وإنما الصدقات والنوافل؛ لأنّ هذه الآية مكية نزلت قبل فرض الزّكاة بالمدينة، والحق هنا قد يعني: زيادة عن الزّكاة، ولم يقل سبحانه في هذه الآية:(حق معلوم)، كما ورد في سورة المعارج آية (79) والحق المعلوم يعني: الزّكاة.

{حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} : تقرباً إلى الله تعالى، للسائل: اللام لام الاختصاص والاستحقاق والسّائل من يسأل النّاس لفاقته، أيْ: لفقره، والمحروم: الذي يتعفَّف عن السّؤال يظنه النّاس غنياً، وسُمِّي المحروم، أو لأنّه يُحرم الصّدقة من كثير من النّاس.

ثم يذكر الله سبحانه عدد من الآيات الكونية وآيات خلق الإنسان الدّالة على عظمته وقدرته، وأنّ الله هو الإله الحق الواحد الأحد الذي يجب أن يُعبد.

ص: 189

سورة الذاريات [51: 20]

{وَفِى الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} :

{وَفِى الْأَرْضِ آيَاتٌ} : دلائل كونية وبراهين دالة على قدرته ووحدانيَّته، ومنها:

خلق الأرض، وإخراج الماء والمرعى منها. ودورانها حول الشمس، ونسبة اليابسة إلى الماء.

وإحياء الأرض بعد موتها وكيف تهتز وتربو بعد نزول المطر بعد ما كانت خاشعة أو ميتة.

والحدائق والأشجار والنّخيل والأعناب وكل الثّمرات.

والزّلازل والبراكين ودوران الأرض بسرعة تقدر بـ (30كيلو متر/ بالثانية)، وعدم الشّعور بذلك الدّوران، وجعلها كالمهد.

{لِّلْمُوقِنِينَ} : اللام لام الاختصاص، أيْ: آيات تنفع الموقنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.

أو يقيناً مع يقينهم، والموقنون: جمع موقن. والموقن اسم فاعل من فعل أيقن.

ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لبيان معنى اليقين ودرجاته.

ص: 190

سورة الذاريات [51: 21]

{وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} :

من آيات الخلق والنّشأة والتّطور والحركة والسّمع والبصر والأفئدة وعمل الجوارح والنوم واليقظة والحركة وغيرها.

{أَفَلَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّقريري، والفاء تدل على التّوكيد، ألا: أداة حصر وتنبيه وأمر، أيْ: أبصروا ذلك.

{تُبْصِرُونَ} : تنظرون في الدلائل والآيات بصيغة المضارع لتدل على ضرورة إعادة البصر والتّجدُّد والتّكرار، تبصرون: رؤية فكرية قلبية (رؤية بصيرة).

ص: 191

سورة الذاريات [51: 22]

{وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} :

{وَفِى} : ظرفية.

{السَّمَاءِ} : تعريفها: هي كل ما علاك تشمل السّحاب والسّموات السّبع وما فيهن.

{رِزْقُكُمْ} : لنعلم أن كل ما نحتاجه من صور المادة والطاقة يخلقه لنا ربنا في صفحة السماء، وينزله إلى الأرض بالقدر المعلوم، فدورة الماء حول الأرض بخار، سحاب، ثم مطر من أنواع الرزق، والطاقة الحرارية الآتية من الشمس رزق، والحديد الذي أنزل من السماء عن طريق تفجُّر الشهب والنيازك رزق، وكذلك غاز الهيدروجين الداخل في تشكيل نويات كثيراً من الأطعمة والأشربة من الرزق والرياح من الرزق، والجنة وما فيها رزق للمؤمنين في الآخرة.

{وَمَا تُوعَدُونَ} : ما: اسم موصول أوسع شمولاً من الذي ويشمل كل شيء. توعدون من البعث والجزاء والثواب (الجنة) أو العقاب (النّار) وكذلك ما توعدون من الخير والشّر من الصّواعق والرّعد والبرق، والرزق.

