الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النبأ [78: 1]
سورة النبأ
سورة النّبأ [الآيات 1 - 2]
ترتيبها في القرآن (78)، وترتيبها في النّزول (80).
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} :
أصلها: عن ما يتساءلون، أدغمت النّون في الميم وأصبحت: عما، ثمّ حذفت الألف؛ لتعظيم الأمر الذي يُسأل عنه.
ما: استفهام يحمل معنى التّعجب والتّفخيم.
{يَتَسَاءَلُونَ} : بصيغة المضارع لتدل على التّجدد والتّكرار، والضّمير في "يتساءلون" يعود على الكفار، وقيل: يعود على الكلّ؛ أي يسأل بعضهم بعضاً، أو يسألون المؤمنين أو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة النبأ [78: 2]
{النَّبَإِ} : النبأ: أعظم من الخبر؛ أي الخبر العظيم المهم الذي يجب الاستماع إليه لما فيه من الفائدة، واختلف في هذا النّبأ العظيم منهم من قال: هو البعث، ومنهم من قال: القرآن لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67]، أو نبوة محمّد أو التّوحيد، وقد يكون الكل.
سورة النبأ [78: 3]
{الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} :
فمنهم من يؤمن بالبعث أو القرآن أو أمر النبي، ويصدّق به ومنهم من يكفر ويكذّب به، أو بخصوص القرآن كقولهم: سحر أو شعر أو يعلِّمه بشر أو أساطير الأولين.
سورة النبأ [78: 4]
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر أو تعني: حقاً.
{سَيَعْلَمُونَ} : السّين للاستقبال القريب، أو: قريباً سيعلمون عاقبة تكذيبهم وسيعلمون أن ما يكذبون به ويستهزؤون هو حق لا ريب فيه، أو سيعلمون: حين تأتيهم سكرات الموت والاحتضار أنّه حق وأنّهم أخطؤوا.
سورة النبأ [78: 5]
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} :
{ثُمَّ} : للتراخي في الزّمن؛ أي: يوم القيامة أو يوم البعث سيعلمون للمرة الثّانية عين اليقين أنّه الحق بعد أن علموا عند الاحتضار والموت للمرة الأولى أنّه الحق، وتكرار كلمة كلا للردع والوعيد، والتوكيد.
ثمّ ذكر الله تعالى بعض العلامات الدّالة على عظمته وقدرته على التوحيد والبعث والخلق وأنه هو الحق الذي يجب أن يُعبد ويطاع.
سورة النبأ [78: 6]
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{الْأَرْضَ مِهَادًا} : الأرض التي تزن (6 بليون تريليون طن) أي: ممهدة كمهد الطّفل المريح، فلا يشعر الإنسان بحركتها رغم أنّها تدور حول نفسها بسرعة (26كم في الدقيقة)، وتدور حول الشمس بسرعة (30كم بالثانية).
فقد كانت قشرة الأرض تمتاز بتضاريس معقدة تجعل الحياة عليها صعبة أو شبه مستحيلة، فسخّر الله سبحانه عوامل التعرية المتعددة مثل الرياح واختلاف درجات الحرارة وتبادل الليل والنهار والمطر والسيول الجارفة والرطوبة والحرارة، وظلت هذه العوامل تمهد الأرض لمدة (800 مليون سنة) حتى هيأ لنا ربنا الأرض لتكون صالحة للحياة فشقّ الفجاج والسبل والتربة، وتركيز المعادن وتكوين السهول المنبسطة، فهذا التمهيد للأرض دليل على طلاقة القدرة الإلهية على الخلق والبعث.
سورة النبأ [78: 7]
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} :
جعل الجبال رواسي كالأوتاد تثبّت الأرض؛ لكي لا تميد ولا تضطرب كما تثبّت الخيمة بالأوتاد، حذف كاف التّشبيه ليكون التّشبيه بليغاً.
هذه الجبال التي تكونت من ثورة البراكين من قاع المحيطات والبحار بعد اصطدام الألواح تحت القارات مع بعضها، والتي ألقت بباطنها فوق سطح الأرض ثم نزلت هذه الحمم والبراكين على الأرض واخترقت نطاق الضعف الأرضي فأزاحت من كتلة الأرض إلى أعلى والحركة إلى أعلى وظهرت الجبال على سطح الأرض بشكل أوتاد تحتوي العناصر المعدنية الثقيلة وكل ارتفاع للجبل فوق الأرض له امتداد داخل الأرض يساوي (10-15) ضعفاً، وكلما قامت عوامل التعرية بإزالة شيء من الجبل تشكل في منطقة أخرى ما تكافئ كتلة الجبل الذي زال بالتعرية وغيرها من الظواهر الجوية.
سورة النبأ [78: 8]
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} :
أي ذكوراً وإناثاً، والزّوج هو الصنف، وسبحانه خلق كلّ شيء من زوجين حتى الغازات والنباتات والحيوانات حتى غاز الهيدروجين أقل الغازات بناء وأبسطها مركب من بروتون موجب والكترون سالب، وشاءت قدرته أن تستمر الحياة عن طريق التزاوج، ويبقى سبحانه الواحد الأحد المتفرد بالوحدانية المطلقة لا يشاركه فيها أحد من خلقه ولا نبات ولا حيوان ولا جماد.
سورة النبأ [78: 9]
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} :
{وَجَعَلْنَا} : بصيغة التّعظيم لعظمة آية النّوم والسّبات وغيره من الآيات القادمة.
{سُبَاتًا} : السّبات: الانقطاع عن الحركة والسكون مما يؤدي إلى راحة البدن بعد العمل والتّعب والتّقلّب في النّهار ساعات طويلة، ويستجدّ بذلك نشاط البدن فالنّوم آية من آيات الله تعالى الدّالة على عظمته وقدرته، ارجع إلى سورة الفرقان الآية (47) لمزيد من البيان.
سورة النبأ [78: 10]
{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} :
أي جعل الليل على الأرض بمنزلة اللباس الذي يستر الأرض بظلمته وهذا ما يراه رواد الفضاء، يرون طبقة سوداء تحيط بالأرض وكأنما كسيت الأرض بلباس أسود لا ترى معه الأرض، ارجع إلى سورة الفرقان الآية (47) لمزيد من البيان.
سورة النبأ [78: 11]
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} :
وجعلنا النّهار زمناً أو وقتاً للسعي وللعيش والتّقلّب وكسب الرّزق، ولولا تبادل الليل والنهار لما استقامت الحياة على هذه الأرض، وتبادل الليل والنهار دليل على كروية الأرض.
سورة النبأ [78: 12]
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} :
سبع سموات شداداً؛ أي: قوية محكمة البنيان بقوى الكهرمغنطيسية وقوى الجاذبية لكي تبقى في مدارها ولا تتغير، يغلف الخارج منها الداخل ومركز هذه السموات السبع هي الأرض والأرض تمثل سبع أرضين فعندنا ما يشبه (14) كرة سبع كرات عملاقة تمثل السبع سموات وفي مركزها سبع كرات صغيرة تمثل الأرض (سبع أرضين) ونحن لا نعلم إلا الشيء الضئيل جداً عن السماء الدنيا ولا نعلم أي شيء عن بقية السموات، كقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (أي بقوة مترابطة)[الذاريات: 47]، وقيل: المسافة بين كلّ سماء والتي تليها مسيرة (500) عام، والسّماء اسم جنس يشمل السبع سموات.
سورة النبأ [78: 13]
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} :
{سِرَاجًا وَهَّاجًا} : أي الشّمس، فالشّمس هي السّراج والتي تحتوي على ألوان الطيف السبعة التي تضيء الطبقة الغازية الموجودة حول الأرض. ارجع إلى سورة يونس آية (67) لمزيد من البيان.
وهاجاً: الوهج هو الحرارة الصادرة عن الشمس والتي تجعلنا نشعر بالدفء، فالشمس مصدر للنور ومصدر للدفء، والشمس أقرب نجم إلينا وتبعد عنا حوالي (150 مليون كم)، وهي عبارة عن فرن نووي عملاق تتشكل من غاز الهيدروجين بنسبة (75%) وغاز الهيليوم بنسبة (24%) وكثير من أشعة الشمس لا تراها العين مثل أشعة غاما والأشعة السينية والأشعة الحمراء وفوق البنفسجية، والذي يُرى من أشعة الشمس هي حزمة الضوء المرئي هذه الحزمة المؤلفة من ألوان الطيف السبعة وهي لا ترى في صفحة السماء، وعندما تقع على الطبقة الغازية المحيطة بالأرض تعطينا الضوء الأبيض الجميل، فهي مصدر الضوء والطاقة لو حُجبت عنا الشمس لثوان فقط لانتهت الحياة على الأرض، وتبلغ درجة حرارتها في وسطها أكثر من (15 مليون درجة) وعلى سطحها (6000 درجة مئوية) وتمتد منها ألسنة اللهب بدرجة تفوق مليون درجة ولولا نُطُق الحماية لأحرقتنا الشمس بهذه الأشعة الضارة ولكن نُطُق الحماية تحمي الأرض مثل نطاق الأوزون، والنطاق المتأين والمغناطيسي وغيرها تبقى الحياة قائمة.
سورة النبأ [78: 14]
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} :
{وَأَنزَلْنَا} : بصيغة الجمع للتعظيم.
{مِنَ} : ابتدائية.
{الْمُعْصِرَاتِ} : جمع معصرة، والمعصرة اسم للسحابة التي حان وقت إمطارها، أو المملوءة، أو المشبعة ببخار الماء كالثوب الذي يعصر بعد الغسل فيخرج منه الماء الغزير.
{مَاءً ثَجَّاجًا} : ماءً: أي ماء المطر، ثجاجاً: المنصَبّ بكثرة، كثير الهطول، ارجع إلى سورة النّور الآية (43) لمزيد من البيان.
سورة النبأ [78: 15]
{لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} :
{لِّنُخْرِجَ بِهِ} : اللام لام التّعليل، به: تعود على الماء الثّجّاج.
{حَبًّا} : يُقتات به الناس والدواب كالقمح والشّعير والرّز والذّرة وغيرها.
{وَنَبَاتًا} : هناك أكثر من (400 ألف) نوع من أنواع النباتات كل نبتة لها دورها على الأرض منها ما تأكله الدّواب من الحشيش وسائر النّبات، وقدّم الحب لأنّه هو الأصل في الغذاء.
سورة النبأ [78: 16]
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} :
{وَجَنَّاتٍ} : بساتين وحدائق.
{أَلْفَافًا} : ملتفة الأشجار والأغصان على بعضها، كناية عن وفرة الماء والري.
سورة النبأ [78: 17]
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} :
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} : إنّ: للتوكيد، يوم الفصل: يوم القيامة، وسمي يوم الفصل لأنّ الله سبحانه يفصل بين الخلائق فيما كانوا فيه يختلفون، يفصل بين أهل الجنة وأهل النار. ارجع إلى سورة المرسلات الآية (13) للبيان.
{كَانَ مِيقَاتًا} : الميقات: الزّماني والمكاني، ميقاتاً: وقتاً محدداً لا يتغير، أو موعداً لجمع الأولين والآخرين، أو ميقاتاً للحساب والجزاء.
سورة النبأ [78: 18]
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} :
{يَوْمَ يُنْفَخُ} : البعث أو القيام من القبور يُنفخ في الصّور النّفخة الثّانية، (نفخة البعث أو القيام) والنّافخ إسرافيل عليه السلام .
{الصُّورِ} : البوق أو القرن.
{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} : الفاء: للتوكيد؛ تبعثون؛ أي: تخرجون من قبوركم إلى مكان الحشر أو أرض المحشر، أفواجاً: جمع فوج، والفوج هو الجماعة الكثيرة، وسوف نبعث من الأرض الجديدة التي تحتوي على الأرض الحالية.
سورة النبأ [78: 19]
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} :
وفتحت السماء: الجديدة {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، والسماء: تشمل السموات السبع وكل ما يعلو الإنسان، فكانت أبواباً لنزول الملائكة إلى أرض المحشر كقوله تعالى:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]. أبواباً؛ أي: ذات أبواب.
سورة النبأ [78: 20]
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} :
بعد أن تصاب بالرجف والنسف والسّير وتصبح كثيباً مهيلاً ثم كالعهن المنفوش ثم السراب والزوال، ذلك بإزالة القوى التي تربط الصخور المكونة من المعادن المكونة من الجزيئات والذرات، فإزالة هذه القوى التي تربط هذه الذرات مثل قوى الجاذبية والنووية الشديدة والضعيفة والكهرومغناطيسية التي تجعل هذه الذرات تطير كهباءات الغبار في الجو أو كالعهن المنفوش، وستكون الأرض الجديدة خالية من الجبال. ارجع إلى سورة الحاقة آية (14) لمزيد من البيان، وسورة طه آية (107).
{سَرَابًا} : من السراب. ارجع إلى سورة النور آية (39) للبيان.
سورة النبأ [78: 21]
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} :
{إِنَّ جَهَنَّمَ} : إنّ للتوكيد، جهنم: اسم علم للنار، وقيل: دركة من دركات النّار، وجهنم: اسم مشتق من جهنام؛ أي: بعيدة القعر ومنظرها المخيف المرعب.
{كَانَتْ مِرْصَادًا} : مكان رصد وترقب، ترصد وتراقب من يدخلها من الكفار، أو يقصد بذلك خزنتها الذين يرصدون ويراقبون الكفار؛ أي: أصحاب النّار تحت رقابة دائمة ومستمرة.
سورة النبأ [78: 22]
{لِلطَّاغِينَ مَآبًا} :
{لِلطَّاغِينَ} : اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق، الطّاغين: جمع طاغٍ، وهو الذي تجاوز الحد، والطّغيان: مجاوزة الحد، تجاوز حدود الله أو حقوق العباد بالعدوان عليهم وعلى أموالهم ودمائهم وأعراضهم، أو تجاوز الحد بالتّفريط في الواجبات أو التّعدي على المحرمات.
{مَآبًا} : المآب: المرجع والمستقر أو المصير، من أوّاب: رجّاع، والأوب في الأصل: الرّجوع.
سورة النبأ [78: 23]
{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} :
{لَابِثِينَ} : اللبث: هو المكث والإقامة والانتظار المحدد بزمن وحدده بقوله تعالى أحقاباً مقارنة بالمكث الغير محدد بزمن.
{فِيهَا} : ظرف مكان تعود على جهنم.
{أَحْقَابًا} : ظرف زمان، أحقاباً: دهوراً طويلة متتابعة لا نهاية لها، مشتقة من: حقيبة الرّاكب الملازمة له، أحقاباً: جمع حقب والحقب هو الدّهر، أحقاباً: دهوراً لا نهاية لها، وأحقاباً تحمل الكثرة مثل سنين وأعواماً، أو تدل على أنّه كلما مضى حقب تبعه آخر، ولم يحدد عددها، وقيل: الحقب (80) عاماً أو أكثر.
سورة النبأ [78: 24]
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} :
{لَا يَذُوقُونَ} : لا: النّافية، يذوقون: يشعرون، ويذوقون: بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار.
{فِيهَا} : في جهنم.
{بَرْدًا} : له معنيان: الهواء البارد الذي يطفئ حرارة جهنم المحرقة ونسميه برودة الطّقس كالهواء البارد الذي تفعله مكيفات التّبريد، والمعنى الثّاني: النّوم.
{وَلَا شَرَابًا} : تكرار (لا) يفيد توكيد النّفي وفصل كلّ منهما على حدةٍ لا البرد ولا الشّراب ولا كلاهما، شراباً: ما يشرب من السّوائل كالماء واللبن والعصير أو ما يسكن العطش.
سورة النبأ [78: 25]
{إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} :
{إِلَّا} : أداة حصر.
{حَمِيمًا} : أي لا يذوقون في جهنم إلا الماء الحميم كقوله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] أو: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29].
{وَغَسَّاقًا} : القيح أو المادة الصّفراء التي تسيل من الجرح المنتن، أو شراب نتن الرّائحة، وقيل: صديد أهل النّار، أو هو غسلين.
سورة النبأ [78: 26]
{جَزَاءً وِفَاقًا} :
{جَزَاءً} : الجزاء في الأصل المماثلة أو المقابلة، مقابلة الشّيء بالشّيء والجزاء من جنس العمل.
{وِفَاقًا} : جزاءً عادلاً موافقاً لذنوبهم أو مماثلاً لأعمالهم، كقوله:{وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] فيها وفاق.
سورة النبأ [78: 27]
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} :
{إِنَّهُمْ كَانُوا} : إنّ: للتوكيد، كانوا: في الدّنيا.
{لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} : لا: النّافية، يرجون: لا يأملون أن يحاسبوا في الآخرة والرّجاء هو الظّن بوقوع الخير الذي يعتري صاحبه الشّك فيه، أو لا يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء، أو لا يرجون ثواباً لأعمالهم الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر.
سورة النبأ [78: 28]
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} :
{بِآيَاتِنَا} : الآيات القرآنية والكونية والأدلة والبراهين الدّالة على البعث والحساب، الدّالة على وحدانية الله تعالى وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{كِذَّابًا} : أي كذبوا بآياتنا كذباً وتكذيباً، وبدلاً من القول كذباً وتكذيباً جمع بينهما بالقول كِذّاباً: أي التّكذيب المفرط والمبالغ فيه، وكذّاباً مصدر للفعل الرّباعي: كذَّب، ارجع إلى الآية (35) من السورة نفسها لمزيد من البيان.
سورة النبأ [78: 29]
{وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} :
{وَكُلَّ} : ولم يقل وكلُّ بالرفع؛ كلَّ بالنّصب تعني كلّ شيء ولا يستثنى شيءٌ إلا أحصاه، ولو جاءت بالضّم لكانت تعني بعض الأشياء أحصاها والبعض الآخر لم يحصِهِ.
{شَىْءٍ} : الشيء: كل ما يعلم ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً، وشيء: نكرة تشمل كلّ شيء مهما كان نوعه وشكله وحجمه، ويشمل العمل والأمر والخلق ويعني: أقل القليل.
{أَحْصَيْنَاهُ} : الإحصاء هو العدّ والحفظ.
{كِتَابًا} : أي كتبناه بالكتاب (اللوح المحفوظ) كما في قوله: {وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، أو ما تكتبهُ الملائكة في سجل أعمالهم مما يعملونه من حسنات وسيئات.
سورة النبأ [78: 30]
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} :
{فَذُوقُوا} : الفاء: رابطة لجواب شرط مقدر، يعني: إن كذبتم في الدّنيا فذوقوا؛ أي: العذاب، والمخاطب الكافرون والمكذبون والمشركون والعاصون، وفي الآية تهديد ووعيد.
{فَلَنْ} : للتوكيد، لن: تنفي المستقبل القريب والبعيد.
{نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} : إلا: أداة حصر، عذاباً: أي عذاباً فوق العذاب، كقوله تعالى:{زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
سورة النبأ [78: 31]
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} :
بعد أن ذكر ما ينتظر الطّاغين من العقاب، يذكر المتقين وما ينتظرهم من الثّواب.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} : إنّ: للتوكيد، للمتقين: اللام لام الاختصاص والاستحقاق، المتقين: جمع "متقي" وهو الذي أطاع أوامر الله تعالى وتجنب نواهيه فدرأ عن نفسه غضب الله وسخطه وناره.
{مَفَازًا} : المفاز: مصدر من فعل: فاز، هو مكان الفوز وزمان الفوز: هو النجاة من النار وبلوغ الغاية؛ أي: كل ما يتمناه هو الجنة وزمان الفوز يوم القيامة أو الآخرة، وبيّن بعض مظاهر الفوز العظيم في الآيات التّالية.
سورة النبأ [78: 32]
{حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} :
{حَدَائِقَ} بساتين عظيمة الشّجر والثّمر.
{وَأَعْنَابًا} : نوع من الثّمار الخاصة.
سورة النبأ [78: 33]
{وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} :
{وَكَوَاعِبَ} : جمع كاعب، وهي الفتاة التي بلغت سن البلوغ، يقال: كعبت الجارية؛ أي: بلغت سن البلوغ، وقيل: نهوض وارتفاع ثدي الفتاة حين تبلغ سن البلوغ.
{أَتْرَابًا} : القرينة في السّن، جمع تَرِب وهي التي تماثل في سنّها سن صاحبتها؛ أي: الكلّ في سن واحدة، وهذه المماثلة في السن تزيد في التفاهم بينهن وعدم الاختلاف.
سورة النبأ [78: 34]
{وَكَأْسًا دِهَاقًا} :
كأساً مملوءة من دَهَق الحوض: ملأه، وتأتي في سياق شرب الخمر الممزوج بالكافور والزنجبيل وغيره من الشراب.
سورة النبأ [78: 35]
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} :
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} : لا: النّافية، يسمعون فيها لغواً: اللغو هو ما لا خير فيه ولا فائدة من الكلام، ناهيك عن الكلام القبيح والباطل والكذب والشّرك والشّتم؛ فهذا غير وارد أصلاً.
{وَلَا كِذَّابًا} : تكرار لا يفيد توكيد النّفي، كذّاباً: لا يكذبون ولا يُكذبون، لا يسمعون فيها كذباً ولا تكذيباً، الكذب (العادي)، والتّكذيب (كثرة الكذب)، وبدل من لا يسمعون فيها كذباً ولا تكذيباً جمعها في قوله: كِذّاباً.
سورة النبأ [78: 36]
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} :
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} : ارجع إلى الآية (26) من السّورة نفسها لبيان معنى الجزاء، جزاءً: ثواباً من ربك.
وعطاء: هبة وفضلاً من الله.
{حِسَابًا} : أي كافياً من: حسبك؛ أي: يكفيك؛ أي: عطاء كافياً، الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر من ذلك بـ (70) إلى (700) ضعف أو أكثر من ذلك، وحساباً تعني أيضاً: يحاسبون حسب أعمالهم كلٌ حسب عمله الصالح، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (40) في سورة غافر وهي قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} : نجد أن هذه الآية تعني: كثرة الرزق في الجنة مهما كانت درجة أعمالهم.
سورة النبأ [78: 37]
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} :
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} : جزاءً من ربك رب السموات والأرض وما بينهما، وما بينهما: يشير إلى كون الأرض هي المركز وهناك طبقة غازية بين الغلاف الغازي للأرض والغلاف الغازي للسماء مغايرة في صفاتها، فهي لا تخص الأرض ولا السماء، أو جزاء من ربك الذي هو رب السموات والأرض وما بينهما، أي: الخالق والمالك والحاكم والمدبر والمتصرف بهما.
{الرَّحْمَنِ} : ارجع إلى سورة الفاتحة الآية (3) للبيان، وسورة الرحمن الآية (1).
{لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} : أي لا يقدر أحد من أهل السموات والأرض أن يخاطبه سبحانه في ذلك اليوم إلا بإذنه (يوم يقوم الرّوح والملائكة).
سورة النبأ [78: 38]
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} : يوم القيامة، يوم يقوم الرّوح (جبريل عليه السلام ).
{وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} : صفاً بعد صف، أو صفوفاً أو مصطفّين.
{لَا يَتَكَلَّمُونَ} : لا: النّافية، أي: لا جبريل عليه السلام ، ولا الملائكة ولا العباد ولا أحد.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} : من أذن له الرّحمن، والشّرط الثّاني: قال صواباً؛ أي: في الدّنيا، والصّواب؛ أي الحق: الذي لا يعتريه الخطأ، وشهد بالتّوحيد (لا إله إلا الله)، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (4) في سورة المعارج وهي قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} قدم الملائكة على الروح في آية النبأ قدم الروح على الملائكة، وذلك لأن السياق مختلف؛ ففي آية النبأ الموقف يوم القيامة، والكل قيام أمام الرب، وجبريل أكثر الملائكة مقاماً، وأما السياق في آية المعارج في العروج والملائكة هم الذين يعرجون دائماً فقدمهم لكثرة العروج والعدد.
سورة النبأ [78: 39]
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد ويشير إلى يوم يقوم الرّوح والملائكة صفاً.
{الْيَوْمُ الْحَقُّ} : يوم القيامة، يوم الحق: الحق هو الأمر الثّابت الذي لا يتغير ولا يتبدل.
{فَمَنْ} : الفاء: رابط لجواب شرط مقدر، من: استفهامية.
{شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} : أي فمن شاء عمل عملاً صالحاً، يؤوب أو يرجع به إلى ربه مخلصاً له بالطّاعة والإيمان وابتغاء مرضاته.
سورة النبأ [78: 40]
{إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ} : إنّا: للتعظيم، أنذرناكم: الإنذار هو الإعلام مع التّحذير والتّخويف.
{عَذَابًا قَرِيبًا} : قادماً أو آتٍ قريباً، قيل: هو عذاب القبر والبرزخ أو عذاب يوم القيامة.
في ذلك اليوم {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} : المرء يشمل الذّكر والأنثى والمؤمن والكافر والصّغير والكبير، ما قدّمت يداه: من خير وشر، ومن حسنات وسيئات.
{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنْتُ تُرَابًا} : يا ليت: أداة تمنٍّ تستعمل للأمور المستحيلة الحدوث، يا ليتني كنت تراباً: حين يرى أنّ الله قد حكم على الحيوانات بأن تكون تراباً يتمنى الكافر لو يجعله الله في عداد هذه الحيوانات التي تتحول إلى تراب؛ حتّى يتوقف عذابه ويرتاح، أو يتمنى لو لم يبعثه الله من موته وقبره أو لو لم يخلق البتّة.
سورة النازعات [79: 1]
سورة النازعات
سورة النّازعات [الآيات 1 - 15]
ترتيبها في القرآن (79) وترتيبها في النّزول (81).
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} :
الواو واو القسم، والقسم يشير إلى أهمية المقسم به وجواب القسم، والله سبحانه غني عن القسم، ويقسم الله في هذه الآيات بعدد من الملائكة ومهماتهم كنزع أرواح الكفار وأرواح المؤمنين.
النّازعات: جمع نازعة مؤنث النازع: اسم فاعل من الثلاثي نزع، غرقاً: الملائكة الموكلون بنزع وقبض أرواح الكفار، غرقاً: نزعاً شديداً بعنف تصاحبه آلام شديدة، مشتقة من أغرق في الشّيء: أوغل وبلغ أقصى غايته.
سورة النازعات [79: 2]
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} :
الواو واو القسم. الناشطات: جمع ناشطة مؤنث الناشط، من الفعل نشط، يقسم بطائفة أخرى من الملائكة الموكلين بنزع أرواح المؤمنين.
{نَشْطًا} : برفق ولين، من النّشط وهو الإخراج برفق وسهولة.
سورة النازعات [79: 3]
{وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} :
الواو واو القسم، السابحات: جمع سابحة مؤنث سابح، من فعل سبح.
وهذا قسم آخر بطائفة أخرى من الملائكة تسبح في السّموات صعوداً ونزولاً لتؤدي وظائفها، أو تسبح بالأرواح التي قبضتها إلى عليين، أو سجين ثمّ تنزل بها، وهناك من فسر السّابحات سبحاً: بالمجرات والكواكب والأجرام السّماوية التي تجري كلّ في فلك يسبحون.
انظر إلى جواب القسم بعد الآية (14).
سورة النازعات [79: 4]
{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} :
الفاء: فاء العطف، والعطف بالفاء يكون لموصوف واحد؛ لأن هذه الأحداث يقع بعضها على أثر بعض.
السابقات: جمع سابقة مؤنث السابق من فعل: سبق.
هذه طائفة من الملائكة أو الأجرام السماوية أو غيرها من المخلوقات أو الكائنات ذات السرعة الهائلة العظيمة التي تسبق غيرها، قد تكون نوعاً من السّابحات لها القدرة على السّبق؛ أي: لها قدرة فائقة في الجري تفوق الطّوائف الأخرى.
سورة النازعات [79: 5]
{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} :
{فَالْمُدَبِّرَاتِ} : الفاء: عاطفة، والعطف بالفاء يكون لموصوف واحد.
المدبرات: جمع المدبرة، مؤنث المدبر، من فعل دبر.
هذه طائفة متفرعة من الملائكة السّابحات وهي موكلة بتصريف الرّياح والأمطار والأرزاق وتدبير الخلائق، أمراً: هو اسم جنس يشمل المفرد والمثنى والجمع.
أقسم الله سبحانه بهذه الأنواع الخمسة من الملائكة أو غيرها من المخلوقات أو الكائنات التي لها هذه الصفات، وجواب القسم مضمر تقديره: لتبعثن ولتنبّئن ولتحاسبن، أو جواب القسم هو: يوم ترجف الرّاجفة.
سورة النازعات [79: 6]
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} :
يوم: القيامة أو البعث نكرة للتعظيم والتهويل.
{الرَّاجِفَةُ} : الراجفة: مؤنث الراجف اسم فاعل من: رجف، والراجفة: الزّلزلة الشّديدة التي تصيب الأرض والتي تؤدي إلى تبعثر القبور وانشقاق الأرض والخروج من الأجداث، وهناك من المفسرين من يقول: إن هذه الرجفة ستصيب الأرض الجديدة وليست الأرض التي نعرفها والتي تحتوي كل مكونات الأرض القديمة ومعالمها والموتى وغيرها
…
سورة النازعات [79: 7]
{تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} :
أي الرّجفة أو الرّجفات التي تتلو الرّجفة الأولى. ارجع إلى سورة الحج آية (1) للبيان المفصل، وبعدها يخرج الناس من قبورهم (من الأجداث).
وهناك من قال: الراجفة (النفخة الأولى) وما يحدث فيها من الصعق، والرادفة النفخة الثانية (نفخة القيام أو البعث).
سورة النازعات [79: 8]
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} :
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة يوم البعث.
{وَاجِفَةٌ} : مؤنث واجف، اسم فاعل من فعل: وجف؛ أي: خائفة مضطربة شديدة الخوف الفزع والهلع، ومسرعة لا تدري أين تذهب، وأهوال يوم القيامة كقوله تعالى:{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18].
سورة النازعات [79: 9]
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} :
أبصارها ذليلة منكسرة تنظر إلى الأرض لهوانها وذلها، نسب الأبصار إلى القلوب ولم يقل أبصارهم خاشعة، أو {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43]، أو {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7]. ارجع إلى سورة القمر، والقلم للبيان والمقارنة؛ فالقلب حين يوجف ويضطرب ويقلق يسري القلق إلى كلّ الجسم أو الذّات؛ أي: كلّ ذواتهم مضطربة قلقة وليس القلوب فقط.
سورة النازعات [79: 10]
{يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ} :
{يَقُولُونَ} : منكرو البعث والكفار، وغيرهم من الناس.
{أَإِنَّا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والاستبعاد والتعجب.
{لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ} : الدنيا (أو أرض الدنيا).
{لَمَرْدُودُونَ} : أنردُّ إلى الحياة الدّنيا التي كنا فيها؛ أي: أنرجع إليها مرة ثانية، واللام في لمردودون: للتوكيد، و «الحافرة»: مأخوذة من الإنسان حين يمشي على الأرض برجليه يحفر الأرض ويترك أثر قدميه، أو من كثرة سيره على الأرض يحفر فيها طريقاً كما نرى حين نسير على أرض رملية أو ترابية كيف نحفر الأرض بأقدامنا بالسير عليها.
سورة النازعات [79: 11]
{أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} :
{أَإِذَا} : الهمزة همزة استفهام تحمل معنى الاستبعاد والإنكار للبعث، والعودة إلى الحياة بعد أن كنّا عظاماً نخرة: عظاماً بالية بحيث تتفتت إن أمسكها بيده، أو جوفها منخور وصارت مجوّفة من مرور الزمن.
سورة النازعات [79: 12]
{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} :
{قَالُوا} : أي منكرو البعث، وغيرهم من الكفار.
{تِلْكَ} : اسم إشارة واللام للبعد وتشير إلى العودة في الحافرة (العودة إلى الحياة الدّنيا)، إذاً: حرف جواب؛ أي: إذا رددنا إلى الحافرة وصحّ ذلك، فهي كرّة خاسرة.
{كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} : رجعة خائبة أو عودة خاسرة، والكرة من الكر؛ أي: الرّجوع وجمعها كرّات، فهم يعلمون حقيقة أنفسهم أنّهم لو عادوا إلى الدّنيا لعملوا العمل السّابق نفسه، وكما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
خاسرة: مؤنث خاسر من فعل: خسر.
سورة النازعات [79: 13]
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} :
{فَإِنَّمَا} : للحصر والتّوكيد.
{هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} : صيحة واحدة أو نفخة واحدة وهي النّفخة الثّانية نفخة البعث، زجر: صاح.
سورة النازعات [79: 14]
{فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} :
{فَإِذَا هُمْ} : الفاء: استئنافية، إذا: ظرفية فجائية، هم للتوكيد.
{بِالسَّاهِرَةِ} : بأرض المحشر؛ أي: حضور في أرض المحشر أرض أكبر بكثير من الأرض التي نعيش عليها تتسع للبلايين من البشر من زمن آدم إلى آخر مخلوق على الأرض والجن والملائكة وغيرهم من المخلوقات، فالسّاهرة: الأرض الجديدة كقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].
السّاهرة: مؤنث ساهر، صفة للأرض أو الفلاة؛ لأن ساكنيها لا ينامون من الخوف والفزع والاضطراب والأهوال.
السؤال: أين جواب القسم؟ قيل: محذوف وتقديره لتبعثن، أو محذوف للتهويل والترويع، ويمكن أن يكون كل ما يخطر على عقل القارئ أو السامع.
سورة النازعات [79: 15]
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} :
{هَلْ} : للاستفهام وتفيد معنى التّشويق للسامع.
{أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} : حديث خبر موسى بن عمران.
سورة النّازعات [الآيات 16 - 46]
سورة النازعات [79: 16]
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} :
{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي، إذ: بمعنى حين ناداه ربه بقوله تعالى: {أَنْ يَامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، {يَامُوسَى إِنِّى أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12].
{بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} : الباء للإلصاق، ظرفية، الواد المقدس: الطّاهر المبارك.
{طُوًى} : اسم للوادي، وهو واقع بأسفل جبل طور سيناء.
سورة النازعات [79: 17]
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} :
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} : ملك مصر وكان يسمى: فرعون. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمزيد من البيان في فرعون.
{إِنَّهُ طَغَى} : إنّه للتوكيد، طغى: تجاوز الحد في الكفر والشّرك والضّلال والتّكبر والظّلم والعصيان. "إلى فرعون" الذي قال: أنا ربكم الأعلى.
سورة النازعات [79: 18]
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} :
{فَقُلْ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب؛ أي: قل له مباشرة بعد وصولك إليه.
{هَلْ لَكَ} : استفهام يفيد العرض والطّلب.
{إِلَى أَنْ} : إلى حرف للغاية، أن: حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{تَزَكَّى} : التّطهر من الشّرك والكفر، سؤال فيه لطف وليونة.
سورة النازعات [79: 19]
{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} :
وأدلك أو أرشدك.
{إِلَى رَبِّكَ} : عبادته وتوحيده ومعرفته.
{فَتَخْشَى} : الفاء للتعليل، تخشى: الخشية: هي الخوف المقترن بالعلم بالذي تخشاه والتّعظيم أو المهابة.
سورة النازعات [79: 20]
{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} :
الفاء للتعقيب والمباشرة.
{الْآيَةَ الْكُبْرَى} : وهي العصا واليد {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 32-33]، الآية هنا تعني المعجزة الكبرى (العصا واليد)، والآية الواحدة والآيتان تكفي عن الآية الأخرى، وقد تكون الآية الكبرى هي العصا فقط.
سورة النازعات [79: 21]
{فَكَذَّبَ وَعَصَى} :
الفاء للترتيب والتّعقيب والمباشرة.
{فَكَذَّبَ} : فرعونُ بموسى وبالآية الكبرى ولم يصدقه؛ أي: لم يؤمن له.
{وَعَصَى} : فرعون الله عز وجل ولم يؤمن بالله تعالى، أو عصى أمر موسى ?.
سورة النازعات [79: 22]
{ثُمَّ} : للتعقيب المجازي؛ لأنّ الكلام يقتضي تطويل المدة.
{أَدْبَرَ} : فرعون عن الإيمان والتّصديق بموسى، وأدار ظهره ولم يستمع لموسى.
{يَسْعَى} : يجتهد في جمع السّحرة والتّصدي لموسى والفساد في الأرض.
سورة النازعات [79: 23]
{فَحَشَرَ فَنَادَى} :
{فَحَشَرَ} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ أي: المقام يقتضي قصر المدة الطّويلة.
الحشر: السَّوق والجمع للسَّحرة كقوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111]، أو للناس كقوله:{وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59]، أو جنوده.
{فَنَادَى} : الفاء للتعقيب.
سورة النازعات [79: 24]
{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} :
{فَقَالَ} : الفاء للترتيب الذكري، قال فرعون:
{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} : أي لا رب غيري وأنا ربكم الأعلى.
سورة النازعات [79: 25]
{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} :
{فَأَخَذَهُ} : الفاء للترتيب الذّكري، أخذه: أهلكه الله أو انتقم الله ليجعله عبرة لغيره، والأخذ فيها معنى: الشدة والقوة، كما قال تعالى:{أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
{نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} : نكالاً: أي: صنع به صنيعاً (أو جعل عقوبته) يخاف منها غيره صنع به صنيعاً يحذر به غيره.
والنّكال هو القيد ويستعمل للعقوبة وجمعه: أنكال. ارجع إلى سورة البقرة الآية (66) لمزيد من البيان.
سورة النازعات [79: 26]
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{فِى ذَلِكَ} : لما جرى لفرعون وعدم إيمانه وأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
{لَعِبْرَةً} : اللام للتوكيد، عبرة: دلالة أو بينة تعبر بها من الجهل إلى العلم وعظة لمن يخشى ربه؛ أي: يخافه على علم به مع التّعظيم.
{لِمَنْ} : اللام لام الاختصاص؛ أي: عبرة لهؤلاء الذين يخشون ربهم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (13) لمزيد من البيان عن العبرة.
سورة النازعات [79: 27]
{ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} :
{ءَأَنتُمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري، والمخاطب كل النّاس وخاصة منكرو البعث والقرآن والألوهية والإيمان.
{أَشَدُّ خَلْقًا} : أي أعظم خلقاً أو أكبر خلقاً.
{أَمِ السَّمَاءُ} : أم الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ أو استفهام حقيقي.
أم للإضراب الانتقالي، والسّماء: هي كل ما علاك تشمل السّموات السّبع وما فيهن، والجواب معلوم في قوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 75]، فهذه السموات تحتوي على مليارات المجرات والتي تحوي داخلها مليارات المجموعات الشمسية المشابهة لمجموعة درب التبانة التي تسبح في السماء الدّنيا. وماذا عن السماء الثانية أو الثالثة أو السابعة؟ لا علم لنا وكل ما نعلمه لا يتجاوز النذر اليسير من السماء الدّنيا فقط وكل سماء تغلف الأخرى وأكبر من الأخرى، هذه السموات المبنية بناء عظيماً وشديداً وكما قال تعالى:{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12]، ومحبوكة بالحبك {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7]، وما لها من فروج.
{بَنَاهَا} : أي ربطها وجعلها محكمة البناء بقوى الجاذبية والتّنافر والقوى الكهرومغناطيسية المتولدة عن الأجرام السّماوية حولها، وجعلها متوازنة وكما قال تعالى:{مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، وبناء السماء من أعظم دلائل القدرة الإلهية فهناك أكثر من (200 ألف مليون) مجرة فيها ملايين النجوم والكواكب والمذنبات والشهب والتّوابع ولم يحط الإنسان بها علماً حتى الآن إلا بجزء أو طرف من السماء الدّنيا، فما بالك بالسموات الأخرى!
سورة النازعات [79: 28]
{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} :
السّمك هو البعد الارتفاعي؛ أي: مقدار الارتفاع من الأسفل إلى الأعلى، يعني: رفعها عالياً أو زاد عرضها من جراء التّوسع كقوله: (وإنا لموسعون) فهذه النّجوم التي نراها تُزين السماء الدّنيا تبعد بعضها عنا مليوني سنة ضوئية كما بينت الدراسات بالتلسكوب.
{فَسَوَّاهَا} : جعلها متوازنة مستقرة تامة كاملة البناء، لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور ولا شقوق رغم الاتساع والتّمدد، فسوّاها تعني: بالاستقرار والكمال.
سورة النازعات [79: 29]
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} :
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} : أي أظلم ليلها: جعله مظلماً؛ أي سترها بالليل كاللباس بدوران الأرض وكرويّتها، فحال دون وصول أيّ ضوء إلا ضوء القمر في الليل.
{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} : ضوءها ونهارها، وعبّر عن النّهار بالضّحى، والضّحى يبدأ بطلوع الشّمس بسقوط أشعة الشّمس على الطبقة الغازية حول الأرض مما يجعلها تضيء. ارجع إلى سورة يونس آية (67) للبيان كقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر: 61].
سورة النازعات [79: 30]
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} :
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} : أي بعد خلق السّماء.
{دَحَاهَا} : في التّعابير القديمة تعني: بسطها ومهّدها؛ أي: هيّأها لعيش الإنسان عليها وذلك بتكوين قشرة الأرض من جرّاء ثورة البراكين التي ألقت بحممها لتشكل أول جزيرة بركانية التي كانت أرض مكة، ثم دُحيت الأرض من حولها؛ أي: مدّت وبسطت وتشكلت القارة الأم التي تصدعت فيما بعد إلى سبع قارات وتباعدت هذه القارات، وأثناء عملية الدَّحو:
سورة النازعات [79: 31]
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} :
أي: أخرج منها من جوفها الغلاف المائي والغازي؛ أي: غلافها المائي والغازي.
أخرج منها؛ أي: من الأرض، ماءها حيث كان يخرج مع ثوران البراكين الهائلة كميات كبيرة جداً من بخار الماء والتي كانت تخرج من أكثر من (1200) فوهة بركانية على سطح الأرض والتي شكلت أكثر من (104 مليون كيلو متر مكعب) من الماء الذي شكل (70%) من القشرة الأرضية، فبخار الماء الذي يصعد في السّماء وتحمله الرّياح ثم يصعد حتى يلاقي طبقة باردة يتكثف فيها بخار الماء فينزل على شكل مطر، فكل ماء الأرض أخرجه الله من داخل الأرض، ثم تأتي أشعة الشمس لتساعد على تبخر الماء من البحار والمحيطات وغيرها فتكون السحب ثم تتلقح السحب فينزل الماء، فبهذه الدورة دورة الماء حول الأرض لكي لا يبقى الماء راكداً، فلا يفسد أو يصبح ماء أسناً ويبقى صالحاً للحياة، وكان الماء في البداية حلواً ثم أصبح مالحاً بسبب السيول وعوامل التعرية، فكل ما يصعد في السماء من بخار الماء يرجع إلى الأرض كمطر وبرحمة من الله جعل ماء المطر يزيد على المياه المتبخرة، وأثبت العلم أن أكثر من (600 ألف كم مكعب) يتبخر من البحار والمحيطات وغيرها وينزل على اليابسة كمية أكبر من ذلك بفضل الله ورحمته.
