المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة المجادلة [58: 1] سورة المجادلة ترتيبها في القرآن (58) - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٢٨

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة المجادلة [58: 1]

سورة المجادلة

ترتيبها في القرآن (58) وترتيبها في النّزول (105).

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} :

أسباب النّزول: قيل: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة الأنصارية، وزوجها أوس بن الصّامت، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما فعله زوجها فقد قال لها: أنت عليَّ كظهر أمّي، وكان الظّهار يومئذ طلاقاً، فراحت تشكو وتقول: يا رسول الله، أكل شبابي ونثرتُ له بطني حتّى كبر سني وانقطع ولدي ظاهَرَ مني! وكانت أم المؤمنين عائشة في الحجرة نفسها، فلما نزل الحكم قالت عائشة رضي الله عنها فيما معناه: تبارك الذي وسع كلّ شيء، لقد كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أسمع ما تقول وسمعها الله من فوق سبع سموات طباقاً! كما أخرج الحاكم والإمام أحمد والبخاري.

{قَدْ} : حرف تحقيق؛ أي: للتوكيد إذا دخلت على الماضي تفيد تحقيق وقوعه.

{سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} : أي خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس ابن الصّامت تشكو إلى الله تعالى حيث قالت: إنّ لي صبية صغاراً إن ضممتُهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، تجادلك في زوجها: حيث قال لها رسول الله: قد حرمتِ عليه، وتقول له: ما ذكر طلاقاً، وفي رواية أخرى قالت: والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، أو قال لها صلى الله عليه وسلم: ما أراكِ إلا حَرُمتِ عليه، وتقول: إنما هو أبو ولدي وأحبُّ النّاس إليّ.

الجدال: هو حوار بين طرفين أو أكثر؛ لإثبات حق أو إظهار حُجة أو دفع شبهة، وهو أشد من الحوار حدّةً ومخاصمةً.

{وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} : تحاوركما: أي: خولة بنت ثعلبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تحاوركما: من التحاور: وهو الحوار بين طرفين، ويتميز بالهدوء، والحوار غير الجدال؛ الجدال ـ كما قلنا ـ يتميز بالشدة، والمخاصمة، ورفع الأصوات؛ يؤكد سبحانه أنّه يسمع تحاورهما، ثمّ نزل جبريل عليه السلام بالحكم كما ورد في الآيات القادمة.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.

{سَمِيعٌ} : لأقوال الرّسول صلى الله عليه وسلم وأقوال خولة وما قاله أوس ابن الصّامت، وسميع لكلّ ما يقوله عباده في أيّ زمان أو مكان.

{بَصِيرٌ} : يرى كلّ المبصرات أو الأمور المشاهدة؛ أي: عالم بظواهر الأمور، وخبير عالم ببواطن الأمور.

ص: 1

سورة المجادلة [58: 2]

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الَّائِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} :

تعريف الظّهار: أصله: مقابلة الظّهر بالظّهر؛ ويعني: تحريم وطء الزّوجة بجعلها محرمةً كظهر أمّه أو أخته.

اصطلاحاً: أن يشبّه الزّوج زوجته في الحرمة بإحدى محارمه مثل: أمه أو أخته، وكانت العرب تعتبر ذلك من أساليب الطّلاق والظّهار له كفارته، كما سنرى في الآيات القادمة.

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} : أي يقولون لنسائهم: أنت عليَّ كظهر أمي، يعني تحريم وطء الزّوجة بجعلها محرمةً عليه كحرمة أمّه وما يشبهها من العبارات؛ منكم: أي: من الصحابة خاصة، والسؤال هنا: ما هو الفرق بين نسائهم وأزواجهم؟ الزوج: يطلق على الرجل والمرأة كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، والزوج: يعني المثيل، أو المماثلة، وفي القرآن لا يطلق على المرأة زوجة إلا إذا كانت مماثلة لزوجها في الدين، والعادات والصحة والعافية والأخلاق، وإذا كانت مخالفة لزوجها يطلق عليها امرأة كقوله تعالى:{امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10].

{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} : (ما) أقوى نفياً من ليس، ما هنّ أمّهاتهم؛ أي: مخطؤون يحلفون أو يزعمون هنّ أمّهاتهم.

{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الَّائِى وَلَدْنَهُمْ} : إن: للتوكيد، إلا: أداة حصر، اللائي ولدنهم: ولم يقل اللاتي، وهذا من خصوصيات القرآن يستعمل اللائي في سياق الطّلاق والظّهار، وبما أنّ الطّلاق والظّهار حالتان نادرتان استعمل في سياق ذكرهما الهمزة بدلاً من التّاء (اللاتي) لأنّ الهمزة من الحروف الثّقيلة النّادرة الاستعمال، فاستعملها لتناسب حالتي الظّهار والطّلاق النّادرتين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: اللائي من اللأى: وهو الحبس، والمُطلّق والمُظاهِر تحبس عنه امرأته شرعاً حتّى يقوم بالكفارة أو ما هو مطلوب منه شرعاً.

{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} : إنّ للتوكيد، واللام في ليقولون: تعود على العرب في الجاهلية؛ لزيادة التّوكيد، منكراً من القول وزوراً: منكراً قولاً وزوراً، منكراً من القول؛ أي: قولاً ينكره الشّرع والعرف والعقل، وزوراً: كذباً وباطلاً (أي منحرفاً عن الحق).

{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} : إنّ للتوكيد، واللام في (لعفوّ) لزيادة التّوكيد، عفوّ: حيث شرع الكفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، غفور: صيغة مبالغة كثير الغفران مهما ثقلت ذنوبه إذا تاب وأناب إلى الله تعالى.

ص: 2

سورة المجادلة [58: 3]

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ} : الخطاب في هذه الآية للمسلمين عامة يبين لهم أحكام الظهار، بينما الخطاب في الآية (2) للصحابة خاصة؛ ارجع إلى الآية السّابقة لبيان معنى الظهار.

{ثُمَّ يَعُودُونَ} : لما قالوا: يرجعون عما قالوا ويريدون وطء أزواجهم بعد أن حرموهن على أنفسهم، أو يعودون إلى تحليل ما حرّموه على أنفسهم من وطء الزّوجة، فعليهم كفارة قبل الوطء هي تحرير رقبة.

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} : الفاء للتوكيد؛ أي: بإعتاق رقبة مملوكة. وجاءت (رقبة) بصيغة النّكرة؛ أي: سواء كانت مؤمنة أو كافرة، أو ذكراً أو أنثى، وبعض العلماء اشترطوا أن تكون رقبة مؤمنة فقط ولا يصلح عتق رقبة غير مؤمنة؛ وتحرير رقبة: تقال في الرق الذي لم يعد موجوداً الآن، وأما في قضية الأسرى، أو تبادل الأسرى فذلك يعد فك رقبة من الأسر، ولا يزال موجوداً، وبما أن تحرير رقبة ليست موجودة نطبق حكم صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً؛ من قبل أن يتماسّا: المراد بالتّماسّ: هو الجماع؛ أي: لا يجوز وطء الزّوجة حتّى تتمّ الكفارة التي ذكرت؛ وهي تحرير رقبة، وهناك فرق بين تحرير رقبة، وفك رقبة؛ تحرير رقبة: يعني: عتق رقبة بالفداء، أما فك رقبة: قد يعني: تخليصها من الأسر، أو السجن، أو من دين، أو عُسر، أو مغرمة.

{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} : ذلكم الحكم المذكور، وذلكم ولم يقل وذلك؛ للتوكيد وعظم الكفارة وعظةً لكم حتى تتركوا الظّهار؛ بينما في الآية (12) من نفس السورة قال {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} : أي خبير ببواطن الأمور والنّوايا وما تخفون في أنفسكم، وقدّم تعلمون على خبير؛ لأنّ السّياق في العمل.

ص: 3

سورة المجادلة [58: 4]

{فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{فَمَنْ لَّمْ} : الفاء استئنافية، من شرطية، لم للنفي.

{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} : فمن لم يجد الرّقبة لتحريرها، أو لم يجد ثمنها: فصيام شهرين متتابعين.

{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} : تكرار (ذلك) للتوكيد، فلا يجوز أو يحلُّ لمن ظاهر زوجته وطؤها حتّى يؤدّي الكفارة، فمن لم يستطيع الصّيام لمرض أو عجز فإطعام (60) مسكيناً، واختلف العلماء في مقدار الطّعام.

{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} : ذلك: اسم إشارة واللام للبعد يشير إلى التّخفيف في الكفارة أو حكمنا، لتؤمنوا: اللام لام التّعليل، أي: لتصدّقوا بالله ورسوله.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} : أي أحكام الله في الظّهار، فلا تعتدوها أو محارمه، حدود: جمع حدّ، والحد: عقوبة مقررة لأجل حقّ الله وليس لوليّ الأمر أو للوالي التدخل أو العفو، ولا يجوز تعدّي هذه الحدود.

{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : الواو عاطفة، وللكافرين: اللام لام الاستحقاق، الذين يتعدّون حدود الله عذاب أليم في الدنيا أو الآخرة. وفي الآية (5) التالية قال تعالى:{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ؛ أي: للكافرين عذاب أليم مهين معاً، وعذاب أليم: جاء في سياق الكفر بالإيمان بالله ورسوله، وعذاب مهين: جاء في سياق الذين يحادُّون الله ورسوله؛ فهؤلاء كبتوا، والكبت يعني: الذل والإهانة فناسبهم العذاب المهين، فهذا وعيد للكافرين عذاب أليم ومهين.

ص: 4

سورة المجادلة [58: 5]

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} :

المناسبة: بعد ذكر الظّهار وأحكامه يُبيّن وعيده للذين يحادُّون الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّ الَّذِينَ} : للتوكيد، الذين: اسم موصول يفيد الذّم والتّحقير.

{يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : يكون في حدٍّ والله ورسوله في حدٍّ يخالف الحدّ الآخر؛ أي: يعادون دين الله وشرعه، وسنّة رسوله، ويخالفون أوامر الله ورسوله، وكذلك يحادّون المؤمنين وأولياء الله تعالى، ويحادّون: فيها نون التّوكيد وبصيغة المضارع: لتدلّ على التّجدد والتّكرار.

{كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : أي الكبت هو الإذلال والإهانة؛ أي: خُذِلوا، ولها معانٍ أخرى مثل: الخزي والذّل والهزيمة، وأن يُصرعوا على وجوههم وهم ما زالوا في الدّنيا، وأصلها: أن يصابوا في أكبادهم بالحزن والغيظ، كما كبت الذين كفروا من قبلهم من الأمم السّابقة، وجاء بصيغة الماضي (كبتوا): لتحقق وقوع الكبت، وكأنه حدث وانتهى.

{وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : الواو الحالية تفيد التّوكيد، قد للتحقيق، أنزلنا آيات بينات: أي آيات القرآن الدّالة على صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ أنزلنا: تدل على نزول الآيات دفعة واحدة، أو في زمن واحد؛ آيات بينات: أي: واضحات لا تحتاج إلى توضيح وتبيان؛ آيات: أي: أحكام الظهار وغيرها.

{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وللكافرين بآيات الله عذاب مهين، العذاب المهين: المُذلّ الذي يكون على مرأى النّاس؛ عذاب مهين مقابل مخالفة حدود الله ومعادة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

ص: 5

سورة المجادلة [58: 6]

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} :

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} : يوم يبعثهم الله (أي: الكفار) من قبورهم يوم البعث، لا يفوته أحدٌ من الأولين والآخرين، وفي الآية (18) القادمة في نفس السورة يقول تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} : هذه الآية تختلف عن الآية (6)؛ الآية (18): جاءت في سياق المنافقين، والآية (6): جاءت في سياق الكفار.

{جَمِيعًا} : للتوكيد، وجميعاً تعني: كلّهم، وتعني: مجتمعين في مكان واحد.

{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} : الفاء للتوكيد، ينبّئهم بما عملوا: ينبّئهم: يخبرهم بأعمالهم؛ أي: أقوالهم وأفعالهم (التي عملوها في الدنيا)، ويُطلعهم عليها ويطلب منهم أن يقرؤوا كتبهم بأنفسهم؛ لإقامة الحجة عليهم.

{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} : أي حفظ الله أعمالهم وعدّها لهم ولم يغب عليه شيء، وهم قد نسوا تلك الأعمال.

{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : شهيد صيغة مبالغة؛ أي: مطّلع على ظواهر أعمالهم وبواطنها، وعلى أقوالهم ونواياهم. والشّهادة تعني: العلم مع الحضور، فهو سبحانه شهيدٌ على أقوالهم وأفعالهم؛ لأنّ علمه أحاط بكلّ ما يجري في السّموات والأرض وما تخفي الصّدور، وكفى بالله شهيداً، ولا يُحتاج إلى شهادة غيره، وتكرر اسم الشهيد في القرآن في (19) آية.

ص: 6

سورة المجادلة [58: 7]

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير.

{تَرَ} : الرّؤية هنا رؤية فكرية عقلية، وهذا أسلوب من أساليب البيان، فالله سبحانه يخبرك أو يُعلمك بذلك، ولكنه سبحانه يريد أن تكون الإجابة من العبد؛ أي: إقراراً من العبد لإقامة الحجة عليه، ولا يريد أن تكون بصيغة الخبر والإنشاء، ولكن بصيغة الاستفهام؛ لأنّها آكد وأقوى في النّفس، وإذا قال سبحانه لنا: ألم تر، أو: أولم تروا ذلك الشّيء، وكان ذلك الشيء معنوياً غير حسياً؛ يعني: ألم تفكر أو تفكروا، والرؤية هنا فكرية قلبية، وأما إذا كان الشيء حسياً فتكون الرؤية حسية بصرية، وتكون رؤية الله سبحانه أفضل من رؤية أعيننا، وهي تعتبر رؤية بعين اليقين، فلا نحتاج نحن أنفسنا إلى رؤية ذلك؛ لأننا نؤمن بالله وما يخبرنا حق وصدق ورؤيته سبحانه تكفينا، وإذا رأينا ذلك نراها كما أخبر الله سبحانه بها.

{أَنَّ اللَّهَ} : أن: للتوكيد.

{يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ} : السبع. (ما): تشمل من العاقل وغير العاقل، وما في السموات ذاتها وما فيها؛ أي: وما تحتويه.

{وَمَا فِى الْأَرْضِ} : وما في الأرض ذاتها وما تحتويه، وتكرار (ما) في للتوكيد وفصل كل منهما عن الآخر أو كلاهما معاً، ومن الأشياء التي يعلمها سبحانه السّر والنّجوى.

{مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى} : ما النّافية، يكون من نجوى: من استغراقية، نجوى: تعريفها: هي حديث السّر أو الخفي بين اثنين أو أكثر بحيث لا يسمعهم البقية ممن هم حاضرو مجلسهم، مثال: هناك ثلاثة أفراد يتناجى اثنان دون الثّالث؛ أي: ألغوه من المشاركة فكأنّك ترفع من تناجي عن غيره، لأنّ النّجوى أصلها الرّفعة ومشتقة من النّجوة من الأرض (أي الأرض المرتفعة) أو أصلها البعد؛ لأنّ القريب يصعب عليه سماع الكلام فكأنّه صار بعيداً. ولنعلم أن السر أعم من النجوى، وأشد خفاء من النجوى؛ لأن النجوى قد يطلع عليها عدة أفراد، أما السر لا يعلم به إلا صاحبه، والله يعلم بكل شيء النجوى والسر وما هو أخفى من السر.

{ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} : والنّجوى لكي تحصل لابدّ من ثلاثة على الأقل، اثنان يتناجيان والثّالث محروم من النّجوى، (المشاركة في الحديث) أو سماعه، إلا: أداة حصر، هو: تعود على الله سبحانه واجب الوجود، وهو رابعهم، يسمع ويرى كل ما يحدث.

{وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} .

{وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ} : أدنى من ثلاثة اثنين ولا أدنى من خمسة؛ أي: ثلاثة أو أربعة.

{وَلَا أَكْثَرَ} : من ثلاثة؛ أي: أربعة أو خمسة أو أكثر.

{إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} : سبحانه معهم بعلمه وقدرته، ولا تعني بذاته، أينما كانوا.

{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي.

{يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : بما عملوا في الدّنيا من النّجوى وغيرها من الأقوال والأفعال.

{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : إنّ للتوكيد، بكلّ: الباء للإلصاق، شيء عليم: عليم: صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم؛ أي: سبحانه مطّلع على بواطن الأمور وظواهرها لا تخفى عليه خافية في السّموات ولا في الأرض، أحاط علمه بخلقه وكونه فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السّموات ولا في الأرض.

وأمّا الفرق بين النّجوى والسّر: فالسّر هو تكتّمه في نفسك ولا تُطلع عليه أحداً.

ص: 7

سورة المجادلة [58: 8]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} :

{أَلَمْ تَرَ} : ارجع إلى الآية السّابقة للبيان.

{إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} : قيل: هم اليهود والمنافقون فقد كانوا يتناجون بينهم سراً للتآمر على المسلمين؛ لإيقاع الرّيبة في قلوبهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النّجوى.

{ثُمَّ} : ثمّ لتباين الدّرجة لمن نُهي عن النّجوى لأوّل مرة وبين من نُهي عنها، ثمّ عاد إلى التّناجي ولم يطع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فالإثم أكبر.

{يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} : يعودون عمداً إلى التناجي وعدم السّماع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التّناجي، ويعودون: تدل على التّكرار والتّجدد.

{وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ} : الإثم في اللغة: التقصير، والإثم: هو الذنب الذي يستحق العقوبة؛ أي: يتناجون بما هو إثم، والإثم: هو ما يكون بتعمّد مثل التّناجي بالكذب والظن والغيبة والكيد والمكر، أو الاستهزاء والسخرية.

{وَالْعُدْوَانِ} : التجاوز في الحدود والظلم والمعاداة وعداوة الرّسول والمؤمنين.

{وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} : يتناجون بمعصية الرّسول، عدم طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم أو مخالفته.

{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تفيد حتمية الحدوث.

{جَاءُوكَ} : اليهود أو المنافقون.

{حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} : حيَّوك: من التّحية وقالوا: السام عليك؛ أي: الموت عليك بدلاً من: السّلام عليك أو راعنا.

{وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ} : يحدّثون أنفسهم أو فيما بينهم.

{لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} : لولا: أداة حضّ وحثّ، يعذّبنا الله بما نقول؛ أي: لو كان نبياً حقاً لعذَّبنا الله بنا نقول.

{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} : أي يكفيهم جهنم، جهنم: اسم من أسماء النّار، ارجع إلى سورة الرّعد الآية (18)، حسبهم عذابها.

{يَصْلَوْنَهَا} : يحرقون بها أو يقاسون حرّها.

{فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : الفاء للتوكيد، بئس: من أفعال الذّم، المصير: المنتهى والمآل.

ص: 8

سورة المجادلة [58: 9]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد إلى الذين آمنوا بتكليف جديد يتعلق بالنّجوى.

{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{تَنَاجَيْتُمْ} : من النّجوى، ارجع إلى الآية (7) لتعريف النّجوى.

{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية.

{تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} : ارجع إلى الآية (8) للبيان.

{وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} : البرّ: هو كلّ ما يتقرّب به إلى الله من إيمان وعمل صالح واعتقاد وأخلاق ومعاملات، التّقوى: طاعة الله ورسوله وامتثال أوامرهما وتجنب ما نهى الله عنه ورسوله.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} : واتقوا الله: استقيموا على طاعة الله وامتثال أوامره وتجنّب نواهيه، اتقوا غضبه وسخطه وناره وذلك بطاعة أوامره وتجنّب نواهيه، الذي: اسم موصول يفيد المدح. إليه: تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أي: إليه وحده تحشرون، تحشرون: الحشر هو السَّوق والجمع يوم البعث للحساب والجزاء.

ص: 9

سورة المجادلة [58: 10]

{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْـئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة ومكفوفة تفيد التّوكيد والحصر.

{النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} : أي: النّجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرّسول من تزيين الشّيطان لهم ووساوسه.

{لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} : اللام لام التّعليل؛ أي: ليوقع الذين آمنوا في الحُزن وهو الألم النّفسي النّاتج عن ضيق في الصّدر وهو مؤقّت أو محدّد بزمن وينتهي مهما طال، بعكس الحزَن ـ بفتح الزّاي ـ الذي يدوم حتّى الموت، فقد كانوا يتناجون ويوهمون المؤمنين أنّ عدوهم هو أقوى منهم ويتربص بهم الدوائر؛ ليؤدي ذلك إلى حزن المؤمنين والغمّ.

{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْـئًا} : ليس: للنفي، بضارهم شيئاً: الباء للإلصاق؛ أي: النّجوى أو التّناجي أو الشّيطان ليس بضار الذين آمنوا شيئاً. ضار: من الضّر وهو ضد النّفع، شيئاً: نكرة تعني: ليس بضارهم أيّ شيء مهما كان مقداره أو نوعه، والشّيء هو أقل القليل، سواء أكان حسياً (مادياً)، أم معنوياً.

{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : إلا: أداة حصر، أو استثناء، بإرادة الله أو مشيئته.

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : وعلى الله: تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة يدل على الحصر؛ أي: على الله وحده فليتوكل المؤمنون؛ أي: يقدّمون كلّ الأسباب ما بوسعهم، ويستعيذون بالله من الشّيطان الرجيم ولا يبالون، بنجوى غيرهم ويفوضون أمرهم إلى الله لمساعدتهم.

ص: 10

سورة المجادلة [58: 11]

: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد يتعلق بآداب المجالس.

{إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} : إذا: ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث، قيل: القائل مبني للمجهول، والمهم المقولة، لكم: اللام لام الاختصاص؛ أي: لكم خاصة، تفسحوا في المجالس: إذا طلب منكم التّوسع في المجالس، مجالس العلم أو المساجد وغيرها، فليوسع أحدكم للآخر، وتفسحوا فيها معنى الجهد والمشقة والتكلف، وليس مجرد الفسح؛ أي: لا يشغل أحدكم مكان اثنين أو أكثر مما يحتاجه ليوسع لأخيه حتى يصلي أو يجلس، فافسحوا: الفاء رابطة لجواب الشّرط.

{يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} : في الرّزق أو صدوركم؛ أي: يوسع صبركم أو في العلم وأبواب الخير، فالمكان ليس ملكاً له وإنما لكم، ويجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يترك بينه وبين جاره فسحة.

{وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} : وإذا: شرطية ظرفية تفيد حتمية الحدوث.

انشزوا: أي طلب من أحد أو بعض الجالسين في المجلس بأن ينهضوا من أماكنهم ليجلس أهل الفضل والدين والعلم، فليقوموا.

انشزوا: أي انهضوا من أماكنكم أو تقدّموا قليلاً أو غيّروا أماكنكم أو قوموا من أماكنكم حتى يجلس غيركم بعد انتهاء الدّرس أو الجمعة للتوسعة على الآخرين.

{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} : في الدّنيا بالنّصر والمنزلة والكرامة والعزة، وفي الآخرة يرفعهم درجات في الجنة، وفي الآية حث وترغيب في طلب العلم الشرعي.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} : خبير؛ أي: عليم ببواطن الأمور وما تخفي الصّدور والنّوايا، وما تقولوا في السّر والنّجوى والعلن، وما تفعلوه في السّر والعلن من الإيمان والبرّ والإثم والعدوان.

ص: 11

سورة المجادلة [58: 12]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

سبب النّزول: عن ابن عباس قال: إنّ المسلمين أكثَروا الأسئلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقُّوا عليه، فأراد الله تعالى أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآية، فلما نزلت كفَّ بعض النّاس عن سؤاله. وقيل: نزلت هذه الآية في الأغنياء الذين كانوا يكثرون الأسئلة على رسول الله ويطيلون الجلوس بين يديه، وكان صلى الله عليه وسلم يصاب بحرج من ذلك.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} : نداء جديد إلى الذين آمنوا بتكليف جديد هو: إذا أردتم الحديث مع رسول الله أو مسارَّته في أمر من الأمور الخاصة بكم.

{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} : إذا شرطية ظرفية.

ناجيتم: ارجع إلى الآية (4) لمعرفة معنى النجوى.

{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} : فقدّموا قبل المناجاة صدقة للفقراء؛ لتعظيم رسول لله صلى الله عليه وسلم وانتفاع الفقراء والنّهي عن الإفراط في الأسئلة، ولم يُبيّن مقدار هذه الصّدقة.

{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} : ذلك: اسم إشارة، والمشار إليه أو المخاطب واحد، ولم يقل (ذلك)؛ لأنه للجمع، أو التوكيد في الحكم، كما في الظهار والطلاق في الآية (3)؛ أي تقديم الصّدقة قبل النّجوى، خير لكم: لما فيه طاعة الله وامتثال أوامره في الدّين، وأطهر: لأنّ الصدقة طهرة، أو لعل الصّدقة تطهّر مسارّاتكم أو نجواكم إذا حدث خلل أو مضايقة، وأطهر لأنفسكم من البخل والشُّحّ وحبّ المال.

{فَإِنْ لَّمْ تَجِدُوا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط؛ إن: تفيد الاحتمال أو القلة؛ لم: نافية؛ تجدوا صدقة.

{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : لا حرج ولا جناح عليكم وبدون صدقة؛ لأنّ المأمور بتقديم الصّدقة هو الغني القادر، ثم رفع الحكم في الآية (13) من نفس السورة، فإن: للتوكيد، غفور: لمن تاب وآمن وعمل صالحاً مهما كانت ذنوبه عددها ونوعها، رحيم: بتأخير العذاب عنه وكثير المغفرة، رحيم بعباده المؤمنين.

ص: 12

سورة المجادلة [58: 13]

{ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} :

{ءَأَشْفَقْتُمْ} : الهمزة همزة استفهام تقريري وتعجب.

الإشفاق: الخوف مع الحذر والشّعور بالعطف والتعظيم.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل، وأن تفيد الاستقبال.

{تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} : أي أخِفتُم أو حذِرتُم أن تتصدّقوا قبل مناجاة الرّسول.

{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} : إذ حرف زماني للماضي أو المستقبل وشرطية، لم: للنفي، تفعلوا: ما أمرتم به وشقَّ عليكم تقديم الصّدقات أو فعل ما أمركم الله تعالى به، وهذا يعتبر نوعاً من مخالفة الأمر ويحتاج إلى توبة.

{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : الفاء للتوكيد، أقيموا الصلاة: أي أدّوها في أوقاتها وأركانها وشروطها، وطهارتها وسننها وآدابها والمداومة عليها.

{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : الواجبة في أموالكم.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : فيما أمرا به أو نهيا عنه، فذلك يكفي عوضاً عن الصّدقة؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (32)، وسورة النساء آية (59) لمعرفة الفرق بين أطيعوا الله ورسوله، وبين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.

{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : أي يعلم بواطن الأمور ما تخفي الصّدور فيما يتعلق بالإشفاق في تقديم الصّدقات وغيرها، وخبير بما تقولون وتفعلون، وقدّم خبير على ما تعلمون؛ لأنّ السياق في تقديم الصّدقات، والإشفاق: هو عمل قلبي والله وحده يعلم به وبما تكنُّ الصّدور.

وقيل: كان بين نزول الآية (12) وهي قوله: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ، وبين نزول الآية (13) وهي:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} عشر ليال.

وقال مجاهد: لما نُهوا عن المناجاة، فلم يناجيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه تصدّق بدينار وناجاه، ثم نزلت الرّخصة فكان عليٌّ يقول: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولم يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة.

ص: 13

سورة المجادلة [58: 14]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَا هُمْ مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} :

{أَلَمْ تَرَ} : ارجع إلى الآية (7) السّابقة.

{إِلَى الَّذِينَ} : اسم موصول تفيد الذّم، وتعني المنافقين.

{تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} : قوماً: أي اليهود، تولَّوا: من الموالاة وتعني: المودة والمحبة والعون والنّصرة؛ أي: أحبوهم ومدّوا إليهم يد العون والنّصرة ونقل أسرار المؤمنين إليهم.

{مَا هُمْ مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} : ما النّافية، هم:(أي المنافقين)، منكم:(من المؤمنين) ولا: للنفي، منهم؛ أي: من اليهود، وتكرار أداة النّفي (لا) يفيد التّوكيد.

{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} : من خصوصيات القرآن هناك فرق بين: يحلفون بالله وأقسموا بالله، الحلف يأتي في سياق الكذب، والقسم يأتي في سياق الصّدق، أو يقسم على أمر يظنه صحيحاً وهو خطأ، ويصدق فيما يظنه، أو يحلفه أو يقوله لو كان على غير الحق. ارجع إلى سورة التوبة آية (56) لمزيد من البيان.

أي يحلفون على الكذب: أنهم مسلمون أو مؤمنون، أو أنهم معكم ولم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى اليهود.

يحلفون على الكذب: على تفيد الاستعلاء والمشقّة، فكأنهم جعلوا الكذب مطيَّة لهم فاستقروا واستووا عليها، أو الكذب أصبح من سماتهم التي تعلو على وجوههم واستمروا عليه.

{وَهُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{يَعْلَمُونَ} : أنهم كاذبون في أيمانهم.

ص: 14

سورة المجادلة [58: 15]

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{أَعَدَّ اللَّهُ} : هيّأ وجهّز.

{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وتقديم (لهم) يفيد الحصر، لهم تعني: المنافقين.

{عَذَابًا شَدِيدًا} : في الدّرك الأسفل من النّار.

