المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة المائدة [5: 78] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٧

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة المائدة [5: 78]

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} :

{لُعِنَ} : اللعن: الطرد من الرحمة، رحمة الله، والإبعاد عن الخير، في الدنيا والآخرة.

{الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : الذين كفروا من بني يعقوب وذريته.

{مِنْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : كانوا يسمّون بني إسرائيل في زمن يعقوب عليه السلام ، وكذلك في زمن موسى عليه السلام ، فلما تغيروا وعصوا؛ دعاهم اليهود، وكلمة بني إسرائيل أفضل من كلمة اليهود تعريفاً ومعنىً.

{عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} : أيْ: لعن داود الذين اعتدوا يوم السبت من أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر، وعصوا الله؛ أيْ: دعا عليهم بالعذاب، والطرد من رحمة الله، وكذلك لعن عيسى عليه السلام الذين كفروا وعصوا من بني إسرائيل، ومن خالف من أصحاب المائدة.

وقيل: لعنوا في التوراة، والإنجيل، والزبور.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ويعني: اللعن، والطرد من رحمة الله تعالى.

{بِمَا عَصَوْا} : الباء: باء السببية، أو البدلية، عصوا: أوامر الله ورسله، ولم يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وبسبب بغيهم، وظلمهم، وفسادهم في الأرض.

{وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} : يعتدون بصيغة المضارع التي تدل على تجدد والتكرر الاعتداء منهم وأنه مستمر.

ص: 1

سورة المائدة [5: 79]

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :

{لَا يَتَنَاهَوْنَ} : لا: الناهية.

{يَتَنَاهَوْنَ} : ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المنكر، والفواحش.

{عَنْ مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} : جاء بالمنكر؛ كنكرة؛ ليدلّ على الإطلاق، قولاً، أو فعلاً، مثل: صيد البحر يوم السبت، أو أخذ الرشوة، والربا، أو يشمل كل ذلك، وغيره من أنواع المنكر. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (104)؛ للبيان.

{لَبِئْسَ} : اللام: للتوكيد، بئس: فعل من أفعال الذم.

{مَا} : بمعنى الذي، أو مصدرية.

{يَفْعَلُونَ} : ما يفعلون من المنكر، ويقومون به.

ص: 2

سورة المائدة [5: 80]

{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} :

{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ} : من اليهود، كثيراً منهم؛ أي: الغالبية، يتولون الذين كفروا، ونفى عن القليل منهم ولاية الذين كفروا.

{يَتَوَلَّوْنَ} : من الولاية؛ أيْ: تقديم النصرة، والمعونة، والمحبة، بانضمامهم إلى معسكر الكفر، أو تحالفوا معهم.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} : أيْ: مشركو قريش والمنافقون، ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدَّ من سلطتهم، وجاههم، وفضح مكرهم، وخداعهم.

{يَتَوَلَّوْنَ} : بصيغ المضارع؛ ليدلَّ على تجدد هذه الولاية للكفار، وتكرّرها، واستمرارها، وكذلك يعلمون أن موالاة الكفار محرم عليهم في دِينهم، ومع ذلك يعصون ما أمرهم الله به.

{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} : لبئس: اللام: للتوكيد، بئس: من أفعال الذم، والتحقير.

{قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} : أيْ: زينت لهم أنفسهم، أو حملتهم أنفسهم، أو لبئس ما قدَّموا لأنفسهم في الآخرة.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ للتعليل والتوكيد.

{سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} : السخط: هو شدة الكراهية وعدم الرضا، والسخط يؤدي إلى غضب الله عليهم، وعقابه، وعدم رضاه، والسخط: خلاف الرضا، والسخط: الغضب المؤدِّي للعقاب.

{وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} : من الخلود؛ أي: الإقامة الأبدية في النار، من نقطة بداية تبدأ بعد حسابهم ودخولهم فيها.

ص: 3

سورة المائدة [5: 81]

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.

{كَانُوا} : هؤلاء الذين كفروا من اليهود.

{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِىِّ} : محمد صلى الله عليه وسلم، وما أُنزل إليه: ما: اسم موصول بمعنى الذي أُنزل إليه: أي القرآن.

{مَا} : حرف نفي.

{اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي، والاتخاذ: فيه معنى الشدة، والقوة. ارجع إلى سورة النساء، آية (139).

أيْ: حلفاء، وأنصار، وتعاونوا معهم؛ أيْ: ما تعاون أهل الكتاب مع كفار قريش. ارجع إلى الآية (51) من نفس السورة؛ لبيان معنى الولاية.

{وَلَكِنَّ} : للاستدراك.

{كَثِيرًا مِّنْهُمْ} : تعود على أهل الكتاب.

{فَاسِقُونَ} : خارجون عن طاعة الله، متمردون في كفرهم، ونفاقهم، وعاصون لما أمرهم الله، وبنقض مواثيقهم، وعدم الوفاء بها، وأمَّا الأقلية؛ فنفى عنهم الولاية والفسق.

ص: 4

سورة المائدة [5: 82]

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} :

{لَتَجِدَنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} : أشدَّ على وزن أفعل؛ للمبالغة في العداوة، فعداوة اليهود للذين آمنوا أشد العداوات وأظهرها.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} : اللام: لام الاختصاص.

{الْيَهُودَ} قيل: هم الذين جاؤوا من بعد بني إسرائيل، ومن دخل في اليهودية، وقدَّم اليهود على المشركين؛ لأنهم أشد عداوة منهم للمؤمنين.

{وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} : ولم يقل: المشركين؛ لأن المشركين؛ تعني: الشرك عندهم أصبح سمة وصفة ثابتة، أما {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}: أيْ: من قد يؤمن منهم، ويرجع عن عداوته، وشركه.

{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} :

{وَلَتَجِدَنَّ} : مثل الأولى.

{أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً} : هي المحبة التي تتجلَّى آثارها بالمودة، فالمحبة تسبق المودة، فهي سبب المودة، فكل مودة محبة، وليس كل محبة مودة، فالمودة= محبة+ إخلاص، ووفاء وغيرها.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} : مثل السابقة.

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} : قيل: هم النجاشي، وأصحابه، أو غيرهم من النصارى، حينما هاجر إليهم المؤمنون، الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة.

{ذَلِكَ} : أيْ: قرب مودتهم من المؤمنين، إشارة إلى أقربهم مودة.

{بِأَنَّ مِنْهُمْ} : الباء: للإلصاق، أو السببية.

{قِسِّيسِينَ} : علماء النصارى.

{وَرُهْبَانًا} : العُباد من النصارى.

{وَأَنَّهُمْ لَا} : أن: للتوكيد، لا: النافية.

{يَسْتَكْبِرُونَ} : أيْ: فيهم تواضع، ولا يتكبرون عن الحق.

{يَسْتَكْبِرُونَ} : الألف والسين والتاء: للطلب، ولم يقل: يتكبرون، فهناك فرق بين المتكبر والمستكبر، المتكبِّر: قد يتكبر لامتلاكه بعض مؤهلات التكبر، مثل الغنى، أو الجاه، أو السلطة، أمّا المستكبر: فهو لا يملك مؤهلات التكبُّر؛ لكنه يطلب الكبر، وهو ليس كُفؤاً له، ومعظم آيات القرآن جاءت في سياق المستكبرين، أو الذين استكبروا في الدنيا.

والمستكبر: هو أسوأ من المتكبر، في ميزان التقوى والإيمان، وكلاهما ممّن يكرههم الله -جل وعلا- .

أما أسباب هذه المودة؛ فقد بينتها الآيات (82، 83، 84):

1 -

عدم التكبر (وأنهم لا يستكبرون).

2 -

وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ترى أعينهم تفيض من الدمع.

3 -

مما عرفوا من الحق؛ أي: القرآن من عند الله.

4 -

وما لنا لا نؤمن بالله؛ أيْ: أقروا بالإيمان بالله تعالى.

5 -

واكتبنا من الشاهدين، وأشهدوا على إيمانهم.

ص: 5

سورة المائدة [5: 83]

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني، متضمن معنى الشرط.

{سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ} : إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات والقرآن.

{تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} : أدَّى التأثير الشديد لسماعهم لآيات الله عز وجل إلى الخشية والوجل الذي يؤدي إلى تحريض منطقة في الدفاع تسمَّى منطقة تحت السرير البصري، ثم هذه بدورها مرتبطة بالغدة الدمعية بالأعصاب، ما يؤدِّي إلى إفراز الدمع؛ دلالة على الخشية، والوجل، والخشوع، والإخلاص.

{تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} : تفيض: أيْ: تمتلئ بالدمع، ثم تسيل بالدمع، من: لابتداء الغاية.

{مِنَ الْحَقِّ} : من: للتبعيض؛ أيْ: بعضاً من الحق؛ لأنّه لم يسمعوا القرآن كلّه.

{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} :

{يَقُولُونَ} : بصيغة المضارع؛ التي تدل على التجدد والاستمرار، ولم يقل: قالوا؛ لأنهم استمروا في إيمانهم.

{رَبَّنَا} : ولم يقولوا: يا ربنا؛ لأنهم يشعرون: أن الله قريب؛ فهو مطلع عليهم، فلم يستعملوا ياء النداء؛ التي تدل على البعد.

{آمَنَّا فَاكْتُبْنَا} : آمنا: صدقنا بما أنزلت، الفاء: عاطفة رابطة؛ أي: السبب بالمسبب.

{فَاكْتُبْنَا} : اجعلنا: {مَعَ الشَّاهِدِينَ} : لم يقولوا: من الشاهدين؛ لأن من: تعني: الأنبياء والرسل، وهم ليسوا من الأنبياء والرسل.

{مَعَ الشَّاهِدِينَ} : جمع شاهد؛ أي: الذين يشهدون بألوهيتك، وبربوبيَّتك، ووحدانيَّتك، وبنبوَّة رسولك.

ص: 6

سورة المائدة [5: 84]

{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} :

{وَمَا لَنَا} : الواو: عاطفة.

{وَمَا} : للاستفهام، والتعظيم، ورداً على لوم قومهم لهم بالإيمان؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما .

{لَا} : نافية.

{نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق، بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، إيمان العقيدة، والإيمان بالله؛ يقتضي الإيمان بالملائكة، وكتبه، والرسل، واليوم الآخر. ارجع إلى سورة البقرة آية (8) لمزيد من البيان.

{وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} : الواو: عاطفة.

{وَمَا} : بمعنى: الذي.

{مِنَ الْحَقِّ} : من: استغراقية، الحق: الآيات، أو القرآن، أو الوحي.

{وَنَطْمَعُ} : الطمع: الرغبة في توقع الخير في المستقبل، مع عدم تقديم الأسباب الكافية.

{أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا} : أي: الجنة، أن: حرف مصدري؛ يفيد الاستقبال؛ أيْ: أن يدخلنا ربنا الجنة في المستقبل.

{مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} : جمع صالح؛ أيْ: من صلح إيمانه، وصلح عمله، (قوله وفعله)، واستقام حاله، والصلاح تعريفه بشكل عام: كل ما يتمكن به من الخير، أو يتخلص به من الشر، وهو ما يفعله العبد لنفسه. ارجع إلى الآية (130) في سورة البقرة؛ لبيان معنى الصالحين.

ص: 7

سورة المائدة [5: 85]

{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} :

{فَأَثَابَهُمُ} : الفاء: للتأكيد، أثابهم: مشتقة من ثوب، وثياب؛ إذ كان الناس قديماً يأخذون أصواف أغنامهم؛ ليصنعوا منها ملابسهم، فبعد جزّها يعطونها الغازل؛ لكي تُغزل، فيصنع لهم ثياباً، فهم يرسلونه صوفاً، ثم يتسلمونه ثوباً.

{فَأَثَابَهُمُ} : معناها: أعطاهم جزاء طاعتهم، وجزاء ما قالوا.

{بِمَا قَالُوا} : الباء: سببية، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي؛ أي: الذي قالوا؛ أيْ: بسبب الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل.

{جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ فِيهَا} : الخلود، والاستمرار، والبقاء إلى الأزل من نقطة البدء، يبدأ لحظة دخولهم الجنة.

{وَذَلِكَ} : اسم إشارة للبعد، يشير إلى الثواب العظيم.

{جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} : هؤلاء الذين آمنوا بالله وبالقرآن، أمثال: النجاشي، وأصحابه، وغيرهم، وقد وصلوا إلى درجة الإحسان، وأصبح الإحسان صفة ثابتة لهم، ولذلك سمّاهم {الْمُحْسِنِينَ}: أيْ: أحسنوا إحسان الكم، وإحسان الكيف. ارجع إلى سورة البقرة، آية (112)؛ لمزيد من البيان.

ص: 8

سورة المائدة [5: 86]

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} :

{وَالَّذِينَ} : الواو: استئنافية.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} : أيْ: جحدوا، وأنكروا، ولم يؤمنوا بوجود الخالق، وصفاته ووحدانيته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.

{بِآيَاتِنَا} : القرآنية منها، والكونية، والمعجزات.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة يدلُّ على البعد، وسوء منزلتهم.

{أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} : جمع صاحب، والصاحب: هو الذي يألف صاحبه، ويلازمه، ملازمة دائمة، وفيه دلالة على عشق النار لهم، وأنها لا تفارقهم أبداً، وهم لا يفارقونها.

و {الْجَحِيمِ} : مأخوذة من الجحوم، يقال: جحمت النار: اضطربت، وتأججت، فلا تخمد.

ص: 9

سورة المائدة [5: 87]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} :

أخرج البخاري رحمه الله في «صحيحه» : حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل: أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» ، فنزلت هذه الآية؛ لتبين لهم الصواب.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء إلى الذين هم على درب الإيمان، والهاء: للتنبيه.

{لَا} : الناهية.

{تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} : الطيبات: جمع طيب، والطيب الطاهر اللذيذ الطعم المستساغ للنفس هو والحلال ما أحله الشرع وأباحه، وتشمل: الأطعمة، والأشربة، والنساء، أمّا التحريم والتحليل؛ فإنما موكول إلى الخالق، وليس لكم أن تحرموا، أو تحلِّلوا، كما تريدون. ارجع إلى الآية التالية (88) في نفس السورة لمزيد من البيان.

{وَلَا تَعْتَدُوا} : لا: الناهية.

وتكرار (لا): لتوكيد النفي؛ أيْ: لا تتعدوا حدود الله فيما أحلَّه الله لكم إلى ما حرَّمه، ولا تسرفوا في تناول الطيبات.

والاعتداء: هو تجاوز الحد، فيما حرَّم الله، أو فيما حلَّله، مثل: أكل لحم الميتة، أو الخنزير من دون اضطرار وشدة، أو تحرموا الزواج، أو تصوموا صيام الوصال؛ أيْ: كل يوم من أيام السنة، أو تحرِّموا أكل اللحوم؛ للزهد.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{اللَّهَ لَا} : النافية.

{لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} : المتجاوزين لحدود الله، الذين يحرِّمون ما أحلَّ الله تعالى؛ كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، أو يحلون ما حرَّم الله تعالى. ارجع إلى الآية (113) من نفس السورة.

ص: 10

سورة المائدة [5: 88]

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} :

{وَكُلُوا مِمَّا} : أيْ: من ما؛ أيْ: من بعض ما رزقكم الله؛ لأننا غير قادرين أن نأكل كلّ ما رزقنا الله عز وجل ، والرزق: هو كل ما انتفع به؛ من مأكل، ومشرب، وملبس، وعلم، وأولاد، وأخلاق، فما يتغذى به الإنسان يجوز أن يكون حلالاً أو حراماً.

وليس كل ما يتغذَّى به الإنسان يُعد رزقاً؛ فالذي يتغذَّى بما جاء به عن طريق السرقة، والظلم، والرشوة، والبغي: لا يعد رزقاً.

الحلال: ما نص الشارع على حِلِّه، وكذلك ما لم ينصَّ الشارع على تحريمه في حكم عام، أو خاص يعتبر مباحاً، ويحلُّ أكله.

الطيب: الطاهر غير النجس.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : أطيعوا ما يأمركم الله به، واجتنبوا ما ينهاكم عنه، فهذا يقيكم من عقابه وعذابه.

{الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} : إيماناً ثابتاً، لا يتغير، ودائم، ومستمر.

{بِهِ} : جار ومجرور، فيه تقديم؛ أيْ: لم يقل: الذي أنتم مؤمنون به، وذلك للحصر؛ أيْ: فقط به وحده مؤمنون.

ولو أخّر به، فقال: الذي أنتم مؤمنون به؛ لكان يعني: تؤمنون بغيره، وهذا غير مباح.

ص: 11

سورة المائدة [5: 89]

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} :

{كَذَلِكَ} : أيْ: كما بيّن لكم ما ذكر في مسألة اليمين، واللغو، والكفارة.

{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} :

{يُبَيِّنُ} : يوضح، ويفصل، ويصرف، التبين قد يكون عن طريق التفصيل والتصريف.

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكم خاصَّة.

{آيَاتِهِ} : آيات الأحكام، والفرائض، والأوامر، والنواهي، وغيرها، وقال: آياته، ولم يقل: الآيات: نسب الآيات إليه تشريفاً؛ فهي آيات مهمة وخاصَّة.

{آيَاتِهِ} : آيات القرآن.

{لَعَلَّكُمْ} : لعل: أداة رجاء، تستعمل للأمور الميسور تحققها.

{تَشْكُرُونَ} : الشكر: هو الثناء على المنعم، وهو الله -جل وعلا- ، بالنِّعمة؛ لأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ إذ جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه، كما جعلت اليمين الذي نعقده له كفارة، وفي كل الأمور تيسير، فالحق سبحانه يستحق الشكر الدائم. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان عن الشكر.

ص: 12

سورة المائدة [5: 90]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :

نداء جديد للذين آمنوا؛ بتكليف جديد، أو حكم، واستعمل فيها ياء النداء، والهاء: للتنبيه.

{إِنَّمَا} : كافة، ومكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{الْخَمْرُ} : اسم لكل ما خامر العقل؛ أيْ: خالطه، أو غطاه، أو ستره.