ومرعاها: أخرج منها غلافها الغازي الذي يشمل غاز ثاني أوكسيد الكربون الأساسي الذي تمتصه الأوراق الخضراء للشجر وتطلق الأوكسجين الصالح لتنفس الإنسان، وبالتالي يشكل الشجر والثمر وكونه غذاء للحيوانات التي تحتاج إلى مرعى، ومنها نأكل اللحم واللبن والدهن وغيرها.
سورة النازعات [79: 32]
{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} :
الهاء تعود على الأرض؛ أي: أرسى الأرض بالجبال.
{أَرْسَاهَا} : أي ثبتها ونشرها في الأرض هنا وهناك؛ كي تكون كالأوتاد للأرض فلا تضطرب وتتحرك أو تميل، ولولا ذلك لما استطعنا أن نعيش عليها.
أرساها: خلال مرحلة الدَّحو، أي بثورة البراكين وخروج الحمم المنصهرة من البحار التي ارتفعت فوق القشرة الأرضية ثم سقطت واخترقتها وشكلت الجبال الرواسي كقوله تعالى:{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10].
وكقوله: {وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15].
وأثبتت الدّراسات العلمية أنّ ما تراه من ارتفاع للجبل على سطح الأرض له امتداد داخل قشرة الأرض يترواح إلى (10-15) ضعف ارتفاعه فوق سطح الأرض.
ويطلق على الجبال "رواسي" في الدّنيا فقط، ويوم القيامة يطلق عليها اسم الجبال ولا تعد رواسي؛ لأنّها ستزول وتقتلع وتنسف ومصيرها أن تكون كالعهن المنفوش.
سورة النازعات [79: 33]
{مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} :
{مَتَاعًا} : من المتاع: وتعريف المتاع: هو كل ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه ثم يفنى في النّهاية من طعام وشراب وأثاث وسلعة وأداة ومال وأولاد وزوجة وحرث وأنعام، والمتاع يطلق على القليل والكثير.
{لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} : لكم اللام لام الاختصاص، وأنعامكم: مثل البقر والغنم والإبل والماعز.
فكيف تكون الجبال متاعاً لنا ولأنعامنا؟ قيل: إنّ العوامل المناخية والطّبيعية من حرارة وبرودة ورطوبة وتقلص وتمدد تؤدي إلى تعرية الجبل؛ أي يحدث تفتت سطحي، وبعد نزول المطر يجرف الأشياء المفتتة حتّى تنزل على الأرض والوديان والبحار لتشكل مادة الغرين الخصبة التي تنبت الزرع والحب والنبات الذي هو طعام لنا ولأنعامنا.
سورة النازعات [79: 34]
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} :
{فَإِذَا} : الفاء استئنافية، إذا ظرفية تفيد حتمية الحدوث؛ أي: حدوثها محقق.
{جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} : الطّامة اسم من أسماء يوم القيامة الكثيرة، ومنها: يوم القيامة، الغاشية، الصاخة، القارعة، الحاقة، الأزفة، يوم الدين، يوم البعث، يوم الخروج
…
وغيرها، وقد عدها الغزالي والقرطبي فبلغت خمسين اسماً كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، ويقول القرطبي: كل ما عظم شأنه تعددت صفاته، وكثرت أسماؤه، وقيل: النّفخة الثّانية، وقيل: حين يساق أهل النّار إلى النّار.
والطّامة من طمّ الشّيء؛ أي: علا وغلب؛ أي: الحدث العظيم المروع الذي يُنسى كل ما حدث قبله، أو الداهية العظمى التي تطمّ أو تعلو كل الأحداث الجسام قبلها.
{الْكُبْرَى} : صفة للطامة.
سورة النازعات [79: 35]
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} :
{يَوْمَ} : ظرف زمان؛ أي: يوم تجيء الطامة الكبرى يتذكر الإنسان ما سعى.
{يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا} : مصدرية أو اسم موصول (بمعنى الذي) وما: أوسع شمولاً من "الذي".
{سَعَى} : ما عمل في الدّنيا من خير وشر.
وكيف يتذكر الإنسان ما سعى: أي يقرأه في سجل أعماله في كتابه كقوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
سورة النازعات [79: 36]
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} :
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} : الجحيم اسم علم للنار، أو دركة من دركاتها مشتق من الجحم، وهو التّأجج فلا تخمد أبداً.
برّزت: أصبحت بارزة للعيان؛ أي: ظاهرة لكل من يرى، وظاهرة لمن كان يُكذب بها ولا يصدق بآيات الله تعالى.
{لِمَنْ يَرَى} : اللام لام الاختصاص، من ابتدائية؛ أي: لا تخفى على أحد، المؤمن والكافر والعاصي والفاجر والتّقي والعاصي.
سورة النازعات [79: 37]
{فَأَمَّا} : الفاء عاطفة، أما: حرف تفصيل وشرط.
{مَنْ} : ابتدائية لابتداء الغاية.
{طَغَى} : تجاوز الحد في عدم طاعة الله، وتجاوز الحد في الكفر والشرك بالله والضلال والتكبر والظلم والفساد والعصيان.
سورة النازعات [79: 38]
{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} :
{وَآثَرَ} : الإيثار: هو تقديم الشيء على غيره سواء أيستحق التقديم أم لا يستحق؛ أي: تقديم الحياة الدّنيا على الآخرة وسعى لها ولم يستعد للآخرة ولم يبالِ بها، أو نسيها واتبع شهواته وتجرأ على المعاصي والكبائر.
سورة النازعات [79: 39]
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى} :
{فَإِنَّ} : للتوكيد.
{الْجَحِيمَ} : ارجع إلى الآية (18) في سورة الرعد.
{هِىَ} : للتوكيد.
{الْمَأْوَى} : المستقر والمسكن الدّائم أو المثوى.
سورة النازعات [79: 40]
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} :
{وَأَمَّا} : حرف شرط وتفصيل.
{مَنْ} : لابتداء الغاية.
{خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} : آمن بالله وعمل صالحاً، وآمن بالبعث والحساب وخاف الوقوف بين يدي ربه يوم القيامة.
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} : ونهى: أي زجرها وكفّها ومنعها عن الهوى، والهوى: هو ما تميل إليه النّفس باطلاً مما لا ينبغي وبلا دليل وبعيد عن الحق والهوى يغلب عليه الذّم ويختص بالأداء والاعتقادات، ونهى نفسه عن اتباع الشّهوات والحرام وما يبغضه الله تعالى.
سورة النازعات [79: 41]
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} :
{فَإِنَّ} : الفاء تعليلية، إن: للتوكيد.
{الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} : هي للتوكيد، المأوى: المستقر والمسكن الدّائم.
سورة النازعات [79: 42]
{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} :
{يَسْـئَلُونَكَ} : ولم يقل ويسألونك: حذف الواو يدل على أن السؤال لم يسبقه أسئلة أخرى؛ يسألونك: تعني السّائل يقف أمام المسؤول ويسأله عن شيء لا يعرفه، أما يسألك: ليس بالضّرورة أنّ السّائل يقف أمام المسؤول ليسأله.
{عَنِ السَّاعَةِ} : متى قيام الساعة؟ أي بداية تهدُّم النظام الكوني وزواله وانتهاء الحياة على الأرض.
{أَيَّانَ} : أداة استفهام يسأل عن الزّمن المستقبل بمعنى: متى.
والفرق بين أيان ومتى: أيان للمستقبل فقط تختص بالاستقبال، ومتى: تستعمل للماضي والحاضر.
وأيان تستعمل في الأمور الجسام أو التي يراد تعظيمها مثل يوم الدّين يوم القيامة أو السّاعة.
{أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : سؤال استفهام قد يكون للاستعداد لها؛ لأنه يؤمن بها ويريد معرفتها، أو يسأل عن أماراتها، أو سؤال إنكار واستبعاد واستهزاء؛ لأنه لا يؤمن بالبعث والآخرة.
مرساها: يعني وقوعها أو حدوثها أو قيامها، والأصل في مرساها: من أرساه؛ أي: أثبته وأقرّه.
سورة النازعات [79: 43]
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} :
{فِيمَ} : أصلها: في ظرفية، ما استفهام حذف ألفها بسبب الجر، فيه معنى الإنكار والتّعجب من إلحاح المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبين لهم وقتها (زمن وقوعها).
{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} : أي فيما أو لماذا هذا السّؤال المتكرر والحديث عنها، وأنت لا تعلمها، أو ليس عندك علمها فتذكرها لهم.
سورة النازعات [79: 44]
{إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} :
{إِلَى رَبِّكَ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر والاختصاص.
{مُنْتَهَاهَا} : زمن حدوثها أو متى ستقع لا يعلمها إلا هو، كقوله تعالى:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، أو منتهى علمها عند الله.
سورة النازعات [79: 45]
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} :
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد التّوكيد والحصر.
{أَنْتَ مُنْذِرُ} : الإنذار: الإعلام مع التّحذير والتّخويف.
{مَنْ يَخْشَاهَا} : من لابتداء الغاية، يخشاها: يخافها ويعظّمها.
أي رغم أنّك لا تعلم منتهاها فأنت لا زلت مكلفاً بالإنذار، من يخشاها: من المؤمنين.
سورة النازعات [79: 46]
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} :
{كَأَنَّهُمْ} : للتشبيه المؤكد.
{يَوْمَ يَرَوْنَهَا} : يوم يرون الساعة؛ أي: يرون تهدُّم النظام الكوني أو الكون.
{لَمْ يَلْبَثُوا} : في الدّنيا.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} : عشية من زوال الشّمس إلى الغروب؛ أي: من الظّهر إلى غروب الشّمس (ساعات)، أو ضحاها: من طلوع الشّمس إلى زوال الشّمس؛ أي: نصف يوم، أو: للتخيير.
سورة عبس [80: 1]
سورة عبس
ترتيبها في القرآن (80) ترتيبها في النّزول (24).
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} :
سبب النّزول: كما أخرج الترمذي والحاكم: كان النّبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يتحدث مع بعض سادة قريش ويطمع في إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم وكان قد حرم البصر فقال: علِّمني يا رسول الله مما علمك الله، وجعل يناديه ويكرر النّداء، ولا يدري ابن أمّ مكتوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغولٌ مع زعماء المشركين من قريش طمعاً في دخولهم في الإسلام، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء ابن أمّ مكتوم وأعرض وعبس في وجهه فنزلت هذه السورة.
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} : عبس رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّب جبينه، وتولى: ابتعد وأعرض بوجهه عن عبد الله بن عمرو بن أمّ مكتوم.
انتبه إلى تحول الصّيغة من صيغة المخاطب إلى صيغة الغائب، ولم يقل عبست وتوليت بصيغة المخاطب وإنما استعمل صيغة الغائب فقال: عبس وتولى؛ إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة عبس [80: 2]
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{جَاءَهُ الْأَعْمَى} : الأعمى: أي: المصاب بفقد حاسة البصر، وليس العمه: أي عمى البصيرة، عبد الله بن عمرو بن أمّ مكتوم أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خويلد أمّ المؤمنين رضي الله عنها، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يدعو ويخاطب عتبة بن ربيعة وأبا جهل والعبّاس وأمية بن خلف من عظماء قريش، لعلهم يدخلون في الإسلام.
سورة عبس [80: 3]
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} :
{وَمَا يُدْرِيكَ} : ما للاستفهام، يدريك: من درى: أي علم بعد جهل، درى حالة خاصة من علم، علم أوسع من درى.
{لَعَلَّهُ} : لعل للتعليل، والهاء تعود على ابن أم مكتوم.
{يَزَّكَّى} : أصلها يتزكى: يتطهر ويتوب من ذنوبه أو يتزكى بما يتعلمه من الشّرائع ويتطهر من الجهل.
سورة عبس [80: 4]
{
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}:
أو لعله نسي شيئاً من تعاليم دينه فيسألك عنه، فيتذكره ويعمل به أو يتعظ فتنفعه موعظتك.
سورة عبس [80: 5]
{أَمَّا مَنِ} : حرف شرط وتفصيل، من: اسم موصول بمعنى الذي.
{اسْتَغْنَى} : بماله وجاهه وقوته أمثال هؤلاء سادة قريش عتبة وشيبة وربيعة وغيرهم، أو استغنى عن عبادة الله بعبادة الأوثان.
سورة عبس [80: 6]
أصلها تتصدى: أي تُقبل عليه بوجهك، أو تتعرض له تحاول محادثته وتلحُّ على دعوته.
سورة عبس [80: 7]
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} :
{وَمَا} : النّافية.
{عَلَيْكَ} : من وزر أو إثم أو مسؤولية أو جناح في عدم إسلامهم، ما عليك إلا البلاغ.
{أَلَّا} : أصلها: أن حرف مصدري للتعليل ولا النّافية.
يزكى: أي يتطهر أو يتوب، أو يؤمن ويدخل في الإسلام أو يهتدي.
سورة عبس [80: 8]
{وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} :
{وَأَمَّا مَنْ} : أمّا حرف شرط وتفصيل، من: اسم موصول بمعنى الذي.
{جَاءَكَ يَسْعَى} : يمشي بجد وعزم طالباً العلم وحضور مجلسك أو سائلاً عن أمر يهمه.
سورة عبس [80: 9]
{وَهُوَ يَخْشَى} :
{وَهُوَ} : للتوكيد.
{يَخْشَى} : أي يخشى الله تعالى؛ يخافه خوفاً مقروناً بالعلم والتّعظيم.
سورة عبس [80: 10]
{فَأَنْتَ} : الفاء للتوكيد.
{عَنْهُ تَلَهَّى} : منصرف أو مشغول أو غافل عنه بسبب هؤلاء كفار قريش.
سورة عبس [80: 11]
{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، وقد تعني حقاً، كلا: لا تفعل مثل ما فعلت مع ابن أم مكتوم، ثم ينتقل سبحانه وتعالى للحديث عن القرآن وآياته.
{إِنَّهَا} : تعود على الآيات القرآنية التي أنزلها الله في كتابه العزيز، أو السّورة نفسها وما جاء فيها من تذكرة لمن ينسى، أو تذكرة لمن يريد الانتفاع بها الغاية منها النّجاة من النّار والفوز بالجنة.
سورة عبس [80: 12]
{فَمَنْ} : الفاء عاطفة، من شرطية.
{شَاءَ ذَكَرَهُ} : فمن شاء الله ذكر الله فزاده خشية، أو ذكر القرآن: قرأه وتدبّره واتّعظ به، ولم يقل ومن شاء لم يذكره؛ لأنّ هذا ليس وارداً شرعاً.
سورة عبس [80: 13]
تذكرة: أي القرآن أو آياته مكتوبة في صحف مكرمة.
{فِى} : ظرفية.
{صُحُفٍ} : جمع صحائف وهي ما يُكتب فيه القول.
{مُّكَرَّمَةٍ} : مؤنث مكرم، مكرمة: مباركة عظيمة القدر والشأن عند الله تعالى وعند الملائكة.
سورة عبس [80: 14]
{مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} :
{مَّرْفُوعَةٍ} : رفيعة القدر والمنزلة أو مرفوعة في اللوح المحفوظ.
{مُّطَهَّرَةٍ} : لا يمسها إلا المطهرون؛ أي: الملائكة، ومنزّهة عن الشّياطين.
سورة عبس [80: 15]
{بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} :
{سَفَرَةٍ} : السّفرة: الملائكة، والسّفرة جمع سفير: وهو الواسطة بين الله ورسله؛ أي: بالوحي، والسفّرة من السّفر (وهو الكتاب)؛ أي: الكتبة؛ لأنّهم يكتبون أعمال العباد.
سورة عبس [80: 16]
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} :
{كِرَامٍ} : كرام على الله؛ أي: أعزّاء وكرام في أخلاقهم وخلقهم وعلى أحسن خُلق وخَلق صادقين.
{بَرَرَةٍ} : وصفاً للملائكة؛ لأنهم جميعاً بررة؛ وبررة: جمع كثرة، بينما وأبرار جمع قلة وهو وصف للمؤمنين، وبرَرَة: جمع بار؛ أي: أتقياء مطيعين بارّين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، برَرَة من الآثام والعيوب.
سورة عبس [80: 17]
{قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} :
{قُتِلَ الْإِنسَانُ} : قُتل: قيل معناها: لُعن، وقُتل: هو أسلوب يستعمله العرب في تقبيح فعل ما؛ أي: ما أسوأه.
وقيل: قُتل: دعاء على الإنسان بأشد الدعاء، الإنسان: أي الإنسان الكافر وليس كلّ إنسان.
{مَا أَكْفَرَهُ} : ما: قيل: هي استفهامية تفيد أيضاً معنى التّوبيخ؛ أي: ما الذي حمله على الكفر أو يجعله يكفر بربه؟ أو: أيّ شيء أكفره؟ أي: دعاه أو أجبره على الكفر.
وقيل ما: للتعجب؛ أي: ما أعظم كفره، أو أشد كفره مع كثرة الإحسان إليه! أو أتعجب من فرط كفره، فقد أعطاه العقل وأرسل إليه رسله وأنزل عليه كتبه وبيّن له ما أمره به ونهاه عنه.
والكفر: هنا يعني كلّ أنواع الكفر ومنه كفر الجحود بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث، وكفر النعمة والإحسان إليه، وبالتّالي قتل الإنسان: هلك الكافر، فليس هناك مبررٌ وداعٍ إلى كفره فلينظر كيف خلقه ربه.
سورة عبس [80: 18]
{مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} :
{مِنْ} : استفهامية تفيد معنى التّقرير.
{أَىِّ} : أي أنت أيها الإنسان الكافر كيف تكفر، ألم تُخلق من تراب أو من نطفة من ماء مهين!
سورة عبس [80: 19]
{مِنْ نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} :
{مِنْ نُّطْفَةٍ} : من ابتدائية، نطفة الأب والأم (الذكر والأنثى) أي: بداية خلقه من نطفة.
{فَقَدَّرَهُ} : أي قدر أعضاءه رأسه وعينيه ويديه ورجليه وسائر الأعضاء والحواس، فقدّره نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاماً.
والتقدير يعني: أعطاه من الصفات الوراثية ما يميزه عن غيره وكانت بداية خلقه من نطفة آدم وحواء، والشّفرة الوراثية لا يحددها إلا الله سبحانه، فقدره التقدير وقد يعني: التحكم في الصفات الوراثية لكل فرد من ذرية آدم.
سورة عبس [80: 20]
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} : في خروجه من بطن أمّه، أو بيّنّا له طريق الخير وطريق الشّر، وأعطاه الوسائل الكافية والمعرفة والهداية الربانية كقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وأعطيناه العقل الراجح الذي يميز به بين الخير والشر، وأرسل له الأنبياء والرسل والكتب، وغرس الإيمان الفطري في كل خلية من خلاياه حين خلق آدم.
سورة عبس [80: 21]
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{أَمَاتَهُ} : بعد انقضاء أجله، والموت هو مفارقة الرّوح للبدن، فهذا الأجل مدوّن في الشّفرة الوراثية، فأجله محدد في كل خلية من خلايا جسمه، وسوف يمر في مرحلة الولادة ثم الطفولة ثم الشباب ثم الكهولة والشيخوخة والاحتضار فالموت.
{فَأَقْبَرَهُ} : الفاء للتعقيب والمباشرة، أقبره: أكرمه بالدّفن.
سورة عبس [80: 22]
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{إِذَا} : شرطية ظرفية حتمية الحدوث.
{شَاءَ أَنْشَرَهُ} : شاء سبحانه، أنشره: أحياه من جديد بعد موته وتحوّله إلى عظام ورفات، ثم يبعثه ليحاسبه ويجزيه على عمله.
سورة عبس [80: 23]
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} :
{كَلَّا} : حقاً، أو كلا: كلمة ردع وزجر عما عليه الإنسان من الكفر، أو ليكفّ الإنسان عن كفره.
{لَمَّا} : حرف نفي.
{يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} : لم يؤدِّ ما فرض الله عليه أو كلّفه به من الفروض والعبادات.
ما: اسم موصول بمعنى: الذي أمره من الأوامر، و"ما" أوسع شمولاً من "الذي".
سورة عبس [80: 24]
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} :
{فَلْيَنظُرِ} : الفاء للتوكيد أو جواب شرط مقدر تقديره: إن أردتم معرفة الله وقدرته، فلينظر الإنسان إلى طعامه نظرة تأمل وتفكر.
{الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} : من أين توفر له أو من أين جاء، ومن هيَّأه وجهَّزه له، أو من جاء به أو كيف خلقه وجعله سبباً لحياته؟ وتركيب هذا الطعام من مختلف المواد البروتينية والنشوية والدهنية والسكرية، والمعادن والأملاح، وكيف يتم تحضيره بماء المطر وشق الأرض وإخراج مختلف النباتات!
سورة عبس [80: 25]
{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} :
{أَنَّا} : للتعظيم.
{صَبَبْنَا الْمَاءَ} : أنزلنا ماء المطر على الأرض بغزارة وكثرة حتّى تغني الأرض وتخرج حبها وثمرها، ويتوفر للإنسان الطعام.
{صَبًّا} : للتوكيد، وبدون المطر فلن يكون هناك طعامٌ، ففي هذه الآية إشارة ضمنية إلى دورة الأرض.
وكيف تم صب هذا الماء بالتبخير، ثم تشكل السحاب ثم تلقيح السحاب ثم سقوط المطر وكون كمية الماء ثابتة على الأرض، ولكن كيفية توزيعها غير ثابتة، ولا أحد يستطيع التحكم بهذا المطر إلا رب العالمين.
سورة عبس [80: 26]
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{شَقَقْنَا الْأَرْضَ} : بالنباتات والحب والزرع.
وكيف يتم هذا الشق: ليسمح للبذرة أن تنمو وتخرج السويقة ثم الأوراق والحب والثمار، فماء المطر ينزل على التربة المكونة من معادن بشكل صفائح رقيقة تحمل على سطحها شحنات إيجابية وسلبية، فيؤدي وصول الماء إليها إلى تبادل الشحنات والاهتزاز والانشقاق.
{شَقًّا} : للتوكيد. شقاً: مصدر لفعل شق، ثم ذكر ثمانية أنواع من النباتات التي تخرجها الأرض.
سورة عبس [80: 27]
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} :
الحب: مثل الحنطة (القمح) والشعير والرز والذرة وغيرها من أنواع الحبوب.
سورة عبس [80: 28]
{وَعِنَبًا وَقَضْبًا} :
عنباً: العنب بأنواعه.
قضباً: قيل: هي النباتات المستخدمة لإطعام الحيوانات مثل العلف والبرسيم والعشب.
سورة عبس [80: 29]
سورة عبس [80: 30]
{وَحَدَائِقَ غُلْبًا} :
حدائق جمع حديقة: كل بستان له سور أو محاط بشجر كثيف.
غُلباً: كثيفة الأشجار؛ أي: الملتفَّة.
سورة عبس [80: 31]
{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} :
فاكهة: اسم جنس يشمل كل أنواع الفواكه.
أبًّا: ما تأكله الحيوانات من التبن والعشب اليابس والنبات.
سورة عبس [80: 32]
{مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} :
طعاماً لكم (خاصة) ولأنعامكم. ارجع إلى سورة النازعات الآية (33) للبيان.
سورة عبس [80: 33]
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} :
الفاء استئنافية، إذا: شرطية تدل على حتمية الوقوع.
{جَاءَتِ} : من المجيء، والمجيء في القرآن: يستعمل في الصعوبة والمشقة، وأتى: تستعمل في الأمر السهل.
الصاخة: قيل: الصيحة أو النفخة الثانية، وسميت بالصاخة؛ لأنها تصم الأذان أي: تكاد تصمها لشدتها، ويقال: صخَّ فلان فلاناً، إذا أصمه، ولها أسماء أخرى منها: الحاقة، القارعة، الطامة، الساعة، الراجفة، الرادفة، الأزفة، وقد عدها الغزالي والقرطبي فبلغت خمسين اسماً، كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وقال القرطبي: كل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه.
سورة عبس [80: 34]
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} :
ولم يقل سبحانه يوم يفر الإنسان؛ لأن كلمة الإنسان تشمل الذكر والأنثى؛ أي: يوم تجيء الصاخة (النفخة الثانية) أو يوم البعث يفر المرء: الرجل، والفرار: هو الجري بسرعة، المصحوب بالخوف وعدم التستر.
من أخيه: من ابتدائية، أخيه في النسب.
سورة عبس [80: 35]
{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} :
سورة عبس [80: 36]
{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} :
{وَصَاحِبَتِهِ} : زوجته، والزوجة لا تسمى صاحبة إلا إذا كان له ولد منها؛ تعني: الصحبة دامت حتى ولدت له.
{وَبَنِيهِ} : الأبناء والأولاد: وبنيه تدل على الكثرة، وفيها تصغير يدل على الرأفة والشفقة، والأبناء تدل على القلة.
سورة عبس [80: 37]
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} :
{لِكُلِّ} : اللام لام الاختصاص.
{امْرِئٍ مِّنْهُمْ} : من الإنس والجن.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم ظرف أضيف إلى ظرف إذ؛ أي: يوم القيامة. ويوم: نكرة للتهويل والتعظيم.
{شَأْنٌ يُغْنِيهِ} : لكل منهم شاغل يشغله عن أقرب الناس وهم أهله، ويقول: اللهم نفسي نفسي.
وهذا الفرار سببه هول ذلك اليوم والخوف والرعب الذي يؤدي بالإنسان إلى نسيان أهله وأولاده وأقاربه، وإذا رآهم لا يتوقف ويستمر في جريه بحثاً عن الملجأ والمنجا.
ويبدأ الفرار من الأبعد إلى الأقرب، من الأخ ثم الأب والأم ثم الزوجة والأولاد، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (11-14) في سورة المعارج وهي قوله تعالى:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُـئْوِيهِ} : نجد أن النداء يبدأ بالأقرب فالأبعد بعكس الفرار. ارجع إلى سورة المعارج لمزيد من البيان ومعرفة السبب، والاختلاف بين الآيتين.
سورة عبس [80: 38]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} :
{مُّسْفِرَةٌ} : من أسفر الصّبح؛ أي: أضاء؛ أي: وجوه المؤمنين يومئذ مضيئة نيرة تضيء وتنير من آثار الإيمان والوضوء.
سورة عبس [80: 39]
{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} :
{مُّسْتَبْشِرَةٌ} : مؤنث مستبشر من الفعل: استبشر؛ أي: تظهر على وجوههم علامات البشر والفرح والبهجة والحبور؛ لأنهم بشّروا بالجنة ونعيمها.
سورة عبس [80: 40]
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} :
ووجوه الأشقياء الكفار يومئذٍ: يوم البعث والحشر:
{عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} : كناية عن تغيرها بسبب الغم والحزن والقنوط، أو تعني: عليها التراب.
سورة عبس [80: 41]
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} :
{تَرْهَقُهَا} : تغشاها.
{قَتَرَةٌ} : يقال: رهقه: غشية بقهر، قترة: من القتار؛ الهواء الممتلئ بدخان الدّهن المحترق (دخان أسود) من دخان جهنم.
سورة عبس [80: 42]
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد تفيد الذّم.
{هُمُ} : للتوكيد.
{الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} : الكفرة: جمع كافر جمع كثرة غير محددين بعدد، بينما الكافرون أقل نسبة من الكفرة، كل من لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والفجرة: جمع فاجر: وهم كثرة، وقيل الفاجر: من عمل الكبائر ومات ولم يتب، والفجور: الخروج عن حدود الله وطاعة الله، وارتكاب المحرمات كالربا والزنى وسفك الدماء، والدوام على ذلك.
هم الكفرة الفجرة؛ أي: الكفار هم الفجَّار، أو هناك كفرة وفجرة، أو هناك من اشترك في الصّفتين الكفر والفجور، أو الكفرة خبر أوّل والفجرة خبر ثان.
سورة التكوير [81: 1]
سورة التكوير
ترتيبها في القرآن (81) وترتيبها في النّزول (7).
الشمس هي إحدى النجوم، وهي فرن نووي هائل مركب من غاز الهيدروجين بنسبة (73%) والهيليوم بنسبة (24%) وغازات أخرى مثل الأوكسجين والكربون وغيرها من الغازات.
وتبعد الشّمس عن الأرض حوالي (92، 900، 000 مليون ميل) أي: حوالي (149، 600، 000كم).
وقطر الشّمس حوالي (1، 39 مليون كم) أو ما يعادل (864، 000 ميلاً) أو ما يعادل (109) ضعف قطر الأرض.
أما كتلة الشّمس فهي تساوي (330، 000) كتلة الأرض.
وهي تسبح حول مركز مجرة درب التبانة بسرعة تقدر (220كم/ ثانية) لتكمل دورة واحدة كل حوالي (226 مليون سنة) حول مركز المجرة.
والشّمس والقمر والأرض تجري بسرعة (19كم/ ثانية).
والشّمس تعتبر أهم مصدر للطاقة على الأرض؛ فهي مصدر للضوء والحرارة، ودرجة حرارة الشمس في مركزها يصل إلى حوالي (15 مليون درجة مئوية)، وعلى سطحها حوالي (6 آلاف درجة مئوية).
{إِذَا} : شرطية ظرفية تستعمل للأمور الحتمية الحدوث.
{الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} : وتقديم الفاعل (الشمس) على الفعل المحذوف يفيد التهويل والتعظيم وهذا ما نراه في الآيات (1) إلى الآية (13) تقديم الفاعل على الفعل؛ الشّمس هذه الكتلة الملتهبة التي تمتد منها ألسنة اللهب عشرات الآلاف من الكيلومترات، وقد يصل بعضها إلى أكثر من نصف مليون كم.
وتكور الشّمس: يحدث عندما يخبو النشاط النووي داخل الشّمس ويبدأ بالنقص، مما يؤدي إلى انسحاب ألسنة اللهب، ويقل نورها تدريجياً وتظلم، وهذه من علامات الساعة؛ أي: بداية تهدُّم النظام الكوني.
سورة التكوير [81: 2]
{وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} :
هذه علامة أخرى من أحداث الساعة؛ أي: تهدُّم النظام الكوني.
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{النُّجُومُ} : أجرام سماوية مركبة في معظمها من مادة غازية ملتهبة يغلب على تركيبها مادة الإيدروجين الذين يشكل حوالي (75%) من المادة الغازية، هذا التفاعل يجعلها شديدة الحرارة مضيئة، والنّجوم تمر بدور حياة تتحول من نجوم عادية إلى نجوم حمراء عملاقة، ثمّ تتقلص بعد تمددها وتصبح نجوماً بيضاء ثمّ سوداء ثمّ ثقوباً سوداء، ثم تنفجر وتنكمش على نفسها وتقل حجماً وتزداد جاذبية واختفاء إلى الأبد.
ويقدر عددها في مجرتنا وحدها بأكثر من (100-400 مليار نجم).
{انكَدَرَتْ} : من الكدر: أصبحت غير صافية الضوء كان فيها عكر، وقيل: انطمس ضوؤها؛ أي: نقص لمعانها وتضاءل، ولا يعني زواله كاملاً.
سورة التكوير [81: 3]
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} :
{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تدل على حتمية الوقوع، وتكرارها يفيد التوكيد.
{الْجِبَالُ} : مكونة من صخور، والصخور مكونة من المعادن، والمعادن مكونة من جزيئات والجزيئات من ذرات، والذرات مرتبطة ببعضها بقوى الجاذبية فإذا زالت الجاذبية عندها ستسير الجبال.
فمعنى {الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} : أزيلت واقتلعت من أماكنها، وكما بينت الآيات الأخرى: تدكّ وتنسف وتتحول إلى كثيب مهيل، ثم تكون كالعهن المنفوش والسراب، ثم تزول من الأرض ولن يكون هناك جبال على الأرض الجديدة.
سورة التكوير [81: 4]
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} :
ومن أحداث الساعة أيضاً:
{الْعِشَارُ} : جمع عشراء، وهي النّاقة الحامل التي مرَّ على حملها (10) أشهر وهي عند مالكها أثمن وأفضل من الأموال.
{عُطِّلَتْ} : أي أهملت فلا راع يرعاها؛ لذهول صاحبها، ولم تعد لها قيمة في نظره.
سورة التكوير [81: 5]
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية (1) من السورة نفسها.
{الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} : جمع وحش: هو الحيوان البري المفترس، وهنا يقصد به سائر الحيوانات، والحشر: هو السّوق والجمع. فالوحوش تحشر؛ أي: تخرج من جحورها وأوكارها حين تحدث الزلازل وتمور الأرض، وقد تبيّن أن هذه الحيوانات تشعر بالهزات الأرضية قبل أن يشعر بها الإنسان، ولذلك تحاول النجاة فتخرج باحثة عن ملجأ لها.
سورة التكوير [81: 6]
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} :
التسجير: هو الإحماء إلى درجة الاحمرار.
{سُجِّرَتْ} : اشتعلت ناراً بسبب الانفجارات وتلاطم الصّفائح القارية تحت البحار والمحيطات، مما يؤدي إلى اختلاط طبقات الأرض الحديد والنّحاس المذاب بغيره من المواد البترولية المخزونة في أعماق البحار والغازات المشتعلة. ارجع إلى سورة الطور آية (6) لمزيد من البيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (3) في سورة الانفطار وهي قوله تعالى:{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} : نجد أن مرحلة الانفجار تسبق مرحلة الاشتعال.
{سُجِّرَتْ} : أي: صارت ناراً، والانفجار قد يؤدي إلى الاشتعال وإلى الفيضانات على وجه الأرض، وإذا قارنا البحار مع الأبحر في القرآن نجد البحار تعني: جمع كثرة، والأبحر: جمع قلة.
هذه الأحداث السّتة تحدث في الدّنيا عند النّفخة الأولى.
ثم يذكر الله سبحانه ستة أحداث تحدث بعد النفخة الثانية يوم القيامة في الآخرة.
سورة التكوير [81: 7]
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية الأولى من السورة نفسها.
{النُّفُوسُ} : أعيدت إلى الأجساد؛ أي: ردّت النفوس إلى الأجساد، بعد أن ترد الأرواح أولاً، ويخرج العبد من القبر ويساق إلى أرض المحشر للحساب والجزاء، وقد تعني أيضاً: يقرن كل إنسان بشكله؛ أي: العاصون معاً والمحسنون معاً وهكذا.
سورة التكوير [81: 8]
{وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} :
ومن أحداث يوم القيامة.
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية الأولى من السّورة نفسها.
{الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ} : هي الأنثى التي دفنت حية كما كانوا يفعلون في الجاهلية من وَأْد البنات: تطمر بالرّمل أو التّراب حية؛ خوفاً من العار أو الفقر! فجاء الإسلام فحرم ذلك، تسئل هذه الموءودة التي قتلت: بأيِّ ذنب قتلت؟
سورة التكوير [81: 9]
{بِأَىِّ} : الباء تعليلية أو باء السّببية، أي: استفهام فيه توبيخ لقاتل الموءودة.
{ذَنبٍ قُتِلَتْ} : ما سبب قتلها وما هو الذّنب والجرم الذي ارتكبته حتى تُوأَد؟ وفي هذه الآية تهديد ووعيد لكلّ قاتل.
سورة التكوير [81: 10]
{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} :
ومن أحداث يوم القيامة:
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تستعمل للأمور الحتمية الحدوث.
{الصُّحُفُ نُشِرَتْ} : الصّحف: جمع صحيفة: التي تكتب فيها أعمال العبد، نشرت: فتحت وأعدّت للقراءة بعد أن كانت مطويّة، ثمّ توزع على أصحابها؛ ليقرؤوها كما قال تعالى:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]. أو تطايرت الصحف.
سورة التكوير [81: 11]
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية الأولى من السّورة نفسها.
{السَّمَاءُ} : أي السّموات السّبع طويت.
{كُشِطَتْ} : اقتلعت وأزيلت وبدِّلت بسماء جديدة، كما قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48].
سورة التكوير [81: 12]
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية الأولى من السّورة نفسها.
{الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} : سعّر النّار: أوقدها أو ألهبها، الجحيم: اسم علم للنار، وقيل: دركة من دركات النّار، الجحيم: مشتقة من الجحوم: التّأجج فلا تخمد أبداً.
سورة التكوير [81: 13]
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية الأولى من السّورة نفسها؛ للبيان.
{الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} : قُرِّبت وأُدنيت من المتقين كقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31].
سورة التكوير [81: 14]
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} :
علمت كلّ نفس ما أحضرت من أعمال خير وحسنات أو شر وسيئات، كقوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30].
{نَفْسٌ} : نكرة والتّنكير يفيد العموم، ومن المفسرين من قال: علمت نفس ما أحضرت؛ تعني: ما أحضرت من عمل صالح كثمن يدخل الجنة؛ لأنّه سبقها قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [آية: 13].
لنقارن بين قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5]:
علمت نفس ما قدمت وأخرت: موقف يحدث قبل بدء الحساب عندما تتبعثر القبور ويساق إلى أرض المحشر.
وأما عندما تُقرب إليه الجنة (وإذا الجنة أزلفت) ويراها، فيعلم عندها ما أحضر ثمناً لها من العمل الصالح، فهو موقف آخر موقف متأخر عن الأول.
سورة التكوير [81: 15]
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} :
{فَلَا أُقْسِمُ} : ارجع إلى سورة القيامة الآية (1).
{بِالْخُنَّسِ} : الخنس أو الخنوس يعني: الاختفاء الكامل؛ أي: لا تُرى بالكامل وعدم عودة ظهورها مرة أخرى وتسمى الثّقوب السّوداء، أكبر من الشّمس بعشرين مرة، ولها صفات مميزة بالإضافة إلى الخنس: وهو الاختفاء كاملاً.
{الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} : الجوار: أي التي تجري بسرعات كبيرة ثانياً، والكنس: أي التي لها وظيفة الكنس ثالثاً.
{الْجَوَارِ} : جمع جارية تجري في أفلاكها، وتجري بسرعة هائلة تقدر بـ (30 مليون كم/ بالساعة).
{الْكُنَّسِ} : تكنس وتنظّف السّموات والكواكب والمجرات والفضاء والكون بجاذبيتها التي تشبه وظيفة المكنسة الكهربائية، وسمّيت بالثّقوب السوداء؛ لقدرتها على امتصاص وابتلاع بقايا التّفاعلات الكونية والكواكب والغازات السّامة والضّارة والطّاقة، أو المواد العاطلة، أو الناجمة عن التفاعلات الكونية، وهذه الثّقوب السّوداء تمثل المرحلة الأخيرة في دورة النّجوم الحياتية كمرحلة الشّيخوخة عند الإنسان، ثم تنفجر وتعود إلى دخان كما بدأت من دخان، كما يموت الإنسان ويتحول إلى تراب كما خلق من تراب.
والخلاصة: يقسم الله سبحانه بالخنّس الجوار الكنّس بهذه النجوم العملاقة المختفية اختفاءً كاملاً، والتي تجري بسرعات هائلة في مداراتها لتكنس صفحة السماء، وعندما تصل إلى كثافة شديدة تنفجر وتتحول إلى دخان، فهي آية من الآيات الكبرى الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وأن القرآن الكريم هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين..
سورة التكوير [81: 16]
سورة التكوير [81: 17]
{وَالَّيْلِ} : الواو واو القسم، يقسم الله بالليل إذا عسعس، وجواب القسم: إنّه لقول رسول كريم.
{وَالَّيْلِ إِذَا} : ظرفية شرطية تدل على حتمية الحدوث.
{عَسْعَسَ} : قيل: تعني أقبل، وقيل: أدبر، لها معنيان متضادان؛ أي: عسعس من ألفاظ الأضداد: أي والليل إذا أقبل بظلامه، أو الليل إذا أدبر ظلامه، وقيل: العسعسة رقة الظّلام؛ أي: انخفاض درجة سواد الليل في بدئه وفي نهايته، فالليل لا يكون حالك السواد في بدايته أو نهايته، فالعسعسة بداية الليل وآخره، وتبادل الليل والنهار من الأمور الفريدة لجعل كوكب الأرض صالحاً للحياة؛ لأن الغالبية الساحقة من الكائنات الحية لا تستطيع أن تحيا في ظلام (24 ساعة) أو نور كامل (24 ساعة).
سورة التكوير [81: 18]
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} :
{وَالصُّبْحِ} : واو القسم، يقسم الله بالصّبح إذا تنفّس، وجواب القسم: إنّه لقول رسول كريم.
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} : شبه الله سبحانه الصبح بالإنسان حين يتنفّس، شبه الصبح حين طلوعه بالإنسان الذي يأخذ الهواء ليمدِّد رئتيه (بالشهيق)، وهذا ما يحدث حول الأرض حين طلوع الصبح، حيث للأرض خمسة نُطُق حماية منها نطاق الأوزون والمغناطيسي والمناخ والشعاعي وغيرها، هذه النُّطق حين تطلع الشمس وتصل أشعتها إلى الأرض، تتمدّد وتبتعد عن الأرض وكأنها تقوم بشهيق، وعندما يأتي الليل تنكمش هذه النُّطق وكأنها تقوم بعملية إخراج الهواء (الزفير).
سورة التكوير [81: 19]
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} :
هذا هو جواب القسم: فلا أقسم بالخنّس الجوار الكنّس والليل إذا عسعس والصّبح إذا تنفّس: إنه لقول رسول كريم.
إنّ واللام في كلمة "لقول" تفيدان التّوكيد.
{إِنَّهُ} : أي القرآن الكريم لقول رسول كريم؛ أي: جبريل عليه السلام كريم عزيز على الله تعالى وأمين، ونسب القول إلى جبريل؛ لأنّه هو الواسطة في تبليغ الوحي.
{كَرِيمٍ} : عزيز على الله وأمين، وكريم يؤدي ما طُلب منه، وكريم لكرم أخلاقه وخصاله فهو أفضل الملائكة وأعظم درجة عند ربه.
لنقارن هذه الآية (19) في سورة التكوير وهي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} مع الآية (40) في سورة الحاقة وهي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} .
ففي آية التّكوير الرسول هو جبريل عليه السلام لقوله: "ذي قوة عند ذي العرش مكين"، وأمّا آية الحاقة الرّسول هو محمّد صلى الله عليه وسلم لقوله:"وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن" وكلاهما جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم وصف بالرسول الكريم.
سورة التكوير [81: 20]
{ذِى قُوَّةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ} :
{ذِى} : بمعنى صاحب، ووقوله تعالى:(ذي) أشرف وأبلغ من قوله: صاحب.
{قُوَّةٍ} : شديد القوى، قيل: له (600) جناح، اقتلع قرى قوم لوط، يهبط ويعرج إلى السّماء في يوم مقداره (1000 سنة) مما تعدّون، وشديد القوى في الحفظ والتّبليغ.
{عِنْدَ} : لا تعني المكان وإنما عنديّة المنزلة والتّشريف والتّعظيم.
{ذِى الْعَرْشِ} : عند الله سبحانه، ذي العرش: صاحب العرش جل وعلا.
{مَكِينٍ} : ذو مكانة وشرف وقرب تفوق منازل الملائكة كلّهم.
سورة التكوير [81: 21]
{مُّطَاعٍ} : في الملأ الأعلى.
