الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الملك [67: 1]
سورة الملك
ترتيبها في القرآن (67)، وترتيبها في النزول (77).
وتسمَّى الواقية المنجية من عذاب القبر، كما أخرج التّرمذي عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتّى غفر له)، قال التّرمذي: حديث حسن، وما أخرجه الطّبراني والحافظ المقدسي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتّى أدخلته الجنة).
تتحدث سورة تبارك عن عظمة الله سبحانه وقدرته ووحدانيَّته، ونعمه وعلمه وإنذاره، والسّمة التّعبيرية فيها الرّحمة مثل قوله: العزيز الغفور، لهم مغفرة وأجر كبير، جعل لكم الأرض ذلولاً وغيرها، وتشير إلى البعث والتوكل على الله.
وذكر اسم الرّحمن فيها (3) مرات.
{تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :
{تَبَارَكَ} : اختلف العلماء في معنى تبارك، قيل: تبارك: تعالى وتعاظم قدره وتنزَّه وتقدَّس عن شبه ما سواه.
تبارك: من البركة والبركة تعن: الكثرة والزّيادة تكاثرت بركته وعمت الخلائق وعظم خيره وإحسانه، فكل البركة من الله تعالى الذي أبدع هذا الكون وأودع بركته فيه.
وقيل: تبارك: اشتقت من برك الجمل: دام وثبت بمعنى الثّبوت، أيْ: دام خيره وإحسانه لخلقه.
وردت كلمة تبارك في تسع آيات في القرآن منها:
{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
{ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
{تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
{تَبَارَكَ الَّذِى إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10].
{تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} [الفرقان: 61].
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
{وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزخرف: 85].
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].
{تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
وكلمة تبارك أو سبحانك لا تستعمل إلا لله تعالى وحده، وردت تبارك في سبع آيات بالألف الممدودة، وتبارك الخنجرية في سورة الرّحمن والملك؛ مما يدل على أنّ كتابة القرآن أمر توقيفي.
{الَّذِى} : اسم موصول يدل على التّعظيم.
{بِيَدِهِ الْمُلْكُ} : بضم الميم، أي: الحُكم فهو الحاكم، حاكم السموات والأرض وما فيهنَّ ولا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، بيده: أيْ: هو المتصرف بملكه كيف يشاء يُعز من يشاء ويُذل من يشاء يؤتي المُلك من يشاء وينزع المُلك ممن يشاء.
وهناك كلمة مِلك بكسر الميم: تعني: الملكية؛ أي: ما يُمْلَك، وكل ما يُمْلَك فهو مِلْك؛ فهو سبحانه يملك السموات وما فيهنَّ والأرض وما فيها، فكل شيء هو ملكه وحده وما نحن إلا مستخلفين في بعض هذا الملك كما قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، فهو مالك المُلك: المالك الحقيقي والحاكم الدائم لا شريك له، له الخلق وله الأمر الحي القيوم.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، شيء: نكرة تشمل كلّ شيء مهما كان نوعه وشكله وحجمه ووزنه ولونه وجنسه، قدير: التّام القدرة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء، فإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن، فيكون، قدير: صيغة مبالغة لقادر، قادر على أن يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء، قدير؛ لأنه هو الحاكم ومالك الملك والعليم والحكيم.
سورة الملك [67: 2]
{الَّذِى} : تفيد التّعظيم.
{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} : خلق: أصل الخلق التّقدير، والخلق يعني: الإيجاد، أيْ: أوجد الموت وهو نقص البنية لجسم الإنسان بخروج الروح الباعثة للحياة من جسد الإنسان، أي: انفصال الروح عن الجسد وإذا انفصلت الروح توفيت النفس أيضاً وتحول الجسد إلى بدن، فالبدن جسد بلا روح ولا نفس، كما قال تعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92]، والحياة تبدأ بنفخ الروح في البدن. ارجع إلى سورة الزمر آية (42) لمزيد من البيان، وقدَّم الموت على الحياة؛ لأن الموت مقدَّر في المحفظة الوراثية المكونة من الجينات، والتي يسبق خلقها نفخ الروح في البدن، أو التقديم قد يكون للاهتمام؛ لأن أكثر الناس يغفلون عن الموت، وأما الحياة فهي شغلهم الشاغل، فالتقديم قد يكون للاهتمام والاستعداد للموت، وقيل: تقديم الموت على الحياة؛ لأن الموت يسبق الحياة في مرحلة الأصلاب كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28].
{لِيَبْلُوَكُمْ} : اللام للتعليل، يبلوكم: من الابتلاء والابتلاء يكون في الخير والشر، والابتلاء هو استخراج ما عند المبتلى من طاعة أو معصية، ولا يكون إلا بتحمُّل المشاق والمكاره.
{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} : ولم يقل: أيكم أكثر عملاً، وإنما قال: أحسن عملاً، أيْ: أخلص عملاً لوجه الله تعالى وأصوب، أيْ: على هدي القرآن والسّنة.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} : العزيز: مشتق من عزة القوة والامتناع والغلبة والقهر وذكر العزيز (92) مرة في القرآن، ويعني: القوي الذي لا يعجزه شيء، الغالب الذي لا يُغلب والقاهر الذي لا يُقهر، والممتنع لا يحتاج إلى أحد من عباده، ولا ينفعه أحد ولا يضره أحد، الغفور: كثير المغفرة لمن تاب وأناب، والمغفرة: تعني بستر عليه ذنبه ولا يفضحه، أيْ: لا يعاقبه عليه ويعطيه ثواب حسناته كاملة أيْ: لا يطرح سيئاته من حسناته، الغفور: صيغة مبالغة لغافر، أيْ: كثير المغفرة كماً ونوعاً، وقيل: الغفار: يغفر الذّنوب الكثيرة. والغفور يغفر الذنوب الكبيرة أو الكبائر مهما تنوعت وكبرت إذا تاب العبد وأناب إلى ربه.
سورة الملك [67: 3]
ومن مظاهر عظمته وقدرته:
{خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} : طباقاً: بعضها فوق بعض، أيْ: سبع سموات حول مركز واحد هو الأرض يغلف الخارج منها الداخل أو سبع كرات عظيمة سمكها متساوٍ، والمسافات بينها متساوية ومركزها واحد هو الأرض، وقيل: بنية السموات السبع تشبه بنية الأرض المشكلة من سبع أرضين.
{مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} : التّفاوت: من الفوت وهو الفرجة أو التباعد يعني: التّباين والتّناقض أو عدم التّناسب فلا ترى أي عيب ولا نقص في خلقها.
من: استغراقية، أيْ: تفاوت، أيْ: هي مبنية بناء محكم متماسك من دون فراغ كما كان يظن سابقاً، مملوءة بغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين وذرات الكالسيوم والصّوديوم والبوتاسيوم وبخار الماء وغيرها، وتربط بينها قوانين الجاذبية المختلفة المغنطيسية والكهربائية التي لا تتغيَّر ولا تتبدل أو تضعف أو تزيد.
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} : أيْ: كرِّر النّظر أو أعد البصر المرة تلو الأخرى إن كنت في شك، أو تعني: التّوكيد، هل: استفهام فيه معنى التّقرير والجواب: لا تجد فيها أي فطور: شقوق وصدوع، فطور: مشتقة من فطر: شق.
سورة الملك [67: 4]
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي. ارجع البصر: انظر، ثم أعد النظر المرة تلو المرة في السماء.
{ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} : كرتين: لا تعني: مرتين، وإنما المرة بعد الأخرى، أي: المرات العديدة.
{يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ} : من الانقلاب: هو الرّجوع ولكن إلى حالة مخالفة للحالة التي بدأ منها، بينما الرجوع يكون للحالة نفسها التي بدأ منها.
{خَاسِئًا} : صاغراً ذليلاً عاجزاً عن رؤية، أيْ: خلل أو عيب في التّركيب أو فاشلاً مهزوماً.
{وَهُوَ حَسِيرٌ} : هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، حسير كما فسَّره القدامى كليل متعب، أما التفسير العلمي فالحسير هو: أن الضوء المنبعث من الجسم المرئي مفروض أن يشكل بؤرة تصل إلى شبكة العين، ثم تنتقل بواسطة العصب العيني إلى المخ، ومن ثم يُرى الجسم المرئي، ففي حالة كون البصر حسيراً يعني: لا تصل بؤرة الجسم المرئي إلى شبكية العين، بل تتوقف بمسافة قريبة أو بعيدة عن الشبكية، ولذلك لا يُرى الجسم المرئي بشكل صحيح حقيقي واضح بسبب حسر البصر أو العجز البصري.
سورة الملك [67: 5]
{وَلَقَدْ} : الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد للتحقيق.
{زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} : أيْ: بالنّجوم، التي تشبه المصابيح، والنجوم هي أفران نووية مشتعلة عملاقة تضيء بنفسها والشمس هي إحدى هذه النجوم، فمن وظائف النجوم تزيين السماء، ومن وظائفها أيضاً: رجوماً للشياطين.
{وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} : رجوماً للشياطين: بما يصدر عنها من شهب تنطلق لترجم الشّياطين هذا في الدّنيا. ارجع إلى سورة الصافات آية (10)، واللام في كلمة للشياطين تدل على الاختصاص والاستحقاق والشّياطين هم كفرة الجن، والشّياطين جمع شيطان، وكلمة شيطان مشتقة من شطن: أي: ابتعد عن الحق وتمادى في الشّر والضّلال أو تمرد على الحق، أو شاط: أي: احترق أو الشّاطن: أي: الخبيث.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن النجم يمر بمراحل مختلفة في دورة حياته مرحلة الولادة، ثم الطفولة والكهولة والشيخوخة، ثم الاحتضار وعندها تتكرَّر الطاقة بداخله باتحاد الإلكترونات والبروتونات، وتشكل نجم نتروني ذو كثافة عالية قد تبلغ مليون طن بالسم3، وقد ينفجر ويتحول إلى كتلة جامدة تشكل الشهب أو النيازك التي ترجم أو تقذف بها الشياطين.
{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} : أيْ: هيأنا لهم: أيْ: للشياطين، عذاب السّعير في الآخرة، السّعير: النّار الملتهبة أو المستعمرة. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) لمزيد من البيان.
سورة الملك [67: 6]
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} :
{وَلِلَّذِينَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} : أيْ: كفر العقيدة: وجحدوا بألوهيته وربوبيته، والباء للإلصاق سواء كانوا من شياطين الجن أو الإنس.
{عَذَابُ جَهَنَّمَ} : في الآخرة، جهنم: تعني بعيدة القعر. ارجع إلى سورة الزمر آية (32) لمزيد من البيان.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : بئس: فعل من أفعال الذّم، أيْ: بئس المآل والنّهاية.
سورة الملك [67: 7]
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ} :
{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{أُلْقُوا فِيهَا} : أيْ: ألقي الكافرون في جهنم، وتعني: الدّفع بقوة للدخول فيها كقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13].
{سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ} : وهي: للتوكيد، تفور: تغلي غلي الحميم، أيْ: يخرج من النّار التي تغلي أصوات تشبه أصوات الشّهيق عند الإنسان أو الحيوان، والشّهيق ابتلاع الهواء ليدخل الرّئتين.
وفي سورة الفرقان الآية (12) قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} والزّفير هو إخراج الهواء من الرّئتين، والغيظ: الغضب الشّديد الكامن في نفس العاجز عن التّشفي، والغيظ: يعبر عن شدة درجة اشتعال النّار.
سورة الملك [67: 8]
{تَكَادُ} : من أفعال المقاربة.
{تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} : تتقطع عليهم إرباً إرباً من الغيظ والذي هو أشد من الغضب، والغيظ يمثل شدة الغليان، ففي هذه الآية شبهت جهنم في شدة غليانها ولهيبها بإنسان شديد الغضب على عدوه يكاد يتمزق وينفجر وتخرج أحشاؤه. ارجع إلى سورة التوبة آية (15) لمزيد من البيان ومعرفة مراحل الغضب.
{كُلَّمَا} : مركبة من كلّ وما المصدرية الظّرفية، فهي أداة شرط تفيد التّكرار.
{أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} : جماعة من الكفار أو زمرة.
{سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} : مالك وأعوانه من الملائكة.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} : ألم: استفهام توبيخي وإنكاري، نذير: من الإنذار وهو الإعلام والتّحذير، أيْ: ألم يأتكم رسل منكم ينذرونكم لقاء يومكم هذا.
سورة الملك [67: 9]
{قَالُوا بَلَى} : أي: الكافرون قالوا للملائكة:
{قَدْ} : للتحقيق والتّوكيد.
{جَاءَنَا نَذِيرٌ} : أيْ: رسول.
{فَكَذَّبْنَا} : الفاء للترتيب والمباشرة، فكذبنا: أيْ: لم نصدق بالرّسل.
{وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ} : من استغراقية، شيء: نكرة، أيْ: ما جئتم بأيِّ شيء من شرائع أو وحي أو آيات ولم ينزل الله من شيء، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (15) في سورة يس، وهي قوله تعالى:{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَىْءٍ} ؛ لأن السياق في سورة الملك في تهديد وتحذير الكافرين وما أعده الله تعالى لعذابهم، ولم يقل الرحمن في هذه الآية رغم أن اسم الرحمن تكرر (4 مرات) في هذه السورة.
{إِنْ أَنتُمْ} : إن: نافية أشد نفياً من ما، أو للتوكيد: هذا هو قول الملائكة للكفار حين اعترفوا بتكذيبهم للرسل وهو الراجح، أو قول الكفار لرسلهم المنذرين، أو قول الرّسل لقومهم حين أنذروهم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ} : بُعد كبير عن الحق والصّواب.
سورة الملك [67: 10]
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ} :
{وَقَالُوا} : أي: الكفار.
{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} : لو: شرطية، كنا نسمع في الدّنيا سماع فهم وتدبُّر، نسمع ما جاءت به رسلنا أو نُذرنا من آيات ووعد ووعيد.
{مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ} : ما: النّافية، كنا: أي: الآن، في: ظرفي مكانية.
ولو قالوا: ما كنا من أصحاب السعير، وليس في أصحاب السّعير فقد يعني: أنّهم ليسوا الآن في داخل جهنم، ويمكن أن يلحقوا بأصحاب السّعير بعد زمن، فهناك اختلاف كبير بين حرف من وفي، مثال: فلان في المدينة: أيْ: هو الآن في المدينة، فلان من المدينة: أيْ: هو من أهل المدينة وهو الآن خارج المدينة، أو نعقل: أو هنا بمعنى واو (العطف) أيْ: لو كنا نسمع ونعقل ولا تعني التّخيير؛ لأنّ السّمع من دون العقل لا فائدة منه، والعقل يحتاج إلى السّمع، نعقل: نفهم أو نتدبَّر أو نفكِّر، فهم نفوا عن أنفسهم وسائل الهداية؛ السّمع والعقل معاً.
في أصحاب السّعير: أصحاب السّعير: سُمُّوا أصحاب السّعير (النّار الملتهبة، أي: المسعرة) لصحبتهم الدّائمة لها كأنّهم أصبحوا أصحابها ملازمين لها، أيْ: مالكوها كما نقول: أين صاحب الدّار، وقدَّم السّمع على العقل: لأنّ المدعو إلى الشّيء يسمع كلام الدّاعية أوّلاً، ثمّ يفكِّر فيه.
سورة الملك [67: 11]
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} :
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، اعترفوا: أقروا وشهدوا على أنفسهم، بذنبهم: الباء للإلصاق، ولم يقل: بذنوبهم؛ لأنّ ذنبهم هو تكذيب الرّسل، وما أنزل الله، أمّا ذنوبهم: فتعني: الصّغائر والكبائر التي ارتكبوها فهم لا يتحدثون عنها الآن.
{فَسُحْقًا} : الفاء للتوكيد، سحقاً: أيْ: بُعداً، والسّحيق: البعيد ويقال: أسحقهم الله: أبعدهم الله عن رحمته، أيْ: بُعداً لهم ودماراً.
{لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} : اللام: لام الاستحقاق والاختصاص، أصحاب السّعير: ارجع إلى الآية (10) السابقة.
سورة الملك [67: 12]
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} :
{إِنَّ الَّذِينَ} : للتوكيد، الذين: اسم موصول يفيد المدح.
{يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} : الخشية تعني: الخوف من ربهم، والتّعظيم والمهابة له، والعلم، (أيْ: تعلم الذي تخشاه ما هو صفاته)، يخشون عقابه وغضبه وسخطه، بالغيب: قيد الخشية بالغيب ولم يطلق الخشية، ويقول {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} كما في سورة الرعد الآية (21)، الغيب: كلّ ما غاب عن البصر، أيْ: يخشونه ولم يروه، يخشونه في السّر والعلن، أيْ: يخشونه أمام النّاس، ويخشونه في خلواتهم وغيابهم عن أعين النّاس، أيْ: إذا خلوا بأنفسهم، والباء (بالغيب): باء الظّرفية والمصاحبة.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، لهم: تعني: عامة المؤمنين.
{مَّغْفِرَةٌ} : المغفرة تعني: السّتر والمحو وترك العقاب والإثابة على الأعمال الصّالحة.
{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} : الأجر يكون بعد العمل، والأجر الكبير هو الجنّة ونعيمها.
سورة الملك [67: 13]
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} :
{أَوِ} : تعني: للخيار أو السّواء، أيْ: يستوي عند الله إسراركم أو جهركم بالقول أو الفعل.
سبب النّزول: كما قال ابن عباس أن المشركين كانوا يتكلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينالون منه، فيخبره جبريل بما قالوا ونالوا منه فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فيخبره.
بل هو يعلم السّر وأخفى: أيْ: ما هو أخفى من السّر، أيْ: حديث النّفس وخواطرها، كما قال تعالى:{فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : إنّه للتوكيد، عليم: صيغة مبالغة من علم، أيْ: كثير العلم أيْ: مطلع ورقيب ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور، والصّدور: تعني القلوب التي مركز المشاعر والأحاسيس المعنوية مثل الإيمان والكفر والخيانة والاستقامة والتوحيد أو النفاق بما فيه من الخلايا العصبية، فهو سيد الأعضاء ويتصل بالدماغ بالدم والأعصاب. ارجع إلى سورة الحج آية (46) لمزيد من البيان.
{بِذَاتِ} : كلّ شيء ذات، وكلّ ذات شيء، وذات: تعني كلّ المعتقدات والخواطر والسّرائر والأحاسيس من حسد ومكر وكراهية وحب، ولأنّها تعيش وتصاحب الإنسان وتلازمه وتجول وتعيش في صدره؛ أي: قلبه سمِّيت ذات أو ذوات الصّدور.
وقدَّم السّر على الجهر؛ لأنّ العلم به أصعب من العلم بالجهر، ولأنّ كلّ عمل يبدأ سراً، ثمّ يجهر به وفي الآية تحذير من الغيبة والنّميمة.
سورة الملك [67: 14]
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} :
ثمّ بيَّن الحُجَّة والدّليل على علمه بكلّ شيء؛ لأنّه سبحانه هو الذي خلق كلّ شيء.
{أَلَا يَعْلَمُ} : ألا: الهمزة همزة استفهام إنكاري وتقرير.
{مَنْ خَلَقَ} : من: اسم موصول بمعنى الذي، وتعني: ألا يعلم الخالق وهو اللطيف الخبير، أيْ: ألا يعلم الخالق مخلوقاته أو ما خلق.
{وَهُوَ} : الواو تفيد التّوكيد، هو: ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد.
{اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} : اسمان من أسماء الله الحسنى، اللطيف: لغة أي: الشيء الدّقيق جداً الذي لا تراه أو يصعب رؤيته بالعين، أيْ: لا تدركه الأبصار واصطلاحاً: اللطيف الذي يعلم دقائق الأمور وخفاياها ومواقعها.
الخبير: العليم ببواطن الأمور وأحاط علمه بالأسرار والبواطن والخفايا وذوات الصّدور، أيْ: يصل علمه إلى كلّ خفي، ومن يعلم بواطن الأمور فهو يعلم ظواهرها أيضاً.
سورة الملك [67: 15]
{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} : ذلولاً: مسخرة لكم أيْ: ذللها وسخرها لكم وجعلها قراراً لا تميد ولا تضطرب مسخرة لكم للحرث والزّرع والبناء والعمارة. وهيأها لكم للعيش عليها وخلق الجبال وجعل عوامل التعرية واختلاف درجات الحرارة وشق لكم الفجاج والسبل.
{فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا} : المناكب: الجوانب والمنكب في الإنسان ما بين الكتف والعضد، وتطلق على الطّرقات، أيْ: طرقاتها، فامشوا في طرقاتها لطلب الرّزق والعلم والإصلاح.
{وَكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ} : الرّزق: هو كلّ ما يُنتفع به وليس حراماً، أيْ: لا يكون إلا حلالاً، وتعني مما رزقكم وخلق لكم ما في الأرض من الزّرع والثّمار وكلّ ما خلقه الله تعالى في الأرض هو رزق للعباد، ثم وزعه بعلمه وحكمته على خلقه.
{وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} : النّشور: هو إحياء الموتى، ويلي النّشور الحشر وهو إخراج الموتى من قبورهم وسوقهم إلى أرض المحشر وجمعهم للحساب، وتقديم إليه: لتدل على الحصر أيْ: إلى الله وحده النّشور.
سورة الملك [67: 16]
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} :
{أَأَمِنْتُمْ} : الهمزة للاستفهام التّحذيري، أمنتم: من الأمن وهو الطّمأنينة الكاملة مع زوال أسباب الخوف بينما الأمنة: فهي الطمأنينة الغير كاملة مع بقاء سبب أو بعض أسباب الخوف.
{مَنْ فِى} : من: اسم موصول تعني الذي وتفيد التّعظيم، في: السّماء هو الله تعالى.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} : الخسف: يعين الانهيار والتّشقق الذي يحدث من اصطدام الألواح تحت القارات الأرضية، وقدم الخسف على حاصباً؛ لأنه سبق ذكر الأرض حين قال تعالى:{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} فناسب تقديم الخسف.
{فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، إذا: ظرفية زمانية تفيد الفجأة، هي تمور: أيْ: تتحرك وتضطرب والمور في الأصل الحركة المضطربة غير المستقرة من الأعلى إلى الأسفل.
سورة الملك [67: 17]
{أَمْ} : المنقطعة للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام الإنكاري والتّحذير.
{أَمِنْتُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ أَنْ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} : الحاصب: الرّيح العقيم التي إذا أتت على شيء جعلته كالرّميم، وسمِّيت حاصباً؛ لأنّها تحمل الحصباء والحجارة وتدمر كلّ شيء بأمر ربها.
{فَسَتَعْلَمُونَ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب والسين للاستقبال القريب والتّوكيد مثل حينذاك.
{كَيْفَ نَذِيرِ} : كيف: للاستفهام وللإنذار والتّهويل، نذير، أيْ: كيف كان خطر الإنذار وأهميته أو عاقبته.
سورة الملك [67: 18]
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} :
{وَلَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق، والواو استئنافية.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} : من قبلهم: الضّمير يعود على كفار مكة الذين من قبلهم أمثال قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون ومدين، من: تفيد القرب أيْ: من زمن قريب.
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : كيف: للاستفهام والتّهويل والتّحذير والتّعجب، أيْ: كيف كان عاقبة (قوم نوح وعاد وثمود وفرعون) لإنكارهم وتكذيبهم لرسلهم، فقد أهلكهم الله بذنوبهم في الدّنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم.
سورة الملك [67: 19]
{أَوَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّقريع، والواو في أولم: لمطلق الجمع وتدل على المبالغة في إنكارهم.
{إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ} : جنس الطّير، فوقهم: في جو السّماء.
{صَافَّاتٍ} : من الصّف أيْ: صف الأجنحة وهو الأصل في الطّيران أيْ: تبسط أجنحتها للطيران أيْ: تمدها فتحملها الرّيح وجاء بالصّيغة الاسمية (صافات) التي تدل على الثّبوت، وتستطيع اختراق كتلة الهواء إلى الأمام وإلى الأعلى بصف الأجنحة.
{وَيَقْبِضْنَ} : من قبض الأجنحة للاحتفاظ بالتّوازن، والقبض عرض طارئ عبَّر عنه بالفعل المضارع الذي يدل على التّكرار والتّجدُّد حتّى يتمكن الطّير من التّوازن والصعود والارتفاع إلى أماكن أعلى.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} : ما: النّافية، يمسكهن: في كلا الحالتين الصف والقبض والوقوع على الأرض، إلا الرّحمن: إلا: أداة حصر، الرّحمن: الذي سخر لهنَّ ما يحتجن للطيران ويمسكهنَّ من الوقوع على الأرض، فهذا من مظاهر رحمة الرّحمن، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (79) في سورة النحل وهي قوله تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} : نجد أن آية النحل جاءت في سياق التسخير (لقوله تعالى مسخرات)، والتسخير: يعني التذليل والقهر، فذكر اسم الله تعالى الجامع لجميع صفاته، وفي آية المُلك ذكر فعل الطيران، وعدم سقوطها فهذا من الرحمة فذكر اسم الرحمن مع ذلك.
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ} : إنّه: للتوكيد، بكلّ: الباء للإلصاق والمصاحبة.
كل شيء بصير: شيء نكرة تعني: أيَّ شيء مهما كان وأينما كان أحاط بصره بكلّ شيء في السموات والأرض وما بينهما.
فهذه البراهين الدّالة على قدرة الله تعالى من أنّه عليم بذات الصّدور، وجعل الأرض لكم ذلولاً، وسخر للطير ما يحتاجه للطيران، ويمسكها أن تقع على الأرض، وأنّه بكلّ شيء بصير تكفي وتؤكد أنّ الله قادر على خسف الأرض أو إرسال حاصباً أو إرسال عذاباً عليكم من فوقكم أو من تحت أرجلكم.
سورة الملك [67: 20]
بعد ذكر البراهين على قدرته تعالى يوبخ المشركين الذين يظنون أنّ هناك من ينصرهم من غير الله أو الرّحمن، فيقول:
{أَمَّنْ} : أصلها أم + من، أم: المنقطعة للإضراب الانتقالي، ومن: للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ أن يكون لهم ناصر سوى الله إذا أراد أن يخسف بهم الأرض أو يعذبهم، فليس هناك من يمنع عذابه.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب ويفيد الذّم والتّحقير.
{الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} : ولم يقل: جنود لكم، الذي: اسم موصول هو يفيد التّوكيد، جند لكم: جند اسم جنس أوسع شمولاً من جنود ويتضمن أو يشمل الواحد والاثنين أو أكثر، جنود: تعني فقط (3) أو أكثر وتنفي الواحد والاثنين، لكم: اللام لام الاختصاص ولكم خاصة.
{يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} : أيْ: يدفع عنكم أو يمنعكم من عذاب الله عز وجل إذا حل بكم، وذكر الرّحمن هنا: لأنّ السّياق في ذكر نعم الله تعالى، ولتذكرهم أن لا تغتروا برحمته فالرّحمن يعاقب.
{إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ} : إن: للتعليل والتّوكيد، إلا: أداة حصر، في: ظرفية في حالة غرور دائم، غرور: الوقوع في الشر بسبب غفلة المغرور وقلة وعيه، والغرور: إيهام يحمل الإنسان على فعل ما يضره أو يعني الغفلة ويعني الخداع، حين يظنوا أنهم ليسوا بحاجة على الاعتماد على الرّحمن.
سورة الملك [67: 21]
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} :
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِى} : ارجع إلى الآية السّابقة، والاستفهام هنا جوابه محذوف أيْ: لا رازق لكم غيره.
{يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} : أو من هذا الذي سيرزقكم غير الله تعالى إن أمسك الله رزقه عنكم مثل عدم إنزال المطر. أو جعل رزقكم حطاماً بإرسال الأعاصير أو الريح العقيم أو الفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعية.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{لَجُّوا} : من اللجاج وهو التّمادي والاستمرار. مشتقة من لُجَّة البحر أيْ: تردُّد أمواجه وعودتها إلى الاصطدام بالشاطئ أو الصخر المرة بعد الأخرى بلا انقطاع، ويعني الاستمرار في فعل الأمر المنهي عنه والمواظبة عليه.
{فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} : في: ظرفية في حالة عتو: في عناد واستكبار وقسوة، ونفور: تباعد عن الحق والإيمان والإذعان.
سورة الملك [67: 22]
ثمّ يخبرنا بصورة الاستفهام التّقريري: أيهما أهدى المؤمن الموحِّد الذي يمشي سوياً على صراط مستقيم؛ أي: على دين الإسلام أم الكافر المشرك الذي يمشي مكباً على وجهه فيقول:
{أَفَمَنْ} : الهمزة استفهام تقريري، من: اسم موصول بمعنى الذي:
{يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} : المكب على وجهه أي: السّاقط على وجهه، من كبه: صرعه عل وجهه أيْ: لا يرى أمامه فهو يتعثر في ضلاله وجهله ومعاصيه.
{أَهْدَى} : أكثر هداية واستقامة على وزن أفعل أيْ: أفضل.
{أَمَّنْ يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : أمّن: للاستفهام التّقريري، أيْ: يمشي على هدي من ربه وعلى دين الإسلام، يمشي على صراط مستقيم: يوصله إلى غايته بأقصر زمن ومن دون حائل.
سورة الملك [67: 23]
ثمّ يخبرنا عن برهان آخر يدل على عظمته وقدرته سبحانه:
{قُلْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد الحصر والتّوكيد، أي: الله سبحانه.
{الَّذِى أَنشَأَكُمْ} : من الإنشاء وهو البداية في الخلق، والخلق يكون بعد الإنشاء أوجدكم من العدم.
{وَجَعَلَ لَكُمُ} : الجعل يتم بعد الخلق لكم: اللام لام الاختصاص لكم خاصة.
{السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْـئِدَةَ} : قدَّم السّمع على البصر في حوالي (17) آية في القرآن، وقدَّم البصر على السّمع في سورة الكهف والسّجدة في آيتين فقط جاءا في سياق الآخرة، أمّا في سياق الحياة الدّنيا فيقدِّم السّمع على البصر لأسباب منها:
1 -
السّمع يفوق البصر في الأهمية في التّبليغ والتّكليف.
2 -
يقدَّم السّمع؛ لأن السّمع لا ينقطع ليلاً أو نهاراً في النور أو الظلام.
3 -
السّمع ينشأ أو يخلق قبل البصر ومركز السمع يقع أمام مركز البصر.
وانتبه أيضاً أن الله سبحانه قدَّم كلمة العين عل الأذن في كلّ القرآن، وأفرد السّمع وجمع البصر فقال: والأبصار. ارجع إلى الآية (7) من سورة البقرة للبيان.
{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} : ما: النّافية وللتعليل والتّوكيد، على قلة شكركم المنعم، قليلاً ما تشكرون: أيْ: مقدار شكركم قليل أو عدد الشّاكرين قليل، قليل: نكرة تفيد التّقليل، ما: لتوكيد القلة. ارجع إلى سورة الأعراف آية (10) لمزيد من البيان في معنى الشكر.
سورة الملك [67: 24]
{قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :
{قُلْ هُوَ الَّذِى} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ} : ذرأكم: من ذرأ: والذرء هو النشر والتّكاثر والانتشار في الأرض وأصل الذرء: الإظهار أيْ: أظهركم بالتّوالد والتّكاثر، في الأرض: في: ظرفية مكانية.
{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} : إليه، تقديمها يعني: الحصر أيْ: إليه خاصة لا لغيره، تحشرون: من الحشر وهو الإخراج من القبور، ثمّ السّوق والجمع في أرض المحشر للحساب والجزاء، وفي آيات أخرى يقول تعالى:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فذكر الحشر مع الذرء للدلالة على عظمة قدرته، فهو قادر على جمعكم أينما كنتم.
سورة الملك [67: 25]
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :
{وَيَقُولُونَ} : أي: الكافرون يقولون: بصيغة المضارع للدلالة على تكرار وتجدُّد سؤالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل وقالوا.
{مَتَى} : استفهام يحمل معنى الاستهزاء والاستبعاد، متى ظرفية زمانية.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة يشير إلى يوم القيامة أيْ: متى يوم القيامة أو متى هذا الحشر والحساب.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن: شرطية تفيد الشّك وقلة الحدوث، صادقين في وعدكم، أيْ: نشك في كونكم صادقين بما تخبرونا عن يوم الحساب والبعث والنّشر.
سورة الملك [67: 26]
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
{قُلْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم أيْ: للكافرين.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: لا أعلم الغيب، والله وحده الذي يعلم متى سيقع.
{وَإِنَّمَا} : مثل السّابقة، تكرارها يفيد التّوكيد وتفيد الحصر.
{أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} : نذير: من الإنذار وهو الإعلام والتّحذير والتّخويف، نذير: صيغة مبالغة من أنذر، نذير مبين: أنّ الساعة واقعة لا محالة. ومبين تعني نذير لكلّ فرد، وإنذاري واضح وبين بالرجوع إلى الله وبالتّوبة إليه والإيمان به واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والذي أُنزل إليه أي: القرآن.
سورة الملك [67: 27]
{فَلَمَّا} : لما: ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشّرط.
{رَأَوْهُ زُلْفَةً} : الهاء في رأوه تعود على الوعد وهو يوم القيامة والعذاب الذي يستبعدون حدوثه كأنّه قد حدث وانتهى، رأوه فعل ماض مع كونه لم يحدث بعد؛ لأن الله سبحانه خالق الزمن، ويوم القيامة قريب جداً، يصف لنا الرّب سبحانه حالتهم عند رؤية العذاب يوم القيامة.
{زُلْفَةً} : اسم مصدر للفعل أزلف أيْ: قرب، وزلفى: قربى.
{سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} : سيئت وجوه الذي كفروا من رؤية العذاب بأن ظهر عليها الكآبة والذّلة وتغير لونها، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43].
{وَقِيلَ} : القائل مبني للمجهول، ولا يهم.
{هَذَا الَّذِى} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى العذاب أو يوم البعث.
{كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} : تدعون أنّكم لا تبعثون أو هذا هو العذاب الذي كنتم تطلبون أن يحل بكم في الدّنيا أو تنكرون حدوثه وتستهزؤون به، تدعون مشتقة من الدّعاء وهو الطّلب أو مشتقة من الدّعوى أنّكم لا تبعثون.
سورة الملك [67: 28]
{قُلْ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{أَرَءَيْتُمْ} : أيْ: أخبروني بعلم ودراية أيها الكفار، والهمزة: للاستفهام والتّقرير، أرأيتم من الرّؤية وهي رؤية قلبية ورؤية بصرية.
{إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَنْ مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا} : إن: شرطية، أهلكني الله ومن معي من المؤمنين بالموت أو بحرب أو بمصيبة أو كارثة أو أيِّ سبب، أو رحمنا: أو للتخيير، رحمنا: بتأخير الأجل أو الإهلاك أو العذاب.
{فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} : من استفهامية بمعنى التّقرير أيْ: لا أحد.
{مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} : يجير الكافرين أيْ: يمنعهم أو ينجيهم من عذاب أليم: شديد الإيلام لا يقوى على تحمله أحد.
سورة الملك [67: 29]
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} : قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار وغيرهم.
{هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} : هو: ضمير فصل يفيد الحصر: الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى مشتق من الرّحمة التي هي صفة عامة تشمل باقي صفات الرّحمة، آمنا به: وحده ولا نشرك به شيئاً، انظر كيف أخر (به)، ولم يقدِّم (به) على (آمنا)؛ لأنّ الإيمان بالله لا يكفي وحده، بل لا بُدَّ من الإيمان بالملائكة والرّسل والكتب واليوم الآخر. وانظر إلى قوله تعالى: وعليه توكلنا كيف قدَّم عليه وأخر توكلنا ولم يقل توكلنا عليه ليفيد الحصر حصر التوكل على الله تعالى وحده، أما الأيمان فلا ينحصر بالله وإنما يشمل الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر. ارجع إلى سورة الأعراف آية (89) لمزيد من البيان عن التوكل.
{فَسَتَعْلَمُونَ} : الفاء للتوكيد، ستعلمون: السّين للاستقبال القريب أيْ: ستعلمون قريباً.
{مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : من: اسم موصول بمعنى الذي، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، في: ظرفية، ضلال مبين: ضلال. ارجع إلى الآية (9) من نفس السّورة، ومبين أي:
1 -
ضلال بين لكلّ مخلوق.
2 -
وضلال بين بنفسه ظاهر للعيان لا يحتاج إلى برهان أو دليل.
سورة الملك [67: 30]
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} :
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ} : ارجع إلى الآية (28).
{أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} : ذاهباً في الأرض؛ أي: غائراً لا تصله الدّلاء أو نضب، أو قل ماء الآبار أو غار في الأرض، وكانوا يشربون من بئر زمزم أو غيرها.
{فَمَنْ يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} : فمن: للاستفهام، يأتيكم بماء معين أيْ: ظاهر تراه العيون أو يمكنكم الوصول إليه واستخراجه، الجواب الله سبحانه وحده القادر على الإيتاء به.
سورة القلم [68: 1]
سورة القلم
وتسمَّى سورة (ن) ترتيبها في القرآن (68) وترتيبها في النّزول من أوائل السّور، قيل: نزلت بعد سورة العلق (اقرأ) وسورة المزمل والمدثر أيْ: ترتيبها في النزول (4).
ورُوِيَ عن ابن عبّاس أنها نزلت بعد سورة اقرأ (العلق) أيْ: ثاني سورة نزلت، ثمّ نزل بعدها المزمل والمدثر.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} :
{ن} : من الحروف المتقطعة التي وردت في أوائل السّور وهذه الحروف التي عددها (14) حرفاً من حروف الهجاء التسع والعشرون والتي جمعت في جملة (نص حكيم قاطع له سر) أو (نص حكيم له سر قاطع) استأثر الله سبحانه بعلمها ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة للبيان. وقيل: (ن) الدّواة (المحبرة) والدّواة في عالمنا الحاضر قد تشمل الآلة الكاتبة والكمبيوتر وكلّ أدوات الطّباعة. وقيل: (ن) الحوت الأزرق الذي التقم يونس وبقي في فمه. ارجع إلى سورة الصافات آية (42) للبيان.
ورُوِيَ عن ابن عبّاس: إنّ أول شيء خلقه الله القلم، ثمَّ قال: اكتب ما هو كائن من الأقدار والأعمال والآثار والأرزاق والآجال، وما سيجري في الكون والخلق، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم القيامة أو إلى أن تقوم السّاعة.
{وَالْقَلَمِ} : الواو واو القسم ولا يقسم الله سبحانه إلا بشيء عظيم وهو غني عن القسم والقسم يشير إلى أهمية المقسم به وأهمية جواب القسم، أقسم الله تعالى بالقلم والقلم اسم جنس، القلم الذي يُكتب به وهو أوّل شيء خلقه الله تعالى والقلم يشمل آلات الكتابة والطباعة والكمبيوتر، وما يُخط به وما يخرج لنا العلم في كلّ يوم من مخترعات حلت محل القلم.
{وَمَا يَسْطُرُونَ} : ما لغير العاقل، يسطرون: يخطون ويكتبون، ما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، أو كل ما يكتبه العباد؛ لأنهم مسؤولون عما يسطرون.
ما: اسم موصول بمعنى الذي يسطرونه أو مصدرية بمعنى مسطورهم.
وفي هذه الآية إشارة إلى عظم نعمة القلم وانتشار العلم والمعارف بين الأفراد والأمم ووسيلة من هم وسائل البيان، كما قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4].
وجواب القسم قيل: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وقيل: الثّلاث آيات (2) ما أنت بنعمة ربك بمجنون، (3) وإن لك أجراً غير ممنون، (4) وإنّك لعلى خلق عظيم.
سورة القلم [68: 2]
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} :
{مَا} : النّافية.
{أَنْتَ} : يا محمّد صلى الله عليه وسلم.
{بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : بنبوة ربك الباء باء الإلصاق والمصاحبة وقيل: باء السّببية، أيْ: بسبب ما أوحي إليك بسبب النّبوة أصبحت مجنون كما يزعمون أو هو ردٌّ على افتراء كفار مكة أمثال الوليد بن المغيرة والنّضر بن الحارث وعتبة بن ربيعة وغيرهم؛ حين قالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، أو قوله تعالى:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51].
{بِمَجْنُونٍ} : الباء للتوكيد أيْ: نفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلم.
سورة القلم [68: 3]
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} :
{وَإِنَّ} : الواو عاطفة، إنّ للتوكيد.
{لَكَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق والكاف للخطاب، لك يا محمّد.
{لَأَجْرًا} : اللام للتوكيد، أجراً: الأجر هو جزاء العمل، لأجرّ ما تحملت من أعباء النّبوة وإبلاغ الرّسالة.
{غَيْرَ مَمْنُونٍ} : غير: تفيد النّفي، غير ممنون: غير مقطوع، بل هو مستمر يقال: مَنَنْتُ الحبل إذا قطعته، وغير ممنون: من المن كقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] أيْ: غير ممنون به عليك أيْ: هذا الأجر تستحقه ولا نمنُّه عليك.
سورة القلم [68: 4]
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} :
{وَإِنَّكَ} : الواو عاطفة، إنّك للتوكيد.
{لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} : اللام للتوكيد، على: تفيد العلو أو الاستعلاء أي: التّمكن بدلاً من قوله: ذو خلق عظيم، كأن الخُلق مطية وهو مستعل عليها.
خلق عظيم: كما فسرته عائشة رضي الله عنها حين سُئلت عن خلقه فقالت: كان خلقه القرآن، فقد أجملت الخلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها خلقه القرآن أيْ: أنّه يأتمر بأمره ربه وينتهي بنواهيه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس خُلقاً فكان أوسع النّاس صدراً وأوفاهم ذمة وأكرمهم عشرة لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا سباباً ولا لعاناً كان عظيم الحلم والعفو شديد الصّبر على المكاره ما أذى أو ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط لا امرأة ولا خادماً، وكان رفيقاً بالنّاس متواضعاً وأجود النّاس، وكان شديد الحياء شجاعاً وأزهد النّاس وأعدلهم وأشد النّاس وقاراً ومهابة.
سورة القلم [68: 5]
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} :
{فَسَتُبْصِرُ} : الفاء: للتوكيد، ستبصر: السّين للاستقبال القريب أيْ: ستعلم وسترى يا محمّد صلى الله عليه وسلم عن قريب.
{وَيُبْصِرُونَ} : ولم يقل: سيبصرون إنما يبصرون أيْ: يعلمون اليوم وغداً ويوم القيامة من المجنون، وفي الآية تهديد ووعيد، وتدل على التجدُّد والتكرار.
سورة القلم [68: 6]
{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} :
{الْمَفْتُونُ} : المجنون، والمفتون الذي أصيب بفتنة أدت إلى ذهاب عقله وأصبح مختل العقل وقيل: المفتون الضّال.
{بِأَيِّكُمُ} : الباء: للتوكيد، أيكم: أيّ استفهامية، أيكم: أي الفريقين المفتون (المجنون) أنت أو هم، أيْ: هؤلاء الذين يتهمونك بالجنون.
سورة القلم [68: 7]
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} :
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ} : إنّ للتوكيد، ربك: خالقك المتولي أمورك ومربيك، هو تفيد التّوكيد.
{أَعْلَمُ} : على وزن أفعل صيغة مبالغة من علم يعلم عالم.
{بِمَنْ} : الباء للإلصاق والتّوكيد، من: اسم موصول بمعنى الذي أو استفهامية.
{ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} : ضل: انحرف وعدل عن الصّراط المستقيم أو الحق والصّواب، عن سبيله: عن دينه، أيْ: إنّ ربك يعلم من هو الضّال المفتون منكم.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} : وهو للتوكيد، أعلم بالمهتدين: جمع مهتدٍ أي: السّائر على دينه والمتبع هديه، وفي هذه الآية إنذار لكلّ من يضل عن دين الله وبشرى لمن يسير على الصراط المستقيم.
سورة القلم [68: 8]
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} :
بعد أن وصف الله سبحانه رسوله بالخلق العظيم ينتقل سبحانه ليصف هؤلاء المشركين الذين اتهموه بالجنون بعشر صفات.
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا النّاهية.
{تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} : رؤساء قريش من المشركين أمثال الوليد بن المغيرة والنّضر بن الحارث وعتبة بن ربيعة والأخنس بن شريق والأسود بن عبد يغوث وغيرهم، المكذبين: بآيات الله والقرآن والوحي، أي: الضّالين والمكذبين بنبوتك.
سورة القلم [68: 9]
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} :
{وَدُّوا} : من الود: تمنوا.
{لَوْ تُدْهِنُ} : لو: للتمني، لو تلين وتستجيب لمطالبهم بأن لا تعيب على آلهتهم أو تذكرها بسوء، والمدهن: هو الذي يتنازل عن شيء من دينه ليحفظ شيئاً من دنياه، والمداري من المداراة: هو من يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئاً من دينه، فالمداهنة محرمة والمداراة جائزة.
{فَيُدْهِنُونَ} : أيْ: لو تلين فيلينون لك؛ أي: لو تعبد آلهتهم فيعبدوا الله، وجاء الرّد بعدم الاستجابة لهم والإعراض عنهم.
سورة القلم [68: 10]
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} :
بعد النّهي عن إطاعة المكذبين بشكل عام يعود الحق سبحانه وينهى رسوله عن إطاعة بعض الأفراد وصفهم بصفات معينة من أمثال الوليد بن المغيرة فقال:
{وَلَا تُطِعْ} : ارجع إلى الآية (8).
{كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} : حلاف: كثير الحلف بالباطل، حلاف: صيغة مبالغة من اسم الفاعل على وزن فعال، مهين: تحمل معاني كثيرة، كذاب، حقير، رديء، دنيء، ذليل، ضعيف الرّأي، مهين مشتقة من المهانة: الحقارة والذلة.
سورة القلم [68: 11]
{هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} :
{هَمَّازٍ} : عياب طعان مغتاب يعيب على النّاس ويطعن فيهم وبحضورهم، اللماز: هو الذي يعيب ويطعن في النّاس في غيابهم.
{مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} : من النّميمة أيْ: يمشي بين النّاس بالنّميمة وهي نقل الكلام للإفساد بين النّاس وإثارة الفتن.
سورة القلم [68: 12]
{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} :
{مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} : بخيل، والخير: المال أو الإسلام والخير هو الشّيء الحسن النّافع ومناع للخير: يمنع النّاس من الإنفاق والدّخول في الإسلام والعمل الصّالح.
{مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} : معتد على النّاس بالظّلم والطغيان متجاوز حدوده في ظلم النّاس في أموالهم وأعراضهم ودمائهم، أثيم: كثير الإثم وارتكاب الفواحش والذّنوب.
سورة القلم [68: 13]
{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} :
{عُتُلٍّ} : غليظ جاف، عتل: مشتقة من عَتَلَهُ يعتلُهُ: إذا جره بعنف وغلظة.
{بَعْدَ ذَلِكَ} : وبعد كلّ هذه الصّفات الرّذيلة الرّديئة.
{زَنِيمٍ} : ليس له أهل أيْ: لا يُعرف أباه أو ليس من القوم يعرف بالشّر والسّوء كما تعرف الشّاة بزنمتها، وهي قبضة الشّعر المتدلية من عنق المَعز: أو لحيتها.
سورة القلم [68: 14]
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} :
{أَنْ} : مصدرية للتعليل والتّوكيد.
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} : أيْ: دفعه كثرة ماله وكثرة ولده للإعراض عن آيات الله والتّكذيب بها، قيل: كان للوليد بن المغيرة (10) أولاد.
سورة القلم [68: 15]
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :
{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث وزمانية بمعنى حين.
{تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} : تقرأ عليه آيات القرآن أو يسمع بها يقول:
{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : جمع أسطورة: أيْ: أكذوبة من أكاذيب الأولين أو أباطيلهم.
سورة القلم [68: 16]
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} :
الخرطوم يعني: الأنف، سنسمه: السين للاستقبال القريب، سنسمه: مشتقة من السمة وهي العلامة الفارقة كل من رآه عرفه.
والوجه أكرم موضع في الجسد والأنف أكرم موضع في الوجه والعرب تجعل الأنف مكان الحمية والعز واشتقوا منه الأنفة، ويقال للذليل: جدع أنفه أو رغم أنفه، والسّمة العلامة التي لا يمحى أثرها، والوسم يكون عادة بالنّار.
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} : أيْ: بالسّيف على أنفه، مما يؤدي إلى جرح يترك تليف في الأنسجة وتبقى آثاره إلى الممات، وقيل: وقع ذلك في معركة بدر وبقي مخطوماً على أنفه حتّى مات.
سورة القلم [68: 17]
{إِنَّا} : للتعظيم.
{بَلَوْنَاهُمْ} : بلوناهم من الابتلاء والابتلاء قد يكون في الخير أو الشر وغايته لاستخراج ما عند المبتلَى من طاعة أو معصية، بلوناهم أيْ: أهل مكة، بلوناهم بالقحط والجوع حتّى أكلوا الجيف والفقر لعلهم يتوبون ويرجعون إلى طاعة الله ورسوله.
{كَمَا} : الكاف للتشبيه.
{بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} : الجنة (بستان) قيل: كانت بأرض اليمن وكانت لرجل مؤمن يؤدي حق الله تعالى فيه بالصدقة والزكاة، فلما مات ورثها أولاده فعزموا على أن يمنعوا حق الله منها.
{إِذْ} : ظرف للزمان الماضي بمعنى حين.
{أَقْسَمُوا} : أقسموا بالله، ولم يقل: حلفوا بالله، الحلف: في القرآن يأتي في سياق الكذب وعدم الوفاء بما حلف، فهؤلاء كانت نيتهم صادقة على قطف ثمار الجنة مصبحين، ومن دون أن يعلم بها الفقراء. ارجع إلى سور التوبة آية (56) لمزيد من البيان في الفرق بين القسم والحلف.
{لَيَصْرِمُنَّهَا} : اللام لام التّوكيد، والنّون في يصرمنها لزيادة التّوكيد، أيْ: يقطفن ثمارها من الصّرم: وهو القطع.
{مُصْبِحِينَ} : حين دخول وقت الصّباح، أيْ: يقطعن ثمارها بدخول الصّباح قبل أن يستيقظ المساكين الفقراء ويأتوا لطلب المساعدة أو الصّدقة.
سورة القلم [68: 18]
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} :
حصة المساكين كما كان يفعل أبوهم أيْ: يخرجون الزّكاة حق الله في أموالهم، وهناك من فسر (ولا يستثنون) أيْ: لم يقولوا: إن شاء الله (وهو الراجح).
سورة القلم [68: 19]
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} :
{فَطَافَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب.
{عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} : عليها وحدها حصراً بها، لم يحدد سبحانه ما هو الطّائف أو البلاء والطّائف لا يكون إلا ليلاً ويكون شراً. قيل: كانت نار فاحترقت مثل إعصار فيه نار أو صاعقة من السماء.
{مِنْ رَبِّكَ} : يدل على شدة عقابه وسخطه.
{وَهُمْ نَائِمُونَ} : أي: ليلاً وأصحاب الجنة والمساكين، كلّ أهل القرية الكلّ كان نائماً لم يشعروا بما حدث.
سورة القلم [68: 20]
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} :
{فَأَصْبَحَتْ} : الفاء للتعقيب، أصبحت: تحولت الجنة.
{كَالصَّرِيمِ} : أصبحت كالرّماد الأسود أو الليل الأسود، أو أصبحت قد صرم (قطع) ثمارها أيْ: قطفت ثمارها، أيْ: لم يبقَ من ثمارها شيء يقطع أو يُحصد أيْ: أتلفت ثمارها عن بكرة أبيها.
سورة القلم [68: 21]
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} :
{فَتَنَادَوْا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، تنادوا: أيْ: نادى أصحاب الجنة (أي: الإخوة) بعضهم بعضاً أو أيقظ بعضهم بعضاً.
{مُصْبِحِينَ} : حين دخل وقت الصبح تنادوا قائلين وهم لا يعلمون أن جنتهم قد احترقت أو دُمرت.
سورة القلم [68: 22]
{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} :
{أَنِ اغْدُوا} : أن للتوكيد، اغدوا؛ أي: اخرجوا (امضوا) مبكرين إلى جنتكم.
{عَلَى حَرْثِكُمْ} : ثماركم وزرعكم.
{إِنْ كُنتُمْ} : إن شرطية تفيد الشّك أو النّدرة.
{صَارِمِينَ} : جادين في قطف ثمارها وحصدها.
سورة القلم [68: 23]
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} :
{فَانْطَلَقُوا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، انطلقوا إلى جنتهم لقطف ثمارها أيْ: ساروا إلى جنتهم.
{وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} : هم للتوكيد، يحدث بعضهم بعضاً بشكل الهمس حتّى لا يسمعهم أحد، ولا يشعر بهم، وهم في طريقهم لجني ثمار جنتهم.
سورة القلم [68: 24]
{أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} :
{أَنْ لَا} : للتعليل والتّوكيد، لا النّافية.
{يَدْخُلَنَّهَا} : النّون في يدخلنها للتوكيد والهاء يعود إلى الجنة.
{الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} : أيْ: لا يدخلها اليوم عليكم ولا مسكين واحد كما كانوا يدخلونها على أبيكم عندما كان حياً أيْ: يحضرون لأخذ الصدقة أو الزكاة. والمسكين: هو من يملك ما لا يكفيه.
سورة القلم [68: 25]
{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} :
{وَغَدَوْا} : خرجوا مبكِّرين.
{عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} : الحَرْد: القصد أيْ: ساروا مبكِّرين وهم قاصدون حرمان أيِّ مسكين، والحرد: يعني المشي بسرعة ونشاط، والحرد: من حَرَدَ إذا تنحَّى عن قومه وانفرد عنهم ورجل حريد: وحيد والحرد: الزعل والانتقام.
فكلمة الحرج جمعت المعاني الثّلاث، أيْ: خرجوا منفردين لا يعلم بهم أحد، وخرجوا مسرعين بجد ونشاط ومصمِّمين أو عازمين أو ناقمين على حرمان أيِّ مسكين من ثمرها.
قادرين: أيْ: لن يحول بينهم وبين جنتهم أحد يمنعهم ظنوا أنهم قادرون تنفيذ ما عزموا عليه.
سورة القلم [68: 26]
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} :
{فَلَمَّا} : الفاء للترتيب والتّعقيب، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين رأوها.
{رَأَوْهَا} : كالصّريم الليل الأسود أيْ: محترقة كالرماد الأسود.
{قَالُوا} : ما هذه جنتنا.
{إِنَّا لَضَالُّونَ} : اللام في لضالون للتوكيد، أيْ: إنا ضللنا الطّريق أو أخطأنا الطّريق، ضالون: جملة اسمية تفيد الثّبوت حقاً إنا قد أخطأنا الطّريق من شدة الصدمة.
سورة القلم [68: 27]
{بَلْ} : بل للإضراب الانتقالي.
أيْ: لما أدركوا وتبيَّنوا أنّها جنتهم قد تحولت إلى رماد أسود واستيقنتها أنفسهم.
قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} : محرومون منها أيْ: من خيرها وثمرها؛ لأننا حرمنا (منعنا) المساكين والفقراء من نصيبهم. عندما قالوا ذلك، عندها قال أو تكلَّم أوسطهم فقال:
سورة القلم [68: 28]
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} :
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} : أيْ: أفضلهم وأرجحهم عقلاً أو أقربهم للتقوى (أعدلهم).
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{أَقُلْ لَّكُمْ} : لكم خاصة أيْ: عندما عزموا ليصرمنها مصبحين، هلا تستثنون أيْ: تقولون: إن شاء الله.
{لَوْلَا} : للحثِّ والحضِّ.
{تُسَبِّحُونَ} : تخافون الله أو أطلق لفظ التّسبيح على الاستثناء؛ أي: القول (إن شاء الله) والاستثناء جزء من التّسبيح، أو تسبحون: تنزيه لله عن الشّرك والعيب والنّقض، أو أنه سبحانه بحاجة على زمانكم أو أموالكم، وبما أنّهم لم يقولوا: إن شاء الله فهم ظنوا أن قدرتهم تكفي، لولا تسبحون، تستغفرونه على ما عزمتم عليه.
سورة القلم [68: 29]
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} :
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} : أيْ: ننزه ربنا أن نشرك به أو سبحان ربنا فيما صنع بجنتنا.
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} : أي: اعترفوا عندها بذنبهم إنا كنا ظالمين حين منعنا أو حرمنا المساكين حقهم الذي فرض الله لهم.
سورة القلم [68: 30]
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} :
بدأ بعضهم يلوم بعضاً على خطئهم ونيتهم السّيئة في حرمان المساكين حقهم وعدم الاستثناء (عدم قولهم: إن شاء الله)، واللوم: يعني عدم الرضا عما فعلوا، واللوم: هو تنبيه الفاعل على ما وقع في فعله من ضرر أو أمر غير مستحسن.
سورة القلم [68: 31]
{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} :
{يَاوَيْلَنَا} : الويل الهلاك والعذاب، والعرب تستعمل كلمة الويل لكلّ من وقع في هلكة أو فضيحة أو حسرة، والويل مصدر لا فعل له لا يثنى ولا يجمع، والقول: يا ويلنا تستعمل للتحسر على غفلة وقيل: واد في جهنم.
{إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} : طاغين من طغى: جاوز الحد وأسرف في الظّلم أو المعاصي أو الكفر، كما في قوله: إنّها لما طغى الماء حملناكم في الجارية: ارتفع الماء وتجاوز الحد المعين وسبب الفيضان.
فهناك منهج رباني هو الغني يعطي الفقير حقه زكاته أو صدقة ماله والقوي يساعد الضّعيف والعالم يعلم الجاهل وهكذا.
وهناك المنهج الطّغياني: أن تأتي إلى الفقير وتأكل أو تأخذ من أجرته أو لا تعطيه حقه؛ لكي تزداد غنى، وهو يزداد فقراً، والمصيبة أحياناً أنّك لم تتركه بحاله لا بل تحاول أن تأخذ من الضّعيف أو الفقير حقَّه ويا ليت تركته على حاله وضعفه فهنا أصبح الظّلم ظلمين أوّلاً لم تعطه أجرته أو حقه، كما هو المفروض، أو طلبت منه أن يعمل لك زمناً من دون أجر لتغنى أنت، وهذا ظلم آخر أيْ: ظلمٌ مركب.
إنا كنا طاغين: أيْ: حين منعنا المساكين من حقهم وحاولنا أخذه ولم نشكر نعمة الله علينا فقد كنا طاغين.
سورة القلم [68: 32]
{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} :
{عَسَى رَبُّنَا} : عسى: فعل رجاء والأمر المرجو بعدها مطموع في حصوله عن قريب أو بعد مدة قد تطول وعسى أداة ترجي سواء كان الأمر محبوباً أو مكروهاً.
{أَنْ} : تدل على الاستقبال أو مؤذنة بمجيء الفعل.
{يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا} : بعد الاعتراف بذنبهم رجعوا إلى ربهم ويبدو أنّهم تابوا وأخلصوا نيتهم ودعوا الله أن يبدلهم خيراً منها أيْ: من جنتهم.
يبدلنا: الإبدال: هو رفع الشّيء ووضع شيئاً آخر مكانه.
{إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} : جمع راغب: طالب العفو والخير يقال: رغب إلى فلان في كذا، أيْ: سأله إياه، أيْ: سائلون إياه العفو وأن يبدلنا خيراً منها.
وقيل: إنّ الله سبحانه أبدلهم بها خيراً منها، كما رُوِيَ عن مجاهد وابن مسعود.
سورة القلم [68: 33]
{كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} :
{كَذَلِكَ} : تعني مثل ذلك أو أيضاً أو هي كتلك، كذلك: الكاف كاف التّشبيه، ذلك: اسم إشارة يشير إلى العذاب الذي أصاب أصحاب الجنة، وأهل مكة، مثل ذلك العذاب سيصيب كلّ من طغى وعصى أمر الله تعالى.
{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} : اللام للتوكيد، عذاب الآخرة أكبر من عذاب الدّنيا على وزن أفعل، أكبر أيْ: أشد وأدوم (لأنّ عذاب الدّنيا محدود بالأجل) وعذاب الآخرة أبدي لا يحول ولا يُبدل ولا يخفَّف.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} : لو: شرطية، كان يعلمون: أي: الكفار أو المشركين أو الظّالمين والطّاغين أو تعني لو كانوا يعلمون ذلك لعادوا إلى رشدهم وتابوا.
سورة القلم [68: 34]
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} :
ثمّ ذكر الله سبحانه ما للمتقين عند ربهم فقال:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} : إنّ للتوكيد، للمتقين: اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : في الآخرة.
{جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : نوع من الجنات، مثل جنات الفردوس، جنات عدن، أو تعني وصفاً عاماً لكلّ الجنات.
سورة القلم [68: 35]
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} :
المناسبة: كان زعماء قريش حين يسمعون الآيات التي تتحدث عن الآخرة وما وعد الله سبحانه المسلمين والمؤمنين يقولون: لنُعطَى في الآخرة أفضل مما يُعطينا ربنا في الدنيا أو على الأقل مثل ما نُعطَى في الدنيا.
{أَفَنَجْعَلُ} : الهمزة همزة استفهام وتوبيخ وتقرير، أيْ: إنكار التّسوية بين المسلمين والمجرمين، أيْ: كيف نساوي بين المسلمين والمجرمين في الأجر والثّواب.
{الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} : كيف نساوي بين المطيع والعاصي، ثمّ يذكر الله سبحانه سبع استفهامات إنكارية توبيخية تنفي أيَّ دليل أو برهان على التّسوية بين المجرمين والمسلمين وقدَّم المسلمين على المجرمين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لبيان معنى المجرمين.
وأصل الكلام: أفنجعل المجرمين كالمسلمين، تشبيه مقلوب وحين يقلب التشبيه فهو للفت الانتباه ويكون أبلغ.
سورة القلم [68: 36]
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} :
{مَا لَكُمْ} : ما: للاستفهام الإنكاري، لكم: اللام لام الاختصاص.
{كَيْفَ} : استفهام للتعجب، والسؤال عن الحال.
{تَحْكُمُونَ} : هذا الحكم غير العادل أو الدليل العقلي لا يقبل بذلك الحكم أيضاً.
سورة القلم [68: 37]
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} :
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ، وأم المنقطعة: أيْ: للإضراب الانتقالي.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص.
{كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} : كتاب منزل من السّماء، تدرسون: أيْ: تقرؤون وفيه حكم مؤكد بالتّسوية بين المطيع المسلم والعاصي المشرك الكافر.
سورة القلم [68: 38]
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{لَكُمْ فِيهِ} : أيْ: وذكر لكم فيه أن لكم في الآخرة ما تشتهون وما تختارون.
{لَمَا تَخَيَّرُونَ} : من تخير الشّيء: أيْ: أخذ خيره.
سورة القلم [68: 39]
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} :
{أَمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري أم: للإضراب الانتقالي
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص لكم خاصة وليس لغيركم.
{أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} : أيْ: أقسمنا لكم أو لكم عهود مؤكدة عند الله موثقة أو حلف لكم الله تعالى أو أقسم لكم: إنّ لكم لما تحكمون أيْ: تقضون لأنفسكم أو تختارون لأنفسكم الحكم الذي تريدونه.
{بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : أيْ: سارية المفعول أو ثابتة إلى يوم القيامة.
{إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} : إنّ تفسيرية تفيد التّوكيد أيْ: سننفذ الحكم الذي تصدرونه لأنفسكم من الخير والكرامة، فيها توبيخ وتهكم لما يزعمونه.
سورة القلم [68: 40]
{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} :
{سَلْهُمْ} : يا محمّد، أيْ: سَلِ الكفار.
{أَيُّهُمْ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.
{بِذَلِكَ} : الباء للإلصاق، ذلك: اسم إشارة يعود إلى الحكم أو أنّ لهم ما يحكمون.
{زَعِيمٌ} : أي: المتكفل بأمورهم الضّامن أو المتكلم نيابة عن القوم بأنّ لهم ما للمسلمين من ثواب وأجر.
سورة القلم [68: 41]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} :
{أَمْ لَهُمْ} : للإضراب الانتقالي والهمزة للاستفهام والإنكار والتوبيخ، لهم: لام الاختصاص لهم خاصة.
{شُرَكَاءُ} : شركاء لله بزعمهم مثل الأصنام والأنداد والآلهة أعطوهم الوعد أو العهد أن يحققوا ذلك لهم ويعطوهم ما سيُعطى للمسلمين أو تعني: هل هناك أناس يشاركونهم في هذه الدّعوى ويشهدون لهم بذلك.
{فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} : الفاء للمباشرة والتّرتيب.
{إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} : إن: شرطية تستعمل للأمر الذي فيه شك.
كانوا صادقين: في زعمهم وشهادتهم وإضافة الشّركاء لهم فقال: بشركائهم لادعائهم بأنّهم شركاء (وهم ليسوا بشركاء)؛ أيْ: هم كاذبون.
سورة القلم [68: 42]
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدّنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً) أيْ: غير قادر على السجود.
هذا تأويل أوّل، أمّا التّفسير الثّاني: يوم يكشف عن ساق: فتعني يوم يشتد الأمر والخطب أيْ: يوم القيامة (أي: البعث).
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} هذه استعارة تمثيلية كشف السّاق والتّشمير عنها يحدث إمّا لخوض لجة ماء أو نهر أو للجري بسرعة، فحين يشتد الخطب يوم القيامة ويعظم الأمر يسجد كلّ مؤمن ومؤمنة لله تعالى، وكما قال تعالى:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]، عندها يحاول المشركون والمنافقون السّجود أيضاً مع المؤمنين فلا يستطيعون حيث تصبح ظهورهم متصلبة كأنّها عظم واحد فلا يقدرون على السّجود، وإن قيل: لماذا يدعون إلى السّجود في الآخرة، الجواب: يدعون توبيخاً وتعنيفاً وتذكيراً لهم على تركهم السّجود في الدّنيا وعندها يتمنون الاستطاعة على السّجود فلا يستطيعون، والله أعلم بهذا الأمر.
سورة القلم [68: 43]
وتراهم حينذاك: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} : الخشوع يكون في الأبصار والأصوات، والخشوع يعني: الخوف والتعظيم، وأما الخضوع يكون في الجسم أو البدن، والخشوع يمكن أن يبدأ في القلب، وقيل: الخشوع هو خوف الخاشع للمخشوع له وليس تكلفاً، وقيل: هو النظر إلى الأرض وخفض الصوت.
{تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} : تغشاهم ذلة، ذل النّدامة والحسرة.
{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} : في دار الدّنيا يدعون إلى الصّلاة بالآذان وغيره إلى الصّلوات المفروضة.
{وَهُمْ سَالِمُونَ} : هم: للتوكيد، سالمون: من الأمراض معافون أصحاء لا مانع يمنعهم.
ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} مع الآية (7) من سورة القمر: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} :
خشعاً تفيد المبالغة والتّكثير في الخشوع الذي يصيب جوارحهم ويعني: الذل والانكسار، وشدة التنكير؛ ينكرون ما يرون؛ أي: لا يصدقون ما ترى أعيُنُهُم من شدة الهول والمقام.
هناك فرق بين الموقفين في الزّمن والنّاس: الموقف الأوّل: خشعاً أبصارهم يحدث بعد الخروج من الأجداث وكأنّهم جرد منتشر، الموقف الثّاني: خاشعة أبصارهم يحدث في أرض المحشر، وقيل: خشعاً أبصارهم تعني كلّ الناس، أما خاشعة أبصارهم تعني: المنافقين.
سورة القلم [68: 44]
{فَذَرْنِى وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} :
{فَذَرْنِى} : الفاء للتوكيد، ذرني: دعني خلي بيني وبينهم أو اترك أمر هؤلاء المكذبين بهذا الحديث أي: القرآن، إليَّ ولا تشغل بالك بهم.
{وَمَنْ} : من: ابتدائية اسم موصول للعاقل؛ من: تشمل المفرد والمثنى والجمع، والذكر والأنثى.
{يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} : أي: القرآن الكريم وسمِّي بالحديث كقوله {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُّدْهِنُونَ} [الواقعة: 81]، ولمعرفة لماذا سمِّي القرآن بالحديث ارجع إلى سورة الزمر آية (23).
{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} : الاستدراج من الدّرج وهو السّلم للصعود أو النّزول، والاستدراج: أيْ: نملي عليهم بالنّعم الواحدة تلو الأخرى مثل الغنى والصّحة وغيرها، ويظنون أنّ الله راض عنهم فيزدادون كفراً وطغياناً وبعداً عن الله، فالاستدراج هو نوع من الكيد ويقربهم للهلاك، وهم لا يشعرون، كقوله تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
{مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} : لا يعلمون بما يُدبر لهم من انتقام.
سورة القلم [68: 45]
{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} :
{وَأُمْلِى} : من الإملاء وهو الإمهال والتّأخير في العقوبة أو العذاب.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص، لهم خاصة.
{إِنَّ كَيْدِى} : إنّ للتوكيد، كيدي: من الكيد: التّدبير الخفي لإيقاع المكروه والمشقة بالغير قهراً سواء علم به أو لم يعلم والكيد أقوى من المكر، إن كيدي: أيْ: تدبيري وأخذي.
{مَتِينٌ} : قوي شديد لا يطاق كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
سورة القلم [68: 46]
{أَمْ تَسْـئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} :
{أَمْ} : الهمزة استفهام إنكاري أم للإضراب الانتقالي.
{تَسْـئَلُهُمْ أَجْرًا} على تبليغ الرّسالة، أيْ: أطلبت منهم أجراً لكي تبلغهم رسالة ربك، أو أجراً على هدايتك لهم فأعرضوا ولم يستجيبوا لك، أو سألتهم أجراً عظيماً أثقلهم ومنعهم من الدّخول في الإسلام والإيمان أو ثقل عليهم الحمل أو ذلك الأجر مما منعهم من الإيمان.
{فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} : فهم خاصة، من: ابتدائية، مغرم: من الغرامة والغرم ما يلزم أداؤه أو ما يدفع من المال كغرامة لمخالفة القانون أو عقوبة، أو شرع الله سبحانه.
سورة القلم [68: 47]
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} :
{أَمْ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} : اللوح المحفوظ أو ما كتب فيه من الغيب فهم مطلعون عليه ويقرؤون ما فيه.
{فَهُمْ يَكْتُبُونَ} : لا يحتاجون إليك لتبلغهم ما في القرآن؛ لأنّهم يعلمون الغيب أو يعلمون ما في اللوح المحفوظ ويكتبون منه ما يعلمونه.
سورة القلم [68: 48]
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} :
{فَاصْبِرْ} : الفاء للتوكيد.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} : اصبر: على أذى قومك وعنادهم وإعراضهم، واصبر على تبليغهم ودعوتهم إلى الإيمان، واصبر حتى يأتي أمر الله أو عذابه.
{وَلَا تَكُنْ} : الواو عاطفة، لا النّاهية، تكن: مثل صاحب الحوت في عدم الصّبر والضّجر والغضب إذ ذهب مغاضباً.
{كَصَاحِبِ الْحُوتِ} : يونس عليه السلام ، الحوت: يطلق على السّمك الكبير مثل الحيتان الزرقاء ذات الوزن العظيم والحجم الهائل، وليس لها أسنان حادة وتتنفس الأوكسجين، وفي سورة الأنبياء وصفه بذي النّون. ارجع إلى سورة الأنبياء الآية (87) للبيان، وسورة الصافات آية (146) للبيان.
{إِذْ} : ظرف زماني بمعنى حين.
{نَادَى} : دعا ربه وهو في فم الحوت.
{وَهُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مَكْظُومٌ} : اسم مفعول من كظم مملوء غماً وغيظاً على قومه؛ لأنّهم لم يؤمنوا، مأخوذة من الكظم. ارجع إلى الآية (134) من سورة آل عمران للبيان.
سورة القلم [68: 49]
{لَّوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} :
{لَّوْلَا} : حرف امتناع لوجود لولا وجود نعمة ربك لنبذ بالعراء.
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : تداركه جاءت بصيغة التّذكير ولم يقل: تداركته نعمة من ربه، وقيل: هذه النّعمة هي توفيقه للتسبيح وللتوبة وقبول توبته أيْ: تاب الله عليه.
{لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} : النّبذ هو الطرح والإلقاء واللام للتوكيد، طرح من فم الحوت بالعراء: بالأرض الخالية من الشّجر والزّرع أو الخالية من النّبات، ولكن الله سبحانه وتعالى أنبت عليه شجرة من يقطين، كما بين ذلك في سورة الصافات آية (142) ارجع إلى تلك الآية للبيان.
{وَهُوَ} : الواو للتوكيد، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{مَذْمُومٌ} : من الذّم، من ذم الشخص؛ أي: عابه ولامه وانتقصه، والذم يستحق العقاب على فعله.
سورة القلم [68: 50]
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} :
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، اجتباه: اختاره واصطفاه ربه ورد إليه الوحي والنّبوة.
{فَجَعَلَهُ} : الفاء: للتوكيد، والمباشرة؛ جعله: الجعل: التصيير.
{مِنَ الصَّالِحِينَ} : من: ابتدائية؛ ارجع إلى الآية (130) من سورة البقرة.
سورة القلم [68: 51]
{وَإِنْ} : الواو استئنافية، إن: للتوكيد.
{يَكَادُ} : من أفعال المقاربة من كاد أيْ: قرب أو أوشك.
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} : اللام والنّون للتوكيد، ليزلقونك: من الزّلق زلة القدم أيْ: يكادون ليزلون قدمَك (يُزلونك بأبصارهم) من شدة الغيظ والعداوة حتى تزلَ قدمُك أيْ: تسقط على الأرض أيْ: تصرع أو يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعينهم (عيون الحسد).
{لَمَّا} : ظرفية زمانية أيْ: حين.
{سَمِعُوا الذِّكْرَ} : سمعوا القرآن أو سمعوك تتلو آيات القرآن.
{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} : يقولون: بصيغة المضارع لاستمرار قولهم ذلك وتجدُّده وتكرُّره، إنه لمجنون: للتوكيد، اللام للتوكيد، مجنون: مصاب بالجنون والخبل بسبب الوحي أو القرآن.
سورة القلم [68: 52]
{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} :
{وَمَا هُوَ إِلَّا} : الواو حالية تفيد التّوكيد، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد، إلا: حصراً.
{ذِكْرٌ} : أي: القرآن ذي الذكر؛ أي: فيه تذكير للعالمين.
{لِّلْعَالَمِينَ} : اللام لام الاختصاص، العالمين: الجن والإنس والملائكة، ولم يقل: ذكرى للعالمين. ارجع إلى الآية (90) من سورة الأنعام لمعرفة الفرق بين الآيتين.
سورة الحاقة [69: 1]
سورة الحاقة
ترتيبها في القرآن (69) وترتيبها في النّزول (78).
{الْحَاقَّةُ} :
القيامة أو اسم من أسماء يوم القيامة أيْ: يوم تعرف الأمور على حقيقتها، أو تظهر فيه الحقائق من حساب وثواب، وينال كل إنسان حقَّه من خير وشرٍّ، ويتحقَّق فيه كل وعد ووعيد، ومن أسماء يوم القيامة الطامة، القارعة، الصاخة، الواقعة، الأزفة.
سورة الحاقة [69: 2]
{مَا الْحَاقَّةُ} :
ما استفهام فيها معنى التّفخيم والتّهويل أيْ: ما هي الحاقة؟ أو هل تدرون ما حقيقة القيامة؟
سورة الحاقة [69: 3]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} :
تكرار ما للتوكيد والاستفهام والتهويل والتعظيم.
{أَدْرَاكَ} : أعلمك أو أخبرك ما الحاقة، أيْ: أنت لأعلم لك بكنهها ومدى عظمها وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، والخطاب موجَّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً إلى أمته.
الفرق بين ما أدراك وما يدريك: كل آية وكلّ شيء أو أمر أو خبر ذكر معه ما أدراك: فقد أدراه إياه، أيْ: أخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه ما هو، وبيَّنه له، وكلّ آية شيء أو أمر أو خبر ذكر معه يدريك لم يدره، أو يخبره الله به بعد مثل السّاعة.
سورة الحاقة [69: 4]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} :
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} : قبيلة ثمود أو قوم صالح عليه السلام ومنازلهم بالحجر بين الشّام والحجاز (مدائن صالح) وثمود هم عاد الثانية، وهم أتباع، أو من ذرية عاد الأولى.
{وَعَادٌ} : قبيلة عاد أو قوم هود عليه السلام ، ومنازلهم بالأحقاف ما بين عُمان وحضرموت باليمن، وهم عاد الأولى وهم بقية من ذرية نوح.
{بِالْقَارِعَةِ} : بيوم القيامة، القارعة اسم من أسماء يوم القيامة، وسمِّيت بالقارعة: من القرع وهو الضّرب بشدة، تقرع القلوب بالفزع والأهوال، والباء للإلصاق. ارجع إلى سورة القارعة آية (1-5) لمزيد من البيان.
وبالقارعة: تعني: كذبت ثمود وعاد بالقارعة بأهوال القيامة والبعث والحساب.
بالقارعة التي حلَّت بهم في الدنيا، وبالقارعة التي ستحل بهم في الآخرة.
وتقديم قوم ثمود على عاد مخالفة للتّرتيب الزمني، فقد جاء قوم عاد قبل قوم ثمود، وقد يكون التقديم للأقرب زمناً بالنسبة لزمن المتكلم أو لأنّ تكذيب ثمود بالنّاقة كمعجزة أشد من تكذيب قوم عاد، أو تكذيب ثمود بالقارعة أشد من تكذيب عاد بها.
سورة الحاقة [69: 5]
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} :
{فَأَمَّا} : الفاء تفريعية، أمّا: حرف شرط وتفصيل.
{ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا} : الفاء للترتيب والتّعقيب.
{بِالطَّاغِيَةِ} : الباء للإلصاق، الطّاغية: العقاب بالصيحة التي تعقبها الرجفة أو الزلزلة الشديدة فالأذن تتحمل شدة معينة من الصوت أعلاها (70 ديسيبل) عندها يبدأ بالانزعاج، وعندما تصل شدة الصوت إلى (100 ديسيبل) أو أكثر واستمرت لفترة طويلة تؤدِّي شدة الصوت لإتلاف الخلايا العصبية في الأذن الداخلية ويصاب الإنسان بالصمم العصبي.
والانفجارات الشديدة أعلى من (140 ديسبيل) قد تؤدِّي إلى سكتة قلبية أو اضطرابات في نظم القلب، وبالتالي إلى توقفه، وخاصة أن قوم ثمود كانوا يعيشون في بيوت منحوتة من الصخر فكان صدى الصوت شديداً ورهيباً.
سورة الحاقة [69: 6]
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} :
{بِرِيحٍ} : الرّيح في القرآن تحمل معنى العذاب والرّياح تحمل معنى الرّحمة.
{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} : ريح شديدة البرودة تؤدِّي إلى انقباض الأوعية الدموية وعدم وصول الدّم إلى أصابع اليدين والقدمين، وبالتّالي إلى موت الجلد والألم الشّديد، ثم إلى اضطراب القلب وتوقُّفه بسبب هبوط حرارة الجسم، صرصر: لها صوت الصّفير، الصّر: قد يعني البرد الشّديد أو شدة الصّوت.
{عَاتِيَةٍ} : متجاوزة كلّ حدود الطّاقة والسرعة على تحملها شديدة البرودة برودتها تجاوزت في حدتها وزمنها وسرعتها كلّ المعايير السّابقة.
سورة الحاقة [69: 7]
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} : سلَّطها عليهم أو قدَّرها عليهم.
{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} : حسوماً متتابعات أو تباعاً أو من الحسم: الاستئصال والقطع أيْ: تستأصل استئصالاً. وذكر سبع ليال وثمانية أيام ليؤكد لنا أن العقاب بالريح بدأ بالنهار وانتهى بالنهار؛ لكي يروه بأعينهم ولو جاء بالليل لكان أهون، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (19) في سورة القمر وهي قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} يمكن الجمع بين الآيتين بالقول: إن العرب تعبر عن اليوم بالأيام كقولهم: (يوم بعاث)، و (في يوم نحس مستمر): يعني اليوم الذي بدأت به الريح تهب ثم استمرت ثمانية أيام حُسوماً.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} : فترى القوم في تلك الأيام والليالي صرعى: موتى ساقطين على الأرض، جمع صريع.
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} : جذوع نخل خالية الأجواف أو ساقطة، شبههم بالنّخل السّاقطة بلا رؤوس وقيل: كانوا طويلي القامة يشبهون النّخل المنقعر: المنقلع والفارغ من داخله، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (20) في سورة القمر وهي قوله تعالى:{تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} : نجد أن كل منقعر خاوي، والخاوي: يشمل المنقعر وغير المنقعر. ارجع إلى سورة القمر آية (20) لمزيد من البيان والفرق بين الآيتين.
سورة الحاقة [69: 8]
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} :
{فَهَلْ} : الفاء للتوكيد، هل: للاستفهام يفيد النّفي.
{تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} : من: الابتدائية باقية من البقاء أو هل ترى لهم من أثر أيْ: هلكوا أو استأصلوا أجمعين.
سورة الحاقة [69: 9]
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} :
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} : ثمّ جاء فرعون ومن قَبْله؛ أيْ: من الأمم الكافرة.
{وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} : المنقلبات، مشتقة من ائتفك انقلب، والمراد بالمؤتفكات: هي قرى قوم لوط. قيل: كانت خمس قرى: هي سدوم، وعمورية، ودرما، ومنع، وصعر، اقتلعها جبريل عليه السلام ، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها، والإفك هو الكذب المتعمَّد والانحطاط في السلوك.
{بِالْخَاطِئَةِ} : بالأفعال الخاطئة ذات الخطأ وأسند الخطأ إلى القرى على سبيل المجاز، والمراد بها أصحابها مثل الشّرك والمعاصي والمنكر وإتيان الرجال شهوة.
سورة الحاقة [69: 10]
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} :
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} : عصت كلّ أمة رسولها أو كذبوا رسلهم ولم يقل: فعصوا رسل ربهم، وإنما قال: رسولَ ربهم؛ لأن الرسل رسالتهم واحدة فالرسل يمثلون الرسول والرسول يمثل الرسل.
{فَأَخَذَهُمْ} : الفاء فاء السّببية بصيغة المجهول وهو الله سبحانه، من الأخذ: وهو الانتقام أي: انتقم منهم فأهلكهم.
{أَخْذَةً رَابِيَةً} : أخذة شديدة زائدة في الشّدة من ربا الشّيء يربو زاد وتضاعف.
سورة الحاقة [69: 11]
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ} :
{إِنَّا لَمَّا} : إنا: للتعظيم، لما: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{طَغَى الْمَاءُ} : حدث الطّوفان طوفان نوح طغا الماء: جاوز حده المعتاد في الارتفاع، كما قال تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 11-13].
{حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ} أيْ: حملنا أجدادكم أو آباءكم نوح وذريته، وكما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، في: ظرف، الجارية: الفلك أو السّفينة، والخطاب إلى كفار مكة وغيرهم وقيل: حملناكم؛ لأنهم كانوا في أصلاب الذين نجوا من ذرية قوم نوح، كما أن كل البشرية كانت في صلب آدم وحواء.
سورة الحاقة [69: 12]
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} :
{لِنَجْعَلَهَا} : اللام للتوكيد، والضّمير يعود على الجارية (الفلك) أو عملية الإنقاذ أو إنجاء السّفينة وإغراق الكافرين أو تشمل كلّ ما حدث.
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص لكم خاصة أيها المسلمون.
{تَذْكِرَةً} : عبرة وموعظة أيْ: ذكرى تذكرونها فتشكرون نعمة ربكم عليكم. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (15) لمزيد من البيان.
{وَتَعِيَهَا} : من الوعي: وهو الفهم والإدراك للحقيقة والغاية أو النتيجة والعبرة بعد سماع القصة أو الآيات فتذكرها وتقصها مراراً.
{أُذُنٌ} : جاءت بصيغة الإفراد والتّنكير للدلالة على قلة الأذان الواعية الحافظة لهذه الوقائع أو التي تعظ النّاس بقصة نوح.
{وَاعِيَةٌ} : أيْ: كلّ ما تحفظه في الذاكرة أو في نفسك وتذكره فقد وعيته والأذن الواحدة الواعية أهم بكثير من الآذان الكثيرة غير الواعية للحوادث والأذن الواعية التي تؤمن بالله وتشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق القرآن، فكان العثور على هذه السفينة من أعظم الدلائل على قدرة الله تعالى وعظمته.
سورة الحاقة [69: 13]
{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} :
{فَإِذَا} : الفاء استئنافية، إذا: ظرفية زمانية بمعنى حين.
{نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} النّفخة قيل: النفخة الأول، وجاءت بصيغة التّنكير للتهويل والتّعظيم، والنّافخ هو إسرافيل عليه السلام ، واحدة: للتوكيد.
سورة الحاقة [69: 14]
{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} :
{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} : أيْ: يوم تقوم الساعة أيْ: يبدأ التهدم الكوني فتحمل الأرض بما فيها الجبال وتدك دكة واحدة أيْ: تدق وتتكسر وتتفتت بعد الزلزلة والرجفة والرج والجبال تدك أيْ: تتفتت بعد أن ترجف مع الأرض وتسير وتنسف وتصبح كثيباً مهيلاً بعد مرحلة (وبست الجبال بساً) أيْ: فتتت، ثم تكون كالعهن، ثم كالسراب وتزول، وأما الأرض فيقبضها بيمينه سبحانه كل ذلك يحدث قبل خلق الأرض الجديدة والسموات، والتي تحوي على بقايا الأرض القديمة بما فيها القبور والأشلاء والعظام.
أيْ: سيخلق الله سبحانه أرضاً جديدة وسماء جديدة، والله سبحانه سيدك الأرض ليوسعها ويدك الجبال فيزيلها لكي تتسع هذه الأرض الجديدة للبلايين من البشر من زمن آدم إلى آخر من يخلق.
سورة الحاقة [69: 15]
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} :
فيومئذٍ: قامت القيامة أو الساعة أي: حين تدك الأرض والجبال وتتفتت وقعت الواقعة: اسم للقيامة أو للساعة.
سورة الحاقة [69: 16]
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} :
وأما ما يحدث للسماء حين تقوم الساعة، فهو المور {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9]، ثم الانشقاق والانفطار، كقوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقوله تعالى:{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وقوله:{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، ثم تصبح واهية، ثم وردة كالدهان، وتطوى كما قال تعالى:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، ثم يخلق سبحانه سموات جديدة.
{وَاهِيَةٌ} : ضعيفة غير متماسكة بعد أن فقدت قواها الجاذبية والمغنطيسية والكهربائية بعد أن كانت محكمة كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، ولذلك سبحانه ذكر كلمة انشقت في عدة آيات ليدل على شدة تماسك وبناء السموات بقوة التي وصفها سبحانه {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت أو فطور، ويومئذ تفتح السماء فتكون أبواباً، كما قال تعالى:{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]، أيْ: طرقاً ومسالك لنزول الملائكة.
سورة الحاقة [69: 17]
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} :
{وَالْمَلَكُ} : المراد به اسم الجنس جنس الملائكة.
{عَلَى أَرْجَائِهَا} : أطرافها جمع رجا أيْ: جانب أيْ: جوانبها وحافاتها فبعد أن كانت السّماء مكانَهم ومستقرَّهم انشقت وانفطرت صاروا إلى أطرافها وجوانبها ينتظرون الأمر بالنّزول إلى أرض المحشر ليحيطوا بالمخلوقات أو ينتظرون أمر ربهم.
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} : حمل العرش مجاز، ولا يعلم به إلا الله، فوقهم: أيْ: يرى الناس عرش ربهم فوقهم يحمله {ثَمَانِيَةٌ} : نكرة ثمانية من الملائكة أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف أو ملايين من الملائكة، كما قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210].
سورة الحاقة [69: 18]
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}
{يَوْمَئِذٍ} يوم ظرف أضيف إلى ظرف إذ.
{تُعْرَضُونَ} : من العرض وأصل العرض: إظهار الشّيء إلى من يريد التّأمل فيه مثل عرض السّلعة على المشتري حتّى يتأملها، عرض العباد على الله سبحانه للحساب: أي: المثول والحضور بين يدي الله سبحانه. صفاً صفاً كما قال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48].
{لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} : لا: النّافية، تخفى منكم خافية: من ذواتكم وأقوالكم وأفعالكم.
سورة الحاقة [69: 19]
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} :
يكون ذلك بعد الحساب والمسائلة واطِّلاع العباد على ما قدَّموه من أعمال وإقامة الشهود والمعاتبة، ثم إيتاء العباد كتبهم.
{فَأَمَّا} : الفاء استئنافية، أما: حرف تفصيل.
{مَنْ} : لابتداء الغاية.
{أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} : أوتي: أعطي كتابه: كتاب أعماله أو سجلّه، بيمينه: بيده اليمنى.
{فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} : هاؤم: هاكم (بالعامية) وهاؤم تقولها للجمع أو للجماعة ها: هاء الممدودة خُذ، هاؤم فعل أمر بمعنى خذوا والفاعل ضمير تقديره: أنتم.
اقرؤوا كتابيه: تفاخراً وسروراً، كتاب أعمالي بعد أن يطلع على ما فيه.
سورة الحاقة [69: 20]
{إِنِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} :
{إِنِّى} : للتوكيد.
{ظَنَنْتُ} : علمت وأيقنت، الظّن هنا يصل إلى درجة اليقين أو العلم الثّابت.
{أَنِّى} : للتوكيد.
{مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} : أيْ: أيقنت أني سيحاسبني الله في الآخرة، أي: سأبعث وأحاسب في الآخرة، ملاق حسابيه: شبه الحساب بصديق سيجتمع به لا محالة يوم القيامة، ملاق: بدلاً من ملاقي: ملاقٍ تدل على أنّه ظن أنّ حسابه سيكون قصيراً ويسيراً ولن يطول وبعدها يذهب إلى الجنة. ولو قال: ملاقي، فهي تدل على حساب طويل.
سورة الحاقة [69: 21]
{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} :
{فَهُوَ} : الفاء استئنافية، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{فِى} : ظرفية.
{عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} : عيشة: مصدر للفعل الثّلاثي عاش، أي: عيشة صاحبها راض عنها أي: عيشة رفيعة لم تخطر على بال بشر مليئة بالنّعيم وخالية من الخوف والجوع والمرض والموت، وأيِّ مكروه، فهي خالية من شوائب الدنيا وكدرها.
سورة الحاقة [69: 22]
عالية الدرجات أو مرتفعة في السّماء أو رفيعة القصور والمباني والغرف.
سورة الحاقة [69: 23]
{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} :
{قُطُوفُهَا} : من القطف: ما يجنى من الثّمار.
{دَانِيَةٌ} : قريبة جداً يتناولها كيف يشاء حتّى وهو متكئ.
سورة الحاقة [69: 24]
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} :
يقال لهم في الجنة:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا} : من طعام الجنة وشرابها.
{هَنِيئًا} : أيْ: سائغاً مستلذاً طيباً عند أكله سهل الهضم أي: خال من أيِّ صعوبة في الهضم أو اختلاطات هضمية كما في أطعمة الدّنيا.
{بِمَا} : الباء للإلصاق والتّعليل أو سببه، ما: بمعنى الذي.
{أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} : قدَّمتم من الأعمال الصّالحة في أيّام الدّنيا الماضية. وقدّر البقاء في الأرض بالأيام رغم أننا نظنها سنيناً طويلة.
سورة الحاقة [69: 25]
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} :
{وَأَمَّا} : الواو استئنافية، أمّا: للتفصيل.
{مَنْ} : لابتداء الغاية.
{أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} : أُعطي كتابه (سجل أعماله) بشماله: الباء للإلصاق، بيده الشّمال أو اليسرى أو من وراء ظهره.
{فَيَقُولُ يَالَيْتَنِى} : يا ليت: تستعمل للتمني المستحيل حدوثه.
{لَمْ} : حرف نفي.
{أُوتَ كِتَابِيَهْ} : أُعطَى كتابيه لما فيه من السّيئات، أوت: حذفت الياء: لأنّه لا يريد أن يطلع على كتابه ولو نظرة واحدة.
سورة الحاقة [69: 26]
{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} :
{وَلَمْ} : للنفي، وتكرار لم تفيد التوكيد وفصل كلّاً من إيتاء الكتاب والدراية بنتيجة أعماله على حِدَةٍ، أو كلاهما معاً.
{أَدْرِ} : أُخبرت والإخبار هنا يكون بعد جهل.
{مَا} : استفهام.
{حِسَابِيَهْ} : ما محصلة أعمالي أو جزاء أعمالي.
سورة الحاقة [69: 27]
{يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} :
{يَالَيْتَهَا} : يا: أداة نداء، ليت: من أدوات التّمني المستحيل حدوثها.
{كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} : الهاء تعود على الموتة التي ماتها في الدّنيا، كانت القاضية: أي: يتمنَّى دوام الموت ولم يبعث مرة أخرى ليحاسب على أعماله.
سورة الحاقة [69: 28]
{مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ} :
{مَا} : النّافية، أيْ: لم ينفعني أو يدفع عني مالي عذاب الله.
{مَالِيَهْ} : الذي جمعته في الدّنيا، وكيف يأتيه ماله ليدفعه، أو أين هو ماله وهل هو كاف، فقد أخبر الله سبحانه لو أنّ لهم ما في الأرض ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم.
سورة الحاقة [69: 29]
{هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ} :
زال عني مُلكي وقوتي وسلطاني ومكانتي بين القوم وعزي وجاهي ومنصبي.
سورة الحاقة [69: 30]
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} :
أيْ: يأمر الله سبحانه الملائكة: خذوه فغلوه: اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال.
سورة الحاقة [69: 31]
ثمّ أدخلوه الجحيم ليحرق ويُصلى في نارها، ثمّ لتباين الدّرجة بين الغل والتّصلية بالنّار.
سورة الحاقة [69: 32]
{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} :
{ثُمَّ} : للدلالة على التفاوت بين ربطه بالسلاسل والتصلية في الجحيم.
{فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} : طولها (70) ذراعاً، وقد يكون الطول للمبالغة في ضخامة السلسلة.
{فَاسْلُكُوهُ} : قيِّدوه كي يسحب بها في الجحيم ويسجر في النّار.
سورة الحاقة [69: 33]
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} :
ثمّ بيَّن أسباب العذاب الشّديد والجحيم والاصطلاء في نارها.
{إِنَّهُ كَانَ لَا} : كان في الدّنيا، لا: النّافية.
{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} : كان لا يؤمن بالله ووحدانيَّته، كان كافراً جاحداً لا يصدق بوجود الله سبحانه.
سورة الحاقة [69: 34]
{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} :
{وَلَا} : الواو عاطفة عطف حرمان المسكين على عدم الإيمان بالله حد من شدة أهميته (ولم يقل: الفقير)، والمسكين من يملك ما لا يكفيه.
{يَحُضُّ} : يحث على طعام المسكين والفقير، وذكر الحضَّ دون الفعل أي: هو لا يطعم المسكين أو الفقير، ولا حتى يحثُّ الآخرين على فعل ذلك، كقوله تعالى:{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37].
سورة الحاقة [69: 35]
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} :
{فَلَيْسَ} : الفاء للتوكيد، ليس: حرف نفي.
{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، له خاصة.
{الْيَوْمَ} : يوم القيامة.
{هَاهُنَا} : أيْ: في جهنم.
{حَمِيمٌ} : صديق مشفق ينفعه أو يشفع له، أو يدفع عنه العذاب، صديق مخلص حميم من احتم، ويقال: احتم فلان لفلان: أي: احتد أو تعصب له كما يحتد القريب لحماية ذويه.
سورة الحاقة [69: 36]
{وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} :
{وَلَا} : لزيادة توكيد النّفي.
{طَعَامٌ إِلَّا} : حصراً.
{مِنْ} : لابتداء الغاية.
{غِسْلِينٍ} : قيل: قيح أهل النّار أو دم القيح أو شجر تسمَّى غسلين خاص لإطعام أهل النّار أو طعام سيِّئ للغاية لا يعلمه إلا الله والغسلين قيل: هو الغساق وطعام أهل النار أيضاً الضريع والزقوم وشرابهم قيل: الحميم والغسلين والغساق.
سورة الحاقة [69: 37]
{لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِـئُونَ} :
{لَا} : النّافية.
{يَأْكُلُهُ إِلَّا} : حصراً.
{الْخَاطِـئُونَ} : الآثمون أصحاب الخطايا، الخاطئون: من تعمد الخطأ وأقدم على المعصية أو الذّنب بتعمُّد، ويعلم أنّه ذنب أو معصية ومات ولم يتب بينما المخطئون: من يرتكب الخطأ من دون تعمُّد. ارجع إلى سورة البقرة الآية (286) لمزيد من البيان في أخطأنا.
سورة الحاقة [69: 38]
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} :
{فَلَا أُقْسِمُ} : الفاء استئنافية، لا أقسم: ارجع إلى الآية (1) من سورة القيامة للبيان، والقسم لا يكون إلا بشيء عظيم لينبه الناس إلى عظمته وعظمة جواب القسم.
{بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: بمعنى الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي).
{تُبْصِرُونَ} : أي: المشاهدات، وقيل: ما تبصرون تشكل (1% واحد في المئة).
سورة الحاقة [69: 39]
{وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} : وقيل: تشكل 99% تسع وتسعون في المئة.
{وَمَا} : الواو عاطفة. ما: الذي وما أوسع شمولاً من الذي تشمل كل شيء وتكرار ما للتوكيد وفصل ما نبصر عما لا نبصر.
{لَا تُبْصِرُونَ} : لا: النّافية، تبصرون: من مَلَكوت السّموات والأرض (المغيبات) فكل ما نراه في صفحة السماء هو (1%) من مليارات المجرات ومئات المليارات من النجوم والكواكب والأقمار، فقد قيل، أو قُدِّر أن مجرة درب التبانة تحوي ما يقارب من (400 مليار نجم) وحدها.
سورة الحاقة [69: 40]
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} :
{إِنَّهُ} : إن: للتوكيد.
{لَقَوْلُ} : اللام: للتوكيد، ثلاث توكيدات: القسم، وإن، واللام، إنه لقول رسول كريم هو جواب القسم.
{لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} : قيل: رسول كريم هو جبريل عليه السلام وقيل: محمّد صلى الله عليه وسلم، وقد يكون المقصود كلاهما جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء: 192-194].
سورة الحاقة [69: 41]
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} :
{وَمَا هُوَ} : الواو عاطفة، ما النّافية، هو ضمير فصل يفيد التّوكيد ويعود على القرآن الكريم.
{بِقَوْلِ شَاعِرٍ} : أي: القرآن ليس بقول شاعر، كما تزعمون؛ لأن نظم الشعر معروفة عند الشعراء، وعلماء النحو والبلاغة، والقرآن مخالف لنظم الشعر فمن قال أنه شعر، أو أن محمداً شاعر قد كفر وليس بمؤمنٍ.
{قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} : (ما) هنا للتوكيد، أصلها قليلاً تؤمنون. وقليلاً ما تؤمنون لها عدة معانٍ:
1 -
العدد قليل أو كمية الإيمان قليلة أي: عدد المؤمنين قليل جداً وكمية إيمانهم قليلة كقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
2 -
أي: القرآن ليس بقول شاعر قليلاً ما تصدقون ذلك.
3 -
قليلاً ما تؤمنون أنّ القرآن منزل من عند الله العزيز الحكيم.
ونفي الشّعر عن القرآن أيْ: إذا قرأه بعض الشّعراء الذين يعلمون الشّعر ونظمه وأوزانه يعلمون أنه ليس بشعر.
سورة الحاقة [69: 42]
{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} :
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا: النافية.
{بِقَوْلِ كَاهِنٍ} : الكاهن هو الذي يزعم معرفة الغيب أو يتحدث بالغيب من دون دليل أو سلطان، وبما أن كلام القرآن يخالف أقوال الكهنة وهذا لا يحتاج إلى كثير من التذكير بل قليل، ولذلك قال تعالى:{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .
{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} : ما: للتوكيد، أي: قليلاً تذكرون وأصلها تتذكرون أي: لو تذكرتم لعلمتم أنّ القرآن ليس بكلام الكُهان أيضاً.
سورة الحاقة [69: 43]
{تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :
{تَنزِيلٌ} : أي: من عند الله تعالى، نزل به جبريل عليه السلام ، حتى يبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ارجع إلى سورة الواقعة الآية (80) للبيان، وسورة الشعراء آية (192).
سورة الحاقة [69: 44]
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} :
أي: لو افترى محمد شيئاً ولو آية من القرآن وجاء بها من عند نفسه.
وقيل: هذه الآية ردٌّ على الآية (33) من سورة الطّور {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33]: أي: تَقَوَّل القرآن أي: افتعله أو اختلقه من تلقاء نفسه والتّقوُّل يعني: التّكلُّف والكذب، فجاء الرّد على ذلك بهذه الآية.
{وَلَوْ} : لو شرطية.
{تَقَوَّلَ} : افترى وتكلَّف وافتعل أو نقل بعض الأقاويل والتقوُّل هو نسبه القول إلى من لم يقله.
{عَلَيْنَا} : أيْ: لو قال محمّد قولاً من عنده ونسبه إلينا، أي: إلى الله سبحانه وجاء بصيغة التّعظيم.
{بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} : الأقاويل: جمع أقوال والأقوال جمع قول فهو جمع الجمع ولم يقل: بعض الأقوال؛ لأنّ الأقوال جمع قول حق، والأقاويل جمع قول مفترى وكذب، والأقاويل فيها معنى التّحقير والتّصغير. والأقاويل ذكرت مرة واحدة في القرآن في هذه الآية.
سورة الحاقة [69: 45]
{لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} :
{لَأَخَذْنَا مِنْهُ} : اللام لام التّوكيد، أخذنا منه: أي: انتقمنا منه بشدة وقوة.
{بِالْيَمِينِ} : اليمين تعني: القوة وقوة الإنسان عادة تكون في يده اليمنى واليمين: يعني: بالحق أي: لأخذناه بشدة وعنف، الباء للإلصاق؛ أي: بشكل تام وكامل.
سورة الحاقة [69: 46]
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} :
{ثُمَّ} : تدل على تفاوت الصّفات بين الأخذ باليمين وقطع الوتين ولا تدل (ثم) على التّراخي في الزّمن، ومنه: تعود على الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم فقطع الوتين وهو الشّريان الأبهر الخارج من القلب قطعه يؤدِّي إلى الموت حالاً.
سورة الحاقة [69: 47]
{فَمَا مِنْكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} :
{فَمَا مِنْكُمْ} : الفاء عاطفة تفيد التوكيد، ما: النّافية، منكم: خاصة أنتم يا قريش.
{مِّنْ أَحَدٍ} : استغراقية تشمل الواحد والاثنين أو الجماعة.
{عَنْهُ} : تعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعود على قطع الوتين.
{حَاجِزِينَ} : دافعين عنه أو مانعين عنه القطع، جاءت بصيغة الجمع أي: مهما كان عددكم لن تقدروا على ذلك.
سورة الحاقة [69: 48]
{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} :
{وَإِنَّهُ} : الواو: عاطفة وإنه للتوكيد، والضّمير يعود على القرآن الكريم.
{لَتَذْكِرَةٌ} : اللام لام التّوكيد، تذكرة: شيء يذكركم بخالقكم وربكم وبالآخرة.
{لِّلْمُتَّقِينَ} : اللام لام الاختصاص، المتقين: أي: الذين أطاعوا أوامر الله تعالى وتجنَّبوا نواهيه وأصبحت صفة التّقوى عندهم ثابتة أي: تذكرة تنفع المتقين خاصة.
سورة الحاقة [69: 49]
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} :
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ} : وإنا: للتعظيم، لنعلم: اللام للتوكيد.
{أَنَّ} : تفيد الاستقبال أي: لنعلم أنّ منكم مكذبين بالقرآن الآن، وفي المستقبل.
{مِنْكُمْ} : من للتبعيض والكاف للخطاب، مكذبين: بالقرآن ومنكم مصدقين.
{مُكَذِّبِينَ} : جملة اسمية تدل على الثّبوت أي: صفة التّكذيب عندهم ثابتة.
سورة الحاقة [69: 50]
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} :
{وَإِنَّهُ} : للتوكيد، والضّمير يعود على القرآن يكون سبباً لحسرتهم يوم القيامة والنّدم؛ لأنهم كذبوا به.
{لَحَسْرَةٌ} : اللام للتوكيد، الحسرة: أشد النّدم.
{عَلَى الْكَافِرِينَ} : على تفيد المشقة والصّعوبة أي: إذا رأى الكفار ثواب المصدقين بالقرآن يوم القيامة سيشعرون بحسرة وندم شديد على ما فرطوا بحق القرآن.