{وَالْمَيْسِرُ} : القمار، مشتقة من اليسر: وهو كسب المال بلا جهد.

{وَالْأَنصَابُ} : قيل: هي النصب: حجارة كانت حول الكعبة في الزمن القديم، كانوا يذبحون عليها؛ تقرباً للآلهة، وقيل: هي الأصنام، والتماثيل.

{وَالْأَزْلَامُ} : أقداح كان يكتب عليها: أمرني ربي، أو نهاني ربي، أو افعل، أو لا تفعل، وهي سبعة أقداح، أو أكثر.

{رِجْسٌ} : عمل قذر، قبيح، خبيث، مستقذر، حساً، أو معنىً؛ لأن النفس الحكيمة، والعقل الحكيم يعافه (يستقبحه).

منها ما هو مستقذر حساً: مثل الخمر، والميتة، والدم المسفوح.

ومنها ما هو مستقذر معنىً: الأزلام، الأنصاب، الميسر، وتسمَّى الأوثان.

بينما الرجز: هو العذاب، والرجس: يطلق على الأصنام، والأوثان، والآثام، والمعاصي، والرجس: أعم من الرجز؛ فهي تشمل الشيء أو القبيح والمستقذر وأيضاً العذاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لمزيد من البيان.

{مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} : من تزيين الشيطان، ووساوسه، وإضلاله. وكما قال تعالى في سورة النساء، آية (119-120):{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} ، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} .

{فَاجْتَنِبُوهُ} : كونه رجساً من عمل الشيطان؛ فلذلك يقتضي اجتنابه؛ أي: ابتعدوا عنه، ولا تقربوه.

{فَاجْتَنِبُوهُ} : من الاجتناب: وهو أن يعطي الإنسان الشيء المتجنب جانبه، ويعني: عدم الاقتراب منه، فلا يكفي عدم القيام به، بل عدم الاقتراب منه، وقالوا: الاجتناب: أقوى من التحريم، والهاء: في {فَاجْتَنِبُوهُ} : تعود على عمل الشيطان والرجس.

والرجس: يعني: الأربعة المذكورة، وهي: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ولم يترك -جل وعلا- هذا الأمر؛ للاستحسان العقلي، والاستنباط؛ لكي يُفتي فيه، بل صرّح به، فقال:{فَاجْتَنِبُوهُ} .

{لَعَلَّكُمْ} : لعلَّ هنا: للتعليل.

{تُفْلِحُونَ} : أيْ: تفوزون في الآخرة بالجنة، ورضا الله. ولبيان مزيد من معنى (تفلحون)؛ ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة.

ص: 13

سورة المائدة [5: 91]

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} :

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة، تفيد التوكيد.

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} : الخطاب موجَّه إلى الذين آمنوا.

وهل الشيطان قادر على إنفاذ ما يريد؟

الجواب: نعم إذا أطاعه الإنسان، واتبع خطواته، وأمرته نفسه الأمارة بالسوء، وضعف إيمانه، ولا يستطيع الشيطان أن يقهر أو يكره إنساناً على فعل شيء، ولكنه يُزين له الفعل، ويوسوس له، وليس له سلطة، أو قدرة على الإكراه، أو الإقناع:{لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99-100].

فحين يُزين للإنسان شرب الخمر، ولعب الميسر: هذا بدوره يؤدِّي إلى العداوة والبغضاء.

{الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} : البغضاء: شدة الكراهية وعدم الرضا؛ ارجع إلى الآية (64) من نفس السورة؛ للبيان.

والعداوة: تؤدِّي إلى البغضاء، أو بالعكس، وكثيراً ما نرى حوادث القتل والإجرام تحدث في أماكن شرب الخمر والقمار.

{فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} : ولم يذكر الأنصاب والأزلام، واكتفى بالخمر والميسر، ونسب وقوع العداوة والبغضاء إلى الشيطان؛ لأنه هو المُزين لهما، والموسوس بفعلها.

{فِى} : هنا تفيد السببية؛ أيْ: بسبب الخمر، والميسر، أو ظرفية؛ تعني: في فعلها العداوة والبغضاء.

{وَيَصُدَّكُمْ} : أيْ: يصرفكم عن ذكر الله، وعن الصلاة.

ونلاحظ تكرار (عن)؛ لأن الشيطان قد يصدّ عن ذكر الله وحده، أو عن الصلاة وحدها، أو كليهما معاً، فكلٌّ من الذكر والصلاة منفرد بذاته.

{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} : الفاء: للتوكيد، هل: للاستفهام بمعنى: الأمر، والنهي؛ أي: انتهوا.

وكان تحريم الخمر تدريجياً على أربع مراحل:

المرحلة الأولى: قيل: إن أول آية جاءت في سياق التحريم هي قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67].

المرحلة الثانية: ثم نزلت الآية: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. بعد أن سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر.

المرحلة الثالثة: ثم نزلت الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

المرحلة الرابعة: ثم نزلت الآية الأخيرة، وهي قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].

بالتحريم المطلق في الدنيا.

وهكذا كان تدرّج الأحكام، خطوةً خطوةً، حتى تألف النفوس، وتتربَّى على التقوى، وتبتعد عن الإثم، والمعصية بحكمة، وتفكير، فلا تعود إليها بعد تركها.

وهذه المراحل تتناسب، أو تطابق ترتيب نزول السور، فسورة النحل ترتيب نزولها (70)، أما سورة البقرة فترتيب نزولها (87)، وأما سورة النساء فترتيب نزولها (92)، وأما سورة المائدة فترتيب نزولها (112).

ص: 14

سورة المائدة [5: 92]

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ =} :

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} : وفي الآية (32) من سورة آل عمران قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، ولمعرفة الفرق بين هاتين الآيتين: ارجع إلى الآية (59) من سورة النساء.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} : فيما أمركم به، أو نهاكم عنه، وأطيعوا الرسول فيما فصل لكم من الأحكام، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق.

فالله -جل وعلا- أمر بالصلاة بشكل مجمل، ولم يفصل كيفية الصلاة، وعدد الركعات، وماذا نقول في كل ركعة، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليفصل لنا ما أمرنا الله به، فهنا علينا أن نطيع الله ونطيع رسوله.

{وَاحْذَرُوا} : من الحذر: وهو توقي الضرر سواء أكان ظناً أم يقيناً، هذه هي الآية الوحيدة التي ذكر فيها واحذروا، جاء التحذير هنا؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق ذكر الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، وكلها رجس من عمل الشيطان، فناسب ذلك ذكر التحذير من الوقوع فيها.

{فَإِنْ} : الفاء: عاطفة للتوكيد، إن: الشرطية؛ تفيد أو تحمل معنى الاحتمال، والقلَّة.

{تَوَلَّيْتُمْ} : التولي: وهو أشد الأغراض؛ أي: الابتعاد؛ أي: أعرضتم، ورفضتم الإذعان لما أمركم الله به؛ من الاجتناب، والطاعة.

{فَاعْلَمُوا} : جواب الشرط لجملة {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} .

فاعلموا أنكم لن تضروا الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأن وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي التبليغ فقط.

{أَنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{عَلَى رَسُولِنَا} : على: تفيد العلو، والمشقة على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديم على: تفيد الحصر.

{الْبَلَاغُ} : الإيصال، إيصال ما أنزل الله تعالى من الآيات، والأحكام، وأيضاً تبيان ما نُزل إليكم.

و {الْمُبِينُ} : تعني: إيصال البلاغ، أو تبليغ كل فرد بصورة مباشرة، أو غير مباشرة المنهج بشكل كامل دون أي نقص.

ص: 15

سورة المائدة [5: 93]

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} :

سبب النزول: بعد نزول الآية السابقة؛ بتحريم الخمر والميسر، سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصير إخوانهم الذين أسلموا، وكانوا يشربون الخمر، ويتعاطون الميسر، وماتوا، أو قتلوا في سبيل الله قبل نزول هذه الآية؛ فجاء الرد الإلهي على سؤالهم.

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} : أيْ: إثم، أو ذنب، أو جرم.

{فِيمَا طَعِمُوا} : طعموا هنا: تشمل الطعام، والشراب (أي: الخمر).

واستعمل {لَيْسَ} : للنفي بدلاً من (لا)؛ فقال: ليس عليهم جناح، بدلاً من: لا جناح عليهم؛ لأن لا جناح عليهم: لا: نافية للجنس أقوى توكيداً في النفي من ليس؛ لأن (لا جناح عليهم) جملة اسمية، بينما ليس عليهم جناح جملة فعلية، والجملة الاسمية أقوى من الفعلية، ولذلك نجد القرآن يستعمل (لا جناح عليهم) في العبادات، والأمور الأسرية، والحقوق الزوجية؛ أي: الأمور الأكثر أهمية، ويستعمل (ليس عليهم جناح) في أمور الطعام، والشراب، ودخول البيوت، واللباس؛ أي: الأمور الأقل أهمية من السابقة.

ثم صنَّف {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : وشربوا الخمر، وتعاطوا الميسر، وماتوا أو قتلوا قبل نزول هذه الآية: ليس عليهم جناح (إثم) على شرط أنهم {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أيْ: ماتوا، أو قتلوا؛ وهم في حالة التقوى، والإيمان، والأعمال الصالحة.

الصنف الثاني: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : وشربوا الخمر، أو تعاطوا الميسر، ولا زالوا أحياء؛ ليس عليهم إثم أو حرج قبل نزول هذه الآية على شرط أن يتجنبوا شربها بعد نزول الآية، وأن لا يتعاطوا الميسر، ويستمروا على إيمانهم وتقواهم.

الصنف الثالث: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : ولم يشربوا الخمر، أو يتعاطوا الميسر قبل نزول هذه الآية، أو بعد نزولها؛ أيْ: هؤلاء الذين {اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا} : أيْ: استمروا في تقواهم، وإحسانهم؛ فهؤلاء لهم أعظم الدرجات.

وانتبه! إلى مجيء {ثُمَّ} ، وتكرارها مرتين: لا تفيد الترتيب والتراخي في الزمن، وإنما تفيد في تباين الدرجات بين هؤلاء الأصناف، فالصنف الثالث: أعظم درجة، وأفضل من الصنف الثاني، والصنف الثاني: أعظم درجة، وأفضل من الصنف الأول.

لننظر مرة أخرى إلى الآية: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا} :

هنا ثلاث تقوات، وآمنوا مرتين، وعملوا الصالحات مرة، وأحسنوا مرة، فما تفسير كل ذلك؟

{إِذَا مَا اتَّقَوْا} : إذا: شرطية، ما: للتوكيد زائدة، اتقوا: شرب الخمر، والمعاصي، والشرك، اتقوا: أيْ: أطاعوا أوامر الله سبحانه، وتجنبوا نواهيه.

{وَآمَنُوا} : بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر.

{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أقاموا الفرائض، والنوافل، وذكر الله.

{ثُمَّ اتَّقَوْا} : اتقوا شرب الخمر، بعد تحريمها، وآمنوا بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر.

ثم اتقوا: استقاموا على تقواهم بامتثال أوامر الله، وتجنب نواهيه بما فيها شرب الخمر، والميسر.

{وَّأَحْسَنُوا} : وأحسنوا العمل الصالح، (كمّاً وكيفاً)، وأحسنوا الإيمان بعد ترك شرب الخمر، والتقوى.

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : ارجع إلى الآية (112) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{الْمُحْسِنِينَ} : جمع محسن، وهو من أحسن في إيمانه، وتقواه، وعبادته، كمَّاً وكيفاً؛ فهؤلاء مع الذين يحبهم الله تعالى.

فالتقوى الأولى: في الآية تعني: امتثال ما أمر الله به، ونهى عنه.

والتقوى الثانية: تعني: عدم شرب الخمر، والميسر، والأزلام.

التقوى الثالثة: الاستقامة على طاعة الله، وامتثال أوامر الله.

ص: 16

سورة المائدة [5: 94]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

المناسبة: بعد ذكر المحرمات الدائمة في كل زمان ومكان في مطلع السورة؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وذكر الخمر وغيره من المحرمات في الآية (90).

يذكر في هذه الآية محرمات من نوع خاص؛ أيْ: في أزمنة خاصَّة، وأمكنة خاصَّة؛ مثل: الصيد المحرم فقط، في زمن الإحرام، وفي مكان خاص، هو الحرم وقت الحج، على نحو ما، ابتلى الله -جل وعلا- به بني إسرائيل في تحريم الصيد عليهم يوم السبت. ارجع إلى سورة الأعراف، الآيتان (163-164).

ابتلى اللهُ المؤمنين في زمن الإحرام، وداخل الحرم بعدم الصيد، فينادي الله تعالى الذين آمنوا بأمر جديد، فيقول تعالى:{لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} : اللام: لام التوكيد، والنون في (يبلونكم): لزيادة التوكيد.

وقيل: حدث هذا الابتلاء في عام الحديبية، عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في طريقهم إلى العمرة، فكان الطير والصيد تأتيهم من كل مكان، ونزلت هذه الآية؛ تنهاهم عن الصيد، وهم في حالة الإحرام للعمرة، فكان ذلك ابتلاءً وامتحاناً؛ لمعرفة صدق إيمانهم، وطاعتهم.

{بِشَىْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} : الباء: للإلصاق، من: للتبعيض؛ أيْ: بعض الصيد، وهو صيد البر، أما صيد البحر؛ فقد كان حلاً لهم.

{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} : تلتقطه أيديكم من دون جهد؛ أيْ: سهلة الصيد، أو باستعمال أدوات الصيد من الجوارح والكلاب؛ التي تستعمل لصيد الغزلان، وغيرها.

{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} : اللام: لام التعليل، ليس المقصود هنا ليعلم الله من يخافه بالغيب، كما هو الظاهر في الآية، فالله -جل وعلا- يعلم ذلك منذ الأزل، يعلم ما سيحدث لكم؛ من الطاعة، أو المعصية قبل خلقكم، وليعلم هنا؛ أيْ: لكي يقيم عليكم الحُجَّة؛ أيْ: تعلموا أنفسكم من أطاع ممن عصى، فلا يدعي أحد أنه لو ابتُلي لفعل كذا، وكذا، والابتلاء هنا؛ ليرى هو نفسه نتيجة ابتلائه.

{مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} : الخوف من الله بالغيب، أشد من الخوف منه عز وجل بالعلن.

{فَمَنِ اعْتَدَى} : الفاء: عاطفة، من: شرطية.

{اعْتَدَى} : تجاوز حدود الله، واصطاد، وعصى، وأخلَّ بإحرامه.

{بَعْدَ ذَلِكَ} : بعد هذا الأمر بالنهي.

{فَلَهُ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، فله: اللام: لام الاستحقاق.

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : في الدنيا والآخرة.

ص: 17

سورة المائدة [5: 95]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} :

يخاطب الله سبحانه الذين آمنوا بأمر تكليفي جديد، وينبههم باستعمال هاء التنبيه في كلمة يا أيها، فيقول:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} : لا: الناهية؛ أيْ: لا تصطادوا وأنتم حرم؛ أيْ: وأنتم مُحرمون، زمن الإحرام للحج، أو العمرة، أو كليهما معاً، وداخل الحرم؛ أيْ: ممنوع أن يصطاد المحرم شيئاً، منذ بلوغه الميقات.

{وَمَنْ} : شرطية.

{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} : بعد النهي قتله؛ أيْ: أخطأ حين قتله، سواء لم يعلم بالحكم، أو نسي الحكم، أو تعمد الصيد؛ الحكم واحد.

كلمة {مُّتَعَمِّدًا} : اعتبر الخطأ هنا عمداً؛ لأن الحكم واحد (أي: الجزاء واحد)، وذلك لكي ينتبه المسلم، وليكون في منتهى اليقظة الإيمانية والحذر.

{فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} : الفاء: جواب للشرط؛ أيْ: عليه جزاء مماثل لما قتل، من النِّعم، والإبل، والبقر، والغنم، والماعز.

{مِّثْلُ} : تعني: المثلية بالقيمة، والشكل، مثال: قتلَ نعامة؛ عليه بعير.

إذا قتل ضبعاً؛ فعليه كبش، ضباً؛ عليه شاة، غزالاً؛ عليه عنزة، وهكذا.

{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} : أي: الذي يحكم، ويقرر ذلك اثنان:{ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} : أيْ: رجلان، معروفان بالإيمان والعدل، ممن تثقون بهم.

{ذَوَا} : ذو؛ بمعنى: صاحب؛ أيْ: يتصفان بالعدل.

{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} : هدياً ما يهدى من الذبائح ابتغاء وجه الله؛ أيْ: يصل إلى الحرم، ويذبح بالحرم، وخصت الكعبة للتعظيم.

{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} : هذا هو الخيار الثاني، للذي اصطاد خطأ، ولا يملك القدرة على أن يقدم الهدي، فعليه إطعام مساكين، يحدِّد عددَهم الاثنان ذوا العدل.

{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} : وإذا كان المخطئ لا يستطيع الإطعام فعليه أن يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كان يستحقون الطعام.

{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} : اللام: لام التعليل، أو الاستحقاق؛ أيْ: ليذوق جزاء ذنبه، سوء عاقبة قتله للصيد، والوبال مأخوذة من الثقل، والشدة، والوخامة، كما قال تعالى:{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} : أيْ: شديداً.

انتبه! إلى أن الله -جل وعلا- شبه الإنسان الذي هتك حرمة الإحرام بالإنسان الذي يذوق طعاماً وخيماً. ارجع إلى سورة الحشر، آية (15)؛ لمزيد من البيان.

{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} : عفا الله بذلك الإطعام، أو الصيام، أو الهدي عن الصيد في حال الإحرام، قبل نزول هذه الآية، وصدور الحكم.

{وَمَنْ عَادَ} : إلى قتل الصيد، وهو محرم، بعد نزول النهي.

{وَمَنْ} : ابتدائية، استغراقية.

{فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} : والانتقام: أو الثأر، سلب النِّعمة منه أولاً، ثم تعذيبه ثانياً؛ لأن الانتقام نقيض الإنعام، وهناك فرق بين الانتقام والعقاب؛ فالعقاب: هو الجزاء الذي يعقب الجرم.