{ثَمَّ} : ظرف مكان؛ أي: مطاع هناك.
{أَمِينٍ} : على الوحي أو رسالات ربه، لا يزيد ولا ينقص.
سورة التكوير [81: 22]
{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} :
هذا أيضاً من جواب القسم.
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{صَاحِبُكُمْ} : محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتقة من: الصّحبة، فقد صحبكم منذ الولادة ولمدة (40) سنة قبل نبوته وتعرفون رجاحة عقله بالصّحبة وصدقه وأمانته وتسمونه الأمين، وإضافته إليهم ليكونوا أشدَّ لوماً وتوبيخاً لهم على ما يقولون.
{بِمَجْنُونٍ} : الباء للإلصاق، وناداه بصاحبهم ولم يناده بالنّبي والرّسول؛ لإقامة الحجة عليهم لكونهم يعرفونه لأكثر من (40) عاماً فكيف تزعمون أنّه مجنون وهو أكملكم عقلاً؟!
سورة التكوير [81: 23]
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} :
{وَلَقَدْ} : الواو عاطفة، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{رَآهُ} : أي رأى محمّد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورة الحقيقة وله (600) جناح.
{بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} : الأفق البيِّن في مطلع أو أفق الشّمس؛ أي: الأفق الأعلى، والمراد بها الرّؤية الأولى: بعد غار حراء، وأمّا الرّؤية الثّانية فكانت لما عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السّماء ليلة الإسراء والمعراج. ارجع إلى سورة النجم الآية (13-14) للمقارنة ومزيد من البيان.
سورة التكوير [81: 24]
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} :
{وَمَا هُوَ} الواو عاطفة ما النّافية، هو: ضمير فصل يفيد التّوكيد؛ أي: محمّد صلى الله عليه وسلم رسول الله.
{عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} : من فعل ضنّ: بمعنى بخل بالشّيء؛ أي: بخيل؛ أي: يكتم أو يشحّ بشيء مما أوحاه الله تعالى إليه من الوحي فلم يبلّغه للناس، وإذا قرأها قارئ بالظّاء اختلف المعنى وأصبح معناها: لا يخبر شيئاً عن ربه بطريق الظّن بل هو صادق في كلّ ما يخبر عن ربه كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى} [النجم: 4].
سورة التكوير [81: 25]
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} :
{وَمَا هُوَ} : ما النّافية، هو: القرآن الكريم.
{بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} : أي ما تنزّلت به الشّياطين باستراق السمع من الملأ الأعلى حتّى تقولوا: إنه قول شيطان ألقاه على كاهن. ارجع إلى سورة البقرة الآية (36) لبيان معنى الشيطان الرجيم.
سورة التكوير [81: 26]
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} :
{فَأَيْنَ} : جواب لسؤال مقدر هو: إن تبيّن لكم أنّ محمّداً حق والقرآن حق، أين: اسم استفهام للتوبيخ والتّعجب.
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} : إن ضللتم الطريق، أو أين تذهبون من سخط الله وانتقامه.
سورة التكوير [81: 27]
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} :
{إِنْ} : حرف نفي أشد نفياً من ما؛ أي: ما هو إلا ذكر للعالمين.
{هُوَ} : للتوكيد، تعود على القرآن.
{إِلَّا} : للحصر.
{ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} : أي ما هو إلا ذكرٌ لكم وللعالمين أيضاً (الإنس والجن). ارجع إلى سورة يوسف الآية (104)، وسورة ص الآية (87) للبيان والمقارنة.
تذكركم بواجبكم وبالآخرة والاستعداد لها، وذكر: يعني فيه شرفكم واستقامة حياتكم ومعاشكم.
سورة التكوير [81: 28]
{لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} :
{لِمَنْ شَاءَ مِنكُمْ} : أي: هو ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم بطلب الاستقامة على منهاج ربه (دينه وصراطه المستقيم).
وهذه المشيئة لا تكون إلا بتوفيق من الله سبحانه وهي تتطلب منكم ابتداء العزم على فعل الاستقامة (والمشيئة تسبق الإرادة: والإرادة هي العزم على الفعل).
سورة التكوير [81: 29]
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :
{وَمَا} : الواو استئنافية ما النافية.
{تَشَاءُونَ} : شيئاً أو أمراً ما كالاستقامة على الطريق المستقيم.
{إِلَّا} : أداة استثناء.
{أَنْ} : للتوكيد.
{يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} : أي لا تقدرون على الاستقامة على الصراط، أو أن تفعلوا شيئاً لا بمشيئة الله وتوفيقه، فمشيئة الله تسبق مشيئة العبد، أو مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله إذا شاء الله أولاً ثم الأمر سواء شئتم أم أبيتم.
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} : ارجع إلى سورة الحمد آية (2).
سورة الإنفطار [82: 1]
سورة الإنفطار
سورة الانفطار [الآيات 1 - 19]
ترتيبها في القرآن (82) وترتيبها في النّزول (82).
{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} :
{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} : تبدأ السورة بالحديث عن أربعة أحداث تحدث يوم تقوم الساعة؛ أي: بداية تغيّر معالم الكون وانتهاء الحياة على هذه الأرض بكل أشكالها.
{إِذَا} : ظرف للاستقبال تتضمّن معنى الشرط وتفيد حتمية الوقوع.
{السَّمَاءُ} : أي السّموات السبع. تقديم الفاعل (السماء) على الفعل المحذوف يفيد التهويل والتعظيم مقارنة بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ليس فيها تقديم؛ لأن زلزلت الأرض شيء يحدث ونراه، أما انتظار السماء وانتشار الكواكب وانفجار البحار لم نره أبداً.
{انفَطَرَتْ} : من الفَطْر: وهو الشقُّ؛ أي: انشقّت بعد أن كانت {سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12].
كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، فكانت وردة كالدِّهان، وتكون كالمهل كقوله تعالى:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، وكما قال تعالى:{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، {فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 16-17].
سورة الإنفطار [82: 2]
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} :
{وَإِذَا} : كالسّابقة.
{الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} : تساقطت وتهاوت بسبب اختلال القوى المغنطيسية أو القوى الجاذبة، تركت مداراتها اختلّ نظامها المحكم، أو انفجرت وتحولت إلى أشلاء متناثرة صغيرة وكبيرة تسقط على الأرض أو في البحار والمحيطات.
سورة الإنفطار [82: 3]
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} :
{وَإِذَا} : كالسّابقة.
{الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} : انفجرت حدثت انفجارات داخلها بسبب تصادم الصّفائح القارية تحت البحار، مما يؤدي إلى اختلاط الطّبقات السّائلة والمعدنية والغازية والبترول، مما يؤدي بالتّالي لحرائق واشتعال النّيران كما جاء ذلك في قوله تعالى:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6].
ففي قيعان البحار يلتقي بخار الماء بالنيران مما يؤدي إلى تبخّر قسم من الماء من البحار والمحيطات والبحيرات والأنهار، ثم يصعد بخار الماء في السماء وحين يلتقي بطبقة باردة مما يؤدي إلى نزوله كماء مرة أخرى، أو يخرج من فوهات البراكين، وهكذا فلا الماء يطفئ النيران كاملاً ولا النيران تبخر الماء كاملاً، وهكذا يبقى التوازن إلى أن تقوم الساعة وعندها يختل هذا التوازن تنشب النيران في البحار.
سورة الإنفطار [82: 4]
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} :
وهذا يحدث عند النفخة الثانية (نفخة القيام).
{وَإِذَا} : كالسّابقة.
{الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} : بعثر الشّيء: قلب بعضه على بعض وجعل أعلاه أسفله، تنقض وينقلب التّراب في القبور حتّى يخرج منه الميت، وفي تلك الفترة يسمى القبر جدثاً، ولنعلم أن بَعْثرة القبور يصيب الأرض الجديدة التي ستحتوي كل ذرات الأرض القديمة أو الحالية بما فيها بقايا البشر (عظامهم ورفاتهم) بما في ذلك عجب الذنب الحاوي على خلايا جذعية كاملة القدرات والقادرة على تكوين كل إنسان من جديد بشفرته الوراثية وحموضه النووية.
سورة الإنفطار [82: 5]
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} :
ارجع إلى سورة التّكوير الآية (14) للبيان والمقارنة.
{مَا} : اسم موصول بمعنى الذي قدمت من أعمال خير أو شر، وما أخرت من صدقة جارية أو سنة حسنة أو سيئة أو ما قدمت في أول عمرها وآخره.
سورة الإنفطار [82: 6]
{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} :
{يَاأَيُّهَا} : يا: النّداء للبعد والهاء للتنبيه: نداء إلى المؤمن والكافر والمطيع والعاصي.
{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} : ما: استفهامية، ما حملك على الجرأة على معصية ربك، وعدم طاعته أو جعلك تأمن عقابه أو تغفل عنه أو تنساه، أو ما أطمعك في هذا الإله الكريم وجعلك تظن أنه سيغفر لك ذنوبك.
ولا شك أنّ الطّمع في مغفرة الله تعالى أمر مباح كما قال إبراهيم عليه السلام {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، والطّمع فيه؛ لأنّه سبحانه كريم {فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ} [النحل: 40]، فالمؤمن يحق له أن يغرّه كرم ربه، ولكن عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسب، أو يزن أعماله قبل أن توزن عليه.
سورة الإنفطار [82: 7]
{الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد التّعظيم.
{خَلَقَكَ} : من تراب أو من نطفة أو ماء مهين، والخلق يعني: التّقدير، والخلق بالنسبة لله تعالى يكون من العدم، وبكلمة "كن" فيكون.
{فَسَوَّاكَ} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، سوّاك بشراً رجلاً أو امرأة تسمع وتبصر وتفكر، والتسوية تعني: اختار لك صفاتك الوراثية الظاهرة والباطنة من الجينات المستترة والسائدة.
{فَعَدَلَكَ} : الفاء للمباشرة والتعقيب، معتدلاً قائماً في أحسن صورة تمشي على رجلين، لا تفاوت في خلقك أو أعضائك.
سورة الإنفطار [82: 8]
{فِى أَىِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} :
{فِى} : ظرفية.
{أَىِّ} : اسم شرط.
{صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} : طويل قصير أبيض أسود ذكر أو أنثى، سمين نحيف حسب الشفرة الوراثية. ارجع إلى سورة آل عمران آية (6)، والأعراف آية (11) للبيان.
سورة الإنفطار [82: 9]
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، أو: حقاً؛ أي: لا تغترّ بكرم ربك كثيراً، وجعله ذريعة للكفر.
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي أو الانتقالي.
{تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} : أي ليس السبب هو الطمع في كرمه، بل هو تكذيبكم بالدين؛ بالحساب والجزاء والبعث.
سورة الإنفطار [82: 10]
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} :
{وَإِنَّ} : للتوكيد، عليكم يا أيها النّاس "على" تفيد العلو والمشقة.
{لَحَافِظِينَ} : اللام لام الاختصاص، حافظين جمع حافظ أو مراقب، وحافظين: جمع قلة مقارنة بقوله تعالى: "يرسل عليكم حفظة"(جمع كثرة) غير محدودين بعدد؛ أي: الملائكة الذين يحفظونكم بأمر الله كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].
سورة الإنفطار [82: 11]
{كِرَامًا كَاتِبِينَ} :
وصفهم الله تعالى بالبررة فقال تعالى: {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15-16].
{كِرَامًا} : على ربهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنّهار، لا يفترون من أكرم الخلق على الله تعالى فهو سبحانه كريم وأرسل أو جعل علينا كراماً كاتبين.
{كَاتِبِينَ} : يكتبون أعمالكم ويحصونها لكم.
سورة الإنفطار [82: 12]
{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} :
يعلمون ظواهر الأمور ما تقولون وتفعلون فيكتبون ذلك، ولكنهم لا يعلمون بواطن الأمور مثل ذوات الصّدور أو نوايا العبد.
بعد هذا التحذير ينتقل إلى الحديث عن مقام الأبرار ومقام الفجار فيقول تعالى:
سورة الإنفطار [82: 13]
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} :
{إِنَّ} : إنّ واللام في كلمة "لفي" تفيدان التّوكيد.
{الْأَبْرَارَ} : جمع "بارّ" ارجع إلى سورة الإنسان الآية (5) للبيان، ولمقارنة أبرار وبررة.
{لَفِى نَعِيمٍ} : لفي اللام للتوكيد، في ظرفية، جنات النّعيم الحاوية على كل أنواع النّعيم.
سورة الإنفطار [82: 14]
{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} :
{وَإِنَّ} : إنّ واللام في "لفي" للتوكيد.
{الْفُجَّارَ} : جمع فاجر: وهو الكافر أو المشرك والمصرُّ على معصية الله ورسوله والكبائر ومات بدون توبة، والفجرة: جمع فاجر، جمع كثرة، والفجار جمع قلة بالمقارنة بالفجرة.
{لَفِى جَحِيمٍ} : اللام للتوكيد، جحيم بصيغة التّنكير للتهويل، والجحيم اسم علم للنار، وقيل: دركة من دركات النّار، والجحيم مشتق من الجحوم: وهو التّأجج.
سورة الإنفطار [82: 15]
{يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} :
{يَصْلَوْنَهَا} : يدخلونها، يقال: صليت الرّجل النّار: إذا أدخلته فيها، وتعني: يحرقون فيها يوم الدّين، من صل اللحم؛ أي: شواه، يوم الدين: يوم الحساب والجزاء.
سورة الإنفطار [82: 16]
{وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{هُمْ} : ضمير فصل للتوكيد.
{بِغَائِبِينَ} : الباء للإلصاق والملازمة، غائبين: لا يفارقونها فهم ملازمون لها أبداً.
سورة الإنفطار [82: 17]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} :
{وَمَا} : الواو استئنافية، ما: استفهامية فيها معنى التّهويل والتّفخيم.
{أَدْرَاكَ} : أعلمك: درى: علم بعد جهل، وتكون أو تتم بإخبار.
{مَا} : استفهام آخر لزيادة التّهويل والتّفخيم.
{يَوْمُ الدِّينِ} : يوم القيامة وسمي يوم الدّين؛ أي: يوم الحساب والجزاء.
سورة الإنفطار [82: 18]
{ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} :
{ثُمَّ} : للإيغال في التّوكيد.
{مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} : للتوكيد، فمهما وصلك من الأخبار ومهما تصورته وقدّرته فهو أعظم وأعظم بكثير، فتكرار السؤال للتهويل والتعظيم والتوكيد. والفرق بين ما أدراك وما يدريك: إن كل ما أدراك فقد أدراه الله به؛ أي: أخبره وأعلمه، وكل ما يدريك لم يخبره ويعلمه به مثل الساعة والبعث والقيامة.
سورة الإنفطار [82: 19]
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} :
{يَوْمَ} : أي يوم الدّين.
{لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْـئًا} : لا: النّافية، لا تستطيع أيُّ نفس مهما كانت صالحة أو تقية أن تنفع أو تشفع أو تقدم فدية لنفس آثمة، أو تنصرها أو تدفع عنها العذاب {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، {وَأَنْ لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39].
{وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} : فهو وحده الذي يأمر في ذلك اليوم أو لا يأمر فيه فهو الملك، ملك يوم الدين يحكم بين عباده {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41].
والأمر قد يكون واحداً من الأوامر، أو واحداً من الأمور (الأحوال أو الشؤون)، أي لا يأمر فيه إلا الله، وله الشأن وحده في ذلك اليوم وفي غيره.
وانتبه إلى عدم تقديم الله: الجار والمجرور للحصر، ولم يقل ولله الأمر يومئذ، وإنما قال:(والأمر يومئذ لله)، ولو قال تعالى: ولله الأمر يومئذٍ لحصر الأمر في ذلك اليوم لله وحده، وفي غيره من الأيام ليس له الأمر، وهذا غير صحيح؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام.
سورة المطففين [83: 1]
سورة المطففين
ترتيبها في القرآن (83) وترتيبها في النّزول (86).
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} :
{وَيْلٌ} : دعاء عليهم بالويل، والويل: هو الهلاك والعذاب، أو تهديد ووعيد للمطففين.
{لِّلْمُطَفِّفِينَ} : اللام لام الاستحقاق والاختصاص.
المطففين: جمع مطفف: وهم الذي إذا اكتالوا على النّاس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؛ أي: يتلاعبون بالمكيال والميزان بالتّطفيف أو التّخسير كما سنرى، والطفيف: القليل مهما كان.
والمطففين: مأخوذة من: طفَّ الشيء وسال على جانب المكيال.
وقيل: المطفف الذي يسرق الشيء القليل الطفيف في الميزان والمكيال، وقيل: إناء طفّان: أي غير مملوء.
سورة المطففين [83: 2]
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} :
{الَّذِينَ} : اسم موصول.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حدوث هذا التلاعب بالمكيال والميزان.
{اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} : اشتروا من النّاس من المواد أو السّلع الشّرائية التي تكال أو توزن.
{يَسْتَوْفُونَ} : استوفوا حقهم كاملاً أو أخذوا أكثر مما يستحقون، وقوله:"على النّاس" ولم يقل من النّاس، "على" تفيد الاستعلاء، والاستيلاء؛ أي: اكتيال ضار بالناس، وهذا يدل على تسلطهم على النّاس بالاكتيال، ولو قال من النّاس، تدل على الشّراء العدل، "يستوفون" بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكرار في التّلاعب وليس مجرد مرة واحدة.
سورة المطففين [83: 3]
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} :
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد الحتمية.
{كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} : أي إذا باعوهم شيئاً، يخسرون: أو ينقصون الميزان والمكيال؛ ليحققوا لأنفسهم ربحاً أكثر، ولم يقل كالوا لهم أو وزنوا لهم، حذف لام الاختصاص أو الاستحقاق: لم يعطوهم حقهم؛ أي: إذا كال أو وزن للناس أنقص من الوزن والمكيال، وإذا كال أو وزن لنفسه أخذ أكثر مما يستحق.
سورة المطففين [83: 4]
{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} :
{أَلَا} : الهمزة استفهام وإنكار وتوبيخ من جهلهم.
{يَظُنُّ} : الظّن: التردد الراجح هو رجحان نسبة الإثبات على نسبة النّفي؛ أي: الظّن وحده كان يكفي ليردعهم عن التّلاعب بالمكيال والميزان، فما بالك باليقين.
ويبدو أنّ الذي شجعهم على التّطفيف هو عدم ظنهم أنّ هناك بعثاً وحساباً وجزاءً وجنةً وناراً، أو أن الله سبحانه لا يراهم أو يراقبهم.
{أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} : من البعث: الإحياء بعد الموت والحساب والجزاء.
سورة المطففين [83: 5]
{لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} :
اللام لام الاختصاص أو لام التّوقيت؛ ويعني يوم القيامة يوم الدّين والحساب والجزاء، عظيم لأهواله وأحداثه.
سورة المطففين [83: 6]
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :
يوم البعث يوم يقوم النّاس من قبورهم ويساقون إلى أرض المحشر؛ للقيام بين يدي رب العالمين للحساب والجزاء، ولذلك سمي بيوم القيامة.
سورة المطففين [83: 7]
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر ليس كما يظن المطففين أنّهم غير مبعوثين ليوم عظيم، ولينتهوا عن التّطفيف في المكيال والميزان.
{إِنَّ} : إنّ واللام في كلمة "لفي" تفيدان التّوكيد.
{كِتَابَ الْفُجَّارِ} : الكتاب الذي تكتب فيه أعمالهم وأسماؤهم، الفجار جمع فاجر: المنغمس في المحارم والمعاصي والمداوم عليها، أو المستمر على المعاصي والكبائر بدون توبة.
{لَفِى سِجِّينٍ} : في: ظرفية، سجّين: اسم علم مشتق من السّجن وهو الحبس، سجّين: مكان، (ديوان) في جهنم تحفظ فيه سجلات أو كتب الكفرة الفجرة وأسماؤهم.
سورة المطففين [83: 8]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} :
{وَمَا} : للاستفهام والتّهويل والتّعظيم.
{أَدْرَاكَ} : من: درى؛ أي علم بعد جهل؛ وتعني: الإخبار بأيّ وسيلة، والدّراية أخص من العلم، وهل تعلم شيئاً عن سجين. ارجع إلى سورة الانفطار آية (17-18) للبيان، والفرق بين ما أدراك وما يدريك.
سورة المطففين [83: 9]
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} :
أي: كتاب الفجار في سجين.
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} : كتاب واضح بيِّن الحروف أو الكتابة والأسماء لا تمحى حروفه أو تنسخ ومُعلم لا يخفى على أحد من الملائكة أنّه كتاب الأشقياء ومرقم بالأعداد.
سورة المطففين [83: 10]
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} :
ارجع إلى سورة المرسلات الآية (15) والآية (19).
سورة المطففين [83: 11]
{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} :
{الَّذِينَ} : اسم موصول، يكذبون: لا يؤمنون ولا يصدقون.
{بِيَوْمِ الدِّينِ} : الباء للإلصاق، والدّوام، الدّين: يوم الحساب والجزاء.
ولم يقل كذبوا وإنما "يكذبون": لتدل على التّجدد والاستمرار في التّكذيب وماتوا وهم يكذبون، أو لتدل على (حكاية الحال) لنقل صورة كذبهم إلى الزّمن الحاضر لتدل على بشاعة كذبهم.
سورة المطففين [83: 12]
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما: النّافية.
{يُكَذِّبُ بِهِ} : لا يؤمن أو يصدق به (بيوم الحساب).
{إِلَّا} : أداة حصر.
{كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} : معتد: لحدود الله تعالى، أو معتد في أفعاله متجاوز حد الظّلم لنفسه أو لغيره، اثيم: كثير الآثام والذّنوب والمعاصي، صيغة مبالغة.
سورة المطففين [83: 13]
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية التّحقق.
{تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} : ولم يقل وإذا تُليت عليه آياتنا، الفرق بينهما: تتلى: أي بشكل متكرر ومرات عديدة، أما تليت تعني مرة واحدة.
{قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : جمع أسطورة: أكذوبة أو أخبار أو أباطيل وخرافات الأولين.
سورة المطففين [83: 14]
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، "كلا" ليس الآيات أو القرآن كما يزعمون أساطير الأولين.
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : أي ليس القرآن أساطير الأولين، وإنما أو حقاً، لقد ران على قلوبهم: غطى وغشى قلوبهم وغلب عليها، الرّين، أو الران: كالصدأ تراكم الذنب على الذنب؛ أي الذّنوب حتى اسودت بها قلوبهم.
قيل: تبطن القلب خلايا عصبية كثيرة تلعب دوراً في العواطف والأحاسيس والذاكرة والأمور المعنوية مثل الإيمان والكفر وغيرها فالقلب ليس مجرد مضخة للدم، بل هو مقر للمشاعر المعنوية، كما هو الحال في الدماغ في المنطقة تحت السريرية، هي مركز الذاكرة والأحاسيس المادية.
ما: بمعنى الذي، كانوا يكسبون: من الآثام والمعاصي والذّنوب، يكسبون: بصيغة المضارع؛ لتدل على الاستمرار والتّجدد وحكاية الحال.
سورة المطففين [83: 15]
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} :
{كَلَّا} : لزيادة التّوكيد.
{إِنَّهُمْ} : إنّ واللام في "لمحجوبون" تفيدان التّوكيد.
{عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} : لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم يوم القيامة أو يوم العرض، أو محجوبون: عن رؤية ربهم وتكليمه أو الاعتذار، بخلاف المؤمنين، ويعتبر هذا أكبر عقوبة وعذاب لهم.
سورة المطففين [83: 16]
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} :
{ثُمَّ} : لتباين عقوبة الحجب عن ربهم التي هي أشد من الاصطلاء في الجحيم.
{إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} : إنّ واللام في كلمة "لصالوا" تفيدان التّوكيد، لصالوا: لداخلون ومصطلون فيها، محترقون فيها، الجحيم: اسم علم للنار، أو دركة من دركاتها مشتق من الجحوم هو التّأجج.
سورة المطففين [83: 17]
{ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} :
{ثُمَّ} : ثمّ للترتيب الذّكري.
{يُقَالُ} : مبني للمجهول المهم المقولة، وقد يكون من قبل خزنة جهنم.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب ويشير إلى العذاب أو يوم الدّين.
{الَّذِى} : أي العذاب، أو يعني يوم الدّين.
{كُنْتُمْ بِهِ} : في الدّنيا.
{تُكَذِّبُونَ} : لا تصدّقون. ارجع إلى الآية (10) للبيان.
سورة المطففين [83: 18]
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر؛ أي: لِمَ لا يكفّوا عن التّكذيب بيوم الدّين ويكفّوا عن التّطفيف، ويكونوا من بين الأبرار الذي سجل أعمالهم أو كتبهم لفي عليين.
{الْأَبْرَارِ} : وصف للبشر، والبررة: وصف للملائكة، والأبرار: جمع قلة، والبررة: جمع كثرة؛ منهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، والمقربون أعلى من الأبرار. ارجع إلى سورة الواقعة الآية (11-26) للبيان، وارجع إلى سورة الإنسان الآية (5) لمزيد من البيان.
{إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ} : إنّ واللام في "لفي" تفيدان التّوكيد.
{عِلِّيِّينَ} : مكان في الجنة أو ديوان في الجنة تحفظ فيه كتب أعمال الأبرار ويكتب فيه سجل أسمائهم.
سورة المطففين [83: 19]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} :
{وَمَا} : يراد بها التّفخيم والتّشويق والتّعظيم.
{وَمَا أَدْرَاكَ} : ارجع إلى سورة الانفطار آيتين (17-18) للبيان.
{مَا عِلِّيُّونَ} : ارجع إلى الآية السّابقة (18) من السورة نفسها.
سورة المطففين [83: 20]
{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} :
كتاب واضح وبين الحروف لا تمحى حروفه أو تنسخ، ومعلوم يعلم من يراه أنّه كتاب للأبرار كتاب خير ومرقم بالأرقام. وتكرار {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} في الآية (9) والآية (20) يدل على توكيد وأهمية الكتاب والترقيم والوضوح.
سورة المطففين [83: 21]
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} :
يراه ويحضره ويطلع عليه الملائكة المقربون أو المقربون من الإنس؛ أي: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 9-11].
سورة المطففين [83: 22]
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ} :
{إِنَّ} : إنّ واللام في لفي تفيدان التّوكيد.
{الْأَبْرَارَ} : ارجع إلى سورة الإنسان الآية (5) للبيان.
{لَفِى نَعِيمٍ} : لفي: ظرفية، نعيم: أي جنات النّعيم الحاوية على كلّ أنواع النّعيم.
سورة المطففين [83: 23]
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} :
{الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} : السّرر المزينة التي يجلس عليها أهل الجنة، أي أنواع فاخرة من الفُرش للجلوس عليها وأحياناً للاتكاء.
{يَنْظُرُونَ} : إلى أيّ شيء يريدون الاطلاع عليه، أو ينظرون إلى ما أعطاهم الله من خيرات وفضل ومُلك، وأحياناً ينظرون أين هم إخوانهم؟ في أيّ مكان هم فيه؟
سورة المطففين [83: 24]
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} :
ترى في وجوههم نضرة التّنعم والسّرور، كأنّ النّعمة ناضجة على بشرتهم بحيث إذا رأيتهم تدرك أنّ هؤلاء في نعيم كقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38-39]، أي: وجوههم تتلألأ بالنّور والحسن والبياض والبهجة من شدة نعيمهم.
سورة المطففين [83: 25]
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} :
رحيق: شراب مصفى خالص، قيل: خمر أو المسك مختوم لم يشرب منه أحد، مختوم على إنائه.
سورة المطففين [83: 26]
{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} :
الشّراب له صفتين الأولى من رحيق مختوم والثّانية ختامه آخره يفوح برائحة المسك، أو طعمه مسك، أو طعمه وريحه مسك، أو مخلوط بالمسك، القسم الأول من الشراب خمر وآخره مسك والله أعلم.
{وَفِى ذَلِكَ} : في للتعليل؛ أي: لأجل الحصول على ذلك فليتنافس المتنافسون في الدّنيا؛ أي: إذا كانوا يرغبون في الشّرب من الرّحيق المختوم الذي ختامه مسك.
{فَلْيَتَنَافَسِ} : الفاء للتوكيد، واللام لزيادة التّوكيد، والتّنافس: مشتقة من المنافسة: أي السّباق والمغالبة للحصول على الشّيء النّفيس أو ليجدُّوا في طلبه ويجتهدوا في ذلك: في مثل ذلك وأمثاله من أنواع النّعيم ليتسابق المتسابقون في الدّنيا بالأعمال الصّالحة والنّوافل والطّاعات والتّقرب من الله تعالى، وكما قال تعالى:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61].
سورة المطففين [83: 27]
{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} :
أي يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك، ومزاجه من تسنيم؛ أي: ممزوج من عين تسنيم ولعله أعلى شراب في الجنة وخاص بالمقربين.
{وَمِزَاجُهُ} : أي مخلوط أو ممزوج بما ينبع من عين التّسنيم.
سورة المطففين [83: 28]
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} :
أصحاب أو أهل الجنة: هم درجات عند ربهم بالنّسبة للقرب منه تعالى ولهم درجات في الجنة ومنهم:
{الْمُقَرَّبُونَ} : هم السّابقون السّابقون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أو المقربون إلى الله تعالى، وفي طليعة هؤلاء: الأنبياء والصّديقون والشّهداء والصّالحون ومنهم الأبرار، لهم عين في الجنة تسمى تسنيم.
{عَيْنًا} : تعني التّسنيم يشرب بها المقربون، ولم يقل يشرب منها بل "يشرب بها المقربون" أي: يشربون منها مباشرة حتى الارتواء وحتّى يبلغوا مرامهم أو غايتهم، يشربون من العين مباشرة؛ أي: هم يرون العين نفسها فهم يتمتعون بلذة الشّرب ولذة النّظر معاً.
وماذا عن الأبرار؟ ارجع إلى سورة الإنسان الآية (5) للبيان.
ولتعلم أنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، ولنعلم أيضاً أنّ الشّرب في الجنة هو للتلذذ وليس نابعاً عن الحاجة كما هو الحال في الدّنيا.
سورة المطففين [83: 29]
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} :
المناسبة: بعد أن ذكر المكذبين الذين يكذبون بيوم الدّين يذكر في الآيات الخمس التّالية بعضاً من أعمالهم وصفاتهم الأخرى في الدّنيا بالإضافة إلى التّكذيب.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} : إنّ للتوكيد، الذين أجرموا: كفروا وتمادوا في الشّرك والعصيان ولم يتوبوا أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل وغيرهم من الكفار ارجع إلى سورة الأنعام آية (55)، وسورة الجاثية آية (31) لبيان معنى الذين أجرموا.
{كَانُوا} : في الدّنيا.
{مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} : أمثال عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين في بداية الإسلام أو من جاء بعدهم.
{يَضْحَكُونَ} : من حال المؤمنين المادية وفقرهم ورثاثة ثيابهم وقوتهم، وترك دين الأجداد واتباع محمّد صلى الله عليه وسلم، وقدّم "الذين آمنوا" على "يضحكون" بدلاً من القول كانوا يضحكون من الذين آمنوا؛ لتدل على الاهتمام والاختصاص، يضحكون خاصة من الذين آمنوا على فقرهم وضعفهم ورثاثة حالتهم وغيرها.
يضحكون: يضحكون بصيغة المضارع تدل على أنّ الضّحك من المؤمنين أصبح عادة ومتكرراً ومتجدداً، ولم يقل ضحكوا من الذين آمنوا؛ أي: ضحكوا وانتهى الأمر، ويضحكون لتدل على حكاية الحال وبشاعة ضحكهم وكأنّه يحدث الآن وأنّه أمر مزعج.
سورة المطففين [83: 30]
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} :
هذه هي الصّفة الثّانية: الغمز، وأمّا الأولى فكانت: الضّحك منهم.
{وَإِذَا} : شرطية ظرفية تدل على حتمية الحدوث.
{مَرُّوا بِهِمْ} : أي مروا قريباً من المؤمنين (بهم تعني قريباً منهم).
{يَتَغَامَزُونَ} : الغمز هو إرخاء الجفن أو الحاجب إلى الأعلى أو السفل استهزاءً بالآخرين، وهو نوع من أنواع الخبث يستعمله المتكبر أو المستهزئ ليشعر من هو من صنفه أو أمثاله أنّه يهزأ بشخص آخر.
سورة المطففين [83: 31]
{وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} :
هذه هي الصفة الثالثة {فَكِهِينَ} : مسرورين ملتذّين وفرحين بالسّخرية والاستهزاء من المؤمنين.
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية (30) من السورة نفسها.
{انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ} : أي رجعوا إلى أهلهم، وهناك فرق بين الانقلاب والرّجوع، الانقلاب: هو الرّجوع ولكن ليس إلى الحالة نفسها أو الوضع الذي بدأ منه. ارجع إلى سورة التوبة الآية (95) لمزيد من البيان في معنى الانقلاب.
{انْقَلَبُوا} : تكرار الكلمة "انقلبوا" للتوكيد، إلى أهلهم فكهين: أي راحوا يسخرون ويهزلون مع أهلهم ويضحكون من شأن المؤمنين وبما قاموا به من الأذى والضّرر بهم، وفكهين؛ أي: مسرورين مغتبطين مع أهلهم. ارجع إلى سورة الطور الآية (18) للمقارنة.
سورة المطففين [83: 32]
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} :
{وَإِذَا} : ارجع إلى الآية (30) من السورة نفسها.
{رَأَوْهُمْ} : أي رأى الذين أجرموا الذين آمنوا.
{قَالُوا إِنَّ} : للتوكيد، واللام في "لضالون" لزيادة التّوكيد.
{هَؤُلَاءِ} : الهاء للتنبيه، أولاء: اسم إشارة يشير إلى الذين آمنوا.
{لَضَالُّونَ} : اللام لام التّوكيد، ضالون: لأنهم تركوا دين آبائهم وأجدادهم واتبعوا دين محمّد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فهم كانوا يعتقدون باطلاً أنّهم على الهدى ومحمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ضلال مبين، ضالون: جملة اسمية تفيد الثّبوت؛ أي: على ضلال ثابت مستمر.
سورة المطففين [83: 33]
{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} :
{وَمَا} : الواو حالية أو للتوكيد.
{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} : هذا قد يكون من قول الله تعالى، ويعني "وما أرسلوا": أي ما أرسل الله سبحانه الذين كفروا على الذين آمنوا، حافظين: موكلين بهم حافظين لأعمالهم؛ ليشهدوا عليهم بالضّلال أو الرّشد وقد يكون "وما أرسلوا عليهم حافظين" من قول الذين أجرموا؛ أي: قال الذين أجرموا: وما أرسلوا عليهم (على الذين آمنوا) حافظين؛ أي: رسل مثل محمد صلى الله عليه وسلم موكلين ومكلفين بهم.
سورة المطففين [83: 34]
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} :
{فَالْيَوْمَ} : الفاء للتوكيد، اليوم: أي يوم القيامة.
تقديم الظّرف "اليوم" للاهتمام به بدلاً من القول الذين آمنوا من الكفار اليوم يضحكون. فاليوم (يوم القيامة) الذين آمنوا يضحكون من الكفار كما كان يفعل الكفار من الذين آمنوا في الدنيا، ويضحكون بصيغة المضارع: تدل على التجدد والتكرار والاستمرار، وأن ضحكهم لم يتوقف.
سورة المطففين [83: 35]
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} :
{عَلَى الْأَرَائِكِ} : ارجع إلى الآية (23) للبيان.
{يَنْظُرُونَ} : إلى الكفار وما حل بهم في الآخرة من العذاب، وكيف يعذبون في النّار ويصطرخون فيها كما قال تعالى:{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 54-56].
سورة المطففين [83: 36]
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :
{هَلْ} : استفهام تقريري.
{ثُوِّبَ الْكُفَّارُ} : من التّثويب والإثابة: المجازاة؛ أي: الذين آمنوا ينظرون هل جُوزِي الكفار على أفعالهم يوم القيامة؟ وثوب من الثواب، والثواب: يستعمل في الخير عادة، وإذا استعمل في الشر أو العذاب أو العقاب يكون للتهكم والتوبيخ.
{مَا} : بمعنى الذي، أو مصدرية، وما أوسع شمولاً.
{كَانُوا يَفْعَلُونَ} : من الكفر والإجرام والاستهزاء بالمؤمنين والسّخرية منهم.
سورة الانشقاق [84: 1]
سورة الانشقاق
ترتيبها في القرآن (84) وترتيبها في النّزول (83).
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} :
أي: السماء الجديدة أو المستقبلية وليست السماء الحالية، تنشق أو تشقق بالغمام؛ لنزول الملائكة.
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث في يوم القيامة.
{السَّمَاءُ انشَقَّتْ} : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 125] وتقديم الاسم على الفعل يفيد التّهويل والتّعظيم.
سورة الانشقاق [84: 2]
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} :
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} : سمعت أو استمعت لربها، من الإذن: الاستماع.
{وَحُقَّتْ} : انقادت وأذعنت؛ أي: استجابت وحقَّ لها أن تطيع؛ فهي مسخرة مكلفة.
سورة الانشقاق [84: 3]
اتسعت كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]، أي: الأرض المستقبلية تكون أرضاً ضخمة جداً أكبر من الكون الحالي بأجمعه، والمقصود بالأرض قشرة الأرض، فنحن سنبعث من الأرض الجديدة كما ورد في سورة إبراهيم آية (48).
وهذه الأرض ستحوي كل ذرات الأرض الحالية بما فيها كل بقايانا من رفات وعظام، بما فيها عظم عجب الذنب الحاوي على المحفظة الوراثية الحاوية على خلايا جذعية كاملة القدرات والحمض النووي المميز لكل إنسان.
سورة الانشقاق [84: 4]
{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} :
ألقت: طرحت ما في باطنها من الموتى بعد النشور والبعث.
سورة الانشقاق [84: 6]
{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} :
{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ} : نداء إلى كلّ إنسان، الإنسان: اسم جنس يشمل المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، والهاء للتنبيه.
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ} : الكدح: شدة الاجتهاد في السعي والجمع، والكدح المجاهدة والعمل الشاق؛ أي: يا أيها الإنسان الساعي إلى لقاء ربك بعملك بجد وعزم واجتهاد.
{كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ} : للتوكيد.
{كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} : الفاء: للتعليل؛ ملاقيه: أي: ملاق ربك فلا محالة أنّك ملاقيه للحساب والجزاء ونتيجة هذا الكدح. الضمير في "ملاقيه" يعود على الذات الإلهية أو يعود على الكدح؛ أي: ملاق الحساب أو ملاق نتيجة ما كدحت وكلا المعنيين صحيح.
سورة الانشقاق [84: 7]
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} :
{فَأَمَّا} : الفاء عاطفة، أمّا: حرف شرط وتفصيل.
{مَنْ} : لابتداء الغاية.
{أُوتِىَ} : أُعطي كتاب أعماله بعد البعث يوم الحساب.
{بِيَمِينِهِ} : بيده اليمنى.
سورة الانشقاق [84: 8]
{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} :
{فَسَوْفَ} : الفاء للتوكيد، سوف: للاستقبال البعيد.
{يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} : أي يعرض على ربه ويعترف بذنوبه ويتجاوز الله سبحانه عنها، ويغفرها له إذا شاء سبحانه، وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) قال: ذلك العرض» .
سورة الانشقاق [84: 9]
{وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} :
{وَيَنْقَلِبُ} : يرجع إلى أهله، والانقلاب يختلف عن الرّجوع، ارجع إلى سورة التوبة الآية (95) للبيان.
{إِلَى أَهْلِهِ} : في الجنة أهله من الحور العين أو ذريته الصّالحة ينقلب بعد أن يدخله الجنة وتلحق به ذريته كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، أو كلما عاد إلى أهله في الجنة عاد مسروراً.
سورة الانشقاق [84: 10]
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} :
وفي الآيات الأخرى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25]، سواء أوتي كتابه وراء ظهره أو بشماله، النّتيجة واحدة أو نفسها.
وسبب إيتائه كتابه وراء ظهره؛ لأنّ البعض قد يحاول عدم أخذ كتابه بالشّمال فيحاول وضعها وراء ظهره؛ لتجنب أخذها بالشّمال، فتعطى إليه من وراء ظهره، والبعض الآخر يأخذها بالشّمال.
أو قد تكون يده اليمنى مغلولة إلى عنقه فيجعل يسراه وراء ظهره، أو يحاول إخفاء النّتيجة لكونه يستحي فيحاول إخفاءها وراء ظهره، والله أعلم.
سورة الانشقاق [84: 11]
{فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا} :
{فَسَوْفَ} : الفاء للتوكيد، سوف: للاستقبال البعيد.
{يَدْعُوا ثُبُورًا} : بعد أن يقرأ كتابه، الثّبور: أي الهلاك؛ أي: يدعو على نفسه بالهلاك يا هلاكي اُحضر أو كالقول يا ويلتاه.
سورة الانشقاق [84: 12]
{وَيَصْلَى سَعِيرًا} :
{وَيَصْلَى} : يدخل ناراً شديدة الالتهاب.
{سَعِيرًا} : مستعرة.
سورة الانشقاق [84: 13]
{إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} :
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} : في الدّنيا، مسروراً: مترفاً أو مسروراً منشغلاً عن الآخرة لا صلاة ولا عبادة، منشغلاً باتباع شهواته وأهوائه، في أهله: هو وأهله كانوا في الحال نفسه من الكفر والإعراض عن دين الله تعالى.
سورة الانشقاق [84: 14]
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} :
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{ظَنَّ} : اعتقد أو ظن ظناً راجحاً والظن: هو التردد الراجح.
{أَنْ} : للتعليل.
{لَنْ} : حرف نفي للمستقبل القريب أو البعيد.
{يَحُورَ} : لن يرجع إلى ربه ليحاسب على عمله، أو لن يبعث من بعد موته، من: حار يحور؛ أي: رجع؛ أي: أنكر الآخرة والجنة والنار والبعث.
سورة الانشقاق [84: 15]
{بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} :
{بَلَى} : سيحور؛ أي: يرجع إلى ربه، وسيحاسب على أعماله.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} : بأعماله بأقواله وأفعاله وأحواله، كان رقيباً عليه، ثمّ يقسم الله بثلاث آيات كونية تدل على قدرته وعظمته وألوهيته وربوبيته، وتدعو إلى الإيمان وهي التّغيرات الكونية التي تحدث في الليل، تقابل التّغيرات الكونية التي تحدث في النّهار.
سورة الانشقاق [84: 16]
{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} :
والقسم يفيد أو يشير إلى أهمية وعظمة المقسم به وجواب القسم، والله غني عن القسم.
{فَلَا أُقْسِمُ} : الفاء: استئنافية، ارجع إلى سورة القيامة الآية (1) للبيان.