ص: 192

سورة الذاريات [51: 23]

{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} :

{فَوَرَبِّ} : الفاء عاطفة، ورب: واو القسم. ويقسم الله سبحانه بربوبيته {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : أي: خالق السّماء والأرض ومدبرهما ومالكهما وحاكمهما، السماء: تشمل السّموات السّبع وكل ما يعلو الإنسان.

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{لَحَقٌّ} : اللام لزيادة التّوكيد، أي: ما ذكر من الآيات والرّزق وما توعدون من البعث والحساب والجزاء حق وصدق ثابت لا يتغيَّر، أي: لا يكون غير ذلك.

{مَا} : لزيادة التّوكيد.

فانظر إلى توكيد هذا القسم باستعمال (إن) و (اللام) و (ما) كلها أدوات تؤكِّد هذا الخبر الذي ينكره الإنسان.

{إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} : وكل ما ذكر وما يذكره الله سبحانه هو حق فلا تكونوا من الممترين، تنطقون: تدل على التّجدُّد والتّكرار.

{مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} : أي: إن كل ما توعدونه من البعث والحساب والجزاء وغيره حق مثل ما تنطقون أو مثل نطقكم الذي لا تنكرونه أبداً، أو إنّه لحق كما حقَّ أن يكون الإنسان خلقاً ناطقاً.

ص: 193

سورة الذاريات [51: 24]

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} :

{هَلْ} : للاستفهام والتّشويق.

{أَتَاكَ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

{حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} : ضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة؛ أي: ضيوف إبراهيم، وسمَّاهم ضيفاً؛ لأنّهم جاؤوا في صورة الضّيف أو نزلوا ضيفاً على إبراهيم، وقيل: كانوا ثلاثة من الملائكة أو أكثر، والله أعلم بذلك، ومما يدل على أنهم أكثر من واحد (قيل: كانوا ثلاثة) قوله تعالى: (المكرمين) الدالة على الجمع.

{الْمُكْرَمِينَ} : أي: هم مكرمون عند الله تعالى، بالجاه والشرف والقرب من الله مكانة، وكان من بينهم جبريل عليه السلام ، أضياف مكرمون: لأنّ إبراهيم وامرأته بأنفسهما أكرموهم. والمكرمون تعني: الأعزاء.

ص: 194

سورة الذاريات [51: 25]

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} :

{إِذْ} : ظرفية زمانية بمعنى: واذكر حين دخلوا على إبراهيم في داره.

{فَقَالُوا سَلَامًا} : الفاء للمباشرة، سلاماً جملة فعلية تفيد التّجدُّد والتّكرار.

{قَالَ سَلَامٌ} : جملة اسمية تفيد الثّبوت. أي: وعليكم سلام أو أجابهم بقوله: سلام. والجملة الاسمية أقوى من الجملة الفعلية وهذا يناسب قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] أي: رد إبراهيم على تحيتهم بتحية أحسن من تحيتهم.

{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} : أي: قال إبراهيم سلام، قوم منكرون: تعني من أنتم حياكم الله أو من أين أنتم حياكم الله، أو قال في نفسه: هؤلاء قوم غرباء لا نعرفهم.

ص: 195

سورة الذاريات [51: 26]

{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} :

{فَرَاغَ} : الفاء للترتيب والمباشرة، راغ: ذهب بخفيه وبحيله حتى يكرمهم، وأراد أن لا يُظهر لهم أنّه سيقوم بذلك، وهذا من مظاهر الكرم عند العرب أن يبادر المضيف بالقِرى من غير أن يُشعر به الضّيف حذراً من أن يكفَّه ويعذره من تحضير الطّعام.

فراغ: مشتقة من راغ الثعلب روغاً وروغاناً ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة، فهو لا يستقر في جهة واحدة.

{فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} : لم يذكر مراحل الذّبح والشّوي؛ أي: التحضير.

{فَجَاءَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب.

{بِعِجْلٍ} : الباء للإلصاق.

{سَمِينٍ} : بينما في سورة هود {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] مشوي الذي يقطر الدّهن منه، سمين: ممتلئ لحماً وشحماً (يدل على كرم إبراهيم عليه السلام ). أما حنيذ: فيدل على كيفية تحضيره.