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} : والله عزيز، لا يُغلب، ولا يُقهر، ذو انتقام؛ أيْ: قادر على الانتقام، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.

وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} .

انتبه! {أَوْ} : في هذه الآية؛ تعني: التخيير، وليس الترتيب.

وعلى ذوي العدل تقرير، أو اختيار؛ أي: الكفارات التي تناسب المخطئ، الذي قتل الصيد.

ص: 18

سورة المائدة [5: 96]

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

{أُحِلَّ لَكُمْ} : أبيح لكم.

{صَيْدُ الْبَحْرِ} : سواء أكنتم محرمين أم غير محرمين، وصيد البحر يشمل كل الحيوانات البحرية، واللؤلؤة والمرجان.

{وَطَعَامُهُ} : ما يؤكل من صيده، فهناك حيوانات بحرية، لا تؤكل.

{مَتَاعًا} : أيْ: ما ينتفع منه، والمتاع. ارجع إلى الآية (14) من سورة آل عمران؛ لمزيد من البيان.

{وَلِلسَّيَّارَةِ} : اللام: لام الاختصاص، السيارة؛ أي: المسافرون.

{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} : يعيد تأكيد تحريم صيد البر أثناء الإحرام، بعكس صيد البحر فهو مباح للمقيم والمسافر.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : امتثلوا أوامره، وتجنبوا محارمه، واجعلوا بينكم وبين عذابه حاجزاً وافياً.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التعظيم والإجلال.

{إِلَيْهِ} : جار ومجرور، وتقديمها؛ ليدل على الحصر والقصر، أنه إليه فقط لا إلى غيره سوف {تُحْشَرُونَ}: يوم القيامة يوم الحشر، والحشر؛ يعني: إخراج الموتى من قبورهم، وسوقهم إلى أرض المحشر والجمع؛ للحساب والجزاء.

الاختلاف بين نهاية هذه الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، ونهاية الآية (88) من السورة نفسها:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .

{الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} : يعني: في الآخرة الآية في سياق الآخرة.

{الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} : يعني: في الدنيا، الآية جاءت في سياق الدنيا.

ص: 19

سورة المائدة [5: 97]

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : الجعل؛ أي: التصيير؛ أيْ: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام، قياماً للناس، والجعل؛ يستعمل في الأشياء الحسّية.

{الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : البيت الحرام، بدلٌ من الكعبة.

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} : أيْ: قواماً لحياتهم؛ أي: الكعبة شيء، يحفظ لهم قيام حياتهم، كما أن الطعام والشراب، واستبقاء النسل، أشياء تقوم عليها الحياة، وكذلك الكعبة شيء ضروري، يحفظ قيام الحياة الدنيوية والأخروية، فقوله تعالى:{قِيَامًا} لها عدة معانٍ:

فالكعبة {قِيَامًا} : تحفظ للناس (للمسلمين) بقاء دِينهم وقبلتهم.

و {قِيَامًا} : لإتمام فريضة الحج والعمرة.

و {قِيَامًا} : لحفظ حياتهم؛ إذ هي مثابة وأمن، ومكان لكل خائف وملجأ، و {قِيَامًا}: لما يحصل في الحج من تبادل المنافع، والمصالح، والتعايش، والتجارة الضرورية؛ لحفظ حياة القائمين عليها.

و {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : البيت من البيتوتة، المكان الذي تأوي إليه، وتستريح فيه.

{الْحَرَامَ} : مشتقة من حرمته وقدسيته، فلا قتال فيه. ارجع إلى سورة الحج، آية (25)؛ لبيان معنى البيت الحرام، الكعبة المسجد الحرام.

{وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} : اسم جنس؛ يعني: الأشهر الحرم الأربعة.

والحرمة في كلمة الشهر الحرام، جاءت من حرمة القتال فيه.

{وَالْهَدْىَ} : ما يُهدى إلى الكعبة، وإلى البيت، حيث أقيمت بوادٍ غير ذي زرع.

{وَالْقَلَائِدَ} : جمع قلادة، والقلادة ما يقلد به الهدي؛ علامة له، وإشعاراً أنه مهداة إلى البيت الحرام، فلا يؤذى، أو يتعرض له.

{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام للبعيد، يشير إلى جعل الكعبة، قياماً للناس، وما ذكر من حرمة الصيد في الإحرام، وحرمة الأشهر الحرم.

{لِتَعْلَمُوا} : اللام: لام التعليل؛ أيْ: جعل كل ذلك، وحقق ذلك، ليدلكم على:{أَنَّ اللَّهَ} : أن: للتوكيد {يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} : أيْ: كل ما يجري في كونه من أفعال وأقوال حلال، أو حرام.

{مَا} : للعاقل، وغير العاقل. ارجع إلى الآية (29) من سورة آل عمران.

{وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : عليم بما يصلح لكم قوام حياتكم، وأمور دِينكم، ودنياكم، وآخرتكم، ولذلك أمركم بها، وكلفكم بالقيام بها لحكمة ما، وليس عبثاً.

ص: 20

سورة المائدة [5: 98]

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{اعْلَمُوا أَنَّ} : علم اليقين؛ للتوكيد.

{اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : لمن انتهك محارمه وخالفه.

{شَدِيدُ الْعِقَابِ} : صفة من صفات الجلال، يقابلها صفتان من صفات الجمال، هي الغفور الرحيم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (211)؛ لبيان معنى العقاب.

{وَأَنَّ اللَّهَ} : أن: للتوكيد.

{غَفُورٌ رَحِيمٌ} : لمن أطاعه، وأمن به، ولم يشرك به.

{غَفُورٌ} : صفة مبالغة، لغافر، كثير الغفر؛ أي: الستر، بمعنى محو الخطايا، مهما عظمت وتعددت إلا الكفر والشرك.

{رَحِيمٌ} : صفة مبالغة، من الرحمة، لا يعجل العقوبة؛ لمن أذنب، لعلَّه يتوب ويرجع؛ أيْ: رحيم بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، رحيم على وزن فعيل؛ أيْ: صفة ثابتة لذاته.

ص: 21

سورة المائدة [5: 99]

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} :

{مَا} : النافية.

{عَلَى} : تفيد العلو والمشقة.

{الرَّسُولِ} : محمد صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الرسل.

{إِلَّا} : أداة حصر فقط.

{الْبَلَاغُ} : البلاغ؛ أي: التبليغ، وليس عليه الهداية، إيصال ما أنزل الله من الآيات، والأحكام، والذكر الحكيم، إلى الناس، وتبيان ما أُنزل إليهم من ربهم.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} : ما: اسم موصول بمعنى الذي {تُبْدُونَ} ، أو مصدرية: ما أبديتم.

{مَا تُبْدُونَ} : تظهرون للعلن.

{وَمَا تَكْتُمُونَ} : تكرار ما؛ يفيد التوكيد، وفصل كلٍّ من الإبداء والكتمان، على حدة، أو كليهما معاً؛ أيْ: ما تسرون، أو تخفون.

والإخفاء أعم من الكتمان، والكتمان غالباً ما يكون بالمعاني.

والإخفاء يكون في الأشياء الحسية والمعاني معاً.

ص: 22

سورة المائدة [5: 100]

{قُلْ لَا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :

أسباب النزول: عن جابر أن رجلاً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الخمر كانت تجارتي، فأخرجت من بيع الخمر مالاً، فهل ينفعني ذلك المال، إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يقبل إلَّا الطيب» . انظر في أسباب النزول للواحدي.

{لَا} : النافية.

{يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} : أيْ: لا يساوي الخبيث الطيب؛ أي: الحلال والحرام، أو الجيد والخبيث مقداراً، ولا إنفاقاً، ولا مصيراً، ولا درجة.

{الْخَبِيثُ} : الحرام، السُّحت، الرِّجس.

{وَالطَّيِّبُ} : الحلال الطاهر.

{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} : لو: هنا شرطية.

والعجب هو السرور؛ أيْ: لا تفرح بـ {الْخَبِيثِ} : لأنه زائل وممحوق البركة، وفائدته باطلة، أو ليس له ثواب، فالطيب القليل، هو أربى، وأفضل من الخبيث الكثير. وفي الآية حث على التأمل في كل شيء لتميز خبثه من طيبه، والعبرة ليست بالكثرة أو الجم أو الكم، وإنما بالكيف والنوع والجودة؛ الطيب والطهارة.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ} : أي: التزموا بالطيب الحلال، واجتنبوا الخبيث الحرام.

{يَاأُولِى الْأَلْبَابِ} : يا أصحاب العقول النيرة، الصفوة؛ الذين هداهم الله الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه.

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : بالعمل، بالطيب، وتجنب الحنث، واتّخاذكم الأسباب الأخرى؛ للفلاح، وتدعون الله، راجين القبول، والنجاة من النار، والفوز بالجنة. ارجع إلى الآية 5 من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 23

سورة المائدة [5: 101]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْـئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْـئَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} :

سبب النزول: قيل: نزلت هذه الآية حينما فرض الله الحج، فقال أحد الصحابة: أكلَّ عامٍ يا رسول الله، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كرَّر السؤال ثلاث مرات، فقال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائل: ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله، لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت، ثم تركتم؛ لضللتم، اسكتوا عني ما سكتُّ عنكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، هذا ما رواه مسلم عن أبي هريرة.

وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه: أفي الجنة أم في النار؟ رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك.

وقيل: نزلت حينما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : نداء إلى الذين آمنوا، بتكليف جديد، والهاء في أيها: للتنبيه.

{لَا تَسْـئَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} : لا: الناهية.

{تَسْـئَلُوا} : أسئلة اللغو؛ أيْ: لا حاجة، ولا داعي للسؤال عنها، لا تسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

{عَنْ أَشْيَاءَ} : سكت عنها القرآن.

{إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} : إن شرطية، تفيد الاحتمال والقلة.

{تُبْدَ لَكُمْ} : أيْ: تظهر لكم الإجابة عنها.

{تَسُؤْكُمْ} : تحزنكم، أو تسيء إليكم، أو لا تعجبكم.

{وَإِنْ} : شرطية.

{تَسْـئَلُوا عَنْهَا} : حين ينزل القرآن، فإن أجيب عنها بفرض، أو إيجاب، أو نهي، أو حكم؛ كان بها؛ أيْ: إن سألتم عن أشياء ضرورية، عندها انتظروا نزول الوحي بالجواب، مثل:{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ، أو المحيض، أو اليتامى، ولا تقولوا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم.

{عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} : أيْ: أمسك الله عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكماً، رحمة بكم، أو لحكمة ما، ولا تقولوا: إن الرسول لا يعلم الإجابة عنها، أو هو ليس نبياً.

وقد تعني: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} : لم يحاسب السائل عليها، أو يؤاخذه على سؤاله، ويفرض عليه كفارة أو عقوبة.

{وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} : غفور: كثير الغفر، أو المغفرة، صيغة مبالغة، يغفر الذنوب جميعاً، مهما كانت كبيرة، أو صغيرة، أو كماً أو نوعاً؛ إلّا الشرك، حتى يتوب العبد.

{حَلِيمٌ} : لا يعجل لكم العقوبة؛ مع قدرته عز وجل على ذلك.

حليم لمن عصاه؛ ينعم على خلقه، كثير الصفح، والأناة.

ص: 24

سورة المائدة [5: 102]

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} :

{قَدْ} : حرف تحقيق؛ يفيد التوكيد.

{سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} : مثل قوم صالح، حينما سألوا عن الناقة؛ كآية، أو معجزة، أو بني إسرائيل حين سألوا عن أوصاف البقرة التي أمروا أن يذبحوها، أو عيسى عليه السلام حينما سألوه أن ينزل عليهم مائدةً من السماء.

{ثُمَّ} : للحال، والتوكيد.

{ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} : أيْ: كانوا يسألون رسلهم، فإذا أخبروهم، أو تحقق ما طلبوه، أصبحوا بسبب عدم تصديقها كافرين، وصفة الكفر ثابتة لهم.

ص: 25

سورة المائدة [5: 103]

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} :

{مَا جَعَلَ} : ما شرع، ما أوجب، ما أمر، ما صير.

والجعل: الجعل: يكون بعد الخلق؛ أي: مرحلة تالية للخلف، وقد يعني: توجيه المخلوق إلى مهمته في الحياة.

فالخلق والجعل لله تعالى وحده، وعلينا أن لا نتدخل في ذلك، فالله سبحانه خلق الخنزير؛ ليأكل القاذورات، فعلى الإنسان ألَّا يُغير هذا الجعل، فلا يحوله إلى غير مهمته، فيذبحه ويأكل لحمه.

مثال آخر: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} : التبني هو إفساد في الجعل.

{مَا} : النافية؛ للعاقل، ولغير العاقل.

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} : من: الاستغراقية.

{بَحِيرَةٍ} : إذا ولدت الناقة خمسة بطون؛ آخرها: أنثى شقوا أذنها شقاً واسعاً؛ يعني: بحروا الناقة، وتركوها، فلا تنحر، ولا يُحمل عليها، ولا تطرد من الماء، أو أي مرعى؛ أيْ: تأكل، وترعى أينما تشاء.

{وَلَا سَائِبَةٍ} : الناقة: التي تُسيب بنذرها للآلهة، ولا يحمل عليها، وترعى حيث تشاء.

{وَصِيلَةٍ} : إذا ولدت ذكراً وأنثى في بطن واحد، فلا يذبحونها، ويقال: وصلت أخاها.

{حَامٍ} : الفحل؛ الذي لقح عشرة أجيال من الإناث، فيقولون: حمى ظهره، فلا يُحمل عليه، ولا يُمنع الماء، والمرعى.

{وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : الافتراء: هو اختلاف الكذب، والكذب في هذه الآية معرف بأل التعريف مقارنة بـ يفترون على الله كذباً: نكره فالكذب في هذه الآية يتعلق بالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.

وكل هذه: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام: هي اختراعات أهل الجاهلية والكفر؛ الذين يفترون على الله الكذب؛ أيْ: يختلقون الكذب، وينسبونه إلى الله، مع أنها مُسخَّرة لخدمة الإنسان؛ ليأكل من لبنها، ويسخِّرها لما يريد، وكيف يشاء، وليس كما زعم الكفار.

{وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} : أكثرهم تعود على الذين كفروا.

{لَا يَعْقِلُونَ} : لا: النافية، يعقلون: يفهمون؛ لأنهم يحلِّلون ويحرِّمون كما يشاؤون من دون علم، ولأنهم يفترون على الله الكذب.

ص: 26

سورة المائدة [5: 104]

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} :

{وَإِذَا} : الواو: عاطفة، إذا: ظرف زمان، متضمن معنى الشرط، يدل على حتمية الحدوث.

{قِيلَ لَهُمْ} : أيْ: للذين أشركوا، ومن هو القائل لا يهم معرفته، والمهم المقولة.

{قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} :

{تَعَالَوْا} : تعني: ارتفعوا؛ أي: التزموا أو اتبعوا ما أنزل الله وإلى الرسول؛ كأنهم انحطوا وانحدروا بقولهم: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} : وتعني: دعونا نبيِّن لكم ما أحلَّ الله تعالى، وما حرَّم، وما أحلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما حرَّم عليكم بدلاً من تقليد آبائكم.

{إِلَى مَا} : ما: اسم موصول؛ أي: الذي أنزل الله في القرآن، من تحليل وتحريم.

{وَإِلَى الرَّسُولِ} : فيما آتاكم به، ونهاكم عنه؛ أيْ: ما حلل وحرم.

أيْ: تعالوا لنبيِّن لكم كذبكم وباطلكم.

قالوا: حسبنا، يكفينا، ولسنا بحاجة إلى غير ما وجدنا عليه آباءنا.

{مَا وَجَدْنَا} : ما: اسم موصول؛ يعني: الذي {وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، ولمقارنة هذه الآية مع الآية (170) في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:{مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . ارجع إلى سورة البقرة الآية (170) للبيان.

{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، توبيخي، والواو: استئنافية، وتقديره: أيكفيكم ذلك، ولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون.

{لَا يَعْلَمُونَ شَيْـئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} : انتبه! إلى أنه وصفهم في الآية السابقة (103) بلا يعقلون، وأما آباؤهم؛ فقد وصفهم بلا يعلمون، ولا يهتدون؛ أيْ: لا علم، ولا هداية.

{لَا يَعْلَمُونَ} : من الدِّين، وما حكمُ الله تعالى؛ أيْ: جميعهم جهلة، و {شَيْـئًا}: نكرة؛ لتشمل أيَّ شيء مهما كان، والشيء: هو أقل القليل.

{وَلَا يَهْتَدُونَ} : إلى ما شرع الله، وإلى الحق، لا هم، ولا آباؤهم.

فهم وآباؤهم: لا يعقلون، ولا يعلمون، ولا يهتدون، ثلاث صفات تدل على الجهل، وعدم الفهم، والضلال.

ص: 27

سورة المائدة [5: 105]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

نداء جديد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} : بتوجيه آخر، ووصية أخرى.

{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} : أيْ: حافظوا على أنفسكم، أو احفظوا أنفسكم، من الوقوع في المعاصي، والشرك.

وألزموا أنفسكم هدايتها، وإصلاحها؛ أيْ: أصلحوا أنفسكم أولاً، وذلك بطاعة الله، وأداء الواجبات، والفرائض، وتطبيق الإسلام.

كذلك احذروا التقليد الأعمى؛ الذي وقع به هؤلاء الذين جاء ذكرهم في الآية السابقة، حينما قلَّدوا آباءَهم.

{لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} :

{إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} : إذا: شرطية، تعني: الحتمية؛ يعني: يجب أن تهتدوا أولاً، ثم يبقى عليكم واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأن الهداية لا تتم حتى تهدوا غيركم إلى ما اهتديتم إليه.

فإذا قمتم بذلك وبيَّنتم لهم طريق الخير، والهدى، والصلاح، وبعدها ضلَّ هؤلاء، فلا يضرُّكم بعد ذلك ضلالهم، وقال أبو بكر رضي الله عنه في تفسير هذه الآية، حينما قام خطيباً، أنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» . رواه الإمام أحمد في المسند، وأصحاب السنن، وابن حبان.