{بِالشَّفَقِ} : قيل: هو الحمرة التي تظهر بعد الغروب (غروب الشّمس) أو زمن اختلاط ضوء النّهار بسواد الليل بعد الغروب والمؤدي إلى لون الحمرة، هذا ما قاله المفسرون القدامى، أما التفسير العلمي فهو: حين غروب الشمس ويصبح قرص الشمس بين (6-18) درجة تحت أفق الأرض، فما يصل إلينا من ضوء الشمس الغير مباشر في ذلك الزمن يسمى الشفق، فالشفق جزء أو شيء من ضوء الشمس غير مباشر نتيجة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، والشفق يحدث نتيجة تحلل النور الأبيض الذي نراه في النهار إلى أطيافه السبعة: الأحمر والأخضر والأزرق والبرتقالي والأصفر والنيلي والبنفسجي، والطيف الأحمر هو أطول هذه الأمواج أو الأطياف، وعلامة دخول العشاء غياب الشفق الأحمر، والشفق نوعان: شفق عند الغروب، وشفق عند طلوع الفجر؛ شفق عند الغروب أحمر (بقية الأطياف أثرها ضئيل) وعندما يغيب الشفق الأحمر يدل على دخول وقت العشاء وأول ما يصلنا الطيف الأحمر يدل على طلوع الفجر، ولكنه من الصعب إدراك علامة دخول الفجر به، ولذلك من رحمة الله بنا أن أبدله بالطيف الأبيض. ارجع إلى سورة البقرة آية (187) لمزيد من البيان.
سورة الانشقاق [84: 17]
{وَالَّيْلِ} : الواو واو القسم، القسم بالليل.
{وَمَا وَسَقَ} : أي ما ضم وستر أو جمع وسكن، فالنهار يسوده التّفرق والتّقلب، وأما الليل يسوده الاجتماع والسكون. وسق: مأخوذة من وسق الشيء يسَقه فاتسق؛ أي: جمعه فاجتمع، وأمر متسق: مجتمع من الكائنات الحية والحيوانات الليلية التي تخرج ليلاً لتبحث عن رزقها، وتنام نهاراً.
سورة الانشقاق [84: 18]
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} :
اتسق من الوسق وهو: الجمع والضّم؛ أي: اكتمل نوره وأصبح بدراً وذلك في منتصف الشّهر القمري بعد أن كان كالعرجون القديم يصبح كالبدر؛ ليدل على الزّمان والشّهور والسّنين.
فالقمر يبدأ بالهلال ثم التربيع الأول ثم الأحدب الأول ثم البدر يستمر (2-3) أيام، ثم يبدأ بالتراجع حتى يصبح كالعرجون، فدورة القمر وسيلة من وسائل تحديد الزمن لأهل الأرض. ارجع إلى سورة الرحمن الآية (5) لمزيد من البيان.
سورة الانشقاق [84: 19]
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} :
جواب القسم.
{لَتَرْكَبُنَّ} : اللام لام التّوكيد، الطبق: هو الشدة، وتركبن تعني: المرور، في هذه الشدائد الواحدة بعد الأخرى.
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} : حالاً بعد حال؛ أي: كما تغير حال النّهار إلى حال الليل وحال القمر من الهلال إلى البدر وحال النّور إلى حال الظّلام، أيضاً أنتم لن تستقروا أو تبقوا على حال واحدة فسوف يصيبكم الفقر بعد الغنى أو الغنى بعد الفقر والمرض بعد الصّحة أو الصّحة بعد المرض أو الشّدة بعد الرّخاء، أو التّقلب في أحوال أشد من أحوال أو التّغير في الحال من شدة إلى أشد، وهذه سنّة من السّنن الكونية.
وهناك من فسر هذه الآية تفسيراً آخر: لتركبن طبقاً عن طبق: الطّبق: السّماء، أو تعني السّفينة أو المركبات الفضائية {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] دلالة على صعود الإنسان إلى الفضاء في المركبات الفضائية؛ أي: لتركبن السّفن الفضائية وتصعدن في طبقات الفضاء والسّماء.
سورة الانشقاق [84: 20]
{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
{فَمَا} : الفاء للتوكيد، ما الاستفهامية فيها معنى الإنكار والتّعجب من عدم إيمان هؤلاء الجاحدين المنكرين المشركين الكافرين بعد رؤية كلّ هذه الأدلة والبراهين الدالة على الإيمان بالله العظيم وبرسله وبالقرآن وبالبعث.
سورة الانشقاق [84: 21]
{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} :
{وَإِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث وتحققه.
{قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ} : يُتلى عليهم أو سمعوه بأنفسهم.
{لَا يَسْجُدُونَ} : يخرون ساجدين لله تعالى خشوعاً وتعظيماً لقدرته وعظمته وجلاله، يسجدون باستمرار وتكرار.
سورة الانشقاق [84: 22]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} :
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} : بآيات الله القرآنية والكونية والدّلائل والبراهين، يكذبون بالبعث والحساب والآخرة، يكذبون بالرّسل وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والوحي، يكذبون: بصيغة المضارع للدلالة على استمرارهم في التّكذيب.
سورة الانشقاق [84: 23]
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} :
{أَعْلَمُ بِمَا} : الباء للإلصاق، ما: بمعنى الذي، وهي أوسع شمولاً من الذي.
{يُوعُونَ} : من الإيعاء، يقال: أوعى الزاد؛ أي: جعله في الوعاء.
وأوعى الشّيء؛ أي: وضعه في الوعاء؛ أي: الله أعلم بما يوعون: يجمعون من المال والعلم وعرض الدنيا، أو يضمرونه أو يخفونه في صدورهم وقلوبهم من التّكذيب والكفر والنّفاق والكبر والحسد والغل. وأعلم: على وزن أفعل؛ للمبالغة في العلم.
سورة الانشقاق [84: 24]
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} :
الفاء: للترتيب والتعقيب والمباشرة.
{فَبَشِّرْهُم} : البشارة: هي الإخبار بما يسر ولأوّل مرة، وظهور علامات البشارة كالسّرور على وجوههم، واستعمل كلمة البشارة؛ للتهكّم بهم والاستهزاء، كقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138].
{بِعَذَابٍ} : الباء للإلصاق والملازمة؛ أي: الدّوام.
{أَلِيمٍ} : شديد الإيلام لا يقدرون على تحمله.
سورة الانشقاق [84: 25]
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء، والاستثناء هنا استثناء منقطع بمعنى: أن المستثنى ليس بعضاً من المستثنى منه، فالذين آمنوا ليسوا بعضاً من الذين كفروا.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ} : اللام لام الاستحقاق.
{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} : الأجر مقابل العمل، أجر لا يمنّ عليهم به؛ لأنه فضلٌ من الله وتكرمٌ، أجر غير مقطوع، أو منقوص، مستمر لا يفنى ولا يبلى، غير ممنون: نكرة؛ للتعظيم والتّكثير.
سورة البروج [85: 1]
سورة البروج
ترتيبها في القرآن (85) وترتيبها في النّزول (27).
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} :
{وَالسَّمَاءِ} : الواو واو القسم، أقسم الله عز وجل والله سبحانه غني عن القسم ولا يقسم إلا بشيء عظيم، وفيه إشارة إلى أهمية المقسم به وجواب القسم ـ بالسّماء ذات البروج، وأقسم باليوم الموعود، وأقسم بالشّاهد والمشهود؛ لأهمية هذه الأمور الدالة على عظمة القدرة الإلهية وطلاقتها والتي تثبت الإيمان في القلب.
{ذَاتِ الْبُرُوجِ} : البروج جمع برج، والبروج هو المرتفع البين من كل شيء، برج: ظهر وارتفع، فالسماء ذات البروج؛ أي: ذات النجوم المرتفعة الواضحة للناس، فالبروج هي النجوم البعيدة عنا والتي ترى في دائرة حول الأرض أودع الله فيها كماً هائلاً من النجوم، وهذه النجوم ترى كأنها في تجمعات تعطي أشكالاً مختلفة سماها البشر: برج الثور أو السرطان أو العقرب أو الدلو أو غيرها. وهي ليست تجمعات حقيقية بينها مسافات شاسعة، وهي تجمعات على شكل دائرة حول الأرض، وهناك (88) برجاً؛ أي: تجمع وهي تدور بحركة معاكسة لحركة دوران الأرض، وفي كل شهر من الشهور الشمسية ترى الشمس تقع في تجمع من هذه التجمعات، فالبروج أصبحت وسيلة لتحديد الشهر الشمسي، ويكون تحديد اليوم القمري بدوران القمر حول الأرض، وهذه الدائرة التي تبدو كأنها ثابتة قسمت إلى (12) زاوية فكل زاوية تمثل (30 يوماً)(أي شهراً من الشهور الشمسية).
سورة البروج [85: 2]
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} :
وأقسم الله سبحانه بيوم القيامة الذي ينكره الكثير من الناس.
الموعود: اسم مفعول من فعل: وعد.
سورة البروج [85: 3]
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} :
الشّاهد هو الذي يشهد على المشهود، اختلف في الشّاهد والمشهود في أكثر من (24) تفسيراً، وقيل: الشّاهد محمّد صلى الله عليه وسلم والمشهود عليهم أمته، أو الشّاهد هو الله تعالى والمشهود عليهم بنو آدم كافة، أو الشّاهد الكرام الكاتبون والمشهود عليهم بنو آدم، وكذلك قيل: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وغيرها من التفسيرات. وجواب القسم محذوف. ورغم أن الآيات جاءت في سياق أصحاب الأخدود فهي تشمل في معناها كل من يفعل فعل أصحاب الأخدود مثل: كفار قريش وغيرهم، وتحذرهم.
سورة البروج [85: 4]
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} :
منهم من قال: هذا جواب القسم وتقديره: لقد قتل (لعن) أصحاب الأخدود، ومنهم من قال: جواب القسم محذوف تقديره: لتبعثن مثلاً، أو قوله: إن بطش ربك لشديد.
{قُتِلَ} : لعن أصحاب الأخدود: دعاء بالإبعاد والطّرد من رحمة الله تعالى أو الهلاك.
{أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} : الأخدود: الشّق المستطيل في الأرض كالخندق. أصحاب: لم يُبين الله من هم وما فعلوه وزمنهم، وقد قيل: كانوا قوماً كافرين حفروا أخدوداً وأوقدوا فيه النّار، وكانوا من أهل نجران، وقيل: كان ملكهم ذو النواس قبل بعثة النبي بـ (50 سنة) وصلت دعوة عيسى إليهم بالتوحيد وبدأ الناس يدخلون في دين عيسى عليه السلام فأصبح ملكهم وحاشيته يعذبون أهل التوحيد، ثم حفروا الأخدود فأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم فراودوهم على الكفر والدّخول في دينهم أو الإلقاء في النّار، فاختاروا الإلقاء في النّار، وكان من بينهم امرأة ترضع وليدها فامتنعت عن إلقاء نفسها مع وليدها في النّار، فأنطق الله الطفل الرضيع وطلب من أمه أن تلقي بنفسها في النّار وهو معها ففعلت.
سورة البروج [85: 5]
أي: الأخدود الحاوي على النّار، ذات الوقود: ذات الحطب والاتقاد الشديد، وقوله:"ذات الوقود" تبيان لعظمة النّار وارتفاعها.
سورة البروج [85: 6]
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} :
{إِذْ} : الفجائية.
{هُمْ} : تعود على الكفرة المجرمين أصحاب الأخدود.
{عَلَيْهَا قُعُودٌ} : جمع قاعد، وقاعد تجمع على قعود وقاعدون، وقاعدون: تدل على الفعل أو الحدث، وقعود: مصدر يدل على المعنى؛ أي: قاعدون جالسون على القرب منها أو على ضفاف الأخدود، يشاهدون عملية إلقاء المؤمنين في النّار.
سورة البروج [85: 7]
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} :
{وَهُمْ} : للتوكيد تعود على أصحاب الأخدود.
{عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} : تعذيب المؤمنين وإحراقهم: بالإلقاء في النّار كلّ من آمن بالله ولم يرجع عن دينه.
{شُهُودٌ} : حضور: يشاهدون إحراق المؤمنين الواحد تلو الآخر، شهود جمع: شاهد.
سورة البروج [85: 8]
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} :
{وَمَا} : الواو عاطفة، ما النّافية.
{نَقَمُوا مِنْهُمْ} : بإلقائهم في النّار.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{أَنْ} : مصدرية تفيد التّعليل والتّوكيد.
{يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} : أي لم يكن هناك سببٌ آخر لتعذيبهم وإحراقهم لهؤلاء الأبرياء المؤمنين بالنّار إلا إيمانهم بالله وحده، ولم يقل آمنوا وإنما:"أن يؤمنوا" لأنّهم استمروا على إيمانهم ولم يتخلوا عنه رغم التّهديد والوعيد، وألقوا في النّار وهم على دين التّوحيد.
{الْعَزِيزِ} : الذي يَغلب ولا يُغلب ويَقهر ولا يُقهر، القوي الجبار الممتنع لا يناله أحد بسوء مهما كان.
{الْحَمِيدِ} : له الحمد المطلق المستحق الحمد في السّراء والضّراء، وله الحمد كلّه لإحسانه إلى عباده. ارجع إلى سورة الحديد آية (24) لمزيد من البيان.
سورة البروج [85: 9]
{الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} :
العزيز الحميد {الَّذِى لَهُ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق، وتقديم له يفيد الحصر؛ أي: له وحده.
{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : حكم السّموات والأرض فهو الحاكم والمالك.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : شهيد: صيغة مبالغة من شاهد، والشّهادة تعني: الحضور مع العلم، فالله سبحانه عليم بظواهر الأشياء والخبير ببواطن الأمور فكفى به شهيداً على كلّ شيء. ارجع إلى سورة البقرة الآية (133) لمزيد من البيان في معنى شهيد.
سورة البروج [85: 10]
{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ للتوكيد، الذين: اسم موصول يفيد الذم.
{فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} : فتنوا: من الفتنة: وهي الابتلاء بالخير أو الشر، ولكن الفتنة أشد من الابتلاء وأخص، والفتنة لها أشكال كثيرة قد تكون بالأموال والأولاد والمحن والهلاك أو العذاب أو في الدين؛ فهم فتنوهم بالرّجوع عن دينهم أو بإلقائهم في النّار وإحراقهم.
{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} : ثمّ للتباين بين التّوبة وفتنة الذين آمنوا، ارجع إلى سورة النساء الآية (17) لمعرفة التّوبة وأركانها وأنواعها.
{فَلَهُمْ} : الفاء للتوكيد، لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{عَذَابُ جَهَنَّمَ} : أي لهم عذابان: عذاب على كفرهم وعذاب على قتلهم وإحراقهم المؤمنين، عذاب جهنم المتعدد الصّور مثل: عذاب الحميم والزّمهرير وغسلين وطعام الزّقوم.
عذاب جهنم: ارجع إلى سورة الرعد الآية (18) للبيان.
{وَلَهُمْ} : تكرار لهم للتوكيد.
{عَذَابُ الْحَرِيقِ} : كما أحرقوا المؤمنين والمؤمنات لا بد من إحراقهم في نار جهنم فالعذاب من جنس العمل.
وهذه الآية عامة وليست خاصة بأصحاب الأخدود أو كفار مكة، تشمل كلّ من يفتن المؤمنين والمؤمنات في دينهم، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السّبب.
سورة البروج [85: 11]
{إِنَّ الَّذِينَ} : إنّ للتوكيد، الذين: اسم موصول يفيد المدح، الذين آمنوا: بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعملوا الصالحات: الفروض والسنن وذكر الله وغيرها.
{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : جنات: جمع جنة، فهناك: جنات الفردوس وجنات عدن وجنات النّعيم جنات المأوى تجري من تحتها الأنهار، قيل: تنبع من تحتها الأنهار.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة واللام للبعد.
{الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} : الفوز: النجاة من المكروه والوصول إلى المرغوب أو الغاية أو الخير، والفوز: أنواع منها: الفوز العظيم أعلى درجات الفوز، وهناك الفوز الكبير وهو درجة ثانية بعد الفوز العظيم، وهناك الفوز المبين.
سورة البروج [85: 12]
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} :
{إِنَّ} : للتوكيد، وكذلك اللام في:"لشديد" للتوكيد.
{بَطْشَ} : البطش الانتقام والأخذ بقوة وعنف، من بطش يبطش: إذا أخذه بعنف وقوة؛ أي: إذا أخذ الله الكافر فإنّ أخذه شديد، ويرى بعضهم أنّ قوله:"إنّ بطش ربك" هو جواب القسم.
{بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} : في الدّنيا أو في الآخرة لكلّ ظالم وعاص وكافر ومجرم، ولأهل القرى إذا ظلموا ولم يتوبوا، سواء كان عذاباً قريباً أو بعيداً.
سورة البروج [85: 13]
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} :
إنّه: تعود على ربك.
{إِنَّهُ هُوَ} : تفيدان التّوكيد لمن ينكر البعث والآخرة والحساب والجزاء؛ يبدئ: الخلق ويعيد. ارجع إلى سورة الروم الآية (27)، وسورة العنكبوت آية (19) لبيان معنى يُبدئ ويعيد.
سورة البروج [85: 14]
{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} :
{وَهُوَ} : للتوكيد.
{الْغَفُورُ} : صيغة مبالغة من غفر؛ أي: كثير الغفر فيغفر الذّنوب العظام مهما كان نوعها إذا تاب العبد وأناب إلى ربه، وأمّا الغفار: هو كثير الغفر من جهة الكمية؛ أي: يغفر الذّنوب الكثيرة، والغفر يعني: ستر الذّنب ومحوه وترك العقوبة والإثابة على فعل الخيرات (الحسنات).
{الْوَدُودُ} : الود هو الحب مع الإخلاص والوفاء، وقيل: المودة لا تكون إلا نتيجة المحبة أو هي المحبة الشديدة.
الودود صيغة مبالغة على وزن فعول؛ أي: كثير المحبة لأوليائه فهو يرحمهم ويرزقهم ويكفر عنهم سيئاتهم، وهو المحبوب في قلوب أوليائه لإحسانه وغفرانه فهم يودونه ويحبونه.
سورة البروج [85: 15]
{ذُو} : تعني صاحب العرش، ذو: أبلغ وأشرف من "صاحب" العرش؛ فهو رب العرش.
{الْعَرْشِ} : قيل: صفة له سبحانه، وعرش الرّحمن أعظم من السّموات السّبع والأرض وما فيهن. ارجع إلى سورة هود آية (7)، وسورة طه آية (5).
{ذُو الْعَرْشِ} : أي العظيم في ذاته وصفاته، التّام الشّرف الرّفيع القدر عظيم الكرم، فالمجيدُ بضم الدال: وصف لله تعالى، ولو قال المجيدِ بكسر الدال لكان وصفاً للعرش.
سورة البروج [85: 16]
فعَّال: صيغة مبالغة لفاعل، تعني: ما يريد فعله في غاية الكثرة، فهو صاحب القدرة المطلقة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء، ولا يُسأل عما يفعل؛ لعظمته وحكمته وعدله، ولا يقف أمام أمره عائق أو مانع.
سورة البروج [85: 17]
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} :
{هَلْ} : للاستفهام والتّشويق.
{أَتَاكَ} : أي سمعت أو أُخبرت؛ أي: وصلك خبر.
{حَدِيثُ} : يدل على أمر تحدث النّاس فيه وتناقلته السّير والأخبار، ويعني كلاماً ليس جديداً، وحديثهم هو ما وقع منهم من الكفر والعناد وما حل بهم من العذاب.
{الْجُنُودِ} : فرعون وثمود، وقد بينتهم الآية التالية (18).
سورة البروج [85: 18]
{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} :
{فِرْعَوْنَ} : لم يقل قوم فرعون، يراد به فرعون نفسه الذي قال لهم: أنا ربكم الأعلى، أو قوم فرعون وجنوده وملئه. ارجع إلى سورة الأعراف آية (103) لمعرفة من هو فرعون.
{وَثَمُودَ} : اسم قبيلة وهم قوم صالح، فكفار مكة لم يبلغوا المبلغ الذي بلغه فرعون، أو المبلغ الحضاري الذي بلغته قبيلة ثمود الذين جابوا الصّخر بالواد، والذين سكنوا الحجر (مدائن صالح).
سورة البروج [85: 19]
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيبٍ} :
{بَلِ} : للإضراب الانتقالي.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : أي كفار قريش أشد تكذيباً من فرعون وثمود وغيرهم.
{فِى} : ظرفية، تكذيب: صيغة مبالغة؛ أي: كثيرو الكذب، والكذب محيط بهم جميعاً من كل مكان.
{فِى تَكْذِيبٍ} : في تكذيب دائم بكل ما أنزل الله وبالآخرة والبعث والحساب وتكذيب بآيات الله ورسله. ارجع إلى سورة النبأ الآية (35) للمقارنة.
سورة البروج [85: 20]
{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} :
والله أعلم بأحوالهم وأعمالهم، وقادر عليهم وعلى الإحاطة بهم بعلمه وقوته كما فعل بمن قبلهم، وما دام محيطاً بهم من كلّ الجوانب كناية على عدم قدرتهم على الهرب والنّجاة من قبضته، أو هو سبحانه محيط بهم بعلمه يعلم ما يعملون وكذلك الملائكة الكرام الكاتبون يكتبون كل كلمة وفعل وحركة.
سورة البروج [85: 21]
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} :
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي؛ للرد على المشركين الذين زعموا أنّ القرآن شعر وكهانة أو سحر أو أساطير الأولين.
{هُوَ} : للتوكيد.
{قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} : قرآن عظيم الشّرف والرّفعة والبركة والخير والعطاء.
سورة البروج [85: 22]
{فِى} : ظرفية.
{لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} : أي القرآن المجيد محفوظ عند الله تعالى من التّبديل والتّغيير والتّحريف، محفوظ مكنون ومصون على مر الأيّام والدّهور في صدور الذين أوتوا العلم وفي اللوح المحفوظ.
سورة الطارق [86: 1]
سورة الطارق
ترتيبها في القرآن (86) وترتيبها في النّزول (36).
هذه السّورة تمثل جزءاً من روائع الإعجاز العلمي في القرآن والتّقدم في العلم الذي يدل دلالة الشّمس على أنّ القرآن هو كلام الله عز وجل، وتدل على عظمة الخالق البارئ المصور فاطر السموات والأرض.
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} :
الواو واو القسم، يقسم الله عز وجل بالسّماء، والله لا يقسم إلا بشيء عظيم، والله سبحانه غني عن القسم، والقسم يشير إلى أهمية وعظمة المقسم به وجواب القسم.
يقسم الله سبحانه بالسّماء: اسم جنس يشمل السموات السبع، والسماء الدنيا إحداهن، والتي تحوي مليارات المجرات التي تحوي بداخلها مليارات المجموعات الشمسية، فمجرة درب التبانة تحوي (200 إلى 400 مليار نجم)، والعلم لم يتوصل إلا لمعرفة وإدراك النذر اليسير عن السّماء الدّنيا، فما بالك بالسموات السبع التي تغلف كل واحدة الأخرى.
والطارق: قيل: كل ما يطرق ليلاً، أو النجوم التي تظهر ليلاً وتغيب نهاراً، أو القادم ليلاً أو يبدو ليلاً، ثم قالوا: الطارق هو النّجم الثاقب؛ لقوله تعالى: "وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب".
وما أدراك ما الطارق: ما: استفهامية للتعظيم.
أدراك: أعلمك أو أخبرك ما الطارق.
وما أدراك: فيها معنى التهويل والتعظيم. ارجع إلى سورة الحاقة الآية (3) للبيان، والفرق بين أدراك وما يدريك.
سورة الطارق [86: 2]
سورة الطارق [86: 3]
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} :
فالطارق هو النّجم الثاقب.
فالنّجوم تتشكل من ذرات وكلّ ذرة مركبة من البروتونات وإلكترونات، البروتونات ذات شحنة موجبة، وإلكترونات ذات شحنة سالبة، فعندما تتحد هذه البروتونات مع الإلكترونات (تنصهر) فيؤدي إلى توليد طاقة حرارية هائلة تقدر بملايين الدّرجات، ونتيجة الاتحاد بين البروتونات والإلكترونات تتشكل النّجوم النيوترونية الناجمة عن تحول النّجم الهائل الحجم إلى نجم صغير قطره بالكيلومترات بعد أن كان قطره ملايين الكيلومترات، وهي نجوم ثقيلة جداً قد تزن ملايين الأطنان مثل (100) مليون طن، ولها جاذبية عظمى أكبر من جاذبية الأرض بملايين المرات.
هذه النّجوم النيوترونية تصدر أمواج راديوية كهرطيسية تتحول إلى أصوات تشبه طرقات المطرقة أو السّندان أو دقات السّاعة، قد يسمعها رواد الفضاء باستعمال أجهزة خاصة، وهذا هو تفسير الطّارق. أمّا تفسير النّجم الثّاقب: فقد اكتشف الباحثون أنّ هذه النّجوم النيوترونية تصدر أشعة كونية سميت النيوترينو تصل إلى الأرض بعد أن تخترق الغلاف الجوي والسّموات وتخترق أجسامنا، وقد تصل إلى أعماق البحار وهذا هو تفسير النّجم الثّاقب.
سورة الطارق [86: 4]
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} :
أي: ما من نفس إلا عليها حافظ.
هذا هو جواب القسم نظير هذه الآية: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12].
{إِنْ كُلُّ} : إن: تفيد النّفي بمعنى: ما؛ كلّ: لتوكيد النّفي.
{نَفْسٍ} : أي نفس كافرة مؤمنة مطيعة أو عاصية.
{لَمَّا} : تفيد الحصر بمعنى: إلا وعليها حافظ (ومنهم من فسر لما بالاستثنائية؛ أي: حرف استثناء).
{حَافِظٌ} : أي ملك من الملائكة؛ أي: كلّ إنسان موكل به ملائكة يكتبون أعماله (أفعاله وأقواله) من حسنات وسيئات، وكما قال تعالى في سورة ق الآية (18):{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} .
وهذه الكتابة لتكون عليه حجة يوم القيامة، رغم أنّ الله سبحانه غني عن ذلك؛ لأنّه سبحانه يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو سبحانه أقرب للإنسان من حبل الوريد؛ أي: كلّ نفس سوف تبعث يوم القيامة وتحاسب على عملها وتجازى به.
سورة الطارق [86: 5]
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} :
{فَلْيَنظُرِ} : الفاء للتوكيد، واللام لزيادة التّوكيد، ينظر الإنسان ممَّ خلق، أصلها من + ما، من: لابتداء الغاية، ما: الاستفهامية، وحذفت الألف لتقدم حرف الجر.
{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ} : نظرة بصرية ونظرة قلبية فكرية؛ أي: نظرة تأمل في كيفية خلقه ليعلم قدرة الله سبحانه وعظمته على بدء الخلق وإعادته.
سورة الطارق [86: 6]
{مَاءٍ} : ماء الرّجل (هو المني) وماء المرأة.
{دَافِقٍ} : منصبّ بدفع وسرعة من الرّجل.
سورة الطارق [86: 7]
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} :
هذه الآية تتحدث عن المنشأ الأصلي الأساسي في الجنين والمسمى الحيد التناسلي، والذي يتطور إلى تشكيل الخصية أو المبيض مصدر الماء الدّافق في الرجل والمرأة.
وهذه الآية تشير أن الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب؛ أي: أن الخصية والمبيض تتشكل من بين الصلب الذي يعني القسم الصّلب من العظم والذي يسمى قشرة العظم الموجودة في كل عظم، وليس كما كان يظن المفسرون القدامى: الصلب هو عظام الفقار فقط.
وأما {وَالتَّرَائِبِ} : وهو القسم الرّخو المسمى مخ العظم أو نقي العظم الموجود في كل عظم، وليس كما كان يظن المفسرون أن الترائب هي عظام الصدر في الأنثى (الأضلاع).
فكلّ عظم يتكون من قسمين: القسم الصّلب والقسم الرّخو، وقد تبين من الأبحاث في علم الجنين وعلم الخلايا والنّسج أنّ كلاً من الخصية والمبيض تتشكل من الوريقة الوسطى الواقعة بين الوريقة الخارجية المكونة لمخ العظم (نخاع العظم)، والوريقة الداخلية المكونة للقشرة الصلبة من العظم، فالخصية والمبيض منشأهما من بين قسمي العظم.
سورة الطارق [86: 8]
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} :
{إِنَّهُ} : إنّ واللام في "لقادر" تفيدان التّوكيد.
{عَلَى رَجْعِهِ} : حياً؛ أي: على بعثه بعد موته لقادر.
{لَقَادِرٌ} : على إرجاعه كما كان.
سورة الطارق [86: 9]
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} :
{يَوْمَ} : أي يوم القيامة.
{تُبْلَى} : تبدو وتظهر وتفضح؛ أي: تكشف سرائر وخفايا كلّ إنسان، وما كان عليه من عقيدة أو مذهب أو بدعة أو شرك أو نفاق أو طاعة أو عصيان.
سورة الطارق [86: 10]
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} :
{فَمَا لَهُ} : الفاء للتوكيد، ما النّافية: له: جار ومجرور للحصر.
{مِنْ} : استغراقية.
{قُوَّةٍ} : يدافع بها عن نفسه من عذاب الله تعالى.
{وَلَا} : لا لتوكيد النّفي.
{نَاصِرٍ} : ينصره من الله تعالى؛ أي: من عذاب الله، أو يشفع له، كقوله تعالى:{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 43].
سورة الطارق [86: 11]
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} :
الواو: واو القسم. ارجع إلى الآية (1) من السورة نفسها، وجواب القسم. قيل: إنه لقول فصل.
يقسم الله تعالى بهذه المعجزة العلمية الثّالثة في هذه السّورة بالسماء ذات الرجع، ويقسم بالأرض ذات الصّدع.
{ذَاتِ الرَّجْعِ} : الرجع له أنواع كثيرة وتسمى: نُطُق الحماية، فيها النطاق الخارجي والمغناطيسي والإشعاعي والمتأين والأوزون والمناخي.
1 -
منها الرّجع المائي، فالبخار يتحول إلى سحاب والسّحاب يتحول إلى مطر ويعود إلى الأرض.
2 -
الرّجع الحراري إلى الأرض فالسحب تحمي من تسرب الحرارة إلى الفضاء وبرودة الأرض، فالسحب ترد أو ترجع إلى الأرض (41%) من حرارة الشمس، ولولا هذا الرجع لتجمدت الأرض.
3 -
الرّجع الغازي: للأشعة الفوق البنفسجية بواسطة طبقة الأوزون.
4 -
ورجع الموجات الرّاديوية.
5 -
والرّجع الاهتزازي للهواء.
6 -
الرجع الغباري.
7 -
الرجع اللاسلكي: فكل وسائل الاتصال بما فيها التلفونات والإذاعات ترسل موجاتها إلى النطاق المتأين المحيط بالأرض ليعود لنا بشكل صورة أو كلام أو رسالة.
سورة الطارق [86: 12]
{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} :
{الصَّدْعِ} : هو: شق + حركة، هناك شبكة كثيرة من الصدوع تمزق قاع البحار والمحيطات؛ أي: تمزق الغلاف الصخري للأرض وتمتد لآلاف الكيلومترات وفي كل الاتجاهات ومتصلة ببعضها وتحيط بالأرض كاملة كأنها صدع واحد.
وهناك صدع أو شق اكتشفه العلماء والموجود في قاع المحيط الهادي ويمتد على طول السّاحل الغربي لأمريكا ويمر باليابان والفلبين وإندونيسيا، هذا الصّدع يبلغ أكثر من (40) ألف كيلومتر، يسمى الصّدع أو الشّق الأكبر الذي يؤدي إلى كثير من الزلازل في اليابان وجزر المحيط الهادي و (80%) من الزلازل والبراكين تتركز حول هذا الشّق أو الصّدع.
وهذه الصدوع هي صمام الأمان للحياة على الأرض؛ فلولا هذه الصدوع لتفجرت الأرض كقنبلة نووية هائلة ولما بقي على الأرض من دابة، فهذه الصدوع تسمح للحمم البركانية بالخروج من باطن الأرض، وهي وسيلة لتشكل قيعان البحار والمحيطات والسلاسل الجبلية والقارات.
سورة الطارق [86: 13]
جواب القسم.
{إِنَّهُ} : إنّ للتوكيد، والهاء تعود إلى القرآن الكريم.
{لَقَوْلٌ} : اللام لزيادة التّوكيد.
{فَصْلٌ} : أي يفصل بين الحق والباطل والحلال والحرام والهدى والضّلال، فالقرآن هو القول الفصل.
سورة الطارق [86: 14]
{وَمَا هُوَ} : الواو عاطفة، ما النّافية، هو للتوكيد.
{بِالْهَزْلِ} : الباء للإلصاق، تعود على القرآن؛ أي: ما هو باللعب أو بالباطل بل إنّه جدٌّ وحقٌّ في وعده ووعيده وكل ما جاء به.
سورة الطارق [86: 15]
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} :
{إِنَّهُمْ} : تعود إلى كفار قريش وأمثالهم.
{يَكِيدُونَ} : يعملون المكايد والحيل والشبهات لإطفاء نور الله؛ أي: دين الإسلام أو الوقوف أمام الدّعوة إلى الإسلام، يكيدون: فعل مضارع يفيد التّكرار والتّجدد.
{كَيْدًا} : يفيد التّوكيد.
سورة الطارق [86: 16]
{وَأَكِيدُ كَيْدًا} :
الله سبحانه ليس بحاجة إلى الكيد، وإنما هو من قبيل المشاكلة والمقابلة؛ مثل: استدراجهم من حيث لا يعلمون، أو أملي لهم إنّ كيدي متين.
سورة الطارق [86: 17]
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} :
{فَمَهِّلِ} : الفاء للتوكيد، مهِّل: انظر؛ أي: أنظرهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستعجل لهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم.
{أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} : إمهالاً يسيراً؛ أي: لن يطول؛ رويداً: من فعل أراد، وفلان يمشي على رُود؛ أي: على مهل، وتكرار الفعل "أمهلهم" للمبالغة في الوعيد.
سورة الأعلى [87: 1]
سورة الأعلى
ترتيبها في القرآن (87) وترتيبها في النّزول (8).
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} :
{سَبِّحِ} : نزِّه وعظم اسم ربك؛ أي: أسماءه تعالى الحسنى عن كل ما لا يليق بها، ولا تسم بها غيره، أو تلحد فيها بالتأويلات الباطلة.
التسبيح هو تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه عما لا يليق به من أيّ نقص وعجز وعيب، وتنزيه الله من الشريك والولد والصاحبة والندّ والمثيل. ارجع إلى سورة الحديد آية (1) لمزيد من البيان. وسبح اسم ربك: كأن تقول: سبحان ربي الأعلى.
سورة الأعلى [87: 2]
{خَلَقَ} : الخلق يعني التّقدير والإيجاد من العدم وكل ما نراه في الوجود من خلق الله تعالى.
{فَسَوَّى} : سوّى كلّ مخلوق على أحسن هيئة وناسب بين أعضائه فجعلها متناسقة، سواء كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً كما قال تعالى:{الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].
والتسوية هي اختيار الصفات الوراثية المميزة لكل فرد من الإنس والجن والملائكة، وكل حيوان ونبات وجماد بحيث لا يشبه مخلوق الآخر.
سورة الأعلى [87: 3]
قدّر كل أمر أو شيء في الوجود تقديراً محكماً دقيقاً لتنظيم الحياة.
{قَدَّرَ} : له أجله ومعيشته ورزقه، وعلمه، وأهله، وأولاده ومهنته وأجله، وأين يحيا وأين يموت.
{فَهَدَى} : بيّن له طريق الخير وطريق الشّر والحق والباطل، والحلال والحرام وما ينفعه وما يضره، أو هداه إلى معيشته.
سورة الأعلى [87: 4]
{وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى} :
الذي أخرج: الذي أنبت العشب أو الحشيش وما ترعاه وتأكله الدّواب من الأخضر الرّطب.
سورة الأعلى [87: 5]
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} :
فجعله: الفاء للتعقيب والمباشرة، جَعَلَه: صيّره.
غثاء: والغثاء اليابس من النّبات والعشب، وهو الزّبد الذي يطفو على وجه الماء.
{أَحْوَى} : الموصوف بالحوة وهي السّمرة التي تقترب من السّواد بسبب القِدم ومرور الزّمن؛ أي: سواد + خضرة: بني اللون أو حمرة تضرب إلى السّواد؛ أي: هو الذي أخرج المرعى؛ أي: العشب الأخضر الرّطب الذي انقلب إلى غثاء أحوى إلى عشب يابس أسود أو بني اللون تأكله الدواب في الشّتاء والخريف.
بعد هذه الآيات الأربع الدّالة على قدرة الخالق وعظمته وأنّه أهل التّسبيح والحمد يبشرُ رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرين:
سورة الأعلى [87: 6]
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} :
{سَنُقْرِئُكَ} : السّين للاستقبال القريب والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، نقرئك: نعلّمك القرآن أو التّلاوة على لسان جبريل عليه السلام .
{فَلَا تَنْسَى} : أي نجمعه في قلبك فلا تنساه، أمّا إذا كان الخطاب موجهاً إلى أفراد أمته سنعلّمكم تلاوته على لسان من سبقوكم من الحفّاظ بالتّواتر فلا تنسوه بعد أن جمعه الله تعالى في قلوبكم.
سورة الأعلى [87: 7]
{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} :
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَا شَاءَ اللَّهُ} : ما اسم موصول بمعنى الذي، وما أوسع شمولاً من الذي؛ أي: ما شاء الله أن تنساه مما نسخه الله تعالى أو ما شاء الله أن ينساه العبد من حفظ القرآن إذا لم يتعاهده بالمراجعة المتكررة.
إنّه سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ الْجَهْرَ} : أي ما تجهر به من التّلاوة؛ أي: ترفع به صوتك، وما يجهر به كلّ امرئ من قراءة القرآن وغيرها.
{وَمَا يَخْفَى} : تكرار ما للتوكيد، وما تتلوه همساً أو يتلوه غيرك وما يخفى من الأمور والأشياء بشكل عام كقوله:{وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38].
{الْجَهْرَ} : أصله رفع الصّوت يقال: جهر بالقراءة، إذا رفع صوته بها.
وكما قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، وقوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17]، تأكيد للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم نسيانه.
سورة الأعلى [87: 8]
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} :
اليسرى مؤنث الأيسر بمعنى: أي سنوفقك ونهديك للطريقة الأيسر والأسهل لحفظ القرآن، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17]، ونيسرك ونهديك إلى الشّريعة الإسلامية السّمحة وعمل الخير، والعمل اليسير والسهل، فكان رسول الله يختار الأمر الأيسر والسهل.
{لِلْيُسْرَى} : اللام لام التّعليل، وقال بعض المفسرين: ونيسرك لليسرى معطوفة على "سنقرئك"، فلا تنسى؛ أي: سنقرئك فلا تنسى ونيسرك لليسرى. وجملة "إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى" جملة اعتراضية.
سورة الأعلى [87: 9]
{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} :
الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كلّ مؤمن.
{فَذَكِّرْ} : الفاء للتوكيد، ذكِّر بالقرآن وذكِّر النّاس بربهم وبدينهم وبما عليهم من الفرائض والسّنن والواجبات كقوله تعالى:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، فذكّر: من التّذكير وهو تنبيه الإنسان بالحسنى والحكمة والموعظة إلى شيء أو أمر قد غفل عنه.
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين.
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال.
{نَفَعَتِ الذِّكْرَى} : أي ذكِّر بالقرآن الكل، فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، وذكّر {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
سورة الأعلى [87: 10]
{سَيَذَّكَّرُ} : من يخشى الله، السّين للاستقبال القريب، يذكَّر: سيتعظ ويتبع الهدى ويتذكّر ويزداد إيماناً وذكراً.
{مَنْ يَخْشَى} : من استغراقية، يخشى: الله؛ أي: يخافه ويعظّمه، والخشية: هي الخوف المقترن بالعلم والعظمة ممن تخافه.
سورة الأعلى [87: 11]
{وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} :
{وَيَتَجَنَّبُهَا} : ويتجنب الذّكرى: أي الموعظة والقرآن أو الاستماع إلى ما أنزل الله تعالى من الوحي.
{الْأَشْقَى} : الكافر والمشرك والعاصي المصِرّ على المعصية، ومن غفل قلبه وأعرض عن ذكر ربه ورضي بالحياة الدّنيا عن الآخرة واتبع هواه وكان أمره فرطاً، والأشقى اسم تفضيل على وزن أفعل.
سورة الأعلى [87: 12]
{الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم.
{يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} : يدخل يوم القيامة ويشوى في النّار الكبرى نار جهنم، وقيل: الدّركات السّفلى من النّار هي الأشد والكبرى، والنّار الصّغرى نار الدّنيا.
سورة الأعلى [87: 13]
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} :
{ثُمَّ} : لتباين الدّرجة بين يصلى ولا يموت فيها ولا يحيى، فكونه لا يموت فيها ولا يحيى أشد وأفظع من الصّلي؛ أي: لا يموت فيستريح من عذاب جهنم ولا يحيى حياة بدون عذاب الحريق والحميم. وتكرار (لا) يفيد التّوكيد، لا يموت ولا يحيى لا هذه ولا تلك ولا كلاهما معاً.
سورة الأعلى [87: 14]
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} :
{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد.
{أَفْلَحَ} : فاز بالجنة ونجا من النّار.
{مَنْ تَزَكَّى} : من تطهّر من الكفر والشّرك والمعاصي، تطهّر بالإيمان والتّقوى، من: بمعنى الذي، ومن: تشمل المفرد والمثنى والجمع، والذكر والأنثى.
سورة الأعلى [87: 15]
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} :
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} : بلسانه وقلبه بالتّهليل والتّسبيح والاستغفار والحمد.
{فَصَلَّى} : الفاء للتوكيد والمباشرة، صلى الصّلوات المفروضة والنّوافل، ثمّ وبّخ وذمّ الذين يؤثرون الحياة الدّنيا.
سورة الأعلى [87: 16]
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} :
{بَلْ} : للإضراب الانتقالي.
{تُؤْثِرُونَ} : من الإيثار، وهو التقديم؛ أي: تقدمون الحياة الدّنيا على الآخرة، والإيثار: يختلف عن التفضيل، التفضيل: يعني الزيادة في العطاء، وتقديم الأعلى على الأدنى.
سورة الأعلى [87: 17]
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} :
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ} : أي أفضل في كلّ شيء من الدّنيا.
{وَأَبْقَى} : أدوم، لا تزول.
سورة الأعلى [87: 18]
{إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى} :
{إِنَّ} : إنّ واللام في كلمة "لفي" تفيدان التّوكيد.
{هَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة يشير إلى كلّ ما ذكر من الآيات:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: هذا الوعظ والتّعليم
جاء أو ورد في الصّحف الأولى، وتشمل صحف شيث إدريس وإبراهيم وموسى.
سورة الأعلى [87: 19]
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} :
الصّحف الأولى تشمل صحف إبراهيم وموسى، فذكر صحف إبراهيم وموسى مرة أخرى هي من قبيل ذكر الخاص بعد العام للتوكيد والاهتمام وشهرتها، فهي أولى الشّرائع.
{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ} : قيل: كانت عشر صحف.