{إِنَّهُمْ سَاءَ} : إنهم للتوكيد، ساء: من أفعال الذّم والتّقبيح.

{مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : ما: اسم موصول بمعنى الذي أو مصدرية، ولكنها أكثر شمولاً، ساء ما كانوا في الدّنيا يعلمون:(تشمل الأقوال والأفعال).

ص: 15

سورة المجادلة [58: 16]

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} :

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} : جعلوا، صيَّروا، أيمانهم:(جمع يمين) هو الحلف أو القسم.

جنة: وقاية وسترة على أنفسهم من المؤاخذة، أو وقاية من القتل والنَّبذ ووقاية على أموالهم وأهليهم من العقاب؛ أي: يستترون وراء أيمانهم من العقاب وأذى المسلمين.

{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : الفاء للتوكيد، صدوا: النّاس عن الدخول في دين الله تعالى، أو الهداية إلى الصّراط المستقيم.

{فَلَهُمْ} : الفاء للتوكيد، لهم: خاصة، اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

{عَذَابٌ مُّهِينٌ} : توكيد آخر ووعيد ثان، في الآية (15): عذاب شديد، وفي هذه: عذاب مهين؛ أي: هو عذاب فيه ذلَّة وفضيحة على مرآى من الناس.

ص: 16

سورة المجادلة [58: 17]

{لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

{لَنْ} : أداة نفي للمستقبل القريب أو البعيد في الدنيا والآخرة.

{تُغْنِىَ عَنْهُمْ} : أي لن تنفعهم أو تدفع عنهم العذاب.

{أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم} : تكرار (لا) يفيد التّوكيد، توكيد النّفي ونفي كلٍّ على حدةٍ لا الأموال وحدها ولا الأولاد ولا كلاهما معاً.

{مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : من استغراقية، شيئاً: ولو أقلّ القليل، وشيئاً: نكرة، أيّ شيء مهما كان قليلاً أو كثيراً أو مهما كان نوعه.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد ويفيد التّحقير والذّم.

{أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : أي ملازمون لها لا يفارقونها ولا تفارقهم. ارجع إلى الآية (39) من سورة البقرة.

ص: 17

سورة المجادلة [58: 18]

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} :

{يَوْمَ} : البعث أو القيامة، والتنكير يفيد التعظيم والتهويل.

{يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} : من قبورهم؛ أي: المنافقين ويحشرهم يوم القيامة أوّلهم وآخرهم.

{فَيَحْلِفُونَ لَهُ} : لله تعالى في الآخرة على أنّهم ما كانوا منافقين، أو ما ينسب إليهم من إثم وسيئات.

{كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} : الكاف للتشبيه، لكم أيّها المؤمنون الآن في دار الدّنيا: أنّهم لمنكم وماهم منكم، أو ما قالوا كلمة الكفر، وما كفروا بعد إسلامهم

وغيرها.

{وَيَحْسَبُونَ} : من حسب: وهو الظّن الرّاجح؛ أي: يعتقدون.

{أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ} : على شيء من الإيمان أو شيء من الحق، أو يعتقدون أن أيمانهم لكم تنفعهم عند الله تعالى كما كانت تنفعهم في الدّنيا، شيء: نكرة، تعني: أيّ شيء مهما كان نوعه، والشيء: هو أقل القليل سواء أكان حسياً (مادياً)، أم معنوياً.

{أَلَا} : أداة للتنبيه والتّوبيخ.

{إِنَّهُمْ هُمُ} : للتوكيد، وهم: لزيادة التّوكيد.

{الْكَاذِبُونَ} : أي صفة الكذب أصبحت ثابتة عندهم لا تتغير.

ص: 18

سورة المجادلة [58: 19]

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{اسْتَحْوَذَ} : من الحَوْذ، حاذ البعير؛ أي: ساقه سَوقاً عنيفاً.

{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} : استولى عليهم الشيطان وأحاط بهم، وغلب على عقولهم فتركوا أوامر الله تعالى وأطاعوا الشّيطان.

{فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} : أنساهم أن يذكروا الله بجميع الطّرق وشتى الوسائل، بألسنتهم وبقلوبهم وبأعمالهم، وأنساهم الصّلاة والقرآن والخوف من الله.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، ويفيد الذّم والتّحقير.

{حِزْبُ الشَّيْطَانِ} : الحزب يعني الجماعة من النّاس اجتمعوا على منهج أو مبدأ فيه مصلحتهم أو فائدة لهم.

{أَلَا} : ألا: للتنبيه والتّوبيخ.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{حِزْبَ الشَّيْطَانِ} : أتباعه وأولياءه وأنصاره.

{هُمُ} : للتوكيد.

{الْخَاسِرُونَ} : لأنفسهم ولأهليهم، الخاسرون في الدّنيا والآخرة. ارجع إلى سورة النساء آية (119) لمزيد من البيان.

ص: 19

سورة المجادلة [58: 20]

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِى الْأَذَلِّينَ} :

{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : ارجع إلى الآية (5) من السّورة نفسها؛ للبيان.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، ويفيد الذّم والتّحقير.

{فِى الْأَذَلِّينَ} : في ظرفية، الأذلِّين: جمع الأذل: وهو الأكثر ذلاً من كل ذليل، والذّل: الصَّغار والمهانة؛ أي: هم أذلُّ خلق الله.

ص: 20

سورة المجادلة [58: 21]

{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ} :

{كَتَبَ اللَّهُ} : قضى وحكم، أو كتب الله في اللوح المحفوظ أو أم الكتاب.

{لَأَغْلِبَنَّ} : بالحجة وبالقوة وكل أنواع الغلبة، واللام للتوكيد والنّون لزيادة التّوكيد؛ أي: لأغلبن الكفار (حذف ذكرهم استحقاراً لهم) أو لا يريد ذكرهم؛ لأنهم لا يستحقون الذكر.

{أَنَا وَرُسُلِى} : أنا: ضمير الشأن يفيد التفخيم، ورسلي: الأنبياء والرسل.

{إِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد.

{قَوِىٌّ عَزِيزٌ} : ارجع إلى سورة الحديد آية (25).

ص: 21

سورة المجادلة [58: 22]

{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

{لَا تَجِدُ قَوْمًا} : (هذا هو المفروض).

{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ} : ارجع إلى سورة البقرة آية (8) لمزيد من البيان. (يحبّون ويوالون).

{مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : حاد؛ أي: من عادى الله ورسوله وشاقَّهما ولو كانوا أقرباءهم مثل آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، وهذا الزّجر والنّهي عن موالاة أعداء الله ورسوله ورد بلفظ الخبر.

{أُولَئِكَ} : تعود على الذين يؤمنون بالله ورسوله ولم يوادُّوا من حادَّ الله ورسوله، كتب في قلوبهم الإيمان: أي أثبته وأقرَّه في قلوبهم.

{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} : أي بالقرآن، وسمّاه روحاً وسمّى من نزل به الرُّوح الأمين (أي جبريل)، كما قال تعالى في سورة الشروى آية (52):{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} .

{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : ورضوان الله عليهم أعلى درجة من دخولهم الجنات.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد، تفيد المدح والتّعظيم.

{حِزْبُ اللَّهِ} : حزب: ارجع إلى آية (19) من السّورة نفسها؛ أي: أولياء الله وأنصاره.

{أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} : ألا: للتنبيه والتّوكيد.

{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد، المفلحون: النّاجون من النّار والفائزون بالجنة، الفلاح: هو النّفع الباقي ونَيل الخير الدّائم. ارجع إلى سورة البقرة آية (5) لمزيد من البيان في معنى (المفلحون).

ص: 22

سورة الحشر [59: 1]

سورة الحشر

ترتيبها في القرآن (59) وترتيبها في النزول (101).

أسباب النّزول: بعد أن انتصر المسلمون في غزوة بدر وعادوا إلى المدينة جاء بنو النّضير (من يهود المدينة) رسولَ الله وعاهدوه على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ويبقوا على الحياد، وبعد غزوة أُحد أظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذهب وفداً من بني النّضير إلى قريش في مكة، وكان كعب بن الأشرف رئيس الوفد، واجتمع كعب بزعيم قريش أبي سفيان، وعاد كعب إلى المدينة فأخبر الله سبحانه نبيَّه بما حصل، وأمر النّبي بقتل كعب بن الأشرف، وأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالمسير إلى بني النّضير بعد أن قُتل كعب بن الأشرف، وأمرهم بالخروج والجلاء عن المدينة المنورة فرفضوا، وانحاز المنافقون إلى جانب بني النّضير وشجعوهم على ألَّا يخرجوا من ديارهم وعاهدوهم إن قاتلكم محمّد وأصحابُه لننصرنَّكم وإن خرجتم للقتال لنخرجنَّ معكم، وحاولوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم برئاسة عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول.

وحاصر الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بني النّضير (21) يوماً خلالها قذف الله سبحانه الرّعب في قلوب بني النّضير، ويَئِسُوا من مساعدة المنافقين لهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّلح، فقبل على شرط جلائهم عن المدينة بلا رجعة، فنزلت هذه الآيات تصف ما حدث.

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

ارجع إلى سورة الحديد الآية (1) للبيان في معنى سبح لله ما في السموات

وهناك اختلاف بين الآيتين هو تكرار (ما في) مرتين، ففي سورة الصف والحشر قال تعالى:{مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} بينما في سورة الحديد قال تعالى: {مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فقد تبين من مقارنة هذه الآيات إفادة ذكر (ما في) اسم الموصول وفي الظرفية قد يكون للتوكيد، أو هذا التّكرار لوحظ أنه يصحبه عادة الكلام عن أهل الأرض كالجهاد أو القتال في سبيل الله مثلاً، أو يأتي في مقام التّفصيل في البيان والآيات والشمول والاستغراق مثل الفزع والصعق والسجود الذي يشمل أهل الأرض والسموات، وعدم إعادة (ما) اسم الموصول يكون في مواطن الإجمال، أو للتخصيص لأنَّ هناك أشياء ومخلوقات في السموات، ليست موجودة على الأرض أو بالعكس كالملائكة المقربين أو الحافين من حول العرش، حرف (ما) يشمل العاقل وغير العاقل، وهذا التحليل ينطبق للإعادة (ما في) أو إعادة (من في) في كل آيات القرآن.

ص: 23

سورة الحشر [59: 2]

{هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِى الْأَبْصَارِ}

{هُوَ} : ضمير فصل يعود على الله سبحانه واجب الوجود.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : أيْ: بني النّضير (من اليهود).

{مِنْ دِيَارِهِمْ} : قرب المدينة على مسافة (2) ميل من المدينة.

{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} : سُمِّيَ هذا الجلاء بأوّل حشر، أي: الحشر الأول، وأمّا الحشر الثّاني فقد قيل: كان بعد غزوة خيبر، أو ربما يكون يوم القيامة، واللام في كلمة لأول للتوقيت، كقوله تعالى:{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

{مَا ظَنَنتُمْ} : أيها المسلمون أن بني النّضير يخرجون ويتركون ديارهم لعزتهم ومنعتهم، فقد كانوا أهل حصون ونخيل ومال.

{أَنْ يَخْرُجُوا} : أن للتعليل والتّوكيد.

{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} : وظنوا، أي: بنو النّضير أن حصونهم تحميهم أو تقيهم من الله، أيْ: من بأس الله تعالى ونقمته؛ فتقدم الخبر (مانعتهم) على المبتدأ (حصونهم) يدل على شدة اعتمادهم حماية حصونهم لهم ونصرهم على المؤمنين.

{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} : أيْ: جاءهم بأسه أو عذابه من حيث لم يخطر على بالهم لقوتهم أن يأتيهم من جهة محمّد صلى الله عليه وسلم وصحابته المؤمنين، وأنّهم قادرون على حصارهم لمدة (21) يوماً.

{وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} : القذف الإلقاء بقوة، أي: ملأ قلوبهم رُعباً، وخاصة بعد قتل سيدهم كعب بن الأشرف؛ والرعب: الاضطراب النفسي الناشئ عن أمر لم يكن متوقع أو منتظر، ويتمثل بمزيج من الخوف والشدة، ومحاولة الفرار، وإيجاد مخرج أو ملجأ.

{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ} : لما أيقنوا بالجلاء، فقد كانوا يقلعون العمد والأبواب فيأخذونها معهم لكونها ثمينة، ولكي لا يسكن ديارهم أحد من المسلمين أو المؤمنين، فحاولوا تخريب منازلهم من الدّاخل وخرب المؤمنون ما تبقى من ديار بني النّضير.

{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِى الْأَبْصَارِ} : اعتبروا مشتقة من العبرة، وهي الدّلالة الموصلة إلى الحق والعبرة، الحالة التي يُعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم بمقارنة أو مساواة شيء مشاهد أو محسوس إلى الوصول إلى أمر لم يكن متوقع أو منتظر؛ يا أولي الأبصار، يا أصحاب العقول، أي: البصائر أو ذوي البصيرة، كيف أخرج الله سبحانه بني النضير من ديارهم وهزمهم على يد المؤمنين الذين لا زلت جراحهم تنزف دماً من الهزيمة في معركة أُحد. ارجع إلى سورة آل عمران آية (13) لمزيد من البيان في أولي الأبصار.

ص: 24

سورة الحشر [59: 3]

{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} :

{وَلَوْلَا} : الواو استئنافية، لولا شرطية.

{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.

{كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} : كتب: قضى وحكم أو فرض، وكتب أبلغ من فرض عليهم الجلاء من المدينة، أي: الخروج الجماعي من المدينة مع الأهل والولد خوفاً، وهناك فرق بين الجلاء والإخراج؛ أما الإخراج: فهو الخروج الذي قد يكون لواحد أو جماعة مع بقاء الأهل والولد. والجلاء: يشمل الأهل والأولاد، والجلاء: مصدر لفعل جلا.

{لَعَذَّبَهُمْ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد واقعة في جواب الشّرط.

{فِى الدُّنْيَا} : بالقتل والسّبي والفقر والمرض أو غيرها.

{وَلَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.

{فِى الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} : أيْ: وإن نجوا من عذاب الدّنيا بأن أجلوا من ديارهم من دون قتل وتشريد، فلن ينجوا في الآخرة من عذاب النّار بسبب نقضهم ميثاقهم وعهودهم ومحاربتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 25

سورة الحشر [59: 4]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، يشير إلى الجلاء الذي كتب عليهم والعذاب بأنّهم شاقوا الله ورسوله.

{بِأَنَّهُمْ} : الباء للإلصاق والتّعليل.

{شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : شاقوا من المشاقة والمشتقة من الشّق، أيْ: بني النّضير في شقٍّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شقٍّ آخر،، خالفوا الله وعادوا الله ورسوله.

{وَمَنْ} : شرطية استغراقية.

{يُشَاقِّ اللَّهَ} : يعادي ويخالف الله سبحانه، يشاق ولم يقل: ورسوله؛ لأن مشاقة الرسول هي مشاقة لله، ولم يفك إدغام يشاق ويقل: يشاقق؛ لأنه سبحانه لم يذكر الرسول مرة أخرى ولو ذكره لفكَّ الإدغام. ارجع إلى الأنفال آية (13) للبيان والمقارنة.

{فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : الفاء للترتيب والمباشرة إن للتوكيد، العقاب: هو الجزاء على العمل عقيب فعله.

ص: 26

سورة الحشر [59: 5]

{مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ} :

أسباب النّزول: كما أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر في أثناء حصار بني النّضير قام بعض الصّحابة بقطع بعض شجر النّخيل وإحراقه لإغاظة بني النضير، فقال بنو النّضير: كيف ينهى محمّد عن الفساد في الأرض، ثم يأمر قومه بحرق النّخيل وقطعه. فنزلت هذه الآية تُبيح عمل بعض الصّحابة، ولا إثم عليهم وكل شيء قطعوه أم لم يقطعوه كان بإذن الله.

{مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ} : ما: النّافية، قطعتم: قطع كامل أو بعض الأغصان.

من: ابتدائية بعضية، لينة: نخلة شجرة نخل وجمعها أليان، واختيار لينة بدلاً من نخلة؛ لأن لينة تعني: كرام النّخل أو نوع من النّخل غنية بثمرها ولثمرها ألوان مختلفة واحدها لون أو لينة.

{أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} : أيْ: لم تقطعوها وتركتموها قائمة على سوقها وجذورها.

{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} : فبأمر الله تعالى.

{وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ} : أي: الإذن بالقطع، ليخزي: اللام للتعليل، الفاسقين على فسقهم، والخزي هو ذل لهم وفضيحة، أخبر جبريل عليه السلام رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك الحكم، أيْ: لا إثم عليه ولا على المؤمنين. والفاسقين: جمع فاسق، وهو الخارج عن الدين، أو متعدي لحدود الله ورسوله. ارجع إلى سورة البقرة آية (26) لمزيد من البيان.

ص: 27

سورة الحشر [59: 6]

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} : وما: الواو: عاطفة على ما قطعتم من لينة؛ ما: شرطية، أفاء: أيْ: ما أعطى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من فيء بني النّضير (غنائم بني النّضير) هو خاص به، ولا شيء لكم منه، فالأمر لله تعالى يعطي أو يقسم الفيء، كما يشاء الله، فهذه أموال لم تأخذونها بالقتال أو الحرب.

أما الفرق بين الفيء والأنفال: فالفيء هي الغنائم التي تؤخذ من العدو من دون قتال؛ كأن يفر العدو من أرض المعركة تاركاً وراءه غنائم أو أسلحة أو أموال أو كان نتيجة عقد صلح وسلام، أما الأنفال: فهي الغنائم التي تؤخذ من العدو بقتال وحرب. ارجع إلى سورة الأنفال آية (1) للبيان.

{فَمَا} : الفاء للتوكيد.

{أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} : الإيجاف الإسراع في السّير، أيْ: ما أسرعتم بالمسير إليه بالركوب، الركاب: ما يُركب من الإبل أو السّيارات أو وسائل النّقل الحديثة. أيْ: لم تقاتلوا عدواً من أجله أو تبذلوا جهداً للحصول عليه.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} : رسلَهُ محمّد صلى الله عليه وسلم على من يشاء من أعدائه، ورسله قد تعني أيضاً ملائكته فيقذفون الرّعب في قلوب أعداء الله تعالى.

{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : أيْ: يمنح هذه الغنائم لمن يشاء تارة بحرب، وتارة من دون حرب، فهو على كل شيء قدير. ارجع إلى الآية (1) من سورة التّغابن للبيان.

أيْ: هذه الغنائم من بني النّضير أخذت منهم قهراً وعنوة، ومن دون قتال فلم يعطِ الأنصار نصيباً منها حيث طلبوا قسمة تلك الغنائم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى هذه الأموال للمهاجرين، وقسمها حسب ما أوحى إليه ربه، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر منهم.

ص: 28

سورة الحشر [59: 7]

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} :

{مَا أَفَاءَ اللَّهُ} : ما: اسم شرط جازم، ولم يسبقها واواً كما في الآية السابقة (6)؛ لأن الكلام استئناف، أو هذه الآية ليس لها علاقة بما سبق؛ فهي حكم جديد في أمر الفيء؛ فقد كان البيان الأول: ما أفاء الله على رسوله منهم (هذا أمر خاص ببني النّضير).

أما البيان الثّاني: فهو بيان عام يشمل كل الكفار والأعداء وهو ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى كافة التي تفتح من دون قتال أو حرب (قرى الكفار عامة).

فهي توزع كما يلي (1/ 5) خُمس هذه الغنائم هي لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل.

أما الأربعة أخماس الأخرى (4/ 5) فللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأبنائهم؛ تعني: المهاجرين وبعض الفقراء خاصة.

{فَلِلَّهِ} : تعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: سهم الله للتعظيم أو يعني للرسول، ويصرف سهم الرّسول بعد موته صلى الله عليه وسلم على الإمام أو الجيش أو مصالح المسلمين، وسهم ذي القربى: يوزع على بني هاشم وبني عبد المطلب.

وسهم اليتامى: أطفال المسلمين الذين فقدوا آباءهم وهم فقراء.

وسهم المساكين: ذوي الحاجة من المسلمين.

وابن السّبيل: المنقطع في سفره من المسلمين، وليس معه مال يرده إلى بلده.

{كَىْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} : دُولة: بضم الدّال وليس دَولة، دَولة: هي الحكومة أو الوطن، أما دُولة فلكيلا يتداولها الأغنياء بينهم، أي: تقع في أيديهم.

{كَىْ} : للتعليل الحقيقي.

{لَا} : النّافية.

كي لا يكون: الفيء أو الغنيمة، غنيمة للأغنياء منكم وهم ليسوا بحاجة إليه.

{مِنكُمْ} : خاصة.

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} : من مال أو غنيمة أو فيء، وما أمركم به الرسول فافعلوه.

{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} : وما أمركم بتركه والابتعاد عنه فاجتنبوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].

وطاعته صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

يتبيَّن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي حق التّشريع.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : امتثلوا أوامر الله وتجنبوا نواهيه، فبذلك تتقوا سخطه وغضبه وناره.

{إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : إن للتوكيد، شديد العقاب: لمن عصاه وتعدَّى حدوده.

ص: 29

سورة الحشر [59: 8]

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} :

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} : اللام لام الاستحقاق والملكية، للفقراء المهاجرين: الأربعة أخماس الباقية من الغنائم.

وتبدو هذه الآية إجابة على سؤال حين سُئل بما أنّ الخُمس (1/ 5) يصرف لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل، فلمن تصرف الأربعة أخماس الباقية من الغنائم، فجاء الرّد الإلهي للفقراء والمهاجرين.

{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} : أي: أخرجوهم كفار مكة وأخذوا أموالهم وتركوا ديارهم ومتاعهم حين خرجوا من مكة إلى المدينة مهاجرين.

{أُخْرِجُوا} : رغماً عن إرادتهم وقسراً وقهراً، ولم يقل: خرجوا: أي: بإرادتهم ورغبتهم.

{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} : يطلبون أو يلتمسون فضلاً من الله: الفضل هو الزيادة عما يستحق العبد من الأجر والثواب على ما يقدِّمه من أعمال صالحة، والفضل ليس بواجب لأحد، ولكن الله يتفضل على من يشاء من دون سبب وأعظم الفضل التوفيق ورؤية وجهه الكريم في الجنة.

{وَرِضْوَانًا} : رضوان الله هو أكبر من الجنة والمساكن الطيبة والنعيم كما قال تعالى في سورة التوبة آية (72): {فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} . والرضا هو اطمئنان القلب إلى أمر فيه نفع. ارجع إلى سورة آل عمران آية (15) لمزيد من البيان في الرضوان.

{وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : من النصرة، وهي تقديم المعونة الخاصة للأنبياء والرسل للنصرة على أعدائهم ولنصرة هذا الدِّين وإعلاء كلمة الله تعالى.

أما الفرق بين المعونة والنصرة، فالمعونة عامة والنصرة خاصة تكون بالجهاد والمال، وغيرها من الوسائل.

{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} : أولئك اسم إشارة واللام للبعد تفيد المدح. هم: ضمير فصل يفيد التوكيد.

الصادقون: في أقوالهم وأفعالهم وإيمانهم ونصرتهم لله ورسوله قرنوا الإيمان بالعمل الصالح، والصّادقون صفة ثابتة لا تتغيَّر فيهم.

وإذا قارنا هذه الآية (8) من سورة الحشر {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} : والآية (273) من سورة البقرة {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ} .

نجد أن آية الحشر جاءت في سياق الفيء وتقسيم الغنيمة، وأما آية البقرة فجاءت في سياق الصدقة.

ص: 30

سورة الحشر [59: 9]

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : الذين: أي: الأنصار الذين سكنوا المدينة من قبل المهاجرين، تبوَّءُوا الدار: سكنوا المدينة، والإيمان: الإيمان ليس بمكان يتبوَّأ فكيف عطف الإيمان على الدّار؛ لأنّ الإيمان هو اعتقاد أو عقيدة فكأنه شبه الإيمان بمنزل أو مسكن آخر لهم فأصبح لهم منزلين وفي هذا مدح للأنصار فهم سكنوا المدينة والإيمان سكن في قلوبهم بعد إسلامهم. ارجع إلى سورة يونس آية (87) لمزيد من البيان في معنى تبوأ.

{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} : من مكة أو غيرها من سائر المدن، ومن هاجر إليهم من المؤمنين.

{وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} : ولا يجدون في صدروهم في أنفسهم حاجة، أي: حسداً ولا غيظاً مما أُعطي المهاجرون من الفيء أو الغنيمة.

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} : من الإيثار وهو تقديم مصلحة الغير على النّفس بأموالهم ومنازلهم، أي: يقدِّمون المهاجرين على أنفسهم أو يؤثرون المهاجرين على أنفسهم في المال والمتاع.

{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} : الخصاصة الفقر والحاجة وسوء الحال.

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} : من شرطية، يوق شح نفسه: يحمي نفسه من الشّح، والشّح: هو أشد البخل مع الحرص الشّديد على المال ومنع الخير وكأنه جُبل عليه.

فمن كفاه الله البخل والإفراط في الحرص على المال، فأدَّى ما أوجبه الشّرع عليه من زكاة وصدقة.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط.

{هُمُ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

{الْمُفْلِحُونَ} : أي: هؤلاء في طليعة المفلحين يوم القيامة، المفلحون: المدركون أمانيهم، أي: الفائزون بالجنة والنّاجون من النّار والمدركون لأمانيهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (5) لمزيد من البيان في معنى الفلاح.

ص: 31

سورة الحشر [59: 10]

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} :

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} : أي: من بعد المهاجرين والأنصار في الزمان وهم التابعون، أو قد تعني: ليس فقط التّابعون لهم في حقبة معينة من الزّمن، بل الإيمان أي: من أمن بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.

{يَقُولُونَ رَبَّنَا} : اغفر لنا ذنوبنا ويقولون تدل على التّجدُّد والتّكرار.

{وَلِإِخْوَانِنَا} : واغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان (من المهاجرين والأنصار).

{وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا} : حقداً أو حسداً لما أتاهم الله سبحانه في المنزلة والحظ في الآخرة.

{رَبَّنَا} : تكرار ربنا يفيد التّوكيد والتقرُّب من الله تعالى.

{إِنَّكَ} : للتوكيد.

{رَءُوفٌ} : الرّأفة أخص من الرّحمة وأشد، وتكون للمؤمنين خاصة.

{رَحِيمٌ} : بعباده المؤمنين ـ دائم الرّحمة ـ ويقيهم السّيئات والضّر ويجلب لهم ما يُسر.

ص: 32

سورة الحشر [59: 11]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :

{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّعجب.

{تَرَ} رؤية قلبية فكرية.

{إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} : من قريش، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم وأخفوا كفرهم في قلوبهم أمثال عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول وأصحابه.

ارجع إلى سورة المنافقون آية (1) لمزيد من البيان.

{يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : (اليهود من بني النّضير وقريظة).

{لَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن أخرجتم: من المدينة، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الشّك.

{لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} : اللام والنّون في يخرجنَّ للتوكيد، أيْ: لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم.

{وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} : ولا نطيع في قتالكم أحداً أبداً مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لا نطيع في خذلانكم أحداً أو مخالفة ما وعدناكم من الولاء والنّصرة.

{وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} : إن شرطية، تفيد ندرة الحدوث، أو الاحتمال، أو الشّك، قوتلتم: قاتلكم أحد لننصرنكم، واللام والنّون في لننصرنكم للتوكيد.

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} : إنّ واللام في لكاذبون للتوكيد، إنهم لكاذبون في وعودهم لبني النّضير بالخروج معهم أو القتال معهم ونصرتهم.

ص: 33

سورة الحشر [59: 12]

{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} :

{لَئِنْ} : اللام للتوكيد، إن شرطية تفيد الشّك أو الاحتمال.

{أُخْرِجُوا} : من ديارهم أو أُجلُوا عن المدينة أو غيرها من المدن، أو القرى.

{لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} : لا النّافية يخرجون معهم كما وعدوهم.

{وَلَئِنْ} : مثل السّابقة.

{وَلَئِنْ قُوتِلُوا} : من قبل المسلمين أو غيرهم لا ينصرونهم كما وعدوهم.

{وَلَئِنْ نَّصَرُوهُمْ} : يعني: ولئن نصروا بني النّضير.

{لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} ليفرُّون هاربين مهزومين معهم، وتكرار لئن للتوكيد ولفصل كل واحد من هذه الاحتمالات على حِدَةٍ.

{ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} : ثم للتراخي من الزّمن، أي: لا ينصرون الآن، ولا في المستقبل مهما طال، وفي هذا وعد للمؤمنين بالنّصر على الكافرين والمنافقين.

ص: 34

سورة الحشر [59: 13]

{لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} :

{لَأَنتُمْ} : اللام لام الاختصاص للتوكيد، أنتم أيها المؤمنون.

{أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} : أشد رهبة في صدورهم (أي: في قلوب المنافقين) من الله، والرّهبة: هي الخوف والحذر، أي: يخافونكم ويخشونكم ويحذرونكم أكثر مما يخافون الله ويحذرونه ويخشونه.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة يشير إلى الرّهبة.

{بِأَنَّهُمْ} الباء للإلصاق والملازمة.

{قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} : الفقه: الفهم لا يفهمون. والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية، وإدراك المعاني والأسرار الخفية في كلام الله تعالى؛ فهم لا يفقهون؛ لأنهم خافوا منكم لشعورهم بالضعف، ولم يخافوا الله سبحانه القهار والجبار؛ أي: خافوا الظاهر، ولم يخافوا ما وراءه وهو الله سبحانه؛ ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان في يفقهون.