سورة الحاقة [69: 51]
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} :
{وَإِنَّهُ} : للتوكيد والضّمير يعود على القرآن.
{لَحَقُّ} : اللام للتوكيد.
{الْيَقِينِ} : هو العلم بالحق العلم الذي ليس هناك غيره حق اليقين: أعلى درجات اليقين، فاليقين ثلاث درجات هي: علم اليقين، ثم عين اليقين وأعلاها حق اليقين، والحق هو الشّيء الثابت الذي لا يتغيَّر أو يزول، وإضافة الحق إلى اليقين للتوكيد، وفي هذا نفي للقرآن عن كلّ باطل أو هو من عند غير الله سبحانه. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان.
سورة الحاقة [69: 52]
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} :
{فَسَبِّحْ} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدر أي: إن كان تنزيل من رب العالمين. فسبح: نزِّه وبرِّئ: الله تعالى والقرآن عما يقولونه أو يدعونه باطلاً، وسبحه لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه تسبيحاً مطلقاً وشكراً على نعمه.
{بِاسْمِ رَبِّكَ} : الباء للإلصاق، اسم ربك: وهو الله تعالى الإله المعبود واجب الوجود.
{الْعَظِيمِ} : ارجع إلى سورة الواقعة الآية (74) للبيان.
سورة المعارج [70: 1]
سورة المعارج
ترتيبها في القرآن (70) وترتيبها في النّزول (79).
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} :
سبب النّزول: كما ذكر الجمهور وابن عباس ومجاهد: نزلت هذه الآية رداً على النضر بن الحارث حين دعا استهزاءً وتعنتاً قائلاً: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
{سَأَلَ سَائِلٌ} : دعا داع مثل النضر بن الحارث.
{بِعَذَابٍ} : الباء للإلصاق، دعا داع بالعذاب لنفسه، أو أن يحل به العذاب، ولو قال: سأل سائل عن عذاب واقع، لكان سؤال استفهام ولا يدعو بالعذاب لنفسه مثلاً يسأل على نوعه أو زمنه وغير ذلك.
{وَاقِعٍ} : لا محالة حتماً حادث؛ أي: نازل بشدة لا محالة.
سورة المعارج [70: 2]
{لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} :
{لِّلْكَافِرِينَ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، نازل بالكافرين لا محالة.
{لَيْسَ لَهُ} : ليس للنفي، له: أي: العذاب.
{دَافِعٌ} : أيْ: لا أحد يستطيع منعه أو ردَّه إذا وقع أو حلَّ.
سورة المعارج [70: 3]
{مِنَ اللَّهِ ذِى الْمَعَارِجِ} :
{مِنَ اللَّهِ} : لابتداء الغاية، أيْ: مُنزل من الله تعالى.
{ذِى الْمَعَارِجِ} : ذي: صاحب وذي أسمى وأشرف من صاحب المعارج، المعارج: من العروج، والعروج لغة: هو سير الجسم في خط منعطف منحنٍ، أي: الصّعود مع الميلان، أيْ: لا يتحرك أو يصعد في خط مستقيم، والعروج علمياً: هو كلّ جرم متحرك أو يتحرك في السّماء يخضع لقوتين متعارضتين، الأولى: قوة الجاذبية أيْ: قوة التّجاذب التي تربط الأجرام السّماوية ببعضها ومنها الأرض، والثّانية: القوة الدّافعة أو الطّاردة.
ويخضع كلّ جرم سماوي متحرك لقانون العروج أو التّحرك الزّاوي، أي: بشكل خط منحن يمثل محصلة كلّ من القوتين الجذب والطّرد المؤثرة فيه، فالعروج سببه اختلاف جاذبية الأجرام السماوية المختلفة من النجوم والكواكب والأقمار والمذنبات.
ذي المعارج: أيْ: سبحانه هو المتحكم أو المتصرف أو المدبِّر لهذه الأجرام السّماوية المتحركة في السّماء من دون أن تصطدم ببعضها البعض، أو تعني الصعود إليه لا يكون إلا بالعروج لوجود هذه الأجرام السماوية المختلفة القوى والطاقة.
سورة المعارج [70: 4]
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} :
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} : تعرج الملائكة والروح أيْ: جبريل عليه السلام ، تعرج: العروج كما بينا سابقاً هو الصّعود مع الميلان أيْ: بخط منحنٍ غير مستقيم، وهذا ما اكتشف حديثاً من أبحاث غزو الفضاء، تعرج الملائكة والرّوح.
{إِلَيْهِ} : إلى الله تعالى لتتلقى الأوامر الإلهية منه تعالى مباشرة، ومن دون رؤيته عز وجل.
{فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} : أفضل ما قيل في تفسير خمسين ألف سنة هو مقدار يوم القيامة لما فيه من الأحوال، والأحداث الجسام، وأما قوله تعالى في: الآية (5) في سورة السجدة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} يعني: العروج من الأرض إلى سدرة المنتهى يحتاج إلى ألف سنة مما نُعد، وأما قوله تعالى في الآية (47) في سورة الحج {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} يعني: العذاب في جهنم يوماً واحداً يعادل ألف سنة، وهناك من قال الزّمن المحتاج للعروج في أقطار السّموات والوصول إلى سدرة المنتهى لتلقي الأوامر الإلهية هو (50 ألف سنة) من سني الدّنيا، وقيل: ألف سنة للوصول إلى السّماء الدّنيا، و (49 ألف سنة) للوصول إلى سدرة المنتهى بعد الوصول إلى السماء الدنيا، ويعرج إليه سبحانه الروح والملائكة بسرعة قدرت بـ (15 مليون كم/ بالثانية)، والله أعلم.
وكما قال ابن عبّاس وبعض المفسرين: المراد باليوم هنا هو يوم القيامة تهويلاً وتخويفاً وطوله (50 ألف سنة) من سني الدّنيا هذا بالنّسبة للكافر، أمّا بالنّسبة للمؤمن فيختلف حسب عمله.
سورة المعارج [70: 5]
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} :
المخاطب في هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتّالي أمته.
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدَّر أيْ: إن سأل سائل بعذاب واقع، فاصبر.
صبراً جميلاً: الصّبر الجميل هو الصّبر الذي لا يصاحبه جزع ولا شكوى إلى غير الله تعالى وهو صبر غير دائم.
وهناك فرق بين (صبرٌ جميلٌ) و (صبراً جميلاً)، صبر جميل: أي: اصبر صبراً دائماً مهما طال (جملة اسمية) أما صبراً جميلاً: أيْ: صبر غير دائم فهو (جملة فعلية).
سورة المعارج [70: 6]
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} :
{إِنَّهُمْ} : تعود على الكفار.
{يَرَوْنَهُ} : يوم القيامة (العذاب).
{بَعِيدًا} : مستحيل الوقوع أو لا يؤمنون بيوم الحساب أصلاً، أو بعيداً عن الوقوع؛ أي: يحتاج إلى زمن طويل، أو يرون مقدار القيامة (50 ألف سنة) أمر بعيد عن التّصديق.
سورة المعارج [70: 7]
{وَنَرَاهُ قَرِيبًا} :
ونراه: للتعظيم؛ أي: سبحانه يراه وأي يوم القيامة أو العذاب، قريب الوقوع كقوله:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، أو {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].
سورة المعارج [70: 8]
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} :
{يَوْمَ} : القيامة.
{تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} : المهل: كخليط المعادن المختلفة المذابة أو المنصهرة (النّحاس والرّصاص والذّهب) بعد أن كانت زرقاء صافية يصبح لونها كعكر الزّيت المتشكل من إذابة معادن مختلفة، وفي مرحلة أخرى تكون وردة كالدّهان. ارجع إلى سورة الرحمن آية (37).
سورة المعارج [70: 9]
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} :
ويوم القيامة تكون الجبال كالعهن: الصّوف المصبوغ ألواناً مختلفة، وذلك لكون الجبال ذات ألوان مختلفة، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27].
فالجبال تمر بمراحل متعددة منها السّير والدّك والنّسف، ثم تصبح كثيباً مهيلاً، ثمّ عهناً منفوشاً، ثمّ هباءً منبثاً، وفي آية أخرى {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة: 5] الصّوف المندوف.
سورة المعارج [70: 10]
{وَلَا يَسْـئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} :
{وَلَا} : النّافية.
{يَسْـئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} : بفتح الياء، أيْ: لا يسئل قريب قريبه، أو صديق صديقه، أو خليل خليله من شدة الأهوال والخوف والرّعب. ارجع إلى سورة الحاقة آية (35) للبيان.
الكل يقول: اللهم نفسي نفسي، ورب قائل يقول: لا يَسألُ حميم حميماً؛ لأنّهم لا يرونهم أو يبصرونهم، فجاء الرّد على هذا التّساؤل بقوله: يبصرونهم، أيْ: يشاهدونهم بأعينهم ومع ذلك لا يسألونهم.
سورة المعارج [70: 11]
{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} :
{يُبَصَّرُونَهُمْ} : ولم يقل: يبصرونهم بتشديد الصاد من بصرته بالشّيء أيْ: أوضحته له حتّى يبصره، أو يحضر الله سبحانه القريب أو الحميم أمام حميمه عمداً، فلا يسأله عن شيء، يُبصَّرونهم: تعني بقصد وتعمُّد، بينما يبصرونهم من دون تشديد الصاد أيْ: بغير قصد أو نية وتعمد أيْ: يشاهدونهم ويتعرفون عليهم أنّهم أقرباؤهم، ولكنهم كأنّهم لا يعرفونهم.
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} : يتمنى المجرم: أي: الكافر أو المشرك والذي أذنب ذنباً يستحق به النّار.
{لَوْ} : حرف مصدري.
{يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} : لو يفتدي يوم القيامة بأقرب شيء إليه يفدي نفسه أيْ: يدفع فدية ليخلص نفسه من عذاب ذلك اليوم، أو يتمنى لو قُبل منه الفداء يومئذ حتّى ولو كان المرء يصل إلى أن يفدي نفسه ببنيه.
{بِبَنِيهِ} : أيْ: أولاده.
سورة المعارج [70: 12]
{وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} :
زوجته وأخيه، وسماها صاحبة بدلاً من زوجته؛ لأنّ صاحبته تعني تصحبه إلى مدة حتّى يكون منها ولد.
سورة المعارج [70: 13]
{وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُـئْوِيهِ} :
أيْ: عشيرته أو قبيلته التي تضمه إليها وتحميه.
سورة المعارج [70: 14]
{وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} :
ومن: لابتداء الغاية واستغراقية تستغرق كلّ من في الأرض بشكل مفرد أو جمع.
لم يذكر أنّه يفتدي بأمّه ولا بأبيه، فكيف يفدي نفسه بأمّه وأبيه، والله سبحانه قال: وبالوالدين إحساناً، فهذا لا يجوز أو يصح، ولكن المجرم لو استطاع أن يقدِّم أباه وأمّه إلى النار بدلاً منه لفعل ذلك، ولكنه في سورة عبس الآية (34-35){يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الفرار من الأم والأب قد يحصل، أو يجوز بينما الفداء لا يجوز.
ولو قارنّا هاتين الآيتين من سورة المعارج، وهي قوله تعالى:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُـئْوِيهِ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [34-35] من سورة عبس، وهي قوله تعالى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} :
في حالة الفداء: يقدِّم أقرب النّاس إليه وهم أولاده أولاً.
وفي حالة الفرار: أخَّر من يفرُّ منهم وهم أولاده.
هذا التّرتيب الإلهي له دلالاته، ففي مقام الفرار يفرُّ الإنسان من الأباعد أوّلاً، ثمّ ينتهي بأقرب النّاس إليه فيكونون آخر من يفرُّ منهم وهم الأبناء بعكس الفداء؛ حيث يفتدي بأقرب النّاس؛ لأنّ شدة العذاب دعته للاهتمام بنفسه ونسي أقرب النّاس إليه.
سورة المعارج [70: 15]
{كَلَّا} : كلمة ردع وإبطال لما سبق من الكلام أيْ: كلا لا قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل.
{إِنَّهَا لَظَى} : اسم دركة من دركات النّار، فهي سبع دركات هي الجحيم، جهنم، لظى وسقر والسعير والهاوية والحطمة، واللظى: اللهب الخالص.
سورة المعارج [70: 16]
{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} :
{نَزَّاعَةً} : قلاعة تقلع بشدة.
{لِلشَّوَى} : اللام لام الاختصاص، الشّوى: هي جلدة الرّأس وقيل أيضاً: جلدة أطراف البدن كاليد والرّجل.
سورة المعارج [70: 17]
{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} :
{تَدْعُوا} : أيْ: لظى تنادي: إليَّ إليَّ يا مَنْ:
{أَدْبَرَ} : أدبر عن طاعة الله ورسوله أو عن الإيمان أيْ: أدار ظهره ولم يلتفت أو أعرض.
{وَتَوَلَّى} : ابتعد عن الحق.
سورة المعارج [70: 18]
{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} :
{وَجَمَعَ} : المال، جمع المال.
{فَأَوْعَى} : جعله في أوعية من كثرته أو أودعه في البنوك، ولم يؤدِّ زكاته أو ينفقه أو كنزه.
سورة المعارج [70: 19]
{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} :
{إِنَّ الْإِنسَانَ} : إنّ للتوكيد.
{خُلِقَ هَلُوعًا} : خُلِقَ لا يعني: أن الله خلقه هلوعاً؛ لأن الهلع يحدث بعد الخلق، وبعد أن يبلغ مرحلة البلوغ أو الشباب، فقد قال سبحانه:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـئًا} [النحل: 78]؛ أي: الإنسان انتحل هذه الصّفة ومارسها فأصبحت صفة مكتسبة راسخة ملتصقة به كأنّها خُلقت معه، أو كأنّه مجبول عليها، كقوله تعالى:{وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] وهلوعاً: من الهلع، وهلوعاً: صفة مشبهة من الفعل؛ هلع: بمعنى شدة الجزع، وعدم الصبر على المصائب الذي فسرته الآيتان التّاليتان:{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وناقة هلواع: سريعة السّير.
سورة المعارج [70: 20]
{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} :
{إِذَا} : شرطية ظرفية تدل على حتمية الحدوث وكثرته.
{مَسَّهُ الشَّرُّ} : أصابه الشّر مثل المرض أو الفقر أو فقد مال أو ولد أو أهل أو حادثة طارئة، ولو كانت إصابة خفيفة غير شديدة، تراه عديم الصبّر كثير الضّجر قليل الرّضا بما قضى الله، مَّسه: تعني: أقل المس أو اللمس.
سورة المعارج [70: 21]
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} :
{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تدل على حتمية الحدوث.
{مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} : منوعاً: من الفعل الثلاثي منع إذا أصابه الخير كالغنى والعافية والخيرات تراه مبالغاً في الإمساك والبخل والشّح لا ينفق مما أتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه.
سورة المعارج [70: 22]
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء، استثناء من الهلع والجزع أو المنع.
{الْمُصَلِّينَ} : جمع المصلي الذين وصفهم الله سبحانه في الآيات التّالية في ثماني صفات ثابتة دائمة جاء بصيغة الجملة الاسمية، مثل على صلاتهم دائمين حافظين مشفقين، فهؤلاء إيمانهم وصلاتهم من المفروض أن تمنعهم من الهلع أو الجزع أو المنع والبخل والشّح.
سورة المعارج [70: 23]
{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} :
{الَّذِينَ هُمْ} : الذين: اسم موصول يفيد المدح، هم: تفيد التّوكيد وتكرار الذين هم في عدة آيات لزيادة التّوكيد، وفصل كلّ صفة عن الأخرى.
{عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} : الدّوام يعني: الاستمرار بلا انقطاع على المواظبة على صلاتهم خمس مرات باليوم حتّى يجيء الأجل، ودائمون على الصلاة في الصّحة والمرض والسّفر والإقامة، وتقديم الصلاة أولاً والتذكير بها آخراً في الآية (34) للدلالة على فضلها العظيم، وتقديمها على سائر العبادات، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
سورة المعارج [70: 24]
{وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} :
{وَالَّذِينَ} : كالسّابقة.
{فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} : هو الزّكاة (نصيب معين معلوم) وكذلك الصّدقة، معلوم له ولغيره من كافة المسلمين المؤمنين.
سورة المعارج [70: 25]
{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} :
{لِلسَّائِلِ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، والسّائل هو الفقير الذي يسأل النّاس الصّدقة، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (19) في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:{وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} : نجد في هذه الآية (آية الذاريات) لم يذكر كلمة معلوم، وقالوا: إن آية الذاريات جاءت في سياق الصدقات، وآية المعارج (حق معلوم) في سياق الزكاة؛ لأن الزكاة معلومة المقدار.
{وَالْمَحْرُومِ} : الفقير المتعفف الذي لا يسأل، فيظن أنّه غني فيُحرم الصّدقة أو العطاء.
سورة المعارج [70: 26]
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} :
{وَالَّذِينَ} : ارجع إلى الآية (23).
{يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} : يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء والآخرة، ويوم القيامة تصديقاً بالقلب والعمل أيْ: يستعدون له بالعبادة والطّاعة والعمل الصّالح.
سورة المعارج [70: 27]
{وَالَّذِينَ هُمْ مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} :
{وَالَّذِينَ هُمْ مِّنْ} : ارجع إلى الآية (23).
{مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} : من لابتداء الغاية عذاب ربهم مشفقون: خائفون وحذرون وحريصون، يشعرون أن أعمالهم الصّالحة ربما لن تقبل منهم، وما عملوا من الخيرات؛ لأنّها لا تليق بحق الله تعالى، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
سورة المعارج [70: 28]
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} : لأنّهم لا يعلمون هل ستقبل أعمالهم الصّالحة أم لا، فهم في حالة بين الخوف والرّجاء، كقول إبراهيم عليه السلام {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82].
سورة المعارج [70: 29]
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} :
{وَالَّذِينَ هُمْ} : ارجع إلى الآية (23).
{لِفُرُوجِهِمْ} : اللام لام الاختصاص والفرج: هو سوءَة الرّجل أو المرأة.
{حَافِظُونَ} : من الزّنى والفواحش وما حرَّم الله تعالى.
سورة المعارج [70: 30]
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} : لأنّ الله سبحانه أحل لهم ذلك بعقد الزّواج.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} : هذا لم يعد موجوداً، فلم يعد هناك إماء، ويعتبر هذا الحكم الآن حكماً معطلاً، وغير مُلغى؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يُلغي حكم الله تعالى.
سورة المعارج [70: 31]
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} :
{فَمَنِ} : الفاء للتوكيد، من شرطية.
{ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} : ابتغى: طلب أو التمس وراء ذلك أيْ: غير ذلك الزّواج أو ما ملكت أيمانهم أيْ: علاقة جنسية.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، أولئك: اسم إشارة واللام للبعد تفيد التّحقير والذّم.
{هُمُ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{الْعَادُونَ} : المتجاوزون لما شرع الله تعالى سواء ما أحلَّ أو ما حرَّم، وهو تحذير لمن يحاول أن يتعدَّى حدود الله تعالى أو يقربها.
سورة المعارج [70: 32]
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} :
{وَالَّذِينَ هُمْ} : ارجع إلى الآية (23).
{لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} : اللام لام التّوكيد والاختصاص، لأماناتهم: من الأمانة ما ائتمنوا عليه من التّكاليف الشّرعية والأموال والأمانات المودعة عندهم، وعهدهم: العهد يضم العقود والوعود والمعاهدات والميثاق العادي والغليظ، وهو ما يلتزم به الإنسان سواء مع الله تعالى أو إنسان آخر، وسواء كان تكليفاً أو وصية أو أمراً، راعون: من الرّعي: وهو الحفظ: أيْ: حافظون لأماناتهم وموفون لعهودهم لا ينقضونها ولا يغدرون ولا يخونون.
سورة المعارج [70: 33]
{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} :
{وَالَّذِينَ هُمْ} : ارجع إلى الآية (23).
{بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} : الباء للإلصاق والمداومة، الشّهادة: اسم جنس، شهادتهم: جمع شهادة والشّهادة مختلفة الأنواع، قائمون: مؤدون: يؤدون شهاداتهم ولا يكتمونها ولا يغيرونها ويتمُّوا الشّهادة الله، ولو على أنفسهم، أو الوالدين والأقربين، وإقامة الشهادة جاء بعد قوله:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ليُذكرنا أن إقامة الشهادة نوع من الأمانة يجب أن يؤديها إذا احتيج لها.
سورة المعارج [70: 34]
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} :
{وَالَّذِينَ هُمْ} : ارجع إلى الآية (23).
{عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} : يؤدُّون صلاتهم في أوقاتها محافظين على شروطها وأركانها وسننها ووضوئها لا يشغلهم شاغل، وتكرار ذكر الصّلاة للدلالة على توكيد أهميتها وفضلها، يحافظون: جاءت بصيغة الجملة الفعلية؛ لأنّ الصّلاة تتجدَّد وتتكرَّر.
سورة المعارج [70: 35]
{أُولَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد والمدح، ويشير إلى المصلين الذين اتصفوا بتلك الصّفات الثّمانية.
{فِى} : ظرفية.
{جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} : جنات جمع جنة منها جنات الفردوس والنعيم وعدن من التكريم والنعيم بألوان الملاذ والطيبات وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مكرمون تدل على الثّبوت، مكرمون دائماً.
سورة المعارج [70: 36]
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} :
{فَمَالِ} : الفاء استئنافية، ما: استفهام إنكاري.
{الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ} : حواليك أو أمامك أو عن يمينك أو شمالك.
{مُهْطِعِينَ} : جمع مهطع: اسم فاعل من أهطع يهطع فهو مهطع، أي: المسرع في المشي والرافع رأسه. ارجع إلى سورة إبراهيم الآية (43) لمزيد من البيان، وسورة القمر الآية (8).
سورة المعارج [70: 37]
{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} :
عن يمينك وعن شمالك عزين: جماعات متفرقة، عزين: جمع عزة أيْ: في حالة تفرقة أي: جماعة هنا وجماعة هناك عن يمين الرّسول صلى الله عليه وسلم وعن شماله.
سورة المعارج [70: 38]
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} :
{أَيَطْمَعُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.
{كُلُّ امْرِئٍ} : كلّ واحد من هؤلاء الذين كفروا.
{مِّنْهُمْ} : خاصة.
{أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} : حرف مصدري يفيد التّعليل، يدخل جنة نعيم.
سورة المعارج [70: 39]
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِمَّا يَعْلَمُونَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع لهم بعدم الطمع في الجنة أيْ: ليس الأمر كما يأملون أو يتمنون بأن يدخل كلّ منهم جنة نعيم.
{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِمَّا يَعْلَمُونَ} : إنّا للتعظيم، خلقناهم: من ماء مهين أو من تراب أو نطفة إذا تُمنى، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يكفرون ويجحدون، ثمّ يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم.
سورة المعارج [70: 40]
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} :
{فَلَا أُقْسِمُ} : ارجع إلى سورة القيامة الآية (1) للبيان، والله غني عن القسم ولا يقسم إلا بشيء عظيم.
{بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} : فقد تبيَّن أنّ الشّمس تشرق كلّ يوم أو تطلع بزاوية تختلف عن زاوية اليوم الآخر، وتبيَّن أنّ للشمس ملايين المشارق والمغارب ولكلّ كوكب وقمر مشرق ومغرب، فالله سبحانه يقسم بمشارق ومغارب الشمس، وللشمس مشرق حقيقي أساسي واحد، ولها مغرب أساسي واحد (رب المشرق والمغرب) ولها مشرقان ولها مغربان. ارجع إلى سورة الرحمن آية (17) للبيان.
{إِنَّا} : للتعظيم.
{لَقَادِرُونَ} : اللام للتعظيم، قادرون: على أن نبدل خيراً منهم بأن نهلكهم، ونأتي بخير منهم وما نحن بمسبوقين.
سورة المعارج [70: 41]
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} :
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ} : أيْ: نخلق خيراً منهم: أيْ: أمثل وأفضل طاعة وعبادة.
{وَمَا نَحْنُ} : ما النّافية، نحن: للتعظيم.
{بِمَسْبُوقِينَ} : بعاجزين أو مغلوبين، جمع مسبوق والذي يُسبق: يُغلب.
سورة المعارج [70: 42]
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} :
{فَذَرْهُمْ} : أيْ: دعهم أو اتركهم.
{يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} : ارجع إلى سورة الزخرف الآية (83) للبيان.
سورة المعارج [70: 43]
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} :
{يَوْمَ} : نكرة للتهويل والتّعظيم أيْ: يوم البعث.
{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} : الأجداث: جمع جدث، والجدث هو القبر، فالقبر يتحول إلى جدث حين خروج الميت منه، حيث يكون القبر ساكناً هامداً ليس فيه حركة ولا صوت إلى قبر يخرج منه صوت خافت يشبه صوت الحافر أو الخف عندما يسرع الإنسان في السير أو يركض، فيسمَّى القبر في تلك المرحلة جدث.
{سِرَاعًا} : مسرعين إلى إجابة الداع مسرعين إلى أرض المحشر أو موقف الحساب.
{كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} : كأنّهم إلى نصب: إلى راية أو علم أو صنم منصوب (كوثن يعبدونه) يوفضون: يسرعون ويتسابقون.
سورة المعارج [70: 44]
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ} :
الخشوع: يكون في الصّوت والبصر وأما الخضوع يكون في الجسم.
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} : الخشوع: هو الخضوع + الخوف + النّظر إلى الأرض، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (7) في سورة القمر، وهي قوله تعالى:{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} : نجد أن خشعاً تفيد المبالغة والتأكيد، وكثرة العدد؛ مبالغة في خشوع أبصارهم، والخشوع يصيب الأبصار والقلوب والسمع؛ فآية القمر زمنها بعد الخروج من الأحداث، وآية المعارج حالة متأخرة.
{تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} : تغشاهم ذلة من الذّل وهو الانقياد كرهاً ضد العزة والشّعور بالهون والاستخفاف؛ أي: الشعور بأن ليس لهم قيمة، والذّل يعني: اللين والانقياد.
ذلك: اسم إشارة والكاف للبعد.
اليوم: يوم البعث.
الذي كانوا يُوعدون: كانوا يوعدون: من الوعد، يوعدون في الدنيا أنه قادم.
سورة نوح [71: 1]
سورة نوح
ترتيبها في القرآن (71) وترتيبها في النّزول (71). تشمل هذه السّورة طرفاً من دعوة نوح لقومه وأساليب دعوته وعدم استجابة قومه له ودعوة نوح على الكافرين.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا} : إنا للتعظيم، أرسلنا: لمعرفة معنى الإرسال والفرق بين البعث والإرسال ارجع إلى سورة البقرة آية (119).
{نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} : نوح من سلالة إدريس وإدريس هو أب جد نوح وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس كان بين آدم ونوح ما يقارب عشرة قرون، أيْ: حوالي (1000 سنة).
{أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} : أن تفيد التّعليل، أنذر: من الإنذار وهو الإعلام المقترن بالتّحذير والتّخويف.
{مِنْ قَبْلِ} : من: لابتداء الغاية، قبلِ: بكسر اللام ليس فيها تحديد للزمن أيْ: لم يحدِّد متى سيأتيهم العذاب الأليم القادم، ولو قال من قبلُ: فيها تحديد: فيها تحديد للزمن بعد كذا زمن سيأتيهم سواء كان قصيراً أم طويلاً.
{أَنْ} : للتعليل.
{يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : هو الطّوفان في الدنيا أو عذاب الجحيم في الآخرة.
وعذاب الجحيم في الآخرة.
سورة نوح [71: 2]
{قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} :
{يَاقَوْمِ} : نوح عليه السلام.
{يَاقَوْمِ} : ياء النداء نداء فيه حنان واستعطاف وبرفق ولين؛ ليجلب قلوب قومه إليه حتى يؤمنوا به.
{إِنِّى لَكُمْ} : إني للتوكيد، لكم خاصة.
{نَذِيرٌ مُبِينٌ} : نذير (ارجع إلى الآية السّابقة نذير من الإنذار) وهو الإعلام مع التحذير والتخويف.
مبين: واضح الإنذار لكل واحد منكم لكل فرد، ومبين إنذار كامل تام من دون ترك أيِّ شيء، ولا يحتاج إلى من يُبينه واضح بنفسه، والإنذار هو اعبدوا الله واتقوه وأطيعون.
سورة نوح [71: 3]
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} :
{أَنِ} : تعليلية.
{اعْبُدُوا اللَّهَ} : من العبادة وهي طاعة العابد للمعبود فيما أمر به ونهى عنه والخضوع، ولها منهج وجزاء ولا تكون إلا للخالق وحده. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لمزيد من البيان.
{وَاتَّقُوهُ} : امتثلوا أوامر ربكم وتجنبوا نواهيه، اتقوا غضب الله وسخطه وناره.
{وَأَطِيعُونِ} : أيْ: أطيعوا الله وأطيعون كرسول لكم، ولم يقل: وأطيعوني. الفرق بينهما:
أطيعون: لأنّ نوح عليه السلام يعلم أن من يطيعه هم قلة ولو كانوا كثرة لربما قال: وأطيعوني.
وأطيعون: ولو بقليل من الطّاعة، أما أطيعوني فتعني: الكثير من الطّاعة.
سورة نوح [71: 4]
من ثمرات عبادة الله وحده وتقواه وطاعتي كرسول لكم:
أولاً: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} : الغفر هو السّتر ومحو الذنب وترك العقاب، من: للتبعيض، من ذنوبكم: أيْ: يغفر لكم بعض ذنوبكم ولو قال: يغفر لكم ذنوبكم لكان يعني كلَّ أو جميع ذنوبكم، ولا تأتي آية {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] إلا في سياق المؤمنين دائماً، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}: لا تأتي إلا في سياق غير المؤمنين.
ثانياً: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : لا يعجِّل لكم العذاب في دنياكم حتى تنقضي آجالكم.
والأجل الأول: هو الموت، وهو الوقت المضروب لانقضاء الشّيء وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره.
{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} : الأجل الثاني: هو أجلهم جميعاً حين يستأصلهم العذاب أو يحل بهم؛ إن: للتوكيد، أجل الله هو الموت أو البعث أو العذاب أو الكل.
إذا: ظرف للزمن المستقبل فيه معنى الشّرط وتفيد حتمية الحدوث.
{جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} : لا النّافية، لا يؤخر.
{لَوْ} : شرطية جوابها محذوف تقديره: لآمنتم.
{كُنتُمْ} : في الدّنيا.
{تَعْلَمُونَ} : أنّ الأجل لا يؤخر.
سورة نوح [71: 5]
{قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا} :
هذه الآيات تبيِّن لنا أساليب دعوة نوح لقومه وعدم استجابتهم لدعوته.
{قَالَ رَبِّ} : حذف أداة النّداء ولم يقل: قال نوح: يا رب لكون نوح يعلم أنّ الله قريب منه.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{دَعَوْتُ قَوْمِى} : للإيمان بك.
{لَيْلًا وَنَهَارًا} : يعني: في كل الأوقات من غير فتور.
سورة نوح [71: 6]
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِى إِلَّا فِرَارًا} :
{فَلَمْ} : الفاء للتوكيد، لم للنفي.
{يَزِدْهُمْ دُعَاءِى} : إلى الإيمان ولم يقل: يزيدهم، حذف الياء في كلمة (يزدهم) لتناسب قلة عدد الذين استمعوا إليه.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{فِرَارًا} : الفرار هو الجري بسرعة والخوف والانكشاف (من دون خُفية) أيْ: كلما رأوني هربوا مني بعيداً وتعني: تباعدوا عن الإيمان.
سورة نوح [71: 7]
{وَإِنِّى} : تكرار إني للتوكيد.
{كُلَّمَا} : مركبة من كل الظّرفية، ما المصدرية فهي أداة شرطية تفيد التّكرار.
{دَعَوْتُهُمْ} : إلى الإيمان وعبادة الله وحده (التّوحيد).
{لِتَغْفِرَ لَهُمْ} : اللام لام التّعليل، تغفر: تستر وتمحو أو تحط عنهم خطاياهم.
{جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ} : (مجاز مرسل) إطلاق الكل وإرادة الجزء عادة يجعل الإنسان طرف إصبعه أيْ: إصبع واحدة في أذنه لكي لا يسمع إلى ما يُقال فهم لم يستعملوا طرف إصبع واحدة وإنما أدخلوا أصابعهم العشرة كاملة في آذانهم لئلا يسمعوا ولو كلمة واحدة تتسرب إلى آذانهم.
وهذا دليلٌ على المبالغة في رفضهم للاستماع إليه أو كراهية الاستماع إليه، وهو يدعوهم إلى الإيمان والتّوحيد ولم يكتفوا بذلك، بل استغشوا ثيابهم.
{وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} : أيْ: تغطوا بها كراهية النظر إلى من ينصحهم ويعظهم للإيمان بربهم، ولكي لا يستمعون إليه، ولكي لا يعرفهم ويكون شهيداً عليهم.
{وَأَصَرُّوا} : استمروا على كفرهم وشركهم.
{وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} : استكبروا عن الإيمان، استكبروا: الألف والسّين والتّاء للطلب أيْ: تكبروا وهم ليس عندهم مؤهلات الكبر، استكباراً: مصدر استكبر للتأكيد. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.
سورة نوح [71: 8]
{ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزمن أيْ: بعد زمن طويل من دعوتهم بالسّر دعوتهم بالجهر.
{إِنِّى} : للتأكيد.
{دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} : أيْ: مجاهراً بالدّعوة والجهر هو رفع الصّوت مع الإعلان جهاراً أيْ: بأعلى صوتي أو مبالغة في الإظهار أيْ: دعوتهم بالعلن بعد أن دعوتهم بالسّر والخفاء.
سورة نوح [71: 9]
{ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} :
{ثُمَّ} : للدلالة على البعد والتباين بين صفة الدّعوة في السّر والعلن.
{إِنِّى} : لتكرار التّوكيد وأنّه استعمل أسلوبي الدّعوة الإسرار والإعلان (الجهر) معاً.
{لَهُمْ} : وتكرار لهم تفيد التّوكيد.
{وَأَسْرَرْتُ} : تفيد التّوكيد.
سورة نوح [71: 10]
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} :
{فَقُلْتُ} : الفاء للتوكيد.
قلت: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} : اطلبوا منه المغفرة والاستغفار، من الغفر هو ستر الذّنب، وبالتالي محوه وترك العقاب، والاستغفار يعني: التّوبة من الكفر والشّرك وترك المعاصي وعدم العودة إليها.
{إِنَّهُ} : للتأكيد، تعود على الله سبحانه في واجب الوجود.
{كَانَ غَفَّارًا} : كان: تشمل كل الأزمنة وليس الزمن الماضي فقط، بل الحاضر والمستقبل أيْ: كل زمان، غفاراً: صيغة مبالغة من الغفر أيْ: كثير الغفران لمن تاب وأقلع عن ذنبه، وتفيد تكرار مغفرته وتجددها، والغفور تعني: داوم مغفرته وكثرتها.
{غَفَّارًا} : يغفر الذّنوب الكبار. ارجع إلى سورة طه آية (82) للمزيد ومعرفة الفرق بين غفور وغفَّار.