{وَمُوسَى} : وصحف موسى وهي غير التّوراة، وقيل: كانت عشر صحف أنزلت قبل التّوراة، وأنزل الله سبحانه الكتب الأربعة الزّبور والتّوراة والإنجيل والقرآن.
سورة الغاشية [88: 1]
سورة الغاشية
ترتيبها في القرآن (88) وترتيبها في النّزول (68).
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} :
{هَلْ} : استفهام تحمل معنى التّشويق ولفت النّظر إلى حديث الغاشية والاستماع إليه، واستعمل صيغة الاستفهام بدلاً من الخبر والقول سأخبرك بحديث الغاشية؛ للتشويق والتهويل ولفت النظر إلى حديث الغاشية والتهويل.
وكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على الفور: نعم يا رب، قد جاءني حديث الغاشية.
{أَتَاكَ حَدِيثُ} : ألم يصل إليك خبر أو حديث الغاشية بعد أو تسمعه من أحد؟ وإذا قارنا بين أتاك وجاءك: نجد أتاك: تأتي في سياق السهولة، وجاءك: في سياق المشقة والصعوبة، وبما أن السياق في الحديث عن الغاشية، وليس الغاشية نفسها ولكونها لم تأت بعد فقد استعملت أتاك بدلاً من جاءك.
{الْغَاشِيَةِ} : اسم من أسماء يوم القيامة كالقارعة والحاقة والطامة والصاخَّة، وقيل: الغاشية هي النّار التي تغشى الكفار يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]، فلا يجدون لهم ملجأ ولا منفذاً يلجؤون إليه.
سورة الغاشية [88: 2]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} :
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} : في ذلك اليوم ترى وجوه الكفار والمشركين والعاصين.
{خَاشِعَةٌ} : ذليلة من أثر الشّعور بالذّل والهوان واليأس والندم، والخشوع تظهر أثاره على البصر والصوت كقوله:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43]. ورؤوسهم منكَّسة كما قال تعالى: {إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12].
وهناك فرق بين هذا النّوع من الخشوع وخشوع التّقوى والإيمان؛ ويعني الذّلة لله تعالى فهذا النّوع من الخشوع هو خشوع عز ورفعة، أما خشوع أهل النار هو ذلة وهوان.
سورة الغاشية [88: 3]
{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} :
{عَامِلَةٌ} : في ذلك اليوم مشغولة بمحاولة الفرار أو الجثيّ والجرّ والسّحب في السّلاسل.
{نَّاصِبَةٌ} : من النّصب؛ وهو التّعب والإعياء؛ أي: متعبة مرهقة بجرّ السّلاسل والأغلال ومن الهول والرعب.
سورة الغاشية [88: 5]
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} :
{تُسْقَى} : هذه الوجوه من عين آنية، عين جمعها عيون ولا يقصد بها عين الإنسان؛ فتلك تجمع على أعين، أما عيون تشير إلى منابع الماء.
{عَيْنٍ آنِيَةٍ} : عين تنبع بالماء الحار وآنية من آن، وآن: يعني بالغ أقصى الحرارة؛ أي: يسقون من حميم آن، ينبع من عين آنية تنبع بالماء الحميم الذي بلغ أقصى درجات غليانه، وليست كدرجات حرارة الدّنيا وإنما درجات الآخرة.
سورة الغاشية [88: 6]
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} :
{لَّيْسَ} : للنفي.
{لَهُمْ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق لهم خاصة.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مِنْ ضَرِيعٍ} : طعام من ضريع: الضّريع نوع من الشّوك الطريّ كانت قريش تطلق عليه اسم: الشبرق، وإذا يبس الضّريع لا تأكله حتّى الدّواب.
سورة الغاشية [88: 7]
{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِنْ جُوعٍ} :
{لَا يُسْمِنُ} : يعني لا يوفر الطاقة الحرورية الضّرورية للحركة والنّشاط لمن أكل منه.
{وَلَا يُغْنِى مِنْ جُوعٍ} : الجوع: هو الشعور بخلو المعدة من الطعام، وطعام أهل النار من الزقوم وغيره، ولا يسد رمق الجوعان ويشعر بالشّبع، إذا أكل منه فهو طعام بلا أيّ فائدة من جهة، وجهة أخرى كريه الطّعم يتجرعه ولا يكاد يُسيغه. وتكرار (لا) يفيد توكيد النّفي لا هذه ولا تلك ولا كلاهما معاً.
سورة الغاشية [88: 8]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} :
وفي ذلك اليوم ترى وجوه المؤمنين والمتقين ناعمة؛ أي: ذات بهجة ونضرة وحسن كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 ـ 39].
سورة الغاشية [88: 9]
{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} :
{لِّسَعْيِهَا} : اللام لام التّعليل، سعيها: السّعي: العمل بجد ودأب.
{لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} : لعملها الذي عملته في الدّنيا وسعت لإنجازه راضية على ثوابه، أو مسرورة بما أحضرت أو قدمت.
سورة الغاشية [88: 10]
{فِى} : ظرفية.
{جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} : منازل عالية رفيعة الدّرجة والقدر، جنة عالية لها (100 درجة).
سورة الغاشية [88: 11]
{لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} :
{لَا} : النّافية.
{تَسْمَعُ} : في الجنة.
{فِيهَا لَاغِيَةً} : لاغية: من يلغو. واللغو: وهو الكلام الذي لا فائدة ولا نفع منه، ناهيك عن كلام الباطل والكذب والغيبة، {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25-26].
سورة الغاشية [88: 12]
{عَيْنٌ} : اسم جنس تشمل الواحدة والاثنتين والجمع؛ أي: فيها عيون كثيرة: عين التّسنيم وعين الكافور والزّنجبيل والسّلسبيل.
{جَارِيَةٌ} : تجري على وجه أرض الجنة.
سورة الغاشية [88: 13]
{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} :
{فِيهَا} : في الجنة.
{سُرُرٌ} : جمع سرير: وهو ما يجلس عليه أو ينام عليه.
{مَّرْفُوعَةٌ} : ثمينة ذات قدر مرفوعة مكاناً كقوله: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34].
سورة الغاشية [88: 14]
{وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} :
{وَأَكْوَابٌ} : جمع كوب: إناء لا عروة له.
{مَّوْضُوعَةٌ} : متوفرة بين أيديهم يشربون منها أو على حافات العيون وفي كلّ مكان لا يبحثون عنها، ومختلفة الألوان والأحجام.
سورة الغاشية [88: 15]
{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} :
{وَنَمَارِقُ} : جمع نمرقة: أي وسادة، نمارق: وسائد.
{مَصْفُوفَةٌ} : بجانب بعضها بعضاً للاتكاء عليها.
سورة الغاشية [88: 16]
{وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ} :
{وَزَرَابِىُّ} : بسط أو سجاجيد مفروشة وممدودة.
{مَبْثُوثَةٌ} : مفرقة في كلّ مكان، من بثّ؛ أي: فرّق.
ثمّ يذكر سبحانه عدداً من الآيات الكونية الدّالة على قدرته وعظمته ووحدانيته التي تدعو إلى الإيمان به وحده وأنّه على كلّ شيء قدير.
سورة الغاشية [88: 17]
{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} :
{أَفَلَا} : استفهام فيه حث على النّظر والتّأمل والتّفكير.
{يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} : الإبل: الجمل أو الناقة من الحيوانات الثديّة المجترّة التي تمتاز بضخامة حجمها، وطول عنقها، وارتفاع قامتها قد يصل إلى أكثر من مترين ووزنها حوالي (450-650كيلوغرام)، ولها أرجل طويلة قوية تساعدها على اتساع خطواتها، وترفع جسمها عن حرارة الرّمال وكلّ رجل تشبه الخف، وهو عبارة عن طبقة سميكة من الجلد مبطنة بالدّهن والألياف تساعدها على السّير بسهولة فوق الرّمال دون أن تغوص في الرّمال، كما تستطيع أن تسير فوق الصّخور والجبال بواسطة هذا الخف الذي تقل فيه الأعصاب الحسية، وأعينها وأنوفها المغطاة بأشعار كثيفة تحميها من دخول الرّمال والأتربة والغبار إلى أعينها وآذانها وأنوفها، وهي قادرة على إغلاق أعينها وآذانها وفتحتي الأنف في العواصف الرّملية، ورقبتها الطّويلة تساعدها على الوصول إلى النّباتات القصيرة وأوراق الأشجار العالية، وجسمها المغطى بجلد سميك مكسو بالوبر يحفظه من حرارة الشّمس، وسنام الجمل يعتبر مخزناً كبيراً للدهن الذي يحتاجه حين يقل غذاؤه وماؤه فهو قادر على تحمل الجوع والعطش لفترة طويلة قد تصل إلى عشرة أيّام في أيّام الحر الشّديد دون ماء، وربما أكثر قد تصل إلى أسبوعين أو أكثر، وحين يشرب يشرب كميات كبيرة من الماء ولا يتوقف عن الأكل حين يجد المرعى، وله القدرة على الاحتفاظ بماء جسمه عن طريق الكليتين وكمية البول القليلة وقلة عرقه فهو قلما يعرق حتّى في أشد درجات الحرارة، ولا يلهث ولا يتنفس من فمه، وله وسادتان دهنيتان فوق ركبتيه تحمي جسده حين يبرك على الرمل الحار أو البارد.
ويتغذى بالحشائش وأوراق الشّجر والشّوك والأعشاب الجافة ونباتات الصّحراء، ويتغذى بالشّوك والقدرة على ذلك بما أعطاه الله تعالى من أسنان قوية وفم وشفتين غليظتين قويتين السفلى مشقوقة تمكنه من جمع الأشواك ثمّ مضغها، وهو من الحيوانات المجترة القادرة على ترجيع بعض الطّعام الذي تناولته سابقاً من معدتها إلى فمها؛ لتمضغه جيداً مرة أخرى ويسهل هضمه.
فهذا الحيوان الأليف رغم حجمه الهائل وقدرته ينقاد للطفل الصغير أو الكبير حيث يشاء، والجمل قادر على حمل الأثقال الكبيرة ويسمى سفينة الصّحراء، وهناك من يشرب لبنها ويأكل من لحمها الذي فيه من الفيتامينات ما يزيد على ما في ألبان البقر والغنم (15 ضعفاً)، وقيل: له (3) أمعاء حتى يهضم الطعام ولا يبقى للسموم أثر أو مسببات الأمراض، وقيل: إن في ألبانه وبوله كمية كبيرة من المضادات الحيوية الطبيعية لا نظير لها، وهي أكثر مقاومة للبكتريا ولا تسبب تشكل سلالات مقاومة، ويستفاد من وبرها وجلدها في صنع الملابس، ولا ننسى أنه يتأثر بصوت الحادي؛ أي: الرّاكب فوقه ويتأثر بالغناء فيسرع أو يبطئ، فسبحان الخالق البارئ المصور فهو آية كافية تدل على عظمة وقدرة الخالق.
سورة الغاشية [88: 18]
{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} :
رفعت بأعمدة لا نراها، وهي عبارة عن القوى النّووية الشّديدة والضّعيفة، والقوى الكهربائية المغنطيسية وقوى الجاذبية الدّاخلية وموجات الجاذبية الخارجية التي تتشكل بين الكواكب والنّجوم والأجرام السّماوية الأخرى والمجرات، هذه القوى التي تجعل كلّ جرم سماوي يسير في مداره وفلكه فلا يصطدم بالآخر، ويبقى في مداره السّنين يجري ويجري إلى أجل مسمى.
سورة الغاشية [88: 19]
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} :
كيف نصبت كرواسي في الأرض؛ كي لا تميد وتضطرب فهي كالأوتاد تثبت الأرض اليابسة وتحفظ توازنها بالإضافة إلى القوى الأخرى، وقد دلت الدّراسات والأبحاث الجيولوجية أنّ ما نراه ظاهراً من الجبل فوق الأرض لا يمثل إلا الجزء الضئيل وما هو خفي تحت الأرض يمثل الجزء الأعظم من الجبل.
سورة الغاشية [88: 20]
{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} :
{سُطِحَتْ} : بسطت رغم كونها كروية الشّكل (بيضاوية) وتدور حول نفسها وحول الشّمس بسرعة (30كيلومتراً بالثّانية)، ومع ذلك لا نشعر بذلك الدّوران فهي كالمهد، وفي بداية خلقها كانت تضاريسها صعبة ولا تصلح للحياة عليها، ثم سخّر الله لها عوامل التعرية من الرياح والمياه الجارية والجليد وتباين درجات الحرارة بين الليل والنهار وبين الفصول مما ساعد على بري هذه الجبال بعوامل التعرية، ثم جرفت المياه هذا البري وخلقت السهول والأودية والطرق، وأصبحت الأرض سهلة وممهدة للحياة.
فمن نظر إلى هذه المخلوقات الأربعة يتبين له قدرة الله وعظمته على الخلق وعلى البعث وأنّه على كلّ شيء قدير، وأنّه هو الإله الحق الذي يستحق أن يُعبد ويطاع.
سورة الغاشية [88: 21]
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} :
المناسبة: أي إن لم ينظروا في هذه المخلوقات ويتعظوا بدلائل قدرته وعظمته فذكِّرهم بها.
{فَذَكِّرْ} : الفاء للتوكيد؛ أي: ذكر النّاس بدلائل قدرته ووحدانيته ونعمه، ذكرهم بربهم وبالآخرة والبعث والحساب، ذكرهم بالقرآن وبيوم القيامة، فذكر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين، ذكرهم بما نسوه وعظهم وأنذرهم وبشرهم.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة تفيد الحصر.
{أَنْتَ مُذَكِّرٌ} : أي ما عليك إلا البلاغ، مذكر: اسم فاعل من الفعل الرّباعي ذكّر، إنما أنت مذكّر: جملة تعليلية.
سورة الغاشية [88: 22]
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} :
{لَّسْتَ} : من أخوات كان تفيد النّفي، والتّاء اسم ليس.
{عَلَيْهِم} : على كفار مكة.
{عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} : لست مسؤولاً على إجبارهم على الإيمان كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} [ق: 45].
سورة الغاشية [88: 23]
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} :
{إِلَّا} : أداة استثناء منقطع: بمعنى المستثنى ليس بعضاً من المستثنى منه، فقوله: إلا من تولى وكفر، ليس استثناء من: لست عليهم بمصيطر وجاءت بمعنى لكن، أي لكن من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر.
{تَوَلَّى} : التولي: التباعد وهو أشد من الإعراض؛ أي: ابتعد وأعرض عن طاعة ربه والإيمان بما أنزل الله تعالى.
{وَكَفَرَ} : ولم يؤمن ويصدق بآيات ربه ورسله وملائكته واليوم الآخر.
سورة الغاشية [88: 24]
{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} :
{فَيُعَذِّبُهُ} : الفاء للتوكيد.
{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} : العذاب الأكبر: هو عذاب جهنم الذي وصف بالعذاب العظيم والأليم والمهين، وأما العذاب الأدنى أو العذاب الأصغر هو عذاب الدّنيا، وقوله: يعذبه العذاب الأكبر؛ لا يعني أنّه لا يعذبه العذاب الأصغر أو الأدنى فذاك يدخل في العذاب الأكبر.
سورة الغاشية [88: 25]
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{إِلَيْنَا} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر: إلينا وتفيد شدة الوعيد.
{إِيَابَهُمْ} : مرجعهم بعد النّشر والبعث من القبور للحساب والجزاء.
سورة الغاشية [88: 26]
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} :
{ثُمَّ} : لشدة التّباين بين الإياب والحساب فالحساب هو أعظم وأشد من الإياب (الرّجوع) وفي هذا تهديد ووعيد للكفار.
{إِنَّ عَلَيْنَا} : إنّ: للتوكيد، تقديم "علينا" تفيد الحصر؛ أي: حسابهم علينا وحدنا فلا يشاركنا فيه أحد، وعلى تفيد المشقة؛ أي: سيكون حساباً شاقاً ليس سهلاً كما يتصورونه.
سورة الفجر [89: 1]
سورة الفجر
ترتيبها في القرآن (89) وترتيبها في النّزول (10).
يقسم الله سبحانه بعدد من الآيات الكونية والأيّام والليالي الفضيلة في الإسلام للانتباه إليها واغتنام فضيلتها.
{وَالْفَجْرِ} :
الواو واو القسم، يقسم الله سبحانه وتعالى بالفجر والله لا يقسم إلا بشيء عظيم.
والله سبحانه غني عن القسم، والقسم من قبيل التنبيه إلى أهمية المقسم به، وجواب القسم، والفجر آية من آيات الله الكونية العظيمة الدالة على عظمته وقدرته في الخلق.
وقد بينت الدراسات العلمية أن الفجر فجران: الفجر الكاذب والفجر الصادق.
والفجر الكاذب: هو ناتج عن تفاعل أشعة الشمس مع نطق الحماية المحيطة بالأرض فعندما تصل هذه الأشعة إلى الأرض تنحني وتسبب ظهور الفجر الكاذب الذي يرى واضحاً عند القطبين وهو عبارة عن ستائر من الضوء تحوي ألوان الطيف المتعددة السبعة.
وأما الفجر الصادق: فهو ناتج عن أشعة الشمس التي تصل إلينا بصورة غير مباشرة من الشمس والمتضمنة ألوان الطيف السبعة ومنها اللون الأحمر وهو أطول الموجات وعلامة ظهور الفجر الصادق هو ظهور الشفق الأحمر ولأنه من الصعب رؤية الشفق الأحمر بالعين البشرية بسهولة فالله سبحانه هون علينا ذلك وأبدله بالشفق الأبيض أو النور الأبيض الذي نراه في بداية الفجر.
ويقسم الله بالفجر لأن نطق الحماية المحيطة بالأرض ومنها نطاق الأوزون ونطاق التاين والنطاق المغنطيسي والخارجي وغيرها.
هذه النطق بما فيها نطاق الأوزون تقترب من الأرض في زمن الفجر كي تعقم الجو وتقضي على كثير من مسببات الأمراض فزمن الفجر زمن مطهر مُعقم يشعر فيه الإنسان بالنشاط والطمأنينة وزمن مبارك أيضاً وتقع فيه صلاة التهجد والفجر.
سورة الفجر [89: 2]
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} :
أي الأيام العشر من ذي الحجة وأطلق على الأيام الليالي لأن اللغة تسمح بذلك أو بالعكس فهي أيام فضيلة وفيها يوم عرفة وفيها يتم الطواف والسعي وقيل هي الليالي العشر الأخيرة من رمضان وفيها ليلة القدر وتنكير الليالي للتعظيم.
سورة الفجر [89: 3]
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} :
قيل: الشفع: يوم النّحر يوم عيد الأضحى اليوم العاشر من ذي الحجة.
والوتر: اليوم التّاسع من ذي الحجة؛ أي: يوم عرفة.
وقيل الشّفع: الخلق جميعاً كقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، والوتر: هو الله تعالى الخالق فسبحانه خلق من كل شيء زوجين ليبقى متفرداً بالوحدانية. وقيل: الوتر الصّلاة ثلاث ركعات التي فيها ركعتا الشّفع وركعة الوتر.
سورة الفجر [89: 4]
{إِذَا} : شرطية ظرفية تفيد حتمية الحدوث.
{يَسْرِ} : يسري ذاهباً كقوله: {وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وقيل: يسر يعني: أقبل ثمّ ذهب وأدبر، وقيل: يسر من السّري: وهو السّير بالليل، والليل يبدأ بالمغرب وينتهي بالفجر أو بطلوع الفجر، والليل فيه صلاة المغرب والعشاء والتّهجد والوتر والفجر، وفيه ينزل سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، وقد يتضمن التفسير كل هذه الأمور.
سورة الفجر [89: 5]
{هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} :
{هَلْ} : للاستفهام التّقريري، جوابه محذوف وتقديره: نعم، وحذفه ليكون الجواب يشمل كلّ ما يجول في الذهن.
{فِى ذَلِكَ} : في ذلك القسم بهذه الآيات الكونية والأيام والليالي الفضيلة.
{قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} : قسم مقنع وكافٍ لكل ذي عقل، أو هذا القسم كاف لأصحاب العقول، وسمي العقل حجراً؛ لأنّه يمنع صاحبه من الوقوع فيما لا ينبغي، أو العقل ينهى أو يُحل، فإذا لم يكفهم هذا القسم فلا عقول لهم ولا هم يبصرون.
سورة الفجر [89: 6]
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام.
{تَرَ} : رؤية قلبية فكرية؛ أي: تعلم علم اليقين.
{كَيْفَ} : استفهام تقريري يراد به التّعظيم والتّفخيم: فعل ربك بعاد.
{فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} : أي قوم عاد، عاد الأولى نبيهم هو هود ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح الذين سكنوا الأحقاف وشيدوا فيها حضارة لم يعرف التاريخ مثلها، ولكنهم عصوا رسول ربهم فأرسل عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات، أو سماها الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية، فطمرت حضارتهم بالرمال وتحولت إلى تلال من الرمال كما نراها الآن.
سورة الفجر [89: 7]
إرم: أولاد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، سموا باسم جدهم كقبيلة إرم، (وإرم هو جد عاد) وقيل إرم اسم قبيلة.
وقيل: إرم: اسم البلدة التي كانوا يسكنونها، وقيل إرم اسم أمة من الأمم، ومعنى إرم القديمة.
{ذَاتِ الْعِمَادِ} : أهل العمد سكنوا الخيام ذات البناء المحكم المتميز بالقوة والشدة والسعة والطول، أو المساكن ذات القواعد (الأسس) المتينة المحكمة.
سورة الفجر [89: 8]
{الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ} :
لم يكن هناك من يشبههم في عظم الأجسام والقوة، ولم تكن هناك حضارة تشبه حضارتهم أو تضاهيها من حيث البناء والعمران والأعمدة والحضارة والزّراعة في ذلك الزمان، ولا تزال الحفريات وفِرق التنقيب تبحث عن تلك الحضارة المدفونة تحت الرمال.
سورة الفجر [89: 9]
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} :
وهم عاد الثانية وهم من بقايا قوم هود الذين آمنوا ونجوا إلى مكة بعد هلاك قوم هود، ثم هاجروا إلى الحجر أو شمال الحجاز وهي من أغنى أرض الجزيرة العربية بالماء والأنهار.
أي: ألم تر أيضاً إلى ما فعل الله بثمود قوم صالح، ومساكنهم في الحجر، فهم الذين جابوا الصّخر بالواد: قطعوا الصّخر ونحتوه واتخذوا من الجبال بيوتاً وقصوراً كقوله: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74].
{جَابُوا} : من الجَوب؛ أي: نحتوا الجبال والصخر بيوتاً.
سورة الفجر [89: 10]
{وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ} :
{ذِى} : أي صاحب الأوتاد.
{الْأَوْتَادِ} : قيل في تفسيرها عدة أقوال منها:
1 -
كان يعذب بأوتاد يضعها في أيدي الناس وأرجلهم، وقيل:
2 -
الأوتاد المباني الضّخمة، وقيل:
3 -
ذي الجنود والأعوان والقوة.
سورة الفجر [89: 11]
{الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَادِ} :
{الَّذِينَ} : تعود على عاد وثمود وفرعون هؤلاء الثّلاثة.
{الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَادِ} : استكبروا وتجاوز الحد في الظّلم والقهر. في البلاد: جمع بلدة.
سورة الفجر [89: 12]
{فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} :
"فأكثروا" تعود على عاد وثمود وفرعون، فأكثروا فيها القتل والتّعذيب والشرك بالله والتكذيب بآياته ورسله، وأكثروا فيها المعاصي والمنكرات. ارجع إلى سورة البقرة الآية (251) لبيان معنى الفساد.
سورة الفجر [89: 13]
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} :
{فَصَبَّ} : الصّب يعني: الكثرة والشدة والاستمرار، فشبّه نزول العذاب بهم بالمطر المنهمر عليهم من كل جانب.
{عَلَيْهِمْ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر عليهم خاصة، "عليهم" تعود على عاد وثمود وفرعون.
{رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} : كناية عن شدة وكثرة أشكال من العذاب مثل الرّيح الصّرصر العاتية والصّيحة والرّجفة والسّنين والطّوفان والجراد والقمل والغرق.
وسمى ضروب العذاب النّازلة بهم سوطاً؛ تسمية للشيء باسم آلته، وقيل: سوط عذاب؛ لأنّ التعذيب في ذلك الزّمان كان بالسّوط.
سورة الفجر [89: 14]
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} :
{إِنَّ رَبَّكَ} : إنّ للتوكيد.
{لَبِالْمِرْصَادِ} : اللام لام التّوكيد والتّعليل، بالمرصاد: الباء للإلصاق والملازمة، المرصاد: يرصد الأمور؛ أي: يرصد أعمالكم ويراقبها فلا يفوته شيءٌ من أعمالكم ليجازيكم عليها، والمرصاد: يمكن أن يطلق على المكان مكان الرّصد الذي يقف فيه الرّاصد، وفي هذه الآية تهديد ووعيد لمن استكبر وكذَّب بآيات ربه.
سورة الفجر [89: 15]
{فَأَمَّا} : الفاء استئنافية، أمّا: حرف شرط وتفصيل.
{الْإِنسَانُ} : اسم جنس الإنسان الكافر، أو أحياناً الإنسان المؤمن أو المسلم.
{إِذَا} : شرطية تفيد حتمية الحدوث والتّحقق.
{مَا} : تفيد التّوكيد.
{ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} : الابتلاء لا يكون إلا بتحمل المكاره والمشاقّ؛ أي: بالشر ويمكن أن يكون بالخير، وهنا يقصد به الخير.
{فَأَكْرَمَهُ} : بالغنى واليسر والسّعة في الرّزق والمال والعافية والذرية والجاه وغيره.
{وَنَعَّمَهُ} : أنعم عليه من فضله وإحسانه بالنّعم الظّاهرة أو الباطنة.
{فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ} : أي يظن هذا الإكرام له بالمال أو بغيره من النعم أنّه أهلٌ له ويستحقه، أو لأنّه مفضّل من ربه على غيره من النّاس، وهو ظن خاطئ.
وانتبه إلى اختيار كلمة "أَكْرَمَن" من أكْرَمَ، لا تعني إكراماً دائماً وإنما مؤقت أو قليل أو إكرام عادي، ولم يقل كَرَّمَن من كَرَّمَ، تعني كرم دائم، وفيه مبالغة في الكرم، وأكرمن تشير إلى أنه يطمع في الزيادة في الإكرام.
ولم يقل أكرمني: حذف ياء المتكلم فقال: أَكْرَمَن؛ لأن الإكرام بالمال وغيره من متاع الدنيا ليس هو الإكرام الحقيقي وإنما هو جزء من الإكرام.
سورة الفجر [89: 16]
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ} :
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} : أما حرف شرط وتفصيل.
{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} : أي ضيق عليه رزقه، وتقديم "عليه": عليه خاصة.
يظن هذا الإنسان أنّ هذا التّضييق إهانة له من الله له وذلة، وهذا غير صحيح وخاطئ، وإنما هو ابتلاء من الله تعالى ليختبره أيصبر أم يكفر.
{فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ} : ولم يقل أهانني، أهانن؛ أي: إهانة مؤقتة وأهانني تعني إهانة دائمة؛ فهو يعلم أن الله سيغير حاله لقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19].
سورة الفجر [89: 17]
{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر؛ أي: ليس المال أو النعمة أو العطاء دلالة على الإكرام من الله، وليس الفقر إهانة وذلاً كما تظنون خطأً، وإنما الغنى والفقر ابتلاء من الله للعبد ليقيم عليه الحجة أيشكر أم يكفر، أو يصبر أو لا يصبر، والابتلاء هو طهارة من الذنوب أو لرفع الدرجات.
"أهانن": حذف ياء النداء؛ لأن الفقر ليس هو السبب الحقيقي للإهانة والذل، كالطرد من رحمة الله.
{بَلْ} : حرف إضراب انتقالي.
{لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} : فهو رغم إكرامه لهذا الإنسان فهذا الإنسان لا يؤدي حق الله في ماله سواء بأداء زكاة أمواله أو بإكرام اليتيم أو إطعام المسكين، و"اليتيم" في اللغة: من فقد أباه قبل سن البلوغ من ذكر أو أنثى.
سورة الفجر [89: 18]
{وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} :
{وَلَا} : لا النّافية.
{تَحَاضُّونَ} : يحث بعضكم بعضاً، أو يوصي بعضكم بعضاً، وتحاضون: أصلها تتحاضُّون.
{عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} : على مساعدة المسكين المحتاج الذي ليس عنده ما يكفيه لسدِّ حاجته، لا إكرام لليتيم ولا إطعام للمسكين ولا كلاهما، والانتقال من الغائب إلى المخاطب كقوله:"كلا بل لا تكرمون اليتيم" بدلاً من القول كلا بل لا يكرمون ولا يحاضّون على طعام المسكين يدل على زيادة التوبيخ والعتاب.
سورة الفجر [89: 19]
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا} :
{وَتَأْكُلُونَ} : أي تأخذون.
{التُّرَاثَ} : اسم (لما يتركه الميت من الإرث) أي: الميراث.
{أَكْلًا لَّمًّا} : أي تأكلون نصيبكم ونصيب غيركم من الميراث، حيث كانوا لا يورّثون النّساء والصّبيان؛ أي: تأخذون الحلال والحرام، أكلاً: مصدر أكل؛ للمبالغة، لمّاً: مصدر للفعل الثّلاثي، لمَّ بمعنى: جمع المال سواء كان حلالاً أو حراماً وتفيد المبالغة، تأكلون: بصيغة المضارع تدل على التّجدد والتّكرار والاستمرار.
سورة الفجر [89: 20]
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} :
وتحبون المال حباً كثيراً، من الجم: أي الكثير، وجمّ الشّيء: كثرة، وجمّاً للمبالغة والشدة، وتحبون: بصيغة المضارع تدل على التّكرار والتّجدد والاستمرار، وتشير إلى المبالغة في حب المال وشدته.
سورة الفجر [89: 21]
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر لمن جمع المال الحرام، أو بخل بالتّصدق والزّكاة أو أكل حق الآخرين في الميراث وخاصة اليتيم.
{إِذَا} : ظرفية تفيد حتمية الحدوث وتحقق ذلك يوم القيامة.
{دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا} : الدّك هو الهدم والتّسوية النّاتج عن زلزلة الأرض يوم القيامة، والذي يؤدي إلى دكّ الجبال والأبنية وكلّ ما ارتفع فوق الأرض، كي تبدّل الأرض غير الأرض، وتبدّل بأرض جديدة واسعة للبلايين من الناس هي أرض المحشر استعداداً للحساب والقضاء.
{دَكًّا} : للتوكيد.
سورة الفجر [89: 22]
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} :
{وَجَاءَ رَبُّكَ} : المجيء: مجيء حقيقي، للقضاء بين النّاس وحسابهم وجزائهم كقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].
{صَفًّا صَفًّا} : قيل: محيطين بالخلق صفّاً صفّاً، أو مصطفّين صفّاً صفّاً حسب منزلتهم ومراتبهم، أو ينزلون من السماء صفاً صفاً.
سورة الفجر [89: 23]
{وَجِااءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} :
وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيء النّار في يوم القيامة في حديث رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلّ زمام سبعون ألف ملك.
ولا ننسى هذا العدد الكبير، ولا ننسى قوة وشدة هؤلاء الملائكة.
{يَوْمَئِذٍ} : تكرار "يومئذ" للتوكيد، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان ما قدّم وأخّر أو ما عمل في دنياه.
{وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} : أنّى لها عدّة معان: تحمل معنى كيف يتذكر، أو من أين تأتي له الذّكرى، وللاستفهام والتّعجب، وماذا يتذكر من الكم الهائل الذي عمله، وما فائدة تذكره؟ لن تنفعه الذّكرى إلا حسرة وندماً على ما فرّط في جنب الله سبحانه وتعالى.
سورة الفجر [89: 24]
{يَقُولُ يَالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} :
{يَقُولُ} : حين يرى أهوال يوم القيامة والعذاب.
{يَالَيْتَنِى} : الياء للتنبيه، ليتني: ليت أداة رجاء تستعمل للأمور المستحيلة الحدوث أو النّادرة.
{قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} : اللام لام التّعليل، قدّمت لحياتي: أي حياة الآخرة، وجاء بياء المتكلم؛ لأنّها هي الحياة الحقيقية الكاملة التّامة لا موت بعدها، يا ليتني: قدمت الكثير من الأعمال الصّالحة والتّقوى والإيمان، وهذا التّمنّي لن يحصل ويتحقّق أبداً.
سورة الفجر [89: 25]
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} :
{فَيَوْمَئِذٍ} : الفاء للتوكيد، يومئذ: ظرف أضيف إلى ظرف آخر، وأصلها يوم (ظرف) إذ (ظرف).
{لَا} : النّافية
{يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} : بكسر الذّال، الضّمير يعود إلى الله سبحانه؛ أي: لا يعذّب كعذاب الله تعالى أحدٌ.
وفي قراءة بفتح الذّال، والضّمير يعود إلى الإنسان الموصوف الذي يقول: يا ليتني قدمت لحياتي! أي: لا يُعذَّب أحدٌ مثل عذابه ولا يوثق بالسّلاسل والأغلال أحد مثله حسب درجة كفره وتكذيبه، والضّمير قد يعود إلى كلاهما، والله أعلم.
سورة الفجر [89: 26]
سورة الفجر [89: 27]
[36]
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} :
{يَاأَيَّتُهَا} : ياء النّداء، والهاء للتنبيه.
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} : أي: النفس الآمنة الساكنة المؤمنة المطمئنة بالإيمان، والرّاضية بقضاء الله والموقنة بما وعده.
سورة الفجر [89: 28]
{ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} :
يقال للنفس المطمئنة: {ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ} : يقال لها هذا عند الموت وخروجها من الدّنيا أو يوم القيامة بعد الحساب.
{رَاضِيَةً} : بالثّواب كقوله: رضي الله عنهم ورضوا عنه.
{مَّرْضِيَّةً} : مؤنث مرضي؛ مرضي: اسم مفعول من فعل رضي؛ أي: رضي الله عنها (مرضية عند الله تعالى) أي: رضي عنها وأرضاها، مرضية بالثواب وبما أعده الله تعالى لها من النعيم الدائم، وكل ما تشتهيه، وأكبر من ذلك رضوان الله ورؤية وجهه الكريم.
سورة الفجر [89: 29]
الفاء للترتيب الذّكري (عاطفة)، "في عبادي" ولم يقل مع عبادي؛ "في" تعني أصبح منهم، بينما "مع" أي دخل مصاحباً لهم وليس منهم.
{فَادْخُلِى فِى عِبَادِى} : أي في عبادي الصّالحين أو المتقين أو الشّهداء أو الصّديقين حسب درجتها.
سورة الفجر [89: 30]
{وَادْخُلِى جَنَّتِى} :
يقال لها ذلك يوم القيامة وإضافة الجنّة له سبحانه تشريفاً للجنة وهي جنته، اسم جنس تشمل كلّ الجنات: الفردوس وعدن والخلد والمأوى، وادخلي جنتي برحمتي وفضلي وكرمي.
سورة البلد [90: 1]
سورة البلد
ترتيبها في القرآن (90) ترتيبها في النّزول (35).
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} :
{لَا أُقْسِمُ} : ارجع إلى سورة القيامة الآية (1) للبيان.
{بِهَذَا الْبَلَدِ} : الباء باء القسم، هذا: الهاء للتنبيه، ذا اسم إشارة للقرب، البلد: مكة المكرمة، ومن أسمائها: أم القرى، والبلد الأمين، وبكة، وأقسم بها لشرفها وعظمتها وحرمتها عند الله تعالى وأحبها إليه، ففيها البيت الحرام الذي هو أوّل بيت وضع للناس وفيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأما من الناحية العلمية فعلينا أن نعلم أن أرض مكة هي أول أرض تشكلت على اليابسة، وهي تعتبر وسط اليابسة. ارجع إلى سورة الشورى آية (7) للبيان.
سورة البلد [90: 2]
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} :
{وَأَنْتَ} : المخاطب هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{حِلٌّ} : أي الحالّ؛ أي: المقيم بهذا البلد، أو حلٌّ: مشتقة من الحِلّ: ضد الحرام؛ أي: غير محرّمة عليك، كما حدث يوم فتح مكة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكر في صحيح البخاري وسيرة ابن هشام، وهذا بعض ما قاله صلى الله عليه وسلم:«أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، ولم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضباً على أهلها ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب» إلى نهاية الحديث، وتكرار "بهذا البلد" مرتين للتوكيد والتّعظيم.
سورة البلد [90: 3]
{وَوَالِدٍ} : الواو واو القسم.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} : ولم يقل ووالد ومن ولد، "ما" أوسع تشمل الكلّ النّاس والجن والحيوان، ووالد تعني:
1 -
آدم، وما ولد: بنو آدم، أي ذريته.
2 -
ووالدٍ تعني: كل والد وما ولد من الأولاد، وتشمل النّاس والجن والحيوان، ونكّر والدٍ وما ولد: للإبهام والمدح والتّعجب.
سورة البلد [90: 4]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ} :
جواب القسم.
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد للتحقيق والتّوكيد أيضاً.
{خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ} : في: ظرفية؛ كبد: مشتقة من أوجعته كبده؛ أي: مصاب بوجع الكبد، والكَبَد: المشقة والتّعب؛ أي: خلق الإنسان ليكابد ويتحمل المشاقّ والمصاعب والشّدائد في الدّنيا، فعليه أن يصبر ولا يجزع ولا يكون هلوعاً إذا مسه الشّر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً.
سورة البلد [90: 5]
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} :
{أَيَحْسَبُ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري والتّوبيخ، هذا الإنسان المغترّ بقوته وشدته ومكابدته وتحمله البأساء والضّراء.
يحسب: من حسب؛ أي: يظن ظناً راجحاً أو يعتقد.
{أَنْ} : للتوكيد.
{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} : أيحسب هذا الإنسان لشدته وقوته وكونه مكابداً للمشاقّ والمصاعب أن لا يقاومه أحد من النّاس، أو لا يقدر على الانتقام منه أحدٌ؟ وبمعنى آخر: لن يحاسبه على عمله أحد ويدخله جهنم وساءت مصيراً.
سورة البلد [90: 6]
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} :
{يَقُولُ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على تكرار القول والتّجدد "يقول" مفتخراً ومتباهياً بما أنفقه من المال الكثير.
{أَهْلَكْتُ} : أنفقت.
{مَالًا لُبَدًا} : اللبد الكثير من: تلبّد الشّيء إذا اجتمع بعضه فوق بعض على شكل طيّات، يقول مفاخراً أو نادماً: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة ومحاربة الله ورسوله والإسلام أو أهلكت مالاً لِبَداً على شهواته ومعاصيه.
سورة البلد [90: 7]
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} :
{أَيَحْسَبُ} : ارجع إلى الآية: "أيحسب ألن يقدر عليه أحد".
{أَنْ لَّمْ} : أن: للتوكيد، لم: للنفي.
{يَرَهُ أَحَدٌ} : حين أنفق ماله في محاربة الله ورسوله، أو رياء أو في شهواته ومعاصيه، أحسب أن الله سبحانه لم يره أو كان مطلعاً عليه أو ملائكته الكرام الكاتبين الشاهدين على أفعاله.
سورة البلد [90: 8]
{أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ} :
{أَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام التّقريري وفيها معنى التّوبيخ.
{عَيْنَيْنِ} : ليُبصر بهما.
سورة البلد [90: 9]
{وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} :
{وَلِسَانًا} : ينطق به ويعبر عما يجول في مراده.
{وَشَفَتَيْنِ} : يستعين بهما على النّطق والأكل.
سورة البلد [90: 10]
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} :
{وَهَدَيْنَاهُ} : بالفطرة وبإرسال الرّسل وإنزال الكتب والآيات والبينات، بينّا له طريق الهدى وطريق الضّلال طريق الخير وطريق الشّر، وبينّا له الحق من الباطل والحلال والحرام، وهديناه إلى كل ما يحتاجه من الهداية في حياته.
{النَّجْدَيْنِ} : والنّجد: هو الطّريق العالي المرتفع، النّجدين مثنى نجد، شبه طريق الخير والهدى بالطريق المرتفع العالي الموصل للغاية.
سورة البلد [90: 11]
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} :
لها معان عدة كلها محتملة:
1 -
فلا: أصلها أفلا حذفت الهمزة، "أفلا" تعني الاستفهام والتّقرير؛ أي:"أفلا" للحض والحث؛ أي: أفلا سلك طريق النّجاة والخير وجاهد نفسه في الطّاعات للوصول إلى الغاية الكبرى، وهي رضوان الله والنجاة من النار والفوز بالجنة.
2 -
أو: فلا الفاء عاطفة لا النّافية لكل الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل؛ أي: لم يقتحم العقبة في الماضي (فيما مضى من عمره) وأنّه لن يقتحمها في المستقبل.
3 -
فلا اقتحم العقبة: تحتمل أن تكون دعاء عليه بأن لا يقتحم العقبة مثل قوله: لا نصرك الله.
4 -
استفهام يراد به التّوبيخ، أو خبر.
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} : الاقتحام: الدّخول بشدة وبسرعة أو المجاوزة وصعوبة، والقحمة هي الشّدة والمهلكة، العقبة: الطّريق الوعر في الجبل صعب السّلوك، واستعير بدل الأعمال الصّالحة الشّاقة على الأنفس.
ثم سئل إذا كان يدري: ما معنى العقبة وكيف يقتحم العقبة؟ في الآيات (12-16) ليكون من أصحاب الميمنة.
سورة البلد [90: 12]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} :
{وَمَا} : للاستفهام والتّفخيم والتّعظيم والتّهويل.
{أَدْرَاكَ} : من درى؛ أي: علم بعد جهل، واستخدم أو استعمل كلّ الأساليب للوصول إلى الدّراية؛ أي: من أخبرك وأعلمك وبيّن لك ما العقبة، ومهما أخبرك أو أطلعك عليه من علم فلن تعلمها علم اليقين حتّى تراها بعينيك. ارجع إلى سورة الحاقة لمعرفة الفرق بين أدراك ويدريك.
سورة البلد [90: 13]
{فَكُّ رَقَبَةٍ} :
من الأسر أو السجن أو الظلم والاضطهاد.
فكّ رقبة يعني: تخليصها أو المساهمة في التخليص والتحرير (كصدقة).
والفك: مشتق من حلّ القيد، ويختلف فك رقبة عن تحرير رقبة من الرّق والعبودية الذي لم يُعد يوجد اليوم، وسمي المرقوق رقبة؛ لأنّ الرّقيق كالأسير المربوط في رقبته، وجاء الإسلام ليخلص النّاس من الرّق والعبودية ويحررهم من براثن الجاهلية، أو تحرير رقبة شراؤها بالكامل أو فكّها بالكامل، وتحرير رقبة جاءت في سياق الكفارة.
سورة البلد [90: 14]
{أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} :
{أَوْ} : أو تفيد أحد الأمرين، ولو جاء بالواو لكان عليه فعل كلا الأمرين، وهذا أكثر صعوبة.