ووصفهم في الآية (11){لَكَاذِبُونَ} .

ووصفهم في الآية (14){لَا يَعْقِلُونَ} .

فهم لا يفقهون ولا يعقلون إضافة إلى كونهم يكذبون.

ص: 35

سورة الحشر [59: 14]

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} :

{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ} : لا: النّافية، يقاتلونكم: أضاف النّون للتوكيد أصلها لا يقاتلوكم، أي: اليهود والمنافقون.

{جَمِيعًا} : أيْ: لا يقاتلونكم حين تكونون مجتمعين موحَّدين تحت راية واحدة، ولكن يقاتلونكم حين تكونون متفرقين.

{إِلَّا فِى قُرًى مُحَصَّنَةٍ} : إلا: أداة حصر، في قرى محصنة: أي: حين يكونوا قد تحصنوا في حصونهم وقلاعهم وخنادقهم، أو قرى محصنة بنوع جديد من التّحصن، وهو زرع البطاريات المضادة للصواريخ أو القبة الحديدية.

{أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} : ببناء الجدر العازلة بين المدن أو على الحدود.

{بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} : البأس الحرب بينهم، شديد: أي: إذا قاتلوا بعضم بعضاً يقاتلون بشدة.

{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} : تحسبهم من الحسب، وهو الظّن الرّاجح، تظنون ظناً راجحاً أنهم موحَّدون متفقون في الظاهر.

{وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} : قلوبهم متفرقة لاختلاف عقائدهم ونواياهم ومقاصدهم، أي: في الباطن متفرقون ومختلفون، وفي الظّاهر أو العلن موحدون.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة إلى تفرقهم وبأسهم بينهم شديد.

{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} : الباء: للإلصاق والملازمة، لا يعقلون: لا يفكرون فيما فيه صلاحهم وعاقبة أمرهم ولا يدركون الحق؛ لا يعقلون: لأن قلوبهم متفرقة (شتى)، ولو عقلوا وأدركوا الحق لما قاتلوكم، وأصابهم ما أصابهم.

ص: 36

سورة الحشر [59: 15]

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : الكاف للتشبيه، الذين: اسم موصول، من قبلهم: من تدل على الزّمن القريب (أي: من زمن قريب).

أي: مثل بني النّضير والمنافقين كمثل الذين من قبلهم قد يكونون بني قريظة أو بني قينقاع أو كفار قريش يوم بدر في خيانة العهود ومحاربة الرّسول صلى الله عليه وسلم والغدر وعدم الإيمان.

{ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} : ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وتخاذلهم وعدم الوفاء بعهودهم، والوبال: في الأصل: من البول، ويعني: الشّدة والثّقل والوخامة، ثم استعير ليمثل سوء عاقبتهم ووَبل المرتع وبالاً: كثر فيه البول ووَخْم فيه الرّائحة الوسخة. وذكرت كلمة وَبَال في القرآن في (4) سور: المائدة آية (95) والحشر آية (15) والتغابن آية (5) والطلاق آية (9).

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : في الآخرة.

ص: 37

سورة الحشر [59: 16]

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِاءٌ مِنْكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} :

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} : الكاف للتشبيه، كمثل الشيطان: أي: مثل المنافقين فيما صنعوا، مع بني النّضير في إغرائهم على القتال معهم ونصرتهم والخروج معهم.

{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ} : أي: أغراه ووسوس إليه وزين له الكفر.

{فَلَمَّا كَفَرَ} : أي: استجاب للشيطان.

{قَالَ إِنِّى بَرِاءٌ مِنْكَ} : تبرؤ الشّيطان فيه مخافة أن يشاركه في العذاب.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} : جمع خوفين خوف من الألوهية، وخوف من الرّبوبية. ارجع إلى سورة الأنفال آية (48) لمزيد من البيان.

ص: 38

سورة الحشر [59: 17]

{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ} :

{فَكَانَ} الفاء استئنافية، كان: تشمل كل الأزمنة ومنها المستقبل.

{عَاقِبَتَهُمَا} : الشّيطان والإنسان.

{أَنَّهُمَا} : للتوكيد.

{فِى} : ظرفية.

{خَالِدَيْنِ فِيهَا} : خلود يبدأ من زمن دخولهم إليها وبلا نهاية.

{وَذَلِكَ} : الواو للتوكيد، ذلك: اسم إشارة يشير إلى العذاب والخلود في النّار.

{جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ} : الجزاء على العمل والجزاء يكون في الخير والشّر وأما الأجر يكون عادة في الخير، الظالمين: الكافرين والمشركين.

ص: 39

سورة الحشر [59: 18]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف وأمر جديد بتقوى الله.

{يَاأَيُّهَا} : الياء النداء وللبعد والهاء للتنبيه.

{الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} : التّقوى هي امتثال أوامر الله وطاعته، وتجنب نواهيه؛ لكي نتقي سخطه وغضبه وناره.

{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} : الواو عاطفة، واللام لام الأمر أو التّوكيد.

{نَفْسٌ} : 1 – جاءت بصيغة التّنكير تعني: أيَّ نفس مثقلة بالذّنوب أو زكية أو مطمئنة أو غيرها.

ونفس تشير إلى القلة، أي: الأنفس النّواظر لغد قلة.

{مَا قَدَّمَتْ} : ما بمعنى الذي أو مصدرية، (وما) أوسع شمولاً من الذي. قدَّمت: أحضرت أو عملت من الأعمال الصّالحة ليوم حسابها.

{لِغَدٍ} : اللام لام التّوقيت وغد يعني: يوم القيامة وجاء بصيغة التّنكير للتهويل والتّعظيم، ولقرب يوم القيامة، وتحقق وقوعه اعتبره الغد، أي: اليوم الذي يلي اليوم الذي نحن فيه، أو أي: يوم في المستقبل قريباً أو بعيداً.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : تكرار ذلك يعني: التّوكيدَ والحضَّ على التّقوى والاستقامة عليها.

{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : إن للتوكيد، خبير: ببواطن الأمور، ومخفيات الصّدور، وقدَّم خبير على ما تعملون؛ لأنّ السّياق في التّقوى والتّقوى عمل قلبي لا يعلمه إلا الله تعالى. ولم يقل: إن الله بما تعملون خبير.

ص: 40

سورة الحشر [59: 19]

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} :

{وَلَا} : الواو حرف عطف، لا: النّاهية.

{تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} : نسوا طاعة الله وذكر الله، ونسوا الصلاة أو عبادة الله أو نسوا امتثال أوامره وتجنب نواهيه، أو نسوا حق الله عليهم.

{فَأَنسَاهُمْ} : الفاء فاء السّببية، أيْ: أنساهم أن يقدِّموا خيراً لأنفسهم وتركهم في شهواتهم وغيهم وضلالهم يعمهون، كما نسوا الله سبحانه وتعالى أنساهم أنفسهم باللهو واللعب وإضاعة الزمن والانشغال بتوافه الأمور والجدال أحياناً مع الناس من دون علم والتمتع والأكل كما تأكل الأنعام.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يشير إلى الذين نسوا الله.

{هُمُ} : للتوكيد.

{الْفَاسِقُونَ} : أيْ: إذا كان هناك فاسقون فهم في المقدِّمة، والفسق هو الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله.

ارجع إلى الآية (26) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

ص: 41

سورة الحشر [59: 20]

{لَا يَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} :

{لَا} : النّافية.

{يَسْتَوِى} : في المنزلة والدّرجة والفضل كلٌّ من أصحاب النّار وأصحاب الجنة.

والآية تعني: لا يستوي أصحاب النّار فهم في درجات مختلفة قيل: سبع دركات والدّرك الأسفل للمنافقين، وقيل: هي جحيم وجهنم ولظى وسعير وسقر والحطمة والهاوية.

وأصحاب الجنة هم درجات، فقد قيل: إنّ الجنة (100) درجة وبين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض بُعداً.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} : إعادة كلمة أصحاب الجنة للتوكيد، وكلمة أصحاب مشتقة من الصّحبة: الملازمة وعدم الفرقة والصّداقة والمودة.

وقدَّم أصحاب النّار على أصحاب الجنة؛ لأنّ سياق الآيات في الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أو قدَّمها للتنبيه والتّحذير، أو لكثرة عددهم.

ص: 42

سورة الحشر [59: 21]

{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} :

{لَوْ} : حرف امتناع لامتناع، امتنع نزول القرآن على جبل لامتناع رؤية الجبل خاشعاً متصدعاً.

{أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} : ولو أُنزل هذا القرآن على جبل وحصل ذلك لرأيته خاشعاً؛ الخشوع: الخضوع والذل والانكسار، وتظهر آثاره في القلب والسمع والبصر والصوت متصدعاً من خشية الله تعالى، أو من خشية القرآن، والخشية: هي الخوف المقرون بالتعظيم، والعلم فيمن تخشاه؛ لأنّ القرآن كلام الله تعالى أو يتصدع من كلام الله فإذا تصدع من كلام الله، فكيف إذا تجلى الرّب سبحانه للجبل، كما حصل حين طلب موسى ذلك، فقد جعله دكاً وخرَّ موسى صعقاً؟

وأنت أيها الإنسان أنزل إليك القرآن، فلا يخشع له قلبك، ولا يقشعر له جلدك، ولا تتأثر به حين يُتلى عليك أو تتلوه بنفسك.

فلو أنزل هذا القرآن على الجبل الجامد الذي يزن ملايين الأطنان يلين ويتصدع وأنت هجرته وراء ظهرك وهذا توبيخ لهؤلاء الذين لا يقرؤون ولا يتأثرون به؛ مما يدل على أن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.

{وَتِلْكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.

{الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} : مثل إنزال القرآن على جبل.

{لَعَلَّهُمْ} : لعل للتعليل.

{يَتَفَكَّرُونَ} : ينظرون في الآيات والدّلائل، فإذا تفكروا وتدبروا فسوف يصلون إلى النتيجة أنّ الله هو الإله الحق واجب الوجود المستحق للعبادة وحده. وقيل: ضرب الأمثال لإزالة الغموض.

ص: 43

سورة الحشر [59: 22]

{هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} :

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.

{اللَّهُ} : هو علم على الذات الواجب الوجود، الإله الحق لا إله إلا هو المستحق العبودية وحده، لا شريك له في الملك، والخلق، فهو مالك الملك وإليه يرجع الأمر كله في الأولى والآخرة، والله: الاسم الجامع لجميع صفات الكمال والجامع للأسماء الحسنى تفرَّد به سبحانه واختصه لنفسه، وقدَّمه على سائر الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء لا مثيل ولا نظير ولا صاحبة ولا ولد ولا شريك.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الكمال والتّعظيم.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا إله: تفيد النّفي، إلا هو: تفيد الإثبات أو توكيد النّفي.

ارجع إلى سورة البقرة آية (255) لمزيد من البيان.

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم الغيب: أيْ: عالم ما غاب عن المدركات والحواس واستتر، عنده علم السّاعة ويعلم ما في السموات والأرض والبر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا يعلمها، وما يعزب عنه من مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، يعلم ما في الأرحام وما تخفي الصّدور ويعلم ما تكسب كل نفس وبأي أرض تموت والسّر والنّجوى.

{وَالشَّهَادَةِ} : عالم ما يشاهد بالمدركات والحواس، وما يجري في كونه وما يعلمه خلقه وهو اللطيف الخبير.

{هُوَ} : تكرار هو للتوكيد والحصر.

{الرَّحْمَنُ} : هو من شملت رحمته جميع الكائنات في الدّنيا بما في ذلك المؤمن والكافر والمطيع والعاصي والحيوان والنّبات، صيغة مبالغة من الرّحمة على وزن فعلان تفيد التّجدُّد والتّكرار.

{الرَّحِيمُ} : رحيم بعباده المؤمنين في الدّنيا والآخرة، على وزن فعيل تفيد الثّبوت، فالله سبحانه جمع بين الصّفتين حتى يظن أحد أنّ رحمته قد تزول أو تنقطع، فهي رحمة ثابتة ومتجدِّدة ومتكرِّرة في الدّنيا.

ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (2) لمزيد من البيان.

ص: 44

سورة الحشر [59: 23]

{هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : ارجع إلى الآية السابقة.

{الْمَلِكُ} : الحاكم ومشتقة من التّملك، أي: المالك فهو يملك السموات والأرض، ومن فيهن، وهو ملك الملوك فهو الملك الحقيقي؛ لأنه مالك الملك له ما في السموات وما في الأرض، له وحده، وما يملكه البشر وغيرهم هو استخلاف ومُلك مؤقت زائل.

{الْقُدُّوسُ} : الطّاهر المنزه من العيوب وكل ما لا يليق به، المبالغ في التّنزيه والكمال، منزه عن كل ما تحيط به العقول أو يتصوره الخيال ومنزه عن كل وصف يدركه الحس، وتقدس في اللغة تطهَّر، والتّقديس هو التّطهير والقدس الطّهر، ويعني: التّطهير والبركة وأعظم تقديس قدس الله سبحانه ذاته عن اتخاذ الصّاحبة والولد والشّريك والنّد والتّقديس يتم بطريقتين: تنزيه الله عما لا يليق به، ومدح الله تعالى بما هو أهله، ولم ترد القدوس إلا مع الملك وذكرت في سورة الحشر وسورة الجمعة.

{السَّلَامُ} : من العيوب والنّقائص، السّلام: من السّلامة والأمن، السّلامة من الظّلم وهو مصدر السّلام والأمن في الدّنيا والآخرة والسّلامة في الوجود والوقاية من الآفات والمصائب والشّر والضّر وكل مكروه.

{الْمُؤْمِنُ} : واهب الأمن والطّمأنينة، أمَّن عبادَه الظّلمَ أو الجورَ، وأمَّن أولياءَه عذابَه وسخطه، والمصدِّق لنفسه ورسله.

والشّاهد على أنّه لا إله إلا هو، شهد لنفسه بالوحدانية قبل شهادة خلقه وإليه يُعزى الأمن والأمان.

{الْمُهَيْمِنُ} : القوي الخاضع لسلطانه كل شيء والمسيطر والمدبر لكل شيء الرّقيب والقائم والشّاهد على أعمال خلقه ورزقهم وآجالهم، والهيمنة تعني كذلك: الرّعاية، أيْ: راعي كل شيء في كونه وخلقه.

{الْعَزِيزُ} : العزيز القوي عظيم القدرة له العزة جميعاً، عزة القوة وعزة القهر والغلبة وعزة الامتناع، فهو الغني عن خلقه لا يحتاج إلى أحد من خلقه ولا يضره أحد من خلقه، وورد هذا الاسم (88) مرة في القرآن الكريم.

{الْجَبَّارُ} : قهر خلقه وكونه ونفذت مشيئته وإرادته في عبيده إذا بطش إن بطش ربك لشديد، وإذا أخذ إن أخذه أليم شديد والجبار صفة تعظيم وتعني: القدرة مع كل شيء، صيغة مبالغة من جبر، ورغم أنه هو الجبار لكن لم يجبر عباده على عبادته وطاعته وترك لهم الخيار.

{الْمُتَكَبِّرُ} : ذو الكبرياء والعظمة، عن كل من سواه والمتعالي عن صفات الخلق والغني عن خلقه.

وذكر هذا الاسم مرة واحدة في هذه الآية فقط.

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : ارجع إلى سورة النحل آية (1) للبيان.

ص: 45

سورة الحشر [59: 24]

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{هُوَ اللَّهُ} : ارجع الآية (22).

{الْخَالِقُ} : أصل الخلق هو التّقدير وإيجاد الشّيء من العدم.

{الْبَارِئُ} : المظهر والقادر على إيجاد أو إظهار ما خلق إلى الوجود.

{الْمُصَوِّرُ} : أعطى لكل مخلوق أو شيء حقيبته الوراثية؛ صورته وشكله ولونه وأبعاده وهيئته ليتميَّز بها عن غيره رغم كثرتها وتعدُّدها وصور خلقه كيف يشاء وأحسن صورهم.

{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : تقديم له تفيد الحصر، الأسماء الحسنى: ارجع إلى سورة الأعراف آية (180) للبيان في الأسماء الحسنى.

{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة، وإلى سورة الجمعة آية (1).

وانظر كيف بدأت سورة الحشر بقوله: سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، وكيف انتهت بقوله: يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم؛ مما يدل على توافق بداية السورة مع نهايتها.

ص: 46

سورة الممتحنة [60: 1]

سورة الممتحنة

ترتيبها في القرآن (60) وترتيبها في النّزول (91).

الممتحِنة بكسر الحاء: أي: المرأة التي تعطي الامتحان مثل المديرة أو المعلمة.

الممتحَنة بفتح الحاء: أي: المرأة التي تأخذ الامتحان (تُمتحَن) كما رجح الحافظ ابن حجر، وقال ابن عباس، والواحدي في أسباب النزول: نزلت في سُبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من كتابة صلح الحديبية.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} :

أسباب النّزول: نزلت هذه الآية بسبب كتاب حاطب بن أبي بَلتَعة إلى أهل مكة بعد صلح الحديبية بعد أن نكثت قريش العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، استشار رسول الله بعض الصّحابة بالخروج إلى قريش وطلب منهم ألا يخبروا أحداً بذلك، ولكن حاطب بن بلتعة رضي الله عنه ممن شهد بدر وهاجر مع رسول الله- كتب رسالة يخبر بها قريشاً بما ينوي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الرّسالة إلى امرأة هي سارة مولاة لبني عبد المطلب أتت المدينة في حاجة، فدفع إليها حاطب بالرّسالة، وأخبر الله سبحانه رسولَه بما فعل حاطب بن أبي بلتعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً والزّبير والمقداد لملاقاة تلك المرأة وأخذ الرّسالة منها، وحصل ذلك ودعا رسول الله حاطب بن أبي بلتعة وسأله عما حدث، فاعترف بذنبه، وبيَّن سبب فعلته هذه أنّ له بين أظهرهم (قريش) ولد وأهل، وأراد عمر بن الخطاب ضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن حاطب بن أبي بلتعة، ونزلت هذه الآية. كما ذكر الواحدي في أسباب النزول.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد، والهاء للتنبيه.

{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} : لا النّاهية، تتخذوا: تجعلوا أو تصيروا، عدوي:(أيْ: عدو الله) وهو من لم يؤمن بالله وما أنزل وبرسوله، أي: الكفار والمشركين.

وعدوكم: من قاتلكم وخانكم أو ظاهر عليكم، أولياء: جمع وليٍّ، أي: أعوان ونصراء.

{تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} : الإلقاء هنا بمعنى الإرسال: ترسلون إليهم لتخبروهم بأسرار المسلمين وأخبار النّبي صلى الله عليه وسلم، بالمودة: الباء للإلصاق والمودة: هي المحبة والإخلاص والوفاء، وكل مودة محبة، وليس كل محبة مودةً، فالمودة تبدأ بالمحبة، ثم تتحول إلى مودة، أيْ: تتخذونهم بطانة وأولياء وتسرون إليهم وتنصحونهم.

{وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} : وقد: الواو للتوكيد، قد للتحقيق، كفروا بما جاءكم من الحق: أيْ: كفروا بالقرآن الكريم وآياته وأحكامه وما جاءكم من ربكم، ولم يؤمنوا به أو يصدِّقوه، أيْ: جحدوا به وكذبوه، والباء للإلصاق والملازمة، ما اسم موصول بمعنى الذي جاءكم أو مصدرية. و (ما) أوسع شمولاً من (الذي).

{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} : من مكة بالتّضييق عليكم ومحاربتكم وجاءت بصيغة المضارع للدلالة على حكاية الحال، أيْ: وكأن الإخراج يحدث الآن أمام الأعين.

{أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} : أن مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد، أيْ: لأجل أو بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم.

{إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى} : إن: شرطية تفيد الاحتمال والشّك والنّدرة؛ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي: لا تفعلوا ذلك؛ أي: تلقوا إليهم بالمودة؛ أي: تخبروهم بأسراكم؛ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء؛ أيْ: إن كنتم خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيلي وطلباً لمرضاتي لا تتخذوهم أولياء أو لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.

{تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} : تسرون إليهم بالإخبار بسبب مودتكم إياهم.

{وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} : من المودة للكفار، من إرسال الرّسائل أو النّوايا والأعمال والحيل والمكر، وما أعلنتم: بألسنتكم من الصّدق والكذب والحق والباطل، وما أخبرتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسباب والباء للإلصاق، وما: اسم موصول أو مصدرية ومن شرطية.

{وَمَنْ يَفْعَلْهُ} : يعود على الاتخاذ، أيْ: يوادد أعداء الله ورسوله ويفشي إليهم بالإسرار أو يَسر إليهم بالمودة.

{مِنكُمْ} : خاصة، وليس من غيركم.

{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} : فقد: الفاء للتوكيد، قد: للتحقيق، أخطأ طريق الصّواب والحق، السّواء هو في الأصل الوسط والسّبيل هو الطّريق المستقيم.

ص: 47

سورة الممتحنة [60: 2]

{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} :

{إِنْ} : شرطية تفيد الافتراض واحتمال الحدث أو النّدرة.

{يَثْقَفُوكُمْ} : أيْ: إذا ذهبتم إليهم وتمكنوا منكم أو ظفروا بكم.

{يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} : تقديم لكم تفيد الحصر أو لكم خاصة ليس لغيركم، قال: أعداء، ولم يقل: عدو: أعداء تعني في كثير من الأمور وليس أمراً واحداً، ولو كان في أمر واحد لقال: عدو.

{وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} : يبسطوا: من البسط: وهو المد، والبسط: قد يكون بالسوء، أو بالخير، والسياق هو الذي يحدد كقوله تعالى:{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]، وكقوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وتعني: بالخير والعطاء، وبالسوء يعني: بالقتل والأسر والأذى وقدَّم إليكم للحصر أو خاصة.

{بِالسُّوءِ} : الباء: للإلصاق والدوام، والسوء: اسم مصدر لا يجمع، والسوء: كل ما يسيء إلى النفس، وله معان كثيرة جداً؛ منها: القتل، والعذاب، والشرك، والمرض، والذنب، والإثم، والقبيح، والظلم، والأذى.

{وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} : تمنوا لو تكفرون، لو: حرف تمنٍّ وترجٍّ، أيْ: ودوا كفركم، أيْ: تمنوا لو ترتدون إلى الكفر عن الإيمان فتكونون سواءً.

ص: 48

سورة الممتحنة [60: 3]

{لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

{لَنْ} : حرف للنفي، تنفي المستقبل القريب والبعيد.

{تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} : أيْ: لن تفيدكم قراباتكم الذين عصيتم الله لأجلهم يوم القيامة أو في الآخرة، أيْ: لن ينفعوكم حتّى توالوا لأجلهم الكفار، بل ينفعكم اتِّباع أوامر الله ورسوله وعدم اتخاذهم أولياء أو ترك موالاتهم هذا الذي ينفعكم.

{وَلَا أَوْلَادُكُمْ} : الواو: عاطفة، لا: للنفي تفيد توكيد النفي، أيْ: لن تنفعكم أرحامكم وحدها لو ظننتم ذلك، ولن تنفعكم أولادكم وحدها إن ظننتم ذلك، ولن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم معاً.

{يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : ظرف زماني.

{يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} : يفرق بينكم، أيْ: يحكم بينكم بأن تكونوا في الجنة لإيمانكم بالله ورسوله، بينما أرحامكم وأولادكم الذين ماتوا على الكفر في النّار، فما فائدة المعصية لأجلهم واتخاذهم أولياء.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : والله سبحانه يرى كلّ ما تعملونه في الظّاهر والباطن ومحيط بكلّ شيء من أقوالكم وأفعالكم لا تخفى عليه خافية، وقدَّم تعملون على بصير؛ لأنّ الآية في سياق الأعمال.

ص: 49

سورة الممتحنة [60: 4]

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} :

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ} : قد: للتحقيق، كانت لكم: أيها المؤمنون (المسلمون).

{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ} : أُسوة: قدوة صالحة في إبراهيم عليه السلام قولاً وفعلاً، والقدوة: المثل الأعلى الذي يُقتدى به في البراءة من الكفار والمشركين.

{وَالَّذِينَ مَعَهُ} : والذين: تدل على الكثرة، والذين معه: من المؤمنين فتأسوا بهم؛ إذ أعلنوا براءتهم من الكفار ومن الشرك بالله تعالى.

{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} : إذ: ظرف زماني بمعنى حين قالوا لقومهم: إنا بُرَآءُ منكم وأنتم عليكم أن تقولوا لأهليكم من الكفار والمشركين.

{إِنَّا بُرَآؤُا مِنكُمْ} : بُرَآءُ: جمع بريء: من يبرأ وبراءة، أي: لا صلة بيننا وبينكم ولا تقربونا ولا نقربكم كذلك.

{وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله، من الأصنام والآلهة.

{كَفَرْنَا بِكُمْ} : أي: لا نصدقكم ولا نقرُّ بأنكم أولياء لنا أو أقارب لنا.

{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} : أي: وظهر جلياً بيننا وبينكم ولم يعد خافياً.

{الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} : أي: الكراهية والبغض والعداوة.

{أَبَدًا} : دائماً.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} : عندها، أي: إذا آمنتم بالله وحده عندها تكونون لنا أولياء، فالإيمان بالله وحده هو الجامع المشترك بيننا وبينكم.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} : ارجع إلى سورة الأنعام آية (74) للبيان؛ أي: عليكم التأسي بإبراهيم إلا قوله لأبيه (لعمه آزر): لأستغفرن لك، فليس لكم التّأسي بإبراهيم في ذلك (بأن تستغفروا للكفار)، ولو كانوا آباءَكم أو إخوانكم.

{لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} : قالها إبراهيم عليه السلام لعمه قبل أن يتبيَّن له أنّه عدو لله تعالى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].

{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.

{أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ} : أي: لا أملك القدرة على الشفاعة لك أو النجاة، ولا أستطيع أن أدفع عنك من عذاب الله من شيء، وكان ذلك كما قال تعالى قبل: عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين أنّه عدو لله تبرأ منه.

{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} : ربنا: ولم يقل: يا ربنا حذف ياء النّداء للدلالة على قربه من الله تعالى، ربنا عليك توكلنا: التّوكل يعني: الاعتماد على الله والتّفويض له بعد تقديم كلّ الأسباب للوصول إلى المرجوِّ، وتقديم عليك: للحصر لا نتوكل إلا عليك وحدك. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لبيان معنى التوكل.

{وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} : الإنابة: الرّجوع وسرعة التوبة والعودة إلى الله تعالى، تقديم إليك يفيد الحصر والقصر؛ أي: الإنابة لله وحده.

{وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} : إليك وحدك المصير: المنتهى والمآل.

ولا بُدَّ من مقارنة إنا بُرَآءُ منكم في هذه الآية مع قوله: بُرَآءُ {إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26]. ارجع إلى سورة الزخرف للبيان.

ص: 50

سورة الممتحنة [60: 5]

{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{رَبَّنَا} : ولم يقل: يا ربنا حذف ياء النّداء الدّالة على البعد لقرب الله تعالى من عبده، فهو أقرب إليه من حبل الوريد بعلمه وقدرته.

{لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : لا: النّاهية، تجعلنا فتنة: أي: لا تعذبنا بأيدي الذين كفروا أو تظهرهم علينا أو تسلطهم علينا يفتنوننا عن ديننا.

{وَاغْفِرْ لَنَا} : ذنوبنا وتقصيرنا في طاعتنا.

{إِنَّكَ} : للتوكيد والحصر.

{أَنْتَ} : للتوكيد.

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : العزيز: القوي القاهر الذي يقهر ولا يُقهر، والغالب الذي لا يُغلب، والممتنع لا يناله أحد بسوء، الحكيم: في تدبير شؤون خلقه وكونه وشرعه وأنت أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

ص: 51

سورة الممتحنة [60: 6]

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} :

هذه الآية ليست تكراراً للآية (4)، فالآية الرّابعة جاءت في سياق اتخاذ إبراهيم أسوة حسنة، ومثال للقدوة في التبرؤ من الشّرك والمشركين والتبرؤ من أبيه (عمه آزر وقومه)، وأمّا الآية السّادسة هذه فجاءت في سياق اتخاذ إبراهيم أسوة حسنة وقدوة صالحة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، أي: أسوة حسنة في الإيمان والطّاعة والاستعداد لليوم الآخر وتجنب المعاصي، والآية (6) أشد توكيداً على أهمية اتخاذ إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه، ولذلك قدم إبراهيم والذين آمنوا معه على الأسوة؛ لأنَّ إبراهيم ومن معه هم الأهم والأسوة تابعة لهم أو ملحقة بهم؛ بينما في الآية (4) قدَّم الأسوة على إبراهيم والذين معه، واستخدم للتوكيد (لقد) بدلاً من (قد)، وكان بدلاً من كانت.

{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق.

{كَانَ لَكُمْ} : كان تشمل كل الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، وكان (بالتّذكير) أقوى من القول كانت (بالتّأنيث) لكم: اللام لام الاختصاص، أي: لكم خاصة.

{فِيهِمْ} : أي: إبراهيم والذين معه.

{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} : قدوة صالحة مثالية ومثل أعلى.

{لِمَنْ} : اللام للتوكيد.

{كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} : يؤمن بالله ويرجو لقاء ربه وحسابه وثوابه ومغفرته ويخاف ويخشى عذاب الآخرة وأهوال يوم القيامة.