سورة نوح [71: 11]
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} :
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ} : أي: السّحاب؛ لأنّ تعريف السّماء هي كل ما علاك والسّحاب يعلونا والسّحاب يشكل السحب الركامية التي تنزل المطر.
{عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} : مدراراً صيغة مبالغة وأصلها الدّر سيلان اللبن وكثرته، ثم استعير للمطر الغزير المتتابع.
سورة نوح [71: 12]
{وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} :
{وَيُمْدِدْكُم} : من الإمداد والإمداد في القرآن يأتي في سياق الخير (بالقوة والعون).
أما المد: فيأتي في سياق الشّر، كقوله تعالى:{وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15].
أو كقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم: 79].
{بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} : الباء للإلصاق، وقدَّم المال على الولد؛ لأنّ الكل بحاجة إلى المال وليس الكل بحاجة إلى الولد، أو قدَّم الأكثر على الأقل.
{وَيَجْعَل لَّكُمْ} : اللام لام الاختصاص، لكم خاصة.
{جَنَّاتٍ} : بساتين وحدائق.
{وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} : تكرار لكم تفيد التّوكيد وفصل كلاً على حِدَةٍ، الجنات والأنهار أو كلاهما معاً، ولمعرفة كيف تتشكل هذه الأنهار، ارجع إلى سورة إبراهيم آية (32) والرعد آية (3).
سورة نوح [71: 13]
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} :
{مَا لَكُمْ} : ما الاستفهامية تفيد الحثَّ وإنكار ما هم عليه من العناد والاستكبار، لكم: اللام لام الاختصاص.
{لَا تَرْجُونَ} : الرجاء: هو توقع الخير، والأمل، ويقوم على الظن الراجح؛ لا النّافية، ترجون: أو لا تبدون لله وقاراً، لا تقدرون الله حق قدره في قوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67].
{وَقَارًا} : تعظيماً ويوقِّرونه، يعظمونه.
سورة نوح [71: 14]
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} :
{وَقَدْ} : الواو عاطفة، قد للتحقيق.
{خَلَقَكُمْ} : من الخلق وهو التّقدير والإيجاد.
{أَطْوَارًا} : أي: مراحل جمع طَور: نطفة علقة مضغة جنين وليد وطفل، غلام شاب كهل شيخ.
سورة نوح [71: 15]
{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّعجب.
{تَرَوْا} : رؤية بصرية عينية ورؤية فكرية، أيْ: ألم تعلموا.
{كَيْفَ} : للاستفهام والتّعظيم.
{خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} : أيْ: ليس معناها طبقات مسطحة، وإنما سبع كرات متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل سبع كرات متساوية والمسافات بينها متساوية هذه الكرات السبع مركزها الأرض والأرض بدورها تتكون من سبع كرات صغيرة مقارنة بكرات السماء، فالكون يتكون من (14) كرة، سبع تمثل السموات السبع وسبع تمثل الأرض، والعلماء لا يعلمون إلا جزءاً ضئيلاً عن السماء الدنيا وعن الأرض.
سورة نوح [71: 16]
{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} :
{وَجَعَلَ} : الواو عاطفة، جعل: الجعل يكون بعد الخلق أيْ: مرحلة بعد مرحلة الخلق.
{الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} : القمر كما نعلم من الأبحاث العلمية، نوره هو ناتج من انعكاس نور الشّمس عليه، فهو بحد ذاته كتلة غير مشتعلة كما هو الحال في الشّمس فأشعة الشّمس التي تسقط على القمر تنعكس عنه فيظهر لنا كأنّه مضيء وله نور. ارجع إلى سورة يونس آية (5) لمزيد من البيان.
{فِيهِنَّ} : في السموات السبع.
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} : ضياء أو سراجاً أيْ: هي جسم مشتعل بحد ذاته يرسل الضّوء والحرارة، بينما القمر كوكب بارد يستمد حرارته من الشّمس وتبلغ حرارة سطح الشمس (6000 درجة مئوية) بينما مركز الشّمس حرارته تبلغ حوالي (20 مليون درجة مئوية).
واللهب المرتفع من الشّمس قد يصل إلى نصف مليون كيلومتر، ولا يصل إلى الأرض إلا أقل من جزء من مليون من حرارة الشّمس وشمسنا واحدة من بلايين الشّموس التي خلقها الله سبحانه، فكل نجم هو كالشّمس جسم مشتعل بحد ذاته. ارجع إلى سورة يونس آية (5) لمزيد من البيان.
سورة نوح [71: 17]
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} :
{وَاللَّهُ} : تقديم الفاعل على الفعل يفيد التّعظيم والاهتمام.
{أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} : قد يعني ذلك مبدأ الخلق حيث خلق آدم من تراب (من الأرض) والنّاس من ذرية آدم.
{أَنْبَتَكُمْ} : أنشأكم وفيه معنى التّطور والنّمو، فالله سبحانه يغذِّيكم من حبوب الأرض وثمارها وخيراتها، وكذلك ما تأكلون من اللحوم والألبان من الأنعام كلها تستمد غذائها من النبات الذي يستمد غذاءَه من تربة الأرض عن طريق جذوره وساقه، فيمتص عناصر الأرض فيخرج منها الخضار والثمار، فهي عملية إنبات من تراب الأرض، ثم في النهاية عودة إلى التراب سواء كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً. وفعل أنبت مصدره إنبات بينما فعل نبت مصدره نبات.
{أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} : للتوكيد، بالتّدرج في النمو طفل ولد غلام شاب كهل.
سورة نوح [71: 18]
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{يُعِيدُكُمْ فِيهَا} : بعد الموت إلى القبور والتّحول إلى التّراب والعظام والرّفات، فيها تعني: الأرض الحالية.
{وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} : ويخرجكم يوم البعث (بالنّشور) من القبور (الأجداث).
ويخرجكم منها بالنّشور، يخرجكم من الأرض الجديدة كما قال تعالى في سورة إبراهيم آية (48):{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ؛ يخرجكم منها دفعة واحدة بعد النفخ في الصور، كما قال تعالى:{فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25].
{إِخْرَاجًا} : مصدر للتأكيد. ارجع إلى سورة الروم آية (19) للبيان.
سورة نوح [71: 19]
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} :
{وَاللَّهُ} : تقديم الفاعل على الفعل للتعظيم والاحترام.
{جَعَلَ لَكُمُ} : اللام لام الاختصاص، لكم خاصة.
{بِسَاطًا} : كالفراش المبسوط للاستقرار عليها وبسطها: ومدها وثبتها بالرّواسي لتستقروا عليها رغم حركتها ودورانها السّريع يقارب (30 كيلومتراً/ بالثانية) وفي آية (53) من سورة طه {الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: كمهد الطّفل المريح اللين ذي الحرارة المعتدلة.
سورة نوح [71: 20]
{لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} :
{لِّتَسْلُكُوا} : اللام لام التّعليل، لتسلكوا: من سلك أيْ: أدخل وسلك الطّريق أيْ: سار فيه وذهب فيه، السّلك: الذّهاب والسير فيها أيْ: لتسيروا وتمشوا فيها أيْ: على طرقها السّهلة الواسعة وتسافروا بين مدنها وقراها.
{سُبُلًا} : طرق واسعة ممهدة. سبلاً: جمع سبيل؛ أي: طريق.
{فِجَاجًا} : الفج هو الطّريق في الجبل أو بين جبلين، وقدَّم سبلاً على (فجاجاً) في هذه الآية، بينما في سورة الأنبياء قدَّم فجاجاً على (سُبلاً) ارجع إلى سورة الأنبياء آية (31) للمقارنة والبيان.
سورة نوح [71: 21]
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى} : أيْ: إن قومه عصوه، ولم يقل: وقال نوح بالواو؛ لأن قال تعني: كلام مستأنف جديد.
{وَاتَّبَعُوا مَنْ لَّمْ} : من ابتدائية بمعنى الذي، لم للنفي.
{يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا} : إلا: أداة حصر، خساراً: في الدّنيا والآخرة أي: ضلالاً وخسراناً، أي: قومه عصوه واتبعوا أصحاب الأموال والأولاد المكذبين بآيات الله أولي النّعمة (المال والبنين) أي: الجاحدين بآيات الله تعالى.
سورة نوح [71: 22]
{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} :
{وَمَكَرُوا} : أي: قوم نوح.
{مَكْرًا} : المكر هو التّدبير الخفي لإلحاق الضّرر بالغير، ولا يعلم ذلك الممكور به؛ فهم قد مكروا بنوح، وسخروا منه، وسعوا في الأرض فساداً بالشرك والتكذيب.
{كُبَّارًا} : صيغة مبالغة من الفعل الثّلاثي كبر، فهناك كبير وأكبر وكبار والكبار: أكبر من الكبير.
كباراً: على وزن فعّال أي: مكروا مكراً ليس هناك أكبر منه، وهو قتل نوح عليه السلام وأتباعه ونشر الفساد في الأرض.
سورة نوح [71: 23]
{وَقَالُوا} : أي: الملأ الذين كفروا من قومه قالوا للأتباع أو لقومهم.
{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} : لا النّاهية، لا تدعُن أو تتركن عبادة آلهتكم وأصنامكم من أجل نوح والنّون في تذرن للتوكيد.
{وَلَا تَذَرُنَّ} : تكرار لا تذرن: تفيد التوكيد وعدم ترك عبادة الآلهة أو هؤلاء الأصنام.
{وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} : هذه الأسماء هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كما روى البخاري عن ابن عباس، ولما هلكوا اتخذوا لهم أصناماً بعد موتهم فعبدوها، رغم تحذير نوح لهم، كانت هذه أعظم أصنام قوم نوح، ثم انتقلت هذه الأصنام إلى العرب، فكان لقبيلة كلب الصنم ودٌّ بدومة الجندل، وأما الصنم سواع فكان لقبيلة هذيل.
وأما يغوث فكان لغطفان عند سبأ.
ويعوق لهمذان.
ونسر: لحمير، لآل ذي القلاع.
وقيل: كان الصنم ودٌّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر، وقوله: لا تذرن آلهتكم تشمل كل الآلهة، ثم جاء بعدها وأكد على خمسة من هذه الآلهة، ففيه عطف الخاص على العام للاهتمام والتّوكيد.
سورة نوح [71: 24]
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} :
هذا تتمة لقول نوح: رب إنهم عصوني.
{وَقَدْ} : الواو عاطفة، قد للتحقيق والتّوكيد.
{أَضَلُّوا كَثِيرًا} : تعود على قادة ورؤساء الكفر من قوم نوح أضلوا بأقوالهم وأفعالهم بالأصنام كثيراً من النّاس وصدوهم عن اتِّباع نوح عليه السلام .
{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} : دعا نوح على الظّالمين من قومه بعد أن أوحى إليه ربُّه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36].
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا: النّاهية.
{تَزِدِ الظَّالِمِينَ} : المشركين الكافرين.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{ضَلَالًا} : بُعداً عن طريق الهدى والحق أو خسراناً، وتناسب ما سبقها من القول وقد أضلوا.
سورة نوح [71: 25]
{مِمَّا} : أصلها من الابتدائية أو تعليلية أو سببية، ما: تفيد التّوكيد.
{خَطِيئَاتِهِمْ} : أي: بسبب خطيئاتهم في العقيدة وخطيئاتهم جمع قلة تعني: الكبائر كبائر الذّنوب، ومنها الشرك بالله بينما خطاياهم تعني: الذّنوب الصّغيرة والكبيرة.
{أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} : أُغرقوا بالطّوفان.
{فَأُدْخِلُوا نَارًا} : الفاء للترتيب والتّعقيب بعد غرقهم أدخلوا ناراً نار البرزخ، ثم نار جهنم.
{فَلَمْ} : الفاء للتوكيد.
{يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله تعالى.
{أَنصَارًا} : جمع نصير، أعوان يشفعون لهم أو يدفعون عنهم العذاب.
سورة نوح [71: 26]
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} :
دعا نوح بهذا الدعاء بعد أن أوحى إليه ربه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36].
{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} : لا النّاهية لا تترك على وجه الأرض.
{مِنَ} : استغراقية تشمل كل كافر.
{الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} : أي: لا تبق من الكافرين على وجه الأرض حياً يسكن الدّيار، أو يمشي في الأرض، دياراً: مشتقة من الدّار أي: نازل داراً أو مشتقة من الدّوران هو التّحرك أي: يمشي.
سورة نوح [71: 27]
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} :
هذا تعليل أو تفسير لدعائه وطلبه من الله تعالى أن يهلك الكافرين.
{إِنَّكَ إِنْ} : تعليلية وتفيد الاستقبال.
{تَذَرْهُمْ} : تبقيهم أحياء ولا تهلكم بعذاب.
{يُضِلُّوا عِبَادَكَ} : يزيدوا عبادك ضلالاً وحيرة وبعداً عن طريق الحق والصواب والهدى.
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا: النافية.
{يَلِدُوا إِلَّا} : أداة حصر.
{فَاجِرًا} : اسم فاعل من الثّلاثي فجر، والفجور: يعني: التمادي في المعاصي والفواحش والفسوق، وقيل: هو فساد القول والفعل والكفر هو فساد العقيدة أي: الاعتقاد أو الفساد والميل عن الحق إلى الباطل.
{كَفَّارًا} : صيغة مبالغة أي: كثير الكفر، وتفيد التكرار، والتجدد، والاستمرار على الكفر، وبارع في ممارسة الكفر ومدمن عليه، وكفاراً تضم كل الكافرين. ارجع إلى سورة الممتحنة آية (10) للبيان.
السّؤال هنا: كيف علم نوح أنّهم لن يلدوا إلا فاجراً كفاراً، الجواب: لأنّ الله سبحانه أخبره أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وأنّهم لن يلدوا إلا فاجراً كفاراً.
سورة نوح [71: 28]
هذه دعوة نوح الثّانية والأولى كانت رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أو هي تتمة دعاء نوح الذي دعا فيه رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، ثم قال: رب اغفر لي ولوالدي.
{رَبِّ اغْفِرْ لِى} : الغفر هو السّتر أي: استر ذنوبي وسيئاتي وامحوها ولا تعاقبني عليها؛ أي: بدأ بنفسه.
{وَلِوَالِدَىَّ} : قيل: كانا مؤمنين بدأ بنفسه، ثم بالدّعاء لوالديه، ثم لولده وعائلته، ثم استغفر لوالديه.
{وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا} : أي: داره أي: ولده وعائلته. وقيل: بيتي: مسجدي، ثم استغفر لمن دخل بيته مؤمناً؛ أي: من أسلم أو آمن من أهل بيته؛ لأن امرأته لم تكن مؤمنة.
ولا تعني كل من دخله من البشر؛ لأنّه قال بعد ذلك وللمؤمنين والمؤمنات أي: لكل مؤمن ومؤمنة.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : والمؤمنين تضم الذّكور والإناث كلا الجنسين، ثم عاد وذكر المؤمنات أي: عطف الخاص على العام للاهتمام والتّوكيد، فهو بدأ بالاستغفار من الأقرب إلى الأبعد.
{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} : الواو عاطفة، لا النّاهية.
{تَزِدِ الظَّالِمِينَ} : المشركين.
{إِلَّا تَبَارًا} : إلا أداة حصر، تباراً: هلاكاً من تَبَره إذا أهلكه فاستجاب له ربه فأهلكهم بالطّوفان فلم يبقِ من الكافرين أحداً؛ تباراً: تناسب مع سبقها من القول وهو: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [الآية: 26].
سورة الجن [72: 1]
سورة الجن
ترتيبها في القرآن (72)، وترتيبها في النّزول (40).
{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين آمنوا معك أنه أوحي إلي: الوحي لغة: الإعلام بالخفاء، ولمعرفة معنى الوحي ارجع إلى سورة النساء آية (163).
{أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} : أي: أُخبرت عن طريق جبريل أن نفراً من الجن ذكور ما بين (7-9) كانوا يستمعون إلى تلاوتي للقرآن. وقيل: كان ذلك في صلاة الفجر في بطن نخلة بعد رجوعه من الطائف وقيل: في طريقه إلى سوق عكاظ، والقول:(استمع نفر من الجن) مقارنة بالقول: (استمع إلي)، أو (يستمع إليك): هو أن السياق في القرآن، وليس في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَقَالُوا} : الفاء للمباشرة والتعقيب. قال بعضهم لبعض، أو قالوا ذلك إلى قومهم من الجن بعد رجوعهم إليهم.
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} : قرآناً عجباً: عجباً مصدر يفيد المبالغة في العجب أكثر من عجيب لآياته ولبلاغته وحكمته. ارجع إلى سورة ق الآية (2) لمقارنة عجيب عجاب وعجباً.
سورة الجن [72: 2]
{يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} :
{يَهْدِى} : أي: القرآن إلى الرُّشد بضم الرّاء: أي: الصّلاح والاستقامة في أمور الدنيا والدّين والصّواب والتّوحيد والإيمان الصّحيح والرُّشد يقابله الغي. ارجع إلى سورة النساء آية (6) لمقارنة الرُّشد مع الرَّشد.
{فَآمَنَّا بِهِ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، آمنا به: صدقنا به مجرَّد استماعنا له.
{وَلَنْ} : لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} : الباء للإلصاق، بربنا أحداً: من الشّركاء أو الأصنام أو البشر.
سورة الجن [72: 3]
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} :
{وَأَنَّهُ} : الواو عاطفة، أنه للتوكيد.
{جَدُّ} : الجدُّ: العظمة.
{تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} : تعالت عظمته خالقنا عن أن يتخذ صاحبة ولا ولداً.
{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} : ما النّافية، اتخذ: صير أو جعل له صاحبة، الصاحبة: الزّوجة المصاحبة لزوجها حتى يكون لها ولد كقوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].
وتكرار لا النّافية تفيد التّوكيد توكيد النّفي نفي كلٍّ على حِدَةٍ، نفي الصّاحبة ونفي الولد ونفي كليهما معاً، وقدَّم الصّاحبة على الولد؛ لأنّ الولد يأتي من الصّاحبة فالصّاحبة هي الأصل.
ما اتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يقل: لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ما اتخذ هذه الصّيغة تستعمل في الغالب، أو الأصل للرد على قول أو سؤال، أما صيغة لم يتخذ صاحبة ولا ولداً فهذه الصّيغة تستعمل في سياق الأخبار أو التّعليل، وليس ردّاً على قول أو سؤال.
سورة الجن [72: 4]
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} :
{وَأَنَّهُ} : الواو عاطفة، أنه: للتوكيد.
{كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} : أي: إبليس، السفيه: هو الجاهل، والسفه: الخفة في العقل والسّفه نقيض الحكمة؛ أي: غير الحكيم.
{عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} : الشّطط: الجور والكذب من شط يشط: أي: بَعُدَ عن الحق والصّواب، أي: كأن يقول على الله سبحانه قولاً بعيداً عن الحق والصّواب، وشط عليه في الحكم؛ أي: جار وتجاوز الحد.
سورة الجن [72: 5]
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} :
{وَأَنَّا} : الضمير يعود على نفر من الجن.
{ظَنَنَّا} : من الظّن الاحتمال الراجح وهو رجحان كفة الإثبات على كفة النّفي، والظّن ضرب من الاعتقاد أو الحسبان أي: حسبنا.
{أَنْ} : للتوكيد.
{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : بنسبة الزّوجة والولد إليه سبحانه وتعالى أو الشّريك والند والمثيل وقدَّم الإنس على الجن؛ لأنّ الإنس أبعد عن الكذب على الله من الجن، والأنس أقرب إلى الرشد فقدم الأفضل.
كذباً: جاء بصيغة النكرة ليشمل كل أنواع الكذب المطلق، أو غير المحدد أي: لم يخطر على بالنا أنّ أحداً يجترئ على الله أيَّ نوع من الكذب؛ أي: سمعنا هذا القرآن فعلمنا بطلان ما كنا نظنه من اتخاذ الصاحبة والولد.
سورة الجن [72: 6]
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} :
{وَأَنَّهُ} : للتوكيد.
{كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} : أي: رجال من الإنس يعوذون: يلجؤون ويطلبون الحماية والعون والشّفاء وغيرها برجال من الجن يلجؤون إليهم مما يحاذرونه ويظنون أنّ الجن يستطيعون أن يقدِّموا لهم العون أو الحماية أو الشفاء، وقيل: يعوذون: أعاذ مما يخاف، ولاذ فيما يؤمل.
{فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} : الرّهق قيل: الضّلال وارتكاب المحرمات، وأصل الرهق: غشيان المحظور، وقيل: التّعب والذّعر والخوف وزادهم رهقاً أنّ كلاهما الجن والإنس ازدادوا رهقاً من وراء هذا اللجوء، وطلب العون، ولا تعني الإنس وحدهم.
فلما جاء الإسلام منع ذلك وأمرهم بالاستعاذة بالله وحده، وذمَّ المستعيذين بغير الله تعالى، وبيَّن أن الاستعاذة بغير الله نوع من الشّرك.
{يَعُوذُونَ} : جاءت بصيغة المضارع لتدل على حكاية الحال والتّجدُّد والاستمرار؛ مما يدل أن هذه الاستعاذة لا زالت قائمة.
سورة الجن [72: 7]
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} :
{وَأَنَّهُمْ} : أن للتوكيد وأنّهم قد تعود على الجن أو تعود على كفار مكة أو كلاهما؛ أي: الجن ظنوا؛ الظن: هو الاحتمال الراجح، كما ظننتم يا كفار مكة أو بالعكس أنّه لا بعث ولا جزاء بعد الموت أو لن يبعث الله تعالى رسولاً مثل محمد صلى الله عليه وسلم ينذر النّاس من عذاب الله ويدعوا إلى التوحيد.
{أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} : أن: للتوكيد، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد، يبعث الله أحداً: بعد الموت للحساب والجزاء أو لن يبعث الله سبحانه رسولاً فأخطؤوا كما أخطأتم أو قد تشمل كلا المعنيين.
سورة الجن [72: 8]
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} :
{وَأَنَّا} : تعود على الجن.
{لَمَسْنَا السَّمَاءَ} : لمسنا: لمس فعل ثلاثي معناها طلب والتمس معناها وكرَّر في الطلب أي: فيه مزيد من الطلب والجهد مثل جهد واجتهد، لمسنا السّماء: طلبنا الخبر أو قصدنا كالعادة بلوغ السّماء الدّنيا والاستماع إلى الملائكة لمعرفة خبر السّماء أي: بعض ما تقوله الملائكة.
فقد كان الجن يسترقون السّمع من الملأ الأعلى (الملائكة) لكي يخبروا بها الكهان وأولياءَهم إضلالاً للناس.
{فَوَجَدْنَاهَا} : الفاء للمبادرة والتّعقيب وجدناها: ملئت حرساً شديداً وشهباً.
{حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} : جمع حارس: وهم من الملائكة الأقوياء، وشهباً: جمع شهاب والشّهاب: نار محرقة تمتد من النّجم المشتعل نحو من أراد أن يسترق السّمع من الشّياطين، وليس كما كان يظن النّاس أن النّجم نفسه ينقض خلف الشّيطان.
سورة الجن [72: 9]
{وَأَنَّا} : مردة الجن (من الشّياطين).
{كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} : أي: أنا كنا نقعد في أماكن أو مواضع في السّماء معينة لاستراق السّمع سماع ما تقوله الملائكة من أخبار تخص أهل الأرض.
{فَمَنْ} : الفاء للتوكيد، من شرطية.
{يَسْتَمِعِ الْآنَ} : بعد بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم.
{يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} : الشّهاب: نار محرقة تمتد من النّجم (جزء منفصل من النّجم قوي ثاقب) أو نافذ، رصداً: مهيأ ومعد لينقض على كل من يسترق السمع ليحرقه.
اختلف العلماء: هل انقطع استراق السّمع بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، أم كان أمراً مؤقتاً؟ منهم من قال: إنّهم انقطعوا في زمن بعثته صلى الله عليه وسلم أيْ: زمن نزول القرآن حتى لا يلتبس الوحي بقول الكهان، ومنهم من قال: لا يزال قائماً، والله أعلم.
سورة الجن [72: 10]
{وَأَنَّا لَا نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِى الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} :
{وَأَنَّا} : تعود على الجن.
{لَا نَدْرِى} : لا النّافية، ندري من الدّراية: وهي أخص من العلم والدّراية تكون بعد الجهل بالشّيء وبمنزلة الأخبار. أيْ: لا نعلم.
{أَشَرٌّ أُرِيدَ} : مبني للمجهول؛ لأنّه لا يجوز إسناد أيِّ شرٍّ أو عيب إلى الله تعالى سبحانه من باب التّأدب مع الله تعالى، ولأن ما يصيب أهل الأرض من شر هو بما كسبت أيديهم ويعفر عن كثير.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} : خيراً أو صلاحاً. رَشداً من الرَّشد: بفتح الراء أي: الهداية اتباع الحق والصراط المستقيم (الدِّين).
سورة الجن [72: 11]
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} :
{وَأَنَّا} : تعود على الجن.
{مِنَّا الصَّالِحُونَ} : المؤمنون المقيمون على الإيمان والطّاعة، والتوحيد.
{مِنَّا} : تكرار منا يفيد التّوكيد وفصلَ كلاً من الطّرفين عن الآخر أو كلاهما معاً.
{دُونَ ذَلِكَ} : الأقل في الصّلاح والإيمان والطّاعة.
{كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} : طرائق: مذاهب، قدداً: جمع قدة وقد: أيْ: قطع أيْ: كنا مذاهب متعدِّدة مختلفة متفرِّقة في الاعتقاد غير ملتقية؛ أي: تفرقوا أو اختلفوا وكانوا شيعاً.
سورة الجن [72: 12]
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الْأَرْضِ وَلَنْ نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} :
{وَأَنَّا ظَنَنَّا} : أيْ: أيقنا الآن بعد أن رأينا السّماء ملئت حرساً شديداً وشهباً.
{أَنْ} : للتوكيد.
{لَنْ} : للنفي، المستقبل القريب والبعيد.
{نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الْأَرْضِ} : إن أراد بنا الله ضراً أو عذاباً فلن نستطيع النجاة.
{وَلَنْ نُّعْجِزَهُ} : التّكرار يفيد توكيد النّفي.
{هَرَبًا} : من الهروب وهو الجري بسرعة مع الخوف ومحاولة التخفي والتستر، والفرار لا يكون بالتخفي والتستر، وإنما يكون بالانكشاف.
سورة الجن [72: 13]
{وَأَنَّا} : تعود على النّفر من الجن.
{لَمَّا} : ظرفية زمانية بمعنى حين.
{سَمِعْنَا الْهُدَى} : أي: القرآن أو آيات القرآن تتلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{آمَنَّا بِهِ} : به تعود على القرآن أيْ: صدقنا به، أو تعود على ربنا أو تعود على محمّد صلى الله عليه وسلم أو الكل.
{فَمَنْ يُؤْمِن بِرَبِّهِ} : الفاء للتوكيد، من شرطية. بربه: إيمان عقيدة أنه هو الإله الحق الذي يستحق العبادة والتوحيد.
{فَلَا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، لا النّافية.
{يَخَافُ بَخْسًا} : من البخس: نقص الشّيء على سبيل الظّلم أيْ: لا يخاف نقصاناً من حسناته ولو حسنة أيْ: يعطيه حقه كاملاً يوم القيامة.
{وَلَا رَهَقًا} : تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي وفصل كلاً على حدة أو كلاهما معاً.
رهقاً: القهر والظّلم أيْ: لا يخاف نقصاً من ثوابه وحقه، ولا يخاف الظّلم والقهر ولا يخاف كلاهما، أو رهقاً يعني: أن نظلمه ونضيف إلى سيئاته ولو سيئة أو نعاقبه على شيء لم يعمله في الدّنيا.
سورة الجن [72: 14]
{وَأَنَّا} : الواو عاطفة، أن للتوكيد.
{مِنَّا} : من الجن.
{الْمُسْلِمُونَ} : جمع مسلم، والإسلام هو العدل أي: القِسط (بكسر القاف) أي: العادلون والموحِّدون المخلصون.
{وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} : بفتح القاف جمع قاسط أيْ: جائر وظالم والقَسَط هو الجور والظّلم أي: الجائرون عن طريق الإسلام طريق الحق إلى طريق الشرك والكفر وأقسط تعني: أزال أو رفع القَسَط أي: الجور والظلم.
{فَمَنْ} : الفاء للتوكيد، من شرطية.
{أَسْلَمَ} : أقام العدل أو حكم بالعدل، وأقامه أو أسلم لربه ووحده وأخلصه له.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، أولئك اسم إشارة واللام للبعد وتفيد المدح.
{تَحَرَّوْا رَشَدًا} : أصابوا الرّشد أو بحثوا عن الرَّشد أو التمسوه حتّى وقفوا عليه والرّشد الصّواب والحق والصّلاح. ارجع إلى الآية (10) للبيان، وسورة النساء آية (6) لمزيد من البيان، والفرق بين الرُّشد والرَّشد.
سورة الجن [72: 15]
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} :
{وَأَمَّا} : الواو عاطفة، أما: حرف شرط وتفصيل.
{الْقَاسِطُونَ} : الجائرون الذين حادوا عن طريق الحق والصّواب، وساروا في طريق الضّلال والظّلم والكفر، أو الجائرون والظالمون.
{فَكَانُوا} : الفاء رابطة لجواب الشّرط.
{لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} : اللام لام الاختصاص، كانوا وقوداً لجهنم. ارجع إلى سورة الزمر آية (32) لبيان معنى جهنم.
وفي هذه الآية تحذير لكل ظالم جائر، ولم يذكر في هذه الآية ما مصير المسلمين الذين تحرَّوا رشداً أيْ: أخفى الجزاء ربما لأنّ سياق الآيات في العذاب، أو لأنّ الجزاء والثّواب مفهوم وهو الجنة.
سورة الجن [72: 16]
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَاءً غَدَقًا} :
القائل مجهول، وإنما المهم المقولة وهي:
{وَأَلَّوِ} : الواو استئنافية، أصلها وأن: المخففة تفيد التّوكيد، لو شرطية.
ولم يقل: ولو أنّهم استقاموا: لكانت تعني هم فقط ولا تشمل غيرهم من الذين يسقون ماء غدقاً.
{اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} : تعني: الثّبات والصّبر الاستمرار على الإسلام أي: الإيمان والتّوحيد وطاعة الله ورسله، الطّريقة: طريق الإسلام واستقاموا تشمل الإنس والجن.
{لَأَسْقَيْنَاهُم} : اللام لام التّوكيد والتّعليل.
{مَاءً غَدَقًا} : ماء كثيراً، غزيراً من غدقت العين كثر ماؤها ماءً عذباً مباركاً.
كقوله تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
وقوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66].
سورة الجن [72: 17]
{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} :
{لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} : اللام لام التّعليل، نفتنهم فيه: في الماء الغدق أيْ: نوسع لهم في الخيرات لنفتنهم فيه؛ أيْ: نختبرهم فيه فننظر أيشكرون أم يكفرون.
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، من شرطية.
{يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} : عن عبادة ربه أو القرآن أو الإيمان.
{يَسْلُكْهُ} : يُدخله، من سلك: دخل، وسلك فيها معنى الدّخول بسهولة الدّخول بحد ذاته فيه معنى المشقة والصّعوبة.
{عَذَابًا صَعَدًا} : عذاباً شاقاً صعباً، مشتق من الصّعود الذي يؤدِّي بعد فترة إلى التّعب وعدم القدرة على الحركة وضيق النّفس، وقيل: يطلب منه أو يكلفه بصعود جبل في جهنم كلما انتهى من صعوده هوى به إلى القاع، ثم يطلب منه الصعود مرة أخرى، وهكذا بلا انقطاع.
سورة الجن [72: 18]
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} :
{وَأَنَّ} : الواو عاطفة أن للتوكيد.
{الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} : اللام لام الاختصاص والملكية؛ المساجِد: بكسر الجيم؛ أي: المساجد بيوت الله التي نصلي فيها والمساجد: قد تعني البقاع كلها، كما روى البخاري ومسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» .
والمساجَد: بفتح الجيم تعني: الأعضاء السبعة التي نسجد عليها: الجبهة والأنف واليدان والركبتان وأصابع القدمين.
{فَلَا} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدر، لا النّاهية.
فإذا دخلتم بيوت الله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} : أيْ: فلا تشركوا به شيئاً ولا تعبدوا إلا إياه فيها فلا تذهبوا إلى قبور الأولياء أو غيرها وتتقربوا إليهم، وإذا كان المعنى الأعضاء التي نسجد عليها، فذلك يعني: لا تسجدوا بهذه الأعضاء السبعة إلا الله وحده، وإذا كان المعنى: الأرض مسجداً أيْ: لا تسجدوا عليها إلا لخالقها: ولم يقل: فلا تدعوا فيها لو قال ذلك، لكان يعني لا تدعوا فيها إلا الله، وفي غيرها يمكن لكم أن تدعوا معه، وهذا لا يصح؛ لأن عدم الشّرك به والإخلاص له يكون في المساجد، وفي غيرها من الأماكن.
سورة الجن [72: 19]
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} :
{وَأَنَّهُ} : الواو عاطفة، أنه للتوكيد.
{لَمَّا} : ظرفية بمعنى حين ومتضمن معنى الشّرط.
{قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} : أيْ: محمّد صلى الله عليه وسلم يُصلي له ويعبده قام بين يدي الله يصلي إليه ويدعوه في بطن النّخلة، واختار عبد الله بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نبي الله؛ لأنّ الجن حديثو عهد بالإسلام وعبد الله أفضل الألقاب؛ لأنّه يحمل شرف العبودية والطّاعة لله، ويحمل معنى التّواضع والتّذلل والإخلاص لله وحده.
{كَادُوا} : من أفعال المقاربة (وهي كاد أيْ: أوشك، قرب) تدل على أنّ الفعل المذكور كاد يحدث أو يقع.
{يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} : لِبداً بكسر اللام جمع لِبدة: اللبدة: هو الشّعر الذي فوق رقبة الأسد المتلبد بعضه فوق بعض أي: المتراص من كثرته، وشبهت جماعة الجن أو قريش التي ازدحمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشّعر المتلبد من شدة الازدحام حرصاً على سماع القرآن الكريم.
سورة الجن [72: 20]
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّى وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} :
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{أَدْعُوا رَبِّى} : أيْ: أعبد الله وحده مخلصاً له الدِّين.
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا: النّافية.
{أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} : مهما كان من ولد أو صاحبة أو طاغوت أو رسول أو ملائكته، وقدَّم (به) على (أحداً): للحصر والتوكيد.
سورة الجن [72: 21]
{قُلْ إِنِّى لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} :
{قُلْ} : لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{إِنِّى} : للتوكيد.
{لَا أَمْلِكُ لَكُمْ} : لكفار قريش لا أملك لكم، لا: النّافية، لا أملك القدرة ولا الملكية على النفع أو الضَر.
{ضَرًّا} : بفتح الضّاد مقابل النّفع وتعني: الضّلال، وأمّا الضُّر بضم الضّاد فتعني المرض والسّوء.