{مَسْغَبَةٍ} : السَّغب: الجوع، المسغبة: مصدر من فعل سغب وزيادة التاء للمبالغة؛ أي المجاعة العامة التي تشمل الجميع (المجتمع) وليس الفرد وحده والتي يرافقها الإصابة بالتّعب والإرهاق، وأما المخمصة: فهي المجاعة التي تصيب الفرد لوحده وليس الجماعة.
والمخمصة: الجوع الذي يرافق ضمور بالبطن، فهي أشد من المسغبة.
وقوله {إِطْعَامٌ} : أي إطعام الفقراء والمساكين في زمن الطّعام فيه مفقود وغير متوفر وقليل، وقد يكون ثمنه غالياً فإطعام الطّعام في المسغبة لليتيم ذي المقربة أو للمسكين ذي المتربة هو نوع أو مثال على اقتحام للعقبة.
مراتب الحاجة إلى الطّعام هي: الجوع ثمّ السّغب ثمّ الفرث ثمّ الطّوى ثمّ المخمصة ثمّ الضّرم ثمّ السّعار، والجوع: هو الإحساس الذي يتولد عن خلو المعدة من الطعام.
مراتب الحاجة إلى الماء هي: العطش ثمّ الظّمأ ثمّ الصدى.
سورة البلد [90: 15]
اليتيم القريب في النّسب: واليتيم هو من فقد أباه قبل سن البلوغ، وذا مقربة: أي قريب في النسب.
سورة البلد [90: 16]
{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} :
{أَوْ} : تفيد التخيير في أحد الأمرين.
{ذَا مَتْرَبَةٍ} : مشتقة من كلمة تَرِب: أي افتقر، ومعناه: التصق بالتّراب؛ أي: يبيت على التراب، أو يعيش قرب المزابل ليبحث عن الفضلات وبقايا الطّعام.
وذو متربة: أو مأواه ومسكنه الطّريق (أي التّراب) لا بيت له إلا قارعة الطّريق، وظهر على وجهه وجسده علامات شدة الجوع والفقر بأن أصبح وجهه شاحباً يشبه لون التّراب.
سورة البلد [90: 17]
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} :
{ثُمَّ} : لتباين درجة أو رتبة الإيمان مقارنة بدرجة الصّبر والمرحمة، فالأصل هو الإيمان وهو شرط لقبول العمل الصالح مثل:(فك رقبة أو الإطعام) والالتزام (التواصي) بالصبر وبالمرحمة.
{كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} : الإيمان أوّلاً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} : الباء للإلصاق والدّوام؛ أي: وصّى بعضهم بعضاً بالصّبر والثّبات على الإيمان والصّبر على الشّدائد.
والصّبر على تجنّب المعاصي، وقرن الصّبر بالرّحمة؛ فلا بدّ أن يكون إطعام الفقير مصحوباً بالرّحمة.
فقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} : التّعامل بالرّحمة والتّعاطف، وقدّم التّواصي بالصّبر على التّواصي بالمرحمة؛ لأنّ الصّبر يدخل في كلّ العبادات وفعل الأعمال الصّالحة والمعاملات.
وتكرار كلمة "تواصوا" والباء مرتين "تواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة" يعتبر من أقوى وأشد الأقوال والتّوصيات على الإطلاق، فهو لم يقل وتواصوا بالصّبر وبالمرحمة فهذا أقل شدة وقوة من القول الأوّل، ولم يقل تواصوا بالصّبر والمرحمة وهذا أقل شدة وقوة من القول الثّاني.
وإذا قارنّا هذه الآية (17) من سورة البلد {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} مع الآية (3) من سورة العصر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} : السّياق في سورة العصر مختلف تماماً عن السّياق في سورة البلد.
السّياق في سورة البلد عن المسغبة والتواصي بالصّبر والتّراحم وإطعام القريب والفقير.
أمّا السّياق في سورة العصر فهو عن الإنسان الخاسر بشكل عام، واستثنى من هؤلاء الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصّبر؛ أي: بالالتزام بالدين والإيمان والصبر.
سورة البلد [90: 18]
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يشير إلى الذين فكُّوا رقبة وأطعموا في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة.
{أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} : الذين يؤتَون أو يعطَون كتبهم بأيمانهم يوم القيامة؛ أي: السّعداء أصحاب الجنة، ولم يقل أصحاب اليمين وقال:"أصحاب الميمنة"؛ لأنّ أصحاب الميمنة: تجمع أصحاب اليمين هؤلاء وفئات أخرى من الذين تواصَوا بالحق وتواصَوا بالجهاد وتواصَوا بالدّعوة، وهم كذلك أصحاب اليُمن: الخير والبركة.
سورة البلد [90: 19]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْـئَمَةِ} :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} : أي جحدوا وأعرضوا ولم يؤمنوا بآيات القرآن والآيات الكونية، والبينات الدّالة على وجوب الإيمان بالله وحده وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{هُمْ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد.
{أَصْحَابُ الْمَشْـئَمَةِ} : أصحاب النّار، والمشئمة: من الشّأم أو الشُّؤم وتعني: الشّقاء والضّلال؛ أي: الذين يعطَون كتبهم بشمائلهم؛ أي: بأيديهم اليسرى، ولم يقل أصحاب الشّمال؛ لأنّ أصحاب المشئمة تضمّ أصحاب الشّمال وغيرهم من الطّوائف الأخرى الكافرة.
سورة البلد [90: 20]
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} :
{عَلَيْهِمْ} : على تفيد المشقة والصعوبة والجهة.
{مُّؤْصَدَةٌ} : مطبِقة عليهم ومغلقة: مؤصدة: اسم مفعول من فعل أصد: بمعنى أطبق؛ أي: كأنّها جاءت من أعلى وأطبقت عليهم، فهي ليست مرتفعة كثيراً عن رؤوسهم.
وقدّم كلمة عليهم: التي تفيد الحصر؛ أي: عليهم وحدهم مؤصدة فهم من الخالدين فيها أبداً، فهناك من عصاة المؤمنين الذين سيخرجون منها بعد عقابهم فيها.
وقال: مؤصدة، بالهمزة ولم يقل موصدة؛ لأنّ الهمزة على حرف الواو أثقل وأشدّ وهذا يناسب الموقف والشّدة التي هم فيها.
ولم يقل في عمد ممددة: فربما هناك أماكن من النّار تكون مؤصدة وأماكن موصدة في عمد ممددة حسب نوع الكفر والمعاصي والسّخرية والتّكبر، كلّ طبقة أو فئة لها مكانها المحدد، والله أعلم. ارجع إلى سورة الهمزة الآية (9) للبيان.
سورة الشمس [91: 1]
سورة الشمس
ترتيبها في القرآن (91) وترتيبها في النّزول (26).
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} :
أقسم الله سبحانه بست آيات من أعظم الآيات الكونية، التي تدل على عظمته وقدرة خلقه، والدّالة على وحدانيته وأنّه الإله الحق الذي سخَّر هذه الآيات لمصلحة الإنسان وفائدته.
{وَالشَّمْسِ} : الواو واو القسم، والله غني عن القسم، والقسم غايته تنبيه السامع إلى أهمية المقسم به وجواب القسم.
يقسم الله سبحانه بالشمس وهي أقرب نجم إلينا، وهي عبارة عن فرن نووي درجة الحرارة في داخله تزيد على (15 مليون درجة) وعلى سطح الشمس (6000 درجة) وألسنة اللهب التي تمتد إلى ملايين الكيلومترات، ولولا نُطق الحماية المتعددة حول الأرض لاحترقنا بألسنة اللهب، فالشمس هي مصدر الطاقة لكوكب الأرض وطعامنا وأجسامنا تعتمد على طاقة الشمس، فهي من أعظم القدرات الإلهية.
{وَضُحَاهَا} : الضّحى: ضوء الشّمس إذا أشرقت (عند الشّروق)، هذا الضوء الذي يسير بسرعة تصل إلى (300 ألف كيلو متر في الثانية)، ومن المفسرين من قال: الضحى الزمن ما بين طلوع الشمس وزوالها؛ أي: وقت الظهيرة.
ومنهم من قال: الضحى يطلق على طول النهار؛ أي: زمن ظهور الشمس.
وما يحدث في النهار من الكدح والسّعي لطلب الرّزق والعمل في أوّل النّهار.
سورة الشمس [91: 2]
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} :
{إِذَا} : ظرفية.
{وَالْقَمَرِ} : الواو واو القسم، يقسم الله تعالى بالقمر الذي يبعد عن الأرض (238، 855ميلاً)، وحجمه يعادل (27%) من حجم الأرض، وقطر القمر (1، 737، 5كم)، والقمر دائماً يقابل الأرض بنفس الوجه ويعكس أشعة الشمس في الليل فيبدو منيراً، مع العلم أن سطح القمر مظلم، وقد تشكل القمر قبل (4، 5 بليون سنة) والقمر لا يدور حول نفسه، لذلك نرى سطح القمر المقابل للأرض دائماً ولا نرى السطح الآخر، والقمر يدور حول الأرض دورة في كل (27، 3يوماً) ويأخذ في دورانه أشكال مختلفة تسمى منازل (منازل القمر).
{إِذَا تَلَاهَا} : إذا تلا الشّمس؛ أي: طلع بعد غروب الشمس ليعكس نور الشّمس الواقعة عليه، يعكسه على كوكب الأرض فينوّرها خلال الليل، والشمس تنوّر نصف الكرة الأرضية المقابل لها خلال النهار.
سورة الشمس [91: 3]
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} :
{وَالنَّهَارِ إِذَا} : الواو واو القسم، النّهار إذا: ظرفية.
{جَلَّاهَا} : الضّمير في "جلاها" حقيقة يعود إلى الشّمس وإلى الأرض معاً وليس كما يُظن يعود إلى أحدهما.
النّهار: هو الطّبقة الغازية المحيطة بالأرض والتي تضيء حين تقع عليها أشعة الشّمس مما يجعل كوكب الأرض في حالة النّهار، ارجع إلى سورة يونس آية (67)، لمزيد من البيان.
جلّاها: كشفها، من الجلاء وهو: الظّهور، فالنّهار يكشف ويظهر لنا كلاً من الشّمس منبع الضّوء والنّور، ويكشف ويظهر لنا الأرض أيضاً فنراها، ولولا النّهار لما رأينا الشّمس ولما رأينا الأرض.
سورة الشمس [91: 4]
{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} :
{وَالَّيْلِ} : الواو واو القسم.
{إِذَا} : ظرفية.
{يَغْشَاهَا} : أي يغشى الأرض؛ أي: يغطيها بظلامه ليسمح للإنسان بالسّكون والرّاحة، يغشاها: فهو لا يغشى كلّ كوكب الأرض وإنما يغشى نصف كوكب الأرض، بينما النّصف الآخر يكون في حالة النّهار، فالأرض تتحرك أمام الشمس، فحين يأتي نصفها البعيد أو الغير مقابل لقرص الشمس يشكّل ظلمة الليل وتلتقي ظلمة الليل مع ظلمة الكون (لأن الكون في الأصل ظلام).
سورة الشمس [91: 5]
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} :
{وَالسَّمَاءِ} : اسم جنس تشمل السّموات السّبع كسبع كرات تغلّف الواحدة الأخرى، وما نراه فقط السماء الدنيا.
{وَمَا} : ما الاستفهامية للتعظيم والتّعجب.
{بَنَاهَا} : ركّبها وجعلها طبقات، بناها بلا أعمدة نراها، بناها بالقوى النّووية والكهربائية والمغنطيسية وقوى الجاذبية، بناها بقوة متماسكة، وما بناها يقصد به عظمة بنائها وعظمة الخالق الذي بناها، فما نراه هو جزء ضئيل من السماء الدنيا فما بالك بالسموات السبع، والمجرة الشمسية التي فيها البلايين من النجوم كشمسنا، ومجرّتنا جزء من التجمُّع المجرّي الأعظم والأعظم فقد قدّر العلماء أن هناك ما يقارب (500، 000 مليون مجرة) تتحرك بحيث يظل كل جرم فيها يتحرك بنظام ثابت لا يتغير أبداً.
سورة الشمس [91: 6]
{وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} :
{وَالْأَرْضِ} : كوكب الأرض.
{وَمَا} : ما استفهامية تفيد التّعظيم والتّعجب.
{طَحَاهَا} : بسطها ومدّها وجعلها كروية، وجعلها مستقرة لا يشعر الإنسان بحركتها رغم كونها تدور (30) كيلو متراً بالثانية.
وأمّا الفرق بين دحاها وطحاها: دحاها أي: أخرج منها غلافها المائي والغازي من جوفها، بثورة البراكين وقدف الحمم الغازية وبخار الماء. وطحاها كما بينا: بسطها ومدها وجعلها مستقرة.
سورة الشمس [91: 7]
{وَنَفْسٍ} : نكرة أيّ نفس، والنّفس ليس هي الرّوح كما ظن البعض، والنّفس كما تشير الأبحاث العلمية المقرونة بهدي الشّريعة الإسلامية، أنّ النّفس قد تكون هي منطقة في الدّماغ الذي يسمى جهاز لمبك الذي يتحكّم بالتّفكير والذاكرة والأحاسيس والتميز والاختيار وغيرها.
{وَمَا سَوَّاهَا} : ما أبدعها، وخصّها بالصفات الوراثية الخاصة بها.
سورة الشمس [91: 8]
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} :
{فَأَلْهَمَهَا} : بيّن لها طريق الهدى والرّشد والخير (طريق التّقوى) عن طريق الإيمان الفطري منذ كانت في صلب آدم كما قال تعالى في سورة الأعراف آية (172): {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وأيضاً بإرسال رسله وكتبه.
{فُجُورَهَا} : بيّن لها فجورها كيف يحصل أو يتم بالإدمان على المعصية والإصرار عليها والكفر والشرك وعدم التّوبة، والسّير في طريق الضّلال والكفر.
سورة الشمس [91: 9]
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} :
قيل: هذا جواب القسم، بالإضافة إلى:"وقد خاب من دسّاها"، وهناك من قال: جواب القسم محذوف ليشمل كلّ الاحتمالات المقدّرة.
{قَدْ} : حرف للتحقيق يفيد التّوكيد.
{أَفْلَحَ} : فاز ونجا، فاز بالجنة ونجا من النّار.
{مَنْ} : ابتدائية.
{زَكَّاهَا} : طهّرها من الذّنوب مثل الكفر والشّرك والآثام والمعاصي، زكّاها: نمّاها بالتّقوى والعمل الصّالح.
سورة الشمس [91: 10]
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} :
{وَقَدْ} : حرف للتحقيق والتّوكيد.
{خَابَ} : الخائب: المنقطع أمله، أو الذي منع من أن ينال ما أمل؛ أي: خسر وانقطع أمله في النجاة.
{مَنْ} : بمعنى الذي.
{دَسَّاهَا} : أصلها من التّدسيس: وهو إخفاء الشّيء في الشّيء، دسّ الشّيء إذا أخفاه بين شيئين حتّى لا يظهر؛ أي: طمر نفسه وغمرها وأثقلها بالذّنوب والمعاصي والشرك والكفر والضلال حتى لم تعد ظاهرة، أو لها أيّ وزن أو قيمة.
سورة الشمس [91: 11]
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} :
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ} : كذّبت قبيلة ثمود بنبيهم صالح وبما أرسل به من ربه، وثمود هم عاد الثانية جاؤوا بعد عاد الأولى وسكنوا الحجر أو مدائن صالح شمالي الحجاز. وجاء بصيغة الكثرة كذبت، مع أنها كذبت بصالح؛ لأن من يكذب رسولاً فقد كذب كل الرسل.
{بِطَغْوَاهَا} : الباء: باء السّببية أو التّعليلية؛ طغواها: مصدر من فعل طغى يطفى؛ أي: بسبب طغواها، طغواها: إفراطها في الكفر والطّغيان والبغي والظّلم؛ أي: كذبت ثمود بصالح بسبب طغيانها وتمردها.
سورة الشمس [91: 12]
{إِذِ} : ظرفية بمعنى حين وتفيد الفجائية.
{انْبَعَثَ} : انبعثت: من قبيلته؛ أي: أرسل متهيجاً ثائراً، وقام مسرعاً بعد أن حثّه وحرّضه قومه على عقر الناقة.
{أَشْقَاهَا} : الشقاوة: التولي عن الإيمان والانغماس في الكفر والضلال وانتهاك حرمات الله، والبعد عن الحق، والشقاوة مكتسبة، وتؤدي إلى خسارة الدارين القبيلة وهو قدار بن سالف.
سورة الشمس [91: 13]
{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} :
{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} : الفاء للترتيب والمباشرة، قال لهم؛ أي: قال لهم نبيهم صالح رسول الله.
{نَاقَةَ اللَّهِ} : سماها ناقة الله تشريفاً لها، وحذّرهم منها سابقاً وقال لهم: إياكم بأن تمسوها بسوء.
{وَسُقْيَاهَا} : أي ذروها تشرب كما تشاء في يومها، وقال لهم سابقاً:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
سورة الشمس [91: 14]
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} :
{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، كذّبوه: أي كذّبوا نبيهم صالحاً ولم يصدقوا ما حذّرهم من العذاب، ولم يصدقوا برسالات ربهم، وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين.
{فَعَقَرُوهَا} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، عقروا النّاقة: نحروها ذبحوها.
{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} : أطبق عليهم العذاب؛ من دمدم القبر: أي أطبق القبر أو ردم القبر، بذنبهم: الباء السببية، بسبب ذنبهم.
{فَسَوَّاهَا} : أطبق أو أحاط؛ أي: بهم العذاب لم يفلت أو ينجُ منهم أحدٌ إلا صالح والذين آمنوا معه، أو سوّاها: من التسوية؛ أي: نالهم العقاب الذي يستحقونه.
سورة الشمس [91: 15]
{وَلَا يَخَافُ} : ولا يخاف الله سبحانه عقبى الدّمدمة أو تبعة إهلاكهم واستئصالهم، فليس هناك من سيسأل الله تعالى: لمَ فعل ذلك بهم؟ حيث جعلهم كهشيم المحتظر.
عقباها: اسم بمعنى عاقبة ما يفعل سبحانه؛ أي: لا يخاف الله سبحانه عاقبة ما يفعل.
سورة الضحى [93: 1]
سورة الضحى
ترتيبها في القرآن (93) وترتيبها في النّزول (11).
{وَالضُّحَى} :
الواو واو القسم، والله غني عن القسم.
ويقسم الله ليبيّن أهمية المقسم به وجواب القسم، والضحى: هو أول النهار يبدأ لحظة بزوغ الشمس أو ظهور أشعة الشمس أو بداية النهار، ومنهم من يقول: الضحى كل النهار؛ ففي الآية (1) في سورة الليل أقسم الله بالليل، وفي هذه الآية يقسم بالضحى؛ أي: النهار لدلالة على كروية الأرض ودورانها وأهمية الليل والنهار.
سورة الضحى [93: 2]
ويقسم الله بالليل أيضاً للدلالة على أهمية الليل.
{إِذَا} : ظرفية تفيد حتمية الحدث.
{سَجَى} : أظلم أو سكن، أو حين يغمر نصف الكرة الأرضية الغير مقابلة للشمس بظلامه وما يصاحبه من سكون وهدوء، والقسم بالضحى وبالليل إشارة إلى دوران الأرض حول محورها أمام الشمس، حتى يتبادل على سطحها الليل والنهار (الضحى) وتبادل الليل والنهار ظاهرة لازمة لاستقامة الحياة على الأرض؛ لأن غالبية الأحياء لا تستطيع العيش بوضح النهار باستمرار ولا بظلمة الليل باستمرار.
سورة الضحى [93: 3]
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} :
هذا هو جواب القسم.
سبب النّزول: كما روى البخاري قيل: لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها قالت امرأة من قريش (قيل هي: أم جميل امرأة أبي لهب) للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى شيطانك إلا ودّعك.
وفي حديث عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إنّ محمّداً ودّعه ربه وقَلَاه، فنزلت هذه الآية.
{مَا وَدَّعَكَ} : ما النّافية، ودّعك ربك: ما تخلّى عنك ربك، ودّعك من: التّوديع ويكون بين المتحابين.
{وَمَا قَلَى} : تكرار (ما) لتوكيد النّفي، وفصل كلاً على حدة؛ أي: ما ودّعك وما قلى، والقلي: البغض الشديد مع النفور.
ودّعك: بصيغة المخاطب، وقلى: بصيغة الغائب.
ولم يقل قلاك؛ إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
سورة الضحى [93: 4]
{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} :
{وَلَلْآخِرَةُ} : اللام للتوكيد، الآخرة: الدّار الآخرة.
{خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} : أي ما أعدّ الله تعالى لك في الدار الآخرة؛ أي: الجنة خير لك مما آتاك الله في الدّنيا، لك: المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، اللام لام الاختصاص.
سورة الضحى [93: 5]
{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} :
{وَلَسَوْفَ} : اللام لام التّوكيد، سوف: أداة الاستقبال البعيد؛ أي: في الآخرة.
{يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} : العطاء فيه معنى التّملّك بعكس الإيتاء، يعطيك كل ما تطلبه وتتمنّاه في الآخرة مثل: الكوثر والشّفاعة والحوض والكرامة والجنة والمقام المحمود وغيرها. ارجع إلى سورة البقرة الآية (251) لمعرفة الفرق بين الإيتاء والعطاء.
{فَتَرْضَى} : الفاء للمباشرة والتّعقيب، ترضى: من الرّضا: القبول المؤدي إلى اطمئنان القلب أو النّفس واستقرارها، ولم يقل لترضى؛ لأن رضى الرسول صلى الله عليه وسلم دائم عن ربه ومستمر سواء تحقق ما يطلبه أو لم يتحقق.
سورة الضحى [93: 6]
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{يَجِدْكَ يَتِيمًا} : حين مات أبوه وهو جنين في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن (6) سنوات، ثمّ كفله جده عبد المطلب حتى بلغ (8) سنين، ثم كفله عمه أبو طالب، واليتيم: هو الذي فقد أباه قبل سن البلوغ.
{فَآوَى} : الفاء للتعقيب والمباشرة، جعل لك مأوى تأوي إليه حيث ضمّك إلى جدك ثم عمك، والذي تكفل له ذلك هو الله سبحانه، فرعايته سبحانه هي أهم من رعاية الأهل والأقارب.
سورة الضحى [93: 7]
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} :
{ضَالًّا} : الضلال هنا يعني {مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]؛ أي: هو الحيرة في وسط بيئة مشركة، ولا يعني ضلال العقيدة كالكفر والشّرك بالله تعالى.
{فَهَدَى} : الفاء للتعقيب والمباشرة؛ هداك الله إلى الإيمان والكتاب واختارك للنبوة وأنزل عليك الكتاب للناس بالحق، وهداك إلى الإسلام والحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام .
سورة الضحى [93: 8]
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} :
{وَوَجَدَكَ عَائِلًا} : ذا عيال، ولم يقل فقيراً.
{فَأَغْنَى} : بما يسّر لك وفتح عليك من أبواب الرّزق مثل التّجارة في مال خديجة، وبالغنائم والفيء وبما يسّر لك من المال، ثم أوصاه بثلاث وصايا وهي في الحقيقة وصايا للمسلمين كافة وهي:
سورة الضحى [93: 9]
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} :
ودعا نبيه إلى الإحسان إلى اليتيم والسائل فقال تعالى:
{فَأَمَّا} : الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر تقديره: بما أن الله آواك وهداك وأغناك فلا تقهر اليتيم، أما: حرف شرط وتفصيل.
{الْيَتِيمَ} : الذي مات أبوه قبل سن البلوغ.
{فَلَا} : الفاء للتوكيد، لا: النّاهية، الخطاب موجّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتّالي إلى أفراد أمته.
{تَقْهَرْ} : ادفع إليه حقه كاملاً ولا تأكل ماله إلى مالك ولا تقهره، بأخذ ماله أو حقه لضعفه، أو تأكل ماله إسرافاً وبداراً، وأكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الآية فوصّى فقال صلى الله عليه وسلم:«أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. رواه البخاري وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
سورة الضحى [93: 10]
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} :
{وَأَمَّا} : الواو عاطفة، أما: حرف شرط وتفصيل.
{السَّائِلَ} : لها احتمالان الأول: أي الفقير أو المحتاج (ذو الحاجة) فلا بدّ أن تعطيه ولا ترده صفر اليدين، وإذا لم تستطع، قل له قولاً معروفاً. الثّاني: السائل عن علم ينتفع به أو السّائل عن أمور دينه، فأجِبه وعلّمه برضى وبدون جفاء وليتّسع صدرك له، وقد تشمل السائل عن الماعون أيضاً.
سورة الضحى [93: 11]
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} :
{وَأَمَّا} : الواو عاطفة، أما: حرف شرط وتفصيل.
{بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : بنعمة ربك؛ أي: النّبوة ونعمة الإيمان والقرآن ونعمة الإسلام ونعمة العلم والغنى والصّحة والأهل وغيرها.
{فَحَدِّثْ} : فاشكر أو حدّث عنها ولا تخفيها، وحدّث تعني: تكرار الحديث؛ أي: فحدّث مرات عديدة.
وما يلفت النّظر في هذه السّورة ترتيب أو تقابل آياتها أمثلة: الآية (6){أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} يقابلها الآية (9){فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} .
الآية (8){وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} يقابلها الآية (11){وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
الآية (6){أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} تقابل الآية (3){مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
الآية (10){وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} تقابل الآية (5){وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
ترتيب آخر حسب مراحل الحياة طفلاً يتيماً فآوى، شاباً ضالاً فهدى، كهلاً عائلاً فأغنى.
سورة الشرح [94: 1]
سورة الشرح
سورة الشّرح [الآيات 1 - 8]
ترتيبها في القرآن (94)، ترتيبها في النّزول (12).
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} :
يتابع الله سبحانه وتعالى في تعداد النّعم التي أنعمها على رسوله صلى الله عليه وسلم والتي بدأها في سورة الضّحى ويقول تعالى:
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير.
{نَشْرَحْ} : من الشّرح: وهو التّوسعة، شرح الشّيء وسعه.
{لَكَ} : اللام لام الاختصاص.
{صَدْرَكَ} : يعني قلبك، فالقلب هو مركز العواطف والمشاعر والإحساس والإيمان، والكفر والحب والكره، فخلايا القلب خلايا مميزة جداً تشبه خلايا الدماغ من حيث الوظيفة والبنية في بعض الأمور.
وشرح الصّدر أو سعة الصّدر كناية عن الحلم والصّبر والرّضى والسّعادة والسّرور، والقبول بكل ما أنزل الله تعالى وأمر وبكل موعظة، والسّماح والعفو عند الحاجة وعدم الشّعور بالضّيق والحرج.
أي شرحنا لك صدرك: جعلناه رحيباً فسيحاً سمحاً سهلاً ليتسع للوحي والقرآن وأعباء النبوة، وما ستلقاه من قومك من التّكذيب والإعراض والعسر، ونوّرناه بنور الإيمان والهدى والحكمة والفضيلة والمحبة والسّكينة.
سورة الشرح [94: 2]
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} :
أي: لم نكلّفك ما لا تطيقه من التّكاليف الشّرعية وأعباء الرّسالة، حططنا عنك وزرك، الوزر: الحمل الثّقيل.
شبّه أعباء الرسالة والتبليغ بالحمل الثقيل الذي يرهق حامله أو يكاد يسقط من ثقل حمله. ارجع إلى سورة النحل آية (25) لمزيد من البيان.
سورة الشرح [94: 3]
الذي: اسم موصول يستعمل للعاقل وغير العاقل أحياناً.
{الَّذِى} : تعود على "وزرك"؛ أي: الحمل الثّقيل النّاتج عن التّبليغ وأعباء النّبوة والرّسالة وحرصه على إسلام سادة قريش وقادتها.
{الَّذِى أَنْقَضَ} : أثقل ظهرك حتى أصبح يسمع له نقيض؛ أي: صرير كالذي يصدر من ثقل الحمل على ظهر البعير.
كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
سورة الشرح [94: 4]
في الدّنيا والآخرة، فالله وملائكته يصلون عليك، ووصّينا الذين آمنوا بالصّلاة والتّسليم عليك وطاعتك وبالنبوة وذكرك في الشهادة: لا إله إلا الله محمّد رسول الله.
وفي الأذان والإقامة.
والشّفاعة العظمى.
جعلنا ذكرك واسمك على كل لسان.
سورة الشرح [94: 5]
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} :
{فَإِنَّ} : الفاء للتوكيد، إن: لزيادة التّوكيد.
{مَعَ الْعُسْرِ} : الضّيق والشّدة أو ما تقاسي من قومك من الإعراض والعناد والشّدائد.
{يُسْرًا} : فرج ويُسر؛ أي: انكشاف وزوال للضر والعسر مهما طال، فكل عسر يردفه يسرٌ لا محالة.
سورة الشرح [94: 6]
{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} :
توكيد للآية السّابقة فكل عسر متبوع ليس بيسر واحد وإنما بيسرين قد يكونان في الدّنيا وقد يكون يسر في الدّنيا ويسر في الآخرة. وتنكير اليسر للتفخيم والتّعظيم؛ أي: إنّ مع العسر يسراً عظيماً، فلا يغلب عسرٌ يُسرين.
سورة الشرح [94: 7]
إذا ظرفية شرطية، جواب الشرط: فانصب.
{فَرَغْتَ} : من المسؤوليات الدنيوية "فانصب"؛ أي: ما استطعتم، وتعني الدأب على العبادة والعمل الصالح والذكر وقيام الليل، والنَّصب يعني: التعب وجهاد النفس.
سورة الشرح [94: 8]
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} : لها معان عدة:
أي: اجعل جميع أعمالك خالصة لوجه الله تعالى.
واجتهد في العبادات والتقرب إلى الله والدوام على ذلك.
والتضرع إلى الله والدعاء والتسبيح والذكر.
وارغب بما عنده من الثواب والفضل وجنات النعيم.
سورة التين [95: 1]
سورة التين
ترتيبها في القرآن (95)، ترتيبها في النزول (28).
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} :
و: الواو للقسم، ولا يقسم الله سبحانه إلا بشيء عظيم؛ لأنه سبحانه غني عن القسم، وفيه إشارة إلى أهمية المقسم به وجواب القسم. وأقسم الله سبحانه بثلاث:
1 -
التين والزيتون، أو إشارة إلى الأرض المقدسة مكان مبعث عيسى ?.
2 -
طور سينين: جبل الطور وما حوله إشارة إلى مكان مبعث موسى ?.
3 -
والبلد الأمين: مكة المكرمة مكان مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أقسم الله بشرف هؤلاء الأنبياء، أو بشرف هذه البقاع المقدسة على الأرض أو بأهمية التين والزيتون نفسه (شجرة الزيتون) وطور سينين والبلد الأمين والمعنى يحتمل الكل، والله أعلم.
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} : وقيل: شجرة التّين والزّيتون؛ لما فيهما من فوائد غذائية جمّة، وفوائد طبيّة منها: الحماية من البكتيريا والأمراض السرطانية، وزيت الزيتون يخفض كلسترول الدم، ويخفف الإصابة بأمراض تصلّب الشرايين وارتفاع الضغط، وغني بالفيتامين؛ أي: ويفيد في علاج التهاب المفاصل وضعف الذاكرة وغيرها.
وقيل: التّين والزّيتون: كناية عن الأرض المباركة، أو البقاع المباركة ومنها فلسطين وبلاد الشام أرض الأنبياء، كما قال تعالى:{الْأَرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، التي سكنها إبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى ونوح ومحمد صلى الله عليه وسلم في البلد الأمين.
سورة التين [95: 2]
{وَطُورِ سِينِينَ} :
قيل: هو نفسه طور سيناء، ويسمى جبل المنجاة، وهو الجبل المبارك الذي كلم الله تعالى عنده موسى عليه السلام وهو غير معروف تماماً ويظن أنه يقع في الثّلث الجنوبي من جزيرة سيناء كما تشير الدراسات العلمية.
سورة التين [95: 3]
{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} :
{وَهَذَا} : الهاء للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقرب.
{الْبَلَدِ الْأَمِينِ} : مكة المكرمة، التي فيها البيت الحرام أول بيت وضع للناس. الأمين: على وزن فعيل للمبالغة بمعنى الأمن، ولم يقل البلد الأمن؛ لأن أمين تتضمن معنى الأمن والمأمون والأمين معاً، والأمين فيها معنى الأمن والأمانة؛ فهو أفضل مكان لأداء الأمانة الصلاة، والحج وغيرها من العبادات، وهي مكان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وأفضل بقاع الأرض على الإطلاق، وموطن رسالة الإسلام، ومكة هي أول ما ظهر من اليابسة على الإطلاق كجزيرة بركانية على ظهر الماء، ثمّ مُدّت الأرض من حولها حتى شكّلت القارة الأم التي تشقّقت بشبكة من الصدوع إلى القارات الحالية، وبقيت مكة المكرمة وسط اليابسة حتى اليوم.
الأمين: الذي حرّمه الله تعالى منذ خلق السموات والأرض، ولهذا البلد الأمين أسماء أخرى منها: أم القرى، ومكة، وبكة
…
وغيرها، من الأسماء.
والأمين: لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57]، وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
سورة التين [95: 4]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} :
قيل: هذا هو جواب القسم.
{لَقَدْ} : اللام للتوكيد، قد: للتحقيق.
{خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} : خلقنا: الخلق هو الإيجاد والتّقدير. الإنسان: اسم جنس مشتق من الأُنس؛ أي: الألفة والمحبة ضد النفور، ومشتقة من الظهور عدم الاختفاء (كالجن)؛ أي: على أحسن صورة منتصب القامة جميل الخلقة (أجمل الخلق) متناسب الأعضاء؛ أي: الأطراف والأيدي أو الصدر والرأس، ومنها: العقل والحكمة والقدرة والتدبير، وهذه من صور التكريم، وأسند الخلق إليه سبحانه وحده وبصيغة التّعظيم.
{فِى} : ظرفية.
{أَحْسَنِ} : على وزن أفعل للتفضيل.
{تَقْوِيمٍ} : أحسن صورة.
سورة التين [95: 5]
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} :
{ثُمَّ} : للترتيب والتّراخي في الزّمن.
{رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} : قيل المخاطب في هذه الآية الكافر والمنافق والمشرك والمجرم؛ أي بعد أن كان في أحسن تقويم، رددناه، والرّد يعني: الرّجوع قسراً بدون إرادته ورغماً عنه، وإلى حالة غير حالته التي كان عليها سابقاً خلقاً وتركيباً إلى أسفل سافلين؛ أي: إلى أرذل العمر الذي يتمثل بضعف الذاكرة، أو فقدها، وعدم القدرة على الحركة والعجز والحاجة إلى مساعدة الآخرين.
ومن المفسرين من فسّر "أسفل سافلين"؛ أي: في الدّرك الأسفل من النّار ويقصد بها المنافق كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، والكافر والمشرك الذي جحد كلَّ نعم الله وعبودية الله تعالى بعد أن أخذ عليه العهد منذ أن كان في صلب آدم كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] لأنّه لم يشكر الله تعالى على نعمه وعلى خلقه، ولم يتَّق الله تعالى وإنما انشغل بالباطل والكذب والنّفاق وأرذل الأخلاق، فردّه الله تعالى إلى أسفل السّافلين في الجزاء.
سورة التين [95: 6]
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} :
لها معانٍ عدّة منها:
{إِلَّا} : أداة استثناء متصل، ومنهم من قال: منقطع بمعنى لكن:
1 -
أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون.
2 -
إلا الذين آمنوا مستثنى من السّافلين الذين ردّوا إلى أسفل العمر؛ لأنّ المتّقي قليلاً ما يردّ إلى أرذل العمر، وإنما يحفظه الله سبحانه لتقواه وحفظه للقرآن.
3 -
إلا الذين آمنوا مستثنى من أسفل السّافلين (الذين في الدّرك الأسفل من النّار).
أو لكن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعملوا الصّالحات الفرائض والنّوافل.
{فَلَهُمْ} : الفاء للتوكيد، لهم: اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} : أجر غير مقطوع، ثواب دائم غير منقطع؛ أي: يعطيهم من الأجر والثواب في كبرهم كما كان يعطيهم من الأجر والثواب زمن شبابهم، أو ثوابهم في الجنة دائم غير منقطع.
سورة التين [95: 7]
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} :
{فَمَا} : الفاء استئنافية، ما: استفهام إنكاري.
{يُكَذِّبُكَ} : أيها الإنسان.
{بِالدِّينِ} : بالجزاء والحساب أو بالإسلام؛ فكلمة الدين لها معنيان: الشريعة والملة (دين الإسلام)، ومعنى الجزاء والحساب، فما الذي جعلك تكذب بصحة دين الله تعالى وبالحساب والجزاء.
الانتقال من الغيبة "إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون" إلى صيغة الخطاب "فما يكذبك"؛ ليدل على تشديد التّوبيخ والتّقريع.
سورة التين [95: 8]
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} :
{أَلَيْسَ} : استفهام تقريري، ولم يجعله أسلوباً إخبارياً بالقول إنّ الله أحكم الحاكمين؛ ليشرك المخاطب في إصدار الحكم، وجواب أليس: بلى هو أحكم الحاكمين.
{بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} : الباء للإلصاق والتّوكيد، أحكم: مشتقة من الحكم أي القضاء فهو أقضى القضاة؛ أي: أعدلهم وأقسطهم، وأحكم: مشتقة من الحكمة، فهو أحكم الحكماء وأحكم القضاة، ارجع إلى سورة البقرة آية (129) لمزيد من البيان.
سورة العلق [96: 1]
سورة العلق
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ} :
أي قل: بسم الله الرّحمن الرّحيم، أو ابتدئ قراءة القرآن أو ما يوحى إليك باسم ربك؛ أي: مستعيناً به.
{الَّذِى} : يفيد التّعظيم والكمال.
{خَلَقَ} : الخلق هو التّقدير، والخلق من الله تعالى: الإيجاد من العدم، الذي بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين.
سورة العلق [96: 2]
{خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} :
يمكن أن نقسم مراحل تكوين الجنين إلى مرحلتين هما:
أولاً: (مرحلة الخلق الأولى) وتسمى بمرحلة المضغة، وتبدأ بالأسبوع الأول وتنتهي بنهاية الأسبوع الثّامن وتضم:
مرحلة النّطفة.
مرحلة العلقة.
مرحلة المضغة.
مرحلة تشكل العظام.
مرحلة كسو العظام باللحم (العضلات).
ثانياً: مرحلة الجنين وتبدأ ببداية الأسبوع التّاسع حتى نهاية الحمل وتسمى بمرحلة الجنين، لندرس الآن كل مرحلة من هذه المراحل وما يحدث فيها من تغيرات وتشكلات في جسم الجنين، وننظر إلى الزّمن بشكل خاص، ونبدأ هذه الدّراسة بذكر ما جاء في القرآن الكريم في سورة المؤمنون آيات (12-14) يقول سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
مرحلة المضغة وتضم:
أ ـ مرحلة النّطفة: ما إن تبدأ عملية الإخصاب بالتقاء ماء الرجل بماء المرأة يخترق إحدى هذه الحيوانات المنوية التي تقدر بالملايين البيوضة فقط ولا يسمح لغيره بالدّخول، عندها تبدأ المرحلة المسماة بمرحلة النّطفة وتبدأ بالانقسامات الخلوية إلى اثنين ثم أربع ثم ثمان ثم (16 خلية) وهكذا، وإذا دخلت يومها الخامس أصبح عدد هذه الخلايا ما بين (100-150 خلية) وعندها تشكل ما يسمى البلاستوست.
يمكن تعريف البلاستوست بأنها: المرحلة الأولية من تطور المضغة عندما تكون بشكل كروي مركبة من طبقتين من الخلايا: الطبقة الأولى وتسمى كتلة الخلايا الدّاخلية والتي تنمو وتتطور لتشكل الجنين، وأما الطّبقة المحيطية أو الخارجية التي تشبه حلقة الخاتم فهي تشكل المشيمة.
وفي اليوم السّادس تشق النّطفة طريقها إلى سطح بطانة الرّحم؛ كي تنغرس فيه.
وفي اليوم السّابع يبدأ تشكل المشيمة من خلايا الطّبقة الخارجية للبلاستوست.
وفي اليوم الثّالث عشر يبدأ تشكل الدّم والأوعية الدّموية.
وفي اليوم الرّابع عشر (أي أسبوعين) تكتمل بذلك مرحلة النّطفة.
إذن مرحلة تشكل النّطفة تستغرق أسبوعين من بداية التّلقيح.
ب ـ مرحلة العلقة: يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: 14]، وتستغرق هذه المرحلة من اليوم (14) حتى اليوم (24-25) من التّلقيح، وسميت بهذا الاسم لكونها تعلق بجدار الرّحم وتشبه قطعة من الدم الجامد، والله سبحانه ذكر هذه المرحلة فقط من بين المراحل الأخرى لأهميتها. ارجع إلى سورة المؤمنون الآيات (12-14)، وسورة الحج الآية (5) لمزيد من البيان.
سورة العلق [96: 3]
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} :
{اقْرَأْ} : كررها للتأكيد؛ أي: اقرأ ما يوحى إليك من الآيات
{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} : على وزن أفعل التّفضيل؛ للمبالغة في الكرم؛ أي: هو أكرم الأكرمين، كثير الكرم يزيد كرمه على أيّ كرم، وقوله:{الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} : يدل على كمال كرمه أنّه علّم عباده العلوم والكتابة بالقلم وعلّمهم ما لم يعلموا، وذلك يعدّ من أعظم الكرم بعد كرم الهدى والإيمان والإسلام، فلولا كرم العلم لما قرأنا القرآن واستقامت أمور حياتنا.
سورة العلق [96: 4]
{الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} :
{الَّذِى} : تفيد التّعظيم، علّم الإنسان بالقلم: الباء للإلصاق.
{بِالْقَلَمِ} : ارجع إلى سورة القلم (ن) آية (1) للبيان.
سورة العلق [96: 5]
{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} :
من علوم الدّين، علوم القرآن والحديث والفقه والسّيرة والتّخريج وعلم الأصول والمواريث والاقتصاد، وعلوم الدّنيا ومنها علوم الذّرة والتكنولوجيا والصّناعة والفضاء والطّب والزّراعة والنّبات والحيوان.
سورة العلق [96: 6]
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} :
{كَلَّا} : تعني حقاً، و"كلا" تعني كلمة ردع وزجر، أو تفيد التّنبيه؛ أي: حقاً إنّ الإنسان ليطغى، أو:"كلا" ردع وزجر لمن استغنى بماله وطغى ونسي نعمة الخلق ونعمة العلم.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{لَيَطْغَى} : اللام في ليطغى: تفيد التوكيد؛ أي: يتجاوز الحد في الكفر والطّغيان بنِعم ربه لجهله وضلاله إذا رأى نفسه غنياً طغى وبغى أو ذو قوة أو جاه ومنصب.
سورة العلق [96: 7]
{أَنْ} : حرف مصدري يفيد التّعليل والتّوكيد.
{رَآهُ} : أي: رأى الإنسان نفسه قوياً، أو رأى ماله قد كثر، رؤية قلبية وبصرية.