{وَمَنْ يَتَوَلَّ} : من شرطية، يتول: أي: يذهب بعيداً ويصد عن الإيمان ويكفر بالله.

{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} : الفاء للتوكيد، إن: أيضاً لزيادة التوكيد، هو: للحصر والتوكيد، وأل التّعريف في الغني الحميد للتوكيد فجاءت الآية بأربع أدوات للتوكيد: الفاء وإن وهو وأل التّعريف، الغني: عن خلقه وعبادة خلقه لا يحتاج إلى غيره، بل هو المغني غيره، عنده خزائن السموات والأرض التي لا تنقص ولا تنفذ، غناه هو الغنى المطلق التّام ويرزق من غناه من يشاء بغير حساب، له ما في السموات وما في الأرض، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، الحميد: أي: المحمود من خلقه، أهل الثناء والحمد له الحمد كله؛ لأنّه يستحق أن يحمد لنعمه وفضله وإحسانه وكرمه ورزقه لعباده وخلقه، تحمده مخلوقاته حمداً دائماً لا ينقطع.

الحميد منذ الأزل على ذاته وصفاته وأفعاله وتدبيره ورحمته.

ص: 52

سورة الممتحنة [60: 7]

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

المناسبة: بعد أن نزلت الآية (4) قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه في التبرؤ من أقاربهم المشركين عندها تبرأ بعض المؤمنين من الصّحابة من أقاربهم المشركين في مكة وأظهروا لهم العداوة، وكان ذلك صعباً على المسلمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت في خزاعة وبني مدلج حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه، كما رُوِيَ عن ابن عباس.

{عَسَى اللَّهُ} : من أفعال الرّجاء؛ أي: الترجي المتحقق حدوثها؛ ولعل: من أفعال الترجي أيضاً تفيد الإشفاق؛ أي: راجين الله تعالى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم مودة.

{أَنْ} : هنا تفيد للدلالة على الاستقبال.

{يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم} : أي: من كفار مكة منهم (خاصة) أو غيرهم.

{مَّوَدَّةً} : أي: يسلموا ويصبحوا إخوانكم ومواليكم وتتحول العداوة إلى مودة والفرقة إلى ألفة.

{وَاللَّهُ قَدِيرٌ} : على كلّ شيء، صيغة مبالغة على القدرة، ولم يقل: قادر لا يعجزه شيء في الأرض ولا السّماء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : إعادة كلمة الله تدل على التّوكيد على أنّه قدير، وعلى أنّه غفور رحيم وأنّه قدير وغفور رحيم معاً، وغفور صيغة مبالغة من غفر، غفر لمن أخطأ، ثم تاب وأناب، ويغفر الذّنوب جميعاً إلا الشّرك، رحيم: لا يعجل لهم العقاب ولا يعذبهم بعد التّوبة والإنابة إليه، رحيم بعباده المؤمنين ورحمته دائمة ثابتة.

ص: 53

سورة الممتحنة [60: 8]

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} :

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} : لا: النّاهية، لا ينهاكم الله: أي: لا يمنعكم الله عن مبرة، أي: المعاملة الحسنة أو الإحسان

إلخ. إلى الذين لم يقاتلوكم في الدِّين.

{عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ} : (من أجل الدِّين) ولم يخرجوكم من دياركم بالحرب أو القسر أو القوة.

{أَنْ} : للتعليل والتّوكيد.

{تَبَرُّوهُمْ} : تحسنوا إليهم كصلة الرّحم وحسن الجوار والضّيافة. وسعة الفضل واللين، وقيل: البر: هو الخير الواصل إلى الغير مع القصد، أي: النية.

{وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} : لا تظلموهم أو تجوروا عليهم، بل تعاملوهم بالعدل مع التنفيذ والوفاء لهم بالوعود والأمانة.

{إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد.

{يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} : جمع مقسِط، أي: الذي يرفع الظّلم عن العباد ولا يجورُ عليهم.

ص: 54

سورة الممتحنة [60: 9]

{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} : أي: يمنعكم الله أيها المؤمنون عن الموالاة والقرب من هؤلاء الذين قاتلوكم في الدّين، وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم: مثل زعماء قريش وكفارها أو غيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

{أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} : أن: حرف مصدري للتعليل والتّوكيد، تولوهم: تتخذوهم أولياء تمدوا إليهم بالعون والنّصرة والمحبة والمسرة.

{وَمَنْ} : شرطية ومن تفيد الواحد والاثنين والجمع والذّكر والأنثى.

{يَتَوَلَّهُمْ} : منكم.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء للتوكيد، أولئك: اسم إشارة واللام للبعد يفيد التّحقير والذّم.

{هُمُ} : للتوكيد.

{الظَّالِمُونَ} : الظلم: هو الجور والتّعدي، والإنسان يظلم نفسه بالخروج عن منهج الله تعالى.

ويعصي الله ورسوله، وبفعل المعاصي والذنوب، أو يظلم غيره بالتّعدي على حقوقه.

ص: 55

سورة الممتحنة [60: 10]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْـئَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْـئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد، والهاء للتنبيه.

سبب النزول: كما أخرج الشيخان البخاري والمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات يردن الهجرة، فأنزل الله فيهن هذه الآية.

{إِذَا} : شرطية ظرفية تدل على حتمية الحدوث، أي: سيأتيكم المؤمنات.

{جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} : الهجرة في اللغة: الخروج من أرض إلى أرض، وفي الشرع: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو الهجرة من أرض السوء إلى أرض الصلاح.

{فَامْتَحِنُوهُنَّ} : الامتحان: الاختبار لمعرفة سبب هجرتهن، امتحنوا إيمانهن: لتعلموا هل هن راغبات في الإسلام وحباً في الله تعالى ورسوله أم هنَّ هاربات من أزواجهنَّ طمعاً في دنيا أو غيره من النوايا.

{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} : جملة اعتراضية، أي: اعلموا أنه يكفي لكم العلم الظّاهر، أما العلم الحقيقي أو الباطن أو النوايا فليس مطلوباً منكم أن تعلموا أسرارهنَّ ونواياهنَّ.

{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} : الكفار جمع كافر (الكفر المضاد للإيمان) وفيها مبالغة والكفار أكثر من الكافرين، وتعني: عموم الكافرين وتعني: الحدث أو الاسم (الكفر) والكافرين يغلب عليها فعل الكفر. وعلل عدم رجوعهنَّ إلى أزواجهنَّ الكفار لا هنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ.

والسّؤال: لماذا غيَّر صيغة من {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} (حين ذكر النساء)، وقال تعالى:{وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (حين ذكر الرجال)، ولم يقل: ولا هم حلٌّ لهنَّ أو لا هنَّ يحللن لهم ولا هم يحلُّون لهنَّ؟

الجواب: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} جملة اسمية تدل على الثّبوت، أي: من النّادر أن تتغير حالة إيمانهن وتصبح المؤمنة كافرة بينما جاء بالصّيغة الفعلية {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} التي تدل على التّجدُّد والتّكرار حين ذكر الرّجال؛ لأنّ الكافر قد يصبح مؤمن إذا أسلم وآمن.

{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} : أعطوا أزواجهن الكفار مثل ما دفعوا إليهن من المهور هذا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء، وأمّا إذا كان زوجها من أهل العهد فعليه رد الصّداق أو المهر. ارجع إلى المصادر الفقهية لمزيد من البيان.

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} : أجورهنَّ، أيْ: مهورهنَّ، لا: النّافية، جناح: إثم أو حرج عليكم، إن: للتعليل، تنكحوهنَّ: تتزوجوهنَّ بعقد ومهر.

{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} : لا: النّاهية، أي: من كانت له امرأة كافرة لم تهاجر مع زوجها، فقد زالت عصمة النّكاح؛ أي: حكم الزواج، وهو العصم أو الحبل الذي يربطهما، أي: تخلوا عن عقد النّكاح بينكم وبين الكوافر، الكوافر: جمع كافرة على وزن فواعل جمع تكسير جمع كثرة، والكوافر أكثر عدداً من الكافرات، فالكوافر جمع كثرة، أمّا الكافرات فجمع قلة، ولم يذكر الكافرات في القرآن، وذكرت الكوافر مرة واحدة في القرآن في هذه الآية.

{وَسْـئَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ} : أي: إن لحقت امرأة منكم بالكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر.

{وَلْيَسْـئَلُوا مَا أَنْفَقُوا} : أي: ليسأل المشركون أو الكفار الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم فادفعوا إليهم ما أنفقوا.

{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} : ولم يقل: ذلك؛ لأن ذلكم: تدل على التّوكيد والأهمية، ولأنّه يشمل عدة أحكام مهمة، وليس حكماً واحداً.

{يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} : يقضي بينكم.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} : عليم بأحوالكم وأقوالكم وأفعالكم ونواياكم وأسراركم.

{حَكِيمٌ} : مشتقة من الحكم فهو أحكم الحاكمين أو الحكمة فهو أحكم الحكماء حكيم في شرعه، وما يفرض عليكم من أحكام. ارجع إلى سورة البقرة الآية (119) لمزيد من البيان.

ص: 56

سورة الممتحنة [60: 11]

{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَـئَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} :

أسباب النزول: قيل: نزلت هذه الآية في أمّ الحكم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها ولم ترتد غيرها، ثمّ عادت إلى الإسلام. كما رُوِيَ عن ابن عباس.

{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة.

{فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} : أي: إن ذهبت إحدى الزّوجات وارتدت عن الإسلام، أو ارتدت إحدى أزواجكم إلى الكفار ولم يدفعوا إليهم ما دفع من المهر.

{فَعَاقَبْتُمْ} : أي: غزوتم هؤلاء الكفار وغنمتم بعض المغانم من جراء الحرب والقتال معهم.

{فَـئَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنْفَقُوا} : أي: أعطوهم من الغنائم ما يعادل المهور التي دفعوها لأزواجهم اللائي ذهبن إلى الكفار.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : وأطيعوا أوامر الله وتجنبوا نواهيه بتنفيذ حكمه وشرعه.

{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.

{أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} : جمع مؤمن، ويعني: إيمان العقيدة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ هذا يدل على أنّ الإيمان يبعث على التّقوى، مؤمنون صفة ثابتة فيهم.

ص: 57

سورة الممتحنة [60: 12]

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْـئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

المناسبة: حدثت هذه البيعة في فتح مكة ومكانها كان على الصّفا، وسُمِّيت بيعة النّساء على الصّفا، وقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية، فمن قبلت بهذه الشّروط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهنَّ بالكلام.

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء جديد إلى النّبي صلى الله عليه وسلم بحكم جديد، والهاء للتنبيه.

{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} : البيعة: العهد على الإسلام والطّاعة. ارجع إلى سورة الفتح آية (10) لمزيد من البيان في معنى البيعة.

{عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْـئًا} : أن: حرف مصدري يفيد التّعليل.

لا: النّاهية، يشركن بالله شيئاً: أي: مهما كان من صنم أو بشر أو غيره.

بالله: الباء للإلصاق، أي: إشراك عقيدة أو عبادة أو أيِّ شيء مهما كان.

{وَلَا يَسْرِقْنَ} : تكرار (لا) النّاهية تفيد التّوكيد، وفصل كلّاً من هذه الأمور المحرَّمة على حِدَةٍ.

{وَلَا يَزْنِينَ} : من الزّنى (الفاحشة) الجماع من غير عقد شرعي.

{وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} : يعني: بالوأد، وأد البنات أو إسقاط الجنين.

{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} : البهتان: الكذب المتعمَّد الذي يبهت سامعه أو يدهشه، يفترينه: الافتراء: الاختلاق، أي: اختلاق الكذب المتعمَّد الذي يبهت سامعه، بين أيديهنَّ وأرجلهنَّ: كناية عن الولد؛ لأنّ الولد إذا وضعته، أي: ولدته أمّه سقط بين يديها ورجليها، مثال: تزني وتقول لزوجها: هذا ولدي منك.

{وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} : أي: لا يعصينك في حكم من الأحكام أو في جميع ما أمرتهنَّ من شرائع الإسلام.

{فَبَايِعْهُنَّ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، بايعهنَّ: أي: اقبل بيعتهنَّ على تلك الشّروط معاً.

{وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} : اطلب لهنَّ المغفرة لكلّ ما فعلن من هذه الأمور المذكورة قبل هذه البيعة، أو ما سلف من ذنوبهنَّ.

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : إنّ للتوكيد، غفور رحيم: ارجع إلى الآية (7) من نفس السّورة.

ص: 58

سورة الممتحنة [60: 13]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد إلى الذين آمنوا بتكليف جديد، والهاء للتنبيه.

{لَا تَتَوَلَّوْا} : لا: النّاهية، تتولوا: من الولاية وهي المحبة والتّقرب والعون أو النصح لأعدائكم ونقل أخبار المسلمين إليهم ولا تتولوهم بالنّصرة أيضاً أو لكي يصيبكم منهم منفعة أو عرض دنيوي.

{قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : اليهود وغيرهم.

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.

{يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} : اليأس: هو انقطاع أو فقدان الرجاء من الشّيء أو الأمر، واليأس: محله القلب، والقنوط: أشد من اليأس، والقنوط حالة خاصة من اليأس، فحين يشتد اليأس وتظهر آثاره على الفرد يصبح قانطاً من رحمة الله وتنقطع به السبل، (ونقيض اليأس: الرّجاء)، إما لكونهم لا يؤمنون بالبعث والحساب أو يؤمنون بالحساب ولكن يئسوا من ثواب الآخرة؛ لكثرة معاصيهم وبعدهم عن الله سبحانه.

{كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} : كما: الكاف للتشبيه، أي: لا تتولوا هؤلاء اليهود الذين غضب الله عليهم الذين يئسوا من ثواب الآخرة، كما يئس الكفار من عودة أصحاب القبور إلى الدنيا مرة أخرى ليحدِّثوهم بما حلّ بهم.

ومن الجدير بالانتباه إلى نهاية السّورة، وهي قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم، تشبه بداية السّورة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء؛ مما يدل على توافق بداية السور مع نهايتها.

ص: 59

سورة الصف [61: 1]

سورة الصف

ترتيبها في القرآن (61) وترتيبها في النّزول (109).

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

ابتدأت هذه السورة بنفس الآية التي ابتدأت بها سورة الحشر آية (1) ارجع إلى سورة الحشر للبيان، ومن الملاحظ أيضاً ذكر القتال في سبيل الله في كلا الآيتين بعد ذكر التّسبيح.

ص: 60

سورة الصف [61: 2]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد، وتحذير واستعمل يا النّداء والهاء الدّالة على التّنبيه.

{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} : لم: ما الاستفهامية حذفت ألفها وتفيد الاستفهام الإنكاري والتّوبيخي والتّعجب، تقولون: جاء بصيغة المضارع بدلاً من صيغة الماضي (فهذا يُسَمَّى حكاية الحال) وهو أن يعبر عن الحدث الماضي بصيغة المضارع لاستحضار ما قالوه وكأنه يقال الآن ويجب النّظر فيه وعدم تكراره. أو لأنه يدل على التجدُّد والتكرار؛ أي: ما قالوه لا يزال يحدث الآن قول بلا فعل.

تعال ننظر ما قالوا: هم قالوا قبل أن يفرض الجهاد: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه، فأخبر الله تعالى نبيه أنّ أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله وجهاد في سبيله، ولما فرض الجهاد تقاعس فريق من الذين قالوا ذلك عن الجهاد في سبيل الله أو الخروج، فنزلت هذه الآية: لم تقولون أنكم تريدون أن تجاهدوا في سبيل الله، ثمّ لا تفعلونه، أو تقولون: لو خرجتم إلى الجهاد لخرجنا معكم، ثم لا تخرجون أو لو أمرتنا لأطعناك، ثمّ يأمرهم، ثم يتولون وهم معرضون.

ص: 61

سورة الصف [61: 3]

{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} :

{كَبُرَ مَقْتًا} : عظم وقبح، مقتاً: المقت أشد البغض وأبلغه.

{عِنْدَ اللَّهِ} : عند ظرفية مكانية، أيْ: أنّ الله يمقت من يقول ما لا يفعل أو إذا وعد أخلف.

{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.

{تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} : تكرار ما لا تفعلون مرتين للتهويل وتعظيم الأمر والتّعجب.

ص: 62

سورة الصف [61: 4]

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} :

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.

{يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ} : الحب لما فيه من الثّواب والأجر العظيم للذين يقاتلون في سبيل الله، أي: ابتغاء وجهه ومرضاته، وهذا يدل على أن الجهاد أمر محبوب عند الله تعالى، وتركه أمر ممقوت.

{صَفًّا} : أيْ: صافين صفاً واحداً.

{كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} : كأنّهم في اتحادهم وقتالهم في سبيل الله بنيان محكم لا فرج فيه ولا خلل، مرصوص من التّراص والتّلاصق والثّبات في الجهاد. يشد بعضه بعضاً.

ص: 63

سورة الصف [61: 5]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَدْ تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله تعالى أنّه يحب الذين يقاتلون في سبيله كأنّهم بنيان مرصوص يذكر الله طرفاً من قصة موسى عليه السلام مع قومه حين دعاهم إلى قتال القوم الجبارين ودخول الأرض المقدسة فخالفوه وعصوه، وقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

{وَإِذْ} : تعني: واذكر إذ قال موسى لقومه.

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ} : ياء النّداء نداء فيه التّودُّد والتّحبُّب والاستعطاف، واللام في كلمة لقومه للاختصاص.

{لِمَ تُؤْذُونَنِى} : لم: استفهام تعجبي واستنكاري، تؤذونني: بأقوالكم وأفعالكم، كما ذكر ذلك في سورة الأحزاب الآية (69):{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} ، أو تؤذونني بالعصيان ومخالفة أوامر الله سبحانه. وعبادة العجل والتكذيب بآيات الله وعدم دخول الأرض المقدسة أو اتهامه بعيوب غير حقيقية وقذفه بالباطل.

{وَقَدْ تَّعْلَمُونَ} : قد للتحقيق والتّوكيد.

{تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} : من خلال كلّ هذه الآيات والمعجزات كانفلاق البحر والغمام والمن والسّلوى وانفجار الحجر ورفع الطّور ومن خلال التّوراة والألواح، أنّي: للتوكيد، رسول الله إليكم: خاصة (أيْ: لبني إسرائيل).

{فَلَمَّا زَاغُوا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، زاغوا: من الزّيغ وهو الميل عن اتِّباع الحق إلى اتِّباع الباطل، زاغوا عن الإيمان وانصرفوا عنه إلى ارتكاب المعاصي والآثام وقتل الكثير من الأنبياء. وزاغوا مأخوذة من زيغ الأسنان أيْ: ميل بعضها عن بعض والحاجة إلى تقويمها.

{أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} : أيْ: تركهم في ريبهم يتردَّدون ولم يهدهم.

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : جمع فاسق وهو الخارج عن طاعة الله والدّين، واتباع طريق الفسق والضّلال والثّبات عليه بدلاً من طريق الطّاعة والهداية والتزام منهج الله والذهاب بعيداً في طريق الضلال، ولم يعد هناك أيُّ أمل في عودته، فالله سبحانه يتركه وشأنه، وما اختار لنفسه من الفسق، والزيغ ارجع إلى الآية (26) من سورة البقرة لمزيد من البيان.

ص: 64

سورة الصف [61: 6]

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

المناسبة: كما أنّ بني إسرائيل عصوا موسى عليه السلام، وزاغوا كذلك عصوا عيسى عليه السلام، وقالوا للبينات، أي: المعجزات {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

{وَإِذْ} : أيْ: واذكر إذ قال عيسى أو اذكر حين قال عيسى ابن مريم: {يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ} : ولم يقل: يا قوم كما قال موسى عليه السلام: يا قوم؛ لأنه لا نسب له فيهم وهم ليسوا منه. أيْ: ليسوا قومه.

{إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم} : إنّي للتوكيد، رسول الله إليكم خاصة.

{مُّصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} : مؤيداً ومقراً بالتّوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام من قبلي قولاً وعملاً.

{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى} : مبشراً من البشارة: الخبر السّار لأوّل مرة والذي يولد السّرور على وجه المبُشر.

{اسْمُهُ أَحْمَدُ} : أيْ: محمّد صلى الله عليه وسلم واسم أحمد أو محمد كلاهما مشتق من صفة الحمد، وأحمد، أيْ: أحمد خلق الله لله تعالى، ومحمّد المحمود من الكلّ أو ذات يقع عليها الحمد من غيرها أو يحمده الكثير من الخلق، وله أسماء أخرى منها الماحي الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر الذي يحشر النّاس بعده والعاقب (المقضي) أي: الآخر الذي يأتي آخر الأنبياء أو نبي الرّحمة. وخاتم النبيين.

{فَلَمَّا} : الفاء للتوكيد، لما: ظرفية بمعنى حين.

{جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : أيْ: جاءهم عيسى عليه السلام والضّمير في جاءهم تعود على بني إسرائيل، أيْ: جاء عيسى عليه السلام بني إسرائيل بالبينات: بالمعجزات الدّالة على صدق نبوته وعلى عظمة الله وقدرته مثل إحياء الموتى وخلق الطّير من الطّين وإبراء الأكمه والأبرص وإخبارهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم.

{قَالُوا} : أيْ: بني إسرائيل قالوا معاندين مكذبين.

{هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة ويشير إلى ما جاء به عيسى، سحر: ارجع إلى سورة طه الآية (58) للبيان، مبين: واضح لكل فرد ولا يحتاج إلى برهان أو دليل أنّه سحر وأطلقوا عليه سحر؛ لأنه كان خارقاً للعادة أو لأنه أثر في أنفسهم.

ص: 65

سورة الصف [61: 7]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : الواو استئنافية، مَنْ: استفهام يفيد النّفي والتّوبيخ والتّقرير، استفهام بصيغة السّؤال كي يشارك المخاطب في الإجابة بدلاً من القول: لا أظلم ممن افترى على الله الكذب (جملة إنشائية)، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب، وافترى: من الافتراء وهو الكذب المتعمَّد المختلق، والكذب جاء بصيغة المعرفة بينما في كثير من الآيات يأتي الكذب بصيغة النّكرة، فيقول: فمن أظلم ممن افترى الله كذباً أو كذب بآياته، والكذب هنا يقصد به ما تقدم من قول اليهود وجعل البينات سحراً، والتّكذيب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما ورد في صفاته في التّوراة والإنجيل.

{وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} : وهو ضمير فصل يفيد التّوكيد، يدعى إلى الإسلام: أيْ: إلى التّوحيد والدّين الحق. من أهل الكتاب أو المشركين.

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : ارجع إلى سورة الجمعة الآية (5) للبيان، والظالمين: المشركين، وسورة البقرة آية (54) للبيان.

ص: 66

سورة الصف [61: 8]

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِـئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} :

{يُرِيدُونَ} : اليهود وغيرهم من الذين أشركوا والكفار، ليطفؤوا نور الله ويريدون تدل على التجدُّد والتكرار.

{لِيُطْفِـئُوا} : اللام لام التّوكيد والتّعليل؛ أي: لأجل ان يطفئوا.

{نُورَ اللَّهِ} : هو دين الإسلام والقرآن.

{بِأَفْوَاهِهِمْ} : الباء للإلصاق وتدل على الملازمة، بأفواههم: أيْ: بتحريفهم للتوراة والإنجيل وأقوالهم وكتبهم وإذاعاتهم وإعلامهم ومحاضراتهم. أن يطفؤوا نور الله.

{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} : أيْ: والله مظهر دينه وشرعه في الآفاق، وناصر رسله وأوليائه، ومُعلي كلمته لا محالة، مثلهم كمثل الذي يريد أن يطفئ أشعة الشّمس بفيه، وهيهات أن يتم ذلك.

{وَلَوْ} : الواو للتوكيد، لو: شرطية.

{كَرِهَ الْكَافِرُونَ} : الكافرون: تدل على الفعل أو الحدث، ولم يقل: الكفار، الكفار تدل على الاسم وتشمل كلّ كافر، الكافرون أقل عدداً من الكفار.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية (8) من سورة الصف: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِـئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ، مع الآية (32) من سورة التوبة:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِـئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} :

أولاً: والله متم نوره: جملة اسمية أقوى وأكد، وتدل على الثّبات من الجملة الفعلية، وهي قوله: أن يتم نوره، التي تدل على المستقبل والتّجدُّد والتّكرار، والله متم نوره: يعني: الأمر واقع لا محالة والأمر منتهٍ، لا تبديل لحكم الله بينما أن يتم نوره: أي: الأمر يقع الآن، ولا بُدَّ من إتمام في المستقبل.

ثانياً: ليطفئوا: في آية الصّف أن يطفئوا، في آية التوبة: اللام في ليطفئوا تدل على التّوكيد والتّعليل بينما أن يطفئوا أن تفيد الاستقبال.

وإذا رجعنا إلى السّياق نجد أن آية التّوبة جاءت في سياق اليهود والنّصارى الذين يقولون عزير ابن الله أو المسيح ابن الله والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وبدلوا دين الله وأحلوا الحرام وحرموا الحلال، فهم يريدون بكلّ هذه الأفعال وغيرها أن يطفئوا دين الله بأفواههم، الآن وفي المستقبل بالزّيادة والنّقصان والتّحريف والتّزوير والتّبديل.

وأمّا السّياق في آية الصّف فجاء في سياق كفرهم برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ونبوته وحربهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لم يكتفوا بما فعلوه بالتّحريف والتّبديل والزّيادة والنّقصان في دينهم وفي التوراة. بل يريدون التّصدي لدين الإسلام ومحاربة رسوله، ولذلك أكد بالجملة الاسمية (متم اسم فاعل.) واللام في كلمة ليطفئوا نور الله، ارجع إلى سورة التوبة الآية (32) لمزيد من البيان.

ص: 67

سورة الصف [61: 9]

{هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} :

{هُوَ الَّذِى} : ضمير منفصل يفيد الاختصاص والتّوكيد تعود على الله سبحانه وتعالى، والذي: اسم موصول يفيد التّعظيم.

{أَرْسَلَ رَسُولَهُ} : محمّداً صلى الله عليه وسلم.

{بِالْهُدَى} : الباء للتوكيد والإلصاق، بالهدى: بالقرآن.

{وَدِينِ الْحَقِّ} : دين الإسلام.

{لِيُظْهِرَهُ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد، وهاء الضّمير تعود على الرّسول صلى الله عليه وسلم أو تعود على الدّين أو كلاهما.

{عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} : على سائر الملل والشّرائع ولم يقل: على الأديان؛ لأنه ليس هناك إلا دين الإسلام، لقوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} أيْ: ليظهر الإسلام، إظهار حُجَّة وبرهان، أيْ: يجعله مهيمناً هيمنة برهان وحُجَّة وثبات، ولا يعني: أنّه يلغي الدّيانات الأخرى، ولا يعني: ظهور أتباع بحيث يصبح كلّ واحد مسلم، وهناك من قال أنّه إظهار يشمل كلّ فرد، وهذا سيحدث بعد نزول عيسى عليه السلام قبل قيام السّاعة، وإظهار الحُجَّة والبيان يتمثل في تطبيق المبادئ الإسلامية السّمحة في معاملاتهم وحل مشاكلهم الدّنيوية، ولا يعني أنّ النّاس كلّهم سيدخلون في الإسلام، وكما قال تعالى:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8].

ص: 68

سورة الصف [61: 10]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف، أو موعظة، أو أمر جديد.

{أَدُلُّكُمْ} : بالبيان والتعريف والدلالة قد تكون في الخير أو الشر وبقصد وبغير قصد وهنا الدلالة تعني إلى الخير وتحمل معنى الإشفاق والحنان.

{هَلْ} : للاستفهام وتفيد العرض والتّرغيب والتّشويق.

{أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} : ما نوع هذه التّجارة، فسرتها الآية التي بعدها (11) وهي قوله تعالى:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} إذن هي تجارة إيمان وجهاد، وجاءت التجارة بصيغة النّكرة للتهويل والتّعظيم، من عذاب أليم: في الدّنيا والآخرة.

ص: 69

سورة الصف [61: 11]

{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

في الآية السّابقة قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في هذه الآية قال: {تُؤْمِنُونَ} فكيف خاطبهم بالذين آمنوا، ثمّ قال: تؤمنون، وهم مؤمنون سابقاً.

تفسير تؤمنون: كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، أي: استقيموا واستمروا على إيمانكم بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، تؤمنون: بصيغة المضارع لتدل على التّجدُّد والتّكرار.

{وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : أيْ: في سبيل إعلاء كلمة الدّين والحق وابتغاء مرضاته.

{بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} : قدَّم الأموال على الأنفس؛ لأنّها الآكد والأعم والجهاد يبدأ بالإنفاق والاستعداد والباء بأموالكم للإلصاق، وتعني: ببعض أموالكم، وقدَّم في سبيل الله: للحصر والقصر.

{ذَلِكُمْ} : ولم يقل: ذلك؛ لأنّ هناك عدة أمور مطلوبة منها الإيمان والجهاد وغيره وللمبالغة والاهتمام والتّوكيد.

{خَيْرٌ لَّكُمْ} : أيْ: أفضل لكم.

{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة، كنتم تعلمون: إن كنتم أهل دراية ووعي وعلم، أو كنتم تعلمون ما هي مصلحتكم وخيركم.