{وَلَا رَشَدًا} : تكرار لا تفيد النّفي، وفصلَ كلاً على حِدَةٍ أيْ: لا الضّر ولا الرَّشَد ولا كلاهما، رشداً: هداية، وقيل: الرَّشد: الصّواب والإيمان والهدى ويقابل الغي. ارجع إلى الآية (10) وقدَّم الضّر على الرَّشد؛ لأن سياق الآيات في العذاب.
سورة الجن [72: 22]
{قُلْ إِنِّى لَنْ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} :
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم
{إِنِّى} : للتوكيد.
{لَنْ} : للنفي المستقبل القريب أو البعيد.
{لَنْ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} : أيْ: إن أرادني الله بضر أو عذاب فلن يدفع عني أو يحميني من عذاب الله من أحد من خلقه، من: استغراقية تستغرق كل أحد.
{وَلَنْ} : تكرار لن تفيد توكيد النّفي نفي المستقبل القريب أو البعيد.
{أَجِدَ مِنْ دُونِهِ} : من غير الله.
{مُلْتَحَدًا} : أي: المكان أو الملجأ الذي أميل إليه أو أركن إليه لكي يحميني من الله سبحانه، ملتحداً من الالتحاد بمعنى الميل، وألحد مال، فالإنسان حين يجد نفسه أمام عذاب أو شر قادم يحاول أن يلجأ أو يستجير بأحد كي يحميه أو يدافع عنه أو يجد مكاناً يلجأ إليه، والحقيقة أنّه لا يجد أحداً يلجأ إليه ليحميه ولا ملجأ يلجأ إليه إلا الله وحده.
سورة الجن [72: 23]
{إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} : إلا أداة استثناء، إما من الضّر والرّشد، أو من (لن يجيرني من الله أحداً).
أيْ: قل: لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا البلاغ أو لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً إلا تبليغكم رسالات ربكم وما أمرني به أو نهاني عنه هذا كل ما أملكه، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.
أو لن يجيرني من عذاب الله أحداً أو أجد من دونه ملتحداً إلا إذا بلغتكم رسالاته فقد أديت الأمانة.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : الواو استئنافية، من شرطية تفيد المفرد والجمع والمثنى.
{فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود يبدأ من زمن دخولهم إياها ويستمر إلى ما لا نهاية.
سورة الجن [72: 24]
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} :
أي: لا يزالون على كفرهم وعصيان الله ورسوله حتى يرون.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} : (ما): بمعنى الذي ما أوسع شمولاً، يوعدون: من العذاب بالهزيمة أو القتل في الدّنيا مثل يوم بدر أو العذاب يوم القيامة.
{فَسَيَعْلَمُونَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، سيعلمون: السّين للاستقبال القريب.
{مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} : أضعف قوة أو عدة وعتاد، الكفار أم الذين آمنوا.
{وَأَقَلُّ عَدَدًا} : الكفار أم الذين آمنوا.
سورة الجن [72: 25]
{قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَدًا} :
{قُلْ} : يا رسول الله لكفار قريش.
{إِنْ أَدْرِى} : إن: نافية، أيْ: ما أدري (إن أقوى نفياً من ما).
{أَقَرِيبٌ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{مَا تُوعَدُونَ} : ما أدري الذي أو كل ما توعدون من العذاب هل سيكون قريباً.
{أَمْ} : للإضراب الانتقالي.
{يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَدًا} : أيْ: يؤخره لزمن بعيد، وقدَّم (له) الجار والمجرور للحصر.
والأمد أما أن يكون ظرفاً للزمان أو المكان، وهنا في هذه الآية هو للزمان؛ أي: هو: الزّمن، أيْ: ما توعدون يحتمل أن يكون قريباً أو بعيداً فأنا لا أدري.
لنقارن هذه الآية {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَدًا} مع الآية (109) من سورة الأنبياء وهي قوله: {أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} .
ففي آية الجن لم يقابل القريب بالبعيد لم يقل أقريب أم بعيد؛ لأن السّياق في آية الجن في الدّنيا، وأمّا السّياق في آية الأنبياء فهو في الآخرة لقوله:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أما في آية الجن فالعذاب يحتمل أن يكون قريباً في الدّنيا (مثل بدر) أو بعيداً (يوم القيامة) بينما في آية الأنبياء محصور في يوم القيامة.
سورة الجن [72: 26]
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} :
{عَالِمُ الْغَيْبِ} : الغيب تعريفه: ما غاب عن العباد واستتر عن العيون.
والغيب أنواع: منه الغيب المطلق مثل علم السّاعة، فهذا الغيب استأثر به الله وحده لا يطلع عليه أحد والغيب النّسبي هذا النّوع من الغيب يمكن أن يطلع الله سبحانه بعض رسله، كما نرى في قوله {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} آية (27) وهناك غيب يمكن أن يطلعه الله على بعض خلقه مثل الرّؤى الصّالحة أو اكتشاف شيء جديد كان غيباً. ارجع إلى سورة الأنعام الآية (73) للبيان في عالم وعلام وعليم.
{فَلَا يُظْهِرُ} : الفاء للتوكيد، لا النّافية.
{عَلَى غَيْبِهِ} : ولم يقل: عليه (تعني: الرسول) لأنّه سيرى في الآية القادمة أنّه يظهر بعض رسله على غيبه.
{أَحَدًا} : هذا بالنّسبة للغيب المطلق.
ما هو الفرق بين {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] ما هو الفرق بين يظهر ويطلع، يظهر من الإظهار، ويكون عدة مرات، كما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الاطلاع فيكون فقد لمرة واحدة.
سورة الجن [72: 27]
{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} :
{إِلَّا} : أداة استثناء أيْ: لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول.
{مَنِ} : لابتداء الغاية.
{ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} : أي: اختار من رسول أيْ: من ارتضاه أن يكون رسولاً.
{فَإِنَّهُ} : الفاء تعليلية إنّه للتوكيد.
يظهره على ما يشاء من غيبه ليكون معجزة دالة على صدق نبوته أو ليخبر النّاس ببعض أمور الآخرة والحساب والجزاء.
{يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} : يسلك: يقيم من بين يديه: من بين الرسول المرتضى الرّصد: حفظه: أيْ: ملائكة يحرسونه من بين يديه أيْ: من أمامه ومن خلفه من مردة الجن أو الشّياطين حتى يمنعوهم من استراق السّمع لما يدور بين جبريل وأيِّ رسول، وحتى لا يتشبهوا بصورة ملك من الملائكة أو ليلبسوا عليهم دينهم حتى يتمكَّن الرّسول من تبليغ رسالة ربه، وحفظ ما ينزل من الوحي.
سورة الجن [72: 28]
{لِّيَعْلَمَ} : اللام لام التّعليل، ليعلم الرسل أو الرّسول مثل محمّد صلى الله عليه وسلم أو غيره فيكون عليه حُجَّة ودليلاً، أو لإقامة الحُجَّة على النّاس أيضاً أن الكل بُلغ، أو ليعلم كل الرّسل أيْ: يكون عليهم حُجَّة يوم القيامة، أو على أممهم ولا يقصد ليعلم الله فالله سبحانه يعلمُ ذلك منذ الأزل.
{أَنْ} : للتوكيد.
{قَدْ} : للتحقيق والتّوكيد.
{أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} : من دون تحريف أو نقص أو زيادة.
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} : بما لديهم أي: الرّسل والملائكة والنّاس أجمعين من العلم وبما لديهم من الأدلة والحجج والأعذار والأقوال والأفعال.
{وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا} : الإحصاء هو العد والحفظ معاً، أيْ: لم يفته شيء من قول وفعل أو إنس أو جنٍّ أو شيء أو أمر.
سورة المدثر [74: 1]
سورة المدثر
ترتيبها في القرآن (74)، وترتيبها في النّزول (4).
{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} :
{يَاأَيُّهَا} : النّداء والهاء للتنبيه، والمنادى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{الْمُدَّثِّرُ} : المتلفِّف بثيابه من تدثَّر: أي: لبس الدّثار وهو اللباس الخارجي الذي يستر ما تحته من الثياب، وأصل المدثر المتدثر وأدغمت التّاء في الدّال لتقارب المخارج، وهو إدغام الحرف الأضعف في الحرف الأقوى، وفي هذا النّداء ملاطفة وعطف، وهو من أوّل النّداءات، وأما قوله: يا أيها المزمل: أي: المتدفئ بغطاء النوم أو الفراش.
سورة المدثر [74: 2]
{قُمْ فَأَنذِرْ} :
{قُمْ} : انهض وقم من مضجعك.
{فَأَنذِرْ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، وهي كذلك في كل الآيات التالية (2-7).
أنذر من الإنذار وهو الإعلام مع التّحذير والتّخويف، وأنذر الكفار والمشركين والعاصين.
سورة المدثر [74: 3]
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} :
الواو حرف عطف.
{وَرَبَّكَ} : وعظِّم ربك بالتّكبير والتّوحيد عظِّم الله تعالى فوق خلقه بالقول الله أكبر.
{فَكَبِّرْ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب.
سورة المدثر [74: 4]
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} :
الواو حرف عطف، وثيابك: الثياب الخارجية التي تستر أو تغطي الجسم، وأما اللباس فهو الذي يستر العورة، ويكون بتماس مع جسم الإنسان.
وطهِّر: فاغسلها وطهرها من كلّ النّجاسات استعداداً للصلاة والفاء للمباشرة والتعقيب أي: والتزم بالطهارة المادية والمعنوية ولا تنسَ طهارة القلب.
سورة المدثر [74: 5]
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} :
الواو عاطفة.
{وَالرُّجْزَ} : الرجز: العذاب، والرجس الأوثان والأصنام، واسم لما يُقتذر وبدلاً من القول: فالرجس فاهجر قال: الرجز؛ لأن العذاب الشديد مسبب عن عبادة الأصنام والأوثان، وهناك من قال: الرجس يشمل الشيطان والأعمال الخبيثة كالخمر والميسر وعبادة الأصنام والأوثان والإثم والعذاب واللعنة. ارجع إلى سورة البقرة الآية (59) للبيان المفصل في معنى الرجز والرجس والفرق بينهما.
{فَاهْجُرْ} : الفاء للمباشرة والتعقيب، داوم على هجرها: تركها والبراءة منها، وتعني: اهجر كل عمل أو إثم يستوجب.
سورة المدثر [74: 6]
{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} :
الواو عاطفة.
{وَلَا} : النّاهية.
{تَمْنُن} : من المنِّ، وهو أن تذكَّر النّاس بما أسديت إليهم من نعمة أي: ولا تمنَّ على أحدٍ بما تقوم به من معروف أو مساعدة أو صدقة أو إحسان.
{تَسْتَكْثِرُ} : ولا تستكثر ما تعطيه رائياً ما تعطيه كثيراً، ولا تمن بعبادتك وطاعتك مهما كانت أو تستكثر عملاً قمت به، وإذا قدَّمت معروفاً فلا تتوقع عنه العوض.
سورة المدثر [74: 7]
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} :
{وَلِرَبِّكَ} : الواو عاطفة، لربك: اللام لام الاختصاص، أي: ابتغاء وجه ومرضاة الله فاصبر.
{فَاصْبِرْ} : على طاعته وعبادته، وتجنَب معاصيه، اصبر على إبلاغ الرّسالة، اصبر على ما أصابك من قضاء وقدر، واصبر على ما يقولون والكلام موجَّه إلى المؤمنين بالله ورسوله.
سورة المدثر [74: 8]
{فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ} :
{فَإِذَا} : الفاء استئنافية، إذا: ظرفية شرطية حتمية الحدوث أي: تستعمل للشيء المحقَّق حدوثه.
{نُقِرَ فِى النَّاقُورِ} : النّاقور: هو الصّور أو البوق وأصل النّاقور الصّوت، والمراد به النّفخة الثّانية.
سورة المدثر [74: 9]
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} :
{فَذَلِكَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط إذا، ذلك: اسم إشارة واللام للبعد.
{يَوْمَئِذٍ} : مركبة من يوم ظرف + إذ ظرف (أضيف إلى ظرف).
{يَوْمٌ عَسِيرٌ} : صعب شديد على المؤمن والكافر لا يطاق لكثرة أهواله وشدائده، وقيل: يوم عسير فقط على الكافرين.
سورة المدثر [74: 10]
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} :
{عَلَى} : تفيد الاستعلاء والمشقة.
وقوله في الآية السّابقة: يوم عسير تعني غير يسير، ولكنه عاد وكرَّر للتأكيد على عسرة ذلك اليوم على الكافرين ولا يرجى تيسيره، وعلى المؤمنين يسير إن شاء الله برحمته وفضله.
ثم ينتقل للحديث عن أحد الطغاة المشركين وهو الوليد بن المغيرة، أو غيره.
سورة المدثر [74: 11]
{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} :
المناسبة: بعد أن أخبر سبحانه أنّه يوم عسير على الكافرين غير يسير، أمثال: الوليد بن المغيرة، وأمثاله من زعماء الكفر والشّرك والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
{ذَرْنِى} : دعني، أو لا تشغل بالك به، أو اتركه إليَّ سأتولى أمره.
{وَمَنْ} : اسم موصول بمعنى الذي، ويفيد الذّم والتّحقير.
{خَلَقْتُ وَحِيدًا} : أي: خلقته لا مال ولا ولد ولا زوجة ولا عشيرة، وقال ابن عبّاس: كان الوليد بن المغيرة يقول: أنا الوحيد بن الوحيد.
ما هو الفرق بين الوحيد وفرداً: الوحيد لم يكن معه أصلاً أحد لا ولد ولا زوجة ولا أنيس، ثمّ قد يصبح غير وحيد بعد أن يتزوَّج، أما الفرد: هو الذي تخلى عن غيره أو غيره تخلوا عنه.
سورة المدثر [74: 12]
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا} :
{مَّمْدُودًا} : كثيراً، أو دائماً غير منقطع، أو ممدوداً على أرض واسعة ويأتيه من الزّرع والتّجارة والضّرع.
سورة المدثر [74: 13]
{وَبَنِينَ شُهُودًا} :
قيل: كان له حوالي (10) أولاد، يساعدونه في تجارته وتصريف أعماله.
{شُهُودًا} : لها عدة معانٍ: أي: حضور لا يغيبون عنه، أو مقيمون حوله في مكة لعدم حاجتهم للضرب في الأرض، شهوداً يتمتع بمشاهدتهم ورؤيتهم، شهوداً تُسمع شهادتهم، أو الكلّ يراهم في المجالس والمحافل وأسواق التّجارة وقيل: أسلم منهم ثلاثة.
سورة المدثر [74: 14]
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} :
{وَمَهَّدْتُ لَهُ} : مكنت له في قومه ليكون من زعماء القوم ورؤسائهم حتّى لقب بريحانة قريش ومهدت من التّمهيد، كما يمهَّد السرير للطفل أي: في الحياة وسعة العيش والحصول على كلّ ما يشتهيه من الغنى والجاه والسلطان.
{تَمْهِيدًا} : للتأكيد.
سورة المدثر [74: 15]
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} :
{ثُمَّ} : للتباين بين طمع الدّنيا عن طمع الآخرة.
{يَطْمَعُ أَنْ} : الطمع: الحرص على طلب المزيد والزيادة.
أن: مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} : له في نعيم الدّنيا بزيادة ماله وجاهه، أو أزيد له بنيل الدّار الآخرة (الجنة) أو أزيد له بكلّ شيء.
سورة المدثر [74: 16]
{كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، كلا لن أزيده بعد اليوم، وعلَّل سبحانه لمنعه في الزّيادة:
{إِنَّهُ} : إنّ للتوكيد، وهاء الضمير تعود على الوليد بن المغيرة، أو غيره.
{كَانَ} : تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل.
{لِآيَاتِنَا} : اللام لام التّعليل، آياتنا: آيات القرآن، وإضافة الآيات له سبحانه للتشريف والتّعظيم.
{عَنِيدًا} : معانداً جاحداً معرضاً مخالفاً.
سورة المدثر [74: 17]
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} :
{سَأُرْهِقُهُ} : السّين للاستقبال القريب، أرهقه: من الإرهاق هو الشّعور الذي يحدث للإنسان بعد حمل الشّيء الثقيل الذي لا يطاق مثل التّعب والإعياء واللغوب، وقيل: الرّهق الغشيان رَهِقه الأمر: غشيه الأمر أو قهره.
{صَعُودًا} : بفتح الصّاد من الصّعد: المشقة فلان في صعد: أيْ: في مشقة العذاب، وقيل: جبل في جهنم يكلَّف بالصّعود عليه، وكلما وصل أعلاه سقط مرة أخرى وهكذا، أيْ: سأكلفه وأحمله عذاباً شاقاً لا يطاق في نار جهنَّم.
سورة المدثر [74: 18]
{إِنَّهُ} : للتأكيد وتعود على الوليد بن المغيرة.
{فَكَّرَ} : بعدما قرأ عليه الرّسول صلى الله عليه وسلم القرآن، فكأنه رق قلبه فجاءه أبو جهل وكلَّمه وطلب منه أن يقول قولاً يدل على أنّه كاره ومنكر للقرآن حتّى يرضى عنه قومه، فقال: دعني حتّى أفكر.
{وَقَدَّرَ} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في القرآن.
سورة المدثر [74: 19]
{فَقُتِلَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، قتل: لُعن وأُبعد، أو طُرد من رحمة الله، قُتل: هذا دعاء أوّل عليه في الدّنيا.
{كَيْفَ} : للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.
{قَدَّرَ} : ماذا سيقوله.
سورة المدثر [74: 20]
{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي في الزمن؛ أي: استغرق زمناً وهو يفكر ما يقوله بشأن القرآن.
كرَّر الدّعاء بالقتل أو اللعن والطّرد من رحمة الله للدلالة على التّأكيد، وتعني: الوليد بن المغيرة، وهذا هو الدّعاء الثاني عليه باللعن والطّرد في الآخرة والتأكيد على خسرانه.
وقيل: كرر (قدر) ثلاث مرات الأولى: قدر ما يريد قوله الرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية: قدر أن ما قاله رسول الله هو شعر، والثالثة: قدر أن ما قاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو قول كاهن.
سورة المدثر [74: 21]
{ثُمَّ نَظَرَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي؛ أي: أمعن واستغرق زمناً وهو يتمهل ولم يسرع.
{نَظَرَ} : تمهل فيما سيقوله وتروَّى.
سورة المدثر [74: 22]
{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي؛ أي: بعد زمن طويل من التفكير والنظر فيما يقوله بشأن القرآن.
{عَبَسَ} : قطَّب جبهته بين الحاجبين.
{وَبَسَرَ} : كلح وجهه واسودَّ وظهرت عليه علامات الكراهية، والتجهم.
سورة المدثر [74: 23]
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} :
{ثُمَّ أَدْبَرَ} : ثمّ أدبر عن الإيمان أيْ: دار ظهره بعد التريث والانتظار.
{وَاسْتَكْبَرَ} : أن يؤمن بالقرآن، ويتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر عظم شأن نفسه ورفع نفسه فوق ما تستحق.
سورة المدثر [74: 24]
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} :
{فَقَالَ} : الفاء للتعقيب والتّرتيب والمباشرة، ولم يقل ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر وجاء بالفاء، وهذا يدل على قوله إن هذا إلا سحر يؤثر صدر منه مباشرة دون تريث وتفكر كما حدث في الأمور الأربع السابقة، وكأنه قال ذلك على عجل، وعدم نظر ويقين وولى مدبراً من شدة الحرب النفسية التي حلت به.
{إِنْ هَذَا} : إن: نافية تعني: ما، هذا: القرآن أو الآيات أو ما يتلوه محمّد صلى الله عليه وسلم.
{إِلَّا} : للحصر.
{سِحْرٌ يُؤْثَرُ} : اتهموه بالسحر لما رأوا تأثيره القوي في القلوب والنفوس وشبَّهوه بالسحر الذي كان خارقاً للعادة، ويؤثر في أنفسهم، ولتعريف السّحر ارجع إلى سورة طه الآية (58) وسورة البقرة آية (102).
سورة المدثر [74: 25]
{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} :
{إِنْ هَذَا} : إنّ نافية، هذا: الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة يشير إلى القرآن.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{قَوْلُ الْبَشَرِ} : أيْ: ليس من كلام الله تعالى، بل هو قول البشر، وهذه الآية تأكيد للآية السّابقة، ما هذا القرآن وآياته إلا سحر يؤثر (يروى عن السّحرة) أيْ: هو سحر وقول البشر وليس كلام الله كقولهم: إنما يعلِّمه بشر.
سورة المدثر [74: 26]
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} :
السّين للاستقبال القريب، سأدخله وسأحرقه في سقر، وهي دركة من دركات النّار السّبع، وهي جهنم ولظى والسّعير والحطمة وسقر والجحيم والهاوية أو اسم من أسماء النّار.
سورة المدثر [74: 27]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} :
{وَمَا} : الاستفهامية.
{أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} : وما أعلمك أو نبأك ما هي سقر، فلا يعلم كنهها وعظمتها إلا الله، ومهما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، وسنطلعك على بعض شأنها الآن، فهي لا تبقي ولا تذر، ولمعرفة الفرق بين ما أدراك وما يدريك ارجع إلى سورة الحاقة آية (3).
سورة المدثر [74: 28]
{لَا تُبْقِى} : لا تبقي شيئاً حياً يلقى فيها إلا أهلكته وقضت عليه.
{وَلَا تَذَرُ} : ولا تذر من أهلكته يبقى ميتاً من دون عودة ثانية للحياة لكي يعذب ويموت، وهكذا كقوله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 57].
سورة المدثر [74: 29]
{لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} :
{لَوَّاحَةٌ} : تلوح وتظهر للعيان من مسافات بعيدة، فلا تخفى على أحد من البشر، أو لواحة من لوحته الشّمس: أيْ: أحرقته حرقاً كاملاً أيْ: مغيرة للون البشرة بالسواد بعد أن كانت بشرة حسنة الهيئة.
ولواحة للبشر قد تعني كلا المعنيين معاً.
{لِّلْبَشَرِ} : اللام لام الاختصاص، البشر: الإنس من أهل النار وسُّمو بشراً من البشرة بشرة جلد الإنسان المكشوفة وتعني: حسن الهيئة والظهور وعدم الاختفاء كالجن.
سورة المدثر [74: 30]
قيل: خزنة جهنم (19) من الملائكة.
لما نزلت هذه الآية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل: يخوفكم محمّد بتسعة عشر، أما له من جنود إلا هؤلاء؟ أيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ قال كلدة بن خلف الجمحي: يا معشر قريش أنا أمشي بينكم أدفع (10) منهم بمنكبي الأيمن، و (9) بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة.
ويجب العلم أن عددهم تسعة عشر مذكور في التوراة والإنجيل ويعتبرون (19) عدة ناقصة واحد من عقد العشرين، ولم يقل: تسعة عشر ملكاً؛ لأن ذلك مفهوم من سياق الآية.
سورة المدثر [74: 31]
{وَمَا} : ما النّافية.
{جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} : خزنة جهنم.
{إِلَّا مَلَائِكَةً} : إلا أداة حصر وفي المواضع الأربعة المذكورة في هذه الآية.
{وَمَا جَعَلْنَا} : تكرار (وما جعلنا) للتأكيد.
{عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} : أيْ: عددهم القليل عدة (قلة) لأجل فتنة الذين كفروا: أمثال أبي جهل وأصحابه.
فتنة: ابتلاء، للذين: اللام لام الاختصاص، إلا ابتلاء لهم أيْ: ضلال لهم لإقامة الحُجَّة عليهم وعلى إيمانهم.
{لِيَسْتَيْقِنَ} : اللام لام التّعليل: يستيقن: أيْ: يزداد تصديقاً وعلماً.
{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} : (اليهود والنصارى) لأنّه مكتوب عندهم في التّوراة والإنجيل أنّهم (19) تسعة عشر، فيصدقون بالقرآن وبنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم وجدوا ما يوافق ما في كتبهم.
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} : من أهل الكتاب ومن غيرهم من الذين آمنوا، إيماناً بمحمّد صلى الله عليه وسلم وأنّ القرآن حق ومن عند الله تعالى.
{وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} : لا: النافية، يرتاب: من الرّيبة وهي الشّك والتّهمة في عدد أصحاب النّار أو ما جاء في القرآن.
{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ} : اللام لام التّعليل، الذين في قلوبهم مرض أي: المنافقون، والكافرون: أيْ: كفار مكة وغيرهم.
{مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} : أيْ: ما الغاية أو الحكمة في هذا العدد، أو يريدون أن ينفوا أن يكون هذا العدد من عند الله تعالى، وبالتّالي ينفوا أن يكون القرآن من عند الله تعالى، وأنّ محمّداً ليس هو النّبي المنتظر، ماذا: أداة استفهام أشد وأقوى استفهاماً من (ما).
{كَذَلِكَ} : أيْ: بمثل هذه الأمثال وذكر الأعداد تسعة عشر أو يحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية، أو إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، يُفتن الذين آمنوا والذين في قلوبهم مرض والكافرون وغيرهم، فأمّا الذين آمنوا فيزدادون إيماناً ويعلمون أنّه الحق من ربهم، وأما الذّين في قلوبهم مرض فيتزلزل إيمانهم ويميلون إلى الباطل وتتحول قلوبهم إلى مواطن الريبة والكفر، وليس المهم هو العدد، وإنما إيمان العبد بما يقوله الرّب سبحانه.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} : ما النّافية، يعلم جنود ربك: الملائكة عددهم وكيفيتهم وعدتهم وقوتهم أو غيرهم من الجنود. ارجع إلى سورة الفتح آية (4) للبيان.
{إِلَّا هُوَ} : إلا أداة حصر، وهو: للتأكيد، أي: الذي خلقهم وبعثهم بالحق.
{وَمَا هِىَ} : هي تعود على سقر.
{إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} : إلا أداة حصر، ذكرى: تذكرة للناس تذكرهم بالحساب والاستعداد ليوم القيامة.
سورة المدثر [74: 32]
{كَلَّا وَالْقَمَرِ} :
{كَلَّا} : تعني: حقاً أو كلمة ردع وإبطال لما يزعم المشركون أو الكافرون أنّهم قادرون على الملائكة التسعة عشر.
{وَالْقَمَرِ} : الواو واو القسم، يقسم الله سبحانه بالقمر لأهميته، والله سبحانه غني عن القسم، فالقمر هو أقرب جرم سماوي إلى الأرض يبعد حوالي (400 ألف كم) عن الأرض ويلعب دوراً مهماً في استقامة الحياة على الأرض، وتحديد الزمن والشهر واليوم ويلعب دوراً في المد والجزر، وتفتيت الصخور وتلطيف المناخ والفصول الأربعة والإنارة في الليل والشهر القمري أدق من الشهر الشمسي وغيرها من الوظائف.
سورة المدثر [74: 33]
{وَالَّيْلِ} : ويقسم بالليل إذا ولى ذاهباً أو مدبراً.
{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.
سورة المدثر [74: 34]
{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} :
قالوا: أي: المجرمون.
{لَمْ نَكُ} : لم نك ولم يقولوا: نكن أو نكون، نك: حذف النّون هنا يدل على سبب بلاغي مقصود هو نفي الصّلاة عنهم أيْ: لم نك البتة من المصلين أي: لم نصل أبداً ولا صلاة واحدة، أو حذف النّون إشارة إلى عدم الرّغبة في الكلام أو الحديث عن الصّلاة لشعورهم بالخزي والعار؛ لأنهم لم يك من المصلين.
سورة المدثر [74: 35]
{إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} :
جواب القسم.
{إِنَّهَا} : إنّ للتوكيد، وهاء الضّمير تعود على سقر.
{لَإِحْدَى} : اللام لام التّوكيد.
{لَإِحْدَى الْكُبَرِ} : الكُبر: جمع كبرى أيْ: سقر هي إحدى البلايا أو الدّواهي، الكُبر: أي: الأمور العظام، وقيل: إحدى الكُبر السبع وهي دركات جهنم وهي: جهنم، لظى، الحطمة، السّعير، سقر، الجحيم، الهاوية.
سورة المدثر [74: 36]
{نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ} :
{نَذِيرًا} : من الإنذار وهو الإعلام مع التّهديد والتّخويف.
{نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ} : أي: الإنس البشر مشتقة من البشرة التي تشكل طبقة الجلد المميزة للبشر أو من البشارة وهي حسن الهيئة، أو تعني الظّهور بعكس الجن.
نذيراً: ولم يقل: نذيرة جاءت بصيغة المذكر أيْ: عذاب سقر أو عذاب النار أعظم الكُبر المنذرة.
سورة المدثر [74: 37]
{لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} :
إذا ربطنا بين هذه الآية والتي قبلها يمكن القول: نذيراً للبشر لمن شاء أن يتقدَّم أو يتأخَّر.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل.
لمن شاء أن يسبق إلى الإيمان والطّاعة والخير أو يتخلَّف عن الإيمان والعمل الصّالح إلى الشّر والكفر لمن شاء أن يكون سابقاً للخيرات أو مقتصداً أو ظالماً لنفسه.
سورة المدثر [74: 38]
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} :
أيْ: كلّ نفس يوم القيامة مرهونة بعملها أيْ: إيمانها وعملها الذي يفكها ويخلصها من العذاب.
{رَهِينَةٌ} : من الرّهن لغة: هو الثّبوت والدّوام أي: الحبس أيْ: كلّ نفس محبوسة بعملها، وشرعاً: هو ما جعل وثيقة للدَّيْن (القرض) كي يصبح رد الدَّيْن مضموناً بالعين المرهونة؛ أي: نفوسهم مرهونة حتى يسدِّدوا الدَّيْن (التكاليف الشرعية وما أمروا به من الفروض).
{بِمَا كَسَبَتْ} : الباء السّببية أو البدلية، كسبت: من خير أو شر؛ فإذا لم يؤدوا الفروض أو ما كلِّفوا به عندها تؤخذ النّفوس المرهنة (وتعاقب) لأنّهم لم يقوموا بالفرائض.
سورة المدثر [74: 39]
{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{أَصْحَابَ الْيَمِينِ} : أي: الذين يأخذون سجلَّ أعمالهم أو صحائفهم يوم القيامة بأيمانهم، فهؤلاء لا يطلب منهم أيُّ رهان أيْ: لا تؤخذ أنفسهم كرهان.
سورة المدثر [74: 40]
{فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} :
{فِى} : ظرفية.
{جَنَّاتٍ} : جمع جنة، جنات الفردوس، وجنات عدن والمأوى، وجنات الخلد والنّعيم، وغيرها.
{يَتَسَاءَلُونَ} : يسأل بعضهم بعضاً ماذا حل بالمجرمين أو أين هم؟
سورة المدثر [74: 41]
{عَنِ الْمُجْرِمِينَ} :
الكافرين والمشركين والعاصين وعن تفيد المجاوزة والمباعدة. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لمزيد من البيان عن المجرمين.
سورة المدثر [74: 42]
{مَا} : استفهامية للإنكار والتّوبيخ.
{سَلَكَكُمْ} : أدخلكم، وسلك: دخل بسهولة والدّخول إما أن يكون بمشقة وصعوبة أو بسهولة، فإذا كان بسهولة يستعمل سلك.
{فِى سَقَرَ} : أيْ: ما أدخلكم في سقر. ارجع إلى الآية (26) للبيان.
سورة المدثر [74: 43]
سورة المدثر [74: 44]
{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} :
حذف النّون هنا أيضاً ولم نطعم أيَّ مسكين أي شيء، أو أقل شيء، أو لا يريدون الحديث والكلام عن الصّدقة والزّكاة.
سورة المدثر [74: 45]
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} :
وكنا في الدّنيا نخوض مع الخائضين: نخوض بالباطل نخوض من خاض الماء أيْ: مشى في الماء من دون العلم بعمق الماء الذي يخوضه، أو فيما إذا كانت هناك حفرة ستزل قدمه فيها كالخوض في الحديث عن القرآن يعلمه بشر، أساطير الأولين، قول ساحر أو شاعر.
سورة المدثر [74: 46]
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} :
تكرار كنا للتأكيد، كنا في الدّنيا نكذب بيوم الدِّين، أيْ: لا نؤمن أو نصدِّق بيوم الحساب ويوم القيامة والبعث والجزاء.
سورة المدثر [74: 47]
{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} :
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{أَتَانَا الْيَقِينُ} : اليقين الموت واختار أتانا بدلاً من جاءنا؛ لأنّ الموت أو اليقين لم يأت بعد، وإنما سيأتيهم في المستقبل (حيث يتحدثون عن حالهم عندما كانوا في الدنيا)، واليقين درجات: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وهو أعلاها.
سورة المدثر [74: 48]
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} :
{فَمَا} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدر أيْ: إذا كان هذا حالهم لم يكونوا من المصلين ولم يطعموا المسكين وكانوا يخوضون مع الخائضين، وكانوا يكذبون بيوم الدِّين، فلن تنفعهم شفاعة الشّافعين.
{تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} : مهما كانوا من الملائكة أو النّبيين أو الصّالحين أيْ: لو وجد من يريد أن يشفع لهم فلن تقبل شفاعتهم؛ لأنّ الشّفاعة لا تتم إلا برضا وإذن من الله، والشّفاعة لا تكون إلا لمن رضي له قولاً، أيْ: يكون المشفوع له من الموحِّدين مثلاً، أيْ: لا شفاعة لهم.
سورة المدثر [74: 49]
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} :
{فَمَا لَهُمْ} : الفاء للتوكيد، ما للاستفهام الإنكاري، لهم: اللام لام الاختصاص.
{عَنِ} : حرف مجاوزة وإبعاد.
{التَّذْكِرَةِ} : القرآن الكريم أو غيره من المواعظ.
{مُعْرِضِينَ} : لا يريدون الاستماع إليها أو صادِّين عنها.
سورة المدثر [74: 50]
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} :
كأنّهم في إعراضهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم أو التّذكرة أو الدِّين يفرُّون كالحُمُر الوحشية.
{حُمُرٌ} : جمع حمار، وحمار تجمع على حمير، والقرآن يستعمل كلمة حُمرُ: للحمار الوحشي، وحمير كما قال تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] يستعملها للأهلية المستخدمة.
{مُّسْتَنفِرَةٌ} : مذعورة لا يمكن ركوبها أو الاستفادة منها.
سورة المدثر [74: 51]
{فَرَّتْ} : هربت.
{مِنْ} : ابتدائية.
{قَسْوَرَةٍ} : من الأسد، تشبيه قبيح لحالهم وفرارهم خوفاً من الاستماع إلى القرآن أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: من الصياد.
سورة المدثر [74: 52]
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ} : امرئ: تطلق على الرّجل رجال الجن والإنس وتشمل الكبار والصّغار، وكلمة امرئ أعم وأشمل من كلمة إنسان، منهم: خاصة من كفار قريش.
{يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} : أيْ: يريد كلّ واحد منهم أو يطلب منك أن تنزل عليه كتاباً من السّماء منشوراً يدلُّ على أنّك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق بالقرآن.
منشرة: مفتوحة غير مطوية الكل قادر على قراءتها.