{اسْتَغْنَى} : استكبر على ربه وكفر به واستغنى عن عبادته، واستغنى بغيره من البشر. ومن المفسرين من قال: إنّ هذه الآية نزلت في أبي جهل وأمثاله، والمهم عموم اللفظ وليس خصوص السّبب.
سورة العلق [96: 8]
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{إِلَى} : حصراً وقصراً.
{رَبِّكَ الرُّجْعَى} : أي نسي الإنسان الذي طغى واستغنى، أنّ إلى ربه الرّجعى؛ أي: العودة والمصير للحساب والجزاء. والانتقال من صيغة الغيبة إلى صيغة المخاطب يحمل في طياته التحذير والتّهديد.
سورة العلق [96: 9]
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى} :
{أَرَءَيْتَ} : الهمزة همزة استفهام وإنكار وتعجب من حال هذا الذي ينهى.
أرأيت: رؤية قلبية فكرية؛ أي: أخبرني بعلم بحال هذا الذي ينهى.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم.
{يَنْهَى} : قيل نزلت هذه الآية في أبي جهل الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصّلاة، كما روى مسلم والإمام أحمد والنسائي وغيره عن أبي هريرة.
"ينهى" جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تكرار النّهي وتجدده واستمراره على فعل النّهي أو حكاية الحال؛ لتدل على عظم وبشاعة هذا الفعل كأنه يحدث أمامك الآن، والعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب؛ فهي لكل من ينهى غيره ويمنعه عن طاعة الله وامتثال أوامره.
وجواب الاستفهام: ألم يعلم بأنّ الله يرى: نهيه ومحاربته لله تعالى ورسوله والصّد عن سبيل الله تعالى.
سورة العلق [96: 10]
{عَبْدًا} : العبد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أيّ إنسان آخر، وجاءت بصيغة التنكير للتهويل والتعظيم ولتشمل أيّ إنسان.
{إِذَا} : ظرف زماني.
{صَلَّى} : صلى في المسجد الحرام أو غيره من الأماكن.
سورة العلق [96: 11]
{أَرَءَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} :
{أَرَءَيْتَ} : التّكرار يفيد التّوكيد، ارجع إلى الآية (9).
{إِنْ} : شرطية، جواب الشّرط تقديره: ألم يعلم بأن الله يرى.
{كَانَ} : تشمل كل الأزمنة الماضي والمضارع والمستقبل.
{عَلَى الْهُدَى} : على تفيد الاستعلاء؛ أي: مستقراً على طريق الهدى والعلم بالحق؛ أي: الصراط المستقيم (الدين).
سورة العلق [96: 12]
{أَوْ} : للاختيار، أو تعني: وأمر غيره بالتّقوى؛ أي: دعاه إلى الإسلام وامتثال أوامر ربه وتجنب نواهيه.
سورة العلق [96: 13]
{أَرَءَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} :
{أَرَءَيْتَ} : ارجع إلى الآية (9).
{إِنْ} : شرطية تفيد الاحتمال.
{كَذَّبَ} : بالرّسول صلى الله عليه وسلم أو كذّب بآيات ربه وبالقرآن وبالحق.
{وَتَوَلَّى} : ابتعد وأعرض عن الإيمان والتّصديق بمحمّد وبالقرآن.
سورة العلق [96: 14]
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّعجب.
{يَعْلَم بِأَنَّ} : الباء للتوكيد.
{اللَّهَ يَرَى} : يرى ما يقوم به من النّهي والمنع والصّد عن سبيل الله، يرى ظلمه وفساده وطغيانه، وفي هذا تهديد ووعيد له يوم القيامة.
سورة العلق [96: 15]
{كَلَّا لَئِنْ لَّمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، أو: حقاً لأبي جهل وغيره من الطّغاة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى لئن لم ينته عن ذلك.
{لَئِنْ} : اللام لام التّوكيد، إن: شرطية تفيد الاحتمال.
{لَّمْ يَنْتَهِ} : عما يفعل من معاداة الرّسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا ويتوقف عن الصّد عن سبيل الله.
{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} : اللام لام التّوكيد، نسفعن: السّفع هو القبض على الشّيء بشدة أو الجذب بشدة، وقيل: السّفع الحرق، أو الاحتراق؛ أي: أحرقنا ناصيته. ناصيته: مقدم شعر الرأس؛ أي: مقدم الرأس مقدّم جبهته؛ وتعني مقدّم الدّماغ الذي يسمى الفصّ الجبهي المسؤول عن السّمع والأكل والتّكلم وغيرها من الوظائف الحساسة، والأخذ بالناصية يعني: الإذلال والإهانة قبل تعذيبه، ويعني: عدم القدرة على الهرب أو النجاة من عذابنا.
{بِالنَّاصِيَةِ} : الباء: للإلصاق والملازمة، والسّفع كما قلنا لنحرقن ناصيته (مقدمة دماغه)، وهو كناية عن القهر والإهانة.
سورة العلق [96: 16]
{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} :
{نَاصِيَةٍ} : أي هذا الرأس أو الدماغ المستكبر الكاذب والخاطئ سنحرقه في جهنم.
{كَاذِبَةٍ} : في أقوالها؛ أي: صاحبها كاذب.
{خَاطِئَةٍ} : في أفعالها، الخاطئ: الذي يرتكب الذّنب والإثم عمداً؛ أي: بقصد ونية ويعلم عقوبته، أسند الكذب والخطأ إلى النّاصية مجازاً؛ أي: صاحبها لأنّه السّبب.
سورة العلق [96: 17]
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} :
{فَلْيَدْعُ} : الفاء للتوكيد، واللام لزيادة التوكيد.
{نَادِيَهُ} : مشتقة من نادي: وهو المجلس الذي يجلس فيه القوم للحديث، ويعني: ليدع أبو جهل أو غيره من الطّغاة والذين يصدون عن سبيل الله ليدعُ أهله وعشيرته وأصحابه لإعانته ودفع العذاب عنه يوم القيامة.
سورة العلق [96: 18]
{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} :
{سَنَدْعُ} : السين للاستقبال القريب؛ أي: عن قريب سندعو له الزّبانية؛ أي: خزنة جهنم.
{الزَّبَانِيَةَ} : الملائكة الغلاظ الشّداد ليأخذوا بمقدّم رأسه (ناصيته)، ويلقوه في السّعير، والزبانية تعني: الشرطة بلغة العصر الحاضر، أو القائمون على تدبير السجون.
سورة العلق [96: 19]
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر ومنع.
{لَا تُطِعْهُ} : لا النّاهية، تطعه؛ أي: لا تطع يا محمد صلى الله عليه وسلم هذا الطّاغية (أبا جهل) أو غيره أو تسمع إليه.
{وَاسْجُدْ} : وصلِّ لله تعالى ولا تخف أو تأبه بهذا الضّالّ عن سبيل الله.
{وَاقْتَرِب} : إلى الله سبحانه بالعبادة وكثرة السّجود.
سورة القدر [97: 1]
سورة القدر
ترتيبها في القرآن (97) وترتيبها في النّزول (25).
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} :
{إِنَّا} : ضمير التعظيم للمنزِل وهو الله.
{أَنزَلْنَاهُ} : تعني جملة واحدة دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، والهاء تعود إلى القرآن العظيم المنزَل.
{فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} : والليلة عند الله وملائكته تبدأ من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، والليلة في اللغة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ أي: ابتدأ إنزاله فيها على نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم وفي شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
وفي ليلة مباركة كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4].
أي: أنزل القرآن في ساعة أو جزء من الليلة، ولا يعني طوال الليلة وإنما ساعة مخفية لا نعرف في أولها أو آخرها.
1 -
أنزلناه؛ أي: القرآن: أضمر ذكر كلمة القرآن؛ لأنّه غني عن التّصريح والتّعريف.
2 -
وقد عظّم القرآن العظيم بإسناد إنزاله إليه سبحانه.
3 -
وعظّم الليلة التي أنزل فيها بالقول ليلة القدر.
والقدر: القدر مصدر مشتق من قدر يقدر قدراً، والقدر يعني: التقدير.
وقدر: قد يعني من ضيق يضيق كقوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، وتعني ليلة تضيق بالملائكة لكثرة الذين ينزلون إلى الأرض. وقد يعني القدر: المكانة، فلان ذو قدر؛ أي: مكانة عظيمة كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67].
والقدر: يطلق على التقدير الذي هو: فعل الله تعالى سبحانه وقدر الله؛ أي: مقدوره، والإرادة: هي وقوع المراد، ومنها: الإرادة الشرعية، والإرادة الكونية؛ ففي هذه الليلة المباركة كما قال تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
سورة القدر [97: 2]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} :
{وَمَا أَدْرَاكَ} : ما استفهامية للتعظيم والتّفخيم من شأنها، وما أدراك ولم يقل ما يدريك، ارجع إلى سورة الحاقة الآية (3) للبيان.
وسميت ليلة القدر:
1 -
لأنّه فيها يقدّر ما يكون في السّنة من الأمور والأحكام، تقدّر فيها الآجال والأرزاق.
2 -
من القدر: وهو الشّرف.
3 -
لأنّ العبادة فيها خير من ألف شهر.
4 -
وثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه.
5 -
تنزل الملائكة والرّوح فيها إلى كوكب الأرض.
6 -
لأنّها كلها سلام؛ أي: يسودها السلام والأمن.
سورة القدر [97: 3]
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} :
العبادة والقيام والطّاعة فيها أفضل أو خير من العبادة ألف شهر؛ أي: أكثر من (83) سنة، وتكرار كلمة ليلة القدر ثلاث مرات في سورة عدد آياتها خمس آيات يدل على التّعظيم والتّفخيم والعناية بها والحرص على تحرّيها.
سورة القدر [97: 4]
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} :
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} : ولم يقل تتنزل الملائكة والرّوح فيها، تنزّل: تدل على القلة؛ لأنّها تنزل مرة واحدة في السّنة، أما تتنزل: تدل على الكثرة كما نرى تتنزل الملائكة في سياق الموت كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30]، تنزل الملائكة أفواجاً أفواجاً من السّماء إلى الأرض ليلة القدر، والرّوح: جبريل عليه السلام والرّوح من الملائكة، وذكر الخاص بعد العام كما نرى هنا يدل على الاهتمام والتّعظيم لجبريل، فيها: تعود إلى ليلة القدر.
{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} : أي بأمر ربهم.
{مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} : من تعليلية تنزل من أجل كلّ أمر قضاه سبحانه لتلك السّنة.
سورة القدر [97: 5]
{سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} :
{سَلَامٌ} : نكرة تشمل كلّ أنواع السّلام: سلام: تحية من الملائكة وسلام لا شرّ فيها ولا سوء، بل كلها خير وسلامة، وبركة وفضل.
{هِىَ حَتَّى} : هي للتوكيد، حتّى: حرف نهاية الغاية (هي) قيل: هي الكلمة السابعة والعشرون في السورة، واستدل البعض من هذا أنها هي الليلة السابعة والعشرون، والله أعلم.
{مَطْلَعِ الْفَجْرِ} : وقت طلوعه؛ أي: سلام يمتد حتّى مطلع الفجر أو ليلة تمتد حتى مطلع الفجر.
فهي ليلة إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم وإكرام لهذه الأمة التي أعمارها بين (60-70سنة).
وأفضل ليلة في العام كلّه على الإطلاق.
وأفضل الأعمال فيها الصلاة والقيام بين يدي رب العالمين وتلاوة القرآن، والدعاء، والصدقة، والاعتكاف والذكر والتسبيح والاستغفار، والعفو والصفح.
سورة البينة [98: 1]
سورة البينة
ترتيبها في القرآن (98) وترتيبها في النّزول (100).
{لَمْ} : أداة نفي.
{يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} : الذين كفروا من أهل الكتاب؛ أي: الذين كفروا من اليهود والنّصارى والمشركون (من عبدة الأصنام والأوثان من مشركي العرب)، ولنعلم أن أهل الكتاب أعلى درجة من الذين أتيناهم الكتاب أو الذين أوتوا الكتاب وأقل درجة من هؤلاء الكل الذين أوتوا نصيباً من الكتاب.
{مُنْفَكِّينَ} : من فككت الشّيء فانفكّ؛ أي: انفصل.
منفكين: أي لم يكونوا منقسمين على أنفسهم، بل الكل ينتظر النبي المبعوث والذي ذُكر في كتبهم للإيمان به واتباعه.
{حَتَّى} : حرف نهاية الغاية.
{تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} : الحجة الواضحة أو البرهان السّاطع.
حتى تأتيهم: أي حتى أتتهم البينة فأصبحوا منفكين منقسمين على أنفسهم منهم من آمن به وصدقه ومنهم من صد عنه.
والبينة: هي محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من ربه من القرآن أو الآيات كما فسّرته الآية (2).
سورة البينة [98: 2]
{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} :
{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} : هو محمّد صلى الله عليه وسلم من الله: أي مبعوث أو مرسل من الله.
{يَتْلُوا} : التّلاوة: هي القراءة والتلاوة لا تكون إلا من الصّحف (القرآن)، والتلاوة لها أجر، والتلاوة قد تكون عن ظهر قلب.
{صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} : يتلو عليهم آيات الله (آيات القرآن)، المطهرة من الباطل والزيغ.
سورة البينة [98: 3]
{فِيهَا} : أي الصّحف المطهّرة، صحف القرآن (جمع صحيفة).
{كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} فيها أحكام، فرائض، شرائع، قيّمة: مستقيمة عادلة تبين لهم طريق الهدى والحق من الباطل والضّلال. وقيل: كتب قيمة لما شملت من الأمور العظيمة التي فيها سعادة الدارين.
سورة البينة [98: 4]
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} :
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} : ما: النّافية، تفرّق الذين أوتوا الكتاب (أي اليهود والنصارى) تفرّقوا في نبوة محمّد أو التّصديق به والإيمان بما جاء به، ووصفهم بالذين أوتوا الكتاب وليس أهل الكتاب يأتي في سياق الذم.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} : أي بعدما بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا وتفرقوا، أمّا قبل مجيئه الكلّ ينتظره، فلم يعجبهم كون الرّسول اختير من الأميين أو قريش، فاستمروا في كفرهم وتكذيبهم به ولم يتوبوا ويعودوا إلى رشدهم، وهذه الآية توكيد للآية (1).
سورة البينة [98: 5]
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} : ما النّافية، أُمروا: في كتبهم، إلا: أداة حصر، ليعبدوا الله: اللام لام التّوكيد.
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : أي موحّدين مخلصين مطيعين.
{حُنَفَاءَ} : على ملّة الحنيفية السّمحة (ملة التوحيد) أي: مائلين عن الملل الباطلة إلى دين الحق.
{وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} : يقيموا الصّلاة: بأركانها وشروطها وأوقاتها، ويؤتوا الزّكاة المفروضة عليهم.
{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} : ذلك: اسم إشارة واللام للبعد، يشير إلى الإخلاص والتّوحيد وإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، ذلك دين القيمة؛ أي: الإسلام.
سورة البينة [98: 6]
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : من اليهود والنصارى، وكفروا بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
{وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} : من قريش عبدة الأصنام والأوثان: مصيرهم في نار جهنم.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود والبقاء والدّوام بدون انقطاع، ويبدأ من نقطة بدء (زمن دخولهم فيها)، ونجد في هذه الآية عدم ذكر أبداً مقارنة بالآيات الأخرى، ولعل قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} قد يكون دليلاً على ذلك أو المقام مقام إيجاز وليس تفصيل، والله أعلم.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد تفيد الذّم.
{شَرُّ الْبَرِيَّةِ} : البريّة: اسم جمع بمعنى الخلق، مشتقة من برأ الخلق؛ أي: خلقهم من تراب، والبَرَى: التّراب، شرّ البرية، شر الخليقة، شرّ النّاس.
سورة البينة [98: 7]
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ آمَنُوا} : بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الفرائض وما أمر الله تعالى.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يفيد المدح.
{خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} : خير الناس أو خير الخلق؛ أي: أفضلهم منزلة عند الله تعالى.
سورة البينة [98: 8]
{جَزَاؤُهُمْ} : الجزاء على العمل، ويعني: ثوابهم يوم القيامة.
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} : عند خالقهم ورازقهم.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} : جنات الإقامة الدّائمة، ذكرت جنات عدن في القرآن (11) مرة.
{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أي تنبع من تحتها الأنهار.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود: البقاء والدّوام بلا انقطاع، ويبدأ من وقت دخولهم، أبداً: توكيد.
{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} : بما قدّموه من إيمان وتقوى.
{وَرَضُوا عَنْهُ} : لثوابه وفضله وكرمه عليهم.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد، ويشير إلى الجزاء والثّواب والخلود والجنات والرّضوان.
{لِمَنْ} : اللام للتوكيد. من: اسم موصول للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث.
{خَشِىَ رَبَّهُ} : في الدنيا الخشية تعني الخوف من رب العالمين، مع التّعظيم والعلم في الدنيا.
الخشية المقرونة بالطاعة والتقوى والعمل الصالح وليس مجرد الخشية.
خشي ربه: في السرّ والعلن.
سورة الزلزلة [99: 1]
سورة الزلزلة
ترتيبها في القرآن (99) وترتيبها في النّزول (93).
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} :
{إِذَا} : ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{زُلْزِلَتِ} : أصلها زل زل، زل الأولى وزل الثّانية.
{زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} : الزّلزلة: زُلْزِلت الأرض؛ أي: الأرض الجديدة وليست الأرض القديمة؛ أي: التي نحيا عليها الآن، هذه الأرض التي ستكون أكبر بكثير من الأرض القديمة وأكبر من السموات والأرض الحاليتين؛ كي تتسع إلى بلايين بلايين البشر من آدم إلى آخر مخلوق، هذه الأرض الجديدة التي ستحوي كل ذرات الأرض القديمة وتحوي بقايانا، وهذه الزلزلة تختلف عن الزلزلة الأولى التي تحدث عند قيام الساعة وانهيار النظام الكوني التي ذكرها الله تعالى بقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 1-2].
والتي تحدث نتيجة تصادم الألواح تحت القارية (تحت البحار) والتي تؤدي إلى البراكين وتسجير البحار وغيرها من الأحداث عند النفخة الأولى.
سورة الزلزلة [99: 2]
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} :
أثقالها: أي ما فيها من الموتى؛ أي: الأرض الجديدة أثقالها موتاها.
سورة الزلزلة [99: 3]
{وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} :
{مَا} : للاستفهام والتّهويل والتعجّب.
{وَقَالَ الْإِنسَانُ} : أي يتساءل الإنسان: ماذا حدث للأرض؟
و (قال) بصيغة الماضي بدلاً من يقول الإنسان بصيغة المستقبل؛ لأنّ الأمر كأنّه حدث وانتهى.
سورة الزلزلة [99: 4]
{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} :
{يَوْمَئِذٍ} : أي: يوم القيامة.
{تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} : جمع خبر والخبر هو أعم من النبأ.
بعد أن يوحي لها خالقها ومدبّرها: حدِّثي أخبارك، وقيل: أخبارها أن تشهد على كلّ عبد أو أمة بما عمل على ظهرها فتقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا.
سورة الزلزلة [99: 5]
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} :
{بِأَنَّ} : الباء للإلصاق والتّوكيد، أن لزيادة التّوكيد.
{أَوْحَى لَهَا} : أشار إليها بأن تحدث أخبارها، وكما ذكر في قصة زكريا عليه السلام :{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، أو أذِن لها بأن تحدّث أخبارها؛ أي: تشهد على الناس بما عملوا على ظهرها من خير وشر أو فساد.
سورة الزلزلة [99: 6]
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} :
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة أو البعث.
{يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} : يَصُدُرُ: يرجع أو ينصرف الناس من قبورهم إلى أرض المحشر.
{أَشْتَاتًا} : فرقاً فرقاً؛ أي: جماعات جماعات إلى موقف الحساب.
{لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} : أي ما قدّموه من صالح الأعمال أو طالحها وخيرها وشرها في الدنيا؛ ليروا كتب أعمالهم. ومنهم من قال: ليروا أعمالهم: جزاء أعمالهم (الجنة أو النار).
سورة الزلزلة [99: 7]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} :
{فَمَنْ} : الفاء عاطفة للتفريع، من: شرطية.
{يَعْمَلْ} : في الدّنيا.
{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا} : مثقال ذرة من الخير، ولمعرفة مقدار الذّرّة ارجع إلى سورة النّساء الآية (40) للبيان، الخير: هو العمل أو الشّيء الحسن النّافع، وجاء بصيغة المضارع "يعمل" بدلاً من عمل؛ للدلالة تكرار وتجدد العمل وعلى أهمية ما عملوا وكأنهم يعملونه الآن، وهذا ما يسمى حكاية الحال.
{يَرَهُ} : يرى جزاءه؛ أي: ثوابه.
سورة الزلزلة [99: 8]
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} :
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} : ارجع إلى الآية السّابقة.
{شَرًّا يَرَهُ} : شراً؛ الشر: ضد الخير؛ أي: سوءاً يرى جزاء عمله.
سورة العاديات [100: 1]
سورة العاديات
ترتيبها في القرآن (100) وترتيبها في النّزول (14).
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} :
{وَالْعَادِيَاتِ} : الواو: واو القسم، العاديات: جمع عادية مؤنث العادي اسم فاعل من عدا بمعنى: ركض؛ الخيل التي تخرج مع أصحابها في سبيل الله، هكذا قال ابن عبّاس وعامة المفسرين، من العَدْو: وهو الجري بسرعة.
{ضَبْحًا} : صوت أنفاس الخيل الذي نسمعه حين تجري مسرعة، والخارج من مناخرها والناتج عن تنفّسها بشدة.
سورة العاديات [100: 2]
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} :
{فَالْمُورِيَاتِ} : الفاء عاطفة وتفيد التّرتيب والتّعقيب في الآيات الأربع، الموريات: من أورى: إذا أخرج النّار.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} : أي الخيل الغازية في سبيل الله وهي تقدح قدحاً بحوافرها فتخرِج الشّرر حين تصدم حوافرها بالحجارة، أو الصخور، والقدح: الضّرب، والقداحة: الآلة المستعملة لإشعال النّار.
سورة العاديات [100: 3]
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} :
{فَالْمُغِيرَاتِ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، المغيرات جمع مغيرة؛ أي: الخيل التي تغزو (تغير) على العدوّ وقت الصبّاح، فكانوا إذا أرادوا الغارة سَرَوا ليلاً حين غفلة النّاس ونومهم وباغتوا العدوّ صباحاً والعدوّ على غير استعداد.
{صُبْحًا} : وقت دخول الصّباح، طلوع الصّباح، والصّبح أفضل الأوقات للهجوم والقتال والغارة.
سورة العاديات [100: 4]
{فَأَثَرْنَ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، أثرن: هيّجن؛ أي: أثارت الخيل الغازية الغبار بحوافرها في وجه العدوّ فلا يعود يراها.
{بِهِ} : بالجري.
{نَقْعًا} : النّقع هو الغبار الدّقيق أو التّراب الحادث من سرعة جري الخيل.
سورة العاديات [100: 5]
{فَوَسَطْنَ بِهِ} : الفاء للترتيب والتّعقيب، وسطن به: فدخلن للقتال وسط جمع العدوّ، به: بالجري.
{جَمْعًا} : جمع العدوّ.
سورة العاديات [100: 6]
{إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} :
هذا جواب القسم، والإنسان هنا يعني الكافر.
{إِنَّ} : للتوكيد، واللام في "لكنود" لزيادة التّوكيد.
{الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} : لكنود: لكفور كما قال ابن عباس أو لعاصٍ أو قليل الخير أو البخيل: الذي يأكل وحده ويمنع رِفْده؛ أي: يمنع العطاء، وقيل: كنود صيغة مبالغة من: كند النعمة؛ كفر بها أو الجحود بنِعم ربه. وقيل: الكنود من يَعُدَّ المصائب أو يذكرها وينسى النعم ويلوم ربه؛ أي: اللوام، وقيل الأرض الكنود: التي لا تنبت شيئاً، والمعنى يحتمل الكل.
سورة العاديات [100: 7]
{وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} :
{وَإِنَّهُ} : إنه: للتوكيد، والهاء تعود على الإنسان.
{عَلَى ذَلِكَ} : على كونه لربّه لكنود.
{لَشَهِيدٌ} : اللام للتوكيد؛ أي: يشهد على نفسه بالجحد والكفر والعصيان؛ أي: أنه كنود كقوله تعالى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، وروي القولان عن ابن عباس، ومنهم من قال هاء الضمير تعود على الله؛ أي: الله سبحانه على كفر الإنسان أو بخله أو جحده شهيد.
سورة العاديات [100: 8]
{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} :
{وَإِنَّهُ} : وإنه: الواو: عاطفة، إنه: للتوكيد، والهاء: تعود إلى الإنسان، واللام في "لحب" للتوكيد، وتكرار "إنه" لزيادة التوكيد.
{لِحُبِّ الْخَيْرِ} : المال.
{لَشَدِيدٌ} : اللام: للتوكيد، حتّى أنّه يمنع دفع زكاته وصدقته، والدّليل على تسمية المال خيراً قوله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180].
سورة العاديات [100: 9]
{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ} :
{أَفَلَا} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، لا النّافية.
{يَعْلَمُ إِذَا} : يعلمُ: ذلك الإنسان؛ إذا: ظرفية شرطية تفيد حتمية الحدوث.
{بُعْثِرَ} : أُثير وأُخرج أو أُثيرت فجعل أعلاها أسفلها، وهذا يدل على العنف وشدة الأمر، ليخرج منها البشر للحساب والجزاء، وفي هذا تهديد ووعيد بالبعث والحساب.
سورة العاديات [100: 10]
{وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} :
{وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ} : الصدور: القلوب؛ ما: أوسع شمولاً من الذي، جمع في الصّحف، والتّحصيل: هو إخراج اللب من القشر، ظهر وبان ما استقر في الصُّدور؛ أي: أبرز أو استخرج ما تسره الصدور؛ أي: ظهر مكتوباً في الصّحائف ما فيها من خير وشر، أو استخرج ما فيها من خير وشر أحقاد وأمراض أو جمع ما في القلوب من خير وشر مما يظن أنّه سرٌّ لا يعلمه أحد.
سورة العاديات [100: 11]
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} :
{إِنَّ} : واللام في لخبير للتوكيد.
{رَبَّهُمْ بِهِمْ} : تقديم بهم للدلالة على الأهمية خاصة.
ربهم خالقهم ومدبر أمورهم ومحاسبهم.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة أو يوم الحساب والجزاء.
{لَّخَبِيرٌ} : اللام: للتوكيد، خبير؛ أي: يعلم بواطن أعمالهم ومن يعلم بواطن الأمور يعلم ظواهرها فلا داعي لذكر ذلك، ويعلم ما كسبت كلّ نفس، كقوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ} [غافر: 16].
سورة القارعة [101: 1]
سورة القارعة
ترتيبها في القرآن (101) وترتيبها في النّزول (30).
{الْقَارِعَةُ} :
اسم من أسماء يوم القيامة الكثيرة ومنها: يوم القيامة، يوم البعث، يوم الخروج، يوم الفصل، يوم الدين، يوم الخروج، الصاخة، الطامة، الواقعة، الحاقة، الأزفة، وقد عدها الغزالي والقرطبي وقيل: بلغت خمسين اسماً، ويقول القرطبي: وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه، والقارعة: شيء مبهم لم يطّلع أو يره أحدٌ.
مشتقة من القرع؛ وهو: الضرب بشدة كأن تضرب شيئاً صلباً بشيء أصلب وبشدة فتحدِث صوتاً مزعجاً.
وسمي بذلك؛ لما يحدث فيه من الأهوال والتّرويع الذي يهزّ ويقرع كلّ سمع وكلّ قلب.
ثم يلحق ذلك بسؤال آخر: ما القارعة.
سورة القارعة [101: 2]
{مَا الْقَارِعَةُ} :
{مَا} : للاستفهام والتّهويل والتّعظيم والتّرهيب، والأصل: أن يختصر كلّ ذلك: ما هي القارعة؟ ولكنه سبحانه يُسهب في الاستفهام والسؤال.
سورة القارعة [101: 3]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} :
ثم سِئل للمرة الثالثة، ولا أحد يجيب.
{وَمَا} : لتوكيد الاستفهام والتّرهيب والتّهويل والتّعظيم والتّعجيز.
{أَدْرَاكَ} : من درى: وهو العلم بعد الجهل، العلم بشتى الوسائل أو بأيّ وسيلة، وأدرى حالة خاصة من علم.
أي: ما أعلمك وأخبرك ما القارعة، والجواب: لا أحد؛ لأنّها أمر غيبي لا يعلمه إلا الله وحده سبحانه، وتبقى مسألة القارعة مبهمة مهولة عظيمة حتّى يجيب الله سبحانه وحده على ذلك فيقول:"يوم يكون النّاس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش".
فقوله: "القارعة" فيها إبهام، "ما القارعة" فيها تهويل وتعظيم وتخويف، "وما أدراك ما القارعة" فيها تعجيز؛ لا أحد يعلم الجواب، فيجيب الله سبحانه، والغاية من الإبهام والتّهويل والتّخويف هو الاستعداد لها والتّحذير منها، "وما أدراك ما القارعة": ولم يقل ما يدريك ما القارعة.
ما أدراك: نفي للماضي، وما يدريك نفي في الحال والمستقبل، وقد وردت ما أدراك (13) مرة في القرآن، وأمّا ما يدريك وردت ثلاث مرات (ثلاث آيات) وتَبينَ حين يستعمل ما أدراك في الماضي (من خصائص القرآن) ينتهي الأمر أو المسألة بأنّ الله سبحانه يطلع ويخبر رسوله على المعنى فلا يبقى غامضاً ويُعرفُ الجواب، أمّا حين يستعمل وما يدريك (في الحال أو المستقبل) تبقى المسألة أو الأمر غامضاً مبهماً ولا يطلعه الله على الجواب.
وقد وردت وما يدريك في ثلاث آيات:
الآية الأولى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} .
الثانية: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} .
الثالثة: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .
إذن ما يتعلق بعلم السّاعة أو التّزكية (أمر غيبي) لا يعلمه إلا عالم الغيب والشّهادة وحده، وسوف نعلمه عند قيام الساعة وعند البعث والحساب.
سورة القارعة [101: 4]
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} :
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} : يوم القيامة يكون النّاس (الثّقلان الإنس والجن):
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} : الفراش المتطاير المنتشر على غير انتظام هنا وهناك، أو يشبه الفراش في الكثرة والانتشار والضّعف.
وفي آية أخرى يقول: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7]، لمعرفة الفرق بين الآيتين ارجع إلى سورة القمر للبيان.
سورة القارعة [101: 5]
{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} :
في الآية السابقة يكون الناس كالفراش المبثوث، وفي هذه الآية الجبال أيضاً تكون كالعهن المنفوش؛ كل ذلك يدل على هول الموقف وشدته.
شبّه الجبال بالعهن: الصّوف الملون (المصبوغ بألوان مختلفة)؛ لأنّ الجبال فيها جُدد بِيض وحمر وغرابيب سود، لها ألوان مختلفة.
{الْمَنفُوشِ} : المندوف بالمندف في تفرّق أجزائها، وتطايرت بعد أن دكّت ونسفت وكانت كثيباً مهيلاً، ثم أصبحت كالعهن المنفوش بعد أن كانت الرواسي والأوتاد.
وقد يحتمل المعنى بالإضافة إلى كونها كالعهن المنفوش: فهي ضعيفة خفيفة ضعف وخفّة الصّوف، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (9) في سورة المعارج وهي قوله تعالى:{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} ، ويمكن القول أن الجبال تكون في مرحلة تليها تكون في مرحلة من المراحل كالعهن، ثم مرحلة تليها تكون كالعهن المنفوش المتطاير ذو الألوان.
سورة القارعة [101: 6]
{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} :
{فَأَمَّا} : الفاء استئنافية، أمّا: حرف شرط وتفصيل.
{مَنْ} : ابتدائية استغراقية، تشمل الذّكر والأنثى، وتشمل المفرد والمثنى والجمع.
{ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} : أي رجحت موازينه بالحسنات بعد أن توزن أعماله، وموازينه جمع ميزان، ومنهم من قال: لكلّ عمل ميزانٌ يوزن به، مثلاً أفعال القلوب لها ميزان، وأفعال الجوارح لها ميزان، ومنهم من قال: الميزان واحد، وإنما جمع لاختلاف الموزونات أو كثرة الموزون، والله أعلم.
والأرجح: أن موازين يوم القيامة ليست ميزاناً واحداً؛ لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء: 47] وهي موازين حقيقية كما رجّح أكثر المفسرين، ومن المفسرين من فسّر الميزان بالعدل؛ لقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] أي: أمر بالعدل.
سورة القارعة [101: 7]
{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} :
{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ} : العيشة تشمل المسكن والمشرب والمأكل والمتاع وغيرها.
{رَّاضِيَةٍ} : والسؤال هل العيشة التي ترضى أم هو الراضي؟.
راضية تعني: صاحبها راض ومسرور.
راضية: لا تزول أو تنقطع، سعادة أبدية خالية من أسباب القلق الذي سببه الموت والزّوال، ارجع إلى سورة الحاقة الآيتين (22-23) لمزيد من البيان.
سورة القارعة [101: 8]
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} :
{وَأَمَّا مَنْ} : ارجع إلى الآية (6).
{خَفَّتْ} : أي خفّت موازينه؛ أي: رجحت سيئاته على حسناته، (وأمّا من تساوت حسناته وسيئاته، يصبح من أصحاب الأعراف) ولم يذكر ذلك؛ لأنّ أصحاب الأعراف في النّهاية هم من أصحاب العيشة الرّاضية.
سورة القارعة [101: 9]
{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} :
أمه: ليس معناها أمه التي ولدته وإنما عبّر عن المأوى (النار) بالأم، أو شبّه المأوى بالأم التي يأوي إليها حين كان طفلاً كلّما فزع وخاف، وشبّه المأوى (النار) بالأم؛ لأنها تحيط به وتحضنه، أو كإحاطة رحم الأم بولدها، تشبيه يحمل معنى التقريع.
وهاوية: لبُعد عمقها أو مقرّها، هاوية فيها إبهام، غير معروفة، ثمّ يسأل من يعلم أو يعرف ما هي.
سورة القارعة [101: 10]
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} :
فيها تفخيم وتهويل وتخويف وتعجيز، ارجع إلى الآية (2) من السّورة نفسها للبيان، ثمّ يبين ما هي فيقول: نار حامية.
سورة القارعة [101: 11]
{نَارٌ حَامِيَةٌ} :
بالغة الحرارة.
أي: فأمه (مأواه) الهاوية، وما الهاوية (نار حامية).
سورة التكاثر [102: 1]
سورة التكاثر
سورة التّكاثر [الآيات 1 - 8]
ترتيبها في القرآن (102) وترتيبها في النّزول (16).
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} :
{أَلْهَاكُمُ} : من اللهو، واللهو: ذهول بقصد وإعراض، وهو أن يترك واجباً أو شيئاً مطلوباً أو مهماً، ويشتغل بشيء غير مهم أو مطلوب، ألهاكم: لها معنى أوّل؛ أي: أشغلكم، وألهاكم التكاثر وأشغلكم أبلغ في الذم من شغلكم، والمعنى الثّاني: كلّ واحد يكاثر الآخر؛ أي: يتفاخر ويباهي الآخر بكثرة جمعه.
{التَّكَاثُرُ} : لم يحدد ما نوع التكاثر ليشمل كل ما يدخل في أنواع التكاثر مثل: في الأموال والأولاد والمساكن والقصور والزّينة والمراكب، والنّساء والّتجارة والتّشاغل بالمعاش واللهو واللعب وغيرها.
ألهاكم التّكاثر: أي حب الدّنيا عن تقوى الله وطلب الآخرة والاستعداد ليوم الرّحيل، وهناك من قرأ "ألهاكم" بهمزتين؛ أي: أَأَلهاكم التّكاثر؟ ومنهم من قرأها بهمزة واحدة "ألهاكم التّكاثر" كقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20].
سورة التكاثر [102: 2]
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} :
أي: ظللتم سادرين في هذا اللهو والغفلة حتّى زرتم المقابر؛ أي: متّم ودفنتم في المقابر.
{حَتَّى} : يعني نهاية الغاية.
{زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} : كأنّ الموت ليس هو النّهاية، وإنما هي مرحلة يأتي بعدها البعث والحساب والجزاء وإمّا إلى الجنة وإمّا إلى النّار، وكأنّ الدّفن في القبور (أو حياة البرزخ) عبارة عن زيارة فقط لن تدوم طويلاً، ترجعون بعدها إلى منازلكم في الجنة أو النّار، أو ألهاكم التّكاثر حتى فوجئتم بالموت وأنتم على تلك الحال من الانشغال.
سورة التكاثر [102: 3]
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر: أي ليس هذا سلوك العاقل، أو كلا إنّ هذا سلوك معيب، كلا لا تكن الدّنيا أكبر همكم ومبلغ علمكم، أو تعني: حقاً سوف تعلمون عاقبة انشغالكم بالتّكاثر إذا دخلتم مقابركم، وعلمتم خطأكم هذا، أو سوف تعلمون عاقبة أمركم هذا حين الموت والاحتضار ونزع أرواحكم.
{سَوْفَ} : تدل على الاستقبال والتّراخي في الزمن؛ يعني زمن الموت.
سورة التكاثر [102: 4]
{ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} :
{ثُمَّ} : تدل على التّراخي في الزّمن والتّرتيب.
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر أو حقاً، والتكرار للتوكيد والتهويل والتعظيم.
{سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : سوف: تدل على التراخي في الزمن، تعلمون: ذكرت للمرة الثانية.
تعلمون: العلم الثّاني سيكون في البرزخ (القبر) أو يوم القيامة، والعلم الأوّل كان زمن الاحتضار كما قلنا سابقاً.
سوف تعلمون عاقبة عبثكم وانشغالكم في الدّنيا، وما أخبركم به الله سبحانه من وعد ووعيد وثواب وعقاب أنّه الحق.
سورة التكاثر [102: 5]
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر للمرة الثّالثة.
{لَوْ} : حرف امتناع لامتناع.
{تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} : علم اليقين: هو العلم الوحيد الذي ليس هناك غيره؛ أي: الحق الثّابت الذي لا يتغير، أو يتبدل والعلم الثّابت القاطع، ولليقين درجات: الأولى علم اليقين، والثّانية عين اليقين، والثّالثة حق اليقين.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} : أي لو صدّقتم وآمنتم بما أخبركم الله عن الجحيم في قرآنه وعن طريق رسله، لكنتم كمن رأى الجحيم بأمّ عينيه، وأنتم لا زلتم في الدنيا؛ أي: لترونها قبل الدخول فهذه هي الرؤية الأولى، ولربما منعك ذلك من انشغالكم بالتكاثر، وما أخبركم الله به عن الجحيم يمكن أن يُعدّ كالرؤيا الأولى للجحيم؛ أي: ترون الجحيم وأنتم في الدنيا، والنون في "لترون" للتوكيد.
سورة التكاثر [102: 6]
سورة التكاثر [102: 7]
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} :
هذه هي الرؤية الثانية والتي تسمى رؤية عين اليقين.
ثم يوم القيامة (ثم للتراخي في الزمن) واللام في لترونها: للتوكيد؛ أي: لترونها يوم القيامة عين اليقين؛ أي: بأم أعينكم حين تبرز لكم أو ترِدُوها {وَإِنْ مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71].
سورة التكاثر [102: 8]
{ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} :
{ثُمَّ} : للتباين بين السّؤال عن النّعيم ورؤية الجحيم المروّع.
{لَتُسْـئَلُنَّ} : اللام والنّون في "تسألن" للتوكيد، والسؤال هنا لماذا نسأل عما أباحه الله تعالى وقال لنا:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وغيرها من الآيات؛ السؤال قد يكون عن الشكر، وعن تأدية الزكاة، والصدقات، والإسراف، والتبذير
…
وغيرها.
{يَوْمَئِذٍ} : يوم القيامة. مركبة من: يوم أضيف إليه ظرف آخر هو إذ.
{عَنِ النَّعِيمِ} : من النعمة، والنعمة: تعني نعم الدنيا الظاهرة والباطنة، وهي نعم زائلة، وكلمة النعيم وردت في (15) آية معرفة بأل التعريف وكلها تعني نعيم الآخرة؛ أي: الجنة، وفي آية واحدة وردت النعيم التي تعني نعيم الدنيا من مسكن ومطعم ومشرب وملبس وفراغ ومال وجاه؛ أي: لتسألن عن التكاثر الذي ألهاكم، أو عن ذلك النعيم الزائل الذي شغلكم عن ربكم، أو قد تعني نعيم الأخرة نعيم الجنة؛ لأن السياق في الكفار سوف يسألون سؤال تقريع وتأنيب، وفي الآية تهديد ووعيد شديد للكفار.
سورة الهمزة [104: 1]
سورة الهمزة
ترتيبها في القرآن (104) وترتيبها في النّزول (32).
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} :
{وَيْلٌ} : وعيد بالعذاب، والويل قد يعني: الهلاك أو وادٍ في جهنم، ويلٌ بالرّفع والتّنوين تدل على جملة اسمية وتدل على الثّبوت، ثبوت العذاب؛ أي: هو عذاب دائم لا ينقطع، وأمّا لو قال: ويلاً بالنّصب، فذلك يدل على جملة فعلية تدل على أنّ العذاب غير دائم ومتجدد ومتكرر.
{لِكُلِّ} : اللام لام الاختصاص والاستحقاق.
{هُمَزَةٍ} : هو الذي يعيب النّاس أو يطعن في النّاس أو يظهر عيوبهم في أخلاقهم أو وضعهم الاجتماعي في حالة غيابهم، والتاء المربوطة تدل على المبالغة، وأصلها هُمز، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (11) في سورة القلم وهي قوله تعالى:{هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} : نجد هماز هي أيضاً صيغة مبالغة لكثير الهمز، ولكن هناك فرق بين (هماز) و (همزة)؛ هماز: تدل على الفاعل الذي يفعل أو يقوم بالهمز، وهمزة: تدل على ما فعله؛ أي: محصلة فعله، وما ارتكبه يسمى هو الهمزة، وعاقبة ذلك الويل له.
{لُمَزَةٍ} : هو الذي يعيب أو يطعن فيهم ويظهر عيوبهم في حالة حضورهم، يغتاب في الوجه وقد يستعمل الحاجب أو العين أو اليد أو الرأس، وهناك من قال الهمزة: الذي يعيب الناس في غيابهم، واللمزة: الذي يعيب الناس في حضورهم.
سورة الهمزة [104: 2]
{الَّذِى جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} :
هذا وصف آخر للهمزة اللمزة.
{الَّذِى جَمَعَ مَالًا} : سواء كان حلالاً أو حراماً.
{وَعَدَّدَهُ} : عدّه مرة بعد الأخرى حباً في المال؛ أي: أحصاه وحافظ عليه أو حرص عليه.