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} : إلى الله: تقديم الجار والمجرور، لفظ الجلالة؛ يدل على الحصر؛ أيْ: إلى الله وحده مرجعكم.

{جَمِيعًا} : توكيد.

{فَيُنَبِّئُكُمْ} : الفاء: استئنافية. ينبئكم: يخبركم في يوم القيامة، أو يطلعكم على صحيفة أعمالكم في الدنيا.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : في الدنيا من خير وشر، وتعملون: تشمل الأقوال، والأعمال.

ص: 28

سورة المائدة [5: 106]

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} :

أسباب النزول: روى البخاري وغيره: «خرج بديل السهمي، مولى عمرو بن العاص مع عدي بن زيد، وتميم بن أوس، وكانا نصرانيين، تجاراً إلى الشام، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض بديل، فكتب وصية بيده، ثم دسَّها في متاعه، وأوصى تميماً وعدياً أن يدفعا متاعه إلى أهله، فلما مات فتحا متاعه، وأخذا إناءً من فضة منقوشاً بالذهب، وقدِما المدينة على أهله، فدفعا متاعه، ففتح أهله متاعه، فوجدا فيها الوصية، ولم يجد أهله إناء الفضة، فسألوهما؛ فأنكرا سرقتهما للإناء، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية مشيرةً إلى ما يجب فعله في هذه الحالة» .

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} : نداء جديد بوصية أخرى: لا تنسوا في لحظة مواجهة الموت الوصية، إن كان مديناً لأحد، أو كان له دَين على أحد، وكذلك إن سافر أحدكم في الأرض؛ فعليه أن يوصي (يكتب وصيته حتى لا يضيع على ورثته حقٌّ لهم، ويسدد ما عليه من دين ويبرئ ذمته.

{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} : إذا: شرطية تفيد الحتمية والكثرة؛ حضر أحدكم الموت: من خصائص القرآن استعمال حضر في سياق الأحكام، والوصايا المتعلقة بالموت، وحضر تعني: شهد أو قارب على الموت، ويستعمل القرآن جاء أو المجيء للأجل، ويستعمل الموت حين نتكلم عن الموت.

{اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} : وأن يشهد على الوصية اثنان من المسلمين، يتصفان بالعدل، والإيمان، والأخلاق لحسنة.

{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ} : أو آخران من غيركم: أيْ: من غير المسلمين.

أيْ: إذا كان مسافراً مع غير أناس مسلمين فأصابته مصيبة الموت؛ فعليه أيضاً أن يشهدهم على الوصية، فلا عذر، ولا بُدَّ من شهادة اثنين مسلمين، أو غير مسلمين، والأفضل أن يكونا ذوي عدل.

{فَأَصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} : أيْ: حضر أحدكمُ الموت: عندها اكتبوا الوصية، وأشهدوا ذوي عدل.

{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} : أيْ: بعد موت الموصي، وترك الوصية: إن حدث شك في صدق الشاهدين؛ أيْ: في شهادتهما أنهما لا يقولان الحقيقة، أو شك في أمانتهما.

{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} : تستدعونهما للقسم بعد الصلاة (أيِّ صلاة)، والقسم في القرآن: يقترن بالصدق، وأما اليمين فينطلق على القسم مقارنة بالخلق الذي يأتي في سياق الكذب أو إضمار الكذب.

{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} : نص القسم هو: أقسم بالله {لَا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} . وانظر كيف أضاف الله الشهادة إليه فقال: (ولا نكتم شهادة الله)؛ لتعظيم خطر الشهادة حين القسم بها.

{إِنَّا إِذًا لَمِنَ} : اللام: للتوكيد.

{الْآثِمِينَ} : جمع آثم: ارجع إلى سورة الأعراف، آية (33)؛ لبيان معنى الإثم.

ص: 29

سورة المائدة [5: 108]

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يشير إلى الحكم، أو الذي تم فيه ردُّ اليمين على الورثة.

{أَدْنَى} : أقرب.

{أَنْ} : للتوكيد.

{يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} : من دون تحريف، أو خيانة. ويقال جاء بالشيء الفلاني على وجهه؛ أي: أحسنه أو أكمله، واستفيد اسم الوجه ليدل على كمال الشيء؛ أي: كمال الشهادة تشبيهاً بوجه الإنسان الذي يعرف به.

{أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} :

{أَوْ يَخَافُوا} : تعود على {ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ؛ أيْ: عليهما أن يعلما أن أولياء الميت يمكن أن ترد أيمانهم؛ أي: لا تُقبل فيخافوا أن ترد أيمانهم، وتنكشف، أو تظهر فضيحتهم إذا خانوا، أو كذبوا.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : بعدم الخيانة، والكذب، وإياكم واليمين الغموس، وأطيعوا أوامر الله، وتجنبوا نواهيه.

{وَاسْمَعُوا} : لأوامره، ونواهيه، وما يوصي به إياكم.

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} : والله لا يهدي هؤلاء الذين خرجوا عن طاعة الله، وساروا على طريق الفسق، واستمروا عليه؛ حتى أصبحوا من الفاسقين (جملة اسمية)؛ تفيد ثبوت صفة الفسق عندهم، ولم يقل: الذين فسقوا (جملة فعلية)؛ تدل على التجدُّد، أو التكرار، وليس الثبوت.

ص: 31

سورة المائدة [5: 109]

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} : يوم الحساب، يوم القيامة، والرسل هم الأنبياء والرسل.

{فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} : أيْ: ماذا كانت إجابة أممكم لكم؟

{مَاذَا} : استفهام للتقرير، أكثر توكيداً مما لو قال: ما أجبتم. وانظر إلى قوله تعالى (يوم الجمع) فيقول ماذا أجبتم بصيغة المضارع، وهذا سيكون يوم القيامة، ثم جاء بصيغة الماضي بقولهم (لا علم لنا) رغم أنه لم يقع بعد ليدلنا على تأكيد وقوعه وكأنه حصل أو وقع، والله سبحانه خالق الزمان فالكل متساوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل.

{قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} : يا لها من إجابة دقيقة! لا علم لنا! على الرغم من أنهم يعلمون أن هناك قسماً من الناس، استجابوا لدعوتهم، أو كثيراً لم يستجب، ولكون الرسل غير مطلعين على نوايا القلوب والسرائر، وإن كانوا يعلمون ظواهر الأمور، ولكنهم لا يعلمون ماذا حدث لمن آمن أو كفر من هؤلاء الذين استجابوا لهم، بعد موت الرسل.

ولذلك أجابوا: إنك أنت علام الغيوب، وهذا يعتبر قمة الأدب، والحكمة، والأمانة؛ لأنهم لا علم لهم بما حدث بعد موتهم.

{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :

{إِنَّكَ} : تفيد التوكيد.

{أَنْتَ} : تفيد الحصر.

لأنك أنت وحدك: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} : علام: صيغة مبالغة، علام ما غاب عن العباد، ما غاب عن عيونهم وحواسهم، الغيب: مصدر غاب يغيب، ويشمل علم الآخرة، وعلم البرزخ، والجنة والنار، وردت علام الغيوب في أربع آيات في سورة المائدة، آية (109)، وآية (116)، وسورة سبأ، آية (48)، وسورة التوبة، آية (78). ارجع إلى سورة التوبة، آية (78)؛ لمزيد من البيان.

ص: 32

سورة المائدة [5: 110]

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

المناسبة: بعد سؤال الرسل: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} ، وردهم:{لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} .

ينتقل -جل وعلا- ليسأل عيسى ابن مريم عليه السلام من بين الرسل كافة، سؤالاً خاصاً به وبأمه، وهذا الحدث، والأسئلة يوم القيامة، وفي أرض المحشر، وإذا انتبهنا إلى كلام الله سبحانه؛ سنجده بصيغة الماضي، ويوم القيامة في المستقبل!

لأن الزمن بالنسبة إليه عز وجل واحد، سواء أكان في الماضي، أم الحاضر، أم المستقبل؛ فهو خالق الزمن، وله الخيرة في اختيار أي زمن، أو جاء بصيغة الماضي؛ كأنه حدث وانتهى.

قبل السؤال الخاص عن: كيف اتخذوا عيسى وأمه عليه السلام إلهين، يبدأ يسرد بعض النِّعم الخاصَّة بعيسى وأمه عليه السلام .

ويبدأ عز وجل بذكر تأييده بروح القدس؛ أيْ: بجبريل عليه السلام .

والتأييد؛ يعني: (قوَّيناك)، والتأييد: مأخوذ من اليد، وبما أن اليد هي آلة القوة، والدفاع عن النفس {بِرُوحِ الْقُدُسِ}: اسم لجبريل عليه السلام ؛ لطهارته، والقدس: هو الله سبحانه، وإضافة القدس للروح هي للتشريف فقط، مثل القول:{نَاقَةُ اللَّهِ} ، وسمِّي (روحاً): لأن المنهج الذي حمل للرسل هو حياة للنفوس، فقد سمِّي جبريل بالروح، كما سمِّي القرآن روحاً؛ كقوله:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].

{تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلًا} : تكلم الناس في المهد؛ كمعجزة خارقة حين قلت للناس: {إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30-31].

{وَكَهْلًا} : تدعوهم إلى الإيمان حين تكون كهلاً. ارجع إلى سورة آل عمران، الآية (46)؛ لمزيد من البيان.

{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ} : وإذ، تعني: واذكر.

{الْكِتَابَ} : الكتابة، والخط.

{وَالْحِكْمَةَ} : فقه الأحكام، والشريعة، والدِّين.

{وَالتَّوْرَاةَ} : كتاب موسى عليه السلام .

{وَالْإِنجِيلَ} : الكتاب الذي أُنزل عليك.

{وَإِذْ} : واذكر: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْـئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِى} : ارجع إلى سورة آل عمران، الآية (49)؛ للمقارنة بين فتنفخ فيه وتنفخ فيها.

النفخ: في آية المائدة هنا يعود إلى الهيئة، ولذلك أنث، وجاء بكلمة {فِيهَا} .

والمعجزة: ليست في تشكيل الطير؛ كطير، وكهيئة، وإنما في تحول الطير الجامد إلى طير يطير بجناحيه.

وذكر كلمة {بِإِذْنِى} أربع مرات؛ للتوكيد أنه -جل وعلا- : هو الذي قام بذلك، وليس عسى عليه السلام .

{وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِى} : تشفي الأكمه: وهو الذي يولد أعمى؛ العمى الجنيني، والأبرص: وهو مرض فقدان الجلد للون البشرة، فيصبح مصاباً ببقع بيضاء متناثرة؛ بسبب نقص هرمون الملانيين.

{وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِى} :

واذكر: {وَإِذْ تُخْرِجُ} : أيْ: تحيي الموتى بإذني (بإذن الله -جل وعلا- ).

{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .

{وَإِذْ} : واذكر {وَإِذْ كَفَفْتُ} : منعت وصرفت.

{بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنْكَ} : حينما همُّوا بقتلك برفعك إلي.

{إِذْ} : ظرف زمان للماضي.

{جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ} : المعجزات التي ذكرت سابقاً.

{فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الفاء: استئنافية؛ الذين كفروا من بني إسرائيل.

{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : إن: حرف نفي؛ أيْ: ما هذا، والنفي: بـ (إن) أقوى من النفي: بـ (ما).

{إِلَّا} : أداة حصر.

{سِحْرٌ مُبِينٌ} : سحر واضح، لا يخفى على أيِّ إنسانٍ، والسحر نفسه واضح وبيِّن، وفي قراءة أخرى قالوا:(إن هذا إلا ساحر مبين)؛ أيْ: عيسى عليه السلام ، ساحر، وما جاء به السحر؛ لتعريف السحر: ارجع إلى سورة البقرة، آية (102)، وسورة طه، آية (58). ووصف ما جاء به عيسى بالسحر يعني أن عيسى عليه السلام ساحر وحكم الساحر في شريعة بني إسرائيل أن يقتل؛ إذ أن السحر عندهم كفر.

واتَّهموه بالسحر لما رأوا من تأثيره القوي في النفوس، وكانوا يظنون أن كل فعل غريب خارق للعادة سحراً، والحقيقة: هو ليس سحراً، بل هو حقيقة.

ص: 33

سورة المائدة [5: 111]

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ أَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} :

واذكر {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ} : الوحي: هو إعلام بخفاء؛ أيْ: ألهمتهم أن يؤمنوا بي وبرسولي عليه السلام ؛ أيْ: ألقى في قلوبهم خواطر الإيمان؛ أيْ: إلهام قلبي. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ للبيان.

{بِى وَبِرَسُولِى} : الباء: للإلصاق، والتأكيد.

{قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} : قالوا؛ أي: الحواريون، آمنا: بألوهيَّتك، وربوبيَّتك، ووحدانيَّتك، بأننا: فيها تأكيد بنون النسوة.

ولنلاحظ الاختلاف بين قولهم.

{وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} : في هذه الآية، وقولهم في سورة آل عمران الآية (52):{وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} : ارجع إلى الآية (52) من سورة آل عمران؛ لمعرفة التباين.

ص: 34

سورة المائدة [5: 112]

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} :

{إِذْ} : أيْ: واذكر إذ قال الحواريون، أو حين قال الحواريون.

{الْحَوَارِيُّونَ} : ارجع إلى سورة آل عمران، الآية (52)؛ لبيان معنى الحواريين.

{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} : يا: النداء للبعد.

{يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} : نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا رسول الله، أو: يا نبي الله، نداء خال من التوقير والاحترام؛ لأن القاعدة هي حين ينادي الأدنى الأعلى باسمه؛ هذا يدل على قلة احترام.

{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} : هل: للاستفهام، أقوى وأكد من الاستفهام بالهمزة.

انتبه! إلى قولهم: قالوا: ربك، ولم يقولوا: ربنا، فهذا يدل على أنهم يعتبرون عيسى أقرب إلى الله منهم.

{أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} : الحواريون آمنوا سابقاً، وقالوا:{وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ، وأشهدوا الله كذلك بقولهم: أننا مسلمون؛ أيْ: موحِّدون.

فهم لا يشكون بأن الله قادر على إنزال مائدة، ولكن السؤال هنا معناه: هل يستجيب لنا ربك؟ هم يسألون كما سأل إبراهيم عليه السلام ؛ إذ قال: {رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى} ؛ أيْ: أراد رؤية الكيفية، وعملية إحياء الموتى، وهو لا يشك بقدرة الله أبداً على الإحياء.

{قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} : قال عيسى عليه السلام للحواريين: {اتَّقُوا اللَّهَ} : أطيعوا الله، وامتثلوا أوامره، وتجنبوا نواهيه؛ أفضل لكم.

{إِنْ} : شرطية.

أو {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : بقدرة الله؛ فاتقوا الله؛ أيْ: لا تسألوا مثل هذا السؤال.

ص: 35

سورة المائدة [5: 113]

{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} :

{قَالُوا} : معلِّلين سؤالهم.

{نُرِيدُ أَنْ} : حرف مصدري؛ تفيد التعليل؛ للأكل منها، فنحن بحاجة إلى الطعام.

{وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} : تزداد قلوبنا يقيناً.

{وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} : بأنك رسول الله، علم اليقين نشهد أنها نزلت من السماء.

{وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} : نخبر بني إسرائيل؛ الذين لم يشهدوا نزول المائدة من السماء إذا رجعنا إليهم، أو شاهدين لك بالنبوَّة، وشاهدين لله بالوحدانية والقدرة، وشاهدين: تدل على الثبوت، وفيها مبالغة مقارنة بقوله: من الشهداء؛ لأنها جملة اسمية.

ص: 36

سورة المائدة [5: 114]

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} :

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} : ولم يقل: اللهم ربي، ولم يستعمل ياء النداء؛ يا ربنا؛ للدلالة عن شعوره بقربه من الله، بل قال: اللهم ربنا؛ أيْ: راح يصحِّح ما قاله الحواريون؛ إذ قالوا: هل يستطيع ربك، فقد دعا بالألوهية، والربوبية معاً، بقوله: اللهم ربنا؛ أي: جمع بين الإلوهية والربوبية استعطافاً لله ليجيب دعاءهم.

وهذا يدل على كمال الإيمان في قلب عيسى عليه السلام ، مقارنة بإيمان هؤلاء الحواريين الناقص.

{أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} : قدَّم الجار والمجرور؛ أيْ: علينا خاصَّة؛ للقصر والحصر.

{تَكُونُ لَنَا عِيدًا} : أيْ: يكون اليوم الذي أنزلت فيه المائدة عيداً لنا نعظمه، نحن ومن بعدنا، وقيل: نزلت يوم الأحد، ثم اتخذه النصارى عيداً؛ أيْ: مجمعاً لهم؛ كيوم الجمعة بالنسبة للمسلمين، وكلمة العيد؛ أي: الذي يعود ويتكرر.

{لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} : أيْ: أولنا من جاء أولاً، وآخرنا لمن جاء بعدنا.

{وَآيَةً مِنْكَ} : معجزة منك؛ دالة على عظمتك وقدرتك.

{وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} : استعمل عيسى عليه السلام بدلاً من الطعام الرزق؛ لأن الرزق كلمة عامة، تشمل: الطعام، والشراب، والمال، والعلم، والأخلاق، وكلُّ شيء، ينتفع به هو رزق.

{وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} : أنت: ضمير منفصل؛ يدل على القصر والتأكيد.

ص: 37

سورة المائدة [5: 115]

{قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} :

{قَالَ اللَّهُ إِنِّى} : نون الإفراد؛ للدلالة على الوحدانية.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ} : من: شرطية للعاقل، وتشمل: المفرد، والجمع، يكفر بعد: أيْ: من بعد نزول المائدة.

{مِنكُمْ} : أنتم خاصَّة، وليس غيركم؛ لأنهم هم الذي سألوا ذلك.

{فَإِنِّى} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، وهي للتوكيد.

{أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} :

ففي هذه الآية تهديد ووعيد، بأشد العذاب؛ لأهل المائدة إن كفروا بعد نزولها.

وبسبب هذا التهديد قال بعض المفسرين: لم تنزل، وبعضهم قالوا: نزلت، والروايات ترجِّح أنها نزلت.

