الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النساء [4: 148]
{لَا} : الناهية.
{يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ} : هو رفع الصوت، والجهر هو عموم الإظهار والإشاعة.
{بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} : الباء: للإلصاق.
{بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} : أيْ: إشاعة عيوب الناس، مثلاً: فلان يشرب الخمر، فلان يزني، فلان منافق، أو كافر، واللعن، والطعن، والسب، والشتم، والغيبة، والنميمة.
والسوء: هو كل ما يسيء إلى صاحبه، أو إلى الناس، وهو القبيح من القول الذي يؤدِّي إلى إثارة البغضاء، والعداوة، والكراهية، وانتشار الفساد، والحقد، والحسد، وعدم الجهر، والصبر، والتريث، والكتمان أفضل عند الله تعالى.
{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} : إلا: أداة حصر.
{مَنْ} : ابتدائية، أو استغراقية، تستغرق كلّ من ظُلم؛ أيْ: يباح للمظلوم أن يجهر بما في ظالمه من السوء؛ ليدفع عن نفسه الشر، أو أن يجهر لظالمه بالسوء؛ أيْ: يدعو عليه، أو أن يخبر الآخرين بما يفعله الظالم، أو بما يحدث له من شر، ويجوز أن يشتكي على الظالم، إذا ضاقت به السبل.
{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} : (كان) تستغرق كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
{سَمِيعًا} : ما يقال من الجهر من القول، وكل ما يقال خيراً، أو شراً، وفي السر والعلن، عليماً بظواهر الأمور وبواطنها، بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وعليماً صيغة مبالغة؛ تعني: كثير العلم، أحاط علمه بجميع خلقه، وبكل شيء.
وانتبه إلى الربط بين الآية (148)، والآية (149)، كما سيلي في نهاية الآية (149).
سورة النساء [4: 149]
{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو القلّة.
{تُبْدُوا خَيْرًا} : أيْ: تظهروا، أو تخبروا، أو تعلنوا خيراً من قول، أو فعل، مثل: أعمال البرّ، والإصلاح بين الناس، وصيام النفل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها.
{أَوْ تُخْفُوهُ} : فلا يعلم به إلا الله سبحانه، أو القليل من الناس.
{أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} : العفو: هو ترك العقوبة على الذنب، والسيئات.
والسوء: يشمل القول، والفعل، مثل: الشتم، والتقبيح، والغيبة، والنميمة، والعفو هنا مقرونٌ بالقدرة؛ أيْ: قادرين على أن تعفوا، أو لا تعفوا، وتعاقبوا المسيء.
{فَإِنَّ} : الفاء: للتوكيد.
{اللَّهَ كَانَ} : كان ولا يزال، وسيظل عفواً قديراً، فهذه هي صفات ذاته منذ الأزل لا تتغير.
{عَفُوًّا} : ذكر -جل وعلا- هذا الاسم (العفو) خمس مرات في القرآن؛ أربع مرات مع الاسم الغفور، والخامسة والوحيدة مع الاسم (القدير)؛ أيْ: ليمحو الذنوب، ويتجاوز عن السيئات، يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام منه، فعليكم أن تقتدوا بسنة الله وتعفوا.
{قَدِيرًا} : لا يعجزه شيءٌ في السموات، ولا في الأرض، ذو القدرة العظيمة على مخلوقاته إذا أراد شيئاً؛ فإنما يقول له: كن؛ فيكون، وهو على كل شيء قدير، وتعني: أن يعفو عن مقدرة، وليس عن عجز، فهو عفوٌّ، ويقدر أن يعاقب، ولكن قدرته اقترنت مع العفو، فهو قادرٌ على العفو، وقادرٌ على العقاب. {قَدِيرًا} على أن يعفو، {قَدِيرًا}: على ألا يعفو.
وهذه الآية تحث الناس أن يتخلّقوا بهذا الخلق الحسن؛ وهو العفو عن مقدرة، لا عن عجز، ولا ضعف، ولا احتياج.
لو نظرنا إلى الآية (149): لوجدناها مرتبطة بالآية (148)، أو تتمة لها، كما يلي:
الربط الأول: في الآية (148) قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ؛ أي: استثنى المظلوم.
وفي الآية (149) قال تعالى: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} : فالربط يكون: لا يحب اللهُ الجهر بالسوء من القول، ويحب أن تعفو عن السوء.
الربط الثاني: لا تجهر بالسوء الآية (148)، واعفوا عنه الآية (149).
وأما الخير فأبدوه، أو أخفوه فلكم الخيار، آية (149).
الربط الثالث: في الآية (148): ذكر السوء، وفي الآية (149): ذكر الخير.
ولنقارن هذه الآية مع آية (54) من سورة الأحزاب:
في سورة النساء، الآية (149) قال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} .
في سورة الأحزاب، آية (54) قال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا شَيْـئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} .
في سورة النساء قال: {تُبْدُوا خَيْرًا} ، وفي سورة الأحزاب:{إِنْ تُبْدُوا شَيْـئًا} .
وفي الأحزاب: شيئاً (نكرة)، شيئاً من الخير، أو شيئاً من الشر، وفي النساء ذكر السوء في الآية (148)، وذكر الخير في الآية (149).
إذن كلمة شيئاً عامة تشمل الخير والشر.
لننظر في السياق في سورة الأحزاب في نساء النبي، ودخول المنازل، والسؤال من وراء الحجاب، وعدم إيذاء النبي؛ فالآية تخاطب عامة الناس. الجميع: المؤمنين، والكفار، والمنافقين، واستعملت كلمة شيئاً كلمة عامة تشمل: الخير، والشر، وانتهت بقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} ، بينما سورة النساء جاءت في سياق الخطاب للمؤمنين وحدهم، فهي تتحدث عن جانب الخير غالباً، وانتهت بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} .
سورة النساء [4: 150]
المناسبة: بعد ذكر المنافقين، وصفاتهم، ومنزلتهم، ومن تاب منهم، يذكر سبحانه وتعالى بعض صفات الكفار حقاً فيقول:
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} : يكفرون (جاءت بالمضارع): ليدل على التجدُّد، والاستمرار في كفرهم، ويشمل: الكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، واقتصر اللهُ الكفر بالله ورسوله في هذه الآية: الكفر بالله؛ بأن لا يؤمن، ويصدق أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو المعبود وحده، ولا يؤمن بوحدانيته في الألوهية، والربوبية، والصفات، والكمال، والمنزه عن كل نقص.
{بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق.
{وَرُسُلِهِ} : ورسله تشمل الأنبياء والرسل، والكفر برسول واحد يعني الكفر بهم جميعاً، وتصديق رسالاتهم فرض من فروض الإيمان.
{وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} : أيْ: أن يؤمنوا بالله، ويكفروا برسله، وكفرهم بالرسل: هو كفر بالله تعالى.
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} : أيْ: نؤمن ببعض الرسل، ونكفر ببعضهم، أو نؤمن برسول واحد، ونكفر بالآخرين؛ أيْ: لا نصدقهم، كما فعل اليهود؛ إذ آمنوا بموسى عليه السلام ، وكفروا بعيسى، وبمحمد عليهم الصلاة والسلام، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو يؤمنوا ببعض الفرائض، ويكفروا ببعضها، أو يؤمنوا بالقرآن، ولا يؤمنوا بالسنة.
{وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} :
ويريدون أن يتّخذوا بين الإيمان والكفر طريقاً وسطاً؛ أيْ: يأخذون من الدِّين ما يشاؤون، وتهوى أنفسهم، فيؤمنون ببعض الأحكام، والأوامر، ويرفضون الأخرى.
{وَيُرِيدُونَ} : بصيغة المضارع: تدل على استمرار إرادتهم، وقيامهم بذلك، فهم لم ينتهوا بعد.
سورة النساء [4: 151]
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد.
{هُمُ} : ضمير منفصل؛ يفيد التأكيد على أنهم الكافرون حقاً.
{حَقًّا} : أيْ: يقيناً لا شك فيه. حقاً: تفيد التأكيد.
{وَأَعْتَدْنَا} : لهم: هيأنا وأعددنا، واستعمل ضمير الشأن (نا): للدلالة على سوء عاقبتهم، والتحذير مما يفعلون.
{عَذَابًا مُّهِينًا} : جهنم، والعذاب المهين يعني: الأليم، مع الإهانة؛ لكونه أمام الآخرين، وعدم الاستجابة لهم، وهم يصرخون فيها: ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنا نعمل، أو مخاطبتهم مثل:{قَالَ اخْسَـئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وغيرها من أنواع الإهانة.
سورة النساء [4: 152]
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} : أيْ: صدقوا، وآمنوا بالله سبحانه، وأقرُّوا بجميع الرسل والأنبياء، وآمنوا بهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (8)؛ للبيان.
{وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} : أيْ: لم يؤمنوا ببعض الرسل، ويكفروا ببعضهم كما يفعل الكافرون.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعيد، يشير إلى الذين آمنوا بالله ورسله، وارتفاع منزلتهم.
{سَوْفَ} : حرف للاستقبال، وتدل على البعد، أو التراخي، والتوكيد؛ لإيتائهم أجورهم.
{أُجُورَهُمْ} : الأجر يكون مقابل العمل، وتعني هنا: ثواب أعمالهم.
{وَكَانَ} : ولا يزال، وسيظل غفوراً رحيماً؛ لأن هذه صفة ذاتية لا تزول أو تتغير.
{غَفُورًا} : يغفر الذنوب جميعاً، كثير الغفر، يستر الذنوب، ويغفر الذنوب مهما كبرت أو كثرت.
{رَحِيمًا} : اسم الرحيم ذكر (114) مرة في القرآن، الرحيم: على وزن فعيل؛ أيْ: راحم، وفعيل للمبالغة، وكون رحيماً صفة ثابتة فيه، رحيم بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (2)؛ لمزيد من البيان.
سورة النساء [4: 153]
{يَسْـئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} : أي: اليهود.
{يَسْـئَلُكَ} : ولم يقل: يسألونك. يسألك السائل، وليس بالضروري أن يكون السائل أمامك ويسألك، ولو قال: يسألونك، السائل يقف أمامك ويسألك، هذا هو الفرق بين يسألك ويسألونك، وجاءت يسئلك بصيغة المضارع للدلالة على تكرار السؤال المرة بعد الأخرى بقصد التحدي والإعجاز، وكذلك لحكاية الحال؛ أي: استحضار الماضي حتى يصبح كأن السؤال يحدث الآن لبشاعة السؤال أو كونه غريب أو مستحيل.
{أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} :
1 -
{أَنْ} : للتوكيد، تؤكد حرصهم على هذا السؤال.
2 -
أن تنزل أنت (يا محمد)، وليس الله سبحانه؛ أيْ: يسألون محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من سؤالهم الله سبحانه، وهذا يدل على جهلهم وغباوتهم.
3 -
{أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ} : ولم يقولوا: يُنزل عليك؛ لأنك أنت الرسول، بل عليهم مباشرة.
{أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ} : أيْ: أنت، وليس الله سبحانه، وكيف يمكن أن تنزل عليهم، والنزول يعني: من أعلى إلى أسفل، وأنت لست في السماء، وإنما معهم على الأرض؛ أيْ: هم يريدون كتاباً يُنزل عليهم مباشرة منك، وليس من الله سبحانه، وقد تعني: أن تسأل الله أن ينزل عليهم كتاباً، وقد ردَّ الله سبحانه عليهم حين سألوه سؤالاً آخر بأن ينزل عليهم آية بقوله:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
4 -
{كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} : كتاباً تاماً دفعةً واحدةً، جملةً واحدةً، ومن السماء.
وسؤالهم هذا سؤال من قبيل التعجيز، وليس سؤال استرشاد وهداية، وإنما سؤال جدل وعناد؛ أيْ: لا تتعجب من سؤالهم.
{فَقَدْ} : قد: للتحقيق.
{سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} : أيْ: أرنا الله بأعيننا، وتمادوا في طغيانهم حتى أرادوا رؤية الله جميعاً، الكل يريد أن يرى الله سبحانه.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} :
{فَأَخَذَتْهُمُ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة بعد سؤالهم.
{فَأَخَذَتْهُمُ} : أهلكتهم، وقضت عليهم.
{الصَّاعِقَةُ} : مثل رعد، وبرق فيه نار (تيار كهربائي) قضى عليهم. ارجع إلى سورة فصلت، آية (13)؛ لمزيد من البيان.
{بِظُلْمِهِمْ} : الباء: للإلصاق، وقيل: باء السببية؛ أيْ: بسبب ظلمهم، أو بدل ظلمهم، الظلم: هو الخروج عن المنهج الرباني.
كان يكفي ذلك الظلم، حين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ، وكان يكفي أنهم اتخذوا العجل الذي صنعه السامري لهم، وثم: هنا لا تدل على الترتيب والتراخي، وإنما فقط على التعداد الذكري.
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} : من: الابتدائية لابتداء الغاية والمباشرة.
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} : اتخذوا العجل، فلم يكن هناك زمن طويل يدعو إلى النسيان، والبينات مثل: فلق البحر، ونجاتهم من فرعون وجنوده، وغيره من الآيات، ولمقارنة جاءتهم البينات وقوله تعالى:{وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 86]؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (86) للبيان والفرق بين الآيتين.
{فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} : الفاء: للترتيب، والتعقب.
{فَعَفَوْنَا} : عن عبادتهم العجل بعد توبتهم، وقتل أولئك الذين عبدوا العجل.
{ذَلِكَ} : أي: اتخاذهم العجل، وطلبهم رؤية الله جهرةً وغيرها.
{وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} : وآتينا موسى عليه السلام ، والإيتاء: هو أعم من العطاء وأوسع، وليس فيه تملك؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (251) لمزيد من البيان في الإيتاء والعطاء.
{سُلْطَانًا مُبِينًا} : هو التوراة و {سُلْطَانًا مُبِينًا} : الحُجَّة القوية الواضحة.
{مُبِينًا} : الواضح البيِّن لكل من قرأ التوراة، والذي لا يحتاج إلى تبيُّن من أحد، فهو واضح بنفسه؛ لما فيه من الأحكام، والأوامر الربانية.
سورة النساء [4: 154]
{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ} : فوق بني إسرائيل.
{الطُّورَ} : أقل من الجبل حجماً وارتفاعاً وطولاً.
{وَرَفَعْنَا} : وفي آية أخرى، قال تعالى:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171].
والنتق: يكون أولاً، ثم الرفع ثانياً، والنتق: يعني: القلع من جذره. وذكر الجبل والنتق في سياق التهديد الأشد، وذكر الطور والرفع في سياق التهديد الأقل شدة.
حدث هذا النتق، ثم الرفع بعد أن امتنعوا من الأخذ والالتزام بتطبيق أحكام التوراة، وأعرضوا عن طاعة الله، وما جاء به موسى عليه السلام ، والاستجابة له بعد أن أخذ عليهم الميثاق من قبل أن يعملوا على تطبيق ما أمرهم الله به، ونهاهم عنه، فلما رفع فوقهم الطور وأيقنوا أنه واقع بهم، عاهدوا الله عهداً مؤكداً جديداً للعمل بما في التوراة، فقبل الله منهم عهدهم.
{وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} : ادخلوا باب بيت المقدس سجداً؛ أيْ: خاضعين خاشعين لله، فرفضوا.
{وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِى السَّبْتِ} : عدم اصطياد الحيتان (السمك) في يوم السبت؛ فخالفوا واصطادوا. ارجع إلى سورة الأعراف، الآيات (163-166).
{وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِيثَاقًا غَلِيظًا} : عهداً، موثقاً مؤكداً جديداً بالإيمان، والأخذ بالتوراة، بقوةٍ وجدٍّ، والعمل بها، وذكر الميثاق الغليظ في ثلاث آيات. ارجع إلى الآية (21) من نفس السورة.
سورة النساء [4: 155]
{فَبِمَا} : الفاء: للتعقيب، والترتيب، والمباشرة؛ أيْ: لم يمضِ وقتاً طويلاً عليهم حتى عادوا إلى نقض الميثاق من جديد.
والباء: للإلصاق، والتوكيد (باب السببية)، وما: للتوكيد.
{نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} : أيْ: بسبب نقضهم ميثاقهم (العهد المؤكد الذي أخذوه على أنفسهم بالالتزام بأوامر الله -جل وعلا- ).
ونقض الميثاق: يعني: حلّه؛ أيْ: رفض العمل به، أو التخلي عنه.
وما فع له الله بهم، لم يبيِّنه في هذه الآية، بل بيَّنه في سورة المائدة، آية (13):{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} .
{وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ} : كفروا بآيات التوراة، والآيات الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنبياء الله ورسوله؛ الذين أرسلوا إليهم، أو المعجزات التي كانوا يشاهدونها بين الحين والآخر.
{وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} : كزكريا عليه السلام ، ويحيى عليه السلام ، وغيرهما من الأنبياء بغير ذنب. ارجع إلى سورة البقرة آية (61) للبيان المفصل بين الآيات المتشابهة في قتلهم الأنبياء، أو النبيين بغير حق، وبغير الحق.
{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} : أي: ادعوا أن قلوبهم غلف، ذوات غلف؛ أيْ: مغشاة بأغطية تمنع وصول أيِّ شيءٍ مما يدعو إليه من الإيمان والموعظة، أو لا تعي، ولا تفقه ما يقال لها من كلام الرسل والأنبياء، أو لسنا بحاجة إلى العلم، عندنا ما يكفينا من الهدى والرشاد الذي تركه آباؤنا، بسبب هذه الأمور الأربع؛ طبع الله على قلوبهم.
بل: للإضراب الانتقالي.
والحقيقة: أن الله هو الذي طبع على قلوبهم، ولعنهم بكفرهم؛ لأنهم تمادوا في كفرهم وطغيانهم.
والطبع أشد من الختم، والذي يطبع على قلبه يُفقد الأمل منه في غالب الأحوال، إلّا ما رحم الله، فلا يدخل قلبه ذرة أو شعاع إيمان، ولا يخرج من قلبه ذرة كفر.
{فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} :
{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: النافية.
{يُؤْمِنُونَ} : بالله ورسله، وما أنزل الله على رسله.
{إِلَّا} : أداة حصر.
{قَلِيلًا} : أيْ: فلا يؤمن منهم إلّا القليل؛ (أمثال: عبد الله بن سلام وأصحابه)؛ أي: العدد القليل، أو إذا آمنوا يكون إيمانهم قليلاً كيفاً أو كماً. ولمقارنة هذه الآية بالآية (88) في سورة البقرة وهي قوله تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} ؛ ارجع إلى الآية (88) في سورة البقرة للبيان.
سورة النساء [4: 156]
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} :
{وَبِكُفْرِهِمْ} : الواو: عاطفة. بكفرهم: الباء: باء السببية؛ أيْ: سبب كفرهم.
انتبه: {وَبِكُفْرِهِمْ} : هذه ليس تكراراً لكفرهم الأول، وإنما يدل على نوع آخر من الكفر، فالكفر الأول بآيات الله والتوراة، والكفر الثاني بعيسى ابن مريم عليه السلام ، والبهتان على مريم عليها السلام.
{وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} :
{بُهْتَانًا} : البهتان: هو الكذب المتعمد الذي يبهت سامعه ويدهشه، والبهتان: نوع من أنواع الكذب المذكورة في القرآن، ومنها: الإفك، والاختلاق، والافتراء، والظن، والخرص
…
{بُهْتَانًا عَظِيمًا} : والبهتان العظيم: هو قذفهم مريم عليها السلام بالزِّنى.
{عَظِيمًا} : العظيم: صفة للبهتان، يمثل أعلى درجات البهتان.
سورة النساء [4: 157]
{وَقَوْلِهِمْ} : أي: اليهود؛ قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، هم لم يؤمنوا بعيسى أصلاً، فكيف قالوا: رسول الله؟
له ثلاثة احتمالات:
الأول: قالوا: رسول الله على سبيل التهكم، والاستهزاء، مثل قول فرعون لموسى على سبيل التهكم:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27].
الثاني: أو اعترفوا بأنه رسول الله بعد قتله، تبيَّن لهم ذلك.
الثالث: أنه من قول الله سبحانه، وليس من قولهم، وهذا يدل على بشاعة ما فعلوه بعيسى عليه السلام .
{وَمَا قَتَلُوهُ} : الواو: استئنافية، وما: النافية؛ تنفي قتل عيسى عليه السلام .
{وَمَا صَلَبُوهُ} : وما: للتأكيد، وللنفي بعدم القتل والصلب؛ أيْ: ما قتلوا عيسى، ولا صلبوه.
{وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} : أيْ: قتلوا، وصلبوا من أُلقي عليه شبهه، أو شبِّه لهم أنهم قتلوه، وفيمن ألقي عليه شبهه قولان:
أحدهما: أنه كان رجلاً منافقاً من أصحاب عيسى عليه السلام ، خرج ليدل عليه، فألقى الله شبه عيسى عليه، فأُخذ وصلب.
والثاني: أنه كان رجلاً من أصحاب عيسى عليه السلام ؛ لما علم عيسى أنه سيُرفع إلى السماء، سأل حواريه: أيكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي، فقام شاب، وقال: أنا، ثم أعاد عيسى القول ثلاث مرات، وكل مرة كان يقوم الشاب، فتمَّ ذلك.
{الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} : أي: اليهود، أو النصارى.
فاليهود: اختلفوا في الذي ألقوا عليه القبض، هل كان هو عيسى حقيقة أم غيره، والنصارى اختلفوا فيه، هل هو إله أم هو ثالث ثلاثة، أم هو ابن الله -جل وعلا- .
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ} : أي: اليهود والنصارى الذين اختلفوا في عيسى؛ لفي: اللام: للتوكيد؛ في: ظرفية؛ شك: التردد بين الشيئين استوى طرفاه.
{مِّنْهُ} : أي: عيسى عليه السلام .
وقد اختلفت الروايات في هذه النهاية العجيبة لعيسى عليه السلام ، كما كانت ولادته أمراً عجيباً، والقرآن يخبرنا بحقائق ثابتة هي أنهم ما قتلوه، وما صلبوه، بل رفعه الله إليه.
وقوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} : شبه: أي: في الكيفية؛ أي: شبهه الله لهم بأنه عيسى، ولم يكن عيسى، وإنهم:{لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} : فتدل على اضطراب حالتهم الفكرية حينذاك، واختلاط الأمور عليهم؛ الظن: هو رجحان طرف الثبات على طرف النفي.
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} : إعادة النفي، وتكرار كلمة ما قتلوه، تؤكد عدم قتلهم له، وهم أنفسهم كانوا غير متيقنين من قتله، بل شاكّين بمن قتلوا، وكان كل علمهم به ظناً.
سورة النساء [4: 158]
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} :
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي؛ أيْ: إبطال الكلام السابق أنهم قتلوه، أو صلبوه.
{رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} : وقد ذكر الله سبحانه في آية (55) من سورة آل عمران كيف تمت عملية الرفع والوفاة معاً، أو الوفاة والرفع.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} :
ورفع عيسى عليه السلام ليس أمراً عجيباً، بل أعجب من ذلك حادثة المعراج التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَكَانَ اللَّهُ} : كان، وما يزال، وسيظل عزيزاً حكيماً، فالعزة، والحكمة: صفات لذاته، لا تنفك عنه، ولا تزول.
{عَزِيزًا} : الذي لا يُغلب، ولا يقهر، وغالب على أمره إذا أرادوا قتل عيسى عليه السلام .
{حَكِيمًا} : حكيم فيما يدبره، ويقدره، وفيما يفعله من الأمور سبحانه، لا يُسأل عمّا يفعل، وهم يسألون، حكيم من الحكمة، وحكيم من الحكم، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
وهناك احتمال آخر: حينما ذهبوا لقتله؛ رأى بعض هؤلاء الذين دخلوا على عيسى عليه السلام ، وهو يُرفع إلى السماء، وخافوا أن يعلم الناس بذلك، فيؤمنوا به، ويفضح أمرهم، فأخذوا الذي دلّهم عليه مكانه وصلبوه، وسواء أكان انتقاماً منه، أو خوفاً من أن يخبر الناس بحقيقة عيسى عليه السلام ، الله أعلم.
والبحث هذا لا يهمنا، المهم أن الله رفعه إليه، ويكفينا أنه يقول الحق لنا:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} : إذن نؤمن بذلك، وأنه سوف يكون من علامات الساعة.
لقد وردت في الآية ثلاث كلمات معاً:
الشك، والظن، واليقين، ولكل منها معنى يختلف عن الآخر.
الشك: هو التردد بين أمرين، أو طرفين على حد سواء.
أو تتساوى فيه كفة النفي، وكفة الإثبات؛ أي: النسبتين كما نقول: (50%، 50%)، وهو اضطراب نفسي.
أما الظن: التردد الراجح؛ أي: إذا رجحت كفة الإثبات، وأصبحت أكثر من (50%).
واليقين: هو الأمر الثابت المعقود في الواقع، والقلب بحيث لا يطفو إلى الذهن؛ ليناقش من جديد، أو يتغير، أو هو العلم بالحق، مع العلم أنه لا يكون غيره.
سورة النساء [4: 159]
{وَإِنْ} : تفسيرية؛ تفيد التوكيد.
{مِّنْ} : استغراقية تشمل كل {أَهْلِ الْكِتَابِ} .
{إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ} : اللام: لام التوكيد، وكذلك النون في يؤمنن به، أو من بعضية، بعض أهل الكتاب، وليس الكل إلا ليؤمنن به قبل موته، أقل احتمالاً من الاستغراقية.
{قَبْلَ مَوْتِهِ} : الهاء قبل موته: تعود إلى عيسى عليه السلام بعد عودته إلى الأرض، وموته الحقيقي قبيل حدوث الساعة، وهناك من قال: الهاء تعود على من يموت من أهل الكتاب.
{لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد؛ أيْ: ليصدقنه، ويؤمنن به رسولاً، وبشراً، وعبداً، وليس إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة.
{بِهِ} : تعود على عيسى عليه السلام .
{قَبْلَ مَوْتِهِ} : الهاء: تعود على عيسى عليه السلام ، أو إلى الميت من أهل الكتاب، وهناك عدة احتمالات في التفسير:
الاحتمال الأول: لا تخرج روح أو نفس أيِّ نصراني من ملَّة عيسى عليه السلام حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة.
الاحتمال الثاني: قالوا: بعد موت عيسى عليه السلام الموتة الحقيقية؛ أيْ: بعد نزوله قبل الساعة، فكل نصراني في ذلك الزمن سيؤمن ويصدق بعيسى عليه السلام : أنه رسول الله، وعبده، وليس ثالث ثلاثة، أو إله، أو ابن إله.
الاحتمال الثالث: بعد نزول عيسى عليه السلام ، وكسره الصليب، والحكم بالإسلام؛ عندها كل واحد من أهل الكتاب عند موته يشهد أن محمداً حق، والإسلام حق، ويؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويشهد أن عيسى هو رسول، وعبد، وليس إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} :
أيْ: يكون عيسى عليه السلام شهيداً على أهل الكتاب.
أنه بلغ رسالات ربه، ويشهد على الذين ادّعوا له بالألوهية وكفرهم، وعلى الذين كذّبوه من اليهود وغيرهم، ودين الإسلام هو الدِّين الحق، وتميل الأدلة وأقوال المفسرين إلى القول: ما من أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان؛ إلا ليؤمنن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وقبل موته، الهاء: تعود هنا إلى كل كتابي؛ أيْ: قبل أن يموت إلّا ليؤمن بأن عيسى رسول، وعبد، وليس إلهاً، أو ابن إله.
وقد تحمل الآية معنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى عليه السلام سوف يكسر الصليب أمام أهل الكتاب، ويدين بالإسلام، ويصلي وراء أحد المسلمين.
سورة النساء [4: 160]
بعض أسباب تحريم الطيبات على الذين هادوا:
السبب الأول: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} : الفاء: للتوكيد؛ أيْ: بسبب ظلمهم بسبب ما ارتكبه اليهود من ذنوب، مثل نقضهم الميثاق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
حرَّم الله طيبات أحلت لهم سابقاً، وقد ذكرها الله في سورة الأنعام، الآية (146)، فقال:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} .
وحدث هذا في زمن موسى عليه السلام ، ثم جاء عيسى عليه السلام ، فأحلَّ لهم بعض الذي حرَّم عليهم.
السبب الثاني: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} :
فالتحريم كان سببه الظلم من جهة، وصدّ الناس كثيراً عن سبيل الله، من جهة أخرى.
الباء: باء السببية، أيْ: بسبب.
{وَبِصَدِّهِمْ} : الصد: المنع والصرف؛ أي: منع الناس من الدخول في دِين الله، واتباع الحق، وقيل: عن سبيل الله؛ أي: الإسلام، وذلك بسبب كتمانهم البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
{كَثِيرًا} : تعني: الكثير من الناس، أو تعني: القيام بالصد المتكرر، والمتجدد، والمستمر، أو تعني: الوقت، يصرفون الوقت الطويل في القيام بالصد عن سبيل الله، أو تعني: الكل.
سورة النساء [4: 161]
وهذا هو السبب الثالث للتحريم؛ فهو: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : أخذهم الربا، وقد نهوا عنه؛ أي: التعامل بينهم بالربا والفائدة، وأكلهم له وهو محرم عليهم.
وقد: تفيد التحقيق والتوكيد، نهوا عنه في التوراة.
وأما السبب الرابع: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} : فمثل الرشوة، السرقة، الغش.
{وَأَعْتَدْنَا} : هيَّأنا وأعددنا للكافرين، وأعتدنا: حالة خاصة من أعددنا؛ أعددنا: أعم وتشمل كثير من الإعدادات، وأعتدنا: غالباً ما يكون في العذاب.
{لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} : من البعضية منهم، وليس كلهم؛ لأن هناك فئة مؤمنة، سيأتي ذكرها بعد قليل.
{عَذَابًا أَلِيمًا} : عذاباً شديد الإيلام ودائماً.
سورة النساء [4: 162]
{لَكِنِ} : حرف استدراك.
تعريف الراسخ في العلم: هو الثابت على إيمانه، لا يتزحزح عنه، ولا تأخذه الأهواء، أو النزوات، وهو صاحب يقين. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)؛ لمزيد من البيان.
{مِنْهُمْ} : من أهل الكتاب.
{وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : أيْ: ليس كل أهل الكتاب نقضوا الميثاق، وكفروا بآيات الله، وقتلوا الأنبياء، وأكلوا أموال الناس، هناك فئة منهم.
{يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : وهو القرآن، أمثال: عبد الله بن سلام، وأصحابه.
{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} : من سائر الكتب الأخرى.
{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} : بدل من المقيمون الصلاة؛ لكونها معطوفة على مرفوع (المؤمنون)، فعطف بالنصب على المرفوع؛ أيْ: كسر الحق إعراب هذه الكلمة؛ ليلفتنا إلى (أهمية الصلاة).
وإثارة الانتباه إليها وفضلها، وهناك في الشعر ما يقال له: كسر الإعراب بقصد المدح، فهي منصوبة على الاختصاص.
لأن إقامة الصلاة فيها دوام وإعلان الولاء لله، حيث لا ينقطع الولاء في أيِّ حالٍ من أحوال المسلم، ولا في أيِّ زمنٍ ما دام فيه العقل.
{وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : عاد إلى الرفع، فقال: المؤتون، المؤمنون.
{وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : قمَّة وبداية الإيمان، الإيمان بالله تعالى، والإلوهية، والربوبية، والصفات، والأسماء، والتنزيه، والإيمان باليوم الآخر. ارجع إلى سورة البقرة آية (8) لمزيد من البيان.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، يدل على بعد المنزلة، وارتفاع مكانتهم.
{سَنُؤْتِيهِمْ} : السين حرف استقبال لاستقبال القريب.
{أَجْرًا عَظِيمًا} : هو الجنة ونعيمها، وتنكير الأجر؛ للتفخيم والتعظيم.
سورة النساء [4: 163]
{إِنَّا} : ضمير متصل بصيغة الجمع؛ للتعظيم.
{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : الوحي لغةً: هو إعلام بخفاء؛ أيْ: كلام خفي، لا يعلمه أحد سوى الموحى إليه، والوحي بالمعنى الشرعي هو ما يُلقي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من آيات، ومن تكاليف، وتعاليم دِينية، ووعد ووعيد.
والوحي قد يكون بإرسال رسول؛ أيْ: ملك من الملائكة، كما هو الحال في جبريل، إلى رسول من الرسل، أو التكليم من وراء حجاب.
والوحي قد يكون بالإلهام؛ أي: القذف بمعانٍ تلقى في القلب في حالة اليقظة، أو المنام، كما حدث لإبراهيم حين رأى في المنام أن يذبح ابنه، وكما حدث لأم موسى بإلقاء موسى في التابوت.
والوحي: أصله الإشارة السريعة، كما فعل زكريا حين أوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً، وكان الوحي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكل خفي، ويبدأ مثل صلصلة الجرس، يبدأ بعدها الوحي، أو بشكل رجل، وكانت بعض علامات الوحي تظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل: يتفصد جبينه بالعرق، أو يشعر بالثقل في الحركة، والله سبحانه قادر أن يوحي السماء، أو الأرض، أو الجبال، أو الطير، أو الحيوان، أو غيرها بطرق غريزية، أو غيرها.
والخلاصة: الوحي بالمعنى الشرعي: يطلق على الإعلام بخفاء من الله تعالى لرسله، وبقية الإيحاءات تأخذها بالمعنى اللغوي. ارجع إلى سورة الشورى، آية (51).
{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : والخطاب هنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كَمَا} : الكاف للتشبيه، ما: مصدرية؛ أيْ: أوحينا إليك، كما أوحينا، كما؛ أيْ: مثل ما أوحينا إلى نوح، والنبيين من بعده.
وبدأ بنوح، ولم يبدأ بآدم؛ لأنه أبو البشر، وأقدم الأنبياء، وأول أولي العزم من الرسل.
{وَالنَّبِيِّنَ مِنْ بَعْدِهِ} : أمثال هود، وصالح، وشعيب:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} : وأوحينا: هذا يسمَّى عطف الخاص على العام؛ لزيادة التنبيه على شرف هؤلاء الرسل، والنبيين الذين ذكر أسماءَهم، ومنهم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (84) للبيان.
{وَعِيسَى} : ارجع إلى الآيات (45-62) من سورة آل عمران.
{وَأَيُّوبَ} : ارجع إلى الآية (83-84) من سورة الأنبياء.
{وَيُونُسَ} : ارجع إلى الآيات (87-88) من سورة الأنبياء، والآيات (139-147) من سورة الصافات.
{وَهَارُونَ} .
{وَسُلَيْمَانَ} : ارجع إلى الآيات (34-35) من سورة (ص)، والآيات (15-44) من سورة النمل.
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} : الزبور: بفتح الزاي؛ يعني: الكتاب الذي أنزل على داود. وجمع الزبور: الزُّبر: بضم الزاي، إذن: الزَّبور كتاباً، والزُّبر: الكتب، والزَّبور: يمتاز بالحمد والثناء على الله سبحانه، وليس فيه أحكام، إنما أمثال وحكم (جمع حكمة)، والزَّبور: مشتقة من زبر البئر؛ أيْ: أصلحها بحيث لا ينهال التراب من أطرافها فتطمر، ويكون ذلك بالبنيان بالحجارة، وغيرها.
وزَبْرا: قد يعني العقل، وكما يسيطر العقل على أفعال الفرد، والحجارة على تراب البئر، وكما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، وقوله تعالى:{جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 184].
سورة النساء [4: 164]
{وَرُسُلًا} : جمع رسول، والرسل تشمل الرسل والأنبياء، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، وهناك فرق بين الرسول والنبي؛ فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في «مسنده»: أن عدَّة الأنبياء مئة وأربعة وعشرون ألف نبي، وعدَّة الرسل: ثلاثمئة وبضعة عشر رسولاً (314).
والتعريف العام، أو المختار: أن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، والكل مأمورون بالتبليغ....
{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد، وتقريب؛ أيْ: قصصناهم عليك منذ زمن قريب.
{قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} : أيْ: قصصنا عليك أخبارهم في القرآن، وعددهم (25) رسولاً.
{مِنْ قَبْلُ} : إنزال سورة النساء؛ أيْ: في السور الأخرى التي أنزلت قبل سورة النساء، وسورة النساء من أواخر السور ترتيبها في النزول (92).
{وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} : أيْ: رسلاً آخرين لا تعرفهم، وعليك الإيمان بهم جميعاً:{لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} ، حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36].
{وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} : أيْ: من وراء حجاب، حين نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة من جانب الطور الأيمن.
{تَكْلِيمًا} : للتوكيد أنه تكليم مباشر ومن وراء حجاب، وليس عبر جبريل عليه السلام .
سورة النساء [4: 165]
{رُّسُلًا مُبَشِّرِينَ} : من البشارة؛ وهي الأخبار بما يسر به المخبر به، ولأول مرة، والسرور يؤدِّي إلى تغير، يبدو على وجه الإنسان وبشرته.
{مُبَشِّرِينَ} : المؤمنين الذين يعملون الصالحات، مبشرين بالجنة، والنجاة من النار.
{وَمُنْذِرِينَ} : من الإنذار، وهو: الإعلام المصاحب بالتخويف، والزجر عن القبيح.
{وَمُنْذِرِينَ} : الكافرين، والمنافقين، والمكذبين، والعاصين، وغيرهم منذرين بالنار، والحميم، وشجر الزقوم، وغيرها.
{لِئَلَّا} : اللام: لام التعليل. أن: حرف مصدري يفيد التوكيد، لا: النافية.
{يَكُونَ لِلنَّاسِ} : اللام: لام الاختصاص.
{حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} : الحُجَّة: البينة، أو الدلالة، والحُجَّة: مشتقة من معنى الاستقامة في القصد.
{وَكَانَ} : تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} : ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة.
سورة النساء [4: 166]
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} : أيْ: إذا كان المشركون، وأهل الكتاب لا يشهدون بنبوّتك، وطلبوا بمن يشهد لك، فالله سبحانه يشهد لك بالنبوَّة، وبإنزال الكتاب إليك؛ أي: القرآن العظيم.
{بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} : الباء: للإلصاق، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، {أَنْزَلَ إِلَيْكَ}: هو القرآن يشهد على نبوتك.
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} : فيها تأكيد للشهادة، والهاء في أنزله: تعود على القرآن العظيم، و {بِعِلْمِهِ}: تعني: بأنك رسوله إلى الناس كافة، وبعلمه الذي أراد أن يطلع عليه عباده.
{وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} : على نبوتك.
{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} : أيْ: حتى شهادة الملائكة لا يُحتاج إليها.
ويكفي أن يكون الله شهيداً لك.
وحرف الباء بـ: {بِاللَّهِ شَهِيدًا} : تفيد التوكيد؛ أيْ: ولا تحتاج بعد شهادته إلى أيِّ شهيدٍ. ارجع إلى سورة البقرة، آية (133)؛ لمزيد من البيان.
سورة النساء [4: 167]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} :
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : بالله، وبما أنزل، وجحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتبه ورسله.
{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : الصد: المنع وصرف الغير؛ أي: صرفوا، أو منعوا الناس عند الدخول في الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل.
{قَدْ ضَلُّوا} : قد: للتحقيق، والتوكيد.
{ضَلُّوا} : ابتعدوا بعيداً عن طريق الهداية والحق، ويصعب عليهم العودة إليه مرة أخرى.
{ضَلَالًا بَعِيدًا} : أيْ: تعدَّوا الضلال (ضلال أنفسهم) إلى الضلال البعيد؛ حيث أضلوا غيرهم، وامتدّ ضلالهم حتى بعد موتهم إلى إضلال الأجيال القادمة، ولم يقتصر ضلالهم على زمنهم، بل امتد أزماناً طويلةً. ارجع إلى الآية (60) من سورة النساء؛ لمزيد من البيان.
سورة النساء [4: 168]
هذه الآية ليست تكراراً للآية السابقة؛ فهي آية يبيِّن الله فيها حُكمه في {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : أي: الذين ذكرهم الله في الآية (167).
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ} : اسم موصول فيه معنى التحقيق.
{كَفَرُوا} : ارجع إلى الآية (167)، من نفس السورة.
{وَظَلَمُوا} : أيْ: أشركوا، وظلموا بارتكاب المعاصي، والآثام، والمحرمات، وظلموا بكتمان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وظلموا بصدِّ الناس عن دِين الإسلام، أو ظلموا أنفسهم بالخروج عن طاعة الله ورسوله، وغيرهم وبأوجه الظلم الأخرى.
{لَمْ} : حرف نفي.
{يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} : اللام في كلمة ليغفر: للتوكيد (لام النفي)؛ أيْ: لم يكن الله ليغفر لهم إذا ماتوا وهم على الكفر والظلم، ولم يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ، ويكفوا عن ظلمهم.
{وَلَا} : لا: نافية مؤكدة لحرف لم؛ لنفي المغفرة لهم، ولنفي الهداية، ونفي كلٍّ منهما وحده، أو معاً.
{لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} : طريقاً نكرة؛ تعني: أيَّ طريقٍ يوصل إلى الهدى.
وكلمة طريق ذكرت في القرآن في أربع آيات في سورة النساء الآية (168-169)، وفي سورة الأحقاف الآية (30)، وهي قوله تعالى:{يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وفي سورة طه الآية (77)، وهي قوله تعالى:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} ، والطريق عادة يكون صعباً غير سهلاً أو وعراً إلا إذا اقترن بالمستقيم.
سورة النساء [4: 169]
{إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} :
{إِلَّا} : أداة حصر وقصر؛ أيْ: لا طريق أمامهم يوم القيامة سوى طريق جهنم.
{طَرِيقَ} : ارجع إلى الآية السابقة (168) للبيان.
{جَهَنَّمَ} : قيل: اسم من أسماء دركات النار، ارجع إلى الآية (12) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود: المكث، الذي لا نهاية له، ويبدأ من زمن دخولهم فيها، ولا خروج بعده منها أبداً؛ لأن هناك من يدخل جهنم، ويخرج منها، وهؤلاء يقال لهم:{خَالِدِينَ فِيهَا} من دون {أَبَدًا} ، وهم أصحاب الكبائر من المسلمين، فهؤلاء يمكثون فيها مدة، قد تقصر، أو تطول حسب مشيئة الله، ثم يخرجون منها.
{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعد، ويشير إلى أن إدخالهم في جهنم أمرٌ سهلٌ هيِّنٌ على الله، وفي الحقيقة ليس هناك أيُّ أمرٍ يصعب على الله سبحانه، فهو لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، وقوله:{يَسِيرًا} : هو فقط لتقريبه من الأذهان.
سورة النساء [4: 170]
{يَاأَيُّهَا} يا: أداة نداء، والهاء: للتنبيه، نداء إلى الناس كافة، ويراد به المشركون، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما .
{النَّاسُ} : مشتقة من النوس؛ أي: الحركة. ارجع إلى سورة البقرة، الآية (21)؛ لمزيد من البيان.
{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.
{الرَّسُولُ} : محمد صلى الله عليه وسلم.
{بِالْحَقِّ} : الباء: للتوكيد والإلصاق، الحقّ: وهو القرآن الكريم، أو الدِّين الحق، والحق: هو الشيء الثابت؛ الذي لا يتغير، مهما تغيرت الأحوال والأزمان، ويعني الوحي.
{مِنْ رَّبِّكُمْ} .
{فَـئَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ} : فآمنوا بما جاءكم به؛ أيْ: صدقوه واتبعوه، وهو القرآن، خيرٌ لكم، وفي قوله إنذار.
{وَإِنْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{تَكْفُرُوا} : بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل الله، وكتبه، ورسله، وملائكته، واليوم الآخر.
{فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ارجع إلى الآية (126) من سورة النساء.
{وَكَانَ} : تستغرق كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.
{اللَّهُ عَلِيمًا} : بخلقه، وبمن يستحق الثواب، أو العقاب، بالمسيء، والمحسن، وبأفعال، وأقوال خلقه.
{حَكِيمًا} : في تدبير خلقه، وكونه، وشرعه، وأقواله، وأفعاله. ارجع إلى الآية (17) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.
فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء.
ووردت كلمة {حَكِيمًا} : في هذه السورة سبع مرات.
وفي هذه الآية: تهديد ووعيد للكافرين.
سورة النساء [4: 171]
{يَاأَهْلَ} : يا: أداة نداء، والهاء: للتنبيه.
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} : النصارى، واليهود، وناداهم بأهل الكتاب (أهل التوراة، والإنجيل)؛ فيه مدح لهم، وناداهم مباشرة، ولم يناديهم بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب.
{لَا} : الناهية.
{تَغْلُوا} : الغلو: مجاوزة الحدّ، والغلو: إما إفراط، أو تفريط.
إفراط: كما فعلت النصارى بعيسى ابن مريم عليه السلام ؛ إذ قالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
تفريط: كما فعل اليهود حين اتهموا مريم عليها السلام بالزِّنى، ولم يؤمنوا بعيسى عليه السلام .
وقيل: الغلو: هو التشدد في الدِّين، والتنطُّع، والافتراء على الله.
{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية، وتكرار لا: تفيد التوكيد.
{تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} : لا تقولوا عيسى ابن الله، أو له صاحبة، وإن الملائكة بنات الله، وغيرها من الافتراءات، أو له شريك (ثالث ثلاثة).
{إِلَّا الْحَقَّ} : أداة حصر، وقصر، فقط قولوا الحق، وهو الأمر الثابت الذي لا يتغيَّر. وإذا قارنا هذه الآية بالآية (77) في سورة المائدة وهي قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} :
1 -
نجد آية النساء جاءت في سياق القول: (لا تقولوا على الله إلا الحق)، ونجد آية المائدة جاءت في سياق اتباع أهواء قوم.
2 -
وإلا تفيد الاستثناء وغير تفيد المغايرة، فالآية:(لا تغلوا في دينكم غير الحق): تشمل معنى لا تقولوا على الله إلا الحق، وقد تكون لمعنى آخر هو عدم اتباع أهواء قوم؛ أي: لها مثال لا تعبد إلا الله؛ أي: الأمر بعبادة الله فقط، وقولك: لا تعبد غير الله: فيها نهي عن عبادة غير الله ومتضمنة الأمر بعبادة الله تعالى وحده.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.
{الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} : انتبه إلى قوله: عيسى ابن من!! ابن مريم.
{رَسُولُ اللَّهِ} : ردٌّ على اليهود الذين أنكروا نبوة عيسى، وردٌّ على النصارى الذين قالوا: إن المسيح هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} :
أطلق عليه كلمته؛ لأنه خُلق بالكلمة، بكلمة كن فيكون عليه السلام ، فعيسى ليس كلمة بمعنى الكلمة التي تقال، بل يأكل ويشرب، وهو بشر، وإنسان ككلِّ البشر.
وكما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 95].
وعيسى هو نفس، أو ذات كأي نفس، أو ذاتٍ خلقها الله، وأضاف إلى الكلمة الهاء: فقال: {وَكَلِمَتُهُ} : تشريفاً لعيسى عليه السلام ، كقوله -جل وعلا- :{نَاقَةُ اللَّهِ} ، {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} ، وعيسى ذات بائنة وميته.
{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} : أيْ: أعلمها، وأخبرها بها، وهي: كن؛ فكان بشراً من غير أب، أو أوصلها الله إلى مريم عليها السلام عن طريق جبريل عليه السلام .
ولنعلم: أن الله سبحانه لم يذكر في القرآن امرأة باسمها العَلم سوى مريم؛ فقد ذكرت في نحو ثلاثين موضعاً، مع أن العرب من عادتهم لا يذكرون اسم الزوجة، أو المرأة، ومع ذلك ذكرها الله ثلاثين مرة؛ لكونها مطهَّرة ومصطفاة، وأم عيسى عليه السلام ، فلو كان لعيسى أبٌ لما ذُكر اسمها عليها السلام؛ لأنه سيقول آنذاك: ابن فلان.
{وَرُوحٌ} : أيْ: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه الروح بعدئذٍ، كما يحدث لأي جنين، حينما يتشكل في رحم أمه.
والروح خلق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى ، كما قال تعالى:{وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى} [الإسراء: 85].
{وَرُوحٌ مِّنْهُ} : هذه العبارة هي التي أضلت الكثير؛ فضلُّوا، وأضلُّوا، ولذلك علينا الانتباه إلى ما يلي:
أولاً: من: لا تعني: بعضاً؛ أيْ: جزءاً من الله سبحانه.
وإنما هي للابتداء؛ أي: ابتدائية؛ كقوله سبحانه وتعالى : {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].
ثانياً: روح عيسى: هي روح من الأرواح التي خلقها الله سبحانه لا أكثر، ولا أقل.
ثالثاً: كونه سبحانه أضافها إليه، فقال:{وَرُوحٌ مِّنْهُ} : من باب التشريف، وذلك بإضافة المخلوقة إلى خالقها؛ كقوله:{نَاقَةُ اللَّهِ} ، {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} ، {وَطَهِّرْ بَيْتِىَ} ، وهكذا، هذه الإضافة لا تعني أنها ناقة الله، فهي ناقة كغيرها من النوق، وشرفها الله بأن قال: ناقة الله، فقد كانت معجزة عظيمة لقوم صالح عليه السلام .
{فَـئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ} :
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} : ارجع إلى الآية (152) من سورة النساء، وسورة البقرة، آية (285)؛ لمزيد من البيان.
{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.
{تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} : الأب، والابن، وروح القدس، بل قولوا: إلهاً واحداً.
{انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ} : أيْ: كفُّوا عن كلمات الباطل خيراً لكم، وأفضل لدنياكم وآخرتكم.
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.
{اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : الله: مبتدأ، إله: خبر، واحدٌ: نعت لإله، مرفوع مثله.
{وَاحِدٌ} : ولم يقل: أحد.
فالواحد يعني: لا يتجزأ، ولا يكون منه ولد، أو جاء من أب.
أما الأحد: فلا مثيل له أبداً. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.
{سُبْحَانَهُ} : تنزيه لله عما لا يليق به من كل نقصٍ.
وسبحانه: اسم مصدر سماعي، تقديره: أسبح سبحانه أن هذا لا يكون (له ولد)، وأن الله منزّه عن ذلك. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (1)؛ لمزيد من البيان في التسبيح، وسورة الحديد، آية (1).
والقاعدة: في القرآن إذا جاءت بعد كلمة ولد سبحانه، الأفضل الوقوف على ولد في التلاوة، ثم البدء بسبحانه.
{أَنْ يَكُونَ} : أن حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.
{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : له ما: اسم موصول؛ أي: الذي في السموات، والذي في الأرض ملكاً، وخلقاً، وعبيداً.
ولننتبه: إلى أنه سبحانه حين يريد أن يتكلَّم عن أهل الأرض بشيء ما يخصهم، يكرِّر كلمة (ما في) فيقول:{مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} بدلاً من قوله: {مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
{لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : هذا يدل على غناه، فلا حاجة له بالولد، أو الشريك، وكل ما في السموات وكل ما في الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه أحد، ويشمل ذلك الظرف (السموات والأرض)، والمظروف؛ أيْ:(ما فيهنَّ من شيء).
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} : كفى بالله قيِّماً على خلقه، ومدبِّراً لهم، وتقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة:{بِاللَّهِ} : تدل على الحصر والقصر؛ كفى به وكيلاً، ولا تحتاج إلى سواه. ارجع إلى الآية (132) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان، وسورة الأعراف، آية (89).
سورة النساء [4: 172]
{لَنْ} : لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{يَسْتَنكِفَ} : الاستنكاف: هو التكبر والامتناع؛ فهو أشد من الاستكبار من يأنف، وأصله في اللغة: النكف، ونكف الدمع، النكف: عملية حسية، تتمثل في مسح الدمع بأصبعه من خدِّه مخافة أن يراه الناس باكياً؛ لأن البكاء من الرجل يُعدُّ ضعفاً، أو عيباً، فيحاول عدم إظهار دمعه للناس، وقيل: الاستنكاف: عدم الإقرار بالعبودية، والاستكبار؛ أيْ: عدم القيام بالطاعة تكبراً.
فالمسيح عليه السلام لا يرى في نفسه عيباً أن يكون عبداً لله، أو يأنف، أو يترفَّع عن عبوديته، وطاعته لله تعالى. وعبداً لله: من جملة العبيد، أو العباد، ولم يقل: عبد الله؛ لدل ذلك على التشريف والتخصيص، كما قال تعالى في سورة الجن آية (19):{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ؛ أي: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} : لا يستنكفون، ولا يستكبرون أن يكونوا عباداً لله.
وهم: حملة العرش، أو الحافُّون حول العرش، ويطلق عليهم العالون، أو الكربيون.
وتكرار (لا) النافية: تفيد التوكيد في عدم الاستنكاف، والتكبر.
{وَمَنْ} : من: شرطية تشمل الواحد، أو الجمع، وللعاقل.
{يَسْتَنكِفْ} : أيْ: يظن أنه من العيب أن يعبد الله، أو لا يقر بعبودية الله في قلبه.
{وَيَسْتَكْبِرْ} : يطلب الكبر، ولا يملك مؤهلاته، مثل كونه غنياً، أو ذا جاه، أو من عائلة كبيرة، ولا يجب عليه أن يعبد الله، أو يطيعه.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} : الفاء: للترتيب، والمباشرة، والتوكيد، والسين في سيحشرهم: للاستقبال القريب؛ أيْ: سيحشرهم قريباً.
{فَسَيَحْشُرُهُمْ} : الحشر: هو السوق والجمع، والضمير يعود على الكل الذين لم يستنكفوا ويستكبروا، والذين استنكفوا واستكبروا.
{إِلَيْهِ} : تقديم الجار والمجرور، يفيد الحصر، سيحشرهم إليه وحده، حصراً لا إلى غيره.
{جَمِيعًا} : تفيد التوكيد.
سورة النساء [4: 173]
{فَأَمَّا} : الفاء: للتعقيب والمباشرة. أما: حرف شرط وتفصيل.
انتبه! إلى ما طرأ هنا: هو أن الله سبحانه لم يواصل الحديث عن الذين استنكفوا، واستكبروا، وما هو مصيرهم، بل قدَّم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكر ثوابهم، وهذا يُعد تقديم تفضيل لهؤلاء المؤمنين على غيرهم من المستنكفين، والمستكبرين؛ فيوفيهم أجورهم، ويعطيهم ثواب أعمالهم الصالحة كاملة غير منقوصة، ولا يقف عند ذلك، بل يزيدهم على أجورهم من فضله وإحسانه.
{وَأَمَّا} : الواو: عاطفة. أما: حرف شرط، وتفصيل، وتوكيد.
{الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} : سبق توضيح المعنى في الآية السابقة؛ أيْ: لم يُقرُّوا بعبادة الله، وامتنعوا عن طاعة الله وعبادته؛ بسبب استنكافهم، وتكبرهم. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لبيان معنى الاستكبار.
{فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} : في الآخرة؛ أيْ: عذاباً شديد الإيلام والدوام.
{وَلَا يَجِدُونَ} : لا: النافية. يجدون: لهم من دون الله من سواه؛ أيْ: من غيره.
{وَلِيًّا} : الولي القريب، الذي يليك، المعين، ويحفظك، ويتولى أمرك حين تكون عاجزاً، أو الحليف القائم بأمرك الذي يتوكل أمرك، وتحمل معنى المودة والشفاعة.
وتكرار حرف لا: يفيد التوكيد، وفصل الولاء عن النصر؛ فقد يكون هناك ولي، ولا يستطيع تقديم المساعدة والنصرة لك، ولياً في الدنيا.
{نَصِيرًا} : في الدنيا، أو الآخرة ينصرك حتى لا تدخل النار، أو يدافع عنك، أو يخفف عنك العذاب، أو يشفع لك، أو ينصرك في الدنيا. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (22)؛ لمعرفة الفرق بين قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، {وَمَا لَكُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
سورة النساء [4: 174]
{يَاأَيُّهَا} : الياء: أداة نداء للناس، الهاء: للتنبيه؛ لكافة الناس، وليس للمؤمنين فحسب. ارجع إلى سورة البقرة، آية (21)؛ لبيان معنى الناس.
{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.
{جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} : البرهان: هو الحُجَّة، والبينة، والبرهان كما قال أكد المفسرون هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشير إلى ذلك قوله في الآية من سورة البينة:{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} .
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} : إليكم خاصَّة، أيها المؤمنون، وإلى الناس عامة.
{نُورًا مُبِينًا} : وهو القرآن، وسُمِّيَ نوراً؛ لأنه يهدي من ظلمات الضلال إلى النور؛ أيْ: هادياً.
{مُبِينًا} : جلياً، واضحاً؛ أيْ: كل من يطلع عليه يراه نوراً، وهو بنفسه نورٌ واضحٌ، لا يحتاج لأي برهان، أو دليل أن يشهد بذلك، فهو يشهد لنفسه أنه نورٌ.
سورة النساء [4: 175]
{فَأَمَّا} : الفاء: استئنافية. أما: حرف شرط وتفصيل.
{الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ} : ارجع إلى الآية (8) من سورة البقرة للبيان.
{وَاعْتَصَمُوا بِهِ} : به: تعود إما على الله سبحانه، وإما تعود على النور؛ أي: القرآن، أو كلاهما.
كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103].
فالاعتصام بالله: هو الاستمساك به، واللجوء إليه، دائماً وأبداً في الشدائد، وغيرها. والعصم: هو المنع؛ أي: المناعة، والمناعة من المرض تكون بأخذ اللقاح.
والاعتصام بالله: يعني: تجنب الوقوع في المعصية والآثام.
ويتم ذلك بتطبيق شرعه، وعدم مخالفة أوامره.
والاعتصام بالنور (بالقرآن): هو العمل به، أو تطبيق ما جاء فيه، وكذلك من يعتصم بالقرآن، يمتنع، يصبح عنده مناعة من الوقوع في المعاصي، ومخالفة أوامر الله؛ فهو شفاء ورحمة.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ} : السين: للاستقبال القريب؛ أيْ: عن قريب سيدخلهم ربُّهم في رحمته.
{فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ} : وهل الرحمة مكان يحل به المؤمن الذي توافرت فيه الشروط السابقة؟
نعم! الرحمة منه؛ أي: الجنة.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ} : في رحمة منه؛ أيْ: في الدنيا. رحمة: جاءت بصيغة النكرة، تشمل الكثير، وتعني: الرزق، والعافية، والأمن، والطمأنينة، وغيرها، وفي الآخرة يدخلهم في الجنة برحمة منه وليس بأعمالهم؛ أي: رحمة خاصة بهم وليس رحمة عامة رحمة تغمرهم ولم يقل فسيدخلهم في رحمته كما قال تعالى في سورة الجاثية آية (30){فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} (رحمته العامة)، وأما آية النساء تشير إلى الذين آمنوا واعتصموا أي زيادة الاعتصام بالله أدخلتهم في رحمته الخاصة.
{وَفَضْلٍ} : تعريفه: الزيادة على الأجر، قد يكون رضوان الله سبحانه وتعالى في الجنة، أو المنزلة العالية، أو الدرجات العالية في الجنة.
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} : ويهديهم إليه حصراً.
{صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} : هو الإسلام الذي يوصلهم للغاية، وهي سعادة الدارين.
سورة النساء [4: 176]
{يَسْتَفْتُونَكَ} : يطلبون منك الفتيا في حكم شرعي، وهو وراثة الكلالة. ارجع إلى الآية (127) من سورة النساء؛ لبيان كلمة:{يَسْتَفْتُونَكَ} وعدم ذكر الواو كقوله تعالى: (ويستفتونك).
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ} : ارجع إلى الآية (12)؛ لبيان معنى الكلالة.
والكلالة: هنا في ميراث الإخوة، والأخوات من الميت الكلالة.
{إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، وندرة الحدوث.
{امْرُؤٌا هَلَكَ} : أيْ: مات، ليس له ولد، ولا والد له؛ لأن الكلالة تعني: ليس له ولد، ولا والد له.
{وَلَهُ أُخْتٌ} : من أبيه وأمه؛ الإخوة الأشقاء الذين هم من نفس الأم والأب، أو إخوته من الأب، أو أخت من أبيه، فلها نصف ما ترك، والنصف الآخر يذهب إلى الزوجة، أو الجد، أو غير ذلك. ارجع إلى الآية (12) من نفس السورة؛ لمعرفة الفروق.
وهو يرثها إن لم يكن لها ولد؛ أيْ: هو يرث أخته: إن لم يكن لها ولد، ولا والد (أب وأم).