سورة المدثر [74: 53]
{كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وإبطال أيْ: لن ننزل عليهم صحفاً منشرة ولن نستجيب لمطالبهم.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} : لا النّافية لكل الأزمنة أيْ: هم لا يؤمنون بالبعث والحساب أصلاً، ولو خافوا الآخرة لما طلبوا منك ذلك، والنون في يخافون للتوكيد.
سورة المدثر [74: 54]
{كَلَّا} : أيْ: حقاً.
{إِنَّهُ} : إنّ للتوكيد والهاء ضمير يعود على القرآن الكريم.
{تَذْكِرَةٌ} : أي: خيرُ تذكرةٍ بالآخرة والاستعداد لها، وفي سورة عبس الآية (11) قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} ، آية المدثر:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} : المراد به القرآن، وآية عبس:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} : المراد بها الآيات التي وردت في سياق ابن أم مكتوم أو السورة.
سورة المدثر [74: 55]
{فَمَنْ} : الفاء عاطفة، من شرطية.
{شَاءَ ذَكَرَهُ} : أراد قراءته، قرأه واتعظ به والمشيئة تسبق الإرادة.
سورة المدثر [74: 56]
{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{يَذْكُرُونَ} : أيْ: يتعظون أو يؤمنون أو يقرؤونه.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : أن: للتوكيد؛ يشاء الله: ولم يقل بإذن الله تعالى؛ إن شاء الله: تأتي في سياق الأعمال التي نقوم بها، أو نتدخل بها، وبإذن الله: تأتي في سياق الأعمال التي ليس لنا دخل أو يد؛ أي: خارجة عن إرادتنا.
{هُوَ} : ضمير يفيد التّوكيد والحصر.
{أَهْلُ التَّقْوَى} : أيْ: هو المستحق للعبادة والتّقوى وحده والذي يخاف عقابه أو أهل ليهب التقوى لمن يشاء.
{وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} : تكرار أهل للتوكيد، وأهل المغفرة: الذي بيده ملكية المغفرة يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو وحدَه القادر على أن يغفر الذّنوب مهما كانت ولا يعاقب عليها، ويثيب على الحسنات، وأهلٌ لأن يهب المغفرة لمن يتقيه.
سورة القيامة [75: 1]
سورة القيامة
ترتيبها في القرآن (75) وترتيبها في النّزول (31).
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} :
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : لنعلم أن الله سبحانه وتعالى غني عن القسم، والقسم إنما يشير إلى عظمة وأهمية المقسم به وجواب القسم: كما قال تعالى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75].
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40].
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38].
{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16].
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15].
ويوم القيامة: يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ أي: يبعثوا من قبورهم للحساب والجزاء، ويوم القيامة له أسماء كثيرة منها: يوم الحشر، يوم الجمع، يوم التلاق
…
وغيرها.
فقد جاءت (لا) أقسم في ثماني آيات، وجاءت لا قبل فعل القسم (أقسم) في كل هذه الآيات واختلف علماء النحو في إعراب (لا)، فمنهم من قال:(لا) زائدة يمكن حذفها، وتفيد زيادة توكيد القسم فمعنى لا أقسم بيوم القيامة؛ أي: أقسم بيوم القيامة بالتوكيد.
ومنم من قال: (لا) النافية لما قبلها أي: نافية لأمر ذكر قبل القسم مثل إنكارهم للبعث والحساب والحشر أيْ: (لا) ليس الأمر كما تنكرونه وأقسم بما تنكرونه. أو لا أقسم بذلك الأمر إلا إعظاماً له.
أو للتأكيد عن طريق النفي كقولك: لا أحتاج أن أوصيك بفلان.
ومنهم من قال: (لا) النافية لما بعدها: مثل قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1].
{بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} : يوم: ظرف زمان، القيامة: يوم البعث من القبور والبعث سيكون من الأرض الجديدة مصدر قام يقوم وأدخل عليها التّاء للمبالغة، وسمِّيت بذلك لقيام النّاس لرب العالمين، كقوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] أو لما يقوم فيها من الأهوال والأحداث العظام، وورد هذا الاسم يوم القيامة في سبعين آية من آيات القرآن الحكيم.
سورة القيامة [75: 2]
{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} :
{وَلَا أُقْسِمُ} : الواو عاطفة، لا أقسم: ارجع إلى الآية السابقة.
أيْ: أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنّفس اللوامة: أي: النّفس التي تلوم صاحبها على تقصيره: إن أحسنت لامت صاحبها على عدم الزّيادة في الإحسان والعمل الصّالح، وإن أساءت لامت صاحبها على ذنوبه وتقصيره.
والنّفس اللوامة قد يكون صاحبها مؤمناً تقيّاً أو ظالماً أو غيره، واللوامة: أي: الدّائمة اللوم أو المبالغة، أيْ: كثيرة اللوم ولنعلم أن النّفس الواحدة تتقلَّب أو تمر بمراحل، أو أزمنة فيطلق عليها تارة النّفس الأمارة بالسّوء أو اللوامة أو النّفس المطمئنة.
أو هناك من الأنفس طبيعتها الأمر بالسوء، وأخرى لوامة، أو مطمئنة وجواب القسم محذوف، وجوابه أن يوم القيامة حق وواقع لا محالة أيْ: لتبعثنَّ ولتنبئنَّ بما عملتم.
سورة القيامة [75: 3]
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} :
{أَيَحْسَبُ} : الهمزة للاستفهام والتّوبيخ والتّقريع، حسب ويعني: يظن الظّن الرّاجح، وحسب من الحسبان المبني على الحساب والمعرفة.
{الْإِنسَانُ} : الكافر أو المنكر للبعث أو يوم القيامة.
{أَلَّنْ} : أصلها أن: للتوكيد، لا النّافية.
{نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} : أيْ: نُنشزها ونكسوها لحماً ونعيدها كما كانت في الخلق الأوّل أو نجمعها بعد أن تفرقت وكانت تراباً ورفاتاً.
هذه الآية قيل: هي جواب القسم المحذوف وتقديره: لتبعثنَّ ولنجمعنَّ عظامه.
سورة القيامة [75: 4]
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} :
{بَلَى} : حرف جواب.
{قَادِرِينَ عَلَى أَنْ} : أن حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} : أيْ: لسنا نحن فقط قادرين على أن نجمع عظامه، بل قادرين أن نرد بنانه أيْ: أصابعه وأنامله التي في يديه وقدميه، والسّر في اختيار هذه العظام لكونها تحمل بصمات أصابع يديه ورجليه التي تحمل هويته الخاصة به.
والتي تختلف من إنسان إلى إنسان وتميزه عن غيره من طلاقة القدرة الإلهية أنه لا توجد بصمة تشابه الأخرى حتى التوائم، وكذلك هناك (8) عظام في الرسغ، وكل أصبع ثلاث سلاميات ما عدا الإبهام فهو سلاميتان، هذه العظام الصغيرة والقادرة على حمل الأوزان الثقيلة، وكذلك عظام القدمين (8) عظام إضافة إلى عظام الأصابع ثلاث عظمات في كل أصبع أو سلامة، أي: قادرين على أن نعيد بناء جسمه المركب من هذه العظام الصغيرة وغيرها.
سورة القيامة [75: 5]
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} :
{بَلْ} للإضراب الانتقالي.
{يُرِيدُ الْإِنسَانُ} : الإنسان الظالم أو الكافر.
{لِيَفْجُرَ} : اللام لام التوكيد على إرادته الفجور، والفجور هو الإسراف في الكفر والإلحاد والعصيان وعدم التصديق بالبعث والحساب أو يقوم الذنوب ولا يتوب.
{أَمَامَهُ} : في حياته، أو المستقبل، وهذا يدل على أنّه يريد المداومة على شهواته وفجوره والعجلة في الوصول إليها إلى ذلك.
سورة القيامة [75: 6]
{يَسْـئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} :
{يَسْـئَلُ أَيَّانَ} : أيان: للاستفهام على الزّمان وتعني: (متى) وفيها معنى الاستبعاد لقيام يوم القيامة، يسئل سؤال إنكار وتكذيب أو استهزاء، كقوله لغيره: أتصدق أنّ هناك يوم قيامة، أو من قال لك أنّ هناك يوم قيامة.
سورة القيامة [75: 7]
برق البصر: أيْ: زاغ البصر.
هذه الآية والآيات القادمة هي جواب للسائل المنكر أو المستبعد أيان يوم القيامة، أيْ: ما على السّائل إلا أن ينتظر قليلاً حتّى يرى بصره يزيغ ويتحيَّر إمّا عند موته، والأرجح يوم القيامة حين يرى الأهوال والعجائب التي كذب بها في الدّنيا أمام عينيه؛ مما يؤدِّي إلى تحيُّره فزعاً ودهشة.
سورة القيامة [75: 8]
{وَخَسَفَ الْقَمَرُ} :
ذهب نوره أيْ: أظلم لم يعد يعكس الضّوء وتعطل أو خرج عن فلكه.
سورة القيامة [75: 9]
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} :
فقد تبيَّن للعلماء أن القمر يبتعد عن الأرض (3-4سم) كل سنة، فلا بُدَّ أن تأتي لحظة أو زمن سيخرج القمر عن نطاق جاذبية الأرض وتبتلعه الشمس.
سورة القيامة [75: 10]
{يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} :
وفي ذلك اليوم؛ أي: يوم القيامة الذي يبرق فيه البصر ويخسف القمر ويجمع الشّمس والقمر يقول الإنسان أين المفر.
{أَيْنَ الْمَفَرُّ} : استفهام حقيقي عن المكان.
{الْمَفَرُّ} : اسم مكان، مكان للفرار أو أين الملجأ أو المفر من عذاب الله.
سورة القيامة [75: 11]
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر له عن طلب الفرار أو الملجأ.
{لَا وَزَرَ} : لا النّافية، وزر: ملجأ مثل الجبل أو الحصن لكي يأوي إليه أو يعتصم به.
هناك فرق بين الوِزر والوَزَر: الوَزر: الملجأ أو الحصن، الوِزْر: جمعه أوْزار: أيْ: آثام وذنوب.
سورة القيامة [75: 12]
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} :
تقديم الجار والمجرور (إلى ربك) يفيد الحصر أيْ: إلى ربك المصير أو المرجع أو المنتهى.
{إِلَى رَبِّكَ} : الرّب هو الخالق والرّازق والمنعم والمربي والمدبر الذي يحتاج إليه الفار.
{الْمُسْتَقَرُّ} : مكان الاستقرار (الجنة والنّار).
سورة القيامة [75: 13]
{يُنَبَّؤُا الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} :
{يُنَبَّؤُا الْإِنسَانُ} : النبأ: هو الخبر العظيم. الإنسان: المؤمن أو الكافر، المطيع والعاصي.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة آنذاك.
{بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} : بما: الباء للإلصاق ما اسم موصول بمعنى الذي وما أوسع شمولاً من الذي.
قدَّم: من أعمال حسنة وسيئة أو خير أو شرٍّ.
وأخَّر: بعد موته من صدقة جارية.
أو أخَّر من حج أو عمرة أو زكاة أو دين.
سورة القيامة [75: 14]
{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} :
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} : أيْ: هو حُجَّة على نفسه أو تشهد عليه أعضاؤه بالسوء أو تشهد له بالخير، شاهد على نفسه ومراقب لها، أو شديد المعرفة لنفسه يعلم ما قدَّمت يداه، كقوله تعالى:{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا} [النحل: 111].
سورة القيامة [75: 15]
{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} :
{وَلَوْ} : لو: شرطية.
{أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} : جمع معذرة: جاء بكل معذرة ليعتذر بها أو يجادل بها عن نفسه جواب الشرط محذوف تقديره ما قبلت منه أو لن تنفعه أو لا يؤذن له ليعتذر.
سورة القيامة [75: 16]
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} :
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} : لا النّاهية، به: تعود على القرآن.
كان صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يتفلت منه القرآن وحرصاً على حفظه يسارع جبريل عليه السلام ولا يصبر حتى يتم جبريل التّلاوة أو القراءة عليه فينازع جبريل القراءة، أيْ: يبدأ يقرأ، ولم يتم جبريل قراءته فأوصاه الله تعالى في هذه الآية أن ينصت ويستمع إلى جبريل بقلبه وسمعه حتّى ينتهي جبريل من التّلاوة أو القراءة، لتعجل به: اللام لام التّعليل أيْ: لا تقرأ وجبريل يقرأ.
سورة القيامة [75: 17]
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} :
{إِنَّ} : للتوكيد علل النّهي عن العجلة بقوله: إنا علينا جمعه وقرآنه.
{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} : أيْ: تعهد الله سبحانه وتكفل أن يجمع القرآن في صدر رسوله صلى الله عليه وسلم سواء بالحفظ أو النطق الصحيح وبحفظه مكتوباً أو بحفظه في صدور الناس.
سورة القيامة [75: 18]
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} :
{فَإِذَا} : إذا ظرفية شرطية تستعمل للأمور المتحقق وقوعها.
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} : أيْ: إذا قرأه جبريل عليك فاتبع قراءة جبريل واستمع وأنصت إليه حتى يتم، وقيل: فاتبع قرآنه أي: اعمل به وأحل حلاله وحرم حرامه.
سورة القيامة [75: 19]
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} :
{ثُمَّ} : للترتيب الذّكري.
{بَيَانَهُ} : بيان ما فيه من أحكام وشرائع وحلال وحرام وحدود أو بيان ما اشتبه عليك من معانيه أو أحكامه، المبين هو جبريل عليه السلام ، والمبين له هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم علينا (الجار والمجرور) يفيد الاختصاص، فالله سبحانه مختص ببيانه، أو بيانه تعني تتلوه، كما يتلوه جبريل عليه السلام ، وبلسان عربي مبين.
سورة القيامة [75: 20]
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} :
{كَلَّا} : قد تعني حقاً أيْ: حقاً، أو كلا: كلمة ردع لا تعجل به يا محمد وتحرك به لسانك وعليك بالأناة والصبر، وكما قال تعالى:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114].
{بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} : بل: للإضراب الانتقالي؛ تحبون العاجلة؛ أي: الحياة الدّنيا القريبة مقارنة بالآخرة البعيدة؛ لكي لا يغتر بالحياة الدنيا العاجلة لقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، ولا يعني ذلك: أن الله خلقه عجولاً، وإنما كثرة عجلته والدوام عليها يظن من ينظر إليه كأنه خلق عجولاً.
سورة القيامة [75: 21]
{وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} :
{وَتَذَرُونَ} : من فعل ذر: أيْ: ترك بسرعة وعجلة أي: لا تستعدُّون لها ولا تهتمون بها.
{الْآخِرَةَ} : أي: دار الآخرة دار القرار التي تحول الوجوه إلى وجوه ناضرة أو وجوه باسرة.
سورة القيامة [75: 22]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} :
{وُجُوهٌ} : مجاز مرسل أطلق الجزء وأراد به الكل؛ أي: الذات أو النفس.
{نَاضِرَةٌ} : من النّضارة وهي الحسن أيْ: وجوه مشرقة دلالة على رضى وسرور النفس ومضيئة بنور الإيمان والأعمال الصّالحة.
تقديم {يَوْمَئِذٍ} : يفيد الاختصاص أي: في ذلك اليوم خاصة.
سورة القيامة [75: 23]
{إِلَى رَبِّهَا} : تقديم الجار والمجرور إلى يفيد الحصر أو الاختصاص أيْ: لا تلتفت يمنة أو يسرة إلا إليه وتمعن النّظر إليه سبحانه.
{نَاظِرَةٌ} : وهذا هو أعظم النّعيم والغاية العظمى والدّرجة العليا في الآخرة، وناظرة: مؤنث ناظر اسم فاعل من نظر، والنظر إلى الله سبحانه من الغيب، نظر يليق بجلاله وعظمته.
سورة القيامة [75: 24]
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} :
{بَاسِرَةٌ} : مؤنث باسر والباسر اسم فاعل من بسر والباسر: شديد العبوس، باسرة من البَسْر: وهو تقبض عضلات الجبين وما بين العينين، أي: عابسة بشدة، فالانقباض يؤدِّي إلى قلة التّروية الدّموية في الوجه؛ مما يؤدِّي إلى تغير لون الوجه والزّرقة أو اللون الشّاحب والبَسْر.
{يَوْمَئِذٍ} : وتقديم يومئذ يفيد الاختصاص أيْ: في ذلك اليوم خاصة تراها باسرة.
سورة القيامة [75: 25]
{تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} :
{تَظُنُّ} : من الظّن التردد الراجح وهو الذي ترجح فيه كفة الإثبات والعلم على النّفي، تظن أيْ: تعلم علم اليقين أو تتوقع.
{أَنْ} : للتعليل.
{يُفْعَلَ بِهَا} : الفاعل مبني للمجهول، ولا يجوز نسب الضّر والسّوء إلى الله سبحانه الغني عن ذلك.
{يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} : فاقرة مأخوذة من الفقار وهي عظام الظّهر المركب من فقرات، وفاقرة داهية عظيمة أو مصيبة ستحل به وتقصم ظهره؛ أيْ: تكسر فقار ظهره، أو فاقرة مأخوذة من الفقر، أو الفاقرة الحدث الجلل الذي يؤدِّي إلى شلل كامل في العمود الفقري فلا يقوى بعدها على الوقوف.
سورة القيامة [75: 26]
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} :
{كَلَّا} : حقاً، أو كلمة ردع وزجر.
{إِذَا} : ظرفية شرطية حتمية الحدوث.
{بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ} : أي: الرّوح إذا انتزعت من أي إنسان وبلغت أيْ: وصلت التّراقي: جمع ترقوة أيْ: عظم التّرقوة، ولكل إنسان عظمان، كلّ منهما يسمَّى عظم التّرقوة على مستوى أسفل العنق، أو أعلى الصّدر، وفي آية أخرى {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83]، {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 87]، وموقع الحلقوم أعلى من موقع عظم الترقوة. ترجعونها؛ أي: هل أنتم قادرون على إرجاعها إلى الجسم بعد انتزاعها منه.
سورة القيامة [75: 27]
{وَقِيلَ} : مبني للمجهول (ليس المهم معرفة القائل وإنما المقولة).
{مَنْ} : استفهامية استغراقية.
{رَاقٍ} : راق: اسم فاعل من فعل رقى بمعنى يرقيه أيْ: يقرأ عليه الرُّقية كي يشفى ويُعيد إليه روحه بعد انتزاعها أو من يصعد أو يرقى بروحه إلى السّماء؛ أيْ: هل من رجل صالح أو طبيب يشفيه أو ملك يصعد بروحه إلى السّماء.
سورة القيامة [75: 28]
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} :
{وَظَنَّ} : أيْ: تيقن وعلم أنّه الفراق.
{الْفِرَاقُ} : فراق الدّنيا والأهل والمال.
سورة القيامة [75: 29]
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} :
{السَّاقُ بِالسَّاقِ} : عند العرب كناية عن الشّدة أي: اجتمعت الشّدائد وصعب الكرب لمفارقة الأهل والمال والدّار والإخلاء أو جاءت سكرات الموت.
{وَالْتَفَّتِ} : فعل ماض أي: انتهى الأمر والتفت السّاق بالسّاق بالكفن أو تيبستا ولم تتحركا كأنّه أصابهما شلل ولم يعد فيهما فائدة أو حركة.
سورة القيامة [75: 30]
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} :
{إِلَى رَبِّكَ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، الأصل يومئذ إلى ربك المساق.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة الصّغرى، أو يوم تلتف السّاق بالسّاق.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} : إليه وحده فقط المساق، المساق مصدر ميمي من فعل ساق، المساق: أي: السّوق إلى أرض المحشر للحساب والجزاء.
سورة القيامة [75: 31]
{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} :
تعود على الإنسان المكذب بالحساب والبعث.
وقيل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.
{فَلَا صَدَّقَ} : الفاء استئنافية، لا النّافية، صدق: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا صدق بالقرآن والبعث والحساب أو برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَا صَلَّى} : تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي وفصل التّصديق عن الصّلاة أو كلاهما معاً لم يصدق، ولم يصلِّ معاً لم يصلِّ لربه الصلاة المفروضة التي هي أهم العبادات، وقدَّم التّصديق على الصّلاة؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس وهو أكبر جرماً وضلالاً من ترك الصّلاة.
سورة القيامة [75: 32]
{وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} :
{وَلَكِنْ} : حرف استدراك وتوكيد.
{كَذَّبَ} : بالله وآياته (القرآن) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث والحساب.
{وَتَوَلَّى} : ابتعد وأعرض عن عبادة ربه وتولى عن الصّلاة والزّكاة والصّيام والحج.
سورة القيامة [75: 33]
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} :
{ثُمَّ} : قد تفيد التّرتيب العددي أو التّوكيد.
{ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} : أيْ: لم يكتف بعدم التّصديق والإيمان وعدم الصّلاة وعبادة الله وطاعته، بل زاد على ذلك أنّه ذهب إلى أهل يتمطى يمد خطاه، وقيل: المطا: الظهر أيْ: يختال ويتبختر معجباً بنفسه مسروراً أنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تمادى في كفره وفجوره.
سورة القيامة [75: 34]
{أَوْلَى لَكَ} : أي: الويل لك يا من لم تصدق وتصلي وكذبت وتوليت وتعاليت، فأولى للتوكيد، وقيل: أولى لك فأولى: دعاء عليه بالهلاك والشّر العاجل أو تهديد ووعيد.
{أَوْلَى} : مشتقة من الوَلْي: وهو القرب قرب وقوع الهلاك أيْ: يا هلاكك يا مصيبتك، أو ويلك الويل أو أولاك عجَّل الله لك الهلاك أو العذاب المرة بعد المرة.
أولى لك: حياً؛ أي: في الدّنيا، أي: الويل لك في حياتك الدنيا والويل لك عند موتك.
{فَأَوْلَى} : الفاء للتعقيب والمباشرة، فأولى؛ أي: الويل لك في حياة البرزخ والويل لك عند البعث.
سورة القيامة [75: 35]
{ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} :
{ثُمَّ} : تفيد التّرتيب والتّراخي في الزّمن.
{أَوْلَى لَكَ} : يا هلاكك ومصيبتك يوم البعث والحشر أو ويل لك يوم البعث والحشر، أو في يوم القيامة.
{فَأَوْلَى} : الفاء للترتيب والتّعقيب، فأولى أيْ: في النّار أيْ: ويل لك أو يا هلاكك في النّار.
سورة القيامة [75: 36]
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} :
{أَيَحْسَبُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ.
{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ} : من حسب أيْ: ظن الظّن الرّاجح القائم على حساب ونظر وتجربة أنه خلق عبثاً أو سدى، ولذلك فهو ينكر البعث والحساب.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يُتْرَكَ سُدًى} : أيْ: أن يترك مهملاً فلا يكلف في الدّنيا ولا يجزى في الآخرة ولا يؤمر ولا يُنهى وأسدى الشّيء: أيْ: أهمله، وإبل سُدى أيْ: إبل مهمة بلا راع؛ أي: يترك بلا مراقبة أو رعاية ومحاسبة في الآخرة.
سورة القيامة [75: 37]
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَّنِىٍّ يُمْنَى} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام.
{يَكُ} : ولم يقل: يكن أو يكون، يك تدل على مبدأ الشّيء ولم يتطور بعد أو دور التّكوين لم يكتمل بعد؛ لأنّ يك تمثل بداية تطور الجنين.
{نُطْفَةً مِنْ مَّنِىٍّ يُمْنَى} : أيْ: من نطفة الرّجل أي: الحيوان المنوي والذي يحتاج إلى البويضة ليلقحها، فالنّطفة غير كاملة حتّى يندمج الحيوان المنوي مع البويضة، من: ابتدائية أيْ: ماء دافق يخرج من بين الصّلب والتّرائب يُمنى: يُخصب.
سورة القيامة [75: 38]
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} :
{ثُمَّ} : تدل على التّباين بين مرحلة النّطفة ومرحلة العلقة، أو تدل على التّرتيب العددي.
{فَخَلَقَ} : الفاء للترتيب والمباشرة، خلق: الخلق هو التقدير والإيجاد.
{فَسَوَّى} : فصار خلقاً سوياً سليم الأعضاء.
سورة القيامة [75: 39]
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} :
{فَجَعَلَ} : الفاء تدل على التّرتيب والتّعقيب.
{فَجَعَلَ مِنْهُ} : منه تعود على المني، جعل: الجعل يكون بعد الخلق، الخلق يكون من المني أي: النّطفة، والمني المكون من أكثر من (100 مليون) حيوان منوي، وفقط واحد من هذه يكون قادراً على اختراق البُويضة للإخصاب.
ومن المني (ماء الرّجل) يتكون (الذّكر والأنثى) أي: الزّوجان وليس للأنثى دخل في تشكل الذّكر أو الأنثى؛ إذاً الذي يحدد جنس المولود ذكر أو أنثى هو مني الرجل وليس المرأة؛ مني الرجل الحاوي على (كروموزومات) منها واحد هو يحدد كون المولود ذكراً أو أنثى، وهذا من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الدالة على القرآن منزل من الخالق، ولنعلم أنّه في المراحل الأولية من تطور الجنين لا تعرف هويته ذكر أو أنثى إلا بعد مرور فترة من الزّمن تقدر بـ (14) أسبوعاً في غالب الأحيان.
سورة القيامة [75: 40]
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحِْىَ الْمَوْتَى} :
{أَلَيْسَ} : الهمزة للاستفهام التّقريري من يخلق ذلك اسم إشارة إلى من يخلق المني ويجعله نطفة ويجعل منه الزوجين الذكر والأنثى.
{بِقَادِرٍ عَلَى} : الباء للإلصاق والتّوكيد، قادر من القدرة والاستطاعة على: على تفيد المشقة والعلوية؛ أي: قادر على أن يفعل ما يشاء، وفي آيات أخرى وصف الله سبحانه ذاته بالقدير للمبالغة في قدرته، فقال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} ، وكذلك وصف ذاته بالمقتدر كما في سورة القمر الآية (55){عِنْدَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} .
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{يُحِْىَ الْمَوْتَى} : أيْ: يبعث الموتى من جديد وينشئُهم أيْ: يُحييهم كالنّشأة الأولى؟ الجواب: بلى سبحانه قادر على كل شيء إثبات عن طريق التّقرير.
سورة الإنسان [76: 1]
سورة الإنسان
ترتيبها في القرآن (76) ترتيبها في النّزول (98).
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْـئًا مَّذْكُورًا} :
{هَلْ} : استفهام يفيد أو بمعنى التّقرير جاءت بصيغة السّؤال بدلاً من صيغة الخبر، وطلب من القارئ أن يجيب بنفسه على هذا السّؤال، ولا يجوز القول: هل معناها قد كما قال البعض؛ لأنّ ذلك يعني: أن المتكلم قرَّر ذلك، وأخبر بنفسه وغير القصد من المعنى بينما الحقيقة السائل يريد من المستمع أن يجيب على السؤال ويقر بذلك.
{أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} : أتى: تعني المجيء بسهولة بعكس جاء على الإنسان: اسم جنس يعني: ولد آدم ومشتقة من الأنس يأنس بغيره، أو لأنّه غير مختف كالجن فهو يُبصر ويُرى، حينٌ: الحين هو زمن غير محدَّد مهما كان طوله أو قصره.
{لَمْ} : للنفي.
{لَمْ يَكُنْ شَيْـئًا مَّذْكُورًا} : هنا احتمالان: يحتمل أنّه لم يكن شيئاً، ويحتمل أنّه كان شيئاً ولم يكن مذكوراً.
وقيل: الإنسان هنا يعني: آدم عليه السلام ، والحين الذي مرَّ عليه (40) سنة كان مصوراً من طين، ثم من حمأ مسنون، ثم صلصال كالفخار، لا يذكر ولا يعرف ولا يُدرى ما اسمه، إلى أن نفخ فيه الرّوح، وقيل: الإنسان حين يكون في أصلاب الآباء، وقبل أن يصبح نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة.
لم يكن شيئاً مذكوراً، وجاءت سورة الإنسان لتذكر الإنسان بخلقه، ثمّ بتزويده بطاقات السّمع والبصر، ثمّ هدايته السّبيل، ثمّ جزاء الكافرين وجزاء الأبرار والنّعيم الذي ينتظرهم ونددت بحب الدّنيا وحثت على الصبر وأن القرآن تذكرة ومنزل من الله رب العالمين. ارجع إلى سورة مريم آية (67) لمعرفة الفرق بين قوله تعالى:{لَمْ يَكُنْ شَيْـئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1]، وقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُ شَيْـئًا} [مريم: 67].
سورة الإنسان [76: 2]
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} :
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ} : إنّا للتعظيم، الخلق: التّقدير الإنسان. ارجع إلى الآية السّابقة.
{مِنْ نُّطْفَةٍ} : من مني الرّجل والمرأة.
{أَمْشَاجٍ} : أخلاط من ماء الرّجل وماء المرأة (من المني والبويضة) تتطور طوراً بعد طور لتكون الجنين، وأما الأضغاث: جمع ضغث كما في سورة ص الآية (44): {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِهِ} ، أو قوله تعالى:{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [يوسف: 44]، والتي تدل على اختلاط وتداخل وغير واضحة، وأما الأمشاج: فهي واضحة، ومميزة رغم اختلاطها.
{نَّبْتَلِيهِ} : لكي نختبره بالتّكاليف الشّرعية بعد سن البلوغ.
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} : جعلنا له حاسة السّمع وحاسة البصر والفاء فاء السّببية، وقدَّم السّمع على البصر. ارجع إلى سورة الملك الآية (23) للبيان.
سورة الإنسان [76: 3]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} :
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} : إنّا للتعظيم، هديناه: بينا له الطريق وأرشدناه إلى طريق الهدى والصّلاح والصراط المستقيم (الدِّين)، وبيَّنا له طريق الضّلال والفساد بشتى الوسائل بالعقل والرّسل والأنبياء والكتب المنزلة والآيات الكونية، هديناه السّبيل؛ لنرى هل يكون شاكراً أم يكون كفوراً.
{إِمَّا شَاكِرًا} : إمّا حرف تفصيل، شاكراً: اسم فاعل من شكر ويدل على الأعم؛ أي: من شكر أكثر من شكور بعكس شكور تدل على كثرة الشكر، فكل شكور شاكر، وليس كل شاكر شكور.
{وَإِمَّا كَفُورًا} : تكرار إمّا للتوكيد، كفوراً: صيغة مبالغة تدل على كثرة الكفر والوقوع فيه ولم يقل: إمّا شكوراً وإما كفوراً، للمبالغة في الكفر مقارنة بالشكر، وكما قال تعالى: في سورة سبأ الآية (13): {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} .
سورة الإنسان [76: 4]
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} :
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} : إنّا للتعظيم، أعددنا: هيأنا للكافرين اللام لام الاختصاص والاستحقاق. الكافرين: الغير مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{سَلَاسِلَ} : جمع سلسلة كقوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 71]، وقوله:{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32].
{وَأَغْلَالًا} : جمع غل تجمع أيديهم إلى أعناقهم، كقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ} [يس: 8].
{وَسَعِيرًا} : ناراً مستعرة متوقدة، وفي الآية تهديد ووعيد للكافرين.
سورة الإنسان [76: 5]
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} :
{إِنَّ الْأَبْرَارَ} : إنّ للتوكيد، الأبرار: جمع بر والبار يجمع على بررة وأبرار وبررة أبلغ وأعظم من أبرار، والبررة: صفة للملائكة، والأبرار صفة للآدميين، وعباد الله منهم المقربون ومنهم الأبرار، والمقربون أبلغ وأعلى درجة من الأبرار، والبررة: جمع كثرة، وأما الأبرار: جمع قلة مقارنة بالفجار.
{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} : من ابتدائية، كأس: قدح فيها خمر مختلط بالكافور وكأس تعني: ملأى. ارجع إلى سورة الواقعة آية (18) لمزيد من البيان.
{كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} : المزاج ما يُمزج به وتعني: الخمر الممزوج بالكافور، والكافور: مادة بيضاء ذات رائحة طيبة فيها برودة ينبع من عين في الجنة تنبع بالكافور وكافور الدّنيا هو مجرد اسم لكافور الآخرة، ولا يقارن هذا بذلك، وكافور الآخرة ليس له مثيل في الدّنيا إلا الاسم، وأما الزنجبيل: فيمتاز طيب الطعم واللذة.
فالأبرار يشربون من كأس تُحضر إليهم بواسطة الولدان المخلدين أو الغلمان في الجنة، بينما المقربون يشربون بها أيْ: مباشرة من العين نفسها أيْ: هم يقفون أمامها يتمتعون بالنّظر والشّرب معاً.
سورة الإنسان [76: 6]
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} :
{عَيْنًا} : نكرة من عيون الجنة، وعين تجمع على عيون وأعين، وأعين تعني التي نبصر بها، أما عيون فهي التي تنبع بالماء.
{يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} : أي: المقربون وربما الأبرار يشرب بها: الباء للإلصاق ويشرب بها أيْ: هم حاضرون موجودون على العين يتمتعون بلذة النّظر ولذة الشّرب، وكما قلنا في الآية السّابقة: يشرب منها أيْ: تنقل إليهم فيشربون منها، بينما يشربون بها: يشربون من العين مباشرة.
{يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} : تنبع بغزارة وقوة ويدل ذلك على التكريم.
سورة الإنسان [76: 7]
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} :
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} : أي: الأبرار الذين يؤدون نذورهم والنّذر في الشّرع ما أوجبه المُكلفُ على نفسه لله تعالى مما لم يكن عليه ملزماً، ويوفون جاءت بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والتّجدُّد في الوفاء، عباد الله الذين كانوا يوفون بعهودهم ونذورهم في الدّنيا.
{وَيَخَافُونَ} : بصيغة المضارع كما في يوفون تدل على الاستمرار والتّجدُّد وحكاية الحالة.
{يَوْمًا} : أي: يوم القيامة أو الحساب.
{كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} : منتشراً يقال: استطار الحريق إذا انتشر أو استطار الغبار أي: انتشر، شره: عذابه شدائده وأهواله منتشرة كما ينتشر الحريق.
سورة الإنسان [76: 8]
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} :
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} : الواو: واو العطف ويطعمون: أي: الأبرار عباد الله، يطعمون: بصيغة المضارع التي تدل على التّجدُّد والتّكرار، ولم يقل: وأطعموا الطّعام على حبه: الهاء على حبه تعود إمّا على حب الله تعالى رجاء في ثوابه، أو على حب الطّعام رغم حاجتهم إلى الطّعام وحبهم إليه وشهوتهم والأرجح على حب الطّعام ولا مانع من المعنيين.
يطعمون الطّعام:
{مِسْكِينًا} : المحتاج الذي ليس عنده ما يكفيه.
{وَيَتِيمًا} : من لا أب له قبل سن البلوغ.
{وَأَسِيرًا} : الذي أخذه العدو رهينة، وقد يشمل المسجون أو الغريم وغيره.
سورة الإنسان [76: 9]
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} :
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر والتّوكيد.
{لِوَجْهِ اللَّهِ} : اللام لام الاختصاص.
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} : هذا قول عباد الله الذين يطعمون الطّعام على حبه يقولون للذين يطعمونهم؛ نطعمكم: ابتغاء مرضات الله؛ أي: يحدثون أنفسهم بذلك أو نيتهم ابتغاء وجه الله، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
{لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} : أيْ: لا نسألكم أجراً أو شكراً عليه.