ص: 70

سورة الصف [61: 12]

{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

يُبيِّن في هذه الآية والآية التي تليها ثمرة الإيمان والجهاد والاستقامة في سبيل الله ومنها:

{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} : أيْ: يغفر لكم كلّ ذنوبكم، ولم يقل: يغفر لكم من ذنوبكم، من تعني: بعض ذنوبكم، كما هي الحال حين يخاطب غير لمؤمنين كما في الآية (31) في سورة الاحقاف وهي قوله تعالى:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ، والغفران يعني: السّتر والمحو والعفو والإثابة على الحسنات.

{وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : دخول هذه الجنات هو برحمته وفضله وليس بسبب أعمالكم، جنات: منها جنات الفردوس والنّعيم وعدن والخلد، تجري من تحتها الأنهار: أيْ: تنبع من تحتها الأنهار.

{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} : مريحة جميلة حسنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

{فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ} : أيْ: جنات إقامة دائمة.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : أعظم من الفوز المبين والفوز الكبير، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (111) في سورة التوبة وهي قوله تعالى:{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : نجد في آية التوبة زيادة (الواو) وضمير الفصل (هو) لزيادة التوكيد؛ ارجع إلى سورة التوبة لمزيد من البيان، وارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته.

ص: 71

سورة الصف [61: 13]

{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} :

هذه الآية تتعلَّق بالثّواب الدّنيوي، أيْ: يؤتكم تجارة أخرى في الدّنيا تحبونها (لأنّها عاجلة..) هي نصر من الله وفتح قريب. وهناك فرق بين الفتح والنصر.

{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} : النّصر: الغلبة بالقوة والعتاد والحرب والقتال بينما الفتح يكون بالنّصر من دون قتال أو حرب.

{وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} : قيل: فتح مكة، وقيل: فتح بلاد فارس والرّوم.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} : برضوان من الله وجنات النعيم والبشارة تعني: الخبر السّار لأول مرة. ارجع إلى سورة البقرة آية (119)، وسورة النحل آية (89) لمزيد من البيان.

ص: 72

سورة الصف [61: 14]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّنَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَتْ طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد، أو موعظة، أو أمر، أو حكم.

{كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} : أيْ: كونوا أنصار دينه ونبيه كونوا جند الله، أنصار: جمع نصير فيه مبالغة في النصرة نصرة الله ورسوله، وتدل على ثبات الصفة، بينما ناصرين: جمع ناصر ليس فيه مبالغة، وتأتي في سياق النصرة على الظالمين، والنّصرة تعني: المعونة والتّأييد والمد بالمال والأنفس، وكل الوسائل.

{كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّنَ} : الحواريون: هم أصفياؤه وهم أوّل من آمن به، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً، وحواري الرّجل صفيه وخالصته، الحواريون مشتقة من الحور: هو البياض الخالص، وقيل: كانوا يحورون الثّياب، أيْ: يبيضونها. ارجع إلى سورة آل عمران آية (52) لمزيد من البيان.

{مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ} : من استفهامية، أنصاري إلى الله: جمع نصير أيْ: من يكون معي في نصرة دين الله تعالى؟

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} : الحواريون: جمع أنصار دينه ورسله؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (52) لبيان معنى الحواريون.

{فَآمَنَتْ طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَتْ طَّائِفَةٌ} : فآمنت: الفاء للترتيب والتّعقيب، آمنت طائفة بعيسى أنه عبد الله ورسوله، وكفرت طائفة: أيْ: ضلت طائفة وكفرت به، وبنبوَّته، واتهموا أمّه بالفاحشة، وطائفة أخرى تغالت ووصفوا عيسى ابن مريم بأنّه ابن الله، أو هو الله، أو ثالث ثلاثة.

{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} : أيدنا: من التّأييد مشتق من اليد، وتعني: القوة والنّصرة، فأيدنا الذين آمنوا بأنّ عيسى هو رسول الله وعبده على عدوِّهم الذين زعموا أن عيسى ابن الله، أو ثالث ثلاثة، أو هو الإله.

{فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} : الفاء: للترتيب والتعقيب؛ أصبحوا ظاهرين: أي: غالبين عدوهم من الفرق النصرانية الأخرى بالحُجة والبينة.

ص: 73

سورة الجمعة [62: 1]

سورة الجمعة

ترتيبها في القرآن (62) ترتيبها في النّزول (110).

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} :

{يُسَبِّحُ} : جاءت بصيغة المضارع؛ لتدّل على أن تسبيح الله سبحانه هو دائم ومستمر ولا ينقطع في الماضي والحاضر والمستقبل كقوله: (سبّح)، وكقوله:(يسبّح). والتّسبيح: تنزيه ذات الله من كل ولد وشريك وندٍّ ومثيل، ومن كل عيب أو نقص؛ ارجع إلى سورة الإسراء الآية (1)، وسورة الحديد آية (1)، وسورة الحشر آية (1) لبيان معنى التسبيح، ومقارنة آيات التسبيح.

{مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : تكرار (ما في) مرتين؛ للتوكيد وفصل كل منهما عن الآخر، فهناك مخلوقات أو أشياء في السّماء لا توجد في الأرض وبالعكس، والسموات وما فيهن والأرض وما فيهن الكل يسبّح الخالق. ولمزيد من البيان ارجع إلى سورة الحشر آية (1).

{الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} : ارجع إلى سورة الحشر آيتين (23-24) لبيان معنى الملك القدوس العزيز الحكيم.

ص: 74

سورة الجمعة [62: 2]

{هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{هُوَ} ضمير فصل تفيد التّوكيد والحصر.

{الَّذِى} : اسم موصول يشير إلى الله الملك القدّوس العزيز الحكيم.

{بَعَثَ} : ولم يقل أرسل؛ البعث فيه إثارة وحض، وهو أعم من الإرسال وأقوى؛ هناك فرق بين البعث والإرسال. ارجع إلى سورة [البقرة: 119] لمعرفة معنى بعث والفرق بين بعث وأرسل.

{فِى الْأُمِّيِّنَ} : في ولم يقل إلى؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موجوداً فيهم قبل بعثته (40) عاماً.

{الْأُمِّيِّنَ} : جمع أمِّيٍّ: هو الّذي لا يكتب وباستطاعته القراءة، فالرّسول كان يقرأ على جبريل أو يتلو عن سماع، وأحسن من قرأ كتاب الله الأميّون، وقيل: الأمّيّون: تعني العرب، وأطلق عليهم (الأميين) لأنهم لم يكونوا أهل كتاب في ذلك الزّمن، وقيل: الأمّيّون مشتقة من كلمة (الأم) الّتي ولدته والّتي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وبقي على ذلك.

{رَسُولًا} : كل رسول هو نبي وليس كل نبي هو رسولاً. ارجع إلى سورة النّساء الآية (164) للبيان ومعرفة الفرق بين الرّسول والنّبي.

{مِّنْهُمْ} : ولم يقل من أنفسهم، منهم؛ أي: من العرب الأمّيين أو قريش، أما قوله: من أنفسهم: قد تعني من المؤمنين خاصة.

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} : التلاوة هي القراءة من كتاب الله، وتعني: تلاوة الآية بعد الأخرى، والتلاوة تكون لأكثر من كلمة ولها أجر.

{وَيُزَكِّيهِمْ} : التّزكية التّطهير من الشّرك والأوثان، والخبائث والرّجس وعبادة الأصنام.

{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} : القرآن، قراءته وأحكامه وتفسيره.

{وَالْحِكْمَةَ} : قيل: هي السّنة النّبوية، وقيل: الأحكام الشّرعية. ارجع إلى سورة البقرة آية (269) لمعرفة معنى الحكمة.

{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} : قبلُ: مجيء محمّد صلى الله عليه وسلم؛ أي: من قبل بعثته بزمن بعيد أو قريب.

{لَفِى} : اللام للتوكيد.

{ضَلَالٍ مُبِينٍ} : في ضلالٍ وبُعدٍ عن الحق، والصواب مبين: يعني ظاهر واضح لكل فرد يعرف قريش أو العرب آنذاك وضلال لا يحتاج إلى تبيين واضح بنفسه أو مظهر لنفسه، وفي هذه الآية قدم التزكية على يعلمهم الكتاب والحكمة، بينما في الآية (129) في سورة البقرة وعلى لسان إبراهيم قدم يعلمهم الكتاب والحكمة على يزكيهم (أي: أخر التزكية)؛ أرجع إلى أية البقرة للمقارنة ومزيد من البيان.

ص: 75

سورة الجمعة [62: 3]

{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} : أي من العرب وغيرهم من التابعين وتابعوا التابعين إلى يوم القيامة.

{لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} : لمَّا تفيد النّفي إلى زمن التّكلم؛ أي: لم يلحقوا بهم بعد؛ أي: سيلحقون بهم في المستقبل وهم الّذين سيأتون من بعدهم إلى يوم القيامة (أي الذين جاؤوا من بعدهم).

هناك فرق بين آخَرِين وآخِرِين بفتح الخاء أو كسر الخاء.

آخِرين بكسر الخاء تعني: من غيرهم؛ أي: هناك انقطاع في الأجيال.

وكلمة آخَرِين: بفتح الخاء؛ أي: من الأميين الّذين كانوا على عهده وزمن بعثته (غير الأميين).

أو بعثه الله سبحانه وتعالى ليعلِّم الأميين الكتاب والحكمة ويعلِّم الّذين سيلحقون بهم، أو تعني كلٌّ يعلِّمُ الآخر.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : ارجع إلى سورة الحشر آية (24) للبيان.

ص: 76

سورة الجمعة [62: 4]

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} :

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى فضل الله على رسوله وعلى الأميين، وعلى الّذين لم يلحقوا بهم بعد بالإسلام والقرآن والوحي وبعثة محمّد، وبالتّزكية وتلاوة الآيات وتعليمهم الكتاب والحكمة.

{فَضْلُ اللَّهِ} : الفضل هو الزّيادة على الأجر والثّواب، والفضل له أنواع منها: العظيم والمبين والكبير.

{يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} : الإيتاء أعمُّ من العطاء، ولمعرفة الفرق بين الإيتاء والعطاء: ارجع إلى سورة البقرة آية (251).

{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} : ذو تعني: صاحب، وذو أفضل وأشرف من قول: صاحب، ذو الفضل العظيم: في الدّنيا والآخرة حيث يضاعف الجزاء والحسنات أضعافاً كثيرة.

{الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} : هو الفضل الذي لا يعلوه فضل أو يساويه فضل، والفضل العظيم لا يكون إلا من الله تعالى يؤتيه بعض عباده تفضلاً منه دون شرط.

وقد يكون مالاً أو عافية أو أهلاً، أو متاعاً وأكبر وأعظم فضل هو فضل الإيمان والإسلام والقرآن ومعرفة الله سبحانه ووحدانيته.

ص: 77

سورة الجمعة [62: 5]

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

المناسبة: بعد أن أنكر اليهود بعثة ونبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنكروا ما جاء فيها من البشارة بمحمّد، ولم يؤمنوا به أو ينتفعوا بتوراتهم، شبَّههم الله بالحمار الذي يحمل أسفاراً، فضربُ المثل غايته توضيحُ الغموض المجمل فحاملو التّوراة يماثلون أو يُشبهون الحمار في صفة واحدة هي الحمل.

{الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} : أي كُلِّفوا أو أُمروا بتعلُّم التّوراة والعمل بها، ولم يقل الذين آتيناهم الكتاب أو أهل الكتاب؛ لأن في ذلك مدح لهم، وإنما الذين حملوا التوراة فيها معنى الذم وخاصة حين شبهوا بالحمار الذي يحمل أسفاراً.

{ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} : أي لم يتعلّموها ولم يعملوا بها، أو تعلّموا التّوراة ولكنّهم لم يعملوا بها؛ أي: يطبّقوها حيث كانت تصف لهم صفات هذا النّبي (محمّد) المبشّر به، والذي كانوا ينتظرونه، فلم يؤمنوا به ولم ينتفعوا بما في التوراة كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

فالتوراة تشبه الأسفار: والأسفار جمع سِفر، والسِّفر: الكتاب الكبير أو الكتب الكبار الجامعة للعلوم النّافعة، والمعنى الثّاني: الأسفار تعني الكتب الواضحة المعاني من السّفر، والقول: أسفر الصُّبح؛ أي: انكشف بنوره؛ أي: يكشف لهم الطّريق المستقيم، وسَفرت المرأة: إذا كشفت عن وجهها، والمعنى الثّالث: سفرت البيت: كنسته وأزلت عنه التّراب حتى تنكشف أرضه، فهو يكشف لهم ما يحتاجونه من علوم الدّين والمنهج.

والذين حملوا التوراة: أي اليهود حملوا التّوراة كمنهج ودرسوا التّوراة ولكنّهم لم يطبّقوها أو يستفيدوا منها، لم يعملوا بالأمانة ولم يوفوا بعهدهم، فشبّههم الله تعالى بالحمار الذي يحمل على ظهره الكتب، فهو لا يعلم ما فيها ولا يستفيد منها، أو لا يفهم ما يحمل على ظهره من صخر أو متاع أو كتب أو حاجات أخرى.

ولندرك أنّ الله سبحانه خلق الحمار للحمل وليس عليه واجب أن يدرك ما على ظهره من أحمال، فهم يشبهون الحمار في خاصيّة الحمل وليس بخاصيّة الغباء، والله سبحانه لا يطعن فيما خلق.

{بِئْسَ} : من أفعال الذّم.

{مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} : أي كذبوا بآيات الله عز وجل الدّالة على صدق نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنوا به أو يفعلوا ما أمرهم الله به، أو كذَّبوا بآيات الله؛ أي: آيات القرآن وآيات التّوراة، وتكذيب أحدهما يكفي، فالذي يكذّب القرآن يكذّب التّوراة ولا يؤمن بها.

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : أي المشركين الظّالمين أنفسهم بتكذيب الأنبياء والرّسل وقتلهم الأنبياء بغير حق؛ أي: لا يهدي الله هؤلاء الذين اختاروا بأنفسهم طريق الضّلال والغواية والشّرك، فالله لا يهدي الظّالم ولا الفاسق وإنما يهدي المؤمن المتَّقي ومن سلك طريق الهداية، ولمعرفة معنى الظّلم ارجع إلى سورة [البقرة: 54].

ص: 78

سورة الجمعة [62: 6]

{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{قُلْ} : خطاب إلى النّبي صلى الله عليه وسلم.

{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} : هم اليهود، ومعنى (هادوا)؛ أي: رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل، واشتقَّت من قولهم: إنّا هُدنا إليك.

{إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} : إن شرطية تفيد الشكّ والنّدرة.

أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء الله أبناء الله وأحباؤه دون غيركم من النّاس، وأنّ (الدّار الآخرة خاصة لكم).

{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} : الفاء: رابطة جواب الشرط؛ تمنوا: التمني: هو قول القائل ليت كان كذا، وليت لم يكن، ويقع على الماضي والمستقبل، والتمني في قوله:(فتمنوا الموت): هو تمني بالقول فقط أو بالقلب، فتمنوا الموت؛ لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه والإسراع إلى ما أعدَّ له من النّعيم المقيم؛ أي: أن يميتكم وينقلكم إلى دار الآخرة.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن شرطية فيها معنى الاحتمال والنّدرة؛ أي: إنكم غير صادقين.

ص: 79

سورة الجمعة [62: 7]

{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} :

{وَلَا} : النافية.

{يَتَمَنَّوْنَهُ} : ارجع إلى الآية السابقة (6) لبيان معنى التمني، وإضافة النون في يتمنونه للتأكيد.

{أَبَدًا} : لزيادة التوكيد.

{بِمَا} : الباء: السببية أو للتعليل؛ ما: أوسع شمولاً من الذي.

{قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} : أي: عملت أو كسبت أيديهم من المعاصي والآثام.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} : عليم: صيغة مبالغة من علم؛ أي: كثير العلم؛ بالظالمين: الباء: للإطلاق؛ الظالمين: جمع ظالم وهو كل من خرج عن منهج الله تعالى، ولابد من مقارنة هذه الآية مع الآية (95) في سورة البقرة وهي قوله تعالى:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} لوجدنا الاختلافات التالية:

1 -

(لا): النافية في آية الجمعة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} ، (لن) في آية البقرة.

لن: أقوى نفياً، من:(لا) تنفي المستقبل القريب البعيد.

(لا): جاءت في سياق الذين زعموا أنهم أولياء الله، بينما (لن) جاءت في سياق الذين زعموا أنَّ الدار الآخرة خاصة بهم وحدهم، هذا الزّعم أشد وأبلغ من الزّعم بأنّهم أولياء الله، لذلك استعمل (لن).

2 -

يتمنَّونه: تدل على كثرة الذين زعموا أنّهم أولياء الله مقارنة بآية البقرة (يتمَّنوه) تدل على قلة عدد الذين يزعمون أنَّ الدّار الآخرة (الجنة) خاصة بهم، بما قدّمت أيديهم: الباء سببية تعليلية، ما: اسم موصول أو مصدرية بسبب ما اقترفوا من الكفر والمعاصي، ومن ذلك كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يتمنّونه أبداً (بسبب ما قدّموا من الكفر). ولأنهم أحرص الناس على حياة، كما ال تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، فالنفي في آية البقرة أشد وأقوى وأكثر توكيداً من النفي في آية الجمعة؛ ارجع إلى آية البقرة لمزيد من البيان.

ص: 80

سورة الجمعة [62: 8]

{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ} : الفرار هو الخوف والهروب بسرعة بدون محاولة التّستُّر والخفاء.

{مُلَاقِيكُمْ} : مدرككم وجهاً لوجهه، لاحقٌ بكم لا تفوتونه.

ثم: للتراخي في الزمن والترتيب.

{تُرَدُّونَ} : الرّد ولم يقل ترجعون، الرّد يكون بدون اختيار لكم.

ارجع إلى سورة القصص آية (7) لمعرفة الفرق بين الرجع والرد.

{إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم الغيب: عالم ما غاب واستتر من الغيب بكل أنواعه، والشّهادة: عالم يشاهد بالمدركات (العيون والآذان) والحواس، فهو عالم كل مخلوقاته بغيبها وظاهرها لا يعزُب عنه شيء في الأرض ولا في السّماء. ارجع إلى سورة التوبة آية (105) لمزيد من البيان.

{فَيُنَبِّئُكُمْ} : الفاء: للترتيب والتّعقيب، ينبّئكم: يخبركم.

{بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : الباء للإلصاق، ما: اسم موصول أو مصدرية، كنتم: في الدّنيا، تعملون: العمل يشمل القول والفعل؛ أي: تقولون وتفعلون.

ص: 81

سورة الجمعة [62: 9]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء للذين آمنوا بيا النّداء والهاء للتنبيه، نداء جديد بتكليف جديد بتكليف جديد للذين آمنوا.

{إِذَا} : ظرفية زمانية شرطية تفيد حتمية الحدوث وكثرته.

{نُودِىَ} : أي أُذِّن لصلاة الجمعة، والنداء هو الأذان وهو الإعلام برفع الصوت.

{لِلصَّلَاةِ} : اللام لام الاختصاص.

{مِنْ} : ظرفية، يوم الجمعة: هو اليوم المعروف من أيام الأسبوع، والجمعة بضمّ الميم: صفة لليوم؛ أي: يوم تجمُّع الناس.

{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} : السّعي يعني المشي بجدٍّ وعزم وقصد، ويعني: المضيّ إليها أو الإسراع والاشتغال بها، أو التّحضير لها بالوضوء والخروج إلى المسجد بشكل مبكِّر والتّفرُّغ لها، إلى ذكر الله: أي الخطبة والصّلاة، فالخطبة تعدُّ ذكراً لله وكذلك الصّلاة.

{وَذَرُوا الْبَيْعَ} : توقفوا عن البيع وسائر الأعمال الدنيوية من بيع وشراء، أو شغل يشغلكم عن الصلاة، وذروا البيع: مجاز مرسل، يعني: كل أنواع الأعمال والتّجارة وغيرها وتفرّغوا للصلاة.

{ذَلِكُمْ} : أي إشارة إلى السّعي إلى ذكر الله والصّلاة والخطبة خير لكم من البيع والتّجارة والرّبح، ذلكم: خير لكم وأبقى من أعمالكم الدّنيوية. ولم يقل ذلك؛ لأن (ذلكم) للتعظيم والتأكيد وتشمل عدة أمور.

{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة، كنتم تعلمون: ما هو الأفضل والأصلح لكم، أو ما ينفعكم وما يضركم، وما في صلاة الجمعة من ثواب وخير.

ص: 82

سورة الجمعة [62: 10]

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :

{فَإِذَا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، إذا: ظرف زماني.

{قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} : انتهت الصّلاة، أُدِّيت الصّلاة.

{فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ} : أي تفرّقوا لقضاء حوائجكم.

{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} : اطلبوا الرّزق من الله، أو عودوا إلى بيعكم وشرائكم، والفضل لا يقتصر على طلب الرزق فقط، وإنما يشمل طلب العلم، أو زيارة مرضاكم وإخوانكم، وامشوا في الجنائز وساعدوا إخوانكم، وغيرها من الأعمال الصالحة التي تورث الزيادة في الأجر والفضل من الله الكريم واسع العطاء.

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} : بالتّهليل والتّكبير والحمد والشّكر، والصّلاة والتّسليم على النّبي صلى الله عليه وسلم.

{لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : لعل: تفيد التّعليل، تفلحون: الفوز بالدّارين، ارجع إلى سورة البقرة آية (5).

ص: 83

سورة الجمعة [62: 11]

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} :

سبب نزول هذه الآية: كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن جابر قال: كان النّبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذا أقبلت عيرٌ؛ أي: إبل، محمّلة طعاماً ودقيقاً وغيره من المتاع، قدمت من الشّام، فخرجوا إليها حتى لم يبقَ معه صلى الله عليه وسلم إلا (12) رجلاً، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات.

وكان من عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة؛ أي: الطعام والحاجيات، يستقبلونها باللهو وضرب الطّبول والمزامير، فخرج النّاس يتسلّلون حتى لم يبقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا (12) رجلاً، فنزلت هذه الآيات.

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} : وإذا: ظرفية زمانية. رأوا تجارة قادمة إليهم.

{أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} : أي خرجوا إليها، من: الفضّ وهو: كسر الشّيء والتّفريق بين أجزائه؛ أي: خرجوا متفرقين لمجرد سماع الطّبل، منهم من خرج للانتفاع من التجارة ومنهم من خرج للهو. والضّمير في كلمة (إليها) يعود على التجارة أو اللهو، اللهو هنا هو استقبال العير بالطّبول والتصفيق والمزامير والغناء، أو تركهم الجمعة (الخطبة والصلاة) يعتبر عملاً يُلهي عن واجب، فهو يعتبر لهواً بحدِّ ذاته، ولم يقل إليهما؛ لأن خبر أحدهما يغني عن الآخر.

{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} : أي على المنبر تخطب.

{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} : تكرار (من) مرتين؛ لفصل أحدهما عن الآخر: فصل اللهو من التّجارة وكلاهما معاً.

{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} : من الثّواب والجزاء كالجنة والنّعيم المقيم.

{خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} : وما عند الله خير؛ أي: أفضل من اللهو، وتعريفه: هو ما يشغل الإنسان عن واجب أو ما يهمه، أو هو لعب يشغل عن واجب؛ أي: أفضل من سماع الطبول والمزامير والغناء، التي شغلتهم عن الصلاة إذا شغلتهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وأفضل من التّجارة (البيع والشّراء).

{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} : والله سبحانه هو الرّزاق الحقيقي وغيره ليسوا رازقين حقيقةً؛ لأنّهم عرضة للموت والأغيار، ولكنّه سبحانه من كرمه وفضله أطلق عليهم هذه الصّفة التي هي صفة حقيقية ثابتة من صفاته.

وإذا نظرنا إلى الآية (11) نجده في مطلع الآية قدّم التّجارة على اللهو فقال: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا لها)؛ لأن التجارة كانت هي السبب الحقيقي للخرج من صلاة الجمعة لنزول الآية وليس اللهو.

وفي نهاية الآية: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التّجارة) قدّم اللهو على التّجارة، فكيف نفسر ذلك؟ لأن اللهو أعم من التجارة؛ أي قدّم الأعمَّ على الأخصّ؛ لأنّ اللهو أعمُّ من التّجارة بالنّسبة للناس فليس كل إنسان تاجراً، والمهم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، الإلهاء في ما لا خير فيه مذموم.

ص: 84

سورة المنافقون [63: 1]

سورة المنافقون

ترتيبها في القرآن (63) ترتيبها في النّزول (104).

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} :

{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{جَاءَكَ} : من المجيء، والمجيء فيه الصعوبة والمشقة؛ لأنهم يأتون بغير رغبة؛ أي: وهم كارهون، أو يخافون أن يظهر نفاقهم أمام الناس بعكس الإتيان فيه معنى السّهولة؛ أي: الحضور بسهولة.

{الْمُنَافِقُونَ} : جمع منافق، والمنافق هو من يظهر الإسلام والإيمان ويبطن الكفر، فقلبه لا يوافق لسانه، وكلمة منافق مشتقة من نفق اليربوع وهو حيوان يشبه الفأر ويسكن في الصحراء ويحفر لنفسه نفقاً في الأرض له بابان أو أكثر إن ترصّده عند أحدهما يخرج من الثاني، كالمنافق له وجهان.

{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} : قالوا: بألسنتهم فقط وتأبى قلوبهم تصديق ذلك، واللام في كلمة (لرسول الله) تفيد التّوكيد.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} : ولم يقل والله يشهد إنك لرسوله، فما هو الفرق بين يعلم ويشهد؟ الذي يشهد يعلم فهو لا يشهد إذا لم يعلم (فهو حاضر ويعلم ما يحدث)، والذي يعلم ليس بالضروري أن يكون شهيداً (حاضراً) فهو يعلم بدون حضور بأن يخبره غيره.

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} : إنّ للتوكيد، واللام في (لكاذبون) لزيادة التوكيد، وفي هذه الآية تساؤلان:

السؤال الأول: ما غاية إدخال جملة (والله يعلم إنك لرسوله)؟ الجواب: لو حذف هذا الجزء من الآية وقال تعالى: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون: لكان ظاهر القول أن المنافقين يشهدون إنك لرسول الله، والله سبحانه لا يشهد بذلك، وحاشا لله ذلك.

السؤال الثاني: متى يستعمل كلمة يشهد ومتى يستعمل كلمة يعلم؟ إذا كان الأمر المطروح يعلمه المؤمنون والله يعلمه، عندئذ يستعمل يشهد فالله يشهد على الكلّ، وأما إذا كان الأمر المطروح عملاً قلبيّاً كالنفاق والإسرار عندئذ يعلمه الله وحده فقط ولا يعلمه المؤمنون، فيستعمل يعلم.

مثال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} سورة التوبة الآية [التوبة: 42] هذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله فقال: يعلم، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} سورة التوبة الآية [التوبة: 107] هذا الحلف (ليحلفن) حدث أمامهم ويعلمونه والله يعلم ذلك ولذلك استعمل: يشهد.

ص: 85

سورة المنافقون [63: 2]

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{اتَّخَذُوا} : من الاتخاذ وهو التّصيير والجعل، والضمير يعود على المنافقين.

{أَيْمَانَهُمْ} جمع يمين، وهو القسم أو الحلف.

{جُنَّةً} : سترة ووقاية لهم من القتل والأذى؛ أي: استتروا وراء أيمانهم الكاذبة حتى لا تكشف حقيقتهم فكلما ظهر شيء يوجب معاقبتهم حلفوا الأيمان الكاذبة.

{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : الفاء للتوكيد، صدّوا الناس عن دين الله وعن إطاعة أوامره مثل الخروج في سبيل الله أو الجهاد أو غيرهما.

{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : إنهم: للتوكيد، ساء: من أفعال الذم والقبح؛ أي: بئس، ما: اسم موصول بمعنى الذي أو مصدرية، وما: أوسع شمولاً من الذي؛ كانوا: في الدنيا، يعملون: تشمل الأقوال والأفعال، وتعني: ما كانوا يعملون من النفاق وصد الناس عن سبيل الله واتّخاذ أيمانهم جُنّة وغيرها.

ص: 86

سورة المنافقون [63: 3]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} :

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة واللام للبعد ويشير إلى الكذب والنفاق والصدّ عن سبيل الله واتّخاذ أيمانهم جُنّة.

{بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} : الباء للإلصاق باء السببية، آمنوا: في الظّاهر آمنوا بألسنتهم.

{ثُمَّ كَفَرُوا} : ثم للترتيب الإخباري، كفروا: ولم يصدّقوا بما أنزل الله تعالى.

{فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : بسبب ما كانوا يعملون، فلا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، والطبع أشد من الختم؛ الختم قد يفكّ، وأما الطبع لا يفكّ أبداً.

{فَهُمْ} : للتوكيد.

{لَا يَفْقَهُونَ} : لا النافية، يفقهون: لا يفهمون أو لا يعرفون معنى الإيمان. والفقه لغةً: هو الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

ص: 87

سورة المنافقون [63: 4]

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} :

{وَإِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث وبكثرة.

{رَأَيْتَهُمْ} : رؤية بصرية عينية.

{تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} : الجسم: يشمل البدن+ الروح+ النفس، ويمتاز بالحياة، وأما الجسد: يشمل البدن+ الروح بدون النفس لضخامتها وهيئتها وحسن صورها.

{وَإِنْ يَقُولُوا} : إن شرطية تفيد الاحتمال والنّدرة، يقولوا: يتحدثوا بأمر ما.

{تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} : لفصاحتهم وحلاوة كلامهم وتحسب ما يقولوه صدقاً وحقاً لحسن منطقهم.

{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} : شبّه جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّهم خُشُب مسنّدة إلى الجدار أو الحائط؛ أي: منصوبة مستندة بشكل مائل إلى الحائط، وخُشُب: جمع خشباء، والخشباء هي الّتي فسد جوفها ونخرها السّوس فأصبحت فارغة، خُشُب مسندة لا تتحرك ولا تسمع ولا تعقل، ولا تبصر ولا تحسّ، ولو كانت خشباً مفيدة لاستعملت في السُّقُف والحيطان، أو شبّهوا لضخامة أجسامهم وحسن صورها بالأصنام المنحوتة من الخشب المسندة؛ أي: المعلّقة على الجدران.

{يَحْسَبُونَ} : من خوفهم ورعبهم يحسبون: من الحسب وهو الاعتقاد أو الظّن الرّاجح.

{كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} : كلّ نازلة، كلّ واقعة أو حديث أو قول يخصّهم أو موجّهاً إليهم؛ وذلك لما في قلوبهم من الخوف والرّعب والذُّعر أن يكشف الله أسرارهم ويبيح دماءهم، صيحة: نكرة، مهما كانت شدتها ونوعها وتشمل كلّ أنواع الصّيحات.

{هُمُ الْعَدُوُّ} : هم: ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ أي: أعدى الأعداء أو الكاملوا العداوة.

{فَاحْذَرْهُمْ} : الفاء للتوكيد، احذرهم: أي لا تأمنهم ولا تطلعهم على أسرارك، واحذرهم أن يتمكّنوا منك، أو احذر مؤامراتهم ولا تغترّ بظاهرهم وأقوالهم.

{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} : دعاء عليهم بالطّرد من رحمة الله، أو عاداهم الله.

{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أنى للاستفهام الإنكاري وتعني: كيف يصرفون عن الحق ويميلون إلى الكفر والباطل؟ أو: من أين أو بأيّ سبب يصرفون عن الحق؟! للتعجب من جهلهم وضلالهم، والإفك: هو الكذب المتعمد، والصّرف عن الحق وقلب الحقائق.

ص: 88

سورة المنافقون [63: 5]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ} :

{وَإِذَا} ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.

{قِيلَ لَهُمْ} : مبني للمجهول المهم هنا المقولة أو قيمة القول وليس القائل.

{تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} : قيل: نزلت هذه الآية في المنافقين ومنهم عبد الله بن أُبي حين افتضح أمرهم بالنّفاق وقال: ليخرجنّ الأعز منها الأذل، وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا، قيل لهم: اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك. ارجع إلى الآية (7) من السورة نفسها؛ لمزيد من البيان.

{تَعَالَوْا} : أي أقبِلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقدموا إليه واطلبوا منه أن يستغفر لكم؛ لكي يعفو الله عنكم.

{لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} : عطفوها إلى الأعلى؛ بمعنى (لا) كناية عن الإعراض، ولو عطفوها إلى الأسفل أو ناحية الصّدر لكانت تعني (نعم) ولكان أفضل لهم.

{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} : الصّد: الإعراض المصحوب بشيء من الغضب.

{وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ} : هم تفيد التّوكيد، مستكبرون: في أكمل مظاهر الاستكبار، ومستكبرون: جمع مستكبر: وهو الذي لا يملك مقومات التكبر أو ليس أهلاً للتكبُّر، مستكبرون: أن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه، ويأتوا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم.

ومستكبرون: جملة اسمية تدل على أنّ صفة الكبر ثابتة عندهم ولن تتغير، وليست مجرد عرض زائل. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان في مستكبرون.

ص: 89

سورة المنافقون [63: 6]

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} :

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} : المساواة: المعادلة، واستوى الشّيئان تساوياً؛ أي: ساوى أحدهما الآخر، وسواء: مأخوذة من التّساوي.

{أَسْتَغْفَرْتَ} : الهمزة همزة تسوية؛ لكونها واقعة بعد كلمة سواء؛ أي: الأمران متساويان عند الله تعالى سواء أستغفرت أم لم تستغفر لهم النّتيجة واحدة: لن يغفر الله لهم.

والمغفرة: تعني ستر الذّنوب ومحوها، وبالتّالي العفو.

{إِنَّ اللَّهَ} : إنّ للتوكيد.

{لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : ارجع إلى سورة الصف الآية (5) للبيان. والبقرة الآية (26) وللربط بين هذه الآية (6) من سورة المنافقون وهي قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} مع الآية (80) من سورة التوبة وهي قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .

قيل: نزلت آية التوبة: قبل نزول آية المنافقون، وعندما نزلت آية سورة التوبة:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (لأزيدنَّ على السّبعين) فأنزل الله: بعد ذلك الآية (6) من سورة المنافقون: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وروي عن ابن عبّاس قال: لما نزلت آية براءة قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أسمع، إنّي قد رخّص لي فيهم، فو الله لأستغفرنّ أكثر من سبعين مرة، لعل الله أن يغفر لهم) فنزلت الآية: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .

ص: 90

سورة المنافقون [63: 7]

{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} :

أسباب نزول هذه الآية (7) والآية (8) كما روى البخاري ومسلم وغيرهما:

في غزوة بني المصطلق ازدحم رجل من المهاجرين مع رجل من الأنصار على ماء المُرَيْسيع وضرب أحدهما الآخر، مما أثار الفتنة بين المهاجرين والأنصار وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيّ الّذي قال: أوَقد فعلوها! والله ما مَثَلُنا ومثَلُهم إلا كما قيل: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؛ يعني محمّداً صلى الله عليه وسلم! وقال لقومه الأنصار: كفّوا طعامكم عن محمّد وأصحابه ولا تنفقوا على من عنده؛ حتّى ينفضُّوا ويتركوه، وأنكر عبد الله بن أُبي أنّه قال ذلك، وقيل له: اذهب إلى رسول الله واستغفره، فأبى ولوى رأسه، ونزلت هذه الآيات.

{هُمُ الَّذِينَ} : هم: ضمير فصل للتوكيد، تعود على عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين، الّذين: ضمير متصل يفيد الذَّم ويفيد الكثرة.

{يَقُولُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد والتّكرار، وحكاية الحال: يقولون للأنصار.

{لَا تُنْفِقُوا} : لا النّاهية، تنفقوا: المال وغيره من الطّعام والشّراب؛ حتّى يجوعوا ثمّ ينفضّوا عنه.

{عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} : أي على المهاجرين.

{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.

{يَنفَضُّوا} : يتفرقوا عن رسول الله ولا يبقوا حوله، من الفضّ: وهو التَّفريق بين الشّيء المُجمع، أو كسر الشيء والتفريق بين أجزائه.

{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الواو للتوكيد، لله: تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر؛ أي: لله وحده، خزائن: جمع خزينة، خزائن الأرزاق والمال والخيرات والطعام والشراب، والمعادن والذهب والفضة والحديد وكل ما يتصوره الإنسان ويحتاجه في حياته على الأرض، هذه الخزائن هي النجوم التي لا تحصى ولا تعد ويقدّر عددها بالمليارات، وهي أفران نووية تصنع فيها كل المواد والمعادن والذهب والفضة والحديد وغيرها. ارجع إلى سورة الحجر آية (21) وسورة الأنعام آية (50) لمزيد من البيان.

{وَلَكِنَّ} : لكن حرف استدراك وتوكيد.

{الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} : الفقه: وهو الفهم للحقائق أن الله سبحانه وحده هو الرّزاق، ومنعهم الإنفاق على رسول الله، أو صحابته لا يضر، وذلك لجهلهم بعظمته وقدرته، وإن الله قادر على أن يرزق من يشاء بغير حساب.

والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

ص: 91

سورة المنافقون [63: 8]

{يَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} :

{يَقُولُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على حكاية الحال والتجدد والتّكرار؛ أي: عبد الله بن أُبيّ والمنافقون يقولون.

{لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} : من غزوة بني المصطلق، لئن: اللام لام التّوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال والشّك.

{لَيُخْرِجَنَّ} : اللام لام التّوكيد، وكذلك النّون في (يخرجن) لزيادة التّوكيد على أنّهم سيُخرِجون المهاجرين ومحمّداً صلى الله عليه وسلم من المدينة.

{الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} : الأعز حسب زعمهم: هو أمثال عبد الله بن أُبيّ بن سلول، والأذل: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين.

{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} : الواو عاطفة تفيد التّوكيد، لله: جار ومجرور والتّقديم يفيد الحصر؛ أي: لله وحده العزة فهو مالك العزة وصاحبها.

{وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} : والعزة هي عزة الغلبة والقهر والقوة والامتناع، وعزة الرّسول والمؤمنين نابعة من عزة الله تعالى وفضله وإحسانه على رسوله وعلى المؤمنين.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك وتوكيد.

{الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : لا يعلمون أن العزة لله وحده، وهو معز لرسوله ولأوليائه، وانتبه إلى التّدرّج كيف يكون: أوّلاً التّفكر (بالعقل بالمعطيات) ثم التدبّر (النظر في عواقب الأمور، والتّدبر يكون بالعقل والقلب) ثم الفقه ثالثاً، ورابعاً يكون العلم، فالّذي قال: ليخرجنّ الأعز منها الأذل هو عبد الله بن أُبيّ بن سلول جاهل لا يعلم حقائق الأمور أنّ العزة لله جميعاً.

وهناك تفسير ثان لنهاية هذه الآية (8) وهي قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} مع نهاية الآية (7) وهي قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} : فقوله تعالى: لا يعلمون (أن العزة لله جميعاً، والعزة أمر معنوي)، ولا تنفقوا: الإنفاق أمر ظاهر حسي، فقال: لا يفقهون.

أنّ العزة لله جميعاً: وهذا أمر يجهله الكثير ويجهله المنافقون ولا يعلمونه فقال: لا يعلمون. وبما أنّ الكثير يعلمون أنّ الرزق من عند الله تعالى فلا يحتاج هذا الأمر إلا القليل من الفهم والفقه، ولذلك قال: لا يفقهون، ووصفهم بأنهم (لا يفقهون) أسوأ وأقبح من وصفهم (لا يعلمون).

ص: 92

سورة المنافقون [63: 9]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد بتكليف جديد أو موعظة أو بيان، والهاء للتنبيه.

{لَا} : النّاهية.

{تُلْهِكُمْ} : من اللهو، وتعريف اللهو: هو شغل يُلهي عن واجب أو العبث بشيء بقصد تضييع الوقت أو بشيء لا جدوى منه ولا فائدة، واللعب إذا شغل الإنسان عن واجب أو فريضة يعتبر لهواً، والإلهاء: يكون عادة في ما لا خير فيه، وهو مذموم.

{أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} : تكرار (لا) النّاهية يفيد التّوكيد؛ لأن كلاً من الأموال والأولاد سبب من أسباب اللهو؛ أي: تلهكم أموالكم بمفردها، ولا تلهكم أولادكم بمفردها، أو لا تلهكم أموالكم وأولادكم معاً، وقدّم الأموال على الأولاد؛ لأنَّ الأموال هي الأعم فالكلّ يملك المال وليس الكلّ عندهم أولاد، وكأن الخطاب في هذه الآية للأموال، وخاطبها كأنها تعقل؛ أي: لها عقل، ونهاها، ونهى الأولاد عن إلهاء المؤمن، ووجه الخطاب للأموال والأولاد للمبالغة، والأصل لا تلتهوا بأموالكم وأولادكم.

{عَنْ} : تفيد المجاوزة والمباعدة.

{ذِكْرِ اللَّهِ} : أي الصّلاة وكل أنواع الذّكر مثل: التّسبيح والتّكبير والتّهليل، وتلاوة القرآن وحضور مجالس العلم والدّين، وأداء العبادات والفرائض في المساجد.

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} : ومن: شرطية، يفعل: بصيغة المضارع؛ للدلالة على الاستمرار والتجدد في النّهي عن اللهو بالأموال والأولاد.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء للتوكيد، أولئك: اسم إشارة للتصغير والتّحقير.

{هُمُ الْخَاسِرُونَ} : هم للتوكيد، الخاسرون؛ أي: إذا كان هناك خاسرون فهم في مقدمة هؤلاء؛ أي: هم الخاسرون حقاً لأنفسهم ولأهليهم. ارجع إلى سورة النساء آية (119) لمزيد من البيان.

ص: 93

سورة المنافقون [63: 10]

{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} :

{وَأَنْفِقُوا} : الإنفاق: هو إخراج المال من الملك فلا يعد ملكه.

{مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم} : من ابتدائية تدل على التّبعيض؛ أي: من بعض (ما) بمعنى: الّذي رزقناكم؛ أي: المال وغيره، و (ما) أوسع شمولاً من (الذي) ولو قال تعالى أنفقوا ما رزقناكم، لكان يعني: كلّ ما رزقناكم، وهذا مستحيل ولن تقدروا عليه، أنفقوا من ما رزقناكم؛ أي: من مال الله الذي رزقكم وفي هذا حثٌّ على الإنفاق والصّدقة.

{مِنْ قَبْلِ} : ولم يقل من قبلُ: من قبل بكسر اللام: الزّمن غير محدد قد يطول أو يقصر؛ أي: في أيّ زمن. ولو قال من قبلُ: تدل على تعيين زمن محدد، ومن قبل تشير أيضاً إلى قرب الموت من أحدكُم؛ أي: لا فاصل زمني بين الإنسان وأجله، كأنّ الموت ملتصق به.

{أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} : أنّ حرف مصدري للتعليل والتّوكيد.

يأتي أحدكم الموت: ولم يقل من قبل أن يأتي الموت أحدكم، تقديم المفعول به (أحدكم) على الفاعل وهو الموت؛ للمبالغة والاهتمام بالنفس (أحدكُم) للاستعداد والتّحضير للموت، أو أخّر ذكر الموت؛ لأنّ الموت شيء مكروه للنفوس ولا تحب سماعه.

وفائدة أخرى في التّأخير: لتجنّب المفاجأة؛ أي: مجيء الموت؛ لأنّ الإنسان يخاف من الموت ولذلك أخّره وحتّى لا يفاجأ به، واختار كلمة (يأتي) ولم يقل من قبل أن يجيء أحدكم الموت؛ لأنّ المجيء فيه صعوبة ومشقة على النّفس، والموت لم تبدأ سكراته بعد فلو بدأت سكراته لاستعمل جاء، وبما أنّه سيحدث في المستقبل ولم يجيء بعد اختار (يأتي).

{فَيَقُولَ} : الفاء تدل على التّرتيب والتّعقيب، والنّصب لكلمة (يقول) ليدل على أنَّ القول سيكون في المستقبل أو الحال، ولو حدث في الماضي لاستعمل: فيقولُ.

{رَبِّ} : ولم يقل يا رب. رب؛ لأنّ الرّب قريب من العبد فلا يحتاج إلى ياء النّداء التي تدل على البعد، أو لأنّ الوقت قصير وليس هناك متسع في الزّمن حين يحضر الموت، لذلك حذف الياء.

{لَوْلَا أَخَّرْتَنِى} : أخرتني: أشد في الطّلب والحث من لو أخرتني وجواب الطّلب: (فأصَّدّق).

{أَخَّرْتَنِى} : استعمل ياء المتكلم ولم يقل لولا أخرتن بدون ياء؛ لأنّه طلب لمصلحة العبد وهو طلب تام وصريح ليس فيه شك مقارنة بقول إبليس في سورة الإسراء آية (62): {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} فطلب إبليس التأخير ليس فيه النفع لنفسه، وإنما ليضل ذرية آدم. ارجع إلى سورة الإسراء آية (62) لمزيد من البيان.

{إِلَى} : حرف يمكن استعماله لكلّ الغايات.

{أَجَلٍ قَرِيبٍ} : طلب تأخير الموت فقط إلى أجل قريب، أيّ زمن أو وقت قريب قصير.

{فَأَصَّدَّقَ} : الفاء فاء السّببية، وهي جواب الطّلب (أصَّدّق) ولم يقل أتصدق، (أصَّدّق) أقلّ حروفاً من أتصدق، اختار الكلمة المناسبة لقصر الوقت الذي يرجوه طمعاً في تأخير الموت عنه.

وكلمة فأصَّدّق: فيها تضعيفان: الأول في الصّاد والآخر في الدّال؛ للمبالغة والتّكثير في الصّدقة؛ أي: ينوي أن يكثر من الصّدقة، أي الإنفاق؛ لأنّ الأجل قريب وليس هناك زمن طويل وحتّى يكون من الصّالحين.

ونصب (أصَّدّقَ) بأنّ المضمرة؛ أي: أن أصَّدّقَ.

{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} : الواو هنا واو المعية؛ أي: أقوم بكلا الفعلين أصَّدّق وأكن من الصّالحين معاً، وأكن: أصلها: وأكون من الصّالحين حذف الواو؛ ليناسب عدم وجود متسع من الزّمن، وقدّم الصّدقة على الصّلاح: مع أنّ الصّلاح أهم من الصّدقة؛ لأنّ التّقديم هنا والتّأخير ليس مبنياً على الأفضل وإنما التّقديم والتّأخير مبني على السّياق، والسّياق في الآيات على الإنفاق والأموال فقدّم الصّدقة.

ص: 94

سورة المنافقون [63: 11]

{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} :

{وَلَنْ} : الواو استئنافية، لن حرف نفي ينفي المستقبل القريب والبعيد، وهي أقوى حروف النّفي.

{يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} : نفساً: نكرة تعني: أيَّ نفس مهما كانت زكية أو مسيئة.

{إِذَا} : ظرفية زمانية بمعنى: حين يجيء أجلها، وشرطية، وإذا تدل على حتمية الحدوث.

{جَاءَ} : المجيء فيه معنى المشقة والصّعوبة.

{أَجَلُهَا} : الأجل: الوقت المضروب لانقضاء أو انتهاء الشّيء، وأجل الإنسان: هو الوقت لانقضاء عمره.

{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : الله خبير؛ أي: عليم ببواطن الأمور، بما: الباء للإلصاق، (ما) بمعنى الّذي أو مصدرية، ما أوسع شمولاً من الذي، تشمل كل شيء: ما عملتم.

تعملون: العمل يضم القول والفعل، عليم بما تقولون وتفعلون في الدّنيا، وقدّم كلمة (خبير) على (تعملون)؛ لأنّ سياق الآيات في الموت والغيب وهذا من اختصاص وصفات الله سبحانه وتعالى، فلذلك قدّم (خبير).

ص: 95

سورة التغابن [64: 1]

سورة التغابن

ترتيبها في القرآن (64) ترتيبها في النزول (108).

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} ارجع إلى سورة الحديد آية (1)، والحشر آية (1)، والصف آية (1) لبيان معنى سبح، وارجع إلى سورة الجمعة (1) لبيان معنى يسبح، وبدأت سورة التغابن آية (1) كذلك بقوله تعالى:(يسبح)، وبدأت سورة الإسراء آية (1) بقوله تعالى:(سبحان الذي أسرى بعبده)، وبدأت سورة الأعلى آية (1) بقوله تعالى:(سبح أسم ربك الأعلى).

{لَهُ الْمُلْكُ} : له: اللام لام الاختصاص والملكية، له وحده سبحانه الملك، وتقديم (له) للدلالة على الحصر.

{الْمُلْكُ} : الحكم المطلق على ما في السموات وما في الأرض.

{وَلَهُ الْحَمْدُ} : له: يفيد الاختصاص والحصر؛ أي: له وحده الحمد المطلق حصراً.

له الحمد: على الخلق والتدبير والتّصريف. ارجع إلى سورة الفاتحة آية (1) لمزيد من البيان.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : وهو: الواو عطف، هو: ضمير فصل يفيد التوكيد ويعود على واجب الوجود: وهو الله، على كل شيء قدير: قدير صيغة مبالغة لقادر، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، قدير تعني كذلك: القوي العظيم الشّأن القادر على خلق كل شيء وتصويره وإبداعه وذرئه ونشره وملكه، والعلم به والقدرة عليه، لا يعجزه شيء في سماواته وأرضه، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون.

فكونه جمع الملك والقدرة على كل شيء، فهذا يدل على كماله وعظمته.

ص: 96

سورة التغابن [64: 2]

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر ويعود على واجب الوجود الّذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وهو الخالق أيضاً، فهذه من كمال صفات الألوهية والربوبية.

{خَلَقَكُمْ} : الخلق هو التّقدير والإيجاد، والخلق من العدم خلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة.

{فَمِنكُمْ} : الفاء: للتفصيل أو التفريغ منكم: خاصة من جنسكم (من الإنس).

{كَافِرٌ} : من اختار لنفسه طريق الكفر، فالكفر من فعل الإنسان وكسبه.

{وَمِنْكُمْ مُّؤْمِنٌ} : وتكرار منكم يفيد التّوكيد، ومن جنسكم الإنس من هو مؤمن؛ أي: اختار لنفسه طريق الإيمان، فالإيمان من فعله وكسبه، وقدّم (كافر) على (مؤمن)؛ لأن الكفر هو الأعم والأكثر.

كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} : والله بما تعملون من الكفر أو الإيمان بصير؛ أي: يرى أعمالكم، والعالم بها والمدرك والمحيط بكل ما يُبصر، وقدم تعملون على بصير؛ لأن سياق الآيات في عمل الإنسان.

ص: 97

سورة التغابن [64: 3]

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} :

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : ارجع إلى سورة فصلت آيات (9- 12) للبيان وسورة الأنبياء آية (30).

{بِالْحَقِّ} : الباء للإلصاق وتعني: بالشّيء الثابت الّذي لا يتغير، فالسماوات والأرض وما فيها من كواكب وأقمار وشموس وأفلاك ومجرّات تسير على نظام ثابت وقوانين ثابتة، وأبعاد وأحجام وقوى جاذبة وكهرومغناطيسية لا تتبدّل، و (بالحق) تعني: لم يخلقها عبثاً بغير حكمة وفائدة.

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} : صوّركم: صوّر كل إنسان بصورته وهيئته بحسب الشفرة الوراثية، وميّز كلاً عن الآخر فلا يشبه إنسان إنساناً آخر. ارجع إلى سورة آل عمران آية (6) والأعراف آية (11) للبيان المفصّل.

{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : إليه المنتهى؛ أي: الوقوف بين يديه للمحاسبة والجزاء. وتقديم (إليه) يفيد الحصر؛ أي: إليه وحده المصير.

ص: 98

سورة التغابن [64: 4]

{يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :

{يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : (ما) تشمل العاقل وغير العاقل، ما في السموات والأرض من خلق أو مخلوقات وأشياء، وأحياء وأموات ومن نبات وحيوان وجماد، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، ولا تخفى عليه خافية أو غائبة أو حركة.

{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} : ما: أوسع شمولاً من الذي؛ تسرون: السر هو ما يخفي الإنسان في نفسه ولا يطلعه على أحد، وما تعلنون من الأقوال والأفعال وما تسرّون من دعاء ونداء ونجوى وشكوى، والنّوايا والأفكار والخير والشر، وتكرار (ما) للتوكيد، وفصل ما تسرون عن ما تعلنون أو كلاهما معاً.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : عليم صفة مبالغة من: عالم، الصّدور؛ أي: القلوب، عليم بكل المعتقدات والخواطر والنّوايا الّتي تعيش في قلب الإنسان وتصاحبه ولا تفارقه، وتجول وتعيش فيه ولم تخرج إلى النّاس. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان.

ص: 99

سورة التغابن [64: 5]

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} : الهمزة استفهام تقريري.

{نَبَأُ} : الخبر العظيم.

{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} : مثل قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم.

{فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} : ذاقوا عاقبة كفرهم في الدّنيا بالقتل والتّدمير، وبال: تعني الشّدة في الوخامة في سوء العاقبة. ارجع إلى سورة الحشر آية (15) لمزيد من البيان.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : اللام للاختصاص والملكية، عذاب أليم في الدنيا أو الآخرة، أو في الدنيا والآخرة معاً.

ص: 100

سورة التغابن [64: 6]

{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} :

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد، ويشير إلى العذاب (ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم).

{بِأَنَّهُ كَانَتْ تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بأنَّه: الباء باء السببية؛ أي: ذلك العذاب الأليم سببه: بأنّه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات (بالحجج والبراهين والمعجزات والآيات) الدالة على وجوب الإيمان وتوحيد الله، ولم يقل بأنهم؛ كما في الآية (22) في سورة غافر وهي قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ؛ بأنه: تفيد تعظيم الأمر: وهو الكفر والشمول سواء صدر منهم أو من غيرهم. ولو قال بأنهم، لكان خاصاً بهم؛ أي:(أنه) تعني العموم، (أنهم) تفيد الخصوص.

{فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} : أبشرٌ: الهمزة همزة استفهام إنكاري وتعجب (أبشر يهدوننا): أنكروا أن يكون الرسل بشراً.

{فَكَفَرُوا} : الفاء للترتيب والتعقيب بالرّسل، لم يصدّقوا رسلهم وأنكروا عليهم رسائلهم.

{وَتَوَلَّوْا} : ابتعدوا عن الرّسل وأعرضوا عن الإيمان والتدبّر في البينات.

{وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} : عنهم وعن إيمانهم وطاعتهم، ولم يجبرهم على الإيمان قسراً، بل أهلكهم وقطع دابرهم.

{وَاللَّهُ غَنِىٌّ} : غني عن عباده وغني عن عبادتهم وعمَّا في السموات وما في الأرض، ومن غناه يرزق من يشاء بغير حساب، وغني يرزق المطيع والعاصي والبارَّ والفاجر.

{حَمِيدٌ} : محمود في الأرض والسّماء بما أنعم على خلقه، حميد لنعمه وفضله وإحسانه وكرمه، حمداً دائماً لا ينقطع؛ وهو الحميد منذ الأزل له الحمد على ذاته وأفعاله وتدبيره ورحمته، ارجع إلى سورة الحديد آية (24) للبيان.

ص: 101

سورة التغابن [64: 7]

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} :

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الزّعم هو القول غير المستند إلى دليل أو ادعاء العلم، وأكثر ما يستعمل في الباطل؛ أي: ادّعى الّذين كفروا باطلاً بدون دليل أو علم، أو قد يطلق على الظن والكذب، والزعم في القرآن كلّه فيه ذمٌّ.

{أَنْ لَنْ} : أن: للتوكيد، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد؛ أي: لن يبعثوا قريباً أو بعد زمن بعيد من قبورهم.

{قُلْ بَلَى وَرَبِّى} : قل: لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى وربي. الواو واو القسم.

{لَتُبْعَثُنَّ} : اللام لام التّوكيد، تبعثن: والنّون لزيادة التّوكيد؛ أي: لتخرجن من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.

{ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} : ثم للترتيب العددي أو الإخباري، لتنبئنّ: اللام لام التّوكيد والنّون لزيادة التّوكيد.

{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما بمعنى: الّذي عملتم في الحياة الدّنيا، وعملتم: تشمل الأقوال والأفعال.

{وَذَلِكَ} : اسم إشارة يشير إلى البعث.

{عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : سهل، ولنعلم: ليس عند الله ما هو يسير وما هو صعب، وإنما ذكر ذلك لتقريب المعنى إلى أذهان السّامعين.

وهذه الآية هي ثالث آية أمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بالله ربه عز وجل.

أما الآيتان الأخريان: فهما في سورة يونس آية (53) وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنبِـئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

وفي سورة سبأ آية (3): {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

وإذا نظرنا إلى هذه الآيات الثّلاث نجد: أنّ آية التّغابن جاءت في سياق البعث، وآية يونس جاءت في سياق عذاب الآخرة، وآية سبأ جاءت في سياق السّاعة.

ص: 102

سورة التغابن [64: 8]

{فَـئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :

{فَـئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} : الفاء للتوكيد، آمنوا بالله ورسوله: صدّقوا بعظمته وقدرته ووحدانيته، وبنبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إيمان عقيدة وإخلاص.

{وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا} : أي القرآن الكريم، أنزلنا: دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، أنزلناه على عبدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، و (أنزلنا) للتعظيم، وشبّه القرآن بالنّور الّذي يحتاجه النّاس في الدنيا؛ ليخرجهم من الظّلمات والشّبهات إلى النّور كما يحتاجون النّور الحسي في ظلمات الليل.

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} : خبير ببواطن الأمور، خبير بما تعملون؛ أي: بأقوالكم وأفعالكم وإيمانكم وما تُكنُّ صدوركم.

وقدّم (بما تعملون) على (خبير) ولم يقل خبير بما تعملون؛ لأن سياق الآيات في الأعمال.

ص: 103

سورة التغابن [64: 9]

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} : أي اذكروا يوم يجمعكم: يوم القيامة والبعث والحشر والجمع.

{لِيَوْمِ الْجَمْعِ} : اللام لام التّوقيت، يوم الجمع: اسم من أسماء يوم القيامة، يجمع الله فيه الأولين والآخرين في أرض المحشر، وكما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الواقعة: 49-50].

وقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].

{ذَلِكَ} : ذا اسم إشارة واللام للبعد.