إذن: هذه الآية تخص الإخوة والأخوات من نفس الأم والأب؛ الإخوة الأشقاء، أو من الأب فقط.
{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} : كانتا بالتثنية تشير إلى اثنتين، واثنتين تشير إلى كانتا.
فلماذا كرر ذكر اثنتين؟ كانتا: جاءت للوصف.
(وصف الاثنتين): صغيرتان، أو كبيرتان، أو صالحتان، أو طالحتان، فلهما الثلثان من تركة أخيهما الميت.
{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} : أيْ: إذا ورث الميت في الكلالة إخوته، وكانوا ذكوراً وإناثاً، فللذكر مثل حظ نصيب الأنثيين.
{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :
{يُبَيِّنُ} : يوضِّح، ويفصِّل لكم الأحكام، والآيات، وما أنزل إليكم.
{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص، أيها المسلمون.
{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد التعليل، والتوكيد، وتعني: لئلّا تضلوا؛ كما قال بعض المفسرين.
{تَضِلُّوا} : عن طريق الهدى، والصراط المستقيم، وتسيروا في طريق الضلال.
{وَاللَّهُ بِكُلِّ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.
{شَىْءٍ} : نكرة تفيد التعظيم، والتفخيم؛ أيِّ شيءٍ مهما كان نوعه، وشكله، ومكانه.
{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة من عالم؛ أيْ: كثير العلم. العليم: يحيط علمه بكل شيء، وبما تفعلونه في الميراث، والقسمة، والوصية.
سورة المائدة [5: 1]
سورة المائدة
ترتيبها في القرآن السورة (5)، وترتيبها في النزول السورة (113).
{يَاأَيُّهَا} : أداة نداء إلى الذين آمنوا بتكليف جديد: هو الإيفاء بالعقود، والهاء في (أيُّها): للتنبيه.
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : العقد: ما يتعاقد عليه اثنان؛ أيْ: دائماً يكون بين طرفين، والعقد: هو الربط، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه.
وقد يكون العقد بين العبد وربه، أو بين العبد وعبد آخر، أو بين العبد ونفسه، ويسمَّى ذلك: بالنذر.
والعقود لها أنواع كثيرة، مثل: عقود البيع، والشراء، والنكاح، والشراكة، ثُمَّ بيَّن الله -جل وعلا- بعض ما أحله، وبعض ما حرَّمه.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} : أيْ: أحلّ لكم أكل لحم بهيمة الأنعام بعد الذبح.
{الْأَنْعَامِ} : هي ثمانية أزواج: من البقر اثنان، ومن الغنم اثنان، ومن المعز اثنان، ومن الإبل اثنان.
أما بهيمة الأنعام: تشمل الأنعام وكل ما يماثل الأنعام، مثل الغزلان، والضباء، وبقر الوحشي، وكل حيوان مجتر. قيل: من بهيمة الأنعام.
وبهيمة الأنعام أعمّ، والأنعام أخصّ!، وسمِّيت بهيمة الأنعام؛ لأنّ أسرارها، وأمورها لا زالت مجهولة، ويصعب إدارتها، أو لا نعرف الكثير عنها.
ولم تسمى بهيمة؛ لأنها لا تفهم؛ كما كان يعتقد الأقدمون.
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : إلا: أداة استثناء.
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : في القرآن، أو في السنة النبوية، مثل: الميتة، وكل ذي ناب، مثل: السباع، والكلاب، وكل ذي مخلب من الطير.
{غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} : أيْ: وحُرمَ عليكم الصيد، وأنتم حرم؛ أيْ: في زمن الإحرام، وفي الحرم.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} : إن للتوكيد، يحكم ما يريد.
الإرادة: هي العزم على القيام بأمر ما أو تركه، ولم يقل: إن الله يحكم ما يشاء؛ لأن الإرادة: تكون بعد المشيئة؛ أي: المشيئة تسبق الإرادة، والمشيئة. قيل: هي ابتداء العزم على الفعل، ومتى حصلت الإرادة صدر الفعل لا محالة، والإرادة من الله، كذلك تعني: أنه -جل وعلا- يقع منه الفعل، أو الحكم، حسب ما يُريد (على وجه دون وجه).
سورة المائدة [5: 2]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد إلى الذين آمنوا بتكليف جديد.
{لَا تُحِلُّوا} : لا: الناهية.
{تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} : لا تستبيحوا، أو تحلوا شعائر الله (سائر ما فرض وأوجب) من الفرائض، والحرمات، لا تستحلوا بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومنها: مناسك الحج، والشعائر غالباً ما تطلق على ما نسمِّيه: مناسك الحج، ومن الشعائر؛ أي: العبادات: الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، ورمي الحجرات؛ كل هذه تعد من شعائر الله.
والشعائر: جمع شعيرة، وقيل: العلامة، والإشعار: هو الإعلام، وشعائر الحج: هي معالمه الظاهرة للحواس؛ أيْ: مواضع النسك، أو العبادة، ونسمِّيها المشاعر؛ أي: المعالم المكانية، فنقول هنا: مطاف، وهذا مسعى، مقام إبراهيم، الحجر الأسود، والمشعر الحرام، وغيرها.
مثال: قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. ارجع إلى سورة البقرة، آية (158)؛ لمزيد من البيان.
{وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} : أيْ: ولا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، أو تبدِّلوها بغيرها، وتأخير حرمة شهر إلى غيره؛ أيْ: تقوموا بعملية النسيء.
وقال: الشهر الحرام، ولم يقل: الأشهر الحرم، وهي كما نعلم أربعة: ذو القعدة، وذو الحُجَّة، ومحرم، ورجب.
{الشَّهْرَ} : اسم جنس، والمفرد يطلق على الجنس.
وحرمة أيِّ شهر تمثل حرمة الأشهر كلها، ولا يختلف عنها.
{وَلَا الْهَدْىَ} : أيْ: لا تحلوا الهدي؛ أيْ: لا تتعرضوا للهدي بالسرقة، أو الحبس، ومنعه من الوصول إلى محلها؛ أي: المواضع الذي يحل فيه إراقة دمه، أو تأكلونه في الطريق إلى مكة.
{الْهَدْىَ} : ما يُهدى إلى البيت الحرام؛ تقرباً إلى الله تعالى.
والهدي: جمع هدية، فالحرم المكي كان قديماً بواد غير ذي زرع، ولم تكن به حيوانات كثيرة، أو أطعمة متوافرة، فكانوا يأتون بالهدي؛ للطعام، وإطعام الآخرين، ويذبحون في منى.
{وَلَا الْقَلَائِدَ} : أي: الأنعام المقلدة بالقلائد عند إهدائها للبيت.
والقلائد: جمع قلادة، وهو ما يعلق بالرقبة؛ رقبة الهدي؛ ليُعلم أنها مهداة للبيت؛ إذ كانوا قديماً يضعون هذه القلادة في رقبة الهدي؛ حتى يعلم أنه مهدى إلى الحرم، فلا يتعرضون له بالأذى، والسرقة.
لا تحلوها: أيْ: لا تأخذوها غصباً، أو تزيلوا القلادة من رقبتها.
{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} :
{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : أيْ: تمنعون القاصدين، والقادمين إلى البيت الحرام للحج، والعمرة من الوصول إليه للعبادة، ولم يذكر مكة أو بكة؛ لأن قاصدين مكة قد يكون للتجارة أو غيرها، ولنعلم أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].
إذن يستثنى من ذلك أي مشرك، أو غير مسلم؛ فهؤلاء يمنعون من أن يقربوا المسجد الحرام، كما بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : يعني: الحجاج، والعمار المسلمين، لا تمنعوهم من الحج، والزيارة، والعمرة.
{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَّبِّهِمْ} : قال: فضلاً من ربهم، ولم يقل: فضلاً من الله؛ لأن عطاء الربوبية يتمثل في الرزق، والأرباح، والتجارة، ويشمل الكافر، والمؤمن.
وعطاء الألوهية يتمثل في: افعل، أو لا تفعل، ولا يشمل إلّا المؤمن.
{وَرِضْوَانًا} : أيْ: يلتمسون نيل رضوان ربهم بقيامهم بأعمال الحج، والعمرة في سبيل الله، إضافة للسماح لهم بالتجارة، وطلب الرزق في أيام الحج.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} : إذا: شرطية؛ تفيد الحتمية.
وإذا أتممتم أعمال الحج، وتحللتم من إحرامكم، فاصطادوا، كما تشاؤون، ولكن في غير أرض الحرم، والإجماع هنا للإباحة بالصيد، وليس للوجوب، وهناك قاعدة أصولية مفادها: كل أمر بعد حظر؛ فهو للإباحة.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} :
{وَلَا} : الواو: استئنافية. لا: الناهية.
{يَجْرِمَنَّكُمْ} : من جرم؛ كسب، ويعني: غالباً كسب مالاً، لا خير فيه؛ أيْ: لا يكسبنكم شنآن قومٍ.
وقيل: جرمه: حمله على فعل شرٍّ، أو إثم؛ أيْ: لا يحملنكم شنآن، ومنه الجريمة، والجرم: قطع الثمرة من الشجر.
والشنآن: هو البغض الشديد الذي يسبب التباعد وربما العداوة.
يقال: شنأه؛ إذا أبغضه، اشنأه؛ أيْ: أبغضه.
فمعنى الآية: لا يحملنكم، أو لا يكسبنكم بغض قومٍ، أو عداوة قوم أن صدوكم، أن: مصدرية؛ للتعليل؛ لأجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، كما حدث يوم الحديبية: أن تعتدوا عليهم، والخطاب كان موجَّهاً للرسول والصحابة؛ إذ صدهم المشركون عن الدخول إلى مكة للعمرة، وتم صلح الحديبية، فجاء الأمر بالنهي عن قتال هؤلاء، أو الاعتداء عليهم، وإياكم والعواطف أن تكون هي السبب للاعتداء عليهم.
ولنعلم ما هي مراحل البغض: تبدأ بالبغض، ثم القلى، ثم الشنآن، ثم المقت.
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} :
{الْبِرِّ} : هو الإيمان الحقيقي الكامل لأصول الاعتقاد، وما يتقرب به إلى الله من إيمان، وعمل صالح، واعتقاد، وأخلاق، ومعاملات، وباختصار: هو فعل الخير والتقوى؛ أيْ: تعاونوا على فعل الطاعات، واجتناب المنكرات والمنهيات.
{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} :
{الْإِثْمِ} : في اللغة: التقصير، وشرعاً: هو فعل الحرام، أو ترك واجب، وقيل: فعل القبيح الذي عليه تبعة. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (33)؛ لمزيد من البيان.
والعدوان: هو الظلم، والاعتداء، ويشمل: التعدي على حدود الله، وتعريف العدوان: إرادة السوء، أو الشر لمن تعاديه، والبعد عنه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : قيل: هي كفُّ النفس عمّا نهى الشارع عنه، سواء حراماً كان، أم مكروهاً.
والطاعة: قيل: هي القيام بما أمر الشارع به، سواء أكان واجباً، أم مستحباً.
وباختصار: التقوى: الالتزام بأوامر الله تعالى، وتجنب نواهيه.
والتقوى: مأخوذة من الوقاية من عذاب الله وسخطه، وبالتالي الوقاية من النار.
{إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : إن: تفيد التوكيد على {اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
كلمة العقاب وردت في (64) موضعاً من القرآن.
ولتعلم: أن العذاب نوع من العقاب، ولتعلم: أن العذاب أوسع من العقاب؛ لأنه يقع في الدنيا والآخرة، بينما العقاب يقع فقط في الدنيا.
{الْعِقَابِ} : وسمِّي العقاب؛ لأنه يقع بعد الفعل، أو الذنب، والفاعل يستحق العقاب عقب فعله، وقد وردت الآيات الكثيرة في أن الله سريع العقاب، شديد العقاب، ولم ترد في القرآن أي آية بأن الله سريع العذاب.
الفرق بين العقاب والعذاب:
العقاب: نوع من العذاب.
1 -
يكون فقط في الدنيا.
2 -
لا يؤخر.
العذاب: أعم من العقاب.
1 -
يكون في الدنيا وفي الآخرة.
2 -
يؤخر.
{إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : صفة ثابتة وعامة.
وورد أن الله شديد العقاب (14) مرة في القرآن.
سورة المائدة [5: 3]
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} :
{حُرِّمَتْ} : مبني للمجهول، مع العلم أن الله هو الذي حرمها؛ لأن الله -جل وعلا- هو المحلل، والمحرم وحده، وما حلل وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدخل فيما حلل وحرم الله -جل وعلا- .
الميتة: بسكون الياء التي ذهبت منها الحياة؛ أيْ: خرجت روحها منها وماتت، وانتهت، يستثنى من ذلك السمك والجراد، والميِّتة بتشديد الياء التي لم تخرج منها الروح؛ أي: لا زالت حية وعلى وشك الموت بعد فترة من الزمن.
{وَالدَّمُ} : أي: الدم المسفوح، الجاري من الأوردة والشرايين، عند الذبح، أو غير الذبح؛ أيْ: شربه، وغليه، واستعماله في الأكل، ويستثنى من ذلك الكبد والطحال.
{وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} .
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : ما: اسم موصول؛ أي: الذي لم يذكر اسم الله عليه، أو ذكر اسم غير الله عليه؛ مثل: الصنم، أو الولي، أو الوثن؛ ففي هذه الآية قدم اسم الله؛ لأن الآيات في سياق تعظيم شعائر الله، وفي آية البقرة (173) قدم به؛ لأنها في سياق الذبائح المحرمة؛ أي: الطعام. ارجع إلى سورة البقرة، آية (173)؛ للمقارنة بين ما أُهلَّ به لغير الله، وما أُهلَّ لغير الله به.
وحرمت عليكم: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} : أي: التي ماتت خنقاً.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} : التي ماتت ضرباً.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : التي وقعت من ارتفاع، ثم ماتت.
{وَالنَّطِيحَةُ} : التي نطحها حيوان، ثم ماتت.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : وما بقي من الحيوان بعد أكل السبع منه؛ أيْ: ما افترسه ذو ناب؛ كالأسد، والذئب، والضبع، والكلب.
{إِلَّا} : أداة استثناء، تعود على المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، ولا يشمل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهلَّ به لغير الله؛ لأن ذلك محرم تحريماً عُقدياً (بالعقيدة).
{مَا ذَكَّيْتُمْ} : ما: اسم موصول؛ أي: الذي ذكّيتم.
التذكية: هي الإتمام، يقال: ذكَّيت النار إذا أتممت إشعالها، فهذه الحيوانات إذا ذكّيتموها، ولا زال فيها حياة، ثم أتممتم ذبحها وسال منها دم، وصدر عنها حركة، أو صوت، تدلّ على حياة، فيجوز أكلها.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : النُّصب: هي حجارة، كانت منصوبة حول الكعبة، يذبح عليها المشركون الذبائح تقرُّباً للآلهة، والأصنام.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} : الاستقسام: طلب القسم، والنصب: طلب معرفة ما قسم له؛ أيْ: نصيبه مما يقسم له بالأزلام.
والأزلام: أقداح مكتوب عليها: افعل، أو لا تفعل، أو أمرني ربي، أو نهاني ربي، يحرك هذه الأقداح، ويختار قدحاً، فيقرأ ما فيه، وهي عشرة أقداح، أو أقل، قدح يقول: خذ نصيباً، وآخر يقول: خذ نصيبين، وهكذا ثلاثة، أربعة
…
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} :
{ذَلِكُمْ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، والكاف: للخطاب.
{ذَلِكُمْ} : تشير إلى جميع ما حرَّم الله سبحانه.
واستعمل {ذَلِكُمْ} ، ولم يستعمل ذلك؛ لأن {ذَلِكُمْ}: تستعمل لكثرة الأمور المذكورة، وتستعمل في التوكيد، أو الحكم العام المستمر، وذلك تستعمل للقلة، أو الأمر الواحد، والأقل توكيداً.
{فِسْقٌ} : خروج عن طاعة الله إلى معصية، أو خروج عن شرع الله، ومن يفعل ذلك؛ يسمَّى فاسقاً، واشتُقت الكلمة من فسقت الرطبة عن قشرتها؛ أيْ: خرجت عن قشرتها، وللفسوق درجات قد تصل إلى الكفر، والفسق شيء عام، أعمُّ من الظلم، وكل ظالم، أو كافر هو فاسق، وليس كل فاسق ظالماً، أو كافراً، وفي سورة الحجرات آية (7) يقول تعالى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ، فما هو الفرق بين الفسق والفسوق؟ الفسوق: عام وهو الخروج عن طاعة الله أو الدين. أما الفسق: أمر خاص بالأطعمة والذبائح.
{الْيَوْمَ} : ظرف زمني في علم الفلك، يقدر (24 ساعة).
وفي القرآن يقدر بـ: (12ساعة) من شروق الشمس إلى غروبها.
ويُراد به اليوم الذي نزلت به تلك الآية، وكان يوم عرفة، يوم الجمعة، وحج الوداع، حيث نزلت اليوم:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، وله معانٍ أخرى، سنوردها في آيات أُخر.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} :
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} : اليأس: هو انقطاع الرجاء في شيء.
{يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} : أيْ: يئس الذين كفروا أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام؛ أيْ: ترتدوا؛ أيْ: ترجعوا عن دِينكم الإسلام إلى الكفر؛ لما رأوه من قوته، ودخول الناس فيه أفواجاً.
{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} : الخشية: هي الخوف؛ المقرون بالعلم، والمهابة، والتعظيم، ولا: الناهية.
{فَلَا تَخْشَوْهُمْ} : أيْ: لا تخشوا الكفار، أو المشركين؛ أيْ: تخافونهم وتهابونهم.
{وَاخْشَوْنِ} : ولم يقل: (واخشوني) بزيادة الياء، زيادة الياء (زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى)، فزيادة الياء؛ تدل على زيادة التوكيد، فجاءت من دون زيادة في هذه الآية؛ لأنها جاءت في سياق الأطعمة المحرمة، بينما جاءت (واخشوني) بزيادة الياء في سياق تحويل القبلة:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى} [البقرة: 150]؛ الذي أثار عقول المشركين واليهود، وضعاف الإيمان، وأدَّى إلى فتنة وإرجاف في المدينة، وارتداد بعض ضعاف الإيمان، فهذا الحدث لا يقارن بالحديث عن الأطعمة المحرمة؛ لذلك زاد الياء؛ للدلالة على عظم الحدث. ارجع إلى سورة البقرة، آية (150)؛ للبيان.
{الْيَوْمَ} : ظرف زمان، يعني: اليوم، يوم الجمعة، يوم عرفة من حَجَّة الوداع، معرف بأل تعريف؛ لتدل على عظمته، وكان صلى الله عليه وسلم قد صلَّى راكباً على ناقته؛ حين نزول هذه الآية.
والسؤال هنا: ما مناسبة ذكر هذا اليوم في سياق آيات تحريم الأطعمة، وذكر الأطعمة المحرمة في سياق هذا اليوم؟ وما هو الفرق بين {أَكْمَلْتُ} {وَأَتْمَمْتُ} ؟
قيل في الرد على هذا السؤال: إن تحريم هذه الأطعمة والخبائث من خصائص هذا الدِّين الكامل، ومن النِّعم التامة، ومما ارتضاه الله سبحانه للمؤمنين، فجاء ذكرها مع ذكر اليوم العظيم.
والفرق بين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} :
أكملت: والكمال لا يزاد عليه؛ لأنه الحالة المثلى، وأكملت جاءت في سياق الدِّين قد اكتمل، والكمال يتجلى في أن أحكامه صالحة لكل زمان ومكان، وفيه كل ما تحتاجون من الأحكام، والشرائع، والحلال والحرام، والحق والباطل، إلى يوم القيامة؛ فهو الدين الخالد ختم الله به الشرع ونسخ ما قبله.
بينما: {وَأَتْمَمْتُ} : من التمام، وجاءت في سياق النِّعم، والنِّعم يمكن أن يزاد عليها، ومن النِّعم: نصر الله تعالى عباده المؤمنين على الكفار، وفتح لهم البلاد، وأيَّدهم، ومكَّن لهم الدِّين.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} : أي: اخترته لكم، كدين خاص بكم إلى يوم القيامة، وليس هناك غير الإسلام دِيناً أصلاً. أما بقية الشرائع (اليهودية، والنصرانية): فهي ديانات، وليست دِيناً؛ أيْ: شرائع مختلفة تناسب كل أمة.
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
{فَمَنِ} : الفاء: استئنافية. من: شرطية.
{اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ} : المخمصة: هي خلاء البطن من الطعام، وأصله ضمور البطن من الجوع، يقال: رجل خامص؛ أيْ: ضامر، والمخمصة: جوع فردي، بينما المسغبة: مجاعة عامة، والسغب: هو الجوع.
ومراتب الجوع: السغب، ثم الفرث، ثم الطوى، ثم المخمصة، ثم الضرم، ثم السعار.
ومراتب العطش: العطش، ثم الظمأ، ثم الصدى.
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ} : أيْ: من أُلجئ وأُكره ـ بحكم الضرر ـ على أكل الميتة، أو الدم المسفوح، أو لحم الخنزير، واستنفذ الأسباب كلها، وأخذ بها، وخاف على نفسه الهلاك، فلا مانع أن يأكل فقط ليسد جوعه.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} : أيْ: غير مائل بأن يكون باغياً، ولا عادياً، غير مائل عن الحق، والجنف: هو الميل عن الحق، والباغي: هو الذي يأكل فوق حاجته، والعاد: هو الذي يأكل من المحرمات، وعنده أطعمة أخرى، تسدُّ رمقه. ارجع إلى سورة الأعراف آية (33) للبيان.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : الفاء: للتوكيد، وإن: لزيادة التوكيد.
{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة؛ من غفر؛ أيْ: كثير الغفران، لا يعاقب على الأكل إذا كان الإنسان مضطراً، يغفر الذنوب جميعاً إلّا الشرك، والكفر.
{رَحِيمٌ} : حيث أباح له أكل المحرمات، وإلّا هلك العبد.
رحيم: صفة ثابتة لذاته العليا، رحيم بالمؤمنين في الدنيا والآخرة. ارجع إلى سورة الحمد، آية (2)، وارجع إلى الآية (115) من سورة النحل للبيان المفصل.
سورة المائدة [5: 4]
المناسبة: بعد أن ذكر عشر محرمات؛ يسألونك ماذا أحل لهم، ولم يقولوا: ماذا أُحل لنا.
{يَسْـئَلُونَكَ} : بلفظ الغيبة، وفي السؤال معنى القول؛ فإنهم يقولون: ماذا أحل لهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (215)؛ لمزيد من البيان عن معنى كلمة يسألونك.
{مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} : استفهام حقيقي، ماذا: فيها مبالغة في الاستفهام، وهي أقوى من (ما).
{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ} : لنتذكر أنه كلما جاءت كلمة: {يَسْـئَلُونَكَ} : جاء بعدها الجواب: {قُلْ} في كل القرآن؛ إلّا مرة واحدة في سورة طه، قال تعالى: فقل؛ لأنهم لم يسألوا حينذاك السؤال بعد، وربما يسألوه في المستقبل.
{الطَّيِّبَاتُ} : جمع طيب، وهو الحلال الطاهر؛ أيْ: أحل لكم الطيبات.
{وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجَوَارِحِ} : المقصود بها الحيوانات التي نُعلمها؛ أيْ: ندربها، كيف تصطاد لنا من كلاب، وصقور، وغيرها، وسمِّيت جوارح: جمع جارحة؛ لأنها تجرح ما تصيد؛ أيْ: تكسب.
{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} : مكلّبين: جمع مكلب: هو الذي يحترف حرفة تدريب الكلاب للصيد، مكلّبين؛ أيْ: مدربو الكلاب.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} : آداب الصيد؛ أيْ: يأتي بالصيد سليماً لم يأكل منه، إذا أكل منه يصبح غير معلم.
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} : فكلوا مما أحضرن لكم (من خلال عملية الصيد)، لماذا قال:{أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ؛ لأن الجوارح (الكلاب، والصقور المعلمة) حين تمسك بالصيد لا تأكله، وتمنع الصيد عن نفسها، ولا تمسكه عن صاحبها؛ أيْ: لا تمنع صاحبها من أكل الصيد، وهي تمنع نفسها من أكله، رغم قدرتها على أكله.
{مِمَّا} : من ما، من: للتوكيد. ما: زائدة.
{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} : قولوا: بسم الله الرحمن الرحيم عند إرسالها وإطلاقها للصيد، حتى لا يقع في دائرة مما لم يذكر اسم الله عليه، وإذا لم يقل: باسم الله وأطلقها للصيد، وعاد الكلب بالصيد، وهو ميت عندها، لا يأكل منه، ويرميه، وأما إذا لا زال فيه حياة مثل: حركة، أو صوت؛ فعندها يقول: باسم الله ويذبح الصيد، ويأكل منه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} :
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أيْ: أطيعوا أوامره، واحذروا مخالفة أوامره، واتخذوا لكم وقاية من عذابه، وسخطه، وعقابه، واتقوا ناره.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{سَرِيعُ الْحِسَابِ} : قيل: إنه -جل وعلا- قادر على أن يحاسب الناس جميعاً في لمحة بصر، أو في مقدار نصف يوم، أو أقل فقط؛ لتقريب ذلك من الأذهان، والحساب يعني في اللغة: العد، أو إطلاع الناس على أعمالهم، وما لهم، وما عليهم من الثواب والعقاب.
سورة المائدة [5: 5]
{الْيَوْمَ} : ارجع إلى الآية (3).
{أُحِلَّ لَكُمُ} : اللام: لام الاختصاص، لكم خاصَّة.
{الطَّيِّبَاتُ} : جمع طيب، وهو الحلال الطاهر، وما يستطاب ويشتهى، وتشمل الطعام، والشراب، وغيرها من المتاع، وقيل: هي كل ما لم يحرِّمه الكتاب والسنة، أو القياس، أو غيرها من مصادر الشريعة.
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} :
كلمة الطعام: كلمة عامة، وهنا في هذه الآية؛ تعني: الذبائح، أو اللحم فقط، وهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟
الجواب: لا؛ لأنهم يأكلون الخنزير، وبعض أطعمتهم تدخلها الخمور، أو لحم الخنزير، أو لا يذكرون اسم الله عليها.
إذن الذي يحل للمسلمين من طعام أهل الكتاب ما هو حلالاً في دِين الإسلام، وبما أن الطعام وسيلة لاستبقاء الحياة والتناسل، ووسيلة لاستبقاء النوع البشري، انتقل -جل وعلا- إلى ذكر الزواج:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} :
أحل لكم الزواج من المحصنات من المؤمنات.
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} : أي: العفيفات الحرائر. ارجع إلى الآية (24) من سورة النساء؛ لمعرفة معنى الإحصان. إذن المحصنة هنا تعني: التي تحصن فرجها، فلا تزني؛ أي: العفيفات الحرائر من المؤمنات، وإذا قارنا هذه بالآية (25) في سورة النساء وهي قوله تعالى:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فقد جاءت هذه الآية في سياق نكاح ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات (الإماء).
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} :
أي: العفيفات الحرائر (جمع حرّة).
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} : اليهود والنصارى، الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبلكم.
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} :
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} :
{إِذَا} : ظرفية شرطية، تفيد الحتمية؛ أيْ: لا بُدَّ من إعطائهنَّ مهورهنَّ.
{آتَيْتُمُوهُنَّ} : الإيتاء: هو العطاء؛ أيْ: تعطي المهر، أو الصداق قبل الزواج.
{أُجُورَهُنَّ} : مهورهنَّ.
{مُحْصِنِينَ} : من الإحصان؛ أي: الزواج الشرعي، والإحصان له أربعة معانٍ: الزواج، والعفة، والإسلام، والحرية.
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} : غير زناة، والسفح: هو صبُّ المني الملازم للجماع، وخصَّ به الزِّنى، وقد يكون لمرة واحدة بأيِّ زانية، وإذا قارنا هذه الآية بالآية (25) في سورة النساء نجد أن آية المائدة جاءت في وصف الرجال بالإحصان؛ فكلا الطرفين مطالب بالإحصان (أي العفة).
{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.
{مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} : الخدن: الصديق، ذكراً أو أنثى، يزني بها سراً، وهي تزني به باستمرار. ارجع إلى الآية (24) من سورة النساء؛ لمزيد من البيان.
وتقديم المحصنات من المؤمنات على المحصنات الكتابيات؛ يدل على تفضيل الزواج بالمسلمات المؤمنات على المحصنات الكتابيات.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :
{وَمَنْ} : شرطية.
{يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} : أيْ: يُحل ما حرم الله، أو يُحرم ما أحله الله، أو يكفر بشرائع الإسلام؛ أيْ: يجحد بها، وبالتوحيد، وبالشهادة، أو يؤمن ببعض، ويكفر ببعض.
{يَكْفُرْ} : يتجدَّد كفره، ويستمر، ولم يقل: من كفر.
{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد. قد: حرف تحقيق، وتوكيد.
{حَبِطَ عَمَلُهُ} : بطل ثوابه، أو جزاء عمله.
{حَبِطَ} : اشتُقَّت من حبطت الماشية؛ أيْ: أصابها مرض الحبن؛ أي: انتفاخ البطن، ويظُن أنها نمت، وزادت شحماً ولحماً، وإنما هي في الحقيقة مريضة ومتورِّمة، ثم تموت، وكذلك أعمال الكافر؛ يظن أنها أعمال ضخمة، وحسنة (كانتفاخ البطن في الماشية)، ولحمها نتن، لا يباع، ولا يؤكل، ولا فائدة منه؛ كأعمال الكفرة.
وقد شبَّه الله عمل الكفار والمشركين في آيات أخرى بالسراب، والرماد الذي اشتدّت به الريح، والهباء المنثور.
{وَهُوَ} : الواو: عاطفة، هو: ضمير منفصل، يفيد التوكيد.
{فِى الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : الخاسرين لنفسه؛ لأنه أدخلها النار، وقد تعني: الخاسرين لأهله كذلك. ارجع إلى سورة الزمر، آية (15)؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 6]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} بتكليف جديد، استعمل فيها ياء النداء: للبعد، والهاء: للتنبيه.
{إِذَا} : ظرفية شرطية؛ تعني: حين، وتفيد حتمية الوقوع وكثرته؛ يعني: القيام إلى الصلاة والوضوء.
{قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} : أردتم ونويتم القيام إلى الصلاة، وأنتم على غير وضوء.