سورة الإنسان [76: 10]
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} :
هذا هو السّبب للإطعام هو أنّا نخاف من ربنا، ونطعمكم لوجه الله هو الغاية من الإطعام.
{يَوْمًا عَبُوسًا} : وصف اليوم بالعبوس بدلاً من الوجوه التي تكون عابسة من عذابه وشدة أهواله وشره، أو يشبه اليوم (يوم القيامة) بالأسد العبوس.
{قَمْطَرِيرًا} : غليظاً شديداً كريهاً يقال: اقمطر يومنا إذا اشتد عذابه وطال بلاؤه كما يحدث في يوم القيامة.
سورة الإنسان [76: 11]
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} :
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} : الفاء عاطفة، وقاهم الله شر ذلك اليوم أيْ: دفع عنهم عذابه، وأنجاهم شر ذلك اليوم العبوس القمطرير بسبب خوفهم منه وإطعامهم لوجه الله تعالى.
{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} : أيْ: أكرمهم وجعل أو صيَّر في وجوههم نظرة: بهاءً وبهجةً وسروراً، بدلاً من العبوس.
سورة الإنسان [76: 12]
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} :
{وَجَزَاهُمْ بِمَا} : وجزاهم: أثابهم، بما: الباء السّببية أو البدلية، وما المصدرية.
{صَبَرُوا} : صبروا على طاعة الله واجتناب نواهيه وعلى قدره وقضائه وصبروا على الجوع وابتغاء وجه الله تعالى.
{جَنَّةً وَحَرِيرًا} : أثابهم على صبرهم جنة: اسم جنس (تعني: جنات النعيم) واللباس المصنوع من الحرير (السندس والإستبرق).
سورة الإنسان [76: 13]
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} :
{مُتَّكِئِينَ} : جالسين من الاتكاء جالسين براحة وطمأنينة.
{عَلَى الْأَرَائِكِ} : أي: السرر أو الفرش المُزينة.
{لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} : فيها في الجنة حر الشّمس الشديد ولا الخفيف.
{وَلَا زَمْهَرِيرًا} : (لا) لتوكيد النّفي، زمهريراً: البرد الشّديد، ولا البرد الخفيف.
سورة الإنسان [76: 14]
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} :
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ} : قريبة منهم أو تدنو عليهم ظلالها.
{ظِلَالُهَا} : ظلال أشجار الجنة.
{وَذُلِّلَتْ} : سخرت وسهلت لهم قطوف ثمار الجنة أو مذللة قطوفها لهم فينالها القائم والقاعد والمضطجع.
{قُطُوفُهَا} : ثمارها.
{تَذْلِيلًا} : للتوكيد. مصدر للفعل الرباعي ذلّل.
سورة الإنسان [76: 15]
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـئَانِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} :
يطاف: لم يسم الفاعل في هذه الآية، وسماهم في سورة الواقعة الآية (17) فقال:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} ، وفي سورة الطور الآية (24) قال تعالى:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} ؛ أيْ: يُحضر لهم الولدان والغلمان بشكل متكرِّر الشراب والطعام في الأواني والأكواب المصنوعة من الفضة، ويطاف يقصد به الآنية، والمشروب، وأما يطوف تأتي في سياق المناول للشراب؛ أي: وصف للطائف، ويطاف وصف للشراب أو الآنية.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـئَانِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} : أوانٍ من فضة وأكواب من أقداح بلا عُرى (لا عروة لها) زجاجية.
{كَانَتْ قَوَارِيرَا} : كانت زجاجية، القوارير: جمع قارورة والقارورة تطلق على إناء الزّجاج.
سورة الإنسان [76: 16]
{قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} :
{قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} : قوارير من فضة في صفاء الزّجاج أيْ: مصنوعة من زجاج وفضة.
{قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} : لها مقادير أو مقاييس مختلفة حسب ما يختارون أو على قدر حاجة الشّارب من غير زيادة أو نقصان.
سورة الإنسان [76: 17]
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} :
{وَيُسْقَوْنَ} : أيْ: هم يعطون الكأس ليشربوا منها أو يشربون بأنفسهم وهذا أفضل من يُسقون فيها في الجنة.
{كَأْسًا} : القدح يسمَّى كأساً أو الشّراب نفسه يسمَّى كأساً، كأس من معين: كاس من خمر، كاس دهاقاً: كأس ممتلئة (ملأى).
{كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} : أيْ: الشراب الذي يمزج بالزّنجبيل أو يمزج بالكافور، كما رأينا في مطلع السّورة، الزّنجبيل نبات معروف بطيب الرّائحة، فإذا شرب الشّراب الممزوج بالكافور، ثمّ بالزّنجبيل بعد الكافور أحدهما على أثر الآخر أكمل وأطيب وألذ أو يشرب كلاً على حِدَةٍ، أمّا شراب المقربين، فقيل: لا يمزج فهو شراب خالص.
سورة الإنسان [76: 18]
{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} :
{سَلْسَبِيلًا} : من سلسل وسلسال وأضيفت الباء للمبالغة والدّلالة على غاية السّلاسة.
{عَيْنًا فِيهَا} : هي عين السّلسبيل تنبع بالماء أو الشّراب اللذيذ السّهل البلع.
سورة الإنسان [76: 19]
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} :
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} : ولم يقل: أولاد وفي آية أخرى يطوف عليهم غلمان لهم، الغلمان: الولدان: جمع قلة فقط الغلمان؛ الولدان: جمع قلة فقط الذّكور الصّغار في السّن، الأولاد: جمع كثرة تشمل الذّكور والإناث.
{مُخَلَّدُونَ} : لا يهرمون ولا يموتون حالهم دائماً لا تتغير حالة الولدان.
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ} : إذا: ظرفية شرطية تفيد حتمية التّحقق.
{حَسِبْتَهُمْ} : من حسب وهو الظّن الرّاجح.
{لُؤْلُؤًا} : في صفاء ألوانهم ونضارة وإشراق وجوههم وحسنهم.
{مَنْثُورًا} : المنثور المنتشر منتشرون هنا وهناك كاللآلئ ليدل على الإسراع في الخدمة.
سورة الإنسان [76: 20]
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} :
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} : ثمّ: ظرف مكان تعني هناك، وإذا رأيت الجنة رأيت نعيماً لا يوصف وملكاً كبيراً لا يقدر، أو أينما وقع بصرك رأيت نعيماً وملكاً كبيراً.
{وَمُلْكًا كَبِيرًا} : من الجنات والمساكن الطّيبة والخيام والغرف المبنيَّة فوق بعضها البعض.
سورة الإنسان [76: 21]
{عَالِيَهُمْ} : فوقهم أيْ: لباسهم الخارجي أو الظّاهر البارز ثياب أهل الجنة السندس الأخضر والإستبرق.
{ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} : الحرير الأخضر الرّقيق، والثياب: هي التي تغطي أو تستر جميع البدن، وأما اللباس: يأتي في سياق ستر العورة، وهذه الثياب متعددة، ومتنوعة.
{وَإِسْتَبْرَقٌ} : الحرير الغليظ أو ما غلظ من الحرير.
{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ} : ألبسوا: ألبسوا بشكل دائم ولم يقل يحلون التي تدل على التّجدُّد والتّكرار، أساور: جمع كثرة، ولم يقل: أسورة التي تدل على جمع قلة، ومن فضة، وفي آية أخرى من ذهب {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] أيْ: تارة يلبسون الفضة وتارة الذهب حسب ما يشاؤون، أو هناك من الناس من يفضل الذهب على الفضة أو بالعكس فالكل متوفر لهم.
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} : الطّهور: صيغة مبالغة في الطّهارة والنّظافة وهذا نوع آخر من الشّراب: أيْ: لم تمسه الأيدي.
سورة الإنسان [76: 22]
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} :
{إِنَّ هَذَا} : إنّ: للتوكيد، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى النّعيم والملك الكبير.
{كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} : الجزاء أعم من الأجر ويستخدم في النّفع والضّر.
{وَكَانَ} : للتوكيد.
{سَعْيُكُم مَّشْكُورًا} : سعيكم: عملكم في الدنيا والسّعي يشمل الإيمان والتّقوى والعمل الصّالح، مشكوراً: مقبولاً، ومثابون عليه بأفضل الجزاء والثّواب.
سورة الإنسان [76: 23]
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} :
{إِنَّا} : للتعظيم، نحن لزيادة التّعظيم والتّوكيد.
{نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} : نزلنا منجماً أيْ: مفرقاً على دفعات، عليك: ولم يقل: إليك. ارجع إلى سورة البقرة الآية (4) للبيان.
{الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} : تنزيلاً مصدر يفيد التّوكيد.
سورة الإنسان [76: 24]
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} :
{فَاصْبِرْ} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدَّر، إن جاء قدَّر الله فاصبر.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} : أي: اصبر على مشاق تحمل الرّسالة وداوم عليها واصبر على أذاهم وعداوتهم.
{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ} : لا: النّاهية، تطع منهم: قريشاً وغيرهم.
{آثِمًا} : كثير الإثم.
{أَوْ} : لا تعني التّخيير، وإنما تعني واو الجمع أيْ: لا تطع منهم آثماً وكفوراً.
{كَفُورًا} : صيغة مبالغة في الكفر أيْ: كثير الكفر.
سورة الإنسان [76: 25]
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} :
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} : أيْ: داوم على ذكره بكلّ أنواع الذّكر من صلاة وتسبيح وتحميد وتهليل وقراءة قرآن.
{بُكْرَةً} : أوّل النّهار، وقيل: صلاة الفجر.
{وَأَصِيلًا} : آخره، قيل: صلاة الظهر والعصر، وقيل: طوال النّهار اذكر ربك أيْ: صلِّ الصّلوات الخمس.
سورة الإنسان [76: 26]
{وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} :
{وَمِنَ} : ابتدائية بعضية أيْ: بعض الليل.
{الَّيْلِ} : تعني: أيَّ ليل، أما لو قال: ليلاً أيْ: تلك الليلة بعينها.
{فَاسْجُدْ لَهُ} : السّجود يعني: الصّلاة أيْ: صلِّ لله تعالى صلاة المغرب والعشاء.
{وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} : سبحه تعني: صلاة التّهجد أو القيام، التّسبيح: يعني: الصّلاة والتّسبيح والذّكر العادي، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، وطويلاً أي: وقتاً طويلاً والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
سورة الإنسان [76: 27]
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} :
{إِنَّ هَؤُلَاءِ} : إنّ: للتوكيد، هؤلاء: الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة إلى كفار قريش وغيرهم.
{يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} : الحياة الدّنيا، وسمِّيت بالعاجلة: أي: القريبة أي: الدنيا أو لأنها تزول بسرعة.
{وَيَذَرُونَ} : مشتقة من ذرو: أيْ: ترك يذرون أيْ: لا يستعدون ولا يعبؤون أو يهتمون بما وراءَهم.
{وَرَاءَهُمْ} : بما هو قادم أو أمامهم.
{يَوْمًا ثَقِيلًا} : يوم القيامة، يوم عسير طويل، ثقيل لشدة أهواله وتنكيره ليدل على شدته.
سورة الإنسان [76: 28]
{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} :
{نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} : نحن للتعظيم، خلقناهم: الخلق يعني: التّقدير والإيجاد، خلقناهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة أو من ماء مهين، أو من تراب.
{وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} : مأخوذة من الأسر ويعني: الرّبط بقوة، شددنا وأحكمنا خلقهم وقويناهم بأن خلقنا لهم العضلات والمفاصل والأربطة والأعصاب، أيْ: قوة في الخلق والبنيان، ولها معنى ثان شددنا وثاقهم أي: السّيطرة عليهم (كالأسير) فلا يفلت منهم أحد من قبضتنا أيْ: من الحساب والجزاء، وقد تعني كلا المعنيين.
{وَإِذَا شِئْنَا} : إذا: شرطية، شئنا: من المشيئة التي تسبق الإرادة.
{بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} : أيْ: قضينا عليهم بالموت أو الهلاك وبدلناهم بقوم آخرين أفضل منهم، تبديلاً: للتوكيد.
سورة الإنسان [76: 29]
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} :
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} : أي: الآيات أو السورة فقط تذكرة لما سيحصل في الآخرة من النعيم المقيم. ارجع إلى سورة المزمل الآية (19) للبيان.
سورة الإنسان [76: 30]
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} :
قالوا: المشيئة تسبق الإرادة، والإرادة قبل القدر، والقدر قبل القضاء، فيكون التّرتيب كما يلي: العلم بالشّيء المراد أو العلم بالعلة، ثمّ المشيئة فالإرادة فالقدر فالقضاء والإمضاء.
{وَمَا تَشَاءُونَ} : وما: الواو عاطفة، ما: نافية، تشاؤون: شيئاً أو أمراً، والمشيئة هي الميل لحصول شيء بعد العلم به.
{إِلَّا} : أداة حصر، أن يشاء الله.
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
أيْ: مشيئة الله أو الرّب سبحانه مقدمة وسابقة ومهيمنة على مشيئة العبد؛ لأنّ مشيئة الله مقرونة بالعلم والحكمة والقدرة.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ} : إنّ للتوكيد، كان: تشمل كلّ الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، كان ولا يزال وسيظل.
{عَلِيمًا} : بأحوال وأفعال وأقوال خلقه وما يصلحهم وما ينفعهم وما يضرهم ونواياهم ومشيئاتهم وإرادتهم.
{حَكِيمًا} : في تدبير شؤون خلقه وكونه فهو أحكم الحاكمين وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لمزيد من البيان.
سورة الإنسان [76: 31]
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ} : أيْ: يدخل من المؤمنين في رحمته، الرّحمة: تعني الإنعام على العبد والوقاية من المعاصي، والرّحمة هي جلب ما يسرُّ ودفع ما يضرُّ ومن رحمته الجنة أيضاً.
{وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ} : جمع ظالم من ظلم نفسه وغيره بكلّ أنواع الظّلم والظّلم قد يعني الشّرك، والخروج عن منهج الله سبحانه. أعد: هيأ، وحضَّر.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص، لهم خاصة.
{عَذَابًا أَلِيمًا} : شديد الإيلام لا يقدر على تحمله.
ولمقارنة هذه الآية (31) وهي قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ} ، والآية (25) من سورة الفتح، وهي قوله:{لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} ارجع إلى سورة الفتح الآية (25) لمعرفة الفرق.
سورة المرسلات [77: 1]
سورة المرسلات
ترتيبها في القرآن (77) ترتيبها في النّزول (33).
{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} :
{وَالْمُرْسَلَاتِ} : الواو واو القسم، يقسم الله سبحانه بالرياح فهي جند من جنود السموات والأرض لتعمير الأرض، والله سبحانه غني عن القسم والقسم بالشيء لأهمية، وكذلك لأهمية جواب القسم.
المرسلات: الرّياح الطّيبة والمرسلة بأمر ربها.
عرفاً: أي: المتتالية يتبع بعضها بعضاً، والتي تسيرها الملائكة لتحمل السحاب وتبسطه في السماء كما يشاء رب العالمين.
عرفاً: متتالية تشبه عرف الفرس (شعر الفرس فوق الرقبة).
المرسلات: جمع مرسل، اسم مفعول من الفعل الرباعي أرسل.
سورة المرسلات [77: 2]
{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} :
{فَالْعَاصِفَاتِ} : الرّيح الشّديدة الهبوب المدمرة.
{عَصْفًا} : العصف: قوة هبوب الرّيح، عصفاً: مصدر للفعل عصف.
سورة المرسلات [77: 3]
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} :
الواو واو القسم. ارجع إلى الآية (19) من نفس السورة.
{وَالنَّاشِرَاتِ} : الرّياح التي تنشر السّحاب (أي: المطر) في السّماء كما يشاء الله والنّشر عكس الطّي، والنّاشرات: قد تكون الملائكة تنشر السحاب في السّماء، أو تنشر أجنحتها للهبوط أو الصّعود في السّماء بالوحي، فهذه الآية قد تعني الملائكة والرياح، وأما الآية الأولى والثانية فتخص الرياح، وأما الآية الرابعة والخامسة، فقيل: تخص الملائكة.
سورة المرسلات [77: 4]
{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} :
الملائكة تفرق أرزاق العباد والمطر أو الغيث.،
والفارقات: جمع فارقة مؤنث الفارق اسم فاعل من الفعل فرق.
سورة المرسلات [77: 5]
{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} :
الملقيات: جمع ملقية من الفعل ألقى، الملائكة تلقي بالوحي على الرّسل والأنبياء، وهو إما أن يكون عذراً أو نذراً.
سورة المرسلات [77: 6]
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري والتوبيخ للمكذبين بالبعث والجزاء.
{نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} : أمثال قوم نوح وعاد وثمود ومدين والمؤتفكات.
نهلك: ارجع إلى سورة الأعراف آية (4) لمزيد من البيان في معنى الهلاك.
سورة المرسلات [77: 7]
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} :
جواب القسم.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد.
{تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} : من البعث والحساب ويوم القيامة والجنة والنّار، لواقع: اللام لام التّوكيد، واقع: كائن لا محالة أو واقع كأنّه وقع وحدث، ثمّ بين أحداث الساعة وأهوالها والتغيرات الكونية التي ستحدث فيها.
سورة المرسلات [77: 8]
{فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} :
{فَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{النُّجُومُ طُمِسَتْ} : والتي تقدر بـ (200 مليار نجم) في مجرتنا فقط، انطفأت وذهب نورها لم تعد مضيئة (ملتهبة) أي: انطفأ لمعانها ودرجة لمعان النجم وسيلة من وسائل معرفة درجة حرارته، وكتلته وبُعده عنا وسرعة جريانه، وهذا الطمس يحدث.
سورة المرسلات [77: 9]
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} :
{وَإِذَا} : كالسّابقة في الآية (8).
{السَّمَاءُ فُرِجَتْ} : انفطرت انشقت الفرجة: الشّق بين الشّيئين. ارجع إلى سورة الحاقة آية (16) فالسماء تمور، ثم تنفطر وتنشق وتصبح كالعهن، ثم تكون وردة كالدهان، ثم تكشط وتبدَّل بسماء جديدة.
سورة المرسلات [77: 10]
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} :
{وَإِذَا} : كالسّابقة في الآية (8).
{الْجِبَالُ نُسِفَتْ} : النّسف هو الدك بعد الرجف والاقتلاع، ثم البس {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5]، ثم تكون {كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14]، ثم تكون كالعهن المنفوش، ثم السير والسراب {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 14]، ثم الزوال.
سورة المرسلات [77: 11]
{وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} :
{وَإِذَا} : كالسّابقة في الآية (8).
{الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} : مشتقة من الوقت أيْ: حُدِّد لها وقت معين لتحضر فيه، لتجمع فيه مع أممها للشهادة على أممها أو للفصل بين الرّسل والأمم، وهو يوم الفصل أو أُقتت بلغت ميقاتها الذي تنتظره.
سورة المرسلات [77: 12]
{لِأَىِّ} : اللام لام التّوقيت، أيْ: للاستفهام.
{يَوْمٍ أُجِّلَتْ} : أيْ: أُخِّرت ليوم الفصل.
سورة المرسلات [77: 13]
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} :
يوم الفصل بين أهل الجنة وأهل النار.
{لِيَوْمِ الْفَصْلِ} : اللام للتوقيت، يوم الفصل: يفصل الله فيه بين الخلائق الظّالم والمظلوم والمؤمن والكافر، وفريق في الجنة وفريق في السّعير.
سورة المرسلات [77: 14]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} :
والسؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي إلى أمته.
{وَمَا} : استفهامية للتهويل والتّعظيم من شأن ذلك اليوم، أيْ: وما تعلم عن يوم الفصل، وللفرق بين ما أدراك وما يدريك ارجع إلى الآية (3) من سورة الحاقة.
سورة المرسلات [77: 15]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
{وَيْلٌ} : الويل العذاب، أو الهلاك.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم الفصل يوم القيامة ويل لهم إذا جاء يوم القيامة أو يوم الفصل ويومئذ: مركبة من يوم + إذ أضيف ظرف إلى ظرف.
{لِّلْمُكَذِّبِينَ} : اللام لام الاستحقاق والاختصاص، المكذبين بالله والإيمان والرسل والبعث والحساب والجزاء والغيب، تكررت هذه الآية عشر مرات في هذه السورة في عقب كل آية للزيادة في الترهيب و الترغيب، ثمّ يذكر ثلاثة أمور للتهديد، وتدلُّ على قدرته وعظمته، وهي:
سورة المرسلات [77: 16]
سورة المرسلات [77: 17]
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} : أي: الذين جاؤوا من بعدهم قوم فرعون وكفار مكة يوم بدر، أو غيرهم من الذين جاؤوا قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة المرسلات [77: 18]
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} :
أيْ: بمثل ذلك الهلاك والأخذ بالصّيحة والرّجفة والغرق نهلك أو نعاقب وندمر المجرمين أي: المشركين والكافرين والمكذبين والعاصين. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، والجاثية آية (31) لمزيد من البيان في معنى المجرمين.
سورة المرسلات [77: 19]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى الآية (15) للبيان، تكرار هذه الآية عشر مرات في هذه السّورة للتهديد والإنذار والزّجر لمن يكذب بالله وبالإيمان والرسل والكتب والغيب، وبالبعث والحساب والجزاء ويوم القيامة والآخرة.
سورة المرسلات [77: 20]
{أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{نَخْلُقكُّم مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} : أي: المني (الماء الدّافق) وما يخرج معه من المفرزات من البروستات والتي تمر بالمجاري البولية، مهين: نجس أو حقير من المهانة، أو هو إشارة إلى ضعف خلق الإنسان (من ماء الرجل وماء المرأة) من حيوان منوي وبيضة.
سورة المرسلات [77: 21]
{فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَكِينٍ} :
{فَجَعَلْنَاهُ} : الفاء تدل على المباشرة، وهاء الضّمير تعود على الماء المهين الذي يشكل الجنين أو على الجنين نفسه.
{فِى} : ظرفية.
{قَرَارٍ مَكِينٍ} : مستقر حصين وهو الرّحم، داخل حوض المرأة، وله أربطة كثيرة ويستطيع التمدُّد كلما نما الجنين ومحاط بأغشية وسوائل تقيه من الصدمات.
سورة المرسلات [77: 22]
إلى: تفيد عموم الغايات.
قدر معلوم: هو مدَّة الحمل إلى زمن الولادة ما بين (6) أشهر و (9) أشهر أو أكثر من ذلك أو دون ذلك قدر معلوم قدره الله سبحانه وتعالى.
سورة المرسلات [77: 23]
{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} :
{فَقَدَرْنَا} : الفاء عاطف، قدرنا: من التقدير وهو الخلق أو قدرنا كيف يخرج بولادة أو بعملية جراحية أو قدرنا صفاته وطوله وعرضه ولونه وشكله وصفاته الوراثية، أو قدرنا وقت خروجه من الرّحم والانفصال عن المشيمة وقد تعني الكل.
{فَنِعْمَ} : الفاء للتوكيد، نعم: من أفعال المدح، أيْ: نعم المقدر وهو الله سبحانه وحده.
{الْقَادِرُونَ} : على كلّ شيء على الخلق والتّقدير والتّصوير والإحياء والإماتة لا يعجزنا شيء.
سورة المرسلات [77: 24]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى الآية (15) والآية (19) للبيان.
سورة المرسلات [77: 25]
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري، وفيه نوع من التّوبيخ للمكذبين بالله ورسله والإيمان وبالبعث والحساب.
{نَجْعَلِ} : الجعل يكون بعد الخلق.
{الْأَرْضَ كِفَاتًا} : الكفت الضّم والجمع بقوة مأخوذ من كفت الشّيء إذا ضم بعضه إلى بعض، ومن معاني كفاتاً أيضاً الكفت الجاذبية الأرضية تجذب، وتبقي الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها، وكفاتاً: جمع كافت، فالأرض: اسم مكان تشبه الوعاء الذي يكفت فيه.
سورة المرسلات [77: 26]
{أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} :
بصيغة التنكير للتعظيم.
أحياء تضم كلّ الأحياء من النّاس والدّواب والحيوانات البحرية والبرية والمخلوقات بكافة أنواعها على ظهرها كأنّها تحملهم، وأمواتاً: وتضم كلّ الأموات من النّاس والدّواب وكل المخلوقات التي تموت في باطنها، فهي تكفت الأحياء والأموات من كل المخلوقات التي لا يعلم عددها إلا الله وحده.
سورة المرسلات [77: 27]
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَاءً فُرَاتًا} :
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} : في الأرض.
{رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ} : الرواسي: بمعنى الجبال (الصفة حلت بدلاً من الموصوف) والرسو: هو الثبات، والاستقرار؛ شامخات: جمع شامخة من شمخ أيْ: علا وارتفع، أي: الجبال العاليات، وقد قُدر طول هذه الجبال داخل الأرض بأضعاف مضاعفة طولها فوق الأرض.
ارجع إلى سورة النبأ آية (7) لمعرفة كيف تشكلت الجبال من البراكين، وتكونت الجبال بعد أن دحا الله الأرض، وأخرج منها مائها ومرعاها أيْ: غلافها المائي والغازي، فلولا الجبال لما أمكنا أن نعيش على سطح الأرض؛ لأن قشرة الأرض ممزقة بشبكة من الصدوع أيْ: عدد من الألواح تسمَّى ألواح الغلاف الصخري للأرض هذه الألواح تطفوا على نطاق شبه منصهر، لين عال الكثافة أي: اللزوجة.
وكانت هذه الألواح تجري بسرعة فائقة، فخلق الله الجبال التي أبطأت سرعة هذه الألواح وجعلتها ترسي في أماكنها، وهذه السرعات مسجلة في صخور الأرض، والأرض لا زالت تجري وتدور حول نفسها وحول الشمس.
وهذا الإبطاء في هذه السرعة سمح للتربة بالتجمع، وللماء أن يخزن وأن تقام الأبنية والطرقات، فمن نِعم الله علينا أن أرسى الأرض بالجبال.
{وَأَسْقَيْنَاكُم مَاءً فُرَاتًا} : ماء عذباً حلواً هو من ماء السماء الذي يختزن في الصخور والجبال، ويشكل الأودية والأنهار والعيون. ارجع إلى سورة (ق) آية (9) لمزيد من البيان.
سورة المرسلات [77: 28]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى الآية (15) والآية (19) للبيان.
سورة المرسلات [77: 29]
{انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} :
يقال لهم يوم القيامة (في الآخرة) حين يكونوا في سموم وحميم ويسألون: أين المفر، فيقال لهم:
{انطَلِقُوا} : اذهبوا مسرعين إلى جهنم التي كنتم بها تكذبون.
{إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} : ما بمعنى الذي أو مصدرية ما أوسع شمولاً وعموماً من الذي، كنتم: في الدّنيا، به: تعود على جهنم، تكذبون: لا تصدقون، تكذبون بصيغة المضارع لتدل على التجّدُّد والتكرار في التكذيب.
سورة المرسلات [77: 30]
{انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ} :
{انطَلِقُوا} : مرة أخرى للتوكيد والتّهكم بهم، أيْ: هيا وأسرعوا إلى جهنم ذات الدخان (الظل).
{إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ} : ظل: من دخان نار جهنم إذا علا وارتفع يتشعب إلى ثلاث شعب، وصفه الله تعالى بقوله:{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43-44].
سورة المرسلات [77: 31]
{لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} :
لا: النافية، ظليل: أيْ: ليس ظلاً حقيقياً كغيره من الظلال، وإنما كالسراب لا فائدة منه.
{وَلَا} : تكرار لا لتوكيد النّفي.
{يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} : لا برودة فيه تدفع عنهم حرَّ جهنم ولا يفيد أو ينفع.
سورة المرسلات [77: 32]
{إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} :
{إِنَّهَا} : للتوكيد تعود على جهنم.
{تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} : كلّ شرارة في حجمها كالقصر كالبناء العالي الكبير.
سورة المرسلات [77: 33]
{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} :
{جِمَالَتٌ} : جمع جمل (أي: الإبل).
{صُفْرٌ} : لونها الأصلي أسود، وقيل لها صُفر؛ لأنّ سواد لونها يضرب أو مائل إلى الصّفرة أو مشرب بالصّفرة أيْ: شبه الشّرر الذي يتطاير من جهنم في حجمه وكبره كالبناء العالي (القصر) وشبه العدد ولون الشّرر بالجمالات الصّفر المنتشرة في الصحراء والجارية بكل اتجاه.
والتّشبيه الثّاني (جمالات صفر) بيان للتشبيه الأوّل (كالقصر).
سورة المرسلات [77: 34]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى الآية (15) والآية (19) للبيان.
سورة المرسلات [77: 35]
{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} :
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى يوم القيامة.
{يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} : يوم: نكرة للتهويل والتعظيم؛ أي: هذا يوم القيامة لا يسمح لهم فيه بالكلام؛ لا: النّافية، ينطقون: لا يتكلمون ولا يتساءلون لا يسمح لهم ولا هم قادرون على النّطق، وهناك آيات أخرى تشير إلى أنّهم يُسألون ويجادلون ويتكلَّمون ويحاولون الاعتذار؛ لأنّ يوم القيامة مواطن متعددة أيْ: مواقف متعدِّدة موقف عند الميزان، موقف عند الصّراط، وعند الحوض، موطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا سؤال ولا كلام، وقد يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وليس سؤال استفهام حقيقي.
سورة المرسلات [77: 36]
{وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} :
{وَلَا} : الواو عاطفة، لا النّافية.
{فَيَعْتَذِرُونَ} : أيْ: لا يسمح لهم بالتّكلم والاعتذار، نفى الاعتذار لانتفاء الإذن أيْ: نفي الثّاني لانتفاء الأوّل.
سورة المرسلات [77: 37]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى الآية (15) والآية (19) للبيان.
سورة المرسلات [77: 38]
{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} :
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة يشير إلى قرب يوم الفصل.
{يَوْمُ الْفَصْلِ} : الفصل بين الخلائق فيما كانوا فيه يختلفون، أو يختصمون. ارجع إلى الآية (13) من نفس السّورة، وتكرار يوم الفصل للتأكيد على وقوعه ولتوبيخهم على إنكاره.
{جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} : أي: المكذبين الأولين والمكذبين الآخِرِين من الكفار.
سورة المرسلات [77: 39]
{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} :
{فَإِنْ} : الفاء عاطفة، إن شرطية تفيد الاحتمال.
{كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} : الكيد هو اسم لإيقاع المكروه بالغير قهراً، سواء علم أو لم يعلم، وأصل الكيد المشقة، أيْ: إن كان لكم كيد أو حيلة فهيَّا احتالوا أو كيدوا لإنقاذ أنفسكم واتِّقاء العذاب.
سورة المرسلات [77: 40]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
التكرار للتهديد والوعيد. ارجع إلى الآية (15) والآية (19) للبيان.
سورة المرسلات [77: 41]
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} :
بعد ذكر المكذبين ومصيرهم ينتقل إلى ذكر المتقين ومصيرهم.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} : إنّ للتوكيد، المتقين: جمع متَّقٍ: وهو من أطاع الله وامتثل أوامره وتجنَّب نواهيه، فيكون بذلك قد اتَّقى غضب الله تعالى وناره.
{فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} : في ظرفية، في ظلال: أشجار الجنات مقارنة بقوله: {ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ} وعيون: عيون الجنة: الكثيرة المختلفة منها عين الكافور عين التّسنيم وعين السّلسبيل.
سورة المرسلات [77: 42]
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} :
الشهوة: أمر نفسي تعني الحب والرغبة، وتأتي في سياق المحسوسات من الأطعمة، والأشربة، والمال، والأولاد، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، وقد تكون الشهوة مذمومة أو محمودة.
كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 53].
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 69].
{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29].
سورة المرسلات [77: 43]
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :
ارجع إلى سورة الطور الآية (19) للبيان.
هذا يدل على الإيمان والعمل الصالح في الدّنيا هو سبب تمتعهم بنعيم الجنة في الآخرة رغم أن دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله تعالى وبفضل الله، وتكون الدّرجات حسب الأعمال، ويكون التّمتع بسبب الأعمال.
سورة المرسلات [77: 44]
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} : أيْ: كهذا الجزاء نجزي المحسنين، ولم يقل: العاملين أو المتقين، بل رفع المتقين وجزاهم كما يجزي المحسنين، فالجزاء هو على الإحسان في العمل لا مجرد العمل، الإحسان في الكيفية والكمية، ارجع إلى سورة البقرة الآية (112) لمزيد من البيان.
سورة المرسلات [77: 45]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
التكرار للتهديد والوعيد. ارجع إلى الآية (15) والآية (19) لمزيد من البيان.
سورة المرسلات [77: 46]
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} :
كما يقال للمتقين في الجنة: كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعلمون، يقال للكفار والمشركين في الدّنيا: كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون.
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} : باللذات والشّهوات الدّنيوية الزّائلة.
{قَلِيلًا} : زمناً قصيراً حين تحين آجالكم. وبعدها لن يكون هناك تمتع وأكل إلا من شجر الزقوم والحميم وغسلين.
{إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} : إنّكم للتوكيد، مجرمون: كافرون مشركون عاصون.
الخطاب موجَّه لكفار مكة.
هذا قول الله تعالى لمشركي قريش وكفارها وغيرهم من الكفار تهديداً لهم في الدّنيا. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى مجرمون.
سورة المرسلات [77: 47]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
التكرار للتهديد والوعيد. ارجع إلى الآية (15) والآية (19) من نفس السّورة للبيان.
سورة المرسلات [77: 48]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} :
{وَإِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث، أيْ: تحقُّق الحصول.
{قِيلَ لَهُمُ} : القائل مبني للمجهول المهم المقولة: اركعوا لا يركعون.
{ارْكَعُوا} : صلوا، هذا يسمَّى إطلاق البعض على الكلّ، والصلاة أشرف العبادات وعماد الدِّين.
{لَا يَرْكَعُونَ} : لا يصلون.
وقد عبَّر عن الصّلاة في هذه بالرّكوع، فقال:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} .
وقد يُعبَّر عنها بالسّجود كقوله: {وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26].
أو بالتّسبيح كقوله: {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26].
أو بالذّكر كقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25].
أو بالقيام كقوله: {قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2].
أو بالقراءة كقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78].
اركعوا: أيْ: صلوا، هذا يسمَّى إطلاق البعض على الكل، لكفار مكة وغيرهم من الكفار.
سورة المرسلات [77: 50]
{فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} :
{فَبِأَىِّ} : الفاء للتوكيد، أيّ الاستفهامية وللتعجب.
{حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} : أيْ: إن لم يصدِّقوا بالقرآن، وبما جاء فيه فبأيِّ كتاب آخر بعد القرآن يؤمنون: يصدِّقون، فهو معجزة كلّ زمان وكلّ قرن، بما جاء فيه من آيات ودلائل وبراهين ومعجزات.
وهو أحسن الحديث {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]. ارجع إلى سورة الزمر آية (23) لمعرفة الفرق بين الحديث والقرآن.