{يَوْمُ التَّغَابُنِ} : اسم آخر من أسماء يوم القيامة، سمي يوم التّغابن: والتّغابن في الأصل مأخوذ من: الغبن وهو فوت الحظ أو أخذ الشّيء من صاحبه بأقل من قيمته، أو يبيع البائع بأقل من القيمة، أو يشتري المشتري بأكثر من الثّمن؛ أي: هو ضرر يلحق الفرد لخداع في عقد البيع والشراء. وفي هذه الآية يعني هو الّيوم الذي يظهر فيه غبن الكافر (بعدم الإيمان) وغبن المؤمن (بتقصيره في العمل الصالح والإحسان). وسمي كذلك؛ لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار؛ لأن أهل الجنة يأخذون مقاعدهم في الجنة ويرثون مقاعد الكفار في الجنة.

{وَمَنْ} : شرطية.

{يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} : الإيمان هو الاعتقاد الجازم بأنّ الله واجب الوجود، وأنّه رب كل شيء وخالقه ومليكه، وأنّه الإله الحق الذي يستحق العبودية والمنزَّه عن كل نقص وتوحيده.

{يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} : والتّكفير يعني: يسترها عليه في الدّنيا ولا يعاقبه عليها في الآخرة. والسّيئات قيل: صغائر الذّنوب.

{وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود استمرار البقاء إلى ما لا نهاية، يبدأ من وقت دخولهم الجنة.

ولم يقل يدخله بلفظ المفرد وإنما قال: (خالدين فيها) بلفظ الجمع؛ لأن في الصحبة استئناساً بعكس الوحدة.

{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ذلك اسم إشارة يشير إلى تكفير السّيئات ودخول الجنات والخلود الأبدي، هو الفوز العظيم الّذي لا يعلوه فوزٌ، ولمقارنة هذه الآية مع الآية (11) في سورة الطلاق وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ؛ ارجع إلى سورة الطلاق للبيان، ومعرفة الاختلاف بين الآيتين. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان معنى الفوز وأنواعه أو درجاته.

ص: 104

سورة التغابن [64: 10]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} :

{خَالِدِينَ فِيهَا} : يبدأ خلودهم في النار من وقت دخولهم إياها ويستمر إلى ما لا نهاية، ولم يقل أبداً؛ لأن كلمة أصحاب تدل على أنهم ملازمون لها أبداً لا تفارقهم ولا يفارقونها. ارجع إلى الآية (39) من سورة البقرة؛ للبيان المفصل.

{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : بئس من أفعال الذّم والتّقبيح، المصير: المنتهى والمآل.

ص: 105

سورة التغابن [64: 11]

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

هذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} والآية (22) من سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا} ، والآية (30) من سورة الشورى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، أو:{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [القصص: 47].

هذه الآيات تشير إلى أن كل مصيبة مكتوبة في كتاب (اللوح المحفوظ) وتحدث بما كسبت أيديكم ولا تحدث إلا بإذن الله؛ أي: بعلمه وتقديره، وهذه المصائب تصيب الأرض أو تصيب الأنفس مما تسمى الكوارث الطبيعية أو الأوبئة والأمراض وقلة الغذاء والحروب والويلات.

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} : ما النّافية، أصاب: حدث ووقع، من: استغراقية تستغرق كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، في النّفس أو الولد أو المال أو الأهل، أو الكون أو البيت أو المركب (السيارة والطائرة أو الفلك).

{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} : إلا أداة حصر، بإذن الله: بإرادته ومشيئته وبعلمه وتقديره، وكلمة بإذن الله: تأتي في القرآن في سياق الأعمال التي لا دخل لنا فيها؛ أي هي بتدبير من الله تعالى مقارنة بقوله تعالى إلا ما شاء الله التي تأتي في سياق الأعمال التي لنا دخل فيها، أو نقوم بها بأنفسنا.

{وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ} : من: شرطية، يؤمن بالله: ارجع إلى الآية (9) من السورة نفسها، يؤمن بالله ويصبر عند المصيبة ولا يجزع أو لا يسخط، ويرضى بقضاء الله وقدره.

{يَهْدِ قَلْبَهُ} : يطمئن قلبه ويثبّته؛ ليزداد صبراً ويعلم أنّ هذا ابتلاء من الله تعالى، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : بأحوال العبد وما يصيبه من ألم وحزن ومرض وحمى وهمّ وغمّ، وما يقع في كونه من عواصف ودمار وتخريب وكوارث جوية أو بيئية، فلا تخفى عليه خافية.

وإذا قارنّا الآية (11) من هذه السورة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} مع الآية (22) من سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ} نرى: أنه فصل، وبيّن في آية الحديد أين تقع المصيبة، وفي آية التغابن أجمل.

ص: 106

سورة التغابن [64: 12]

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} :

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ} : فيما أمركم ونهاكم عنه، أو ما شرع لكم فيما أجمل من الأحكام.

{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} : الطاعة: هي الانقياد لمطلوب الشارع (وهو الله سبحانه) بما أمر به واجباً ومستحباً فيما أمركم ونهاكم عنه وما فصّل لكم من الأحكام والشرائع. ارجع إلى سورة آل عمران آية (32) لمزيد من البيان، وسورة النساء آية (59)، ومعرفة الفرق بين أطيعوا الله ورسوله، وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول.

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} : الفاء للتوكيد، إن شرطية تفيد الاحتمال أو الشك أو النّدرة، توليتم: التولي: هو أشد من الإعراض؛ ابتعدتم؛ أي: أعرضتم ورفضتم طاعة الله وطاعة رسوله، فإنما بغيكم وإثمكم على أنفسكم.

{فَإِنَّمَا} : الفاء جواب الشّرط، إنما: كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.

{عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} : إنما مهمة رسولنا فقط التّبليغ وإيصال الرّسالة إليكم، وقوله تعالى رسولنا بدلاً على الرسول: فيه تشريف وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبين تعني: أن تصل إلى كل فرد، تصل كاملة بدون نقصان وواضحة لا تحتاج إلى دليل أو بينة.

لنقارن بين هذه الآية (12) من سورة التغابن وهي قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، مع الآية (92) من سورة المائدة وهي قوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} .

ففي آية المائدة زاد كلمتين (واحذروا)(فاعلموا)؛ لأنّ آية المائدة مسبوقة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فناسب ذلك ذكر التحذير والعلم، بينما آية التّغابن لم يسبقها نهي عن محرمات (كما في المائدة).

ص: 107

سورة التغابن [64: 13]

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : الله: هو الاسم الأعظم الّذي تفرد به الحق سبحانه واختصَّه لنفسه الدّال على واجب الوجود، وقدّمه على سائر الأسماء، وهو الاسم الجامع لكل صفات الكمال الإلهية، فهو المعبود ولا معبود إلا هو.

{لَا إِلَهَ} : لا النّافية للجنس، إله: معبود في الوجود إلا هو.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.

لا إله إلا هو: تفيد النّفي وتفيد الإثبات، فقوله:(لا إله) تفيد النّفي.

(إلا هو): تفيد الإثبات أو تؤكد النّفي. ارجع إلى سورة البقرة آية (255) للبيان.

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : (وعلى الله) تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر؛ أي: حصر التّوكل على الله وحده لا غيره.

فليتوكل: الفاء للتوكيد، يتوكل: التّوكل هو الاعتماد على الله تعالى في تدبير الأمور الدّينية والدّنيوية، وهو عمل قلبي، ويعني: تفويض الأمر لصاحب الأمر وهو الله تعالى، والاستعانة به للقيام وإتمام أيّ عمل بعد تقديم الأسباب كافة؛ لأنّ قدرة العبد محدودة لا تكفي مهما كانت وتحتاج إلى الاستعانة بقدرة العليم القدير، ومن يعلم الغيب. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان.

ص: 108

سورة التغابن [64: 14]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد بتحذير جديد إلى الذين آمنوا، والهاء للتنبيه.

{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} : إن للتوكيد، من ابتدائية بعضية؛ أي: بعض أزواجكم، ولا تعني الشّمول أو العموم.

{وَأَوْلَادِكُمْ} : وبعض أولادكم وليس الكل، والأولاد تشمل الذّكور والإناث.

{عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} : إذا كانوا سبباً للانشغال عن طاعة الله وذكره أو الدّخول في الإسلام، أو التّقصير في المجيء لصلاة الجماعة أو في الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الخروج للجهاد في سبيل الله، أو عقوق الوالدين، أو الإنفاق في سبيل الله، أو في قطع الأرحام بسبب التفريق بين الزّوج وأهله.

{فَاحْذَرُوهُمْ} : الفاء السّببية (ربط السّبب بالمسبب) أي: لا تطيعوهم واحذروا أن يكون سبباً لكم في المعاصي أو عدم طاعة الله.

{وَإِنْ} : شرطية.

{تَعْفُوا} : العفو ترك العقوبة (التّجاوز عن الذّنب).

{وَتَصْفَحُوا} : الصّفح هو العفو وترك اللوم.

{وَتَغْفِرُوا} : من الغفر وهو السّتر وعدم الفضيحة.

{فَإِنَّ اللَّهَ} : إن للتوكيد، والفاء جواب الشّرط.

{غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور كثير المغفرة؛ أي: يستر الذّنوب ويعفو عنها، الذّنوب العظام والذّنوب الكثيرة ولو تكررت وتعددت، ولو كانت مثل زبد البحر.

رحيم: بعباده لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطؤوا، رحيم بعباده المؤمنين؛ لأنه لا يعجّل لهم العقوبة لعلّهم يتوبون إليه، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمته ثابتة دائمة دوام ذاته.

ص: 109

سورة التغابن [64: 15]

{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد، وليس الحصر.

{أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} : أي: ابتلاء واختبار، والفتنة: أشد الاختبار وأبلغه وتكون في الخير والشّر؛ أي: لنرى هل تشغلكم عن العبادة والطاعة وعن الآخرة أم لا؟ وأموالكم كيف تجمعونها وتنفقونها؟ وقدم الأموال على الأولاد؛ لأنها هي الأعم، فكل الناس عندهم أموال، وليس كل الناس عندهم أولاد.

{وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} : لمن آثر طاعة الله ورسوله وعلى ماله وولده، والأجر العظيم: أعظم الأجور، فهناك الأجر الكبير، والأجر المبين، والأجر العظيم هو الجنة.

ص: 110

سورة التغابن [64: 16]

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} : أي اتقوا الله حقّ تُقاته، ما استطعتم؛ أي: ما في وسعكم وجهدكم وطاقتكم.

والذي يحدّد الاستطاعة هو الله؛ أي: المشرِّع، فلا يصح للعبد أن يحدد الاستطاعة بنفسه، وهناك من المفسرين من يظن أنّ:(اتقوا الله ما استطعتم) نسخت قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .

{وَاسْمَعُوا} : ما توعظون به أو يدعوكم الله ورسوله إليه.

{وَأَطِيعُوا} : الله ورسوله في كل ما أمروا به ونهوا عنه.

{وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ} : أنفقوا في سبيل الله وإعلاء كلمته ودينه؛ أي: المال وغيره.

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} : الشّحُّ هو البخل مع الحرص، وهو أسوأ من البخل، الحرص الشّديد على المال والحفاظ عليه وعدم إنفاقه، والوقاية تكون بالإنفاق أكثر فأكثر أو قليلاً حتى يحصل الشّفاء من هذا المرض.

{فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : أي من شُفي أو وُقي من مرض الشّح فأولئك: من المفلحين.

الفاء رابطة لجواب الشّرط؛ أي: أصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة والناجين من النار، هم: تفيد التوكيد؛ أي: المفلحون حقاً أو في مقدمة المفلحين. ارجع إلى سورة البقرة آية (5) لمزيد من البيان.

ص: 111

سورة التغابن [64: 17]

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} :

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو النّدرة.

{تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} : ارجع إلى سورة الحديد آية (11) للبيان. (معنى القرض الحسن).

{يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} : تعني الكمّ، لكم خاصة، اللام لام الاختصاص؛ أي: يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة. ارجع إلى سورة البقرة آية (245) لمزيد من البيان.

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} : تعني الكيف، لكم خاصة، وتكرار (لكم) يفيد التوكيد؛ أي: يستر لكم ذنوبكم، وبالتالي يعفو عنها.

{وَاللَّهُ شَكُورٌ} : لأنه يثيب على الطاعة ويضاعف الحسنات، ويجازي بالثواب الجزيل على العمل القليل.

{حَلِيمٌ} : لا يعجّل بالعقوبة لعباده على ذنوبهم، وينعم على خلقه رغم كثرة معاصيهم، يصفح ويعفو ويغفر، ويُمهل العاصي؛ ليتوب، وذكر (الحليم) إحدى عشرة مرة في القرآن.

ص: 112

سورة التغابن [64: 18]

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

{عَالِمُ الْغَيْبِ} : أي عالم ما غاب واستتر عن العيون، عالم الغيب المطلق والغيب النسبي والساعة، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وما في الأرحام، ويعلم ما تكسب كل نفس، والسر والنجوى وذات الصدور.

{وَالشَّهَادَةِ} : يعلم كل ما يشاهد ويدرَك بالحواس والمدركات.

وما يلج في الأرض وما يخرج منها.

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : ارجع إلى سورة الحشر آية (24) للبيان.

ص: 113

سورة الطلاق [65: 1]

سورة الطلاق

ترتيبها في القرآن (65) ترتيبها في النزول (99).

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} :

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء تشريف وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل فيها (يا) أداة النداء والهاء للتنبيه، والنداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته لقوله تعالى بعد ذلك:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ولم يقل: إذا طلقت النساء؛ لأن الحكم ليس خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وكذلك حين يخاطب الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يا أيها النبي يجب على الكل أن ينتبه ويستمع للنداء.

{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث وكثرته.

{طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} : إذا أردتم الطلاق، الخطاب للأزواج فقد كان الرجل يطلق امرأته، ثم يرجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها ويفعل ذلك تكراراً ليضارها، فنزلت هذه الآية.

{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} : الفاء جواب الشرط، أيْ: طلقوهنَّ وقت الطهر، لا يجوز تطليق المرأة زمن الحيض؛ أيْ: يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فإذا جامعها، أيْ: مسها لا يجوز له أن يطلقها حينذاك، ويجب أن ينتظر إلى أن تأتي الحيضة القادمة، وتنتهي وتعود طاهراً لم يمسها في زمن طهرها ويطلقها حينذاك. فقد روى البخاري أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:«ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله عز وجل» ، والحكمة من وراء ذلك والله أعلم لعل النفوس تهدأ وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، ويبقى البيت قائماً.

{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} : الخطاب للأزواج والعدة هي ثلاثة قروء كاملة، أيْ: أكملوا ثلاثة قروء واحفظوا مدتها، احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى يتبيَّن متى تنتهي العدة. ارجع إلى سورة البقرة آية (228) للبيان.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} : أيْ: أطيعوا أوامر الله ربكم وتجنبوا نواهيه فلا تعصوه والتزموا حدوده. وانظر كيف جمع في هذه الآية بين الإلوهية والربوبية، اتقوا غضب الله وسخطه فهو الذي يرعاكم ويحفظكم ويُربيكم التربية الإسلامية بتعاليمه وآياته.

{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} : وحذفت الواو من قوله تعالى: (ولا تخرجوهن)؛ لأن هذا حكم أو كلام جديد؛ لا الناهية، أي: اتركوهنَّ في بيوتهنَّ التي كنَّ فيها قبل الطلاق ما دُمْنَ في العدة حتى تنقضي العدة، وأضاف البيوت إليهنَّ لبيان استحقاقهنَّ للسكن في مدة العدة. مع أن البيت للرجل.

{وَلَا يَخْرُجْنَ} : التكرار للتوكيد وتحذير للأزواج والزوجات، لا الناهية، أو النافية، والنون في يخرجن لزيادة التوكيد، أيْ: لا تخرج المرأة المطلقة في زمن عدتها إلا لضرورة ظاهرة، ولعل في البقاء في البيت يثير أهمية المعاشرة والاهتمام والتفكير بعواقب الأمور؛ ارجع إلى المصادر الفقهية لبيان الشروط.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} : أن المخففة للتوكيد وتدل على المستقبل، أيْ: لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ إلا إذا فعلن فاحشة الزّنى عندها يخرجن لإقامة الحد عليهنَّ، وقيل: الفاحشة قد تعني بذاءة اللسان والتكبر على الزوج أو على من تسكن عندهم والنّشوز على الزوج.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} : الواو عاطفة، تلك: اسم إشارة واللام للبعد والإشارة إلى حدود الله مثل الطلاق في حالة الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها تلك أحكام الله تعالى لا يحل لكم أن تتجاوزها أو تتعدوها.

{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} : أيْ: ومن لم يلتزم بما أمر الله سبحانه ونهى عنه، فقد: الفاء للتوكيد، قد للتحقيق، ظلم نفسه: بأن عرضها للعقاب عاجلاً أو آجلاً؛ لأنّه ارتكب إثماً في حق نفسه بالخروج عن حدود الله.

{لَا تَدْرِى} : لا النافية، للحال والاستقبال تدري: من درى بمعنى علم وهناك فرق بين علم ودرى، فالدّراية تكون بعد جهل والدّراية أخص من العلم والعلم أعم، لا تدري: لا تعلم.

{لَعَلَّ} : أداة رجاء لشيء محبوب يطمع أو يرجى حدوثه.

{اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} : لعل الله إذا بقيت في بيتها أن يؤلف بين قلوبهما فيتراجعا أو يحنَّ كلٌّ للآخر، ويندم بعد الطّلقة أو الطلقتين وتجنب الطلاق للمرة الثالثة.

ص: 114

سورة الطلاق [65: 2]

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا} :

{فَإِذَا} : الفاء استئنافية، إذا: ظرفية شرطية تفيد الحتمية.

{بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : أيْ: قاربن على انقضاء العدة وهي ثلاثة قروء.

(القرء في اللغة: يطلق على الحيض وعلى الطهر) فمنهم من قال: ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات.

{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} : فأنتم بالخيار إن شئتم الرجعة فأمسكوهنَّ بمعروف، أيْ: من دون أيِّ قصد أو نية للإضرار بهنَّ، والفاء في فأمسكوهنَّ جواب الشرط.

{أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} : اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ، ثم فارقوهنَّ بمعروف، الباء للإلصاق والملازمة. أيْ: من دون الإساءة لهنَّ أو القذف والسب أو الإيذاء بكل أشكاله.

{وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} : وأشهدوا على الطلاق أو المراجعة بُعداً عن الريبة وتجنباً للخصومة والأمر للندب، أي: افعلوا ذلك، أيْ: أشهدوا ذوي عدل: أي: شاهدين اثنين من ذوي العدل والأمانة، منكم: من المسلمين ولا يجوز شهادة الكفار.

{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} : أيْ: أتموا الشهادة لوجه الله تعالى وليس لمنفعة دنيوية أو غرض ما أو مصلحة، أيْ: أدوا الشهادة بالصدق والعدل ولو كان ذا قربى.

{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} : ذلكم ولم يقل ذلك: استعمل ذلكم؛ لأن الأمر يشمل عدة أحكام وكونها أحكاماً مهمة وللحثِّ على إقامة الشهادة.

{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : من استغراقية، يؤمن بالله واليوم الآخر: أيْ: يؤمن: يصدق ويعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله خالق كل شيء ومليكه، وإنه المستحق للعبادة وحده ولا شريك له، وكذلك يصدق باليوم الآخر بلا ريبة أو تردُّد.

ولم يذكر كلمة منكم؛ لأن الخطاب إلى النبي وأمته، فلا حاجة إلى ذكر كلمة منكم، كما هي الحال في سورة البقرة الآية (232) ارجع إليها للبيان.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا} : من: شرطية، يتق الله: يطع أوامر الله في الطلاق والعدة والرجعة ولا يخالف أحكامه وسنة رسوله، يجعل له: له اللام لام الاختصاص، مخرجاً: أي فرجاً من الضيق والكرب الذي وقع فيه. ومخرجاً من الحرام إلى الحلال ومن الفقر إلى الغنى ومن الذل إلى العزة ومن المرض إلى العافية، ومن اليأس إلى الأمل وغيرها.

وسر ذكر التقوى في سياق آيات الطلاق أن التقوى تحث على الصبر، ولو اتقى الإنسان وصبر في هذه الظروف العصيبة، ولم يستعجل لعل الله تعالى يهديه إلى مخرج من هذه الأزمة، والناس في هذه الأيام أنهم يريدون المخرج أولاً، ثم التقوى أو الصبر ثانياً بعكس ما أمر الله.

ص: 115

سورة الطلاق [65: 3]

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا} :

هذه الآية تتمة للآية السابقة، أيْ: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، فالتقوى والصبر: أيْ: إطاعة أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيق أحكامه وعدم مخالفة شرعه في الطلاق والعدة والرجعة وغيرها، والصبر يهدي إلى الفرج والخروج من الضيق، ويؤدِّي إلى الرزق، أي: يهيئ إلى أسباب الرزق.

{مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} : لا يحتسب من الحساب، أيْ: لا يدخل ذلك في تقديره وحسابه ذلك المصدر للرزق أو يهيئ له من أسباب الرزق؛ مما لا يخطر على باله، وهناك رزق منظور ورزق خفي كأن يدفع عنه ضراً كان سيقع، ويؤدي إلى خسارة المال الكثير.

أيْ: من يطع الله ويؤدِّي ما عليه من حقوق الطلاق أو المهر أو العقد الجديد، ويدفع المهر المتأخر ويؤدِّي الحقوق والنفعات، فالله سبحانه سيرزقه ويعوض كل ما خسره.

{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} : ومن: شرطية، يتوكل على الله: أيْ: يقدِّم الأسباب المطلوبة منه، ثم يفوِّض أمره إلى الله ويطلب منه العون فهو سبحانه كافيه؛ ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان في معنى التوكل.

{فَهُوَ حَسْبُهُ} : الفاء رابطة لجواب الشرط، هو للتوكيد، حسبه: كافية ولا يحتاج إلى أحد غير الله تعالى.

{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} : إن للتوكيد، بالغ أمره: لا يعجزه ولا يفوته أيُّ شيء أو أمر، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون.

{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا} : قد للتحقيق، قدراً: زمناً أو توقيتاً أو ميقاتاً وحجماً ووزناً، جعل لكل شيء قدراً: أجلاً ومنتهى بما فيها الشدة والكرب والرخاء والشقاء والمرض والألم والحزن والفقر والغنى والصحة، وتقديم الجار والمجرور (لكل) يفيد الاختصاص، أيْ: لكل شيء، سواء أكان حسياً أم معنوياً.

ص: 116

سورة الطلاق [65: 4]

{وَالَّائِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَالَّائِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} :

سبب النزول: بعد نزول آيات سورة البقرة في الطلاق سأل بعض الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدة التي لم تحض وعدة التي كبر سنها، وانقطع حيضها وعدة الحامل، فنزلت هذه الآية.

{وَالَّائِى} : ارجع إلى سورة المجادلة الآية (2) لبيان معنى اللائي ولم يقل اللاتي.

{يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِّسَائِكُمْ} : لكبر السّن أو انقطع رجاؤهنَّ من الحمل، والميئوس منه في هذه الآية هو الحيض، من نسائكم: أيْ: أزواجكم.

{إِنِ ارْتَبْتُمْ} : أهو دم الحيض أو دم لا علاقة له بالحيض، إن: شرطية، ارتبتم: من الرّيب وهو الشّك والتّهمة معاً. أو ارتبتم في مدة العدة ثلاثة أشهر.

{وَالَّائِى لَمْ يَحِضْنَ} : لصغرهنَّ، أي: اللاتي لم يبلغن سن الحيض عدتهنَّ ثلاثة أشهر.

{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} : أشهر: جمع قلة (أقل من 10يعتبر جمع قلة)، وأما شهور جمع كثرة (أكثر من 10)، وكان يكفي شهراً واحداً، ولكنه سبحانه لنفي الريب والشك جعلهن ثلاثة أشهر.

{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} : أي: النّساء الحوامل سواء كنَّ مطلقات أو متوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ أجلهنَّ، أن: للتعليل، يضعن حملهنَّ، أي: متى ولدت ما في بطنها فقط انقضت عدتها، ولو وضعته قبل تسعة أشهر، أو إذا أسقطت الحمل ولو كانت مضغة تعني: وضعن حملهنَّ، ويحق لها الزّواج بعدها.

{وَمَنْ} : شرطية.

{يَتَّقِ اللَّهَ} : ومن يطع أوامر الله، ويتجنَّب نواهيه في هذه الأحكام المتعلِّقة بالحمل.

{يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} : يسهل عليه ويُيسر عليه أمره في الدّنيا والآخرة إذا حافظ على ما وصَّى به الله من السّكن والنّفقة وعدم التّعدي على الزّوجة وحقوقها.

ما هو الفرق بين أولات الأحمال في هذه الآية (4)، وقوله: وإن كنَّ أولات حمل في الآية (6).

1 -

أولات الأحمال في الآية (4) جمع كثرة بينما أولات حمل في الآية (6) جمع قلة أو أولات الأحمال في الآية (4) أكثر عدداً بالنسبة للأولات حمل آية (6).

2 -

أولات الأحمال عامة وأشمل، وتشمل أولات حمل.

3 -

أولات الأحمال لا تختلف واحدة عن أخرى الكل يسري عليهنَّ حكم واحد.

بينما أولات حمل الحكم يختلف فيهنَّ بالنسبة للإنفاق حسب سعة الزوج.

ومن حيث الإرضاع ففيها أكثر من حكم؛ بينما آية (4) حكم واحد يسري على الجميع.

ص: 117

سورة الطلاق [65: 5]

{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} :

{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} : المذكور من جميع الأحكام المتقدِّمة في الطّلاق والعدة والرّجعة وأحكام الإنفاق والسّكن وغيرها، هو أمر الله الذي أمر به عباده، أيْ: أمركم الله به في القرآن.

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} : أيْ: ومن يطع أوامر الله تعالى ويتجنَّب نواهيه.

{يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} : يستر عليه سيئاته ولا يعاقبه أو يؤاخذه عليها.

{وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} : يضاعف له حسناته في الآخرة، أيْ: ثوابه. ويدخله فسيح جناته، وإذا قارنا آيات {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في هذه السورة: نجدها ثلاثة آيات وعد الله سبحانه عباده في كل آية نوعاً من العون أو التيسير ويختلف عن الآخر؛ ففي الأولى: وعد الله تعالى من يتق الله يجعل مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب (في الدنيا)، وفي الثانية: وعد الله تعالى من يتق الله يجعل من أمره يُسرا (في الدنيا)، وفي الثالثة: وعد الله تعالى من يتق الله بأن يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً وهذا هو أفضل الجزاء في لأخرة.

ص: 118

سورة الطلاق [65: 6]

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} :

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} : أسكنوا المطلقات من نسائكم المعتدات، من حيث: من للتبعيض، أيْ: بعض سكنكم.

{مِنْ وُجْدِكُمْ} : الوُجْد السعة والقدرة، أيْ: أسكنوهنَّ مكاناً من مسكنكم مما تجدونه في وسعكم مما تطيقونه، أيْ: حسب القدرة وحسب وسعكم وطاقتكم.

{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} : الواو استئنافية، لا النّاهية، تضاروهنَّ: من الضّرر، أيْ: في النّفقة والسّكن.

{لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} : حتى تضطروهنَّ إلى الخروج من مساكنهنَّ، واللام لام التّعليل.

{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى} : حتّى: حرف نهاية الغاية. ارجع إلى الآية (4) السابقة لمعرفة معنى أولات حمل والمقارنة.

{يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} : فيخرجن من عدتهنَّ. ارجع إلى الآية (4) السّابقة للمقارنة.

{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} : بعد الطّلاق أو انتهاء رابطة الزّواج فآتوهنَّ أجورهنَّ على الإرضاع.

{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} : الخطاب للزوجين المطلقين بأن لا يبخل بإعطائها ما تستحق من الأجر على الإرضاع، وهي لا تطلب مبلغاً لا يستطيع تحمله فعليهما أن يتشاورا على أجرة الإرضاع بمعروف، وأْتمروا: من الأمر، أيْ: ليأمر بعضكم بعضاً والخطاب للآباء والأمهات، بمعروف: بالمسامحة والإشفاق على الولد والاهتمام به وعدم جعله سلعة كلٌّ يطمع في الآخر.

{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} : إن شرطية تفيد الاحتمال، وإن لم يتفقا على الأجرة أو يصلا إلى نتيجة ترضي الطّرفان.

{فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} : فليسترضع الوالد غير والدة المولود، أي: امرأة أخرى، الفاء جواب الشّرط، ولا تكره الأم على الإرضاع.

ص: 119

سورة الطلاق [65: 7]

{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} :

{لِيُنفِقْ} : اللام لام التّعليل والتّوكيد.

{ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} : ذو: صاحب أو أهل السّعة، أي: الغني والموسر من سعته. من ماله وغناه.

{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} : أيْ: ضيَّق عليه رزقه، أيْ: كان فقيراً فلينفق على قدر استطاعته، ومما آتاه الله تعالى.

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا} : إلا أداة حصر.

{مَا} : اسم موصول بمعنى الّذي.

{آتَاهَا} : أعطاها من رزق، أي: على قدر استطاعتها.

{سَيَجْعَلُ} : السّين للاستقبال القريب، أيْ: عن قريب.

{اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} : بعد الضيق والشّدة فرجاً وسعة في الرّزق، أو يفتح لهم أبواب الرّزق، للزوج والزوجة. وإذا قارنا قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} مع قوله تعالى في الآية (286) في سورة البقرة وهي قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} : نجد أن آية ما أتاها تعني: من المال أو الرزق، وأما وسعها في آية البقرة تعني: من التكاليف الشرعية.