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} : غسل الوجه يشمل: غسل الجبهة، والذقن، وما بين الأذنين، والفاء: للترتيب، والتعقيب، والمباشرة.
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} : يشمل غسل الكفين، والذراعين، والمرفقين.
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} : الباء: باء الإلصاق، وتعني: اللصق، والمسح برؤوسكم، أو قيل: الباء تعني: امسحوا جميع الرأس، من مقدم الرأس إلى الخلف، ومن الخلف إلى الإمام.
ومنهم من قال: الباء تعني: التبعيض؛ أي: امسحوا بعض الرأس.
ومنهم من قال: الباء: للتوكيد، وغيرها من التفسيرات.
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} :
{وَأَرْجُلَكُمْ} : قيل: معطوفة على أيديكم واللغة تسمح العطف على الأبعد أي: أيديكم؛ أي: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.
{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{كُنتُمْ جُنُبًا} : بجماع، أو احتلام إنزال المني، في نوم، أو يقظة.
{فَاطَّهَّرُوا} : أيْ: فاغتسلوا بالماء، ويسمَّى غسلَ الجنابة (التطهر يكون بالوضوء، وغسل الجنابة).
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى} : ويخاف الضرر، أو الأذى باستعمال الماء.
{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} : مسافرين.
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} .
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} : كناية عن الجماع.
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} : للوضوء، أو الغسل؛ فتيمموا.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} :
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} : الصعيد: وجه الأرض؛ أي: التراب. لماذا التراب؟ أو الحكمة من التيمم بالتراب؟
فقد ثبت علمياً: أن التراب مادة معقمة تحوي على كثير من الكائنات الحية التي لها القدرة على إنتاج بعض المضادات الحيوية التي تعجز المضادات الحيوية المستعملة أن تقضي على مسببات الأمراض من الجراثيم، أو البكتيريا، أو الحمَّات الراشحة، وتعادل الماء في التطهير، وهناك من يعالج بالطين، فعلينا أن لا نظن أن التيمم عملية رمزية معنوية، بل هي معجزة إلهية حقيقية.
{طَيِّبًا} : أيْ: طاهراً من النجاسة (تراباً طاهراً).
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} : منه: تعود على الصعيد، فيضرب بكفيه وجه الأرض (الصعيد الطيب)، فيمسح بهما وجهه، وكفيه، ظاهراً وباطناً مرة واحدة.
وبعض المفسرين قالوا: منه: تعني: التراب وحده، وليس الحجارة، أو الرمل، أو الخشب، ومنهم من قالوا: منه تعني: ابتداء الغاية، وغيرها من الأقوال، فالوضوء فرضاً، ويعني: طهارة أربعة أعضاء: الوجه، واليدين إلى المرفقين، والرأس، والرجلين إلى الكعبين.
والتيمم: يعني: طهارة عضوين (الوجه واليدين).
والغسل: طهارة كل البدن. ارجع إلى الكتب الفقهية الأخرى؛ لمزيد من البيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (43) في سورة النساء نجد في آية النساء حذف منها كلمة (منه) وهناك اختلاف بين الآيتين فآية المائدة جاءت عامة في سياق الوضوء وفي سياق غير الجنب والجنب ذوي الأعذار، وأما آية النساء جاءت في سياق الجنب وذوي الأعذار فقط.
{مَا} : النافية.
{يُرِيدُ اللَّهُ} : جاء بالفعل المضارع يريد، ولم يقل: أراد الله؛ ليدل على التجدد والتكرار في التيسير، ورفع الحرج، وتكرار الثواب والأجر، وإتمام النِّعمة، ولو قال: أراد الله؛ تعني: مرة واحدة، لا تتكرر.
{لِيَجْعَلَ} : اللام: لام التوكيد.
{عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} : الحرج: هو الضيق، والمشقة، وكلمة حرج؛ مشتقة من الحرج، وهي الشجر الملتف؛ الذي لا يمكن الدخول فيه، ولا الخروج منه.
{وَلَكِنْ} : حرف استدراك؛ يفيد التوكيد.
{يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} : اللام: لام التوكيد. يطهركم: طهارة حسية، وكذلك معنوية، يطهركم من الذنوب والآثام ومن الشرك.
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} : اللام: لام التوكيد، يتم نعمته عليكم: بالترخيص في التيمم، والواو في وليتم؛ تعني: إضافة إلى النِّعم الأخرى التي أنعمها الله عليكم، وبالثواب على ما شرعه لكم، وعلى طاعتكم.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعلَّ: تفيد التعليل. تشكرون: تؤدُّون الشكر الواجب عليكم، على هذه الرخص في العبادات، ولا تنسوا المنعم هو الله، والدوام على الشكر. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 7]
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : نعمة الإسلام، والإيمان.
وتعني: النِّعم كلها، وفي هذا حثٌّ على الشكر.
{وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُمْ بِهِ} : وميثاقه: فيه عدة تفسيرات: واثقكم به؛ أيْ: عاهدكم به.
1 -
الميثاق الذي أخذه من بني آدم، حين أخرجهم من ظهر آدم (ميثاق الذر). كما جاء في الآية (172) من سورة الأعراف.
2 -
ميثاقه؛ عندما دخلتم في الإسلام، وأعلنتم الشهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.
3 -
وقيل: ما أخذ عليكم من عهود، ومواثيق على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بالوفاء، كما في الآية (10) من سورة الفتح:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
{إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} : إذ: ظرفية زمانية؛ تعني: حين قلتم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} : بايعتموه على السمع والطاعة، في السرَّاء والضرَّاء، وفي المنشط والمكره.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : بامتثال أوامره وطاعته، فيما أمر به، وما نهى عنه، سواء لتتَّقوا سخطه، وغضبه، وناره.
{إِنَّ اللَّهَ} : إنَّ: للتوكيد.
{عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} : ارجع إلى الآية (119) من سورة آل عمران.
سورة المائدة [5: 8]
نداء للذين آمنوا بتكليف جديد، استعمل فيها ياء النداء: للبعد، والهاء: للتنبيه.
{كُونُوا قَوَّامِينَ} : قوّامين لله: جمع قوَّام، تدل على كثرة القيام؛ لأن قوَّام صيغة مبالغة لقائم، ولم يقل: كونوا قائمين، بل قوّامين.
{قَوَّامِينَ} : لله، بحقوقه، وواجباته، وطاعته، وبالإيفاء بالعقود، والعهود، والمواثيق، وما عاهدتم عليه الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{لِلَّهِ} : لأجل مرضاة الله وحده، والإخلاص له، وليس لأجل السمعة والرياء.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} : شهداء: جمع شاهد، أو شهيد. شهداء بالقسط: تعني: الحكم بالعدل أولاً، وبتنفيذ ذلك الحكم ثانياً وقدم قوامين لله على شهداء بالقسط؛ لأن الآية جاءت في سياق الوفاء بالعقود وشعائر الله والحل والحرام. ارجع إلى سورة النساء آية (135) للمقارنة؛ حيث قدم القسط على شهداء لله؛ لأن الآية جاءت في سياق العدل والقسط لليتامى والمستضعفين، والإصلاح بين الأزواج.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} : ارجع إلى الآية (2) من نفس السورة للبيان.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} : أيْ: لا يحملنكم شنآن قوم؛ أيْ: بغضكم الشديد لقوم: أن يحملكم ذلك على الجور والظلم، وعدم تحرِّي العدل، واحترام العهود والمواثيق، وعدم الاعتداء على الآخرين؛ لأن المسلم يجب أن يكون قدوة للآخرين، مهما كانت عقيدتهم، وأن يكون عمله خالصاً لوجه الله تعالى.
والشنآن: هو البغض الذي يسبب العداوة.
ولا يحملنَّكم بغض قوم {عَلَى أَلَّا} : على أن: حرف مصدري؛ يفيد التعليل والتوكيد، وإذا نظرنا في هذه نجد أنه أضاف (على) مقارنة بالآية (2) حيث قال أن تعتدوا بدون (على)، وعلى: تفيد المشقة والعلو والمقارنة تشير إلى أن الآية (2) نزلت في صلح الحديبية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة عنه العمرة وانتهى الأمر، أما الآية الثانية (8) فهي عامة ومحكمة؛ أي: وهي الأمر بالعدل إلى يوم القيامة فهي أبلغ وآكد من الآية (2).
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} : اعدلوا في القريب والبعيد، والغني والفقير، والقوي والضعيف، ومهما كانت ملَّته.
{هُوَ} : ضمير منفصل، يفيد التوكيد والحصر.
{أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} : أيْ: إقامة العدل والقسط يقرِّبكم للتقوى؛ أيْ: أقرب إلى أن تكونوا من المتّقين.
{اعْدِلُوا} : هو تكرار لقوله: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} : والتكرار يفيد التوكيد على أهمية العدل، وعدم الجور.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : تكرار، واتقوا الله: لا يدل على التكرار؛ لأن اتقوا الله في الآية (7) جاءت في سياق إن الله عليم بذات الصدور نوايا الناس والآية (8) اتقوا الله جاءت في سياق (بواطن الأمور).
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} : إنَّ: للتوكيد.
{اللَّهَ خَبِيرٌ} : ببواطن الأمور وخفايا الصدور. خبير: بما تقومون به من عدل، أو جور.
{بِمَا} : الباء: للإلصاق.
{تَعْمَلُونَ} : أيْ: تقولون وتفعلون.
وقدَّم كلمة {خَبِيرٌ} : على كلمة: {بِمَا تَعْمَلُونَ} ؛ لأن السياق في الغيب، وخفايا الأمور، وليس أعمال العباد، ثم أوضح الله -جل وعلا- جزاء الفريقين: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، والذين كفروا، أو كذبوا.
سورة المائدة [5: 9]
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} :
{وَعَدَ اللَّهُ} : الوعد غالباً يأتي في سياق الخير، والوعيد: في سياق الشر دائماً.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : قرن الإيمان بالعمل الصالح، فلا بُدَّ منهما، كلاهما معاً، فلا يقبل إيمان من دون عمل صالح، ولا عمل صالح من دون إيمان.
{لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ} : لهم: اللام لام الاختصاص، المغفرة تعني: التجاوز عن الذنب، وإسقاط العقاب، والأجر العظيم أو الثواب هو الفوز بالجنة والنجاة من النار.
لنقارن هذه الآية من سورة المائدة، وهي:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، مع الآية (29) من سورة الفتح:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} :
الآية (9) من سورة المائدة: تتحدث عن المؤمنين عامة، ولذلك قال:{لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، بينما آية سورة الفتح: تتحدث عن الصحابة رضي الله عنهم، والذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية (في بيعة الرضوان)، ولذلك قال:{مِّنْهُمْ} ؛ أي منهم (خاصَّة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المخلصين)؛ لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن حاضراً الصلح، ومنهم منافقين أيضاً؛ فلذلك قال:{مِّنْهُمْ} : تميزاً، وتفضيلاً، ونصاً.
سورة المائدة [5: 10]
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} :
{وَالَّذِينَ} : اسم موصول.
{كَفَرُوا} : أيْ: سائرون على درب الكفر، والكفر: هو الستر، والجحود، وإنكار وجود واجب الوجود، والكفر يشمل: الكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. ارجع إلى سورة البقرة، آية (6)؛ لمزيد من البيان.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : الكفر أعم من التكذيب، والكذب حالة جزئية من الكفر؛ أيْ: جحدوا بها، أو أنكروها.
{بِآيَاتِنَا} : آيات القرآن، والآيات الكونية، والمعجزات، أو البينات.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ويعني: سوء منزلتهم.
{أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} : سمّوا أصحاب؛ لمصاحبتهم الجحيم، (وهي النار)، صحبة ناشئة عن كونهم لا يفارقونها، وهي لا تفارقهم؛ أيْ: صحبة دائمة، لا تنقطع.
وكلمة الجحيم؛ مأخوذة من الجحوم (من جحم)، ومعناها النار شديدة التأجج، والتي لا تخمد.
سورة المائدة [5: 11]
نداء جديد للذين آمنوا، وتذكير لهم بنعمة خاصَّة، حصلت لهم.
أسباب النزول: القوم قيل: هم بنو النضير، همّوا بإلقاء رحى عظيمة من سطح أحد منازلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما تآمروا على قتله، فجاء جبريل عليه السلام ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فانصرف صلى الله عليه وسلم، وباءت مؤامرتهم بالفشل.
وهناك من قال: إن هؤلاء القوم هم بنو ثعلبة، وبنو محارب، حينما حاولوا قتل رسول الله ببطن نخلة، حين قام صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقيل: نزلت هذه الآية عندما حاول رجل من بني محارب قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نائم تحت الشجرة، وفشل في ذلك، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب.
{إِذْ} : ظرفية زمانية؛ بمعنى: حينئذٍ.
{هَمَّ} : الهم: هو حديث النفس؛ الذي يطرأ على فكر الإنسان، ولم يصل إلى درجة العزم.
{قَوْمٌ} : يعني: بنو النضير، أو بنو ثعلبة، أو بنو محارب، والقوم يعني: الرجال دون النساء أحياناً.
{أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} : أن: للتوكيد، والبسط: هو مد اليد بالبطش، والفتك، أو الأذى.
{إِلَيْكُمْ} : ولم يقل: إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ بسط اليد لإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو بسط اليد إلى المؤمنين كافة.
{فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} : أيْ: منع أيديهم أن تصل إليكم (كناية عن عدم القتل)، وتشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة.
وعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمكم من الأذى والقتل، وهذه نعمة من نعمه عليكم.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} :
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : ارجع إلى الآية (2) من نفس السورة.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} : تقديم الجار والمجرور: {وَعَلَى اللَّهِ} : تفيد الحصر؛ أي: التوكل، لا يكون إلا على الله وحده؛ لأنه هو الوكيل؛ أي: الكفيل بالخلق القائم بأمورهم، والكافي. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 12]
المناسبة في نزول هذه الآية: تذكير للمؤمنين بأن لا تكون عهودهم ومواثيقهم؛ كمواثيق بني إسرائيل، ويسيرون على سيرهم:
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية. لقد: اللام: للتوكيد. قد: للتحقيق، والتوكيد.
{أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : الميثاق: هو العهد المؤكد. ارجع إلى الآية (83) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
بعد نجاة موسى، وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ومن الغرق، أمر الله موسى بالسير إلى الأرض المقدسة، التي كان يسكنها الكنعانيون (القوم الجبارون).
وقبل التوجه لقتال الكنعانيين، أمر الله موسى بأن يختار (12) نقيباً من كل سبط، ويأخذ عليهم الميثاق، ووعدهم الله بأن يدخلوا الأرض المقدسة، وأخذ منهم الميثاق على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، والتعزير، والقرض الحسن.
ولكن هؤلاء النقباء حين دنوا من أرض كنعان، ورأوا القوم الجبارين، رفضوا القتال، ونقضوا الميثاق، وقالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} .
والنقيب: هو كبير القوم، القائم بأمورهم، ينقب عنها، ويرعاها؛ أي: المندوب عن قومه، والممثل لهم، مشتقة من التنقيب: وهو البحث عن مصالح القوم، وتحمل معنى: أنه لا يكتفي بظواهر الأمور، بل يكشف بواطن الأمور، ويعلم الكثير عن قومه.
{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ} : ينتقل الله سبحانه من التكلم بصيغة الغيبة إلى صيغة المخاطب؛ للفت أسماعهم، والاهتمام بما سيقول لهم.
{إِنِّى مَعَكُمْ} : بالعون، والنصرة؛ أيْ: ناصركم، ومعينكم، وحافظكم.
{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} : اللام: للتوكيد، إن شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة؛ أيْ: إقامتها بفروضها، وأركانها، وشروطها.
{وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} : دفعتم زكاة أموالكم.
{وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِى} : أيْ: صدقتموهم بما جاؤوكم به من الوحي؛ أيْ: أطعتموهم.
{وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} : أنفقتم في سبيل مرضاته؛ أيْ: إضافة إلى الزكاة، والقرض الحسن. ارجع إلى الآية (245) من سورة البقرة؛ لمعرفة معنى القرض الحسن.
أيْ: لئن أطعتم ما أمرتكم؛ لأنصرنكم على عدوكم.
و {لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّـئَاتِكُمْ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.
{لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ} : التكفير؛ يعني: الستر، والمحو.
{سَيِّـئَاتِكُمْ} : الصغائر، والكبائر.
{وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ} : اللام: للتوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.
{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع من تحتها الأنهار.
{فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} :
{فَمَنْ كَفَرَ} : الفاء: استئنافية، فمن كفر؛ أي: نقض الميثاق، وترك العمل بما فيه، ولم يطع اللهَ فيما أمر ونهى عنه.
{بَعْدَ ذَلِكَ} : بعد الميثاق.
{فَقَدْ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط. قد: للتوكيد، والتحقيق.
{ضَلَّ} : تاه، وأخطأ، وابتعد عن الحق والهدى.
{سَوَاءَ السَّبِيلِ} : السواء: هو الوسط، ومن يمشِ في الوسط يصعب عليه أن يتيه ويضل.
{السَّبِيلِ} : الطريق السهل، الواضح، الموصل إلى الغاية، وهي رضوان الله تعالى وجنته، والنجاة من النار.
سورة المائدة [5: 13]
{فَبِمَا} : الفاء: استئنافية، الباء: سببية؛ أيْ: بسبب نقضهم الميثاق: {لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، وما: للتوكيد.
{نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} : النقض ضد الإبرام، والنقض؛ يعني: عدم العمل بالميثاق؛ أي العمل بالتوراة.
والميثاق: هو العهد المؤكد، ورفضوا تطبيق بنوده، فماذا حلَّ بهم؟
{لَعَنَّاهُمْ} : أبعدناهم، وطردناهم عن رحمة الله.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} : أيْ: صلبة قاسية؛ كالحجارة، والصلابة مذمومة حين تصيب القلوب؛ أيْ: لا تتأثر بموعظة، ولا تقبل الحق، ولذلك هم اعترفوا حين قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88].
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} :
التحريف: يكون بتغيير المعنى؛ أيْ: تحميل الألفاظ على غير ما وضعت له، والتحريف يكون بالتغيير، والتقديم، والتأخير، والزيادة، والنقص، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (41) في نفس السورة، وهي قوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} نجد أن الآية (13) جاءت في سياق التحريف الأول الذي حدث من اليهود بعد موسى، وأما الآية (41) جاءت في سياق التحريف الثاني الذي حدث من اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{الْكَلِمَ} : جمع كلمة: وهو كلام الله تعالى في التوراة. ارجع إلى سورة النساء آية (46) لمزيد من البيان في معنى الكلم.
{وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} : نسوا، من النسيان: وهو الترك عن عمدٍ، وعدم الاهتمام بما هو مكتوب في التوراة، أو نسوا حظاً مما ذكروا به بسبب عدم قدرة عقولهم على استيعاب ما يوعظون به، وبسبب عدم الكتابة والنسخ، ويختلف النسيان عن السهو؛ لأن النسيان يكون عما كان، والسهو يكون عما لم يكن.
{حَظًّا} : نصيباً جزءاً، ممَّا ذكروا به في التوراة، والحظ: يكون في المحبوب أو يستعمل في الخير أو الفضل، فكل ما جاء في التوراة كان خيراً.
{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} : الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ أيْ: لا تزال تظهر خيانة منهم لك وللمؤمنين، وخيانتهم لك ولغيرك لن تتوقف، سوف تتوالى، فهذا دأبهم.
{عَلَى خَائِنَةٍ} : خيانة، واختار كلمة خائنة؛ لأنها مستوعبة لكل مصادر الخيانة.
خائنة: إما اسم فاعل خائن، والتاء: للمبالغة؛ أيْ: شخص، أو أشخاص خائنين، أو تعني: طائفة خائنة، أو نفس خائنة، أو مصدر، وتقرأ بدلاً من خائنة: خيانة، فخائنة: تشمل كل تلك المعاني.
{إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} : إلّا: أداة استثناء؛ أيْ: هناك القليل منهم، لا تبدر منهم خيانة، ويلتزمون بمواثيقهم وعهودهم.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ} : العفو: هو ترك العقوبة على الذنب.
{وَاصْفَحْ} : الصفح: أبلغ من العفو، فالصفح: ترك العقوبة، وترك اللوم، والمن، وعدم التذكير بما حدث (ترك التثريب).
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : إن: للتوكيد.
{يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فهو يراك. ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان عن الإحسان.
والذي يعفو، ويصفح يصل إلى درجة الإحسان.
فهذه مراحل الترقي من العفو إلى الصفح إلى الإحسان.
لنقارن هذه الآية (13) من سورة المائدة، مع الآية (41) من السورة نفسها:
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} .
وقال في الآية (41) من سورة المائدة: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} :
ما هو الفرق: لنعلم أن هناك تحريفين للتوراة: الأول: حدث بعد نزول التوراة، وهي قوله عز وجل :{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} : قام به اليهود الأوائل من بعد موت موسى عليه السلام ، وتحريف ثانٍ: حدث في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يمثل قوله -جل وعلا- :{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} .
سورة المائدة [5: 14]
بعد أن ذكر كيف نقض اليهود ميثاقهم، وماذا كانت عاقبة أمرهم.
يذكر الآن النصارى، وميثاقهم، وماذا كانت عاقبة أمرهم.
{وَمِنَ} : ابتدائية.
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} : نسبة إلى قرية الناصرة في فلسطين، كان عيسى عليه السلام ينزلها.
{أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} : ميثاقهم: الإيمان بالله، والرسل، وطاعة الله، فيما أمر، والتوحيد، والعمل بما أمر الله على لسان عيسى عليه السلام .
{فَنَسُوا} : الفاء: للتعقيب، والترتيب، والمباشرة.
{فَنَسُوا حَظًّا} : عمداً، ارجع للآية السابقة (13)؛ لبيان معنى الآية.
ممّا ذكروا به في الإنجيل، ومن الإيمان، وتركوا العمل به، ونقضوا العهد، ومما ذكروا به: هو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
{فَأَغْرَيْنَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.
{فَأَغْرَيْنَا} : أصلها من الغراء: وهو المادة الصمغية المستعملة للصق الخشب على بعضه. والإغراء هنا يعني: الحث على فعل ما، وتحسينه في نظر الذي يراد إغراؤه واستخدم أغرينا ليدلنا على عظم العداوة والبغضاء التي انتشرت بينهم.
{بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} : أيْ: أوقعنا بين طوائف، وفرق النصارى العداوة والبغضاء، بسبب اعتقاداتهم الفاسدة؛ مثل: كون عيسى عليه السلام إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، وتحريفهم الإنجيل، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فأصبحت كل فرقة منهم تُكفر الأخرى، وتعادي الأخرى.
{وَسَوْفَ} : سوف للتراخي، والاستقبال؛ أيْ: في الآخرة.
{يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} : ينبئهم في الآخرة، بما: الباء: للإلصاق.
{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} : في الدنيا، واختار كلمة {يَصْنَعُونَ}: بدلاً من يعملون، أو يفعلون؛ لأنهم امتازوا بصنعة التحريف، والنسيان، والكتم، وأصبحوا ذوي خبرة، وترك ما أمروا العمل به؛ فتحول من فعل عادي إلى صناعة (تعني: الجودة، في التحريف والكتم).
هذه الآية (14) لا بُدَّ من مقارنتها بآية أخرى، وهي الآية رقم (64) من نفس السورة، وهي قوله عز وجل :{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} .
فمع النصارى استعمل عز وجل كلمة: {فَأَغْرَيْنَا} ، ومع اليهود استعمل كلمة {وَأَلْقَيْنَا}:{فَأَغْرَيْنَا} : أشد قوة وتأكيداً من {وَأَلْقَيْنَا} .
أيْ: أغرينا بين طوائف وفرق النصارى العداوة والبغضاء؛ أيْ: جعلنا عداوتهم وبغض بعضهم لبعض أشد بكثير ممّا جعلناه بين فرق وطوائف اليهود؛ والسبب في ذلك: أن الحروب، والخلافات بين طوائف النصارى أشد من الخلافات والحروب بين طوائف اليهود، وكلاهما اختلفوا وتفرقوا من بعد ما جاءتهم البينات؛ والسبب في ذلك اعتقاد النصارى أن عيسى عليه السلام إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة وغيرها، هي اعتقادات باطلة وفاسدة، إضافة إلى تحريفهم الإنجيل، وأما اليهود؛ وإن كانوا قد حرفوا التوراة مرتين، لكن اعتقاداتهم لا ترقى إلى اعتقادات النصارى من جهة الوحدانية.
سورة المائدة [5: 15]
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} : (نداء إلى اليهود والنصارى)، نداء مباشر، والياء: للبعد، وهذا النداء أفضل من النداء بالذين أوتوا الكتاب أو أوتوا نصيباً من الكتاب.
{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.
{جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} : محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه وتعالى :{رَسُولُنَا} : هنا؛ للتشريف، والتعظيم.
{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} : يُبيِّن؛ أيْ: يُظهر الكتاب؛ أي: التوراة والإنجيل، وما كنتم تخفون في صفات ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، وبعض الأحكام؛ مثلك آية الرجم، وذكر وصفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصة أصحاب السبت، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وبشارة عيسى عليه السلام بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم كما في الآية (6) في سورة الصف وهي قوله تعالى على لسان عيسى:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} .
{وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} : أيْ: يُعرض، ولا يذكر الكثير ممّا تكتمونه.
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} :
{نُورٌ} : محمد صلى الله عليه وسلم، أو الإسلام، أو المنهج، أو الإيمان.
{وَكِتَابٌ مُبِينٌ} : القرآن الكريم، مبين ظاهر، ومظهر لنفسه، يُبيِّن لكم الحق من الباطل، ظاهر لكل إنسان يقرؤه.
سورة المائدة [5: 16]
{يَهْدِى بِهِ اللَّهُ} : بالقرآن.
{مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} : من: اسم موصول للعاقل؛ بمعنى: الذي اتبع رضوانه (أيْ: شرعه ودينه).
أيْ: يهدي بالقرآن أي إنسان يريد الحصول على رضا الله، بأن يتبع سبل السلام؛ أي: الطرق المؤدّية للنجاة من النار.
{سُبُلَ السَّلَامِ} : سُبلُ: جمع سبيل، سُبلُ السلام؛ أي: السبل المؤدية إلى السلامة والنجاة من عذاب الله، طرق الخير، وطرق العبادة، والذكر، والتقرب من الله تعالى.
وسبل السلام متعددة: مع الله، ومع النفس، ومع الجماعة، ومع العالم، ومع الكون، ويقابلها: سبل الضلال. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (153)، وسورة يوسف، آية (108)؛ لمزيد من البيان؛ لمعرفة الفرق بين سبل السلام، وأن هذا صراطي مستقيماً، قل هذه سبيلي.
{وَيُخْرِجُهُم} : إما أن تعود على الله، أو على رسوله، أو على القرآن، أو على الكل.
{وَيُخْرِجُهُم} : أي: المُتَّبعين رضوان الله.
{مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} : من ظلمات الكفر، والشرك، والجهل، والشك، إلى نور الإيمان بإذنه سبحانه وتعالى ، فالظلمات متعددة، والنور واحد.
{وَيَهْدِيهِمْ} : ويهديهم تعود على الله، أو الرسول، أو القرآن، أو الكل معاً.
{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : الدِّين القيم: وهو الإسلام (دِين الحق)، والصراط المستقيم: هو أسهل، وأقصر، وأسرع، وأوسع السبل المؤدية إلى الغاية.
سورة المائدة [5: 17]
{لَّقَدْ} : اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق (للتوكيد).
{كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} :
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} : قيل: هم فرقة من فرق النصارى؛ تسمَّى اليعقوبية، وساد مذهبهم هذا بعدئذٍ بين جميع المسيحيين، وهو: أن اللهَ سبحانه هو المسيحُ ابن مريم.
{إِنَّ} : للتوكيد. {اللَّهَ} : عز وجل ، {هُوَ}: ضمير منفصل، يفيد الحصر، والتوكيد.
{الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} : ارجع إلى الآية (45) من سورة آل عمران.
{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.
{فَمَنْ} : الفاء: للتوكيد، من: استفهامية؛ تفيد الإنكار، والتوبيخ.
{يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : من: استغراقية.
{شَيْـئًا} : نكرة؛ للتهويل، والشيء: هو أقل القليل؛ أيُّ شيء مهما كان نوعه، وشكله، وحجمه.
{يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} : أيْ: يدفع، ويمنع من عذاب الله شيئاً، إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم عليهما السلام، وجواب الاستفهام: لا أحد يملك ذلك.
{وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} :
{وَمَنْ} : استغراقية.
{جَمِيعًا} : للتوكيد.
واستعمل {أَرَادَ أَنْ} : أن: شرطية؛ تفيد الاحتمال والندرة.
{أَرَادَ} : ولم يقل: يريد؛ لأن الإهلاك لا يحصل إلَّا مرة واحدة.
وفي هذه الآية: دليل على أن عيسى عليه السلام ليس إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة.
وفي هذه الآية: إنذار لمن قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم.
فالألوهية إذن لمن!! الجواب: لمن له ملك السموات والأرض، وما بينهما؛ أي: المُلك والحكم، حصراً لله وحده، وتقديم {وَلِلَّهِ}: الجار والمجرور ولفظ الجلالة: يفيد الحصر.
{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} : قادر أن يخلق آدم من تراب، وعيسى من أم، وحواء من آدم، وأنتم من أب وأم، فإذا أراد شيئاً:{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
يخلق من الخلق، وهو الإيجاد من لا شيء، أو من شيء، والخلق هو التقدير.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، يعود على الله سبحانه وحده، وقادر على عقاب العاصي، وثواب المطيع، وقادر على نصر نبيه، ودينه، وإعلاء كلمته. ارجع إلى سورة البقرة؛ آية (20)؛ لمزيد من البيان.
وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} : وقارنّا هذه بقوله تعالى في سورة الفتح، الآية (11):{فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} ، أضاف كلمة:{لَكُمْ} .
{لَكُمْ} : تعني: هؤلاء المذكورين خصوصاً وليس غيرهم؛ أي: الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم للخروج إلى العمرة، وحدث صلح الحديبية.
وفي هذه الآية من سورة المائدة، لم يضف -جل وعلا- :{لَكُمْ} ؛ لأن الخطاب عام لكل الناس، وليس إلى فئة خاصَّة معينة.