سورة الهمزة [104: 3]
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} :
{يَحْسَبُ} : من حسب؛ أي: اعتقد؛ أي: ظن ظناً راجحاً أو أقام حسابه على حساب قلبيّ وتجربة ونظر، وهنا تعني: يحسب لجهله وعدم الفقه في الدّين أن ماله أخلده.
{أَنَّ} : للتوكيد.
{مَالَهُ أَخْلَدَهُ} : الخلد يعني البقاء والدّوام، يحسب أن ماله يمنعه من الموت أو يُطيل في عمره، أو يعمل عمل من يظن أنه لا يموت ويخلد في الدنيا.
سورة الهمزة [104: 4]
{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ} :
{كَلَّا} : كلمة ردع وزجر، كلا ليس الأمر كما يحسبه فماله لن يخلده في الدنيا مهما طال أجله، ولن يمنعه من أن ينبذ في الحطمة.
{لَيُنْبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ} : اللام والنّون في كلمة "لينبذن" للتوكيد.
لينبذن: من النّبذ وهو الطّرح والقذف مع الكراهية؛ أي: بلا اهتمام؛ أي: ليطرحن بذلٍّ وإهانة وغير اهتمام به.
{فِى الْحُطَمَةِ} : (نار الله الموقدة)، وقيل: الحطمة دركة من دركاتها، والحطمة مشتقة من الحطم: وهو الكسر؛ أي: تحطم عظام كل من يُلقى فيها.
سورة الهمزة [104: 5]
{وَمَا أَدْرَاكَ} :
{وَمَا} : للاستفهام والتّعظيم والتّهويل، وتكرار (ما) للتوكيد.
{أَدْرَاكَ} : أعلمك، أيّ شيء أخبرك ما الحطمة؟ أي: أنت لا علم لك بعظمتها ومهما تصوّرتها فهي أعظم من ذلك. ارجع إلى سورة القارعة آيتين (2-3) لبيان معنى وما أدراك وما يدريك.
{مَا الْحُطَمَةُ} : الحطمة: اسم علم للنار، وهناك من قال: إنها دركة من دركات النار.
سورة الهمزة [104: 6]
{نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} :
أي: الحطمة نار الله الموقدة المشتعلة، وتسميتها بنار الله للتعظيم والترهيب.
{الْمُوقَدَةُ} : الشّديدة اللهب أو المستعِرة المتأجّجة، وسماها نار الله وما دام قال:"نار الله" فلا يمكن أن تضاهيها نار أخرى، وفي هذا إنذار ووعيد لكل همزة ولمزة.
سورة الهمزة [104: 7]
{الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْـئِدَةِ} :
{تَطَّلِعُ} : تبلغ أو تصل الأفئدة؛ أي: التي تعرف كيف تصل إلى القلوب أو تطلعُ عليها؛ أي: تغشاها.
{الْأَفْـئِدَةِ} : القلوب؛ جمع فؤاد وهو جزء من القلب الذي يختص بالذاكرة والأحاسيس؛ أي: تحرق كل طبقات الجلد وما تحته حتى تصل إلى القلب ذاته، واختيرت القلوب؛ لأنّها محل العقائد الباطلة والنّوايا والكفر والنفاق والبدع.
سورة الهمزة [104: 8]
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} :
إن: للتوكيد والهاء تعود على "نار الله الموقدة".
مطبقة من أصدت الباب؛ أي: أغلقته فلا يستطيعون الخروج منها والنّجاة، وتعني: ليس هناك متسع أو مسافة فوق رؤوسهم أو بين بعضهم بعضاً كأنّها جاءت من أعلى لتطبق عليهم.
{عَلَيْهِم} : على: تدل على المشقة والصعوبة والدوام.
سورة الهمزة [104: 9]
موثقين: أي مربوطين ومشدودين إلى أعمدة في داخل النّار بالسّلاسل والأغلال.
{عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} : ارجع إلى سورة البلد، آية (20) لمزيد من البيان.
سورة الفيل [105: 1]
سورة الفيل
ترتيبها في القرآن (105) وترتيبها في النّزول (19).
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّعجب، لم: حرف نفي.
{تَرَ} : الرّؤية هنا فكرية عقلية؛ لأنّ حادثة الفيل وقعت قبل ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألم تر: تعني: ألم تعلم علم دراية، أو ألم ينتهِ علمك إلى ما فعل ربك سبحانه بأصحاب الفيل، واعلم علماً مؤكّداً أو يقيناً أن ما يخبرك الله تعالى به هو أصدق مما لو رأته عيناك.
{كَيْفَ} : للاستفهام والتّحذير والتّعجب.
{فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} : هم أبرهة بن الأشرم والي اليمن وجيشه ومعهم (13) فيلاً ومن بينها فيلٌ يدعى محموداً وهو أكبر الفيلة، جاؤوا لهدم الكعبة (البيت الحرام).
وخلاصة القصة: أنّ أبرهة بن الصّباح الأشرم والي اليمن رأى أن يبني كنيسته في صنعاء وسمّاها القُليس تضاهي البيت الحرام، ويدعو العرب لزيارتها بدلاً من الحج إلى مكة؛ قاصداً من وراء ذلك تحويل بعض التّجارة إلى اليمن أو غيرها من النّوايا.
ولما قام بذلك وبنى الكنيسة قيل: جاء رجل من قريش ونجسها، وقيل في بعض الرّوايات: أحرقت، فغضب أبرهة وجهّز جيشه وجاء لهدم الكعبة وغزو مكة.
ارجع إلى كتب السّيرة لمزيد من البيان وما حدث بين أبرهة وعبد المطلب.
سورة الفيل [105: 2]
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} :
{أَلَمْ} : الهمزة للاستفهام التّقريري.
{يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ} : كيدهم من الكيد: وهو التّدبير الخفي لتخريب وهدم الكعبة، والكيد أقوى من المكر. ارجع إلى سورة يوسف آية (5) لمزيد من البيان.
{فِى تَضْلِيلٍ} : في ضياع وخسارة؛ أي: لم يجدِ مكرهم أو كيدهم، أو لم ينفعهم أو يفضِ إلى نتيجة فقد أهلكوا جميعاً.
سورة الفيل [105: 3]
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} :
أبابيل: جماعات جماعات متتابعة بعضها في أثر بعض، أبابيل: اسم جمع لا مفرد له.
سورة الفيل [105: 4]
{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} :
تشبه الحجارة التي أمطرت على قوم لوط. ارجع إلى سورة هود آية (82) والحجر آية (74) للبيان.
سورة الفيل [105: 5]
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} :
{فَجَعَلَهُمْ} : الفاء للمباشرة والتّرتيب؛ أي: جعل أبرهة وجيشه.
{كَعَصْفٍ} : العصف: قشر حب القمح أو التبن؛ أي: أخذ ما فيه من الحب وبقي القشر.
{مَّأْكُولٍ} : أي شبّه تقطُّع أوصالهم وتطايرها بالعصف الذي أكلته البهائم.
المأكول: الذي وقع فيه الأُكال؛ أي: الأكل، أو فضلات الدواب التي أكلت العصف، ولا يزال يُرى بعضه المأكول في فضلاتها.
سورة قريش [106: 1]
سورة قريش
ترتيبها في القرآن (106)، ترتيبها في النّزول (29).
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} :
من المفسرين من قال: هذه السورة تتمة للسورة السابقة سورة الفيل، فربط بينهما بالقول فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.
{لِإِيلَافِ} : اللام لام الاختصاص أو لام التّعليل، إيلاف: مصدر ألِف الشّيء إذا اعتاده وألِفه، والإيلاف: الالتئام والتّجمع والمحبة كقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: كانت حماية الله سبحانه وتعالى للكعبة (البيت الحرام) بجعل أبرهة وجيشه كعصف مأكول تكريماً للبيت الحرام وحرمته، ودوامه، وسبباً لدوام قريش على التآلف والمحبة بين القبائل والتّجمع حول الكعبة، وعدم النّفور والتّفرق، وكذلك سبباً لدوام رحلتي الشّتاء والصّيف اللتين هما مصدر العيش لقريش في هذه الصّحراء، فأبقى الله لهم رحلة الشّتاء إلى اليمن لجلب السلع أو المتاع الواردة من الهند والخليج، ورحلة الصّيف إلى الشّام لجلب أو شراء الحبوب والمواد الزّراعية والغذائية، حيث كانت مكة تعيش على التّجارة وعلى القيام بخدمة البيت الحرام الذي كان مصدر فخرهم ومجدهم، أو قد تعني لإيلاف قريش: من أجل إيلاف قريش لتعبد قريش رب هذا البيت.
{قُرَيْشٍ} : مجموعة من القبائل من ولد النضر بن كنانة، وقيل: قريش لقب الجد وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، أو قريش هو النضر بن كنانة، وسمّوا بقريش من التقريش؛ أي: الاكتساب أو التجمع والالتئام.
فقد جمعهم قصي بن كلاب في مكة في الحرم بعد تفرّقهم، أو قيل: الاسم مشتق من سمكة القرش، أو شبّهوا بسمكة القرش الخطيرة فكانوا يعلون ولا يُعلى عليهم.
سورة قريش [106: 2]
{إِلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} :
{إِلَافِهِمْ} : توكيد الإيلاف ـ وقدّم إيلافهم تذكيراً بالنّعمة ـ وقد تكون إيلاف الأولى للبقاء على الألفة والمحبة والتّجمع حول الكعبة في وادٍ غير ذي زرع.
وأمّا الإيلاف الثّانية فهي البقاء والعكوف على ممارسة رحلتي الشّتاء والصّيف وجلب الأرزاق لهذه المنطقة، وجعل أفئدة النّاس تهوي إليهم.
سورة قريش [106: 3]
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} :
{فَلْيَعْبُدُوا} : الفاء للتوكيد، واللام لزيادة التّوكيد أو الأمر أو للتعليل.
أي: أهلك الله أبرهة وجيشه وفعل ما فعل بإرسال طير الأبابيل للمحافظة على ائتلاف قبائل قريش وبقائها مجتمعة حول الكعبة البيت الحرام، وخدمة الحجيج وتولّي سدنة الكعبة وسقاية الحاج، والمحافظة على رحلتي الشّتاء والصّيف مصدر الرّزق الوحيد (أي التّجارة) لقريش.
فهاتان النّعمتان: نعمة الائتلاف ونعمة الرّحلتين (الرّزق) وغيرها من النّعم مثل الأمن وعدم الخوف وعدم الجوع كلٌّ منها يوجب أو يستحق عبادة الله تعالى.
سورة قريش [106: 4]
{الَّذِى أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ} :
{الَّذِى} : يفيد التّعظيم، تعود إلى "رب هذا البيت".
{أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ} : أي كانوا جائعين فأطعمهم، والجوع: هو الشعور أو الإحساس الناجم عن خلو المعدة من الطعام.
{وَآمَنَهُمْ مِّنْ خَوْفٍ} : من ابتدائية، خوف نكرة تشمل كل أنواع الخوف، فأزال عنهم كل أنواع الخوف، وكما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. وقدّم الجوع على الخوف؛ لأنّ الجوع الشّديد قد يؤدي إلى السّرقة والقتل أحياناً، وبالتّالي انتشار الخوف وعدم الأمن.
وقد يكون المعنى: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوفٍ؛ أي: من أجل البيت الحرام. ومنهم من قال: هي استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام حين دعا: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126].
سورة الماعون [107: 1]
سورة الماعون
ترتيبها في القرآن (107) وترتيبها في النّزول (17).
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} :
{أَرَءَيْتَ} : الهمزة للاستفهام والتّقرير والتّعجب والتّشويق، رأيت: الرّؤية هنا رؤية بصرية أو فكرية بمعنى العلم.
{الَّذِى} : اسم موصول للمفرد المذكر (للعاقل الحقيقي وغيره)، وقيل: الآية نزلت في الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل أو أبي جهل أو غيرهم، والمهم عموم اللفظ وليس خصوص السّبب.
{يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} : يكذب: لا يصدّق ويجحد، بالدين: الباء للإلصاق والدّوام، بالدّين: بالحساب والجزاء، أو الدّين الذي جاء به رسول الله (دين الإسلام) والآخرة والبعث، ثم ذكر صفات الذي يكذّب بالدّين فقال:
سورة الماعون [107: 2]
{فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ} :
{فَذَلِكَ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط المقدّر هو: إن سألت عن الذي يكذّب بالدّين، فذلك: اسم إشارة واللام للبعد، ويفيد الذّم.
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم.
{يَدُعُّ} : الدّع: هو الدّفع الشّديد، أو يدفع اليتيم عن حقه وماله، أو يظلمه أو يأكل ماله أو يمنعه من ميراثه.
{الْيَتِيمَ} : من فقد أباه قبل سن البلوغ.
سورة الماعون [107: 3]
{وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} :
{وَلَا} : النّافية.
{يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} : ولا يطعم المسكين أو الفقير أو لا يتصدّق عليهم، ولا يحثّ غيره من أولي السَّعة على إطعام المسكين أو الإنفاق على المسكين.
سورة الماعون [107: 4]
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} :
أي: المنافقين، وقيل: إن هذه الآيات نزلت في المنافقين بالمدينة.
{فَوَيْلٌ} : الفاء للتوكيد، ويل: العذاب أو الهلاك، أو وعيد بالعذاب أو الخزي أو الفضيحة.
{لِّلْمُصَلِّينَ} : اللام لام الاختصاص أو الاستحقاق. المصلين: قيل المنافقين الذين يصلون أمام الناس ولا يصلون في الغيب، أو التاركون للصلاة عمداً، أو يؤخروها عمداً.
سورة الماعون [107: 5]
{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} :
{الَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذّم.
{هُمْ} : للتوكيد.
{عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} : "عن" تفيد المباعدة والمجاوزة؛ أي: لا يصلّون أبداً (تاركو الصلاة عمداً).
ولم يقل في صلاتهم ساهون؛ لأنّ ما منّا إلا يسهو في صلاته بغير عمد أو قصد، وهذا يمكن أن يتجاوز عنه بالاستغفار والتوبة.
ومن المفسرين من قال: لا تعني تركها كاملاً وإلا لكانوا كفاراً، ولم يصِفهم بالمصلين، وقد تعني المنافقين، الذين لا يحافظون على صلاتهم ويراءون الناس، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وقد تضمّ من يؤخّرونها عن أوقاتها عمداً، والآية تحمل في معناها شدة التحذير والإنذار والوعيد من ترك الصلاة مهما كان السبب.
سورة الماعون [107: 6]
{هُمْ يُرَاءُونَ} : للتوكيد.
{يُرَاءُونَ} : من المراءاة: هي فعل العبادة لغير وجه الله أو مرضاته، وإنما للشهرة أو السمعة ومرضاة النّاس.
سورة الماعون [107: 7]
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} :
{وَيَمْنَعُونَ} : بالزجر أو الحثّ أو التحريض أو الوصية كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37].
{الْمَاعُونَ} : اسم للحاجة ينتفع بها في البيت ولو كانت قليلة القيمة، أو تعني عدم مساعدة الآخرين المحتاجين.
مشتقة من المَعْن: وهو الشيء القليل.
وقيل: الماعون: الزكاة أو الصدقة.
أو لا يساعدون الفقير أو المحتاج بسبب الشحِّ والبخل.
سورة الكوثر [108: 1]
سورة الكوثر
ترتيبها في القرآن (108) ترتيبها في النّزول (15).
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} :
{إِنَّا} : للتعظيم.
{أَعْطَيْنَاكَ} : ولم يقل آتيناك؛ العطاء فيه تملّك، والإيتاء عطاء ليس فيه تملك؛ أي: يمكن استرداده متى شاء، والإيتاء أعمّ من العطاء يشمل الأمور المادية والمعنوية، ارجع إلى سورة البقرة آية (251) للبيان.
{الْكَوْثَرَ} : نهر من أنهار الجنة أعطاه الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ومسلم، وقيل: الكوثر الخير الكثير مثل النّبوة والعلم والحكمة وغيرها وقد تعني الكل.
سورة الكوثر [108: 2]
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} :
{فَصَلِّ} : الفاء للتوكيد.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} : الصّلوات المفروضة والنّوافل، واللام: لام الاختصاص والاستحقاق.
{وَانْحَرْ} : اذبح يوم النّحر كما قال ابن عباس، ومن العلماء من استدل من هذه الآية على وجوب تقديم صلاة العيد على النّحر.
سورة الكوثر [108: 3]
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} :
العداوة لها درجات: تبدأ بالبغض ثم القِلى ثم الشَّنآن ثم المقت.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{شَانِئَكَ} : من الشنآن: وهو البغض الشديد والتجنب؛ الشّانئ المبغض أو العدوّ.
{هُوَ} : تفيد التّوكيد.
{الْأَبْتَرُ} : قد تعني: الذي لا ولد له من الرّجال، أو المنقطع ذكره عن الخير.
وكما قال ابن عباس: إنّ العاص بن وائل السّهمي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبتر بعد أن توفي عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتراً، فأنزل الله هذه الآية ردّاً على العاص بأنّه هو الأبتر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: ليس العاص بن وائل وإنما أبو جهل وأبو لهب، أو عقبة بن أبي معيط، والمهم عموم اللفظ وليس خصوص السبب.
سورة الكافرون [109: 1]
سورة الكافرون
وتسمى سورة الإخلاص الثّانية وقل هو الله أحد سورة الإخلاص الأولى.
ترتيبها في القرآن (109) ترتيبها في النّزول (18).
ومما يلفت الانتباه أنّ الزّمن الفاصل بينها وبين سورة النّصر التي تليها ما يزيد عن (15 عاماً).
رغم أن سورة النصر تلي سورة الكافرون في القرآن.
{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} :
أسباب النّزول: كما ذكر الواحديّ: أنّها نزلت في رهط من قريش قالوا: يا محمّد، هلمَّ اتّبع ديننا ونتّبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما في أيدينا، قد شركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك تكون قد شاركت في أمرنا وأخذت بحظّك. فقال: معاذ الله أن أشرك به! فأنزل الله تعالى هذه السّورة.
فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه ملأ من قريش، فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك.
{قُلْ} : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا: أداة نداء للبعد.
{يَاأَيُّهَا} : الهاء للتنبيه.
{الْكَافِرُونَ} : ولم يقل الذين كفروا، والكافرون: جملة اسمية تدل على أنّ صفة الكفر ثابتة فيهم، ولو قال الذين كفروا: جملة فعلية تدل على التّجدد والتّكرار.
الخطاب للكافرين عامة في كل زمان ومكان.
سورة الكافرون [109: 2]
{لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} :
{لَا} : النّافية للجنس تنفي كل الأزمنة الماضي والحال أو الحاضر والمستقبل، و"لا" أوسع نفياً من "لن".
{أَعْبُدُ} : والعبادة تشمل كل قول وفعل ولا تكون إلا لله وحده، وتعني: الخضوع والطاعة فيما أمر به ونهى عنه، أعبد: فعل مضارع يدل على التّجدد والتّكرار؛ أي: لا أعبد أيَّ صنم أو وثن أو ملك. ارجع إلى سورة النحل آية (73) لمزيد من البيان.
{مَا} : للعاقل وغير العاقل، أو مصدرية؛ أي: لا أعبد ما تعبدون.
{تَعْبُدُونَ} : فعل مضارع يدل على التّجدد والتّكرار.
وإذا نظرنا إلى الآية (4){وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} فهي جملة اسمية تدل على الثّبوت.
فإذا جمعنا الآية الثّانية (الجملة الفعلية)، والآية الرّابعة (الجملة الاسمية) فيكون الرّسول صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه عبادة ما يعبدون من دون الله بشكل متجدد ومتكرر، وبالشّكل الدّائم؛ أي: لا هذا ولا ذاك؛ أي: نفي لكل الأزمنة.
انتبه إلى تكرار "لا" في أربع آيات؛ يفيد توكيد النّفي نفي العبادة.
سورة الكافرون [109: 3]
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} :
{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا النافية؛ أي: أنتم في الحال لستم عابدين ما أعبد؛ أي: الله سبحانه وتعالى.
{مَا أَعْبُدُ} : بمعنى ولا أنتم عابدون الذي أعبد، وهو الله سبحانه.
سورة الكافرون [109: 4]
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} :
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ} : الواو عاطفة، لا: النافية لكل الأزمنة؛ أي: ما كنت في الماضي ولا في الحال ولا في المستقبل عابداً آلهتكم أو ما تعبدون.
هذه الآية توكيد للآية: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وكما قلنا: تعتبر جملة اسمية جاءت لتدل على ثبوت نفي العبادة في كل الأوقات: نفي العبادة الدّائم أو المتقطع (المتجدد والمتكرر).
سورة الكافرون [109: 5]
{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} :
هذه الآية تكرار للآية (3).
وجاءت في الآيتين بصيغة الجملة الاسمية؛ لتدل على الثّبوت والتّوكيد على عبادة مشركي قريش للأصنام والأوثان، وأنهم لا يعبدون الله وحده.
سورة الكافرون [109: 6]
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} :
{لَكُمْ} : اللام لام الاختصاص، والكاف للخطاب (يخاطب مشركي قريش).
{دِينُكُمْ} : سمّى ما يعبدون من دون الله ديناً؛ توبيخاً أو تهكّماً حيث كانوا يزعمون أنّهم على دين آبائهم أو يقلدون آباءهم، وهم ليس لهم دين.
{وَلِىَ} : اللام لام الاختصاص، لي: المتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{دِينِ} : هو دين الإسلام، دين التّوحيد وليس هناك إلا دين واحد منذ خلق الله الأرض هو دين الإسلام فقط، أما اليهودية والنّصرانية فهي ديانات أو شرائع، والإسلام للناس كافة وللمسلمين خاصة. ارجع إلى سورة البقرة الآية (132) لمزيد من البيان في معنى الدين.
ولا تعني هذه الآية الإذن لهم بالشّرك أو الكفر، بل تعني الوعيد والتّهديد. وأمّا تقديم "لكم دينكم" على "ولي دين" راجع لكونهم أكثر عدداً؛ أي: تقديم الأكثر على الأقل.
وحذف الياء من دين ولم يقل من ديني؛ أي: ديني ودين غيري من المسلمين؛ أي: دين ليس خاص به، ودين مستمر إلى يوم القيامة مقارنة بقوله تعالى في سورة يونس آية (104){إن كنتم في شك من ديني} فهذا رد على الكافرين أو الشاكين في دين الله في ذلك الزمن وأنهى أمرهم.
سورة النصر [110: 1]
سورة النصر
ترتيبها في القرآن (110) وترتيبها في النّزول (114) وسميت سورة التّوديع.
معرفة زمن نزول هذه السّورة مهم فقد قيل: إنّها نزلت سنة عشر للهجرة، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش صلى الله عليه وسلم بعدها (70 يوماً) وقيل: نزلت في حجة الوداع وعاش بعدها النّبي صلى الله عليه وسلم (80 يوماً) وعندما سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: نُعيت إليّ نفسي.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} :
{إِذَا} : ظرفية شرطية تدل على حتمية الحدوث.
{جَاءَ} : ولم يقل أتى؛ لأن المجيء أكثر صعوبة ومشقة من الإتيان؛ لأنّ نصر الله والفتح يرافقهما صعوبة ومشقة.
{نَصْرُ اللَّهِ} : النصر يعني الغلبة المادية أو الغلبة العسكرية الحربية باستعمال القوة والسّلاح، والتحام الفريقين، والنّصر أعم وأشمل يتضمن معنى الفتح.
{وَالْفَتْحُ} : يتم بدون قتال أو قوة، يحصل بالصلح وبالمفاوضات والبرهان والحجة كما حصل في فتح مكة. إذن هناك فرق بين النصر والفتح.
وهناك فرق بين النجاة والفوز؛ الفوز يعني: الخلاص من المكروه أو الشدة والوصول إلى الغاية أو المطلوب، فالفوز: النّجاة + الوصول إلى الغاية.
وأما النّجاة: هي الخلاص من المكروه أو الشدة فقط بدون الوصول إلى الغاية.
سورة النصر [110: 2]
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} :
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ} : المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من المؤمنين.
رأيت الناس: رؤية بصرية وفكرية (علمت).
{يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ} : يدخلون بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدد والتّكرار واستمرار دخول النّاس في هذا الدّين إلى يوم القيامة.
{فِى دِينِ اللَّهِ} : وهو الإسلام دين الحق. ارجع إلى سورة البقرة الآية (132) لمزيد من البيان في معنى دين الله.
{أَفْوَاجًا} : جماعات جماعات، ودخول النّاس في دين الإسلام أفواجاً أفواجاً يدل على أنّك بلّغت الرّسالة ومهمّتك قد تحقّقت، وتقديم:"في دين الله" على: "أفواجاً" للاهتمام.
سورة النصر [110: 3]
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} :
{فَسَبِّحْ} : الفاء رابطة لجواب الشّرط، سبّح: من التّسبيح: وهو تنزيه الله عن كل شريك وولد وعيب ونقص، تنزيه الذّات والصّفات والأسماء. ارجع إلى سورة الإسراء آية (1) والتّسبيح سببه: تعجباً لدخول النّاس أفواجاً في دين الله، فحين ترى أمراً عجيباً من المفروض أن تسبِّح.
{بِحَمْدِ رَبِّكَ} : تسبيح مصحوب بالحمد، والشّكر لله؛ لأنه سبحانه نصر عبده وأعزّ جنده ودينه، وحقّق التّمكين للمؤمنين في الأرض بعد فتح مكة.
{وَاسْتَغْفِرْهُ} : الاستغفار هنا استغفار إنابة وكثرة الرجوع إلى الله، واستغفار النّبي صلى الله عليه وسلم أو الطلب منه الاستغفار لا يدل على ذنب، وإنما هو تقرُّب من الله وتواضع وذكر لله تعالى.
أي: رغم الفوز والنّصر ودخول الناس أفواجاً في دين الله على العبد أن يبقى متواضعاً لله تعالى، والاستغفار عبادة قلبية ولو لم يذنب العبد، وانتبه إلى قوله تعالى:"إنّه كان تواباً" ولم يقل إنّه كان غفاراً.
لأنّ غفاراً صيغة مبالغة؛ أي: كثير الغفر والغفران: وهو ستر الذّنب وترك العقوبة عليه والإثابة على الحسنات، وتوّاباً صيغة مبالغة تدل على كثرة قبول التّوبة.
وكلمة تواباً: تتضمن غفاراً؛ لأنّه سبحانه حين يقبل التّوبة يعني قَبِل الاستغفار، فتكون الآية فاستغفره إنّه كان توّاباً (أي: توّاباً وغفاراً) والاستغفار يسبق التّوبة، كما قال تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3].
سورة المسد [111: 1]
سورة المسد
ولها تسميات أخرى منها: تبَّت، أو سورة اللهب.
ترتيبها في القرآن (111) وترتيبها في النّزول (6).
{تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} :
أسباب النّزول: ثبت في الصّحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى صعد الصّفا وقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش فقال: يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني عبد مناف، أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا دعوتنا، ثم قام فنزلت هذه السّورة.
لما قال أبو لهب: تبّاً لك ألهذا دعوتنا، فهو يدعو على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهلاك، فردّ الله سبحانه عليه لا بل: تبّت يدا أبي لهب وتبّ، فالله سبحانه هو القادر على التّبّ، وأمّا دعاء أبي لهب لغوٌ ولا قيمة له.
التّبّ: الهلاك والقطع.
وعبّر عن هلاك وبوار أبي لهب بهلاك يديه؛ ويعني ذاته (عبّر عن الجزء والمراد به الكل)؛ لأن أغلب الأعمال تزاول باليدين.
أبي لهب: اسمه عبد العُزى، وسمي بهذا الاسم؛ لكون وجهه أحمر يشبه اللهب، وهو عم النّبي صلى الله عليه وسلم وكان من سدنة الكعبة من بني هاشم.
وتبّ: تعني قد حصل المراد التّبّ (الهلاك) وتحقّق، وتبّ تفيد التوكيد.
سورة المسد [111: 2]
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} :
{مَا} : النّافية.
{أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} : لن ينفعه مالُهُ يوم القيامة.
{وَمَا} : حرف مصدري يفيد التّعليل، أو اسم موصول للمفرد والمثنى والجمع وغير العاقل والعاقل.
{كَسَبَ} : أي من الولد أو المال الذي ورثه من أبيه، أو الإبل والغنم التي كثر نسلها.
سورة المسد [111: 3]
{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} :
{سَيَصْلَى} : السّين للاستقبال القريب، يصلى: يدخل النّار، يلتهب ويشوى بها.
سورة المسد [111: 4]
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} :
أي: وستصلى امرأته أيضاً؛ وهي أم جميل بنت أخت أبي سفيان، وهذا إشارة إلى أنّه وزوجته سيموتان على الكفر ولن يسلما.
حمّالة الحطب: لها عدّة معانٍ، وكلها واردة في حقّها:
1 -
أنّها كانت تحمل حزم الشّوك والذي فيه الحسك وتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤذيه.
2 -
أنها كانت تمشي بالنّميمة بين النّاس، وإثارة الفتنة وحث الناس على خصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشبّهت النّميمة التي توقدها بالحطب.
3 -
قيل: حمالة الخطايا والأوزار؛ أي: الآثام.
سورة المسد [111: 5]
{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَّسَدٍ} :
{فِى} : ظرفية.
{جِيدِهَا} : أي في عنقها حبل من مسد، والِجيد: هو العنق الطّويل الجميل المرصّع بالزّينة والحلي.
والمسد: هو الليف الخشن الذي فُتِلَ حتى أصبح حبلاً محكماً.
أي: بدلاً من أن يكون جِيد أمّ جميل مرصّع بالذّهب والمجوهرات واللؤلؤ والمرجان يوم القيامة سيلفّ حوله حبل من مسد، بل سلاسل من النّار، وبدلاً من حمل الشّوك أو الحطب على ظهرها ستحمل الزّقوم والضّريع في بطنها، وفي هذا إذلال وإهانة لهذه المرأة القرشية التي تشارك زوجها في محاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لا يطيقه عقل بشر.
سورة الإخلاص [112: 1]
سورة الإخلاص
سميت بذلك؛ لأنّها تهدي إلى التّوحيد الخالص لله عز وجل.
ترتيبها في القرآن (112) وترتيبها في النّزول (22).
فضلها: روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، إنّها لَتعدل ثلث القرآن» .
وروى مسلم من حديث أبي هريرة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّها تعدل ثلث القرآن» .
أسباب النّزول: أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربّك! فأنزل الله تعالى هذه السّورة، أو أنّ قوماً من أحبار اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صِف لنا ربّك، فإنّ الله أنزل نفسه في التّوراة، فأخبرنا من أيّ شيء هو، أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل هو يأكل ويشرب؟!
وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟! فأنزل الله تعالى هذه السورة.
{قُلْ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي إلى أمته؛ أي: قل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سألك عن الله تبارك وتعالى.
{هُوَ} : ضمير فصل يفيد التّوكيد والحصر.
{اللَّهُ} : الاسم الدال على واجب الوجود الإله الحق، اسم ذات الله يحمل في طيّاته كل صفات الكمال تفرّد به سبحانه وقدّمه على جميع أسمائه.
{أَحَدٌ} : لا شبيه له ولا نظير ولا مثيل، ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، وهناك فرق بين (أحد) و (واحد)؛ الواحد: هو الذي لا يتجزأ؛ أي: ليس له ولد، وغير مركب، وأحد أعم في النفي من واحد فهو نفي للجنس؛ أي: لا أحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أكثر، ولكن حين تقول لا واحد يجوز أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة أو أكثر؛ فالله سبحانه أحد وواحد؛ ارجع إلى سورة الصافات آية (4) لمزيد من البيان.
سورة الإخلاص [112: 2]
{اللَّهُ الصَّمَدُ} :
الصَّمد: السَّيد الذي يُصمدُ إليه في الحوائج، والسّيد الذي كمل سؤدده كما روي عن ابن عباس؛ أي: تصمد إليه الأمور ويقصد إليه في كل وجميع الحوائج على الدوام، فإن أصل الصمد: القصد، والمستغني عن كل ما سواه، والصّمد الذي لا جوف له؛ أي: لا يأكل ولا يشرب.
سورة الإخلاص [112: 3]
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} :
{لَمْ} : حرف نفي يفيد الاستمرار.
{يَلِدْ} : أي لا ولد له سواء كان ذكراً أو أنثى، فلا المسيح ابن الله ولا العُزير ولا الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما يشركون.
{وَلَمْ} : تكرار لم يفيد توكيد النّفي.
{يُولَدْ} : أي ليس بمولود فهو الأول والآخر.
سورة الإخلاص [112: 4]
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} :
{وَلَمْ} : حرف نفي يفيد الاستمرار.
{يَكُنْ لَهُ كُفُوًا} : الكفء: المثل المكافئ؛ أي: لا شبه له ولا مثل لا من وجه واحد ولا من جميع الوجوه، أو لا شبيه له ولا عدل ولا مثيل ولا نظير، ليس كمثله شيء.
ولم يقل ولم يكن له أحداً كفواً، وقدّم كُفُواً على أحد؛ أي: سبق نفي المكافأة المادة عن ذات الباري؛ لأنها من أهم الأمور.
سورة الفلق [113: 1]
سورة الفلق
ترتيبها في القرآن (113) وترتيبها في النّزول (20).
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} :
{قُلْ} : الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
{أَعُوذُ} : أي أستجير وأعتصم أو ألجأ.
{بِرَبِّ} : الباء للإلصاق والدّوام، ربّ: الخالق المدبّر.
{الْفَلَقِ} : لها معانٍ متعددة منها:
1 -
الصبح.
2 -
الخلق كلُّه.
3 -
كل ما انفلق.
الفلق: الصبح، كما روي عن ابن عباس وغيره؛ أي: فلق الصبح.
والفلق: تعني الخلق كلَّه.
والفلق: ما انفلق، فهو سبحانه فالق الإصباح وفالق الحبّ والنّوى.
والفلق: إحدى طرق التكاثر وخاصة في النباتات والسُّحب وغيرها.
سورة الفلق [113: 2]
{مِنْ} : بعضية؛ أي: من شرّ بعض ما خلق؛ لأنّ ما خلق بعضه مفيد وبعضه شر، فنحن نستعيذ من القسم الذي يجلب أو يسبّب الشّر والأذى والألم والمكروه والمرض.
{مَا خَلَقَ} : من شرّ؛ أي: إنسان متجبّر طاغ أو جانّ أو حيوان أو جرثوم أو فيروس أو حمى أو نبات أو كوارث طبيعية كرعد وبرق ونار وبرد، والرّيح العقيم والمطر الذي يسبب الفيضانات.
ما: تشمل العاقل وغير العاقل، وتشمل كل شيء في الوجود.
خلق: الخلق، التّقدير والإيجاد.
سورة الفلق [113: 3]
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} :
{وَمِنْ شَرِّ} : الواو: حرف عطف، تكرار من شر أربع مرات يمكن أن يفسر على ذكر الخاص بعد ذكر العام، وكذلك للتأكيد على أهمية هذه المختلفة الشرور الأربع والاستعاذة بالرب منها، والشر ضد الخير.
{غَاسِقٍ} : لها معان عدة:
منها: الليل إذا أظلم أو اشتد ظلامه، إذا وقب: إذا دخل في كل شيء حيث تخرج الهوامّ من أماكنها بالليل والحيوانات المفترسة، وينبعث أهل الشّر والسّرقة والزّنى والقتل لممارسة أعمالهم.
ومنها: الغاسق؛ أي: القمر إذا غاب أو دخل في الكسوف.
ومنها: الغاسق البارد شديد البرودة، الضارّ بالإنسان والحيوان والنبات، كقوله تعالى:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57].
بعد أن وصّى بالاستعاذة من شرّ جميع ما خلق، عاد ليؤكّد على ثلاثة أنواع من الشّرور وهي: الغاسق إذا وقب، والسّحر والحسد.
سورة الفلق [113: 4]
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} :
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} : النّساء السّاحرات اللاتي يقمن بالنّفث: وهو التفل، النّفخ من الفم الذي يخرج معه شيء من الرّيق القليل، فقد كانوا يستعينون على أعمال السّحر بنفث أنفاسهم الخبيثة، أو ينفثن في عُقد الخيوط حيث السّواحر كنَّ يعقدن العُقد في الخيوط.
{فِى الْعُقَدِ} : جمع عُقدة، فالسِّحر قد يؤذي الإنسان ولكن بإذن الله تعالى.
والتّفسير العلمي للعقد: قيل هي العقد الدماغية (التي تتشكل من الخلايا الدّماغية والنورونات المتشابكة المترابطة بإحكام) التي تقدر بالملايين والتي تتأثر بالوساوس والأفكار والعوامل الدّاخلية والخارجية، وسواء كانت نفسية أو عضوية، وتدل على عظمة الخالق وقدرته.
سورة الفلق [113: 5]
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} :
{وَمِنْ} : ابتدائية.
{شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} : الحسد هو تمنّي زوال النّعمة عن الغير لتحصل له؛ أي: تكون له أو لا تكون.
والحسد: حقيقة واقعة لا يجوز إنكارها وهو من الكبائر.
أي قل: أعوذ بالله من شر السّاحر إذا سحر، وأعوذ بالله من شر الحاسد إذا حسد.
وإذا نظرنا إلى هذه الشّرور الأربعة المذكورة في سورة الفلق، نجدها شروراً خارجية تصيب الإنسان وتؤثر في البدن وسلامة النّفس، ويجب أن نستعيذ بالله من هذ الشرور الأربعة.
وإذا نظرنا إلى سورة الناس التالية لسورة الفلق، نجدها تتحدث عن شر واحد هو شر الشيطان الوسواس الخناس، والوسوسة: أمر داخلي، ويجب أن نستعيذ من هذا الشر العظيم.
سورة الناس [114: 1]
سورة الناس
ترتيبها في القرآن (114) وترتيبها في النّزول (21).
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} :
{قُلْ} : الخطاب موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده.
{أَعُوذُ} : أي أستجير وأعتصم وألجأ.
{بِرَبِّ النَّاسِ} ، {مَلِكِ النَّاسِ} ، {إِلَهِ النَّاسِ}:
بربّ: الباء للإلصاق والدّوام، ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال، والقدرة والعلم، تشمل الربوبية والألوهية والملكية التي يجب الاستعاذة بها.
وبدأ بالاستعاذة «بربّ الناس» : أي ألجأ وأعتصم بالرّب بالخالق والمربّي والمدبّر والرّزاق، والمحيي والمميت والحفيظ والشّافي والسّلام، فالرّبوبية تستوجب العبادة: عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
بربّ النّاس: اختار أو خص الناس ولم يقل بربّ العالمين، أو رب كل شيء ربّ عالم الملائكة وعالم الإنس، وعالم الجن وعالم الحيوان والنبات والجماد؛ لأنّ ربّ النّاس خاصة؛ لأنهم المتميزون بحمل التكاليف والعبادة والحساب والجزاء كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
سورة الناس [114: 2]
{مَلِكِ النَّاسِ} :
الحاكم والمالك؛ أي: ألتجأ وأعتصم وأستجير بملك الناس: أي الحاكم والمالك.
{النَّاسِ} : اسم يشير إلى بني آدم أو البشر. ارجع إلى سورة البقرة الآية (20) لمزيد من البيان.
سورة الناس [114: 3]
{إِلَهِ النَّاسِ} :
أي: الإله المعبود الحق: أي ألتجئ وأعتصم بهذا الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده.
فحينما يستعيذ بالربوبية والملكية والإلوهية؛ فهو يستعيذ بثلاث: برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر واحد وهو: الوسوسة، بينما في سورة الفلق استعاذ برب الفلق منه أربع شرور؛ فيكون قد أقرّ بنفسه بالوحدانية: وحدانية الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ويكون قد وصل إلى الغاية الكبرى والنّهاية العظمى في التصديق والإيمان، ونلاحظ ذكر كلمة الناس خمس مرات في سورة الناس. ارجع إلى سورة البقرة الآية (21) لبيان معنى الناس، ونلاحظ أيضاً أنه لم يأت بواو العطف في أي آية في هذه السورة.
سورة الناس [114: 4]
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} :
{مِنْ} : لابتداء الغاية.
{شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} : الوسواس: هو الشيطان الذي هو من الجن. شرّ: أذى الشيطان ذي الوساوس، الذي يوسوس؛ أي: له خاصة الوسوسة.
يقال: وسوس إليه الشّيطان: كلّمه كلاماً خفياً، وهو عبارة عن الأفكار والخواطر وحديث النّفس والخيالات التي تمرّ أو تعصر بفكر الإنسان، وقد تؤدّي إلى المعصية والابتعاد عن الحق.
{الْخَنَّاسِ} : اسم فاعل من الفعل الثلاثي خنس؛ أي: توارى واختفى من الخنس وهو الاستخفاء والتّستر؛ أي: الشّيطان المختفي عن الأبصار؛ أي: لا تراه وهو يراك، أو إذا ذكر الله. خنس؛ أي: استتر، أو كف شره؛ فإذا غفل العبد عن ذكر ربه عاد يوسوس إليه.
سورة الناس [114: 5]
{الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} :
{الَّذِى} : اسم موصول يفيد الذّم.
{يُوَسْوِسُ} : في صدور الناس: في قلوبهم؛ أي: عقولهم، ولم يقل يوسوس إلى صدور النّاس، بل قال:"يوسوس في صدور النّاس"؛ أي: في داخلها.
يوسوس فعل مضارع يفيد التّجدد والتّكرار والاستمرار.
النّاس: من ألفاظ الجموع التي ليس لها مفرد، وكلمة الناس مشتقة من النوس: وهو الحركة، والناس قد يكون من الإنس ومن الجن، وأصله أناس حذفت الهمزة للتخفيف.
ولا يكتفي الشّيطان بالوسوسة بل له أساليب أخرى كما بيّنت الآيات الأخرى منها: التّزيين حيث يزيّن له الشّبهات والمنكرات، ويجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ومنها الأزُّ:{تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] أي: تثيره على فعل المعصية وتهيّجه فلا يفكر إلا بها، فيشتد غليانه لفعلها، ومنها مرحلة النّزغ كأنّ الشّيطان بآلة حادة بحربة ويركضه برجله؛ ليسرع به على ارتكاب المعصية، ثم تأتي مرحلة المسِّ المباشرة بالمعصية.
سورة الناس [114: 6]
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} :
لها معنيان: الأول: يوسوس في صدور الجن والإنس، والمعنى الثاني:
{مِنَ الْجِنَّةِ} : أي الذي يوسوس: هو شيطان من الجنة؛ أي: من شياطين الجنّ، وكما قال تعالى:{شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
{وَالنَّاسِ} : أو هو شيطان من النّاس (الإنس) وهو أشدُّ ضرراً من شيطان الجنّ.
وهل شيطان الإنس قادر على الوسوسة في الصّدور؟
الجواب: لا، ولكنهم يقومون بالوسوسة علانية حين يقومون بالفساد، وحين يزينون للناس الشر والقبيح والمعاصي، ويثيرون الشبهات، ولذلك يجب الاستعاذة من شياطين الإنس والجن.