ص: 38

سورة المائدة [5: 116]

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :

{وَإِذْ} : واذكر حين قال الله: يا عيسى ابن مريم، هذا المشهد مشهد يوم القيامة، وبدلاً من سيقول، {قَالَ} ؛ لأن الزمن عند الله الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل كله واحد؛ لأنه سبحانه خالق الزمان، والمكان، وقوله:{قَالَ} بالماضي: يدل كأنه حدث.

{أَأَنْتَ} : الهمزة: همزة استفهام تقريري.

{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَهَيْنِ} : والله سبحانه يعلم أن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك، وإنما قال ذلك أتباعه، قالوا: اتخذوا عيسى وأمه إلهين، ونسبوه إلى عيسى عليه السلام ؛ افتراءً على عيسى، فالله سبحانه يريد أن يبرِّئَ عيسى يوم القيامة من كذبهم.

{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} :

{قَالَ} : عيسى: {سُبْحَانَكَ} : انظر كيف نزه عيسى عليه السلام ربه أولاً قائلاً سبحانك فهو لا يطيق سماع الشرك بالله قبل أن ينزه نفسه مما قالوا. ثانياً: قوله سبحانه تنزيه الله أولاً أهم من تنزيه عيسى لنفسه تنزيهاً لك؛ أيْ: أنزهك تنزيهاً عما لا يليق بك؛ من الشريك، والولد، والندِّ، والمثيل.

{مَا} : النافية.

{يَكُونُ لِى} : يحق لي، أو ينبغي لي.

{أَنْ} : للتوكيد.

{أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ} : أي: اتخذوني إلهاً، وأمي.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال.

{كُنْتُ} : قلته؛ فقد علمته.

{تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} : أيْ: تعلم ما في نفسي؛ أيْ: تعلم ما أخفيه، وتعلم قولي، وعملي، والنفس تعني: الذات.

{وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} : ذاتك المنزَّهة عن كل تشبيه، وتعطيل، وأن تكون نفساً كنفوس البشر.

{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} :

{عَلَّامُ} : صيغة مبالغة: من علم، تعلم غيب خلقك، وغيب كونك، وكل ما يغيب عن العيون، والحواس. ارجع إلى الآية (109) من نفس السورة، والآية (78) من سورة التوبة لمزيد من البيان.

ص: 39

سورة المائدة [5: 117]

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} :

{مَا} : النافية.

{مَا قُلْتُ لَهُمْ} : إلا حصراً {مَا} : الذي أمرتني به.

{أَنِ} : للتوكيد.

{اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى} : وربكم؛ أيْ: وحدوا ربي وربكم، وأخلصوا له العبادة.

{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} :

{شَهِيدًا} : من شهد، أو شاهد، أو علم، أو عاين، الشهيد: من شاهد وعاين؛ لفترة معينة ومحدودة، والشهيد: لا يمتد علمه وشهادته إلى الذات الداخلية والنية، كما هي شهادة الله سبحانه؛ الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.

أما البشر، أو عيسى عليه السلام حين يكون شهيداً عليهم؛ فشهادته محدودة مدَّة بقائه بينهم، والإنسان يكون شهيداً لحادثة معينة، أو فترة ما، بينما الله سبحانه شهادته ليلاً ونهاراً في كل ثانية، ورقابته مطلقة غير محدودة بفترة معينة؛ من خلق آدم إلى آخر فرد يُخلق، وتمتد شهادته إلى يوم القيامة.

{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: عاطفة. لما: ظرفية زمانية؛ أيْ: حين.

{تَوَفَّيْتَنِى} : رفعتني إلى السماء، والتوفِّي: هو أخذ الشيء وافياً كاملاً: بالجسد، والروح، والنفس.

وجاء ذلك في قوله: {يَاعِيسَى إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55].

{كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} : المراقب لأعمالهم، الشاهد عليهم، والحفيظ، والرقابة مطلقة، وأقوى من الشهادة.

الرقيب: من رقب، والمراقب الحارس، والناظر عن قصد، ولا تفوته حركة من الحركات.

و {أَنْتَ} : تفيد توكيد القصر الحقيقي، على أن الله سبحانه هو الرقيب الحقيقي، وليس غيره.

{وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} : تكرار {وَأَنْتَ} : للتوكيد، والقصر الحقيقي، أن الشهيد الحقيقي هو الله، وليس غيره؛ لأن شهادته لا تنتهي على مر العصور، ومطلقة، وسواء أكان الله سبحانه رقيباً، أو شهيداً، فشهادته ورقابته مطلقة، وتمتد إلى كل ذات، وكل نفس. ارجع إلى سورة البقرة الآية (133) لمزيد من البيان في معنى الشهيد والشاهد.

ص: 40

سورة المائدة [5: 118]

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

{إِنْ} : شرطية.

{فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} : فهذا حقك؛ لأنهم أخطؤوا؛ أشركوا.

{عِبَادُكَ} : الكل في الآخرة عباد، لم يعد هناك طاعات؛ ليقول: عباد وعبيد، ولم يقل: إنك أنت الغفور الرحيم؛ لأنهم أشركوا، فعيسى عليه السلام لا يضمن لهم المغفرة، أو الشفاعة.

{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، تغفر لهم: تستر وتمحو خطاياهم، وذنوبهم، ولا تعاقبهم عليها.

{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : أنت: ضمير منفصل، وتوكيد، وحصر، على أن الله وحده:{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

{الْعَزِيزُ} : الذي لا يغلب، ولا يُقهر، والممتنع ليس بحاجة إلى أحدٍ من خلقه.

{الْحَكِيمُ} : المدبر لشؤون خلقه؛ بالحكمة المطلقة، لا يثيب، ولا يعاقب؛ إلا عن حكمة، والحكيم من الحكم، أو الحكمة، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (129)؛ لمزيد من البيان.

لنقارن قول إبراهيم عليه السلام ، وقول عيسى عليه السلام :

في سورة إبراهيم، الآية (36) قال:{وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

جاءت هذه الآية في سياق الفتنة بالأصنام.

وفي سورة المائدة، الآية (118):{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :

جاءت هذه الآية في سياق فتنة عيسى وأمه عليه السلام ، اتخذوني وأمي إلهين.

والفتنة بالأصنام أقل فتنة بعيسى وأمه، ولذلك اختلفت نهاية الآيات.

ص: 41

سورة المائدة [5: 119]

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} :

{قَالَ اللَّهُ هَذَا} : هذا: الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقريب؛ أيْ: هذا يوم القيامة.

{يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} : صدقهم في الدنيا، ينفعهم في يوم الجزاء.

{الصَّادِقِينَ} : كعيسى ابن مريم عليه السلام ، وأمه الصدِّيقة، والذين صدقوا الله بإيمانهم، فعبدوه، ولم يشركوا به.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : جناتٌ مثل جنات عدن، أو الخلد، أو جنات النعيم، أو الفردوس.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : أيْ: تنبع من تحتها الأنهار.

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} : الخلود: استمرار البقاء من وقت مبتدأ؛ من بداية دخولهم إلى ما لا نهاية له، أبداً: تفييد التوكيد على الخلود.

{رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ} : بطاعتهم، وإيمانهم.

{وَرَضُوا عَنْهُ} : بثوابه، وجزائه، وإحسانه.

{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : ذلك: اسم إشارة، واللام: للبعد.

{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : هو أعظم أنواع الفوز، ويعني: الفوز بالجنة، ورضوان الله، والنجاة من النار. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لبيان أنواع الفوز ودرجاته.

ص: 42

سورة المائدة [5: 120]

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} : لله: اللام: لام الاختصاص، الملك: الحكم، والقضاء في السموات والأرض، وما بينهنَّ لله وحده سبحانه.

{لِلَّهِ} : جار ومجرور، اسم الجلالة، تقديمه يدل على الحصر، فقط لله سبحانه؛ فهو الحاكم، والمالك، والمدبِّر، والمصرف.

{وَمَا فِيهِنَّ} : ما: تشمل الأجناس كلها: الملائكة، والإنس، والجن. ما: للعاقل، وغير العاقل.

{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : وهو: ضمير منفصل؛ يدل على التوكيد، والحصر. ارجع إلى سورة البقرة، آية (20)؛ للبيان.

ص: 43

سورة الأنعام [6: 1]

سورة الأنعام

ترتيبها في القرآن (6)، وفي النزول (55)، نزلت بعد سورة الحجر.

مقدِّمة:

رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة ليلاً بمكة، وحولها (70) ألف ملك يجأرون بالتسبيح.

وقيل: بعض آياتها القليلة مدنية.

تهتم بأصول العقيدة، والإيمان، والبعث، والجزاء، وإثبات الألوهية، والوحدانية له تعالى، والوحي، ومحاجة إبراهيم لقومه، ومفاتح الغيب، والوصايا العشر، وغيرها.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} :

بدأت هذه السورة بالحمد لله، ولتعلم أن هناك خمسَ سورٍ في القرآن؛ بدأت بالحمد لله، وهي:

1 -

سورة الفاتحة.

2 -

سورة الأنعام.

3 -

سورة الكهف.

4 -

سورة سبأ.

5 -

سورة فاطر.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : اللام: في لله: لام الاستحقاق. له الثناء والجلال على نعمه علينا وعلى الناس باللسان وبالطاعة.

(ال) التعريف في الحمد: تفيد الاستغراق لكل المحامد.

المحمود على وجه الإطلاق حمداً مستمراً، غير مقيد بزمن، وسواء أأنعم أم لم ينعم عز وجل .

و {الْحَمْدُ لِلَّهِ} : جملة اسمية؛ تدل على ثبات الحمد لله، واستمراره، منذ الأزل. ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (3)؛ لمزيد من البيان.

{الَّذِى خَلَقَ} : الذي اسم موصول يفيد التعظيم.

{خَلَقَ} : الخلق: هو الإيجاد ابتداءً، ويعني: التقدير، والتسوية، والحساب.

والخلق: إذا نسب إلى الله هو الإيجاد من العدم على مثال غير سابق.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : خلق السموات والأرض؛ من أعظم المخلوقات بعد خلق العرش، وأعظم من خلق الإنسان، كما قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]. ارجع إلى سورة البقرة، آية (22)، والآية (29)، والأعراف، آية (54)، وسورة فصلت (9-12)؛ للبيان العلمي المفصل لخلق السموات والأرض.

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} : الجعل: يأتي بعد الخلق، أو يلي الخلق.

والجعل: إيجاد شيء من شيء، والخلق: أعم من الجعل، أو الجعل قد يحمل معانيَ كثيرة؛ منها: الصنع، والتبديل، والاعتقاد، والظن، والتغيير.

الخلق: لا يتعلق بشيء آخر، أما الجعل فيكون متعلق بشيء آخر، فالله سبحانه خلق السموات والأرض، وبعد ذلك جعل الظلمات والنور.

{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} : الظلمات: جمع ظلمة ويقصد بها في هذه الآية الظلمات الحسية، والأصل في الكون هو الظلمة، وهي أسبق في الوجود من النور، والظلمات: جمع؛ تشمل ظلمات الكون، والبر، وظلمات البحر، وظلمة الليل، وظلمة القبر، وهناك الظلمات الفكرية والاعتقادية كظلمة الكفر والشرك والجهل والنفاق

وغيرها.

{وَالنُّورَ} : النور الحسي واحد، وهو الذي يمحو الظلام. ارجع إلى سورة يونس، آية (67) للبيان، وهناك فرق بين النور والضياء؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (17) للبيان، وهناك النور الذي يمثل نور الإيمان والقرآن والإسلام وهو نور واحد.

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : ثم: تفيد الاستبعاد؛ أيْ: من المستبعد بعد كل هذا الخلق، والجعل من الله؛ ينحرف، وينصرف الذين كفروا؛ أي: يشركون به إلى عبادة غيره، ويجعلون له عدلاً مساوياً له في العبادة والدعاء.

{بِرَبِّهِمْ} : الباء: للإلصاق، والرب: يعني: المربي، والرزاق، والمدبر، والخالق، والمقيت.

{يَعْدِلُونَ} : من الفعل عدل، ويعني: الميل عن الحق والصواب، والانحراف مع الهوى، والعدل يعني: المساواة والحكم بالعدل، فهذا الفعل عدل من أفعال التضاد، ويفهم المعنى من سياق الآيات؛ أي: يميلون عن عبادة الإله الحق إلى غيره.

وذكر كلمة بربهم رغم كونهم لا يستحقون إضافة كلمة الرب إليهم؛ فهو ما زال خالقهم، ومربيهم، ورازقهم.

وكلمة {يَعْدِلُونَ} : ذكرت في القرآن في خمسة مواضع:

1 -

سورة الأنعام، آية (1):{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

2 -

سورة الأنعام، آية (150):{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .

3 -

سورة الأعراف، الآية (159):{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .

4 -

سورة الأعراف، آية (181):{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .

5 -

سورة النمل، آية (60):{أَءِلَاهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} .

ص: 44

سورة الأنعام [6: 2]

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} :

{هُوَ} : هو ضمير منفصل؛ يفيد معنى الحصر.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التوكيد؛ أيْ: هو الوحيد القادر على أن يخلقكم من طين، ولا يوجد غيره عز وجل يخلق مثل هذا الخلق.

{مِنْ} : للابتداء.

{طِينٍ} : أيْ: خلق آدم من طين، وخلقكم من آدم، والسؤال هنا: كيف تحول الطين إلى بشر، فالجنين يتغذَّى من دم الأم، والدم مستمد من الغذاء الطعام والشراب، وغذائها وشرابها مستمد من تراب الأرض، فكل هذه الخضار والثمار واللحوم والألبان تستمد غذائها من الأرض وتربتها، فجسم الإنسان فيه أكثر من (17) معدن من معادن الأرض، فالإنسان خلق من تراب، وبعد الموت يفنى يتحول إلى تراب مرة أخرى. ارجع إلى سورة الروم، آية (20)؛ لمزيد من البيان، وسورة الحجر آية (26) لبيان مراحل خلق آدم.

{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} : ثم: للتراخي في الزمن، بين الخلق والموت.

{قَضَى} : حكم، وحدّد لكم {أَجَلًا}: تموتون عند انتهائه، والأجل هو الوقت المحدد، أو المضروب؛ لانقضاء الشيء، وأجل الإنسان هو الوقت؛ لانقضاء عمره.

{وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} : يوم القيامة.

{ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} : ثم: حرف عطف؛ تفيد الاستبعاد؛ أيْ: إنكم تشكُّون في البعث، بعد هذه الدلائل، والخلق من طين والموت، وتمترون: من المرية، وهي التردد في الأمر، والمرية: مأخوذة من مري الناقة، يَمْريها، إذا مسح ضرعها للدرّ؛ لاستخراج اللبن بعد أن انتهى من حلبها؛ لأنه يشك لا زال فيها لبن يمكن استخراجه.

أيْ: أنتم تمترون بالبعث والحساب، والمراء: هو الجدال بالباطل بعد ظهور وتبيَّن الحق من هذه الآيات، والدلائل على أنه سبحانه الخالق، وأنه الإله الواحد الذي يجب أن يُعبد ويطاع أمره.

ص: 45

سورة الأنعام [6: 3]

{وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} :

{وَهُوَ اللَّهُ} : هو: للتوكيد، الإله المعبود، والمدبر، والحاكم، والمالك للسموات، والأرض، والمسيطر عليهن.

{اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الْأَرْضِ} : في: ظرفية؛ السموات وفي الأرض: تكرار (في) تفيد فصل السموات عن الأرض؛ أي: كل على حده، وكلاهما معاً في السموات، وفي الأرض بعلمه وقدرته.

{اللَّهُ} : الاسم الدال على ذات الله العليا. ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (1).

{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} : السر: هو إخفاء الشيء في النفس فلا يطلع عليه أحد ويعلم نواياكم، وما يدور في خواطركم، وما تخفونه، وتكتمونه، وتسرونه؛ من أفعال، وأقوال.

{وَجَهْرَكُمْ} : ما تقولونه في العلن، والجهر: يعني: رفع الصوت.

{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} : إعادة، وتكرار، يعلم: للتوكيد.

{مَا} : اسم موصول؛ أي: الذي تكسبون من حسنات، وسيئات، ورزق، وأموال، وذنوب، وخطايا.

ص: 46

سورة الأنعام [6: 4]

{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} :

{وَمَا تَأْتِيهِم} : الواو: استئنافية، وما: نافية. تأتيهم: أيْ: كفار قريش.

{مِّنْ} : للابتداء، والاستغراق.

{آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} : آية من آيات القرآن، أو معجزة، أو آية كونية.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} : معرضين: جمع معرض: والمعرض هو التارك والمبتعد. أيْ: كانوا مبتعدين عنها، وغير مهتمين، غير مصدِّقين بها، والتولي أشد من الإعراض.

ص: 47

سورة الأنعام [6: 5]

{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{فَقَدْ} : الفاء: للتحقيق، والتوكيد.

{كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق، والتأكيد، الحق: هو الأمر الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي لا يكون غيره، ويتمثل بالوحي (القرآن) والإسلام.

{لَمَّا جَاءَهُمْ} : لما: ظرفية زمانية.

{فَسَوْفَ} : الفاء: للتوكيد. سوف: أداة للاستقبال، وتدل على التراخي في الزمن؛ أيْ: حينما {يَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .

إذنْ: هناك ثلاث مراحل:

1 -

الإعراض عن الدِّين الصراط المستقيم.

2 -

التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن، والآيات.

3 -

الاستهزاء بالله، وآياته، ورسوله، والاستهزاء: هو التصغير، والتحقير، والعيب من الشيء، أو الآخر.

والغاية واحدة، وهي رفضهم للدخول، أو قبول الإسلام.

لنقارن بين الآيتين:

سورة الأنعام، الآية (5):{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .

سورة الشعراء، الآية (6):{فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} .

في آية سورة الأنعام: استعمل (سوف)؛ كونها أبعد في الاستقبال من السين؛ أيْ: سوف نؤخِّر عنهم العذاب ليوم القيامة، وهذه الآية جاءت في سياق عموم الكافرين.

أما الآية من سورة الشعراء؛ فاستعمل السين مبنية على تعجيل العقوبة لقريش؛ فهؤلاء سنعجل لهم العقوبة في الدنيا؛ بسبب إعراضهم، وتكذيبهم.

{أَنبَاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : أي: سوف يعلمون عاقبة استهزائهم يوم القيامة، ولبيان معنى الاستهزاء؛ ارجع إلى الآية (10) في نفس السورة.

ص: 48

سورة الأنعام [6: 6]

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِم مِنْ قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} :

{أَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام، والتعجب، ألم مقارنة بـ (أولم) ألم: تدل على القلة، وأولم: تدل على الكثرة، كذلك زيادة الواو في أولم تدل على شدة الإنكار؛ أي: الآية فيها توكيد وإنكار أشد من (ألم).

{كَمْ} : خبرية؛ تفيد العدد الكثير، أو الكبير من القرون المهلكة.

{مِنْ قَبْلِهِم} : من: الابتدائية، الاستغراقية، وتدل على القرب، وتعني: الذين جاؤوا مباشرة من القرون قبل قريش.

{مِنْ قَرْنٍ} : القرن: اسم أهل كل عصر، فهو بمعنى جماعة من الناس يعيشون معاً في مدة من الزمن؛ لاقترانهم في زمن معين، أو القرن؛ وهو مئة سنة.

{مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ} : أيْ: أعطيناهم القوة، والسلطان، والسعة، والمال، وكل مستويات التمكين، ويشمل الأمن، والرخاء، ورغد العيش، والقدرة على إقامة شعائر الدِّين، والحرية.

{مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَّكُمْ} : ما لم نعطِكم، ونمدَّكم به، أو نزوِّدكم به.

{وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} :

{وَأَرْسَلْنَا} : أيْ: أنزلنا المطر عليهم، وأرسلنا: تعني باستمرار وكثرة، وأنزلنا: تعني القلة.

وعبَّر عن المطر بالسماء، وتعريف السماء: كل ما علاك، ومنها: السحاب.

{مِّدْرَارًا} : يدل على الكثرة، ويدلُّ على الرحمة، وليس العذاب، ومدراراً: من الدر؛ أيْ: سيلان اللبن بكثرة، ثم استعير للمطر الغزير، المتتابع.

{وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمْ} : دلالة على كثرة الأنهار، وبناء الجسور، فتجري الأنهار من تحتهم، وتعني: سعة العيش، والرفاهية.

{فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} : الفاء: للتعقيب، والترتيب، أهلكناهم، الهلاك يعني: العذاب والموت بكفرهم، ومعاصيهم، وتكذيبهم لرسلنا، وما جاؤوهم به من الآيات. ارجع إلى سورة الحج، آية (45)؛ لبيان معنى الهلاك، وسورة الأعراف آية (4).

{وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} : الإنشاء؛ يعني: إحداث جيل بعد جيل، أو نخلق قوماً غيرهم، فلا يكونوا أمثالهم.

{مِنْ بَعْدِهِمْ} : من: تعني: مباشرة بعدهم، من دون فاصل زمني.

{قَرْنًا آخَرِينَ} : جماعة من الناس غيرهم، يعيشون معاً في مئة عام.

ص: 49

سورة الأنعام [6: 7]

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} :

{وَلَوْ} : الواو: استئنافية، لو: شرطية.

{نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا} : كما اقترح مشركو مكة أن يُنزل عليهم كتاباً؛ من عند الله حتى يؤمنوا بأنك رسوله، والقرآن حق؛ أيْ: ولو استجبنا لطلبهم، ونزلنا عليك كتاباً في قرطاس؛ أيْ: مكتوب في صحائف الورق، نزلنا مقارنة بأنزلنا؛ نزلنا: تعني منجماً على دفعات؛ أنزلنا: أي: جملة واحدة، ونزلنا: تأتي في سياق التوكيد والاهتمام، وفي سياق الخاص، وأنزل: في سياق العام.

{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : رأوه بأعينهم، وشعروا به بأيديهم أنه حق. اللام: في كلمة لقال: لام التوكيد.

قال: {الَّذِينَ كَفَرُوا} : من أهل مكة.

{إِنْ} : حرف نفي، وتوكيد.

{هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} : أيْ: ما هذا إلَّا سحر مبين، سحر واضح بنفسه، وكل واحد يقرؤه، يعلم أنه سحر، وهو سحر، لا يحتاج إلى برهان. (إن): أقوى في النفي من (ما).

ووصفوه بالسحر؛ لأنهم رأوا تأثيره القوي في النفوس، والقلوب، وكانوا يظنون أن كل فعل غريب خارق للعادة سحراً، أو يشبه السحر، ولتعريف السحر: ارجع إلى سورة البقرة، آية (102)؛ لمزيد من البيان.

ص: 50

سورة الأنعام [6: 8]

{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} :

{وَقَالُوا} : أي: الذين كفروا.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ وتمنٍّ، أنزل عليه على محمد صلى الله عليه وسلم، ملك من الملائكة؛ ليصدقه، أو يكون معه نذيراً.

ولو استجاب الله سبحانه {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ} : أيْ: لأهلكناهم إذا لم يؤمنوا بعدها.

{ثُمَّ} : للتوكيد.

{لَا يُنْظَرُونَ} : أيْ: لا يمهلون، أو يؤخَّرون، ويكون هذا هو عاقبة كبرهم وعنادهم.

ص: 51

سورة الأنعام [6: 9]

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ} :

{وَلَوْ} : شرطية.

{جَعَلْنَاهُ} : ملكاً، {لَّجَعَلْنَاهُ}: بصورة رجل؛ لأنهم ليس عندهم القدرة على رؤية أيِّ ملك من الملائكة، ولَالْتَبَسَ الأمر عليهم.

ولقالوا: كيف نعرف أنه ملك، ونحن بشر؟ إذا لا بُدَّ من إنزال ملك بصورة بشر، عندها سيلتبس الأمر عليهم أكثر فأكثر، وسيصبحون في ريبهم يتردَّدون، كما الْتبس عليهم أمر نبوَّتك، ونزول القرآن عليك.

ص: 52

سورة الأنعام [6: 10]

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} :

{وَلَقَدِ} : الواو: استئنافية. لقد: اللام: للام التوكيد. قد: حرف تحقيق وتوكيد.

{اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ} : الاستهزاء: هو التحقير، والتصغير، والعيب والاستخفاف، والتهكم بالرسل، والضحك أحياناً بدون سبب يدعو إليه، والاستهزاء أعم من السخرية.

{مِنْ قَبْلِكَ} .: من: تدل على القرب الزمني.

{بِرُسُلٍ} : الباء: للإلصاق، رسل: نكرة؛ للتكثير، والتفخيم.

{فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم} : الفاء: عاطفة؛ لربط السبب بالمسبب. حاق: أحاط، ونزل، ووقع العذاب بهؤلاء الذين سخروا من رسلهم بسبب استهزائهم بهم، وتكذيبهم لهم، والحيق: هو ما يلحق بالإنسان من مكروه. ارجع إلى سورة غافر آية (45) لمزيد من البيان في حاق، والفرق بين حاق ونزل.

{بِالَّذِينَ} : الباء: للإلصاق؛ أيْ: ملازمة العذاب لهم.

{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} : ما: بمعنى: الذي، وفي هذه الآية حث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر على ما يلاقيه من سخرية، واستهزاء.

ص: 53

سورة الأنعام [6: 11]

{قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، سافروا في الأرض للرزق والتجارة، أو العلم.

{ثُمَّ} : للتراخي في الزمن؛ أي: خلال سفركم أو بعد قضاء حوائجكم انظروا، أو زوروا آثار من قبلكم؛ لتعرفوا ما حلَّ بهم من العقوبات. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (137)؛ للبيان، والفرق بين فسيروا، ثم سيروا.

{كَيْفَ} : للاستفهام عن الحال، والتعجب والتحذير.

{كَانَ عَاقِبَةُ} : تذكير العاقبة في القرآن دائماً يأتي في سياق العذاب، أما تأنيث العاقبة؛ أيْ: لو قال -جل وعلا- : كيف كانت عاقبة؛ لدلَّ ذلك على العاقبة الحسنة.

{الْمُكَذِّبِينَ} : جمع مُكذب بالرسل؛ أيْ: غير المصدقين بهم، وما حلَّ بهم من العذاب، والمكذبين: جملة اسمية تفيد ثبات صفة الكذب عندهم.

ص: 54

سورة الأنعام [6: 12]

{قُلْ لِمَنْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{قُلْ لِمَنْ} : اللام: لام الاستحقاق، أو الاختصاص. {لِمَنْ}: اسم استفهام تقريري.

{مَا} : للعموم، والشمول، العاقل وغير العاقل.

{السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ما في السموات السبع نفسها، وما فيها من خلق الملائكة، والكواكب، والأقمار، والنجوم، والأرض نفسها بالطبقات السبع، وما فيها من خلق (جن وإنس)، ونباتات، وحيوانات، ومعادن، وكنوز.

{قُلْ لِلَّهِ} : وحده حكماً وملكاً، واللام في لله: لام الملكية، أو الاختصاص.

{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} : قضى، وحكم على نفسه، تفضُّلاً منه وإحساناً، ليُعلم ويطمئن عباده، أنه هو أرحم الراحمين، وكتب فيها توكيد أكثر من حكم.

{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} : اللام: للتوكيد، وكذلك النون في يجمعنكم: لزيادة التوكيد، إلى يوم القيامة، للحساب والجزاء، وقيل:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ} : في قبوركم إلى يوم القيامة.

{إِلَى} : تعني: الانتهاء.

أو {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : تعني: في يوم القيامة؛ ليجازيكم على أعمالكم.

{لَا رَيْبَ فِيهِ} : تعني: الريب: أقوى من الشك، والريب: هو الشك، والاتهام، لا ريب فيه: في قدومه.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : الذين: اسم موصول.

{خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} : بالكفر، والشرك، والمعاصي؛ مما أدَّى إلى دخولها النار، وبذلك خسروا أنفسهم في كل زمان، ومكان، ولا تعني في الماضي فقط، وإذا نظرنا إلى الآية (20) في نفس السورة نجد تشابه نهاية الآية (12) والآية (20) وهي قوله تعالى:{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وهذا ليس بتكرار، ولكن الآية (12) جاءت في سياق المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، والآية (20) في سياق أهل الكتاب الذين يعرفون الرسول ولا يؤمنون به.

{فَهُمْ} : الفاء: سببية، هم ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{لَا} : نافية.

{يُؤْمِنُونَ} : يصدِّقون بيوم القيامة، أو بالجزاء، والحساب، والبعث، ولا يؤمنون برسلهم، وما أنزل الله عليهم؛ أيْ: أن سبب الخسارة لأنفسهم أنهم: {لَا يُؤْمِنُونَ} .

ص: 55

سورة الأنعام [6: 13]

{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

وكأن هذه الآية تتمة للآية السابقة (12).

{قُلْ لِمَنْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} : وله أيضاً ما سكن في الليل والنهار.

سبب نزول هذه الآية: عن ابن عباس رضي الله عنهما حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى دِين آبائه، ويجعلوا له نصيباً من الأموال؛ حتى يكون أغناهم؛ فنزلت هذه الآية، وتعني: وله كل ما سكن في السموات والأرض، وكل ما تحرك.

{مَا} : للعاقل، وغير العاقل؛ له في كل زمان ومكان؛ لأنه سبحانه خالق الزمان والمكان.

{وَلَهُ} : اللام: لام الملكية؛ له وحده، أو الاختصاص، له الكمال وحده، ما سكن وما تحرك في الكون كله؛ من كوكب، أو نجم، أو مجرة، أو طير، أو شيء مهما كان من كنوز، وأموال، وثروات.

{وَلَهُ} : قدَّم الجار والمجرور. له: للحصر.

{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : توكيد للكمال، ومن صفاته: السميع، يسمع ما في الكون، من سر وعلن، ويسمع كل ما يقوله الثقلان من الجن والإنس، وهي صيغة مبالغة من السمع.

{الْعَلِيمُ} : صيغة مبالغة؛ كثير العلم، أحاط علمه بجميع خلقه، وكونه، وكل شيء، عليم بخفايا الصدور، عليم بما كان، وما هو كائن، وما سيكون.

ونلاحظ أنه ذكر {مَا سَكَنَ} ، ولم يذكر ما تحرك؛ للاختصار، ويسمَّى ذلك الاكتفاء بأحد الضدين، فهنا اكتفى بالسكون، دون ذكر الحركة؛ لأن السكون هو الأغلب، وعاقبة كل متحرك السكون، ولأن السكون راحة، والراحة نعمة.

ص: 56

سورة الأنعام [6: 14]

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

سبب نزول هذه الآية: حين سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يرجع إلى دِين آبائه.

{قُلْ أَغَيْرَ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري.

{اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} : أيْ: لا أتخذ ولياً غير الله، معيناً وكيلاً حفيظاً، والولي المعين، والذي يتولى أمري، والحليف، أو القريب، أو الحفيظ.

{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الذي أخرج وأظهرَ الخلق للوجود لأول مرة على غير سابق مثال، وسواء أكانت السموات، أم الأرض، أم خلق الإنسان، وغيره من المخلوقات عامة.

{فَاطِرِ} : اسم فاعل، من فعل: فطر؛ كأنه شق عنه فظهر، قيل: تفطر الشجر؛ إذا تشقق بالورق.

وفطر الله السموات والأرض؛ أيْ: أوجدها وأظهرها، ولا يقال: فاطر، إلّا لله وحده.

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} : أيْ: هو يَرزق، ولا يُرزق، وهو يُطعِم ولا يأكل؛ كقوله:{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].

وجاء بضمير الفصل (هو): للتوكيد؛ ليدل هو وحده، هو الذي يرزق، وإن كان هناك من يُطعم، أو يرزق، فهو الرزاق الحقيقي، وغيره ممن يُطعم أو يرزق هو من المرزوقين الذين أغناهم الله سبحانه.

{قُلْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{إِنِّى} : للتوكيد.

{أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} : أن أكون: حرف مصدري؛ يفيد التوكيد؛ أيْ: أول من أسلم من هذه الأُمة، أو أول من أسلم درجة، أول الموحِّدين، والمخلصين لله تعالى، ومعنى قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكوننَّ من المشركين: أُمرت بالإسلام، ونهيت عن الشرك.

{وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : ولا: الناهية.

{تَكُونَنَّ} : والنون: للتوكيد، توكيد النهي بدلاً من (ولا تكون).

وإن كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو خطاب لأمّته بعدم الشرك.

{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : بالله تعالى، أيّاً كان نوع الشرك.

ص: 57

سورة الأنعام [6: 15]

{قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

{قُلْ} : قل يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{إِنِّى} : يفيد التوكيد.

{أَخَافُ} : الخوف: هو توقُّع الضرر المشكوك في وقوعه، والخوف خلاف الطمأنينة.

{إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى} : إن شرطية؛ تفيد الندرة، أو الاحتمال، العصيان: عدم امتثال أوامر الله وتجنب نواهيه.

{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : يعني: يوم القيامة، وجاء بصيغة النكرة؛ للتهويل، والتعظيم.

{عَذَابَ} : قد تعني اليوم، يوم عظيم، أو العذاب عظيم في ذلك اليوم، أو كلاهما معاً.

ص: 58

سورة الأنعام [6: 16]

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} :

{مَنْ} : شرطية.

{يُصْرَفْ} : يبعد عنه، أو يمنع عنه العذاب.

{يَوْمَئِذٍ} : أيْ: يوم القيامة.

{فَقَدْ رَحِمَهُ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ تفيد التوكيد، وقد حرف تحقيق؛ لزيادة التوكيد.

{رَحِمَهُ} : نجاه من العذاب، ومن أهوال ذلك اليوم.

{وَذَلِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، يشير إلى الفوز برحمة الله تعالى.

{الْفَوْزُ الْمُبِينُ} : الفوز، الظاهر الواضح، لكل إنسان، والفوز البيِّن، لا يحتاج إلى برهان. ارجع إلى سورة النساء آية (73) لمزيد من البيان في المعنى ومعرفة أنواع أو درجات الفوز في القرآن والفروق.

ص: 59

سورة الأنعام [6: 17]

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} :

{وَإِنْ} : الواو: استئنافية.

{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والندرة.

{يَمْسَسْكَ اللَّهُ} : من المس: أقل اللمس، أو اللمس الخفيف؛ الذي لا يكاد يُذكر، ويمسسك: تعني: المس الشديد، أو المتكرر.

{بِضُرٍّ} : الباء: للإلصاق. ضرٍّ: اسم جامع لكل ما يسوء الإنسان في نفسه، أو بدنه، أو عرضه، أو ماله، من فقر، ومرض، وحزن، وألم.

{فَلَا} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، لا: النافية للجنس.

{كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ} : حصراً، لا كاشف؛ أيْ: لا صارف له، ولا مزيل له، أو منجٍ منه؛ إلّا هو سبحانه وحده.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، يمسسك: ولم يقل يمسك؛ يمسسك: تعني المس المتكرر، والمس يأتي في سياق الضر وغير الضر والشديد.

{بِخَيْرٍ} : الباء: للإلصاق. خير: أيِّ خير، والخير هو الشيء الحسن النافع.

{فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : الفاء: جواب الشرط. هو: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، كامل القدرة.

لنقارن الآن بين الآية رقم (17) من سورة الأنعام، والآية (107) من سورة يونس.

الآية (17) من سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .

الآية (107) من سورة يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

مطلع كلا الآيتين متشابه، ويتحدث عن الضر الذي لا يكشفه إلا الله، إذا وقع، والضر لا يتمنَّاه أحد أن يقع، أما الخير؛ فالكل يتمَّناه أن يقع، بعكس الضر، والخير: إما أن يكون واقعاً الآن فعلاً، أو سيقع في المستقبل.

فالآية في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} : تدل على كونه واقعاً الآن، وعبَّر عنه عز وجل : بالمسِّ الشديد.

وأما في سورة يونس: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} : فتدل الآية على أن الخير لم يقع بعد، أو يحصل، ويتمنَّاه الإنسان أن يحدث، ونفهم ذلك من قوله سبحانه:{فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : الذي يدل على المستقبل.