سورة المائدة [5: 18]
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} :
قالوا ذلك افتراءً، أو ظناً أنهم أبناء ذرية إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب عليهم السلام؛ أيْ: أنهم أبناء الرسل، وقيل: إنهم وجدوا في التوراة آية يا أبناء أحباري، فظنوا أو ادعوا أنهم بذلك أصبحوا أبناء الله، وأحباؤه، أو حين ظنوا ظن الباطل: أن المسيح ابن الله، قالوا: معنا ابن الله، فنحن أبناء الله؛ أيْ: هو كالأب لنا في الحنو والعطف، أو نحن أشياع وأتباع ابني الله، المسيح وعزير، فردَّ الله عليهم عن طريق نبيِّه، وليس مباشرة.
قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأعزته، فلم يعذبكم الله بذنوبكم؟! لأن الأب لا يعذّب ابنه، والحبيب لا يعذّب حبيبه، فلستم أبناءَ الله، ولا أحباءَه.
{بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} : من جملة ما خلق، أو من عامة خلقه.
{بَلْ} : للإضراب الإبطالي، {أَنْتُمْ}: للتوكيد.
{أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} : فلو صحَّ أنكم أبناء الله؛ لما عصيتموه، ولما عاقبكم، بل أنتم بشر: أي: خلقاً ممن خلق، وبشر قد تأتي للمفرد أو الجمع كقوله تعالى في سورة القمر آية (24):{أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} .
{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} : لمن يستحق المغفرة، وهم أهل الطاعة.
{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} : من يستحق العذاب، وهم العصاة، ومن يفترون على الله الكذب، أو يكفرون بالله تعالى.
وقدَّم المغفرة على العذاب في هذه الآية، وكما هو الحال في جميع القرآن، إلا في آيتين اثنتين فقط، قدَّم العذاب على المغفرة، وهما الآية:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من سورة المائدة، الآية (38)، وجاءت في سياق التحذير من السرقة، والآية (21) من سورة العنكبوت في قوله تعالى:{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ؛ التي جاءت في سياق الإنذار، إنذار إبراهيم لأبيه وقومه على عبادة الأصنام، والشرك بالله، وهي أمور توجب العذاب؛ فقدَّم العذاب أولاً، وأخَّر المغفرة.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : ارجع إلى الآية السابقة.
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} : إليه المنتهى والعودة، وحصراً وقصراً، لا إلى أحد غيره للمحاسبة والجزاء، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
سورة المائدة [5: 19]
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} : نداء مباشر إلى أهل الكتاب (أهل التوراة، والإنجيل، و (يا): للبعد. ارجع إلى الآية (15) في نفس السورة للبيان، وهذه الآية ليست تكرار للآية (15) لكل منهما سياق مختلف عن الأخرى انظر في الشرح.
{قَدْ} : للتحقيق.
{جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} : أيْ: محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: رسولنا: للتشريف، والتعظيم.
{يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} : يُبيِّن: يُظهر لكم على حين فترة من إرسال الرسل.
الفترة: هي من فتر الشيء: سكنت حدته؛ أي: السكون والفتور؛ يعني: الضعف؛ أي: انقطاع من الوحي، وهي الفترة ما بين عيسى عليه السلام ، ومجيء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حوالي (569 عام).
{يُبَيِّنُ لَكُمْ} : كثيراً من الشرائع التي أنزلت إليكم، ويُظهر لكم ما أنزل إليكم من ربكم، وما تحتاجون إليه من أمور العقيدة والتوحيد.
وقيل: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، وبين إبراهيم وموسى عشرة قرون، وبين موسى وعيسى (1700سنة)، وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم حوالي (569سنة) خمسة إلى ستة قرون.
{أَنْ تَقُولُوا} : أن: مصدرية للتعليل؛ تعني: لكيلا تقولوا.
{مَا جَاءَنَا} : ما: النافية. جاءنا: أتانا من بشير.
{مِنْ} : الاستغراقية.
{وَلَا نَذِيرٍ} : أيْ: ما جاءنا أحد من جنس الرسل.
{بَشِيرٍ} : الذي يجيء بأخبار سارة، أو بما يسرُّ، ولأول مرة.
{نَذِيرٍ} : من الإنذار، وهو الإعلام مع التخويف والتحذير. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لمزيد من البيان.
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :
{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد. قد: للتحقيق، وزيادة التوكيد.
{جَاءَكُمْ} : المجيء عادةً يكون بمشقَّة، وتعب، والمجيء؛ يعني: وصل إليكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} : البشير والنذير معاً؛ فقد أرسل إلى الثقلين بشيراً ونذيراً.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : لا يعجزه شيء في السموات، ولا في الأرض. ارجع إلى سورة البقرة، آية (20)؛ للبيان.
سورة المائدة [5: 20]
{وَإِذْ} : أيْ: (واذكر إذ قال موسى لقومه)، أو (اذكر حين قال موسى لقومه).
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} : هم بنو إسرائيل، بعد نجاتهم من فرعون، وجنوده، وفلق البحر.
{يَاقَوْمِ} : يا: النداء، فيه نوع من التحبُّب واللين، وأبلغ وأفضل من القول لقومه اذكروا نعمة الله عليكم بدون يا قوم.
{اذْكُرُوا نِعْمَةَ عَلَيْكُمْ} : اسم جنس، وتعني: النِّعم الكثيرة؛ اذكروا النِّعم الكثيرة، التي أنعمها الله عليكم.
{إِذْ} : ظرف للزمن الماضي.
{جَعَلَ فِيكُمْ} : أيْ: بعث فيكم.
{أَنْبِيَاءَ} : فيكم: ظرفية زمانية؛ أي: الماضي، والحاضر.
{فِيكُمْ} : أنبياء من لدن إبراهيم إلى زمن موسى وهارون؛ أيْ: أصبح من ذرية إبراهيم وإسرائيل أنبياء.
{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} : أحراراً بعد أن كنتم عبيداً، مملوكين، مستعبدين من فرعون وملئه؛ أيْ: كالملوك في التمكين، ورغد العيش، والحرية، والأمان، أو ملوكاً في حرية التصرف بأنفسكم كما تشاؤون.
{وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} : أيْ: عالمي زمانهم؛ من النِّعم مثل المن، والسلوى، وفلق البحر، وغيرها.
سورة المائدة [5: 21]
{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} : جاء هذا الأمر الإلهي بدخول الأرض المقدسة، بعد نزول التوراة على موسى، وعبادتهم العجل، ورفع الطور.
{الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} : الأرض المباركة المطهرة، قيل: هي بيت المقدس، أرض الشام، وفلسطين، والأردن.
{كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} : أيْ: فرض الله عليكم دخولها.
{الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} : فسّرت هذه الكتابة:
كتابة مؤقتة، كتابة موقوتة بزمان محدد، حينما كانوا مؤمنين؛ فإن الله قد كتب لهم الأرض المقدسة؛ لكنها ليست كتابة دائمة حتى قيام الساعة، وإنما كتابة موقوتة، كتبها لهم عندما كانوا مؤمنين موحِّدين، وكان غيرهم في ذلك الزمن كافرين ووثنيين، ولكنهم حينما ارتكبوا المعاصي، وغضب الله عليهم، ولعنهم؛ فقد فقدوا حقَّ تملُّك تلك الأرض المقدسة.
أو كتبها كتابة تشريعية؛ أيْ: أن يكون للمريد أو المدعو اختيار في أن يفعل أو لا يفعل؛ أيْ: يدخلها فينال الثواب والأجر، أو لا يدخلها؛ فيعاقب على ذلك.
أو كتابة كونية؛ أيْ: إن الدخول لا اختيار فيه، أو إرادة، يجب أن يحدث رغم أنف الإنسان.
ويُرجَّح أنها كتابة تشريعية؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ؛ أيْ: لهم الخيار بالدخول، أو الارتداد، وعدم الدخول.
{وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} : تتراجعون، أو تنهزمون، ولا ترجعوا عن أمر الله إلى معصيته.
{فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} : في دنياكم وآخرتكم.
سورة المائدة [5: 22]
{إِنَّ} : للتوكيد.
{قَوْمًا جَبَّارِينَ} : الكنعانيون: (جبارين): جمع جبار، والجبار: الرجل القوي، عظيم الجسم، الذي يُجبر ويكره الناس؛ لقوته، وقهره لهم (رجل عملاق).
{وَإِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} : لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد، نفوا دخولها نفياً مؤقتاً؛ حتى يخرج منها القوم الجبارون.
{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.
{فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} : الفاء: للتوكيد، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال والندرة.
{فَإِنَّا دَاخِلُونَ} : الفاء: للتوكيد، والتعقيب مباشرة.
داخلون: جملة اسمية تدل على الثبوت، وعلى شرط أن يخرج منها القوم الجبارين.
سورة المائدة [5: 23]
{قَالَ رَجُلَانِ} : أغلب الروايات ترجح أنهما: يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام ، وكالب بن يوقنه، وهو من سبط يهوذا، وقيل: كانا ابني يوسف عليه السلام ، وقيل: هما من القوم الجبارين، أسلما مع بني إسرائيل.
{مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} : يخافون الله وحده، يخافون معصية الله، ومخالفة أمره تعالى، قيل: يخافون الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق.
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} : وقيل: بالإسلام، أو الصلاح، والفضل، واليقين؛ بالخوف من الله، وبنعمة الإيمان، والصدق.
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} : لاحظ تقديم الجار والمجرور {عَلَيْهِمُ} ، بدلاً من قولهم: ادخلوا الباب عليهم؛ لأن الدخول على القوم الجبارين أهم من دخول الباب؛ فالباب ليس له أهمية، بينما المهم هو ملاقاة القوم الجبارين.
{فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} : الفاء: للترتيب المباشر، إذا: ظرفية، ظرف زماني، متضمنة معنى الشرط؛ تفيد الحتمية.
{فَإِنَّكُمْ} : الفاء: للتوكيد، والتعقيب؛ أيْ: ما دام الله قد كتب عليكم الدخول؛ فهو عز وجل سوف يكون عوناً لكم؛ إذ لا يطلب منكم إلَّا الجهاد، وبالرعب قد ينصركم؛ لأن الله منجز وعده.
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} : تقدَّم الجار والمجرور، ولفظ الجلالة: يدل على الحصر؛ أيْ: على الله وحده، ولا غيره.
{فَتَوَكَّلُوا} : الفاء: عاطفة؛ تفيد التوكيد.
بعد تقديم الأسباب المطلوبة منكم؛ لأن الله سبحانه قد جعل لكل شيء سبباً.
{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : إن: شرطية.
أين جواب الشرط؟ جواب الشرط: محذوف؛ دلَّ عليه ما قبله، وهو قوله: فتوكلوا على الله.
فيصبح تقديرها: أيْ: إن كنتم مؤمنين؛ فتوكلوا على الله. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان في التوكل.
سورة المائدة [5: 24]
{قَالُوا} : أيْ: بنو إسرائيل.
{لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا} : لن: حرف نفي للاستقبال القريب والبعيد.
{أَبَدًا} : ظرف زمان للتوكيد، وللنفي بعدم دخولها، ما داموا فيها.
{مَا} : حرف مصدري.
{مَا دَامُوا فِيهَا} : مقيمين؛ أي: القوم الجبارين.
{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} : الواو: عاطفة، تدل على التعقيب والمباشرة.
{أَنْتَ} : ضمير منفصل للتوكيد.
{وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} : لم يقولوا: (ربنا)، بل قالوا:{وَرَبُّكَ} : وهذا يدل على مدى استهانتهم بالله تعالى ورسوله، وجهلهم، وقلة احترامهم، وعدم المبالاة، بل الاستهزاء، وليس هذا بغريب أن يصدر مثل هذا عن أفواههم؛ فقد قالوا من قبل:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، وعبدوا العجل، وسألوا رؤية الله سبحانه جهرة.
{إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} : قاعدون: جمع قاعد، وقاعد تجمع على قعود، والفرق بينهما؛ قاعدون: تدل على الحدث، وقعود: تدل على الاسم مثل كافرون، وكفار، وقولهم قاعدون يدلُّ على مدى جبنهم، وخورهم، وحبهم للدنيا، ويدلُّ على تمرُّدهم، وعصيانهم لأوامر الله ورسوله.
{إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} : ننتظركم، ولن نبرح هذا المكان بانتظار النتيجة.
سورة المائدة [5: 25]
قال موسى عليه السلام : {إِنِّى} : إني: أكثر تأكيداً من (أنا) بالنون المشددة.
{لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى} : لا: النافية للحال، {أَمْلِكُ إِلَّا}: إلّا: أداة حصر، {نَفْسِى وَأَخِى}: أيْ: هارون، وقد تعني: لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلَّا نفسه؛ أيْ: ليسا بقادرين على سؤال أحد آخر لنصرتنا.
في هذه الآية معنى الأسى، والحزن؛ لعدم استجابة قومه له بالدخول.
وفيها معنى الاعتذار.
{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} : أيْ: احكم، أو افصل، أو اقض بيننا وبين هؤلاء الفاسقين؛ أي: الخارجين عن الطاعة، والإيمان، وكأنه يقول: إني بريءٌ من هؤلاء القوم الفاسقين الذين عصوا أمرك.
سورة المائدة [5: 26]
قال تعالى: {فَإِنَّهَا} : أي: الأرض المقدسة.
{مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} : لا يدخلونها، هذا هو الحكم الأول.
والحكم الثاني هو: {يَتِيهُونَ فِى الْأَرْضِ} : فلان تاه؛ أيْ: سار على غير هدى، لا يعرف لنفسه مدخلاً ولا مخرجاً.
أيْ: محرمة عليهم (40 سنة) لا يدخلونها، وخلال ذلك الزمن (40 سنة يتيهون في الأرض)، وقيل: تاهوا (40 سنة)، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا، وبعد (40 سنة) دخلوها على يد يوشع بن نون، وإذا وقف القارئ عند كلمة:{مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وبدأ بـ: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الْأَرْضِ} : عندها تعني: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} : إلى الأبد، والتيه يكون أربعين سنة.
{فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} :
{فَلَا تَأْسَ} : لا: الناهية. {تَأْسَ} : من الأسى: هو أشد ألماً من الحزن؛ أي: حزن شديد، يخالطه جذع، وأطول فترة من الحزن، بينما الحزن أقل ألماً من الأسى، ومؤقت.
لماذا قال تبارك وتعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} :
يبدوا أن موسى عليه السلام شعر بالأسى والحزن، فدعا على بني إسرائيل، بعد أن أعلنوا عصيانهم وتمردهم على الدخول، ولم يدعُ لهم بالهداية، أو لم يمهلهم ربُّهم زمناً أطول للدخول؛ فجاءت الاستجابة مباشرةً بقوله:{فَإِنَّهَا} : الفاء: للتعقيب والسرعة، وتشبه حالتهم في التيه؛ كحالة السجين، وكما لا بُدَّ للسجين من أن يُطعم ويُسقى؛ فقد أمدهم الله بالطعام بالمن والسلوى، وفجَّر لهم الحجر اثنتي عشرة عيناً:{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].
سورة المائدة [5: 27]
المناسبة: بعد ذكر عصيان بني إسرائيل بعدم دخول الأرض المقدسة، على لسان موسى، ونقضهم المواثيق يأتي مثل آخر؛ عصيان ابن آدم لأمر الله بالزواج من أخته من الحمل الآخر، على لسان آدم، وقتله لأخيه، فيقول تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ} ، واتل؛ أي: اقرأ، كلمة بعد كلمة، بالترتيب والتتابع، والتلاوة لا تكون إلا من كتاب الله، ولها أجر الحرف بعشر حسنات.
{عَلَيْهِمْ} : يا محمد، على قومك.
{نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ} : النبأ: هو الخبر العظيم، أو الخبر المهم، وهو أخص من الخبر؛ أي: الخبر أعم من النبأ، والنبأ فيه فائدة للمستمع.
{ابْنَىْ آدَمَ} : قابيل وهابيل.
{بِالْحَقِّ} : الباء: باء الإلصاق، بالحق: والحق: هو الشيء الثابت، الذي لا يتغير، فكل شيء منزل من عند الله تبارك وتعالى هو الحق -جل وعلا- ، والله هو الحق عز وجل ؛ أيْ: منزل من الحق؛ أيْ: بالصدق، لا تغيير فيه، ولا تبديل؛ لأن هناك أنباء غير صادقة تصدر من البشر فيها شك، وليست حقاً، وطالما هناك حق، هناك غير حق؛ أيْ: باطل.
ما هو النبأ؟ أوحى الله إلى آدم أن يزوِّج كلَّ واحد من أولاده توءَمة الآخر؛ فرفض قابيل الزواج من الأنثى من البطن الثاني؛ حيث كانت حواء تلد ذكراً وأنثى في كل حمل، فقال لهما آدم: قرِّبا قرباناً، فمن أيكما تُقبل؛ تزوجها، ففعلا ذلك، فتُقبل قربان هابيل؛ فازداد قابيل حسداً وسخطاً، فانتهى الأمر بأن قتل أخاه هابيل. ارجع إلى الآية (183) من سورة آل عمران؛ لبيان معنى القربان.
{إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} : بمعنى حينما قرَّبا قرباناً، أو اذكر إذ قرَّبا قرباناً.
والقربان: هو ما يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى، على وزن فعلان.
قيل: إن قربان هابيل كان من أجود غنمه (إذ كان صاحب غنم).
وقربان قابيل حزمة من سنبل، ومن أردأ زرعه (إذ كان صاحب زرع).
فتُقبِّل قربان هابيل، قيل: نزلت ناراً فأكلته، أو رفع إلى السماء، وأمّا قربان قابيل؛ فبقي مكانه، ولم يُتقبل. فقال: قابيل لهابيل؛ لأقتلنك.
{قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} : تهديد من قابيل لأخيه بالقتل، والتأكيد جاء في اللام، وكذلك بزيادة النون، النون الثقيلة في كلمة: أقتلنَّك، بدلاً من قتلك.
قال هابيل: إنما: كافة ومكفوفة؛ تفيد التوكيد.
{يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} : جواباً على قوله: {لَأَقْتُلَنَّكَ} .
عزا تقوى الله سبحانه كونها هي السبب في تقبُّل القربان، فأيُّهما أتقى؛ يُتقبل منه.
سورة المائدة [5: 28]
{لَئِنْ} : اللام: لام التوكيد، إن: شرطية؛ تفيد معنى الاحتمال، أو الندرة.
{بَسَطْتَ} : أيْ: مددت إليَّ يدك لتقتلني، بسط اليد بالسوء، وبسطت: جملة فعلية تدل على التجدد والتكرار.
{مَا أَنَا بِبَاسِطٍ} : ما: النافية. بباسط: الباء: للإلصاق، والتوكيد، وما أنا بباسط: جملة اسمية تدل على الثبوت؛ أي: لن أحاول قتلك مهما فعلت بي؛ لأني أخاف الله رب العالمين.
{يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} : يد واحدة.
انتبه إلى بسط إليَّ؛ تعني: بالشر، أما بسط له؛ فتعني: الخير، أو النفع، وعلل عدم الرد على أخيه بالسوء:{إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
{إِنِّى} : إن: للتوكيد.
{أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} : أضاف كلمة الله إلى الرب؛ للترهيب، وعدم ارتكاب جريمة القتل، أو تدل عظمة الخوف، والرهبة المستقرة في قلبه، وكأن بإمكانه الرد عليه قوة بقوة، فيقول: لا أريد أن أقتلك.
سورة المائدة [5: 29]
{إِنِّى} : النون: للتوكيد.
{تَبُوءَ} : ترجع يوم القيامة حاملاً إثمين: إثمي، وإثمك. ارجع إلى سورة يونس، آية (87)؛ لمزيد من البيان.
{بِإِثْمِى} : أيْ: إثم قتلك إياي، أو (إثم قتلي).
{وَإِثْمِكَ} : إثم معاصيك في الدنيا غير القتل، والإثم: هو فعل الحرام؛ أي: القتل، وحدّه القصاص. ارجع إلى سورة النساء، آية (92-93)؛ لمزيد من البيان.
أو الإثم الأول: رفضك قبول الحكم، بما أمر الله سبحانه.
والإثم الثاني: هو قتلك إياي؛ أيْ: جريمة القتل.
{فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} : أصحاب: الملازمون للنار، لا يفارقونها، وهي لا تفارقهم.
{وَذَلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ} : الواو: للتأكيد، وذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد، وتشير إلى كونهم من أصحاب النار.
{جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ} : دخول النار: هو جزاء الظالمين.
ويتبيَّن من هذه الآيات: أن هابيل حذر قابيل بثلاث مواعظ:
الخوف من الله، وبأنه سيحمل إثمين: إثم قتله، وإثم نفسه، وأنه سيكون من أصحاب النار، ومن الظالمين.
سورة المائدة [5: 30]
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :
{فَطَوَّعَتْ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة. فطوعت: تشجعت نفسه، أو زيَّنت له نفسه أخيراً على قتل أخيه، فكل نفس لها ملكتان: ملكة الخير، وملكة الشر، وملكة الشر: خاضعة لوسوسة الشيطان والهوى؛ فطوعت: يدل على تردد طويل واستعداد نفسي، ثم الإقدام على القتل؛ تردد في نفس قابيل على قتل هابيل بين دافع الحسد من أخيه ودافع الخوف.
فحينما تتغلب ملكة الشر على ملكة الخير يحدث الإثم.
{فَقَتَلَهُ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، وعدم التردُّد. وقيل: كانت هذه أول جريمة قتل تحدث على الأرض.
{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : الفاء: للتوكيد أصبح قابيل من الخاسرين في الدنيا والآخرة؛ أي: الخاسرين لأنفسهم؛ بإدخالها النار وإهلاكها.
سورة المائدة [5: 31]
بعد أن قتل أخاه، لم يدرِ ما يصنع به، فحمله على ظهره؛ كما قيل زمناً.
{فَبَعَثَ} : أيْ: أرسل غراباً، وهناك فرق بين بعث وأرسل؛ البعث: فيه تنبيه وإثارة. ارجع إلى سورة البقرة آية (119) لمزيد من البيان.
{يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ} : ينبش الأرض، ويحفرها بمنقاره ورجليه؛ ليدفن؛ أيْ: ليواري غراباً آخر كان قد قتله.
{لِيُرِيَهُ} : ليعلمه كيف يواري: يستر ويخفي.
{سَوْءَةَ أَخِيهِ} : جثة أخيه، والسوءة: ما يسوء ظهوره؛ أيْ: جثة أخيه، والسوءة عادة هي القبل والدبر، أمّا العورة: فهي ما بين السرّة والركبة.
{قَالَ يَاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} :
{قَالَ يَاوَيْلَتَى} : من الويل: وهو الهلاك، والفناء، والياء: ياء النداء؛ أيْ: كأنك تنادي: يا هلاكي، احضر وخلصني ممّا أنا فيه من الغمّ والهمّ، والويلة: الفضيحة، والعار، والبلية؛ أيْ: وافضيحتاه! وكأنه يطلب حضورها، وأمّا يا ويلتي، فيا عذابي.
{أَعَجَزْتُ} : الهمزة: استفهام تعجُّبي.
{أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التعليل.
{فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى} : أيْ: كيف فاتني؟!، ولم أعرف أن أدفن جثة أخي، وأواريها في التراب، كما فعل هذا الغراب، والغراب: من أذكى الطيور، حاد الذاكرة، شديد الحذر، والغراب يدفن موتاه، وهذا هو السر من ذكر الغراب هنا، وللغربان نظم اجتماعية، ومحاكم، وأحكام تنظم حياتها، كما أن للناس نظماً اجتماعية، وأحكاماً تنظِّم حياتهم.
{فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} : الفاء: تدل على التعقيب، سرعة ندمه.
الندم: هو الأسف وهو من أفعال القلوب، وله درجات وعندما يشتد يتحول إلى حسرة؛ فالحسرة هي أشد الندم، والندم ناتج فقط عن فعل العبد، والأسف قد يكون ناتجاً عن فعل العبد، أو فعل غيره.
{النَّادِمِينَ} : على قتله أخيه، أو على خيبته؛ لأنه لم يعرف ما عرفه الغراب، ومجرد الندم لا يُعد توبة للقاتل العمد.
سورة المائدة [5: 32]
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} : من لابتداء الغاية.
{مِنْ أَجْلِ} : أيْ: بسبب ذلك.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يشير إلى قتل قابيل لأخيه هابيل ظلماً، وما حصل من فساد.
{كَتَبْنَا} : حكمنا، أو شرعنا.
{عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : في التوراة، والكتابة جاءت في قوله:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ} [المائدة: 45]، والسؤال هنا نربط بين قتل قابيل لهابيل، وتحذير بني إسرائيل من قتل أي نفس مع أن هناك أقواماً جاءوا قبل بني إسرائيل قد يكون السبب لكونهم ممن فضلهم الله على العالمين في ذلك الزمان وأنزلت على موسى التوراة وكانوا يقتلون أنبيائهم بغير حق ويُعد ذلك من أبشع القتل فجاء يحذرهم في هذه الآيات ويذكرهم بما حصل لابني آدم، {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ}: أن: للتوكيد، من: شرطية.
{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} : أيْ: قتل نفساً ظلماً، وعدواناً، أو بغير سبب موجب للقصاص، الذي شرَّعه الله تعالى.
{أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ} : والفساد: هو إهلاك الحرث، والنسل، والكفر، والشرك، وقتل الأبرياء، وتشريدهم، وإثارة الفتن. ارجع إلى الآية (205) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
{فَكَأَنَّمَا} : الفاء: جواب الشرط.
{فَكَأَنَّمَا} : الكاف: للتشبيه، ولم يقل: كأنه، وإنما قال: كأنما بزيادة ما؛ لتوسع دائرة التشبيه، وبيان شناعة فعل القتل.
{قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} : جميعاً: توكيد.
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} : ومن: الواو: استئنافية، من: شرطية ابتدائية.
{وَمَنْ أَحْيَاهَا} : تعود على النفس. أحياها: أنقذها من أسباب الهلكة؛ أيْ: أبقاها حية، أنقذها من الموت؛ كالغرق، والحريق، والقتل.
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} : كالسابقة.
إذن لا فرق بين قتل الواحد، وقتل الجميع، ولماذا ذلك؟ لتعظيم أمر قتل النفس البشرية، ولا فرق بين إحياء الواحد، وإحياء الجميع.
ولو عقلَ كل قادم على قتل نفس بريئة معنى هذه الآية؛ لربما كفَّ عن قتله وفساده، تجنباً ودرءاً لغضب الله عليه، ولعنة الله، والعذاب العظيم في جهنم.
{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، وزيادة التوكيد.
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} : ولم يقل: رسلهم، وذلك لأهمية الأحكام التي جاءت بها الرسل، نسب الرسل إليه تعالى، وشرفها بنون العظمة، ولكون الآيات لم تأتي في سياق الأقوام وتكذيبهم وجدالهم مع رسلهم.
{ثُمَّ} : حرف عطف.
{إِنَّ} : للتوكيد.
{كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ} : كثيراً من الناس، أو تعود على بني إسرائيل، بعد مجيء الرسل إليهم، وبعدما كتبنا لهم وبيَّنا لهم الآيات.
{فِى الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} : اللام: لام التوكيد، مسرفون: جمع مسرف، مسرفون في القتل، أو مسرفون في ظلمهم وطغيانهم، وارتكاب المعاصي.
ومسرفون: جملة اسمية تدل على الثبوت على الإسراف في القتل والظلم. وقدم في الأرض بدلاً من القول لمسرفون في الأرض للفت الأنظار إلى عظم فسادهم في الأرض التي يعيشوا عليها.
سورة المائدة [5: 33]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.
{جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : أيْ: يحاربون دِينه ورسله، ويحاربون المؤمنين؛ كأنهم يحاربون الله ورسوله.
{يُحَارِبُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدلّ على التكرار، والتجدد، والاستمرار، يحاربون الله ورسوله؛ أي: يحاربون شرعه ويعتدون على أحكامه ويحاربون بالقول، أو الاعتداء على المؤمنين.
{وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا} : بالقتل، وإهلاك الحرث، والنسل، ونشر الكفر، والشرك، وإرهاب الناس، والاعتداء على حرماتهم، وأموالهم، وأعراضهم، وتهديم بيوتهم، وتشريدهم.
{أَنْ يُقَتَّلُوا} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التوكيد والتعليل.
{يُقَتَّلُوا} : ولم يقل: يقتَلوا. يقتَّلوا: فيها مبالغة في القتل؛ أيْ: من دون أن تأخذكم بهم رأفة، أو رحمة، ومهما كان عددهم، أن يقتلوا على مرأى من الناس واحداً تلو الآخر.
{أَوْ يُصَلَّبُوا} : أو: تعني: إما البيان، أو التخيير في الحكم.
{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ} : اليد اليمنى، والرجل اليسرى مثلاً، أو بالعكس.
{أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} : وينوب عن ذلك الحبس؛ أي: السجن؛ حتى ينجو الناس من شرِّهم وأذاهم.
{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يعني: ذلك الجزاء المذكور من القتل، والصلب، والنفي.
{لَهُمْ} : اللام: لام الاستحقاق، والاختصاص.
{خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا} : الخزي: الذل، أو الفضيحة، وهو نزول العقوبة بهم في الدنيا من القتل، والصلب، والنفي، هو خزي لهم في الدنيا.
و {وَلَهُمْ} : اللام: لام الاستحقاق {فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : وهو عذاب النار، المؤلم، الدائم، المهين، المقيم، والعذاب العظيم: هو أشد أنواع العذاب في الآخرة.
سورة المائدة [5: 34]
{إِلَّا} : أداة استثناء، يستثنى من هؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً.
{الَّذِينَ تَابُوا} : جاؤوا تائبين، قبل أن تلقوا القبض عليهم، وتنفذوا حكم الله فيهم، كانوا خلال تلك الفترة في منعة، ولم تتمكنوا من القبض عليهم.
{تَابُوا} : أيْ: تابوا توبة، صادقة، خالصة لوجه الله، لا تحايلاً، وهرباً من العقوبة، وكفوا عن المحاربة، والإفساد، وندموا على ما فعلوه، وأصلحوا ما أفسدوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة، والنوافل، والتوبة تسقط حقَّ الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا بُدَّ من إرجاعها إلى أصحابها، وردّ الأموال المسلوبة، ومعاقبتهم على أعمالهم.
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} : أن: للتوكيد.