ص: 120

سورة الطلاق [65: 8]

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} :

{وَكَأَيِّنْ} : مركبة من كاف التّشبيه وأيِّ الاستفهامية المنونة، فصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير، أيْ: كثيراً من القرى عتت عن أمر ربها.

{مِنْ قَرْيَةٍ} : من ابتدائية، القرية: المراد بها أهل القرية والقرية إذا اتسعت تصبح مدينة.

{عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} : عصت وطغت وفسدت، وقيل: كفرت وأعرضت عن أمر ربها، أو كفرت به، والعتو يعني: التّجبر والفساد والتّكبر أيْ: لم تذعن وتطع أوامر ربها ورسله.

{فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} : الفاء السّببية، حاسبناها: جاء بصيغة الماضي بدلاً من المستقبل للدلالة كأنّ الأمر تحقق وانتهى، أي: الحساب ولا ننسى أنّ الزّمن متساو وواحد عند الله تعالى، سواء كان في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؛ لأنه سبحانه خالق الزمان والمكان.

حاسبناها: جازيناها جزاء شديداً.

{وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا} : نُكراً: ينكره المرء من هوله وشدته ولا يصدقه العقل في الدّنيا بالجوع والفقر والمرض والقحط والخوف والرّعب والهزيمة أو في الآخرة بعذاب السّعير.

ص: 121

سورة الطلاق [65: 9]

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} :

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} : الفاء للتوكيد، ذاقت وبال أمرها: بسبب العتو عن أمر ربها، وبال أمرها: ذاقت سوء عاقبة كفرها وعتوها، وشبه ذلك بذوق الوبال: مشتق من البول. ارجع إلى سورة الحشر الآية (15) للبيان.

{وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} : قاعدة في القرآن إذا ذكر العاقبة كما في هذه الآية فإنّ العاقبة تعني: العذاب والهلاك، وإذا أنث العاقبة فقال: فكانت عاقبة أمرها تعني: الجنة والحسنى، أيْ: كان عاقبة أمرها في الدّنيا والآخرة الخسر، أي: الهلاك والدّمار والخسر والخسارة تدل على لا ربح أصلاً وخسارة رأس المال أيضاً.

ص: 122

سورة الطلاق [65: 10]

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِى الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} :

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} : تعود على أهل القرية الّذين عتوا عن أمر ربهم ورسله، بالكفر والشّرك والفساد والظّلم وتكرار الوعيد يفيد التّوكيد، أعدّ الله: هيأ لهم: خاصة، عذاباً شديداً: عذاب يوم القيامة أو عذاب النار.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِى الْأَلْبَابِ} : الفاء للتوكيد أو جواب شرط مقدَّر إن أعد الله العذاب لهؤلاء، أما أنتم فاتقوا الله: أطيعوا أوامره وتجنبوا نواهيه ولا تكونوا أمثالهم، يا أولي الألباب: يا أصحاب العقول النّيرة وفيها حثٌّ على الإيمان والتّقوى والتّحذير من الوقوع في المعاصي.

{الَّذِينَ آمَنُوا} : بدل من أولي الألباب أو عطف بيان على أولي الألباب.

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.

{أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} : أنزل جملة واحدة أو دفعة واحدة إليكم، ولم يقل: عليكم. ارجع إلى سورة البقرة الآية (4) للبيان، إليكم: خاصة، ذكراً: أي: القرآن الحكيم.

ص: 123

سورة الطلاق [65: 11]

{رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} :

{رَسُولًا} : منصوب، وتقديره: قد أنزل الله إليكم ذكراً، وأرسل رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات.

{يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} : أيْ: آيات القرآن. والتلاوة تعني: آية تلو آية ولا تكون إلا من كتاب الله.

{مُبَيِّنَاتٍ} : موضحات للأحكام والشّرائع أو مبينات للناس ما نُزل إليهم من ربهم.

ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات: اللام لام التعليل.

من الظلمات إلى النور: أيْ: من ظلمات الكفر والشرك والجهل والفساد إلى النور نور الإسلام والقرآن والتوحيد والعمل الصالح. (الظلمات متعددة بصيغة الجمع والنور واحد بصيغة المفرد).

{وَمَنْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : من شرطية.

{يُؤْمِن بِاللَّهِ} : ارجع إلى الآية (9) من سورة التغابن للبيان، وهناك اختلاف بين الآيتين ففي آية الطلاق آية (11) لم يذكر يكفر عن سيئاته، أما في آية التغابن آية (9) ذكر تعالى يكفر عنه سيئاته، وقد يعود ذلك إلى أنه في سورة الطلاق قد ذكر الله يكفر عنه سيئاته في الآية (5) فيكفي ذلك ولا داعي إلى التكرار، أو قد يرجع إلى أنه في سورة التغابن تقدم ذكر الذين كفروا والكافر إذا أمن هو بحاجة إلى أن يكفر عن سيئاته، وأما في آية الطلاق فلم يرد ذكر الذين كفروا في السياق.

{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي: تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ} : الخلود يبدأ من زمن الدخول ولا نهاية له، وخالدين بصيغة الجمع وليس الإفراد؛ لأن الإفراد نوع من أنواع العزلة، والعزلة تعد من أنواع العذاب، ولذلك تأتي دائماً خالدين فيها (بالجمع).

{أَبَدًا} : للتوكيد.

{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} : قد حرف تحقيق وتوكيد.

{أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ} : أحسن: أبلغ من أعدَّ أو هيَّأ الإحسان لا يكون إلا بعد الإعداد، وفي سورة التغابن قال تعالى:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

{لَهُ} : اللام لام الاستحقاق.

{رِزْقًا} : وهو رزق الجنة: الذي لا ينفد ولا ينقطع ولا ينقص، وهذا وعد الله سبحانه للمؤمن إن الله لا يخلفُ الميعاد، وفي سورة التغابن وصف هذا الرزق الحسن بقوله تعالى:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

ص: 124

سورة الطلاق [65: 12]

{اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا} :

{اللَّهُ} : ارجع إلى سورة التغابن آية (13) للبيان، وتقديم الله تفيد الحصر والقصر.

{الَّذِى خَلَقَ} : اسم موصول يفيد التعظيم {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ارجع إلى سورة الأنبياء آية (30) وسورة الأعراف آية (54) وفصلت آية (10-11) للبيان.

{وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} : أيْ: وخلق سبع أرضين، وقيل: سبع أرضين، أيْ: سبع طبقات.

1 -

الطبقة المركزية: (اللب) مكون من الحديد الجامد ومعدن النيكل الجامد.

2 -

الطبقة خارج المركزية: مكونة من الحديد السائل والنيكل السائل.

3 -

ثلاثة أوشحة السفلي والمتوسط والعلوي.

4 -

الصفيحة القارية تحت البحار.

5 -

القشرة الأرضية.

وهذا هو أرجح التفاسير العلمية، وهناك من قال: سبع أرضين، أيْ: سبع بيئات مختلفة على سطح الأرض تختلف كل بيئة عن غيرها بالرطوبة والنباتات والمعادن، وغيرها، وهناك من قال مثلهن ليس المقصود به العدد، وإنما أمور أخرى في مراحل الخلق والتسخير والإعداد.

{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} : أيْ: ينفذ قضاؤه وحكمه سبحانه فيهنَّ، أو يتنزل الوحي أو الأمر بين السّموات والأرض، والأمر هو أمر الله تعالى من وحي أو أمر أو نهي أو ما يدبِّره الله من شأن وموت وحياة وعطاء ومنع.

{لِتَعْلَمُوا} : اللام لام التعليل والتّوكيد.

{أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : أنّ: لزيادة التّوكيد، على كلّ شيء قدير: ارجع إلى سورة البقرة الآية (20) للبيان.

{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا} : وأنّ الله: للتوكيد، قد: لزيادة التّوكيد، أحاط بكلّ شيء علماً: أيْ: وسع كلّ شيء علماً، بكلّ: الباء للتوكيد، كلّ لزيادة التّوكيد، علماً: يتناول الموجود والمعدوم.

وختمت هذه السورة بقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا} لأنّ كثيراً من آيات هذه السّورة مرتبطة بعلم الله تعالى وقدرته فجاءت الخاتمة لتؤكد على ذلك.

ص: 125

سورة التحريم [66: 1]

سورة التحريم

ترتيبها في القرآن (66) ترتيبها في النزول (107).

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

أسباب النزول: أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، فتواطأتُ أنا؛ أي: عائشة وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فلتقل له: إني أجد منك ريح مَغَافير؛ أي: تزعم أنها تشم منه رائحة كريهة؛ فدخل على حفصة فقالت ذلك له فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وسألها أن لا تخبر بذلك أحداً).

والمغافير: نبات كريه الرائحة، أي صمغ حلو له رائحة كريهة من شجر العُرْفُط في الحجاز.

وأما ما ذكرته كتب التفسير في قصة مارية القبطية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً، وبكت حفصة وسألها: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة حقاً! فطلب منها أن لا تخبر أحداً بهذا وقال: هي عليَّ حرام، فلما ذهب رسول الله من عند حفصة أخبرت حفصة عائشة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم مارية القبطية. وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس، وهي رواية ضعيفة السند. والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} : نداء تشريف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيه أداة النداء الياء والهاء للتنبيه. ولمعرفة متى ينادى يأيها النبي، أو يأيها الرسول، والفرق بينهما ومتى يذكر اسمه الشريف محمد بدون يا أيها؛ ارجع إلى سورة المائدة آية (41)، وسورة الأحزاب آية (1) للبيان المفصل.

لمَ: اللام حرف جر، ما: الاستفهامية حذفت ألفها؛ لدخول حرف الجر عليها.

{تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} : سواء كان العسل أو مارية القبطية، لمَ تحرّم ما أحلّ الله لك من الحلال أو الطيبات.

{تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} : الابتغاء هو الاجتهاد في الطلب؛ أي: تقصد أو تطلب بذلك التحريم مرضات أزواجك. وماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ التحريم؟ الله سبحانه أعلم به، والفرق بين رضوان الله ومرضات الله تعالى أن رضوان الله؛ أي: أعظم الهنا، وأعظم من مرضات، والرضوان خاص به تعالى، وأكبر من الجنة، والمرضات عامة، قد تأتي في سياق الله سبحانه وسياق غيره كما في هذه الآية.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور صيغة مبالغة من غفر، غفور لمن تاب وأصلح وأناب إلى الله، غفور لما حدث منك من تحريم الطيبات أو الحلال على نفسك.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة من رحم، رحيم بعباده المؤمنين، يرشدهم إلى طريق الصواب.

ورحيم صفة ثابتة له؛ أي: دائم الرحمة.

ص: 126

سورة التحريم [66: 2]

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.

{فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} : أي قد شرع الله لكم ما تتحللون به من إيمانكم، وذلك بالكفارة (كفارة اليمين)، ارجع إلى سورة المائدة آية (89). {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} .

{وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} : والله متولي أموركم ومدبرها ومصرّفها كيف يشاء وناصركم.

{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التوكيد.

{الْعَلِيمُ} : بما تقولون وتفعلون وبما يصلحكم. صيغة مبالغة؛ أي: كثير العلم لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض.

{الْحَكِيمُ} : في أحكامه وشرعه، فهو أحكم الحكماء وأحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.

ص: 127

سورة التحريم [66: 3]

{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} :

{وَإِذْ} : أي واذكر إذ أسرَّ النبي، أو: واذكر حين أسرَّ النبي إلى بعض؛ البعض في اللغة: قد تعني الواحدة، أو الواحد، وقد تعني الجماعة كقوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24]، أزواجه حديثاً (أي حفصة بنت عمر رضي الله عنها.

{حَدِيثًا} : حديث تحريم العسل على نفسه، وطلب منها أن لا تخبر بذلك السر إلى أحد.

{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} : (أي لم تستجب حفصة لطلب الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم إفشاء السر، وأخبرت عائشة رضي الله عنها بذلك)، ولكن هذا الإفشاء أو إخبار حفصة لعائشة كان بعد تردد وتريث وزمن طويل، ولو قال فلما أنبات به لكان يعني بدون تردد وبسرعة.

{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والمباشرة، لما: ظرف للزمان بمعنى حين نبّأت: حفصة عائشة؛ أي: أخبرتها الخبر.

{وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} : أي أخبر أو أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن حفصة أخبرت عائشة بما حدث، فغضب رسول الله ودعا حفصة للحضور.

{عَرَّفَ بَعْضَهُ} : أي ذكر بعضه لحفصة وأعرض عن ذكر البعض الآخر لها.

{عَرَّفَ بَعْضَهُ} : أخبرها أن الله أطلعه عما قالت لعائشة (وإفشائها السر)، وأعرض عن بعض: عن ذكر تحريم العسل.

وهناك من المفسرين من قال في تفسير أعرض عن بعض: يعني خلافة أبي بكر أو خلافة أبي بكر وعمر من بعد رسول الله، وفيها ضعف والله أعلم.

{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} : أي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الخبر؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: أنت أفشيتِ السر إلى عائشة، فقالت حفصة:

{قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} : أي من أخبرك بهذا الخبر؟ أي: النبأ حيث ظنت حفصة أن عائشة أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال صلى الله عليه وسلم: {نَبَّأَنِىَ} : بالتوكيد: العليم الخبير.

الفرق بين نبّأني وأنبأني، أنبأني المنبئ هنا يعني بشراً، بينما: نبّأني المنبائ هنا هو الله العليم الخبير. قال: نبّأني (من فعل نبأ): أبلغ تنبيئاً وآكد من أنبأني. وأنبأك أو أنبأني من أنبأ، وأنبأ: فيها معنى في وقت قصير، ونبَّأ: فيها معنى وقت أطول مقارنة بـ (أنبأ).

{الْعَلِيمُ} : بكل الأقوال والأفعال والسر والعلن والنوايا وذات الصدور، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

{الْخَبِيرُ} : ببواطن الأمور ومخفيّات الأمور والسر والنجوى.

ثم خاطب حفصة وعائشة:

ص: 128

سورة التحريم [66: 4]

{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} :

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو القلة، والجواب محذوف تقديره: كان خيراً لكما.

{تَتُوبَا} : الخطاب إلى عائشة وحفصة: تتوبا من التعاون على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل. والقائل: إن تتوبا؛ هو الله سبحانه وتعالى.

وشروط قبول التوبة: التوبة تكون بالعودة إلى الله، والإنابة إليه، والإقلاع عن الذنب. ارجع إلى سورة النساء آية (18) لمزيد من البيان في معنى التوبة.

{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} : فقد: الفاء للتوكيد، قد للتحقيق، صغت قلوبكما: زاغت قلوبكما عن الإخلاص لله ولرسوله وانحرفت أو مالت (من الميل) عن الحق.

ولم يقل قلباكما بالتثنية؛ لأن كل قلبين جماعة؛ لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة كما قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11]، وكما قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38](جمع يد) بدلاً من يديهما (مثنى)، ولا ننسى القاعدة النحوية إذا أضيف المثنى إلى متضمنه فالأفصح جمع المضاف.

{وَإِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال والندرة.

{تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} : الخطاب لحفصة وعائشة؛ أي: تتعاونا على إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل ما يسوء إليه، وحذفت إحدى التاءين؛ أي: تتظاهرا عليه؛ أي: ولو بأقل أو أخف التظاهر أو التعاون.

{فَإِنَّ} : الفاء رابطة لجواب الشرط، إن: للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير فصل لزيادة التوكيد.

{اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} : مولاه: أي وليّه ومعينه ومساعده.

{وَجِبْرِيلُ} : عليه السلام.

{وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} : أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، وقيل: تشمل كل من آمن وعمل صالحاً.

حذف الواو ولم يقل وصالحوا المؤمنين، صالحوا المؤمنين: تعني فقط الجمع ولا تشمل الإفراد والتثنية.

أما: صالح المؤمنين: تعني الواحد والاثنين والجمع وأكثر (عامة). أو يعني واحداً أريد به الجمع؛ لأن الصالح يمثل الجمع، والجمع يمثل الواحد، وهناك من قال أنها ترجع إلى رسم المصحف.

{وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} : أي أعوان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهير بالإفراد والجمع: ظهراء؛ أي: كل واحد ليشمل الكل؛ لأن ما كان على وزن فعيل يستوي فيه الواحد والجمع.

ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابنته حفصة بعد أن سمع ما حدث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم ما حرّم، فقال عمر: والله لتنتهي أو ليبدلنّه الله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية. كما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه.

ص: 129

سورة التحريم [66: 5]

{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} :

{عَسَى رَبُّهُ} : عسى عادة من أفعال الرجاء المتوقّع حصولها في المستقبل إلا هذه الآية هي الواحدة التي لم تتحقق، واستعملت عسى للتهديد فقط وليس للرجاء.

{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال أو الشك.

{طَلَّقَكُنَّ} : الخطاب إلى نساء النّبي.

{أَنْ} : أن للدلالة على الاستقبال.

{يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} : خيراً؛ أي: أفضل منكن. ارجع إلى سورة الأحزاب آية (52) لمزيد من البيان.

{مُسْلِمَاتٍ} : مقيمات للصلاة والزكاة والصيام والحج واليوم الآخر.

{مُّؤْمِنَاتٍ} : مصدّقات بالتوحيد والإيمان والإخلاص لله وحده.

{قَانِتَاتٍ} : طائعات خاضعات لله تعالى.

{تَائِبَاتٍ} : كثيرات التوبة.

{عَابِدَاتٍ} : كثيرات العبادة.

{سَائِحَاتٍ} : مهاجرات، أو الصائمات، والسائح: الذي لا يصحب معه طعاماً.

{ثَيِّبَاتٍ} : من ثاب؛ أي: رجع، وسميت الثّيِّب ثيِّباً؛ لأنها ترجع إلى بيت أبيها بعد طلاقها من زوجها وأصبحت بغير زوج.

{وَأَبْكَارًا} : عذارى. الواو: واو العطف، وعطف "أبكاراً" على "ثيّبات"؛ لأن المرأة إما أن تكون ثيّباً أو بكراً، أو لأن الواو واو الفصل لكون الثيبات تختلف عن الأبكار، أو واو الاهتمام؛ لأن الأبكار أحب من الثيبات.

ص: 130

سورة التحريم [66: 6]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف جديد أو أمر جديد هو:

{قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} : اجعلوا بينكم وبين النار وقاية وحاجزاً أو مانعاً، وذلك بامتثال أوامر الله تعالى وتجنُّب نواهيه وترك المعاصي.

{وَأَهْلِيكُمْ} : أي وأمروا أهليكم بطاعة الله وتجنُّب نواهيه ومعاصيه أيضاً بالنصح والتأديب، وعلِّموهم دينهم الحق.

{نَارًا} : جاءت بصيغة النكرة؛ للتهويل والتعظيم.

{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} : الوقود ما توقد به كي تشتعل، وقودها: الناس الكَفَرة الذين ماتوا وهم كفارٌ، والحجارة: الأصنام التي عبدوها واتخذوها آلهة كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].

{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} : غلاظ ليس عندهم رحمة أو رأفة أو شفقة يضربون بالمقامع من الحديد، شداد: أقوياء الأبدان يقال لهم: الزبانية. شداد جمع شديد من ناحية القوة المادية، ويعني: الناحية الجسمية، بينما أشداء تعني: جمع شديد من الناحية المعنوية العاطفية، كما قال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} : لا: النافية؛ أي: يؤدّون أوامر الله ويلتزمون بها، ولا يعصون بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار والدوام.

{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} : يؤدون ما يؤمرون به (تعني التنفيذ).

ص: 131

سورة التحريم [66: 7]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

نداء للذين كفروا، والهاء للتنبيه، ينادى عليهم يوم القيامة أو عند دخولهم النار.

{لَا تَعْتَذِرُوا} : أي لا عذر لكم أو لا ينفعكم أيُّ اعتذار أو توبة اليوم، مما يبعث اليأس في نفوسهم.

{الْيَوْمَ} : يوم القيامة.

{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ} : إنما كافة مكفوفة تفيد التوكيد، تجزون: من الجزاء، والجزاء من جنس العمل.

{مَا كُنتُمْ} : ما: الذي كنتم في الدنيا.

{تَعْمَلُونَ} : العمل يضم القول والفعل؛ أي: ما كنتم تقولون وتفعلون.

ص: 132

سورة التحريم [66: 8]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

نداء جديد للذين آمنوا بتكليف أو أمر جديد هو التوبة النَّصوح، التوبة الصادقة الخالصة لوجه الله لها شروط منها:

الندم على الذنب أو المعصية، وعدم الرجوع إليه (الإقلاع عن الذنب)، والإكثار من الطاعة والنوافل، وردُّ المظالم إلى أهلها.

{نَصُوحًا} : صيغة مبالغة من: نصح.

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ} : عسى من أفعال الرجاء التي يتحقق حدوثها.

{أَنْ} حرف مصدري يفيد التعليل والتوكيد.

{يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ} التكفير يعني: السَّتر والمحو ورفع العقاب، و"السّيئات" قيل: الصّغائر.

{وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي تنبع من تحتها الأنهار.

{يَوْمَ لَا يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} : يوم ظرف زماني، لا يخزي: لا يفضح الله المؤمنين أمام الكفار. يوم: نكرة؛ ليدل على التعظيم.

{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} : يوم القيامة نورهم نور الإيمان والوضوء، يسعى: يسير أمامهم وعلى أيمانهم وهم على الصراط أو في أرض المحشر.

ارجع إلى سورة الحديد آية (12) لمزيد من البيان.

{يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} : أي أبقِه لنا، فلا ينطفئ حتى يتجاوزوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم، أو يقولون ذلك تقرُّباً إلى الله، أو يقولون: أتمم علينا نورنا تفضلاً منك؛ لأن النور على قدر الأعمال، أو أكثِر لنا من النور.

{وَاغْفِرْ لَنَا} : ما قدمنا من الذنوب والكبائر.

{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : دعاء توسُّل بقدرة: القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء. ارجع إلى سورة البقرة آية (20).

ص: 133

سورة التحريم [66: 9]

{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} :

نداء تشريف إلى النبي، والهاء للتنبيه.

{جَاهِدِ الْكُفَّارَ} : جاهد بالقول والحجة والقوة والبرهان وأيِّ وسيلة أخرى.

الكفار: جمع كافر، والكفار صيغة مبالغة ولم يقل الكافرين، الكفار جمع تكسير، فهي تدل على أن الكفار أكثر عدداً من الكافرين، وكلمة الكفار تشير إلى عقيدة الكفر (الحدث)، والكافرين تشير إلى فعل الكفر أو عمل الكفر.

{وَالْمُنَافِقِينَ} : جمع منافق: وهو الذي يظهر الإيمان والإسلام ويبطِن الكفر. ارجع إلى سورة المنافقون آية (1) لمزيد من البيان.

{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} : الغلظة الشدة بالإنذار وخشونة الجانب، وعدم المعاملة باللين والرأفة.

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : المأوى مكان الإقامة والاستقرار في الآخرة، والضمير يعود على الكفار والمنافقين، جهنم: اسم من أسماء النار، ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان في معنى المأوى وجهنم، ولو قارنا هذه الآية بقوله تعالى:{ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ثم: تعني التراخي في الزمن، فهذه الآية جاءت في سياق الدنيا، بينما آية التحريم جاءت في سياق الحديث عن الآخرة، وليس هناك فاصل زمني.

{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : بئس من أفعال الذم والقبح، المصير: المنتهى، وقدّم الكفار على المنافقين من حيث الزّمن فالكفار جاؤوا قبل المنافقين، وهم أكثر عدداً، وإذا قارنّا هذه الآية (9) من سورة التحريم وهي قوله:

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مع الآية (197) من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} نجده استعمل ثم بدلاً من الواو؛ لأن ثم تدل على التراخي في الزمن؛ لأنهم لا زالوا في الدنيا، بينما آية التحريم في سياق الآخرة فاستعمل الواو.

ص: 134

سورة التحريم [66: 10]

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} :

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} : المثل: هو قول موجز أو تشبيه حال بحال يراد به المقارنة والموازنة أو المفاضلة بين أمرين؛ لكي يتّضح الأمر ويزول الغموض.

المناسبة: في مطلع السورة رأينا كيف حفصة وعائشة دفعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تحريم ما أحلّ الله له، وجاء التحذير لهما بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفته وبالتوبة فقال:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [الآية: 4].

وضرب المثل بامرأة نوح أو لوط بعد ذكر عائشة وحفصة يبيّن لنا أن امرأة نوح ولوط كانت كل واحدة منهما تحت نبي رسول، فلم ينفعها قرابتها من كونها امرأة لنبي إذا لم تصدّقه وتطع أوامره.

{لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : اللام لام الاختصاص، مثل خاص لهم.

{امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} : وقوله: امرأة، ولم يقل زوجة؛ لأن امرأة في القرآن تطلق على كل من تخالف زوجها في الدين أو الأخلاق أو العقيدة، أو فيها خلل في الحياة الزوجية مثل كونها لا تنجب أو عاقراً أو بها عيب خلقي.

أما إذا كانت توافق زوجها في الدين والعقيدة والأخلاق وليس بها عيب بدني، ومساوية لزوجها، عندها يطلق عليها زوجة، وكذلك انظر كيف كتبت {وَامْرَأَتَ} بالتاء المفتوحة (المبسوطة)، وليس بالتاء المربوطة. ارجع إلى سورة آل عمران آية (30) للبيان.

{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} : كانتا في عصمة نوح ولوط (عليهما الصلاة والسلام).

{فَخَانَتَاهُمَا} : بسبب النفاق أو إفشاء السر وعدم التصديق برسالتهما، وليست خيانة جنسية أو الإحصان. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قطُّ.

وقيل: كانت امرأة نوح تتهم نوحاً عليه السلام بأنه مجنون، ولم تصدق برسالته، وأما امرأة لوط كانت تشجّع على الفاحشة ولا تنكرها، وتفشي أخبار لوط إلى قومه.

وهذان رسولان لم يستطيعا التأثير في امرأتيهما، فلكل إنسان سواء كان ذكراً أو أنثى حرية الإيمان والعقيدة: ولا تزر وازرة وزر أخرى.

{فَلَمْ} : الفاء للتوكيد، لم للنفي.

{يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : أي لم يفيداهما أو ينفعهما لا نوح ولا لوط من عذاب الله شيئاً، والشيء: وهو أقل القليل أو أيُّ نوع من الغنى.

{وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} : مع الداخلين: من أهل الكفر والمعاصي إلى النار.

ص: 135

سورة التحريم [66: 11]

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

كما قلنا: ضرب الله تعالى المثل الأول؛ ليحذّر به حفصة وعائشة أن تكونا مثل امرأة نوح أو امرأة لوط، ثم ضرب الله تعالى المثل الثاني؛ ليحضّ ويحثّ حفصة وعائشة أن تكونا مثل امرأة فرعون ومريم بنت عمران، ويحضّ كل مؤمنة على الصبر والثبات في الشدة والابتلاء، وتكون مثل مريم بنت عمران وامرأة فرعون.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} : ارجع إلى الآية السابقة (10).

{امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} : قيل: هي آسية بنت مزاحم؛ ربّت موسى عليه السلام وآمنت بموسى وتعرّضت لعذاب فرعون الشديد بسبب إيمانها، ولم يقل زوجة فرعون؛ لأنها تخالف زوجها في الدين.

{إِذْ} : واذكر إذ، أو اذكر حين قالت وهي تتلقى شتى أنواع العذاب.

{رَبِّ ابْنِ لِى عِنْدَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ} : دعَت بذلك الدعاء، وعندما اشتد عذاب فرعون لها ورأت قرب أجلها.

{وَنَجِّنِى مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} : من طغيانه وفساده وظلمه وكفره، ونجّني من هذا الطاغية وتعذيبه.

{وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : تكرار "نجّني" للتوكيد، من القوم الظالمين: قوم فرعون وملئه الأقباط الوثنيين.

ص: 136

سورة التحريم [66: 12]

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} :

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} : أم عيسى عليه السلام .

{الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} : حفظته وصانته، كناية عن عفّتها فلم تتزوج ولم يمسها بشر.

{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} : "فيه" تعني الجنين عيسى عليه السلام ، نفخنا: نا الضمير تعود على جبريل عليه السلام بأمر من الله سبحانه، من: ابتدائية، روحنا: روحٌ من الأرواح، ولا تعني من روح الله، فجبريل الذي نفخ (فيه) في عيسى عليه السلام، بينما الله سبحانه الذي نفخ في آدم.

وهناك من المفسرين من يقول: إن الضمير في كلمة "فيه" تعود على الفرج مكان النفخ، وقيل:"فيه" تعني جَيب درعها، والله أعلم. ارجع إلى سورة الأنبياء آية (91) للمقارنة ولمزيد من البيان.

{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} : حينما قال لها جبريل: "إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً"، و:"يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين". صدقت بما أوحي إلى عيسى عليه السلام.

{وَكُتُبِهِ} : التوراة والإنجيل، كلمات ربها التي في التوراة والإنجيل.

{وَكَانَتْ مِنَ} : من للتبعيض ولابتداء الغاية.

{الْقَانِتِينَ} : ولم يقل من القانتات المطيعات لله، القانتين: غلّب الذكورة على الإناث؛ لأن القانتين من الرجال أكثر من النساء، أو لأن مريم كانت تقوم بأعمال الطاعة والعبادة والقنوت تضاهي أعمال الرجال، أو لكونها من نسل القانتين.

ص: 137