ص: 196

سورة الذاريات [51: 27]

{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} :

{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} : الفاء للتعقيب والترتيب، قربه إليهم: قدَّمه إليهم ليأكلوا منه.

{قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} : ألا: أداة حصر وحثٍّ، أي: تفضلوا وكلوا، والهمزة استفهام إنكاري لما لا تأكلون؛ حيث رأى أيديهم لا تصله إليه: أي: لا تمتد إليه لتأكل منه؛ لأنّهم ملائكة لا يأكلون، وهو إلى الآن لا يعرف أنّهم ملائكة ولم يبشروه بعد، ويخبروه من هم.

ص: 197

سورة الذاريات [51: 28]

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} :

{فَأَوْجَسَ} : الفاء للترتيب والمباشرة، أوجس: أضمر أو أحس وشعر بالخوف منهم، فقد حاول إبراهيم أن لا يطلعهم على خوفه، ولكن الخوف سرعان ما ظهر على وجهه.

وخاف منهم؛ لأنّ العُرف أنّ الضّيف إذا نزل بقوم وقدَّموا له الطّعام ليأكل منه فامتنع، فيسألونه عندها إذا كان له طلب حتى يستجيبوا له، فإذا استجابوا له أكل بعدها، وإذا رفضوا الاستجابة له لا يأكل، ويغادر ونادراً جداً أن لا يأكل الضيف، فعندما رأى الملائكة الخوف على وجه إبراهيم، قالوا لإبراهيم: لا تخف إنا رسل ربك إنا أرسلنا إلى قوم لوط. وإذا قارنا هذه الآية وهي قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} مع الآية (67) من سورة طه وهي قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} : نجد أن هناك اختلافاً في الآيتين؛ ارجع إلى سورة طه آية (67) لمعرفة الاختلاف.

{وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} : البشرى الإخبار بخبر سار لأول مرة، بشروا إبراهيم بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.

{بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} : الباء للإلصاق والملازمة، عليم: ذي علم كثير، غلام هو الولد الذي سيبلغ الحلم ويصبح كثير العلم؛ أي: إسحاق عليه السلام ، كما أشارت الآيات الأخرى في سورة الصافات آية (112).

فالبشارة تضمنت أمرين الأول كونه غلاماً ذكراً، والثّاني كونه عليماً والعلم من أكمل الصّفات، وفي سورة الصافات آية (101) قال تعالى:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} ، ويعني: إسماعيل عليه السلام .

ص: 198

سورة الذاريات [51: 29]

{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} :

{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} : امرأة إبراهيم عليه السلام ، الفاء للمباشرة، أي: اتجهت إلى الملائكة، أي: لما سمعت بشارتهم، وهناك فرق بين امرأته وزوجه؛ ارجع إلى سورة القصص آية (9) لمعرفة الفرق بين الزوجة والمرأة.

{فِى صَرَّةٍ} : صيحة وضجة. من الصرير: وهو الصوت، صرير الباب صوته.

{فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} : لطمت وجهها بيديها عجباً والصّك هو الضّرب.

{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} : عجوز كبيرة السّن، العجوز: يشترك فيه الذّكر والأنثى يقال رجل عجوز وامرأة عجوز، كما بينت الآيات الأخرى كقوله تعالى:{يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72].

{عَقِيمٌ} : أي: لا تلد والعقيم ليست كالعاقر هناك فرق بين العقيم والعاقر. ارجع إلى سورة آل عمران آية (40) للبيان.

ص: 199

سورة الذاريات [51: 30]

{قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} :

رد الملائكة على امرأة إبراهيم.

{كَذَلِكِ} : أي: كما أخبرناك وبشرناك بغلام عليم.

{قَالَ رَبُّكِ} : أي: قضى ربك بذلك فلا تعجبي ولا تخافي.

{إِنَّهُ هُوَ} : إن للتوكيد، هو لزيادة التّوكيد.

{الْحَكِيمُ} : في حكمه وقضائه وأقواله وأفعاله وتدبير شؤون خلقه وأحوال كونه. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

{الْعَلِيمُ} : بخلقه وما يصلحهم ويضرهم كثير العلم أحاط علمه بخلقه وكونه، فلا تخفى عليه خافية.

ص: 200