{غَفُورٌ} : غفور لذنوبهم، صيغة مبالغة من غفر يغفر الذنوب مهما كانت، أو عظمت وتعددت؛ إلا الكفر والشرك، ولا يعاقب على الذنب مهما عظم، أو كثر.
{رَحِيمٌ} : بإسقاط العقوبة عنهم، وقبول التوبة، وصفة الرحمة ثابتة لذاته، ومن تاب بعد القدرة عليه إلقاء القبض عليه والسجن، فالتوبة عندها لا تنفع، ويقام عليه الحد. ارجع إلى كتب الأحكام؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 35]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء جديد للذين هم على درب الإيمان، والهاء: للتنبيه.
{اتَّقُوا اللَّهَ} : أي: اتقوا عذاب الله تعالى، وغضبه، وجبروته، باتباع أوامره، وتجنب نواهيه بالكف عن المحارم، وترك المنهيات.
{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} : اطلبوا أو التمسوا إليه الوسيلة.
{الْوَسِيلَةَ} : القرب أو الشيء الذي يتقرب به إلى الله تعالى؛ للحصول على مرضاته ونيل جنته، وقيل: الوسيلة أعلى درجة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، والله أعلم.
كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه أحمد، ومسلم من حديث عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن؛ فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاة؛ صلَّى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة» .
{وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ} : جاهدوا في سبيل إعلاء دِينه.
ويشمل جهاد النفس عن شهواتها، وأهوائها، وجهاد الشيطان، بفعل الحسنات، وترك السيئات.
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : لعل: أداة رجاء؛ تستعمل في الأمور المرجو تحققها. لعلكم تفلحون: بتقديم الأسباب الأخرى كذلك المؤدِّية إلى الفلاح إضافة إلى الجهاد في سبيله؛ أيْ: لتفلحوا، والفلاح: هو الفوز بسعادة الدارين. ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالتقوى، والجهاد في سبيله، أخبر بما أعده لأعدائه.
سورة المائدة [5: 36]
{إِنَّ} : للتوكيد.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} : جحدوا بالله، وآياته، ورسله، ووحدانيته، وماتوا وهم كفار، ولم يتوبوا.
{لَوْ أَنَّ} : لو: شرطية. أن: للتوكيد.
{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، أو الاستحقاق.
{مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} : لهم يوم القيامة على سبيل الفرض، ما في الأرض: من مال، وذهب، وفضة، ومتاع، وحرث، وأنعام، وغيرها من وسائل رغد العيش والملك.
{جَمِيعًا} : توكيد.
{وَمِثْلَهُ مَعَهُ} : أيْ: مثله، أو ضعفه معه.
ولو جاء أحدهم؛ أي: الكفار به يوم القيامة؛ ليفتدي به من عذاب الله، أو من كفره ما تُقبِّل منه.
{لِيَفْتَدُوا} : اللام: لام التعليل، والفداء: هو ما يُعطى، أو يجعل بدل الشيء؛ ليعود إلى حاله التي كان عليها بالمثل، أو أقل.
ولم يقل: لافتدوا به: ليفتدوا به؛ لأنهم ما زالوا على قيد الحياة الآن، ليفتدوا به في المستقبل؛ أيْ: يوم القيامة، بينما (لافتقدوا به): تشير إلى أنهم في الآخرة؛ أي: تأتي في سياق الآخرة، كما ورد في سورة الرعد الآية (18)، وسورة الزمر الآية (47)، وسورة يونس الآية (54). وانظر إلى قوله تعالى:(ليفتدوا به) ولم يقل: بهما، مع أن الهاء في (به) تعود على أمرين ما في الأرض ومثله معه، والسبب في ذلك إذا لم يجدي الافتداء بما في الأرض فلم يبقى جدوى للافتداء بمثله معه.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام، بالكيفية، والمقدار، والديمومة.
سورة المائدة [5: 37]
{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} :
{يُرِيدُونَ} : أي: الذين كفروا، والنون: للتوكيد.
{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التوكيد، يخرجوا من النار.
{وَمَا} : ما: النافية؛ تنفي الحال، والمستقبل.
{هُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد والحصر.
{بِخَارِجِينَ} : الباء: للتوكيد.
فقد استعمل ثلاثة توكيدات لعدم خروجهم من النار: النون، وهم، والباء.
{وَلَهُمْ} : اللام: للاستحقاق، هم: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.
{عَذَابٌ مُقِيمٌ} : عذاب دائم، لا يتغير، ولا يزول، ولا يحول، ولا يبدل.
سورة المائدة [5: 38]
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} : قدَّم السارق على السارقة؛ لأن الرجل أجرأ على السرقة غالباً من المرأة.
بعكس الزِّنى؛ فقد قدَّم المرأة على الرجل؛ لأن المرأة أجرأ على الزِّنى من الرجل.
وتعريف السرقة في الشرع: أخذ العاقل البالغ مقداراً مخصوصاً من المال خفيةً، من حرز (دار أو خيمة)، دون حق، واختلف في المقدار بين الفقهاء، وفي الشروط التي تتوافر في السارق والمال المسروق. ارجع إلى كتب الفقه؛ لمزيد من البيان.
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} : القطع يكون من الرسغ، كما قال الجمهور، واليد اليمنى. انظر كيف جمع اليد فقال أيدي، ثم ثنى الجمع فصارت أيديهما لتشمل الذكر والأنثى.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» رواه الترمذي.
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} : مجازاة على ظلمهما؛ أي: السرقة.
{نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} : أيْ: عقوبة من الله للسارق، والسارقة، قد تجعل غيرهما لا يُقدِم على السرقة؛ أيْ: عبرة؛ فالنكال تعني: العقوبة والعبرة التي تصد المعاقب عن العودة إلى ما ارتكبه من الإثم أو الجرم.
وسُمِّيت العقوبة: نكالاً، والنكل: هو القيد الشديد، أو حديدة اللجام، التي تمنع الفرس من القيام بعمل غير مستحب.
فاقطعوا أيديهما: فهو عبرة مانعة من وقوع الجرم (السرقة)، سواء لمن ارتكب السرقة، أو لمن يشاهد كيف يقام الحدُّ على السارق.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} : القوي؛ الذي لا يُقهر، ولا يُغلب، المنيع لا يضره شيء.
{حَكِيمٌ} : في تدبر شؤون خلقه، وكونه، وفي تشريعه، وأحكامه، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة.
سورة المائدة [5: 39]
{فَمَنْ تَابَ} : الفاء: عاطفة، من: شرطية.
{تَابَ} : استوفى أركان التوبة: الندم، وعدم العودة إلى السرقة، والإصلاح، والإكثار من العمل الصالح، وإرجاع الحقوق إلى أهلها.
{مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} : سمِّي السارق ظالماً؛ لأنه أخذ حقّ غيره. من: تفيد القرب في الزمن.
{وَأَصْلَحَ} : أيْ: أصلح ما أفسد.
يُعيد الشيء المسروق إلى صاحبه، ويطلب العفو من صاحب الشيء المسروق، إن كان يعرفه، أو يعرف عنوانه، وإن لم يعرفه، ويعرف عنوانه، ثم تاب، عندها يتصدّق بما سرق، ولا يعتبر صدقة له، بل لصاحب المال المسروق، ويقول: يا رب! ثواب ذلك لصاحب الشيء المسروق، وليعلم أن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وليس من الضروري أن يذكر عنوان السارق، بل يقول: هو من مجهول إذا أرجع الشيء المسروق إلى صاحبه.
{فَإِنَّ} : الفاء: للتوكيد، إن: لزيادة التوكيد.
{اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} : أيْ: يتقبل توبته.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: توكيد.
{غَفُورٌ} : غفور للسارق إذا تاب وأصلح، غفور: المغفرة تسبق الرحمة، غفور؛ كثير الغفر (صفة مبالغة)، مهما عظمت، وتعددت الذنوب والآثام.
{رَحِيمٌ} : صفة ثابتة في ذاته -جل وعلا- ، مشتقة من الرحمة، رحيم لمن تاب من بعد السرقة {وَأَصْلَحَ}: وعاد إلى درب الإيمان، واستقام عليه.
سورة المائدة [5: 40]
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
لم يقل: الله له ملك السموات، بل قال:{أَلَمْ تَعْلَمْ} ؛ لأنه -جل وعلا- : يريد أن يكون الخبر قادماً من المخاطب، وليس منه، ويكون إقراراً من العبد، ولو قال الله سبحانه وتعالى : له ملك السموات والأرض؛ لكان الخبر منه سبحانه، وهذا يكفي، ولكن قوله ألم تعلم: بصيغة الاستفهام بدلاً من الإخبار؛ أشد، وأقوى تأثيراً في نفس العبد، وتعني: ألم تعلم علماً يقينياً، أو أعلم علماً يقينياً ما أخبرك الله به هو الحق الثابت.
{أَنَّ اللَّهَ لَهُ} : أن: للتوكيد، له: اللام: لام الملكية والاستحقاق.
{مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أي: الحكم، فهو الحاكم، والمالك.
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} : فهو الغالب على أمره، ويغفر لمن يشاء.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : يعذب، أو يقطع، أو يغفر لمن تاب، وأصلح، كامل القدرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقدَّم العذاب على المغفرة في هذه الآية: للتحذير، وعدم الطمع في رحمة الله عند السرقة أو ارتكاب الأعمال المحرمة. ارجع إلى الآية (18) من سورة المائدة.
سورة المائدة [5: 41]
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} : الياء: ياء النداء، والهاء: للتنبيه.
وحينما ينادي -جل وعلا- أشرف أنبيائه ورسله؛ فهو تبارك وتعالى يناديهم بأسمائهم.
فيقول: {يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا} ، {يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} ، {يَامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ} ، {يَاعِيسَى} .
ولكن حين ينادي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لا يناديه باسمه أبداً، بل يناديه:{يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} ، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}: تعظيماً، وتكريماً له؛ إلا في حالات أربعة خاصَّة؛ فقد استعمل اسمه (محمد)؛ كقوله:{مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} [آل عمران: 144]، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد: 2]، وورد اسم أحمد مرةً واحدةً في القرآن {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
أمّا متى يستعمل: يا أيها الرسول، أو يا أيها النبي؟
في سياق التبليغ والدعوة: يستعمل يا أيها الرسول، وفي سياق الأحكام، وافعل، ولا تفعل: يستعمل يا أيها النبي.
وقد وردت يا أيها النبي (13) مرَّة، وأمَّا يا أيها الرسول؛ فمرَّتين فقط، وكلاهما في سورة المائدة، الآية (41)، والآية (67).
وكلمة النبي أعمَّ من كلمة الرسول.
{لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} : لا: الناهية.
{يَحْزُنكَ} : الحزن: هو غمّ، يصيب النفس لرؤية، أو سماع ما يسوء إليها، وتكرهه، ولِمَ لا يحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء عليه السلام مبلغاً للرسالة، حريصاً على إيمان كل فرد، فهذا الحرص كان يدفع قلبه للشعور بذلك، وخاصَّة لما بُعث رحمة للعالمين، وهناك فرق بين الحُزن، والحَزن. ارجع إلى الآية (139) من سورة آل عمران؛ للبيان.
انتبه إلى قوله: {يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} : الإسراع: هو الجري أو العدو في الكفر، ولم يقل: يسارعون إلى الكفر، بل قال تعالى:{يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} هم من المنافقين ومن الذين هادوا.
وقوله (في الكفر): تدل على أنّهم كانوا في الكفر، (كانوا منذ البداية، ويريدون أن ينتقلوا إلى كفر أعمق أو أشد)، أو في ازدياد. والمسارعة في الكفر تعني أيضاً: إظهار كفرهم عند أي أدنى مناسبة.
وأما (إلى)؛ فإنها تدل على أنهم كانوا خارج دائرة الكفر، والآن يريدون أن يكفروا، ويصبحوا كفاراً. ويسارعون فيها معنى شدة الحرص على المسارعة، وكثرتها، وتكرارها، وبذل قصارى جهدهم بدلاً من القول يسرعون.
{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} :
هذا التعريف ينطبق تماماً على المنافقين. ارجع إلى سورة النساء، آية (138)؛ لمزيد من البيان.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} : أيْ: دخلوا في اليهودية، ولم يقل: من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء جاؤوا بعد بني إسرائيل، وهم طبقة أقل صلاحاً، وإيماناً من بني إسرائيل.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} : أيْ: لما وقع في التوراة من تحريف وتبديل، أو الكذب الذي يقولونه بأفواههم بشأن الرسول والمؤمنين.
قال: {سَمَّاعُونَ} : وليس (سامعون)؛ لأن {سَمَّاعُونَ} : فيها مبالغة، وتدل على احترافهم المهنة لمدة طويلة، فهم أهل خبرة، وحرفة في الاستماع إلى الكذب، وليسوا طلاباً (سامعين)، فآذانهم اعتادت السماع للكذب، وأصبح ذلك من صفاتهم الثابتة، سماعون للكذب من رؤسائهم، وكذلك سماعون لقوم آخرين.
{لَمْ يَأْتُوكَ} : لا يأتون إلى مجالسك؛ تكبراً، حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم، إذن هؤلاء هم المتكبرون من الرؤساء وغيرهم.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} : الكلم: هو جمع كلمة؛ أيْ: كلام الله؛ أي: التوراة؛ ارجع إلى سورة النساء آية (46) لمزيد من البيان في معنى الكلم؛ أيْ: يحرفون التوراة مرة ثانية، أو أخرى في زمن الرسول،
وأما المرة الأولى: فقد كانت بعد موت موسى عليه السلام ، وقال تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13].
فهناك فرق بين قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} ، وقوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} .
والتحريف: يعني: تغيير المعنى، وتحميل الألفاظ غيرَ ما وُضعت له، مثل قولهم:{رَاعِنَا} ، {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} . ارجع إلى الآية (13) من سورة المائدة، وسورة النساء، آية (46)؛ لمعرفة الفرق بين الآيتين.
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} : إن شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.
يقولون: إن طابق ما حرَّفناه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ فخذوه؛ أي: اقبلوه، وإن لم يطابق ما حرفناه على ما جاءكم به محمد؛ أيْ: جاءكم بغيره؛ أي: احذروا قبوله، والسماع إليه، وتطبيقه.
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا} :
{وَمَنْ} : الواو: استئنافية، من: شرطية.
{يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} : أيْ: إضلاله، أو اختباره، وابتلاءَه بالتعذيب بالنار، أو عدم هدايته؛ لأنه اقترف الذنوب، والآثام، والكبائر، والله سبحانه لا يُضل أحداً، وأما إذا أراد أحدٌ أن يضل بنفسه وغيره عن منهج الله سبحانه، ويبتعد كثيراً؛ فلن تستطيع مساعدته.
{فَلَنْ} : الفاء: للتوكيد، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ} : لن تستطيع تغيير ذلك، ولا يحزنك مسارعته في الكفر، فمحاولة هدايته، أو منعه من العذاب مستحيلة، ولا تفيد أبداً.
{لَهُ} : تفيد الحصر، من: استغراقية، شيئاً: نكرة: هو أقل القليل؛ أيُّ شيء مهما كان من الهداية، أو النصح.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ غرضه التحقير.
{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يفيد التوكيد على عدم طهارة قلوبهم من المنافقين واليهود.
{لَمْ يُرِدِ اللَّهُ} : لم: حرف نفي وجزم، لم يشأ الله سبحانه، والإرادة تكون بعد المشيئة، ولا تتغير، وتعني: العزم على القيام بالفعل.
{يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} : من دنس الكفر، والشرك، والنفاق، والحسد، بطهارة الإيمان والإسلام.
{لَهُمْ} : اللام: لام الاستحقاق والاختصاص.
{فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} : الخزي: هو الذل مع الافتضاح، وقيل: هو الشيء القبيح الذي تكره أن يراك الناس عليه، ويشمل الهزيمة، والخسارة، والقتل، والجلاء، والسبي.
{وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : يجمع كل أنواع العذاب (الألم، والمهين، والمقيم، والثابت)، وهو أشد أنواع العذاب على الإطلاق.
وتكرار {وَلَهُمْ} : مرتين؛ يدلُّ على التوكيد، وفعل كل منهما على حدة، أو معاً.
سورة المائدة [5: 42]
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} : سمّاعون: صفة مبالغة للسماع؛ أيْ: كثيرو السمع للكذب.
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : أكّالون: صيغة مبالغة للأكل، واللام في كلمة للسحت: للتوكيد، والسحت: هو أشد، أو أبلغ الحرام.
{أَكَّالُونَ} : أيْ: بشراهة، وبكثرة الأكل.
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : آخذون المال غير الحلال؛ مثل: الرشوة في الحكم، أو الدَّين، والرِّبا، والسرقة، والميسر، بكثرة. ارجع إلى الآية (63) من سورة المائدة؛ لمزيد من البيان.
وأصل السحت: الهلاك، والزوال؛ كقوله سبحانه:{فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} ؛ أيْ: يهلكهم بعذاب، والسحت يسحت البركة؛ أيْ: يزيلها إذا اختلط بأي مال يسحت؛ أيْ: يزيل بركته، ولا يدوم طويلاً.
{فَإِنْ جَاءُوكَ} : الفاء: استئنافية. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، وقلَّة المجيء.
{جَاءُوكَ} : المجيء فيه نوع من المشقة والجهد، ولم يقل: فإن أتوك، الإيتاء فيه سهولة وراحة، جاؤوك لحاجة لهم، أو لتحكم بينهم، جاؤوك وهم متردِّدون.
{فَاحْكُم بَيْنَهُمْ} : الفاء: للتعقيب، والترتيب، احكم بينهم:{أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، لك الخيار بأحد الأمرين؛ أيْ: إنك لست ملزماً بالحكم، أو أعرض عنهم لا تلقاهم، ولا تجتمع بهم.
{وَإِنْ تُعْرِضْ} : الواو: عاطفة، إن: شرطية، تعرض عنهم: أيْ: لا تحكم بينهم، وتراهم.
{فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْـئًا} : لن: النافية للمستقبل القريب والبعيد.
{يَضُرُّوكَ شَيْـئًا} : شيئاً: نكرة، أيُّ شيء، والشيء: هو أقل القليل، صغيراً، أو كبيراً، ومهما كان نوع الضرر.
{وَإِنْ حَكَمْتَ} : إن: شرطية تدل على الاحتمال والندرة.
{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، احكم: افصل بينهم بالقسط، الباء: للإلصاق والتوكيد، أو اقضِ بينهم، ولم يقل: فاحكم بينهم بالعدل، وإنما قال بالقسط؛ لأن القسط: هو الحكم بالعدل مع تنفيذ الحكم، وعدم الجور، فالقسط: أعم وأشمل من العدل، والعدل يكون في الأشياء المعنوية، والمادية.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} : إن: للتوكيد.
{يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} : جمع مقسط، من أقسط: أيْ: عدل، ولم يُجرْ، ويظلم. ارجع إلى سورة النساء آية (3) لمزيد من البيان في القِسط.
سورة المائدة [5: 43]
{وَكَيْفَ} : الواو: استئنافية.
{وَكَيْفَ} : اسم استفهام، فيه معنى التعجب من اليهود على تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندهم التوراة.
{يُحَكِّمُونَكَ} : ولم يقل: يحكموك، بل يحكمونك؛ بزيادة النون: للتوكيد؛ لتوكيد التحكيم؛ أيْ: مصرّون على تحكيمك، وعندهم التوراة فيها حكم الله، فالسؤال هنا: لماذا يحكمونك، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون بصحتها؟!
أهم يبحثون عن حكم آخر؛ لأن حكم التوراة لا يوافق رغباتهم؟!
أم يريدون حكماً أيسر، أو أخف مثل الجلد بدلاً من رجم المحصن؟!
وأيضاً كيف يحكمونك، وهم لا يقرون أنك نبي، ويجحدون نبوتك، ولا يؤمنون بالقرآن؟!
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : من بعد تحكيمك، ويرفضون حكمك بالرجم الموافق لحكم التوراة.
{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : من بعد تحكيمك.
{يَتَوَلَّوْنَ} : ولم يقل: تولوا: تدل على أنهم مستمرون في التولي والإعراض، ولن ينتهوا، ويكفوا عن ذلك.
{وَمَا} : الواو: حالية؛ تفيد التوكيد.
{وَمَا} : النافية.
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد؛ ينفي عنهم الإيمان.
{بِالْمُؤْمِنِينَ} : الباء: للإلصاق، وما أولئك بالمؤمنين؛ أي: المصدقين بك، ولا بحكمك، ولا بحكم التوراة، أو بالمؤمنين الإيمان الحقيقي.
سورة المائدة [5: 44]
{إِنَّا} : للتعظيم.
{أَنزَلْنَا} : جملة واحدة، دفعة واحدة، أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام .
{فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} : مصدر للهداية، أو هادياً للحق وللغاية.
{وَنُورٌ} : يُبيِّن الأحكام ليخرج به الذين هادوا من الظلمات.
1 -
{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} : يحكم بها النبيون؛ من بني إسرائيل؛ الذين أسلموا لله تعالى؛ أي: انقادوا لأوامر الله، وأخلصوا لله تعالى، واستجابوا له.
والسؤال هنا: لم قال سبحانه: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} ؟ أليس جميع الأنبياء من المسلمين؟
2 -
أو {أَسْلَمُوا} : معناه: أخلصوا إسلامهم (إسلام الوجه)، وهو أعلى درجات الإسلام، والتوحيد، أو تعني {الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: أمثال الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام من أنبياء بني إسرائيل، وعيسى عليه السلام .
يحكم بالرجم على المحصن، وغيرها من الأحكام.
{لِلَّذِينَ هَادُوا} : اللام: لام الاختصاص، هادوا: دخلوا في اليهودية.
{وَالرَّبَّانِيُّونَ} : جمع ربّاني، والربّاني: منسوب إلى الربّ؛ الذي يربي الناس؛ أي: المربي الذي يمتاز بالعلم بأمور الدِّين، والدنيا، والفقه، والحكيم، التقي، والتدبير بأمور الرعية، يعلم الناس ما يصلحهم في دنياهم ودينهم.
والربانيون: هم فوق الأحبار، وقيل: هم العُبّاد من اليهود.
{وَالْأَحْبَارُ} : هم العلماء من أهل الكتاب؛ أيْ: علماء اليهود، واحدهم الحبر؛ الذي يتمثل فيه الجمال والبهاء.
{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} : الباء: للإلصاق.
{اسْتُحْفِظُوا} : تعود على الربانيين والأحبار.
{اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} : الألف والسين والتاء: تعني: الطلب؛ أيْ: طُلب منهم أن يحفظوا التوراة من التحريف، والتغيير، والتبديل، أو طلب منهم أن يحفظوا التوراة في صدورهم، وأن لا يضيعوا أحكامها وينسوها.
3 -
{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} : من حفظ الشيء؛ أيْ: داوم على حراسته، والمحافظة عليه والمراقبة.
أيْ: وكلهم الله على حفظه، وهذا أمر تكليفي، ولكن ما حدث هو أن بعضهم نسوا حظّاً مما ذكروا به، وكتموا شيئاً منه، وحرَّفوا قسماً منه، ولووا ألسنتهم به، وأضافوا كلمات، وبدَّلوا كلمات.
{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} :
ومقارنة بالقرآن الكريم: فقد تولى الله سبحانه حفظه بنفسه، ولم يترك لأحد أن يقوم بذلك، كما حصل للتوراة والإنجيل.
{وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} : كانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، أو كانوا شهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قاله من الحق، وفي الحكم؛ أيْ: أوصاهم الله بأن يكونوا على التوراة شهداء؛ لئلَّا يُبدل أو يُحرف بالزيادة والنقصان.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِـئَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا} :
{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.
{تَخْشَوُا النَّاسَ} : الخشية: هي الخوف، المصحوب بتعظيم من تخافه، والعلم بالذي تخافه.
{تَخْشَوُا النَّاسَ} : يعني: الرؤساء، أو الحكام، أو أي أحد؛ أيْ: تخافون الناس من أي ضرر، أو أذية، قد تلحق بكم من جراء قول الحق، أو فيما جاء في نعت الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلاً، أو تبيان حكم جاء في كتاب الله، مثل: الحكم بالرجم للمحصن.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ} : واخشوا الله تعالى، إذا كتمتم ما جاء فيها، أو حرَّفتم آياتها، أو بدَّلتم أيَّ حكم، من أجل منفعة مادية، أو منصب، أو رشوة.
{وَاخْشَوْنِ} : ولم يقل واخشوني؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق التوراة والتي أنزلت فيها هدى ونور يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار ليس في ذلك إرجاف ولا فتنة أو إثارة، كما هو الحال في تغير القبلة التي أدت إلى فتنة كبيرة وإرجاف وارتداد البعض. ارجع إلى الآية (3) في نفس السورة.
{وَلَا تَشْتَرُوا بِـئَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا} : أيْ: إياكم وتحريف ما أنزل الله؛ ابتغاء أي ثمن، فمهما كان الثمن كثيراً؛ فهو ثمن قليل وبخس، مقارنة بما عند الله من الثواب، والجزاء. ارجع إلى الآية (41) من سورة البقرة.
{وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} :
{وَمَنْ لَّمْ} : شرطية، لم للنفي.
{بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : الباء للإلصاق، والتوكيد.
{بِمَا} : اسم موصول، بمعنى الذي؛ أي: الذي أنزل الله؛ وهو التوراة.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد. أولئك: اسم إشارة للبعد.
{هُمُ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد، والمبالغة.
{الْكَافِرُونَ} : أيْ: إذا كان هناك كفار، فهم في طليعة هؤلاء الكفار، وأسوؤهم، وهم أولى أن يسمّون بهذا الاسم، وصفة الكفر أصبحت ثابتة فيهم.
سورة المائدة [5: 45]
{وَكَتَبْنَا} : فرضنا، أو حكمنا، وسمِّي ذلك كتابة؛ دلالة للضبط، والحفظ، والإلزام، وكتبنا فيها توكيد أشد من فرضنا.
{عَلَيْهِمْ} : الذين هادوا.
{فِيهَا} : في التوراة.
{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} : أي: النفس؛ تقتل بالنفس.
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} : العين: تفقأ بالعين؛ أيْ: تقلع.
{وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ} : يجدع الأنف بالأنف.
{وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} : تقطع بالأذن.
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} : أيْ: يكسر السن بالسن، أو يقلع به إن قلع.
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} : يكون بمثله، مساوياً له.
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} : بالقصاص؛ فهو كفارةٌ له.
أيْ: عفا المجروح عن الجارح، أو وليه، فهو كفارة له عن ذنبه، فهذه كفارة للجارح، على شرط التوبة، أما إذا بقي مصراً؛ فالعقوبة باقية.
{وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : ارجع إلى الآية السابقة، التفسير نفسه.
أما {الظَّالِمُونَ} : سماهم ظالمون؛ كونهم قد بالغوا في ظلمهم.
وذلك إذا قتل غير القاتل، أو قتل بالواحد اثنين، أو فقأ بالعين عينين، وهكذا، ولماذا سمَّاهم {الظَّالِمُونَ}: إمّا لكونهم لم يطبقوا الحكم؛ لسبب ما، أو لكون القصاص فيه ظلم؛ كأن يقتص بقتل اثنين بدلاً من قتل واحد، وهكذا.
والظلم بشكل عام هو نقصان حق الغير، وقد يظلم الإنسان نفسه: بأن يخرج عن منهج الله سبحانه، ويتبع هواه والشيطان.
لا بُدَّ من الانتباه إلى هذا الحكم الوارد في الآية (45) لبني إسرائيل، والذي ينص: إمّا القصاص، وإمّا العفو، وليس هناك ذكر للديَّة. في النفس، أو الجروح، ما يدل على أن الله -جل وعلا- خفّف على الأمة المحمدية؛ بدفع الدّية، إضافة إلى القصاص، والعفو.
سورة المائدة [5: 46]
{وَقَفَّيْنَا} : ارجع إلى الآية (87) من سورة البقرة.
{عَلَى آثَارِهِمْ} : أي: اتبعنا بعيسى (بعثنا عيسى عليه السلام ) مباشرة، من دون فاصل زمني خلف النبيين؛ الذين أرسلوا إلى بني إسرائيل، وقد أرسل عيسى عليه السلام على آثار زكريا عليه السلام .
{عَلَى آثَارِهِمْ} : أيْ: كأن آثار أقدامهم لا تزال على الأرض، لم تُمحَ بعد؛ (دلالة على قصر الزمن) بين الرسل وعيسى عليهم السلام.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} : مقراً ومطبقاً شريعة التوراة، وما جاء به موسى عليه السلام قولاً، وعملاً.
{وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ} : أيْ: أنزلنا على عيسى عليه السلام الإنجيل، جملة واحدة (دفعة واحدة)؛ للهدى، والموعظة.
{فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} : في الإنجيل هدى من الضلال؛ أيْ: مصدر هداية، أو هادياً، ونور يُبيِّن الحق من الباطل، والحلال من الحرام.
{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} : أي: الإنجيل، مصدقاً للتوراة لا يخالف التوراة.
{وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} : الإنجيل؛ هدى من الظلمات إلى النور، وموعظة؛ أيْ: نصح، وتذكير، وترغيب، وترهيب، وتخدير.
أيْ: هادياً وواعظاً {لِّلْمُتَّقِينَ} : اللام: لام الاختصاص، ونلاحظ تكرار {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}: مرتين؛ المرة الأولى: تتعلق بعيسى عليه السلام ، والثانية بالإنجيل.
فليس هناك تكرار؛ فمنهج عيسى عليه السلام ، ومنهج الإنجيل، كلاهما مطابقٌ لمنهج التوراة.
وفي الآية (44) قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} .
وفي الآية (46) قال تعالى: {الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .
فكلاهما هدى ونور، ولكن الإنجيل فيه زيادة هدى، وموعظة للمتقين، فهو يدل على كونه يتضمن شحنة روحية جديدة، وفيه مواعظ أكثر من التوراة.
سورة المائدة [5: 47]
{وَلْيَحْكُمْ} : الواو: استئنافية.
{وَلْيَحْكُمْ} : اللام: لام التوكيد، أو لام الأمر.
{أَهْلُ الْإِنجِيلِ} : أتباع عيسى عليه السلام ؛ النصارى.
{بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} : فيه: للتوكيد؛ للتوكيد على العمل بأحكام الإنجيل، وعدم ترك أحكامه، والأخذ بأحكام التوراة فقط، والباء في كلمة {بِمَا}: تفيد الإلصاق.