ص: 60

سورة الأنعام [6: 18]

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} :

{الْقَاهِرُ} : الغالب، والقهر: الغلبة والقدرة، والقاهر: اسم فاعل من قهر؛ أيْ: غلب.

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} : وهو: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد والقصر، أن الله هو القاهر الحقيقي، القاهر الذي خضعت له الرقاب، وعنت له الوجوه، وقهر كلَّ شيء.

{فَوْقَ عِبَادِهِ} : فوق: من الفوقية؛ فهو فوقهم بقهره، وبتذليله إياهم.

{وَهُوَ} : الواو: عاطفة، هو: ضمير منفصل؛ يفيد القصر والتوكيد.

{الْحَكِيمُ} : في خلقه وشرعه؛ أي: المدبر لشؤون خلقه، وشرعه، وكونه، بحكمه، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{الْخَبِيرُ} : ببواطن الأمور، والأسرار، والخفايا، وذوات الصدور.

ص: 61

سورة الأنعام [6: 19]

{قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} :

سبب النزول: رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رؤساء مكة من المشركين، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا محمد! ما نرى أحداً يصدقك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى؛ فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله؛ فنزلت هذه الآية.

{قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} :

{قُلْ} : أيْ: اسأل يا محمد المشركين.

{أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} : ما هي أعظم شهادة تبغونها، أني رسول الله إليكم، والشهادة عظمتها؛ تدل على عِظم الشهيد؛ أي: المُدلي بالشهادة؛ فإن أجابوك: الله؛ كان بها، وإن لم يجيبوك عندها قل: الله سبحانه وتعالى.

{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} : فشهادة الله هي أكبر، وأعظم شهادة؛ على نبوَّتك، ولا تحتاج إلى شيء آخر، أو شهادة أخرى.

{وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} ، وقل:{وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} : لأنذركم به من عذاب الله؛ معنى الإنذار هنا: الإعلام، والتخويف، أو التحذير.

{وَمَنْ بَلَغَ} : أيْ: هو نذير كذلك؛ لكل من بلغه القرآن من العرب، أو العجم؛ أيْ: وصل إليه، وتبيَّن ما فيه، وفهمه بلغته الخاصة؛ لأن الكثير يصل إليه القرآن، لكن لا يفهمون منه حرفاً، ولا آية.

{وَمَنْ} : استغراقية، ويؤيِّد ذلك قوله سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وهذا يعني: ومن بلغه إلى يوم القيامة.

{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} : بعد إنذارهم؛ يوبخهم وينكر عليهم ما يقومون به من الشرك، فيقول:

{أَئِنَّكُمْ} : الهمزة: استفهام تقريري إنكاري، وتوبيخ.

{لَتَشْهَدُونَ} : اللام: للتوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{أَنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد أيضاً.

{مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} : مثل اللات، والعزى، ومناة.

{قُلْ لَا أَشْهَدُ} : معكم: بأن مع الله آلهة أخرى.

{إِنَّمَا} : للحصر. قل: إنما هو إله واحد.

{هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} : هو: ضمير منفصل؛ للتوكيد. إله واحد: لا يلد ولا يولد. ارجع إلى سورة الصافات آية (4) للبيان المفصل والفرق بين أحد وواحد.

{وَإِنَّنِى} : النون: للتوكيد.

{بَرِاءٌ} : من برئ؛ أيْ: تخلَّى، وابتعد.

{مِمَّا} : هي مركبة من + ما. من: ابتدائية، وما: اسم موصول، أو مصدرية؛ أيْ: بريء من الذين تشركون به، ومن شرككم.

{تُشْرِكُونَ} : تجعلون مع الله إلهاً آخر. تشركون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على تجدُّد، وتكرار شركهم، وعدم إقلاعهم عنه.

ص: 62

سورة الأنعام [6: 20]

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

في الآية السابقة: علمنا أن رؤساء مكة من المشركين سألوا اليهود والنصارى: أن يشهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بما ذكر عندهم في كتبهم ووصفه، فأنكروا ذلك، وزعموا أنه ليس له ذكر عندهم في كتبهم، فجاء الرد المباشر من الله -جل وعلا- ؛ ليفضح كذبهم.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} : أي: اليهود والنصارى، الكتاب: التوراة والإنجيل.

{يَعْرِفُونَهُ} : أيْ: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} : بما عندهم من الأخبار في كتبهم؛ فإن وصفه ونعته، واسم بلده، وصفة أمته صلى الله عليه وسلم، كل ذلك موجود عندهم في التوراة والإنجيل.

{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} : تشبيه مرسل، في علم الجمال اللغوي، يعرفون صفات محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما يعرفون أبناءَهم.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} : ارجع إلى الآية (12) من سورة الأنعام للمقارنة، وهذه الآية ليس تكراراً للآية (12) هذه الآية جاءت في سياق الذين أتيناهم الكتاب (اليهود والنصارى)، والآية (12) جاءت في سياق المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب.

والفاء في فهم: تفيد التوكيد، هذا يدل على أن إنكار نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم خسارة للنفس، وافتراء على الله تعالى.

ص: 63

سورة الأنعام [6: 21]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :

استفهام على سبيل السؤال؛ كي يشارك المخاطب بالإجابة، فيقول: لا أحد حتى تقام عليه الحُجَّة، أما لو قال: ولا أظلم؛ فهو كلام إنشائي، على سياق الخبر.

{وَمَنْ} : الواو: استئنافية، من استفهام؛ يفيد النفي، والتوبيخ، والمعنى: لا أحد {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، والافتراء: هو الكذب المتعمد، مثل من قال: أوحي إليَّ، ولم يوحَ إليه، أو نسبوا له الولد، والبنات، والشريك. ومَنْ: تفيد المفرد، أو الجمع، والعاقل.

{أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ} : أيْ: آيات القرآن، ودلائله الكونية، والمعجزات، والآيات التي جاءت في التوراة والإنجيل التي تدل على صدق نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت كذباً بصيغة النكرة؛ لتشمل كل أنواع الكذب، ولو جاءت بصيغة المعرف بأل؛ أي: الكذب؛ لدلت على كذب محدد بعينه.

{إِنَّهُ لَا} : إن: تفيد التوكيد. لا: النافية.

{لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} : سواء أكانوا من الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، أم من ظلموا الناس، وضلوا عن سواء السبيل، والظالم: هو كل من يخرج عن منهج الله تعالى، والفلاح: هو الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فهؤلاء الظالمون: لن يكونوا من المفلحين في الآخرة؛ أي: الفائزين بالجنة، والناجين من النار. ارجع إلى سورة البقرة، آية (5) لبيان معنى الفلاح، وإذا قارنا هذه الآية {لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} مع الآية (17) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} ؛ المجرمون: أعم من الظالمين، والإجرام: أوسع معنى من الظلم، الظلم: جزء من الإجرام، وكذلك سبق آية يونس قوله تعالى:{كَذَلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [آية: 13]، وآية يونس استعمل فيها (فمن)، وآية الأنعام (ومن أظلم)؛ الفاء في آية يونس تدل أن ما قبلها سبب ما بعدها.

ص: 64

سورة الأنعام [6: 22]

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :

{وَيَوْمَ} : يوم الحشر، يوم القيامة، وجاء بصيغة النكرة؛ للتهويل، والتعظيم.

{نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} : المشركين، وآلهتهم بمن فيهم الذين كفروا من أهل الكتاب، وغيرهم، والأصنام، والأنداد، والرؤساء.

{جَمِيعًا} : توكيد.

{نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} : لها معانٍ ثلاث:

1 -

{نَحْشُرُهُمْ} : كلهم.

2 -

{نَحْشُرُهُمْ} : مجتمعين.

3 -

أو يُراد كلا المعنيين؛ أيْ: نحشرهم كلهم مجتمعين.

{ثُمَّ نَقُولُ} : ثمّ: تفيد التوغل في التوكيد.

{لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :

{أَيْنَ} : استفهام، أو سؤال توبيخ.

{شُرَكَاؤُكُمُ} : الأوثان، والأصنام، وعيسى، وعزير، أو الملائكة.

{الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} : أنهم شركاء لله، وأنداد، أو سيقربونكم إلى الله زلفى، وتزعمون: من الزعم: وهو القول غير المستند إلى دليل، وأكثر ما يقع في الباطل، أو هو: ادِّعاء العلم غير الصحيح.

ص: 65

سورة الأنعام [6: 23]

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} :

{ثُمَّ} : حرف عطف للترتيب الذكري (العددي).

{لَمْ تَكُنْ} : لم: حرف جزم.

{فِتْنَتُهُمْ} : الفتنة في هذه الآية تعني: القول، والكلام، والكذب، اعتبر فتنة، أو القول: هو فتنة في المعنى، أو المعذرة، أو فضيحتهم، أو بليتهم، أو عاقبة كفرهم. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (70)؛ لبيان معنى الفتنة.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ أيْ: لم تكن فتنتهم إلّا مقالتهم فقط: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .

{أَنْ قَالُوا} : أن: حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.

{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} : فهم يبادرون إلى إنكار الشرك، والقسم بالله (واو القسم): للتأكيد.

ويقسمون بالله يوم القيامة: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ؛ كي يصدقهم الله، وهم يعلمون أنهم كاذبون.

{مَا} : للنفي تنفي الماضي والحال وخاصة وقد تنفي المستقبل.

{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} : جواب القسم؛ فهم يحاولون الكذب في الآخرة، كما كذبوا في الدنيا مشركين بالله جمع مشرك.

ص: 66

سورة الأنعام [6: 24]

{انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{انظُرْ} : نظرة تعجُّب، نظرة قلبية.

{كَيْفَ} : استفهام للسؤال عن الحال، وتفيد التعجب، والتوبيخ، والإنكار.

{كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} : بقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ؛ أيْ: بنفي الشرك عن أنفسهم.

{وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : غاب عنهم، ولم يعد يتذكرون، ما كانوا يفترون في الدنيا؛ أيْ: يكذبون الكذب المتعمد، بقولهم: إن الأصنام ستشفع لهم، أو تقربهم عند الله زلفى، أو تمنع عنهم العذاب.

{مَا} : اسم موصول، أو مصدرية؛ أيْ: غاب عنهم: لم يحضر، هؤلاء الشركاء الذين كانوا يفترون سيشفعون لهم يوم القيامة، أو أنكروا أنهم كانوا لهم أتباعاً.

ص: 67

سورة الأنعام [6: 25]

{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :

{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ} : عن قصدٍ، وعمدٍ، أما لو قال: يسمع إليك؛ فقد يكون سمعه عرضاً، من دون قصد.

{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} : لا لكي يتبيَّن له الحق والهداية، ولكن للاستمرار في الكفر، والتكذيب، والعناد، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (42) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} : جاءت في سياق قلة المستمعون، وأما يستمعون إليك جاءت في سياق الكثرة.

{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} : أغطية، وحُجُب أن يفقهوه.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التعليل، والتوكيد؛ أيْ: لئلّا يفقهوه؛ أي: القرآن.

{وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا} : صمم، وثقل، فلا يسمعونه سماع قبول.

ولم نجعل على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقراً، قهراً عنهم، بل هم الذين اختاروا الكفر سبيلاً، واستمروا فيه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (88)؛ لمزيد من البيان.

{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} : وإن يروا كل آية قرآنية، أو كونية، أو معجزة، لا يؤمنوا بها، لا يصدقوها، وكل آية دالة على صدق الرسول، يجحدون بها، وينكرونها.

لنقارن هذه الآية من سورة الأنعام، مع الآية (42) من سورة يونس.

في سورة الأنعام؛ يقول -جل وعلا- : {يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ، وفي سورة يونس:{يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ، والفرق بين الآيتين:{يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} : تدل على قلة عدد المستمعين، قيل: كانوا (5-7)، وأما {يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}: فتدل على كثرة عدد المستمعين.

{حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} :

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{إِذَا} : ظرف للمستقبل، وشرطية.

{جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} : حضروا عندك. يجادلونك: الجدال هو الحوار بين طرفين أو أكثر؛ لإثبات حق أو حقيقة، أو إظهار حجة، أو دفع شبهة، وقد يحدث فيه مشادة ومخاصمة.

{يُجَادِلُونَكَ} : ولم يقل: جادلوك، بصيغة الماضي، بل بصيغة المضارع؛ لتدل على استمرار جدالهم، وأن جدالهم لم يتوقف بعد، وإضافة النون في كلمة:{يُجَادِلُونَكَ} : ولم يقل: يجادلوك، تدل على التوكيد.

{يَقُولُ} : جاء بالفعل المضارع؛ ليدل على تجدد قولهم، والاستمرار فيه، ولم يقل: قالوا.

{الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا} : إن: حرف نفي؛ أيْ: ما هذا؟ وإن: أشد نفياً من (ما).

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة، ويدل على القرب، ويشير إلى القرآن الكريم.

{إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} : إلّا: أداة حصر؛ أي: القرآن ما هو إلا أساطير الأولين؛ أيْ: جمع أسطورة، وأكاذيب، وخرافات، أمليت عليه، أو طلب كتابتها، وتعني كله، جميع ما فيه، كل آية وكلمة من أساطير الأولين؛ الذين جاؤوا من قبل، وانقرضوا، وماتوا.

ص: 68

سورة الأنعام [6: 26]

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْـئَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} :

{وَهُمْ} : يعني: كفار مكة.

{يَنْهَوْنَ عَنْهُ} : ينهون من النهي، والهاء في {عَنْهُ}: تعود إما إلى القرآن، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: كفار قريش ينهون الناس عن اتّباع القرآن، واتّباع محمد صلى الله عليه وسلم، أو كليهما، أو الاستماع لهما.

{وَيَنْـئَوْنَ عَنْهُ} : من النأي: وهو الابتعاد عنه صلى الله عليه وسلم، عن محمد صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أو كليهما.

{وَإِنْ} : حرف نفي، بمعنى: ما، {وَإِنْ}: أقوى نفياً من ما.

{يُهْلِكُونَ} : من الهلاك. ارجع إلى سورة الحج، آية (45)؛ للبيان، أو الأعراف آية (4).

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} : ما: النافية، وما يشعرون أنهم يهلكون، ويخسرون أنفسهم، بعملهم هذا، ولو شعروا؛ لربما كفوا عن النهي، والنأي.

ص: 69

سورة الأنعام [6: 27]

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} :

{وَلَوْ تَرَى} : شرطية، وجوابها محذوف، تقديره:(لرأيت عجباً، أو شيئاً عظيماً).

{تَرَى} : للتعجب، رؤية قلبية، أو رؤية حقيقية بصرية.

{إِذْ} : ظرف زمان، للمستقبل؛ لأنه في حكم المحقق.

{وُقِفُوا} : فعل ماضٍ؛ فالماضي، أو الحاضر، أو المستقبل كله متساوٍ عند الله -جل وعلا- ، والضمير يعود على الذين كفروا، وأشركوا بالله تعالى.

{وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} : عرضوا على النار، أو عاينوها؛ لأنهم انكروها وانكروا عذابها كما قال تعالى:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن: 43]، فهي تعرض عليهم كقوله تعالى:{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100]، وهم يعرضون كقوله:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45].

{فَقَالُوا} : الفاء: عاطفة، وللتوكيد.

{يَالَيْتَنَا} : يا: للنداء، ليت: حرف مشبه بالفعل؛ للتمني، وتستعمل: لتمني المستحيل، ووقوعه.

{نُرَدُّ} : إلى الحياة الدنيا.

{وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} : لا: النافية.

{نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : بآيات ربنا: القرآنية، أو الكونية، أو المعجزات.

ص: 70

سورة الأنعام [6: 28]

{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} :

{بَلْ} : للإضراب الإبطالي.

{بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} : ظهرت لهم أعمالهم الخفية التي عملوها في الدنيا في صحائف أعمالهم من النفاق، والسيئات، والشرك، وغيرها من المعاصي.

{مَا كَانُوا} : يخفونه في قلوبهم؛ من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونعته، وراحوا يتمنون لو عادوا إلى الدنيا.

{مِنْ قَبْلُ} : أيْ: حين كانوا أحياء.

{وَلَوْ} : شرطية، ردوا إلى الدنيا، كما سألوا الله في سورة فاطر، آية (37):{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} .

{لَعَادُوا} : اللام: لام التوكيد.

لعادوا إلى ارتكاب ما نهوا عنه؛ أيْ: سيفعلون مثلما فعلوا من قبل؛ من الشرك، وسيِّئ الأعمال.

{وَإِنَّهُمْ} : للتوكيد.

{لَكَاذِبُونَ} : اللام: للتوكيد، للإيغال في التوكيد، في وعدهم: بأن يكونوا مؤمنين.

{لَكَاذِبُونَ} : جملة اسمية تدل على الثبوت؛ أيْ: صفة الكذب عندهم صفة ثابتة، ومستمرة.

ص: 71

سورة الأنعام [6: 29]

{وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} :

{وَقَالُوا} : الواو: عاطفة.

{وَقَالُوا} : هم الآن في الآخرة، وقالوا حينما كانوا في الدنيا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين.

{إِنْ} : حرف نفي، أقوى من (ما) في النفي.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ أيْ: قالوا: ما هي إلَّا حياتنا الدنيا فقط حصراً، وما نحن بمبعوثين، ليس هناك آخرة.

لننظر إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، وقوله:{إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37]، فما هو الفرق؟

في الآية (37) سورة المؤمنون: أضاف عز وجل : {نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، بينما في الآية (29) من سورة الأنعام: لم يرد ذكر: نموت ونحيا.

السبب: هو أن آية سورة المؤمنون: جاءت في سياق الحياة الدنيا، قالوا:{إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، وهم لا زالوا أحياء.

بينما آية سورة الأنعام: {وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} : من دون نموت ونحيا، قالوا ذلك وهم في الآخرة.

ص: 72

سورة الأنعام [6: 30]

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: استئنافية. لو: شرطية، حذف جواب الشرط؛ للإبهام، والمبالغة، وتقديره: لرأيت العجب، والأمور العظام.

{تَرَى إِذْ وُقِفُوا} : ارجع إلى الآية (27) من نفس السورة؛ للبيان.