{وَمَنْ} : الواو استئنافية، ومن: شرطية.
{لَّمْ يَحْكُم} : لم النافية.
{بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : في التوراة، أو الإنجيل.
{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة؛ يفيد التحقيق، ويشير إلى الذين لم يحكموا بما أنزل الله بأنهم:{الْفَاسِقُونَ} حقاً، الخارجون عن طاعة الله تعالى.
وإذا نظرنا إلى الآيات السابقة، الآية (44):{فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
والآية (45): {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
والآية (47): {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
الكافر: هو ظالم، وفاسق، وليس كل ظالم، أو فاسق كافراً.
الظالم: أسوأ من الفاسق، وقد يترقَّى بظلمه؛ ليصبح كافراً، والظلم قد يعني: الشرك.
والفاسق: أهون من الكافر والظالم، وقد يترقَّى بفسقه ليصبح ظالماً، أو كافراً.
فالكافرون: أي: الذين جحدوا، وأنكروا وجود الله سبحانه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، أو لم يؤمنوا بما أنزل الله في الآيات والأحكام..
أما الظالمون: هم آمنوا، ولم ينكروا أن هذه الآيات والأحكام منزلة من رب العالمين، ولكنهم أشركوا بالله، أو رفضوا تطبيق تلك الأحكام والعمل بها، أو غيَّروا تلك الأحكام.
أما الفاسقون: هم آمنوا بتلك الآيات والأحكام، ولم يشركوا بالله، ولكنهم خرجوا عن طاعة الله بشهوة، أو هوى، أو شيطان، وقيل: هذه الآيات الثلاث تعني أهل الكتاب فمنهم الكافرون، ومنهم الظالمون، ومنهم الفاسقون، فهم درجات حسب تطبيقهم لشرع الله تعالى الذي أنزل إليهم في التوراة والإنجيل.
سورة المائدة [5: 48]
المناسبة: بعد أن ذكر -جل وعلا- التوراة والإنجيل، يذكر الآن القرآن الكريم، ومنزلته من الكتب السابقة.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ} : وأنزلنا: تعني: دفعة واحدة (من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا)، لم يقل: ونزلنا.
{إِلَيْكَ} : ولم يقل: عليك؛ إليك: تأتي في سياق التبليغ، والرسالة. ارجع إلى الآية (3) من سورة آل عمران؛ للبيان.
{الْكِتَابَ} : أي: القرآن.
{بِالْحَقِّ} : الحق: هو الأمر الثابت، الذي لا يتغير، منزلٌ من الله سبحانه.
{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، ملازمٌ للحق؛ أيْ: هو الحق، فلم يصبه تحريف، ولا تغيير.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} : مُقراً لا معارضاً لما سبقه من الكتب: (التوراة، والإنجيل، والزَّبور).
والكتاب: اسم جنس، يشمل كل الكتب السابقة.
{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} : أيْ: قائماً (حاكماً، رقيباً، شهيداً)، على كل ما سبقه من الكتب، يُقر الحق، ويبطل الباطل، وشهيد عليها، إذا أصابها تغيير، أو تحريف، وما يحكم به أهل الكتاب إن كان في القرآن ما يصدقه فصدقوه، وإلا فكذبوه فالقرآن هو: الحاكم.
{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : احكم بينهم؛ أيْ: بين اليهود، أو أهل الكتاب، أو كل من تحاكم إليك.
{بِمَا} : الباء: للإلصاق، ما: اسم موصول بمعنى: الذي.
{أَنْزَلَ اللَّهُ} : وهو القرآن الكريم.
{وَلَا تَتَّبِعْ} : لا: الناهية.
{تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} : أي تترك ما جاء به القرآن من حكم، أو أحكام.
و {تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} : جمع هوى، والهوى: هو ما تميل إليه النفس؛ أيْ: تحبّه وتهواه، بغض النظر عمَّا أمر الله تعالى، أو نهى عنه، والهوى غالباً باطلاً، أو بعيداً عن الحق، وبلا دليل، والهوى يختلف من شخص إلى آخر.
{عَمَّا جَاءَكَ} : عما = عن + ما، عن: حرف جر؛ يفيد المجاوزة، والابتعاد، وما: اسم موصول بمعنى: الذي.
{جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} : أي: القرآن الكريم، فهو الحق، وهو الأمر الثابت الذي لا يتغير أبداً.
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} : أيْ: لكل أمة {جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، واللام: لام الاختصاص.
الشرعة: جملة الشرائع التي تشمل: العقائد، والعبادات، والأحكام، والتي تُعد أو تعتبر الأصل والمرجع لموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.
والشرعة: تختلف عن: الشريعة، شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، شريعة موسى عليه السلام ، شريعة عيسى عليه السلام ، وتعني: الطريقة الموصلة للغاية، والدين: هو جملة الشرائع بما فيها الأحكام، والآيات، والمواعظ، والوصايا، والأوامر، والنواهي، والدِّين هو واحد، هو الإسلام:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]. ارجع إلى سورة البقرة، آية (132)؛ لبيان معنى الدِّين.
وهذه الشرعة تختلف باختلاف الأمم، وجاءت في الكتب المنزلة.
وأصل كلمة الشريعة: الطريقة إلى الماء، أو النهر الذي ترده الإبل حتى تشرب، والبشر بحاجة إلى الشريعة، كما هم بحاجة إلى الماء، أو يشربون من هذا الدِّين (النهر) كي يبقوا أحياء.
{وَمِنْهَاجًا} : الطريقة الواضحة هي: ما جاء في القرآن، والسنة، وبقية المصادر الفقهية الموثوقة الموصلة إلى الغاية، الطريق المستقيم، الموصل إلى الغاية، أو المنهاج الذي يجب أن نسير عليه، والشرعة، والمنهاج مصدرهما واحد: هو الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ} :
{وَلَوْ} : لو: شرطية.
{شَاءَ اللَّهُ} : أراد الله، والمشيئة تسبق الإرادة.
{لَجَعَلَكُمْ} : اللام: للتوكيد.
{أُمَّةً وَاحِدَةً} : أيْ: على شريعة واحدة.
{وَلَكِنْ} : حرف استدراك، وتوكيد.
{لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ} : اللام: في ليبلوكم: للتوكيد، ويبلوكم: تفيد الاختبار بالخير، أو الشر، والابتلاء: أشد من الاختبار.
{فِى مَا آتَاكُمْ} : فيما أنزل عليكم من الشرائع، الأحكام، العبادات، والأوامر، والنواهي، جعل لكل نبي شريعة مختلفة، وأما المنهاج فهو واحد؛ فهو طاعة الله سبحانه ولا إله إلا الله.
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} :
{فَاسْتَبِقُوا} : الفاء: للتوكيد.
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} : أيْ: ليسابق كل واحد منكم الآخر، في الإسراع بالقيام بالأعمال الصالحة: الفرائض، والنوافل، وأعمال الخير.
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} : إلى الله: تقديم الجار والمجرور لفظ الجلالة؛ يدلّ على الحصر؛ أيْ: إلى الله وحده حصراً، مرجعكم: مصيركم، وعودتكم.
{جَمِيعًا} : للتوكيد، والرجوع إليه.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : الفاء: تفيد المباشرة، والتعقيب.
{فَيُنَبِّئُكُمْ} : يخبركم.
{بِمَا} : الباء: للتوكيد، والإلصاق. ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي.
{كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : كنتم في الدنيا، فيه تختلفون: من الشرائع، والحق، والباطل في العقائد، والمذاهب.
سورة المائدة [5: 49]
{وَأَنِ احْكُم} : وأن حرف مصدري، أو حرف تفسير؛ تفيد التوكيد، والتعليل.
{احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} : تكرار لما سبق، يفيد التوكيد بالحكم بما أنزل الله، وعدم اتباع أهواءهم.
{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} : الحذر: هو التوقِّي من الضرر، واتخاذ الاحتياطات، والانتباه لأمر ما.
{أَنْ يَفْتِنُوكَ} : أن حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.
{يَفْتِنُوكَ} : يصرفوك. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)؛ لمزيد من البيان عن الفتنة.
{عَنْ} : حرف جر، فيه معنى المجاوزة والابتعاد.
{بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} : من الأحكام، كالرجم، وشأن القصاص، والدماء.
{فَإِنْ} : الفاء: استئنافية. إن: شرطية.
{تَوَلَّوْا} : أعرضوا، ورفضوا حكمك، أو أعرضوا عن الإيمان.
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم، أو يعاقبهم ببعض ذنوبهم، والفاء في {فَاعْلَمْ}: للتوكيد.
{بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} : الباء: للإلصاق؛ أيْ: بسبب بعض، والبعض تعني: الكل، أو بعض ما يستحقونه على إعراضهم، وأما أعمالهم الأخرى، فيجازيهم عليها سواء أخيراً كانت، أم شراً.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} : إن للتوكيد.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} : اللام: لام الاختصاص، أو الاستحقاق.
{لَفَاسِقُونَ} : خارجون عن طاعة الله، أو الدِّين، والقليل من الناس غير فاسق، ملتزم بدين الله وطاعته، ولمعرفة معنى الفسق؛ ارجع إلى سورة البقرة، آية (26).
سورة المائدة [5: 50]
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} :
{أَفَحُكْمَ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجبي، وتوبيخي.
{أَفَحُكْمَ} : مفعول به مقدَّم الأصل (أيبغون حكم الجاهلية)، وقدَّم المفعول؛ للاهتمام، والتأكيد، والمعنى: أفلا يبغون إلّا حكم الجاهلية.
{يَبْغُونَ} : يلتمسون، يطلبون، وتدل على الاستمرار في طلبهم؛ (أيْ: أهل الكتاب، أو غيرهم).
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ} : تحتمل معنيين:
المعنى الأول: حكم أهل الجاهلية؛ الذين جاؤوا قبل الإسلام، أفهم يريدون أن يعودوا إلى أحكام الجاهلية؛ التي يسودها الشرك، وعبادة الأصنام، ووأد البنات، والربا والفواحش.
والمعنى الثاني: الجاهلية مشتقّة من الجهل، وهو أسوأ من الأمية؛ أيْ: أفحكم الجهل والباطل يريدون أن يتبعوا.
وإضافة (الحكم) إلى كلمة الجاهلية؛ يقتضي التقبيح، والتنفير، وأنه مبني على الجهل والضلال.
{وَمَنْ} : الواو: عاطفة، من: اسم استفهام؛ بمعنى: النفي، والتقرير؛ أيْ: لا أحد أحسن وأفضل من الله حكماً، أو من المستحيل أن يكون هناك حكم أفضل، أو أحسن من حكم الله.
{حُكْمًا} : يشمل الحكم الكوني، والشرعي.
{لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: هذا الحسن، والحكمة في الحكم ليس ظاهراً، أو واضحاً لكل واحد، وإنما واضح وظاهر للقوم الموقنين.
{يُوقِنُونَ} : من اليقين: وهو العلم بالحق، وهو العلم بالشيء استدلالاً، وبأن ليس هناك غيره.
درجات اليقين: علم اليقين، ثم عين اليقين، ثم حق اليقين، وهو أعلى درجات اليقين، واليقين يعني: الإيمان الثابت المستقر في القلب، ولا يطفو إلى العقل ليناقش من جديد.
وكلما ازداد الإنسان إيماناً ازداد معرفة، وتبيَّن له عدل أحكام الله تعالى، وازداد يقيناً به سبحانه؛ فهو أحكم الحاكمين. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لمزيد من البيان في اليقين.
سورة المائدة [5: 51]
نداء بتكليف جديد للذين آمنوا؛ أي: السائرون على درب الإيمان، والهاء: للتنبيه.
{لَا} : الناهية.
{تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} : الموالاة: تعني: المودة والنصرة.
المودة: المحبة، واتخاذهم بطانة، والتآمر معهم، والتجسس لأجلهم، على حساب المؤمنين، وكشف الأسرار إليهم.
النصرة: اتخاذهم أعواناً وحلفاء، ومدّهم بالعدّة والعدد.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : يوالي بعضهم بعضاً، وهذا قد يكون السبب في عدم موالاتهم، أو اتخاذهم أولياء.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} : ومن: شرطية.
{يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} : ينصرهم، ويعينهم، ويفشي لهم أسرارَ المؤمنين.
{فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} : أيْ: مثلهم، وليس من المؤمنين، وهذا تهديد ووعيد لمن يخالف أمر الله، وهو حرمة موالاتهم.
وقد بيَّن الله سبحانه حقيقة الموالاة في سورة الممتحنة، الآية (9).
ارجع إلى سورة الممتحنة، آية (9)؛ لمزيد من البيان.
{إِنَّ اللَّهَ} : إن: للتوكيد.
{لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : أيْ: من يواليهم، وينصرهم، ويخالف أمر الله، فهو ظالم لنفسه ولغيره، ويصبح من الظالمين؛ لكونه خرج عن منهاج الله سبحانه، وما وصَّى به.
سورة المائدة [5: 52]
{فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : أيْ: فترى المنافقين أو ضعاف الإيمان.
{فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : النفاق، وضعف الإيمان، والشرك.
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} : يسارعون في موالاتهم، (موالاة اليهود، والنصارى)، يسارعون فيهم، ولم يقل: يسارعون إليهم.
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} : يدلّ على أنهم كانوا مع هؤلاء اليهود، والنصارى منذ البداية، أو سابقاً في الموالاة والنصرة، والآن ازدادت موالاتهم، ونصرتهم.
بينما (يسارعون إليهم): تعني: لم يكونوا معهم سابقاً، والآن فقط انضموا إليهم، وأصبحوا في حلفهم، وتدل على الاستمرار والتجدد في المسارعة.
{يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} :
{يَقُولُونَ} : أيْ: يبرِّرون موالاتهم لهم، ويعلِّلون ذلك بقولهم:{نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} : نخاف أن تصيبنا دائرة. مصيبة، والخشية فيها معنى الرهبة، والتعظيم، والعلم بالذي تخشاه.
{دَائِرَةٌ} : اسم فاعل، والدائرة تعني: تغير الحال من خير إلى شرٍّ.
دوائر الدهر، نوائب الدهر؛ مثل: المجاعة، والقحط، أو الهزيمة؛ أيْ: ترى المنافقين الذين في قلوبهم مرض يتخذون اليهود والنصارى والكفار أولياء؛ خشية أن يجدوا أنفسهم في المعسكر الضعيف؛ لذلك يحاولون دائماً أن يميلوا إلى المعسكر القوي؛ حفظاً على أنفسهم، وأموالهم، ومتاعهم.
{فَعَسَى} : الفاء: استئنافية. عسى: للترجي.
{اللَّهُ أَنْ يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ} : الفتح: النصر من دون قتال؛ أيْ: نصر المؤمنين على الكافرين.
والفتح قد يعني: الحكم؛ كقوله: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89].
{أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ} : بإظهار أمر المنافقين، ومعرفة أسمائهم، وفضيحتهم، أو يدبر الله لهم شيئاً خفياً؛ كالخوف، والرعب، أو الجلاء.
{فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} : فيصبح (الموالون من المؤمنين لليهود نادمين)، نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم، من النفاق، وموالاتهم لليهود والنصارى، وكراهيتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وللإسلام.
سورة المائدة [5: 53]
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} : عندما يأتي الله بالفتح، أو أمر من عنده، عندها يقول:{الَّذِينَ آمَنُوا} : مخاطبين اليهود:
{أَهَؤُلَاءِ} : الهمزة: استفهام توبيخي وتعجبي، أولاء: اسم إشارة للقرب، والهاء: للتنبيه، وتشير إلى المنافقين.
هؤلاء المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم؛ أقسموا وأكدوا أيمانهم بالأيمان المغلظة بأقصى ما في وسعهم: إنهم مع المؤمنين.
{إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} : أيْ: معكم على عدوكم.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : لأنها لم تكن خالصة لوجه الله، بطلت وضاعت، فأصبحوا خاسرين دنياهم وآخرتهم معاً في الدنيا: بالفضيحة، والعار، والعقاب، وفي الآخرة: بالعذاب في النار. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)؛ لمزيد من البيان عن حبطت أعمالهم.
سورة المائدة [5: 54]
نداء جديد للذين آمنوا؛ أيْ: على درب الإيمان، نداء فيه تحذير، والهاء: للتنبيه.
{مَنْ} : شرطية؛ لابتداء الغاية، ومن: تشمل: المفرد، والمثنى، والجمع، وتستعمل للعاقل.
{مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ} : يرجع عن الإسلام إلى الكفر، ومنها الردة، وهو رجوع المسلم، العاقل، البالغ عن الإسلام إلى دِين آخر باختياره، دون إكراه من أحد، وينشرح صدره بالكفر.
بعد أن يُبيِّن له عواقب الردّة ويستتاب، سواء أكان ذكراً، أو أنثى، ويقام عليه حد الردة إذا توافرت فيه الشروط.
ويستثنى من ذلك: الصبي، والمجنون، والمكره.
{فَسَوْفَ} : الفاء: للتوكيد، سوف: للاستقبال البعيد، والتراخي.
{يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} : فسوف يأتي الله بخير منهم، ممّن يحبون الله، ويحبّهم الله تعالى. قدم حبه على حبهم؛ لأن حبه سبحانه وتعالى هو الغاية.
والحب هو: الميل القلبي، والإقبال على الشيء، والدوام على ذلك، وقد ينقص، أو يزيد، أو يزول.
قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ} : يرتد: يرجع عن دينه (الإسلام) إلى الكفر، ولم يقل: يرتدد؛ بفكّ الإدغام، فما هو الفرق بين يرتدَّ ويرتدد؟
{يَرْتَدَّ} : جاءت في سياق الارتداد، في زمن السلم، والعافية ومن دون سبب يبرر الارتداد.
بينما يرتدد: جاءت في سياق الارتداد في زمن الحرب، أو الفتنة، أو القتل (الموقف أشد وأخطر)، ولذلك زيدت الدال؛ لشدّة وخطورة الحال. ارجع إلى الآية (217) من سورة البقرة؛ للبيان.
وقيل: حدثت هذه الرِّدَّة التي تحدث عنها القرآن على مرحلتين:
1 -
في زمن الرسول، والذين ارتدوا هم: بنو مدلج، وبنو حنيفة (قوم مسيلمة الكذّاب)، وبنو أسد.
2 -
ردَّة في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ارتدت قبائل غطفان، ومرارة، وبنو سليم، وبنو يربوع، وغيرهم.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : أيْ: رحماء بينهم، متوادّون، متعاطفون، متواضعون، يغلب عليهم طابع الرحمة والرأفة على المؤمنين.
{عَلَى} : تفيد العلو والمدح، وعلى: تعني: الذلة المستعلية؛ أيْ: عاطفين على المؤمنين من وجه التواضع والتذلل.
ولو قال: أذلة للمؤمنين؛ لكان ذمّاً لهم لا مدحاً، وأذلة للمؤمنين؛ تعني: الخنوع، والاستكانة.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} : أيْ: أشداء على الكافرين (على عدوهم).
{يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} :
{يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} : يجاهدون؛ لمعرفة معنى الجهاد ارجع إلى الآية (6) في سورة العنكبوت، لإعلاء كلمة الله تعالى، وإعلاء دِينه:{وَلَا يَخَافُونَ} : لا: النافية؛ للحال، والمستقبل.
{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} : الواو: للتوكيد، لا يخافون قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لوم لائم، واللوم: هو توبيخ، أو تقريع الفاعل على فعله، وتهجين طريقته.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} :
{ذَلِكَ} : اسم إشارة. {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} : يشير إلى الجهاد في سبيل الله، وكونهم أعزة على الكافرين.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ} : واسع الفضل، والملك، والإحسان، والجود، والغنى، والعلم، واسع الملك.
{عَلِيمٌ} : بمن يستحق فضله، وعليم بذات الصدور، عليم ببواطن وظواهر الأمور، صيغة مبالغة: كثير العلم.
سورة المائدة [5: 55]
{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر.
{وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} : القائم، المتكفل بأموركم، والمناصر لأوليائه الصالحين، يتولاهم بالرعاية، والنصر، والحفظ، والمعونة، والتوفيق. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (89)؛ لمزيد من البيان.
{وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} :
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} : يقيمون الصلاة: بخشوع، وخضوع لربِّهم؛ لأن الصلاة هي الصفة الغالبة في وصف الذين يؤمنون بالله، وتعني: إعلان الولاء الدائم لله خمس مرات، كلَّ يوم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (3)؛ لمزيد من البيان.
{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} : من دون تكبُّر على الفقراء، وبخضوع، والزكاة هي الركن الثاني.
{وَهُمْ رَاكِعُونَ} : الركوع هنا معناه: الخشوع، والخضوع، وعدم التكبُّر، وليس الركوع العادي. يقال: فلان راكع لفلان؛ أيْ: خاضع له.
سورة المائدة [5: 56]
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} :
{وَمَنْ} : الواو: عاطفة، من شرطية.
{يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} : يجعل الله وليه: فإنَّ الله يعينه، وينصره، ورسوله، والذين آمنوا يعينونه وينصرونه.
الولاية من الله عز وجل ، هي ولاية عامة وخاصَّة، العامة تشمل كل العباد، والولاية الخاصَّة خاصَّة بالمؤمنين؛ لقوله سبحانه الله:{اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
{فَإِنَّ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط. إنَّ: للتوكيد.
{حِزْبَ} : اسم جمع لا مفرد له، جمعه: أحزاب، والحزب: الجماعة: التفَّ بعضهم مع بعض، على أمر، أو اتجاه، أو فكر، أو مبادئ، أو قيم خاصَّة، وكلمة الحزب مشتقة من حزب الأمر عليه؛ معناه: أمر أتعبه، وأرهقه، وفكر به كثيراً؛ كأن المتحزبين التفوا على أمر أتعبهم، وأرهقهم، كأنَّهم أهل نائبة.
{هُمُ الْغَالِبُونَ} : هم: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد؛ أيْ: هم الغالبون حقاً؛ أيْ: هم في طليعة الغالبين.
سورة المائدة [5: 57]
أسباب النزول: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قوماً من اليهود والمشركين، ضحكوا من المسلمين، وقت سجودهم، فنزلت هذه الآية.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} : نداء إلى الذين آمنوا بعدم اتِّخاذ الذين يتخذون الدّين مادةً للهزء واللعب، أولياء من الذين أوتوا الكتاب (اليهود والنصارى)، والكفار، بمن فيهم (المنافقون).
وهُزُواً: من الاستهزاء، وهو التحقير والاستخفاف والتصغير. والاستهزاء عام يشمل الأشخاص، والآيات، والأعمال، ويختلف عن السخرية التي تكون في الأشخاص فقط.
أو العيب بدينكم، وهُزُواً: مشتقة من فعل: هزأ، يهزأ، لعباً: يعني: عبثاً.
أيْ: لا يصح أن يقابل من اتَّخذ دِينكم هزواً ولعباً، بأن تتخذوه ولياً، بل يقابل بالبغضاء والشنآن.
{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} الذين أوتوا الكتاب: فيها ذم مقارنة بقوله تعالى: بأهل الكتاب؛ أولياء: جمع ولي، والموالاة تعني: الإخلاص، والمودة، والقربى، والبطانة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : في موالاة الكفار، والذين أوتوا الكتاب؛ أيْ: أطيعوا أوامر الله تعالى، وتجنبوا نواهيه في مسألة الولاية.
{إِنْ كُنْتُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال.
{مُّؤْمِنِينَ} : حقاً؛ لأن الإيمان الحق يأبى موالاة أعداء الدِّين، أو إن كنتم مؤمنين؛ للحث والإثارة على عدم اتخاذ الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء. ارجع إلى الآية (58) من سورة المائدة؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 58]
{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل؛ متضمن معنى الشرط، ويدلّ على حتمية وكثرة الوقوع؛ أي: النداء للصلاة، والنداء إلى الصلاة؛ أي: الأذان..
{نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} : أيْ: أذَّن المؤذِّن إلى الصلاة.
{اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} : هزواً: من الهزء، وهو تحقير المستهزأ به، والاستهزاء عام؛ يشمل: الأشخاص، وغير الأشخاص؛ كالصلاة، أو الآيات، كقوله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 237]، {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 64-65]؛ أي: اتخذوا من الأذان والصلاة مجالاً للحط من أهميتهما، وللفكاهة، والتحقير من شأنهما.
أما السخرية: فتنحصر في الأشخاص تحديداً، ولم ترد في القرآن إلا في الأشخاص حصراً.
{وَلَعِبًا} : ظنوا أن الصلاة حركات عبثية، لا قيمة لها، ولا هدفاً.
{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يشير إلى اتخاذهم الصلاة هزواً ولعباً.
{بِأَنَّهُمْ} : الباء: سببية؛ أيْ: بسبب، أنهم: أنَّ للتوكيد.
{قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} : لا: النافية؛ تنفي عنهم العقل والفهم، وهو أسوأ وأشد من نفي العلم.
سورة المائدة [5: 59]
{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} : الكتاب: أي: التوراة، والإنجيل، اليهود والنصارى.
{هَلْ} : استفهام؛ فيه تبكيت، وتوبيخ.
{تَنْقِمُونَ مِنَّا} : من نقم ينقم منه؛ أيْ: عاقبه، أو كره منه أن يفعل أمراً ما؛ مما أدَّى إلى الكراهية، والمعاداة، والكيد، والعقاب؛ أيْ: كيف تكونون أهل توراة، وإنجيل، وتنكرون علينا الإيمان بالله، وما أنزل إلينا، وتتخذون ذلك سبباً للمعاداة، والانتقام، والكراهية.
{إِلَّا} : أداة حصر؛ أيْ: فقط؛ لأننا آمنا بالله عز وجل .
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} ؛ أي: القرآن، وما: اسم موصول؛ بمعنى: الَّذي.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} : من التوراة، والإنجيل، ومن الصحف.
{وَأَنَّ} : يفيد التوكيد، والتعليل.
{أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} : أيْ: كونكم تنقمون منا؛ لأننا آمنا بالله، وما أنزل إلينا؛ هذا يعدُّ فسقاً منكم، ويفعله الأكثرون، وإذا قارنا هذه مع الآية (81) في نفس السورة، وهي قوله تعالى:{وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} : نجد أن أكثر تأتي في سياق الأكثر عدداً أو إذا كان السياق في تعداد أسوأ الصفات والأفعال مقارنة بكثير.
{فَاسِقُونَ} : خارجون عن الدِّين؛ أيْ: طاعة الله تعالى. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ لمزيد من البيان في معنى فاسقون.
سورة المائدة [5: 60]
أسباب النزول: حينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: أنه يؤمن بعيسى، وهم لا يؤمنون بعيسى؛ جحدوا بنبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبوَّة عيسى عليه السلام .
وقالوا: لا نعلم دِيناً شراً من دِينكم، ولا أهل دِين أقل حظاً منكم، في الدنيا والآخرة، فرد الله عليهم بهذه الآية.
{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: {هَلْ} : للاستفهام، والتعليم، وهل: أداة للاستفهام أقوى من الهمزة؛ كقوله أأنبئكم.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} : الهمزة: للاستفهام والتبكيت.
{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} : وأصلها: هل أخبركم بشرٍّ من ذلك، ذلك: اسم إشارة يشير إلى الذي تنقمون به منا، هو من لعنة الله.
{مِنْ ذَلِكَ} : للتفضيل، ولا يعني ذلك: أن المؤمنين في شرٍّ، ولكنها مجاراة لما قاله اليهود، ولمقارنة هذه الآية {مِنْ ذَلِكَ} مع الآية (72) في سورة الحج، وهي قوله تعالى:{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} ؛ ارجع إلى سورة الحج الآية (72).
{مَثُوبَةً} : جزاءً من ثاب يثوب، وتطلق على الجزاء، والثواب، واستعمال كلمة ثواب في سياق الشر؛ فيها معنى التهكم، والتوبيخ. ارجع إلى سورة البقرة آية (103) لمزيد من البيان. والثواب الذي وعدهم الله تعالى لعنته والغضب عليهم والمسخ.
{عِنْدَ اللَّهِ} : عند: ظرفية زمانية (يوم القيامة)، ومكانية.
{مَنْ} : ابتدائية.
{لَعَنَهُ اللَّهُ} : أيْ: طرده وأبعده عن رحمته.
{وَغَضِبَ عَلَيْهِ} : والغضب: هو عدم الرضا، والقبول منه، ويقضي العقاب والانتقام.
{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ} : الجعل: يكون بعد الخلق؛ أي: الخلق يتم أولاً ثم يجعل من الخلق ما يشاء؛ أي: هو مرحلة تالية للخلق فهو سبحانه خلقهم كبشر، ثم جعل منهم القردة والخنازير؛ ارجع إلى سورة البقرة الآية (65)، وسورة الأعراف الآيات (163-166) للبيان؛ أيْ: مسخهم قردة، وهو الحيوان، المعروف لدى الناس.
{وَالْخَنَازِيرَ} : جمع خنزير؛ الذي حرمه الله ووصفه بأنه رجس.
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} : وفيها قراءتان: عبُد بضم الباء (جمع عبد)، والثانية: بفتح الباء عبَد، ولمعرفة معنى الطاغوت، والشيطان، والكهنة، ورؤسائهم الضالين: ارجع إلى سورة البقرة، آية (256)؛ للبيان.
{أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} :
{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، وتشير إلى اليهود.
{شَرٌّ مَّكَانًا} : أسوأ مكاناً، ومنزلة يوم القيامة، من غيرهم.
{وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} : وأكثر ضلالاً من غيرهم عن سواء السبيل، طريق الحق، أو الصراط المستقيم الموصل إلى الغاية، والسواء: هو الوسط.
سورة المائدة [5: 61]
نزلت هذه الآية في بعض اليهود، الذين كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجلسون معه صلى الله عليه وسلم، وهم متلبسون بالكفر، فلم ينفعهم جلوسهم مع رسول الله، ولم يهتدوا، أو يتعظوا.
{وَإِذَا} : إذا: شرطية، وتفيد حتمية الحدوث.
{جَاءُوكُمْ} : جاؤوا الرسول، أو جاؤوا المؤمنين.
{قَالُوا آمَنَّا} : أيْ: أظهروا إيمانهم بأفواههم فقط، ولم تؤمن قلوبهم.
{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} : أيْ: لم تتغير حالتهم، فهذا يدل: أن الدخول عليهم كان نفاقاً. قد: حرف توكيد وتحقيق.
{وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} : الباء: تفيد الإلصاق؛ أي: المصاحبة.
{وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} : هم: ضمير منفصل؛ يدل على توكيد هويتهم الكافرة، وقلوبهم القاسية، ويدل ليس في قلوبهم ذرة إيمان، وأن الله طبع عليها، وهم يدعون أنهم يؤمنون ويسمعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} : أعلم: على وزن أفعل؛ للمبالغة.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ} : بما كانوا يكتمون من الكفر، والنفاق.
{يَكْتُمُونَ} : من الكتم، وهو عملية قسرية، يحاول فيها الفرد أن لا يظهر وفي هذه الآية تعني: نفاقه، وكفره؛ خوفاً من أن تنكشف حقيقته للناس، ورغم كتمانه، فكفره ونفاقه، لا بُدَّ أن يظهر عاجلاً أم آجلاً.
سورة المائدة [5: 62]
{وَتَرَى} : الرؤية هنا قلبية وبصرية.
{كَثِيرًا مِّنْهُمْ} : أيْ: من اليهود، ولم يقل: الكل؛ إذ من المحتمل أن يكون هناك من سيؤمن في المستقبل، ويرجع عن إثمه وعدوانه.
{يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ} : يسارعون: ولم يقل يسرعون، يسارعون؛ أي: يبذلون الجهد والطاقة للمسارعة، وبدلاً من يسارعون في الخيرات هم يسارعون في الإثم؛ أي: الكسب المزيد من الإثم (فعل القبيح، ويشمل الصغائر والكبائر، والإثم يعني: الجرم والذنب)، قولاً وفعلاً، مهما كان نوعه، والإثم يعود على الإنسان نفسه، ولا يتعداه إلى غيره. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (33)؛ لمزيد من البيان عن الإثم.
{وَالْعُدْوَانِ} : هو مجاوزة الحد؛ أي: تعد لحدود الله وإرادة السوء، أو الشر لمن تعاديه، وأصل العدوان: الميل، والبعد عمَّن تعاديه والظلم.
{يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ} : ولم يقل: يسارعون إلى الإثم، قوله:{يُسَارِعُونَ فِى الْإِثْمِ} : يعني: أنهم قبل المسارعة كانوا منغمسين في ارتكاب الإثم، والعدوان، وهم يحاولون كسب المزيد من الإثم والعدوان. ارجع إلى سورة الأعراف آية (33) للبيان.
والمسارعة عادة تكون في الخيرات، واستعيرت في فعل المنكرات؛ لكثرة حدوثها، أو لأنهم يحسبون هذه المنكرات خيرات! ارجع إلى سورة آل عمران آية (176) لمزيد من البيان في يسارعون.
{وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} : أيْ: وهم يسارعون في أكلهم السحت، والسحت: هو الحرام القبيح، المبالغ في حرامه، مثل: الرشوة، والاغتصاب، والربا، والسحت قد يعني: لا بركة فيه، أو المسحوت الذي لا يبقي للحسنات أثراً، والسحت: من محبطات الأعمال الحسنة، وشبّه أخذ المال الحرام، القبيح، بالأكل؛ للدلالة على كثرة أخذه؛ حيث يحتاج إلى الكل أكثر من مرة في اليوم، وربما مرات عدة، وكذلك أكلهم السحت، يتكرر مرات، أو أخذهم المال السحت الذي يشترون به الطعام الذي يأكلونه؛ فكأنهم يأكلون السحت بدلاً من الطعام.
{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : اللام: للتوكيد، بئس: من أفعال الذم، ويعملون: تشمل القول والفعل معاً؛ أيْ: بئس ما يقولونه، أو يفعلونه في ارتكاب الإثم والعدوان.
سورة المائدة [5: 63]
{لَوْلَا} : أداة حضٍّ وطلب، وفيها معنى التوبيخ، وتعني: لم لا ينهاهم، وفيها معنى المشاركة بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
{الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} : ارجع إلى الآية (44) من سورة المائدة؛ للبيان.
{عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} : ارجع إلى الآية السابقة؛ للبيان.
{لَبِئْسَ} : اللام: التوكيد، وبئس: فعل ذم، وتوبيخ؛ لسكوت الأحبار، والربانيين، وترك النهي؛ لأن تارك الإنكار، وهو قادر على فعل ذلك يشارك فاعل المنكر في الإثم.
{مَا} : اسم موصول؛ أي: الذين يصنعون.
{يَصْنَعُونَ} : أيْ: هؤلاء الربانيون والأحبار، وآكلي السحت، ومرتكبي الإثم والعدوان: يصنعون بدلاً من يفعلون، أو يعملون؛ لأن أعمالهم السيئة والقبيحة؛ أصبحت مهنتهم، وعملهم الدؤوب اليومي، يمارسونه بأحسن الطرق والوسائل؛ كأنه أصبح صناعة فاخرة.
سورة المائدة [5: 64]
أسباب النزول: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذه الآية بعد أن بسط الله عز وجل على اليهود؛ حتى كانوا أكثر الناس أموالاً، فلمّا عصوا الله -جل وعلا- ، ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وكذبوا به؛ كفّ عنهم ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنخاص (رأس يهود بني قينقاع):{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} : يعني: محبوسة، مقبوضة عن الرزق، وعندما لم ينهه بقية اليهود، وينكروا عليه ما قاله، وروضوا بقوله؛ أشركهم الله سبحانه في هذه المقالة، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} : بدلاً من القول، وقال: قائل منهم.
{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} : حينما كفّ الله عنهم ما بسط لهم من الرزق؛ عقوبة على عصيانهم، قالوا ذلك على الله: بأن يد الله بخيلة العطاء، مغلولة؛ كأنما وضعت فيها الأغلال، كناية عن البخل، كما يعني: بسط اليد بالكرم، وحاشا الله تعالى أن يكون كذلك.
{مَغْلُولَةٌ} : معنى الغُل: وهو ما يُقيد به الأعضاء والأطراف، وجمعهُ: أغلال، وهم الذين قالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} : دعاء عليهم بالبخل، وقيل:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} : في جهنم، أو أمسكت عن الإنفاق في الخير.
{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} : طردوا، وأبعدوا من رحمة الله.
{بِمَا} : الباء: السببية، أو البدلية؛ بسبب، أو عوض ما قالوا في ذات الله تعالى.
{بِمَا} : اسم موصول؛ أي: الذي قالوه.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} : بل: للإضراب الإبطالي، بل ما نسبوه كذباً على الله -جل وعلا- .
{مَبْسُوطَتَانِ} : كناية عن أنه عز وجل كريم جواد، كثير العطاء.
هم قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، فردّ الله عليهم: بل يداه الاثنتان مبسوطتان، تعطيان؛ كناية عن جوده وكرمه -جل وعلا- .
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} : بالعطاء، أو المنع، فالمنع هو عين الإنفاق، وهذا يسمَّى عطاءَ السلب، فيمنع عنه؛ لكي لا يرتكب الفواحش؛ مثلاً، أو يصبح من المسرفين المبذرين، إخوان الشياطين، وقد برر منعه بقوله:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] إن شاء وسع، وإن شاء أمسك.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} :
{وَلَيَزِيدَنَّ} : الواو: استئنافية. اللام: للتوكيد، والنون: كذلك لزيادة التوكيد.
{كَثِيرًا مِّنْهُم} : أي: اليهود والنصارى.
{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : ما أنزل إليك من القرآن الكريم وآياته، التي تبيِّن خبثهم، وتفضح أفعالهم القبيحة؛ من أكلهم السحت، وارتكابهم الإثم والعدوان.
{طُغْيَانًا} : الطغيان: هو المبالغة، وتجاوز الحدّ في الغلو، والكفر، والحسد.
{وَكُفْرًا} : يزداد كفرهم؛ أيْ: عدم تصديقهم لك ولأمتك.
{وَأَلْقَيْنَا} : من ألقى، والإلقاء: هو طرح الشيء؛ حيث تجده؛ أيْ: تراه.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} : بين طوائف اليهود، بعضها ببعض، أو طوائف النصارى بعضها ببعض، أو بين طوائف اليهود والنصارى معاً العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. ارجع إلى الآية (14) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين ألقينا وأغرينا.
{الْعَدَاوَةَ} : كراهية تصدر عن صاحبها، والكراهية: أذى محسوس يتجلى بالجفاء، والقطيعة، والضرر، والعداوة: مشتقة من العدو، وهو التجاوز والتباعد.
{وَالْبَغْضَاءَ} : شدة الكراهية، وتكون مضمرة في الصدر غالباً، وقد تظهر على الوجه، والبغض: ضد الحب؛ أيْ: نفور النفس عن شيء لا ترغب فيه، والعداوة والبغضاء غالباً نراهما مترادفتين الواحدة بعد الأخرى؛ لأن إحداهما تؤدِّي إلى الأخرى.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} : كلما: أداة شرط تفيد التكرار، إيقاد النار: كناية عن إرادة الحرب، فقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال؛ جعلوا علامتهم إيقاد النار على جبل أو ربوة، يسمّونها: نار الحرب، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم؛ أيْ: كلما أرادوا شراً بالمؤمنين؛ صرفه الله عنهم، من دون حرب، أو بحرب يَغْلبون فيها.
{وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} :
{وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ} : من السعي، والمضي، والجري، أو العمل يسعى؛ أيْ: يعمل بجد ونشاط.
{فَسَادًا} : الفساد: يشمل الكفر، والظلم، والمعاصي، وإهلاك الحرث والنسل؛ بالقتل، والإحراق، والإفساد، وتدمير البناء، وقطع الأشجار.
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} : في الأرض الذين يقومون بأعمال الفساد، وأصبحت صفة الفساد عندهم ثابتة، ولا يتوبون إلى الله، ويستغفرونه، وإنما يستمرون في فسادهم. ارجع إلى الآية (251) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 65]
{وَلَوْ} : الواو: استئنافية. لو: حرف شرط.
{أَهْلَ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى.
{آمَنُوا} : بالله ورسله، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَاتَّقَوْا} : أطاعوا أوامر الله عز وجل ، وتجنبوا محارمه؛ أي: المحارم؛ مثل: أخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وقولهم الإثم، وكفرهم بآيات الله، والشرك بالله، وقولهم المسيح ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وغيرها من المحرمات.
{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّـئَاتِهِمْ} : اللام: لام التوكيد. كفّرنا سترنا عليهم سيئاتهم، ولم نفضحهم، ومحوناها عنهم.
{عَنْهُمْ} : تقديم الجار والمجرور؛ يدل على الأهمية، عنهم خاصَّة، ولم يقل: لكفّرنا سيئاتهم عنهم.
{وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ} : اللام: للاختصاص، والنون في أدخلناهم: للتوكيد.
{جَنَّاتِ النَّعِيمِ} : نوع من أنواع الجنات، فهناك جنات: الفردوس، وجنات عدن، وجنات النعيم، وغيرها
…
سورة المائدة [5: 66]
{وَلَوْ أَنَّهُمْ} : مثل نظيرتها المتقدمة في الآية السابقة؛ أيْ: أطاعوا الله، ورسله، واتقوا.
{أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} : الإقامة: العمل بما في التوراة والإنجيل على أتمِّ وجه، وعدم الإيمان ببعض، والكفر ببعض، وإقامة أحكامها وحدودها، والأخذ بالعقائد الصحيحة.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِنْ رَّبِّهِمْ} : ما: اسم موصول، بمعنى: الذي؛ أي: القرآن الكريم، ومن الوحي على أنبيائهم.
{لَأَكَلُوا} : اللام: للتوكيد والابتداء.
{لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم} : من: ابتدائية؛ فوقهم: أي: كان الرزق ينتظر أن ينزل عليهم، أكلوا: تعني: لوسَعَ عليهم، ويسر عليهم الأرزاق، وأنزل عليهم بركاتٍ من السماء والأرض، من مطر، ورزق، وخير، ومن تحت أرجلهم: من: ابتدائية؛ تحت أرجلهم: من نبات الأرض، والحبوب
…
وغيرها.
{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} : من: البعضية؛ تفيد القلة.
{أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} : أيْ: معتدلة في القول والفعل، من غير غلو، ولا تقصير، ولم تقل: إن عيسى ابن الله، ولا العُزير ابن الله، أمثال عبد الله بن سلام وأصحابه.
{وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} : كثير منهم بئس ما يعملون، قولاً وفعلاً. ساء: من أفعال الذم؛ أي قبحاً لما يعملون.
سورة المائدة [5: 67]
نداء من الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيه التعظيم والتكريم؛ لأنه لم يناده، مثلما نادى الرسل الآخرين بأسمائهم: يا إبراهيم، يا عيسى، يا يحيى، وإنما قال: يا أيها الرسول.
وحينما ينادي: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} : يأتي ذلك في سياق الدعوة، والتبليغ. ارجع إلى الآية (41) في نفس السورة لمزيد من البيان في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} ، {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ} .
{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : ما: اسم موصول؛ يعني: الذي {أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، {بَلِّغْ}: كل من تستطيع من الوحي، أو المنهج كاملاً.
{وَإِنْ لَّمْ تَفْعَلْ} : الواو: عاطفة، إن: حرف شرط.
{لَّمْ} : حرف نفي.
{تَفْعَلْ} : أيْ: تقم بالتبليغ والدعوة.
{فَمَا} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، ما: حرف نفي.
{بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} : رسالة الإسلام، والإبلاغ؛ يعني: الإعلام.
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} : يعصمك: يحفظك، يمنعك، ويصونك من أعدائك؛ أيْ: من القتل، أو الأسر.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : أيْ: بلغ ما أنزل إليك من ربك، والله هو الذي يهدي من يشاء، وليس عليك هداهم، إنما عليك البلاغ.
{إِنَّ} : للتأكيد. لا: نافية.
{لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} : الذين جحدوا بالله ورسله، وما أنزل الله، لا يهديهم؛ لأنهم اختاروا طريق الكفر، والضلال؛ لأنفسهم، فالله ليس بحاجة إلى إيمانهم.
سورة المائدة [5: 68]
{لَسْتُمْ} : ليس: تنفي الحال، والمستقبل، والماضي؛ فهي غير مقيدة بزمن معين.
{لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ} : شيء: نكرة، تشمل كلَّ شيء، والشيء هو أقل القليل، أو لستم على شيء من الإيمان، حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليكم من ربكم.
{حَتَّى} : تفيد انتهاء الغاية؛ أيْ: إلى أن تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليكم من ربِّكم، والعمل بها كاملاً.
{تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} : ارجع إلى الآية (66) من السورة نفسها.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ} : من الآيات، بما فيها آيات القرآن الكريم، أو الوحي.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} : ارجع إلى الآية (64) من السورة نفسها.
{فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} : الفاء: للتوكيد، لا: ناهية.
{تَأْسَ} : من الأسى: وهو أشد ألماً من الحُزن أو الحزن الشديد، وأطول زمناً من الحُزن، ويصحبه جزع أحياناً وعدم رضا.
{عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} : أي: الذين كفروا بالله، ورسله، وكتبه، ويريدون أن يؤمنوا ببعض، ويكفروا ببعض. القوم الذين أصبح الكفر سمة وصفة ثابتة لهم، واستمروا على ذلك.
سورة المائدة [5: 69]
ارجع إلى الآية (62) من سورة البقرة؛ للبيان، وسورة الحج الآية (17).
إذا نظرنا إلى هذه الآية، سنلاحظ أمرين:
الأول: هو العطف بالرفع، رفع (الصابئون)، والعطف بالرفع عادة غير مؤكد؛ أيْ: معطوف من دون إرادة التوكيد، بينما العطف بالنصب مؤكد.
ورفع (الصابئون) هنا؛ لكونهم أبعد المذكورين ضلالاً، فجاء توكيدهم أقل.
الثاني: هو تقديم (الصابئون) على النصارى؛ لأن البعض يرى أن عقيدتهم لا إله إلا الله، أفضل من عقيدة النصارى التي تقوم على الشرك بالله، والتثليث.
والتقديم قد يكون بالزمن؛ فالصابئين أقدم من النصارى من حيث المجيء بالزمن، ولا بدَّ من الانتباه إلى سياق هذه الآيات ففي سورة البقرة: ذُكرت هذه الآية في سياق اليهود، وفي سورة الحج: جاءت الآية في سياق الفصل بينهم يوم القيامة، وفي سورة المائدة: جاءت في سياق الدعوة إلى الله، وفي سياق الحديث عن أهل الكتاب.
سورة المائدة [5: 70]
{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد. قد: للتحقيق، وزيادة التوكيد.
{مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : أي: العهد المؤكد باليمين.
أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة، بالسمع، والطاعة، والتوحيد، وأن يعملوا بما فيها، وأن يؤمنوا برسله، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
{وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} : مثل: موسى، وهارون، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم السلام.
{كُلَّمَا} : مركبة من: كل وما المصدرية الظرفية؛ فهي أداة شرط تفيد التكرار.
{جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} : الباء: حرف جر، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي؛ أيْ: بالذي لا تهوى أنفُسُهُم من الحق.
وتعريف الهوى: هو ما تميل إليه النفس، بما لا ينبغي بعيداً عن الحق، وبلا دليل. ارجع إلى الآية (56) من سورة الأنعام.
{فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} : فريقاً من الرّسل كذبوا، وفريقاً من الرسل يقتلون، ولم يقل: فريقاً كذبوا (فعل ماضي)، وفريقاً قتلوا، وإنما جاء بصيغة المضارع {يَقْتُلُونَ} ، جاء بالفعل المضارع في كلمة {يَقْتُلُونَ}: حتى يُشعرنا بعظم وبشاعة الجرم هذا، وهو ما نسمِّيه حكاية الحال، رغم أنه حدث في الماضي.
ويجب أن ننتبه إلى أن بني إسرائيل لم يقتلوا أيَّ رسول، وإنما قتلوا بعض الأنبياء؛ لأن الرسل معصومون من القتل، والأنبياء غير معصومين، وجاء هنا بكلمة الرسل؛ لأن الرسل تطلق على الأنبياء والرسل معاً؛ لأن كلاهما مرسل من الله تعالى.
سورة المائدة [5: 71]
{وَحَسِبُوا} : اعتقدوا وظنوا: ظنوا ظناً راجحاً من الحساب القلبي، والحسي؛ القائم على النظر والتجربة.
{أَلَّا} : أن لا، أن: للتوكيد، لا: النافية.
{تَكُونَ فِتْنَةٌ} : أيْ: لا يعذبون بذنوبهم، وأنهم لا يفتنون، ولا يُبتلون بالشدائد، والمحن في الدنيا.
{فَعَمُوا وَصَمُّوا} : الفاء: للترتيب والمباشرة.
عطلوا أدوات الإدراك عندهم: الأعين، والأذان، فلم يبصروا الحق، ورفضوا الاستماع إلى أي آية أو موعظة، فلم يتدبروا آيات الله؛ حتى إنهم ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فكذبوا الرسل، وقتلوا أنبياءهم، وعصوا ما في التوراة، وعبدوا العجل، وطلبوا رؤية الله.
{ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : بعد عبادتهم العجل، وطلبهم رؤية الله، وبعد قتل الذين عبدوا العجل.
{ثُمَّ} : لبيان البعد بين التوبة، والعمى، والصم.
{ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} : ثم: هنا للحال، وللتوكيد.
{عَمُوا وَصَمُّوا} : مرة ثانية بنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله قولهم {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، وقيل:{عَمُوا وَصَمُّوا} : بعد بيان الحق، ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم برسالته.
{كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} : أيْ: حضَّ بعضهم بعضاً على المعصية، وعدم الاستجابة؛ لما أمر به الله تعالى، وقيل:{عَمُوا وَصَمُّوا} : الأولى: بعد رفع الجبل فوقهم، وظنوا أنه واقع بهم، و {عَمُوا وَصَمُّوا}: الثانية بعد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ} : الله مطلع، ورقيب، وشاهد.
{بِمَا يَعْمَلُونَ} : يعملون: تعني: الأقوال، والأفعال، وقدَّم {بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}: لأنَّ العمى، والصم أعمال قلبية، لا يعلمها إلَّا الله -جل وعلا- ، ولم يقل: والله بما يعملون بصير.
سورة المائدة [5: 72]
{لَقَدْ} : اللام: للتوكيد، وقد: للتحقيق، وتوكيد كفر {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .
{كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ} : للتوكيد، والكفر هنا؛ كفر العقيدة، والإيمان؛ أيْ: الشرك بالله.
{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يدلُّ على التوكيد والحصر، أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم؛ هذا ما قالته بعض طوائفهم.
{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ} : وقال ذلك، وهو بين أظهرهم، قبل أن يرفعه الله إلى السماء.
{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} : أي: اعبد الله وحده الذي هو ربِّي وربُّكم.
{إِنَّهُ} : للتوكيد.
{مَنْ} : استغراقية.
{يُشْرِكْ بِاللَّهِ} : يتخذ مع الله شريكاً، أو ندّاً، أو ولداً.
{فَقَدْ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ تفيد التوكيد.
{حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} : حرَّم عليه دخولها؛ أيْ: منعه من دخولها، ولم يكفِ ذلك، بل لا بُدَّ من دخول النار.
{وَمَأْوَاهُ النَّارُ} : مقرُّه ومستقرُّه النار.
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} : وما: النافية. للظالمين: اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق، الظالمين: جمع ظالم، وكل من يخرج عن منهج الله؛ فهو ظالم، والظالمين قد تعني: المشركين؛ لأن الظلم هو الشرك.
{مِنْ} : استغراقية.
{أَنْصَارٍ} : جمع نصير؛ أيْ: لا يجد من ينصره، ويمنع أو يدفع عنه العذاب، أو يخلصه منه. بينما ناصرين، جمع ناصر، ونصير أبلغ وأقوى من ناصر؛ ارجع إلى سورة الروم آية (29) لمقارنة {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} مع قوله تعالى:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71].
وفي هذه الآية دليل على تحذير عيسى عليه السلام لهؤلاء الذين يقولون: إن الله سبحانه هو عيسى عليه السلام .
سورة المائدة [5: 73]
{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ} : ارجع إلى الآية السابقة.
{الَّذِينَ قَالُوا} : الذين: اسم موصول؛ يعود على فئات النصارى مثل الملكية؛ التي قالت ذلك.
{ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} : الأب: هو الله، والابن: هو المسيح، وروح القدس.
أو الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، أو أن الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس، هو عين الآخر، لا فرق بين واحد منهم والآخر، أيُّ واحدٍ منهم يمثل الإله.
{وَمَا} : الواو: عاطفة، وما: النافية، وهي للرد على قولهم غير الصحيح، والكذب.
{مِنْ} : استغراقية.
{إِلَهٍ} : معبود.
{إِلَّا} : أداة حصر. {إِلَهٌ} : معبودٌ (هو الله سبحانه وتعالى.
{وَاحِدٌ} : صفة (نعت) واحد؛ أيْ: لا يتجزأ، ويكون ثلاثة. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.
{وَإِنْ لَّمْ يَنتَهُوا} : إن: شرطية.
{لَّمْ} : حرف نفي.
{يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} : إنذار ووعيد لهم: بأن يتركوا ما يقولون أو يفترون، والافتراء: الكذب على الله عز وجل ، سواء أكان قولهم الله هو المسيح، أم عقيدة التثليث.
{عَمَّا يَقُولُونَ} : عن الذين يقولون، وكلمة يقولون: تدلُّ على التكرار، والاستمرار في قولهم الباطل.
{لَيَمَسَّنَّ} : اللام: للتوكيد، وكذلك نون النسوة في ليمسن: لزيادة التوكيد، ليمسن: أيْ: يصيبن.
{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} : منهم خاصَّة، فربما هناك منهم من يؤمن بالله وحده.
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : في الدنيا والآخرة، شديد الإيلام، وعذاب: نكرة؛ ليدل على شدَّته ونوعه.
سورة المائدة [5: 74]
{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :
{أَفَلَا} : الهمزة: استفهام توبيخي، وفيه معنى الأمر، والفاء: للتوكيد. لا: النافية.
{يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} : التوبة تعني: الإقلاع عن تلك العقائد الباطلة، وعدم العودة إلى أقوالهم الباطلة، والندم عليها.
{وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} : أيْ: يستغفرون الله؛ مما نسبوه إليه من كونه ثالث ثلاثة، أو أن المسيح هو الله، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، أو ابن الله سبحانه.
والاستغفار: أيْ: يطلبون من الله أن يمحو عنهم ذنوبهم وسيئاتهم ولا يعاقبهم عليها، ويرجعون إليه، ولا يعودون لما قالوا، وقدم التوبة على الاستغفار؛ لأنه لا بدَّ من التوبة أولاً ثم الاستغفار.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور: صيغة مبالغة غفور للمذنبين التائبين، يغفر الذنوب جميعاً؛ إلّا الشرك.
{رَحِيمٌ} : بعباده المؤمنين الموحدين في الدنيا والآخرة، رحيم: صيغة تدل على ثبوت صفة الرحمة لذاته. ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (2)؛ لمزيد من البيان.
سورة المائدة [5: 75]
{مَا} : النافية.
{إِلَّا} : أداة حصر على كونه رسولاً فقط.
{قَدْ} : قد: للتحقيق، والتوكيد.
{خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} : أيْ: مضت.
{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} : مريم عليها السلام؛ أيْ: ليست إلهاً، صدِّيقة: صفة مبالغة في الصدق، و {صِدِّيقَةٌ}: مؤمنة بالله، ومصدقة بالأنبياء؛ أعطيت درجة الصدِّيقين.
{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} : عيسى وأمه عليهما السلام؛ كسائر البشر؛ لأنهما كانا يأكلان الطعام؛ للحفاظ على حياتهما، ومن يأكل، ويشرب ليس بإله، أو لا يمكن أن يكون إلهاً؛ فهذا نفي مطلق؛ لكونه وأمه عليهما السلام إلهين.
{انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} : التبين: التوضيح؛ أي: الآيات: الحقائق، والدلائل، والعلامات على وحدانية الله تعالى.
ثم انظر {كَيْفَ} : أنَّى، ومن أين، وللاستفهام والتعجب.
{يُؤْفَكُونَ} : من الإفك: وهو الصرف والتحويل باستخدام وسيلة الكذب؛ أي: يصرفون الناس عن الحق إلى الباطل، ويعدلون.
والإفك: وهو الكذب المفترَى على الله، والمتعمَّد بأن الله هو المسيح، أو ثالث ثلاثة، أو ابن الله سبحانه وتعالى عما يشركون.
سورة المائدة [5: 76]
{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، قل لأهل الكتاب، أو المشركين، وعبدة الأوثان، أو غيرهم.
{أَتَعْبُدُونَ} : الهمزة للاستفهام الإنكاري، والنون: للتوكيد.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله؛ أمثال عيسى، وأمه، والملائكة.
{مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ} : ما: تشمل العاقل، وغير العاقل، وقد تعني: اسماً موصولاً؛ أي: الذي لا يملك، أو ما النافية، أو تعني: الكلّ.
{مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} : الضَّر: البلاء، والضُّر: ما يصيب الفرد من المرض، والفقر، والعاهات في بدنه؛ ما لا يقدر على دفع الضرّ عنكم: من مرض، وقحط، وزلازل، وأوبئة، ولا يقدر على جلب النفع لكم: من رزق، وصحة؛ أيْ: ما لا يضر، وما لا ينفع.
وقدَّم الضر على النفع لأن دفع الضر أهم من جلب النفع؛ لأن عبادة الأصنام، أو عبادة عيسى، أو الشرك والكفر كلها ضر، وليس فيها نفع، ولأن النفوس أشد حرصاً على دفع الضر أولاً قبل أن تتطلع إلى جلب النفع، والآيات في سياق الكفر والشرك بالله.
{لَكُمْ} : اللام: للاختصاص، لكم أنتم خاصَّة.
{وَاللَّهُ هُوَ} : هو تفيد الحصر والتوكيد.
{السَّمِيعُ} : لأقوالكم في السرِّ، والعلن.
{الْعَلِيمُ} : بأحوالكم، وبما تعبدون، وتشركون، وبما تعتقدون، ويعلم كل معلوم، والعليم: صيغة مبالغة من علم، والعليم: كثير العلم، والعليم بنواياكم، وعالم الغيب والشهادة وحده، وعلام الغيوب، لا يشاركه أحد في ذلك.
سورة المائدة [5: 77]
{قُلْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لهؤلاء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
{لَا} الناهية.
{لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} : الغلو: هو الإفراط، وتجاوز الحد، وهو نقيض التقصير، والغلو هنا يعني: نسب الألوهية إلى عيسى عليه السلام ، أو القول هو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، {لَا تَغْلُوا}: وتجعلوا عيسى إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة.
{غَيْرَ الْحَقِّ} : غير: تفيد المغايرة، ذاتاً، أو صفةً، والحقّ: هو الشيء الثابت؛ الذي لا يتغير، أو يتبدل، أو يتعارض.
{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية، وتكرار لا: تفيد التوكيد، وفصل كلَّاً من الغلو واتباع الأهواء على حدة، أو كليهما معاً.
{وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} : أهواء جمع هوى، وهو ما تميل إليه النفس بعيداً عن الحق، ومن دون أيِّ دليلٍ، أو برهانٍ؛ أيْ: آراء قوم، مبعثها الأهواء والشهوة، ومن دون دليل وبرهان. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (119)؛ لمزيد من البيان.
آراء قوم: هم رؤوس اليهود والنصارى (رؤوس الضلال)، أو أئمة النصارى، مثل: الأحبار، والرهبان، والقسّيسين.
{قَدْ ضَلُّوا} : قد: للتحقيق، والتوكيد؛ أيْ: هم أنفسهم قد ضلّوا منذ القديم.
{وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} : وأضلّوا كثيراً من الخلق عن عبادة الله وحده، وعن طريق الحق.
{وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} : هم وأتباعهم ضلوا عن سواء السبيل: دِين الله، منهج الله، بالشرك، والسواء: هو الوسط.
والسبيل: هو الطريق الموصل إلى الغاية بأقصر زمن، أو مسافة، وبسهولة.
وأما الصراط: فهو أوسع وأسهل من السبيل، والموصل إلى الغاية بأقصر زمن ومسافة وبسهولة، وإذا وصف بالصراط المستقيم: فهو دِين الله؛ أي: الإسلام. الدِّين القيم، ولمقارنة هذه الآية مع الآية (171) في سورة النساء، والاختلاف بين الآيتين؛ ارجع إلى سورة النساء الآية (171).