{عَلَى رَبِّهِمْ} : أيْ: عرضوا على ربهم؛ لأنهم انكروا لقاء ربهم فقال ربهم أليس هذا بالحق، وكما قال تعالى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَائِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].

{قَالَ أَلَيْسَ} : استفهام توبيخي.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة، ويفيد القرب، ويشير إلى الوقوف أمام الرب، والبعث، والجزاء.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق.

{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} : بلى وربنا: الواو: واو القسم؛ أيْ: أقسموا بربهم أن كل ما وعده حق (البعث، والحشر، ويوم القيامة).

{قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ} : الفاء: للتوكيد، قال فذوقوا العذاب: أيْ: عذاب النار.

{بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} : الباء: السببية، أو البدلية؛ أيْ: بسبب كفركم، أو بدل كفركم.

ص: 73

سورة الأنعام [6: 31]

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} :

{قَدْ} : للتحقيق، والتوكيد.

{خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} : يوم القيامة، والباء: للإلصاق، والتوكيد، كذبوا بلقاء الله: أيْ: بالبعث، والحساب، والجزاء.

{حَتَّى} : حرف غاية، انتهاء الغاية.

{جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} : جاءتهم: المجيء فيه معنى الصعوبة؛ أيْ: جاءتهم بصعوبة، وجاءتهم فجأة. الساعة: لحظة تهدم النظام الكوني الحالي، أو ساعة احتضارهم، والقيامة الصغرى.

{قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا} : الحسرة أشد درجات الندم.

{عَلَى مَا فَرَّطْنَا} : من التفريط: الإهمال والتقصير، ما: اسم موصول بمعنى: الذي، أو مصدرية؛ أيْ: يا حسرة على تفريطنا في جنب الله تعالى.

{وَهُمْ} : للتوكيد.

{يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} : الأوزار: أي: الذنوب، والوزر: أصله هو الحمل على الظهر، وأطلق على الذنب لثقله. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (13) للمقارنة.

{أَلَا} : أداة حضٍّ على الندم.

{سَاءَ} فعل ماضٍ؛ لإنشاء الذمِّ؛ أيْ: بئس.

{مَا} : نكرة.

{يَزِرُونَ} : ساء ما يحملون على ظهورهم؛ من الذنوب، والآثام، والخطايا.

لنقارن بين هذه الآية (31) من سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} ، مع الآية (40) من سورة الأنعام:{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} .

استعمل: {جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ} في الآية (31)؛ لأن السياق في الآخرة (تتحدث عن الآخرة)، استعمل جاء؛ أيْ: فيها معنى الشدة والصعوبة؛ لأن الساعة جاءت وحصلت، واستعمل:{أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} في الآية (40)؛ لأن السياق في الدنيا، استعمل: أتى؛ لأن الساعة لم تحدث، وتقوم بعد، إذنْ استعمل:(أتى) قبل حدوث الساعة، و (جاء) بعد حدوث الساعة، وجاء تعني: وصل المكان وبصعوبة، وأتى: لا زال في طريقه ولم يصل بعد.

ص: 74

سورة الأنعام [6: 32]

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية. ما: نافية.

{الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا} : إلا: أداة حصر، وسمّاها الحياة الدنيا؛ لأن حقيقتها دنيا، وهناك حياة تقابل الحياة الدنيا؛ هي حياة عُليا، حياة الآخرة.

{لَعِبٌ وَلَهْوٌ} : ما هو اللعب، وما هو اللهو. {لَعِبٌ}: هو شغل، لا يُلهي عن واجب، واللعب يسمَّى لهواً، إذا صرفك عن عمل واجب؛ مثل: الصلاة، واللعب للأطفال دون سن (15) أمر طبيعي، وأما البالغ، أو الكبير إن كان يلعب لعبة وأتى وقت الصلاة، ولم يصلِّ فاللعب حينها يصبح لهواً بحقِّه، وإذا كان اللعب مفيداً له؛ كالرياضة، والسباحة، فلا حرج في ذلك، إذا لم يُشغله عن واجباته، أما إذا كان اللعب تضييع للوقت يذمُّ عليه، ويعتبر عبثاً.

{وَلَهْوٌ} : هو كل ما يُلهي عن واجب، واللهو أسوأ من اللعب.

وإذا تأملنا آيات القرآن (الأنعام آية: 32)، (محمد آية: 36)، (الحديد آية: 20): نجد أن الله سبحانه قدم اللعب على اللهو، وفقط في آية واحدة (العنكبوت آية: 64) قدم اللهو على اللعب، فتقديم اللعب على اللهو في الأنعام، ومحمد، والحديد يتماشى مع مرحلة الطفولة (اللعب)، ومرحلة الشباب والكهولة (مرحلة اللهو)، وهذا هو الأصل والأصل لا يسئل عنه، وهذا هو حقيقة الحياة الدنيا، وأما في آية العنكبوت تقديم اللهو على اللعب هو كون الآية جاءت في سياق المكلفين ولا يسئل هذا السؤال، والإجابة عليه إلا من جاوز سن اللعب واضح في سن التكليف {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [العنكبوت: 61].

حين يلعب الكبير بأي شيء يلهيه عن واجب؛ يسمَّى هذا لهواً.

أما إذا مارس الكبير لعب الرياضة؛ كالسباحة، والتمارين، ولم يُلهه ذلك عن واجب؛ فيسمَّى ذلك لعباً، واللهو: أعم من اللعب، ويحدث في كل زمن.

{الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} : لأنها مليئة بالشهوات التي تلهي الإنسان عن طاعة الله.

وتقديم اللهو على اللعب أسوأ من تقديم اللعب على اللهو.

{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} : اللام: لام التوكيد.

{وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} : هي الجنة.

{خَيْرٌ} : أفضل.

{لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} : اللام: لام الاختصاص. اتقوا: أطاعوا أوامر الله، واجتنبوا محارمه.

{أَفَلَا} : الهمزة: استفهام، يحمل معنى الحث على الفعل، والتفكر، والتعجب، وإنكار ذلك الترك، ويحمل معنى الأمر بفعله؛ أيْ: فكروا، استنبطوا، وزنوا الأشياء والمعطيات.

{تَعْقِلُونَ} : من العقل: وهو الأداة التي تؤدِّي مهمة الاختيار ما بين البدائل، وللموازنة بين الدلائل واستنباط النتائج للوصول إلى الحقائق.

ص: 75

سورة الأنعام [6: 33]

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :

{قَدْ} : حرف للتحقيق والتوكيد؛ أيْ: نعلم.

{نَعْلَمُ إِنَّهُ} : إنه: لزيادة التوكيد؛ أيْ: إننا نعلم بكل توكيد.

{لَيَحْزُنُكَ} : اللام: لام الاختصاص، وتفيد أيضاً التوكيد، والحزُن: بضم الزاي: هو ألم النفس؛ أيْ: ضيق في الصدر على شيء قد مضى، ضيق مؤقت، له مدة من الزمن، قد تطول، أو تقصر، ثم ينتهي.

أما الحزَن: بفتح الزاي: فهو ضيق في الصدر، ولكنه دائم، وليس مؤقتاً، كما هو الحال في الحزُن الذي يستمر إلى زمن الموت؛ أيْ: يموت ومعه حزنه؛ كالمحكوم عليه بالإعدام، أو الموت بالسرطان؛ فالحزن لا ينقضي ويزول.

{الَّذِى يَقُولُونَ} : يقولون: جاءت بصيغة المضارع، ولم يقل:(الذي قالوا)؛ بصيغة الماضي؛ ليدل على استمرار ما يقولون، وأنه لم يتوقف، أو حكاية الحال، بدل الذي قالوا؛ لبشاعة ما قالوا.

والذي يقولون: إنك ساحر، أو مجنون، أو كذاب، أو لست مرسلاً، وغيره، أو ما يقولونه في عدم إيمانهم، وكفرهم، أو تمشي في الأسواق، أو ليس لك جنة من نخيل، وعنب، ولولا أنزل إليك ملك.

{فَإِنَّهُمْ} : الفاء: للتعليل، إنهم للتوكيد.

{لَا يُكَذِّبُونَكَ} : لا تفيد النفي، {يُكَذِّبُونَكَ}: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على استمرار عدم تكذيبهم لك في نفوسهم وفي السر.

وإضافة النون تفيد التوكيد، ولم يقل: يكذبوك؛ كما جاء في سورة الحج، الآية (42):{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} ، لم يضف نون التوكيد؛ لأنه لا حاجة لتوكيد تكذيبهم.

ولا ننسى أنه في الآية (147) من سورة الأنعام، قال -جل وعلا- :{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} .

وفي سورة آل عمران، الآية (184)، قال -جل وعلا- :{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} .

فنحن أمام آيات مختلفة:

1 -

لا يكذبونك.

2 -

وإن يكذبوك (الفرق بزيادة نون التوكيد).

3 -

فإن كذبوك.

فكيف نجمع بين لا يكذبوك، وبين فإن كذبوك؟

لا يكذبونك: في باطن أنفسهم، وفي نجواهم وسرهم؛ لأنك أنت الصادق الأمين، في أعينهم؛ إذ يعرفونك منذ سن الصغر، أنك لا تكذب، وأطلقوا عليك اسم الصادق الأمين.

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ} : إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال؛ أيْ: كذبوك أمام الناس؛ ليصدوا الناس عن الدخول في دِينك، واتباعك.

و {كَذَّبُوكَ} : جاءت بصيغة الماضي؛ لتدل على حادثة ما، وانتهت، أو زمن معين وانتهى؛ حين قالوا: ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر، وغيرها؛ ارجع إلى سورة آل عمران آية (184) لمزيد من البيان.

{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} :

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك.

{الظَّالِمِينَ} : وصفوا بالظالمين، وأن الظلم عندهم صفة ثابتة؛ لكونها جملة اسمية، تدل على الثبوت، والظلم: قد يعني الشرك؛ أي: المشركون بآيات الله، يجحدون، أو الظالمون؛ لكونهم يجحدون بآيات الله، سواء أكانت الآيات القرآنية، أم الكونية والمعجزات.

{يَجْحَدُونَ} : من الجحود؛ أيْ: ينكرون آيات الله، ولا يؤمنون بها، والباء بآيات: تدل على الإلصاق، والاستمرار.

وهناك فرق بين الإنكار والجحود:

الجحود: هو إنكار الشيء الظاهر؛ أيْ: هم ينكرون آيات الله كلها، الظاهرة، والمعلومة، مع العلم بها؛ فالجحود أخص من الإنكار، وقد يكون أمراً لسانياً قولياً، أيْ: ينكره بلسانه فقط، للعناد، ولكنه في نفسه يُقرُّ ذلك.

الإنكار: هو إنكار الشيء الخفي غالباً، وقد يشمل الشيء الظاهر.

أو الإنكار للشيء مع العلم به، أو غير العلم به، مثل إنكار النِّعمة؛ لأنها تكون خفية، كما قال تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83].

ص: 76

سورة الأنعام [6: 34]

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ} :

هذه الآية تشير إلى سنة تكذيب الرسل كان أمراً شائعاً في الأمم السابقة، فما يحدث لك؛ إنما حدث لرسل من قبلك.

{وَلَقَدْ} : الواو: عاطفة. لقد: اللام: للتوكيد، قد: لزيادة التوكيد.

{كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} : كذبت: التاء: تاء التأنيث، تدل على الكثرة؛ أيْ: كثرة الرسل الذين كُذِبوا من قبل مجيئك؛ أيْ: هناك الكثير من الرسل الذين جاؤوا من قبلك، قد كُذِّبوا، ولو قال: كذب رسل من قبلك؛ لدلَّ ذلك على القلة؛ لأن مجيء الفعل بصيغة التذكير يدل على القلة، ومجيء الفعل بصيغة التأنيث يدل على الكثرة، كما قال تعالى في سورة يوسف، آية (30):{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ} .

{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} : الفاء: تفيد التوكيد.

{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} : ما: اسم موصول، أو مصدرية؛ أيْ: صبروا على الذي كذبوا، أو على تكذيب أممهم لهم، ولم يصبروا فقط، بل أيضاً أوذوا.

{وَأُوذُوا} : من قبل الكافرين، والمستكبرين، من الملأ من أقوامهم.

{حَتَّى} : حرف غاية؛ تعني: نهاية الغاية، ويعني: استمرار تكذيبهم وإيذائهم، حتى النهاية، وهي:{أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} .

{أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} : سواء كان بالنصر والغلبة، أو الفتح، ونجاة الرسل وأتباعهم الذين آمنوا بالله.

{أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} : أتاهم: تدل على السهولة، واليسر، وجاءهم: تدل على الصعوبة، والعسر، والمشقة وأتاهم؛ أيْ: نصرناهم بسهولة، ويسر، فكانوا هم الغالبين، والنصر: يكون بالعُدة والعتاد، والقوة، والقتال، أما الفتح: فيكون من دون قتال غالباً، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (110) في سورة يوسف وهي قوله تعالى:{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} : نجد أن جاءهم جاءت في سياق استيئس الرسُل وهي حالة أشد وأصعب بكثير في حالة الصَّبر على تكذيب الرسل {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} التي وردت في آية الأنعام.

{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} : لا: نافية للجنس؛ أيْ: لا تغيير، ولا تبديل في وعد الله لرسله، ولعباده المؤمنين بالنصر، كما جاء في آيات كثيرة:

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} : [الحج: 40].

{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ} :

{جَاءَكَ} : أخبرناك، وقصصنا عليك، واستعمل جاء بدلاً من أتاك؛ لأن أنباءَهم كانت شديدة ومرعبة.

{مِنْ نَّبَإِى} : من: ابتدائية، أو بعضية، من بعض أنباء: والنبأ: هو الخبر العظيم، المهم؛ أيْ: أخبرناك، أو أطلعناك على أنباء الرسل المهمة في هذا القرآن كيف نصرناهم، ونجيناهم، وكيف دمرنا الذين كذبوا برسلهم.

{الْمُرْسَلِينَ} : تشمل الأنبياء والرسل.

ص: 77

سورة الأنعام [6: 35]

{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} :

{وَإِنْ كَانَ} : الواو: عاطفة، إن: شرطية؛ تفيد الندرة، أو الاحتمال.

{كَانَ} : للتوكيد.

{كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} : أيْ: شق وعظيم {عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} .

{عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} : الإعراض: هو التولي، والانصراف عن الإيمان، وعدم استجابتهم لك، وتكذيبهم، وكفرهم بآيات الله، والإعراض عن الدخول في الإسلام، والحقيقة: أن إعراضهم قد كبُر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقَّ عليه ذلك، ودلَّ على ذلك قوله سبحانه:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

وقوله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].

{فَإِنِ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.

{اسْتَطَعْتَ أَنْ} : أن حرف مصدري؛ يفيد التعليل، والتوكيد.

{تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الْأَرْضِ} : أيْ: أن تلتمس، أو تبحث عن نفقٍ في أعماق الأرض، فتسير فيه، حتى تعثر على آية؛ أيْ: معجزة فتأتيهم بها.

{أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاءِ} : أو تلتمس سُلَّماً في السماء؛ فترقى فيها؛ حتى تأتيهم بآية، كما اقترحوا؛ تدل على نبوَّتك، فائْت بها إن استطعت، وما طلبوه منك ليس أمراً جديداً، فكثير من الأقوام طلبوا من رسلهم آية أو آيات؛ أيْ: معجزات تدل على نبوَّتهم.

والحقيقة: حتى ولو جئتهم بما طلبوا، وليست آية واحدة، بل آيات عدة؛ فهم لن يؤمنوا، كما فعل من سبقهم، وهذه ليس مهمتك إن أنت إلّا نذير وبشير، فما عليك إلَّا بالصبر.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} : لو: شرطية. شاء الله: المشيئة: تأتي قبل الإرادة.

{لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} : على الإيمان، والدِّين الواحد؛ حيث هو قادر على هدايتهم، أو إذا لم يهتدوا قهرهم، وحملهم على الإيمان، بإنزال آية من الآيات فوق رؤوسهم، وعندها يكون إيمانهم ليس اختياراً، بل قسراً، والله -جل وعلا- لا يريد ذلك، أو غني عن ذلك.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.

{تَكُونَنَّ} : النون: لزيادة التوكيد.

{مِنَ الْجَاهِلِينَ} : والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الجهل: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} .

فالخطاب مُوجَّه إليه صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود أمَّته المسلمة.

{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} : لسنن الله وحكمه، وليس عليك هداهم، وإنما عليك البلاغ المبين، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، وعلى دِين واحد، أو لو شاء لهداهم أجمعين. ارجع إلى سورة الزمر آية (64)، وسورة الفرقان آية (63) لبيان معنى الجاهلين.

ص: 78

سورة الأنعام [6: 36]

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} :

المناسبة: لا يكبر عليك إعراض هؤلاء الجاحدين المعرضين، وعدم الاستجابة لك؛ فإنه لا يستجيب لك إلّا الذين يسمعون {يَسْتَجِيبُ} ، ولم يقل: إنما يُجيب، فهناك فرق بين استجاب، وأجاب.

استجاب: يعني لبَّى بما دعاه إليه، وحقق ما طُلب منه، فإذا طلب منه أن يؤمن تراه حريصاً على التعلم، وتنفيذ ما يطلب منه، استجابة بالقول، والعمل.

أمَّا أجاب: فقد يجيبك بالرفض، أو القبول.

{الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} : سماع تفهم وطاعة، إذنْ الذي يستجيب لدعائك إلى الإيمان فقط الذين يسمعون سماع فهم، وتدبُّر، وطاعة؛ أي: الذين آمنوا.

والموتى؛ أي: الذين كفروا فهم كالموتى؛ لكونهم لا يسمعون سماع فهم، وطاعة، ولا يستجيبون لأي دعوة للإيمان، فهم في عداد الموتى، رغم أنهم أحياء.

{يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} : يوم القيامة من قبورهم، كيف يتم ذلك. ارجع إلى سورة الروم، آية (19)؛ للبيان.

{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} : ثم: تفيد الترتيب والتراخي، إليه: حصراً وقصراً، لا لأحدٍ غيره، يرجعون: للجزاء، والحساب.

ص: 79

سورة الأنعام [6: 37]

{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

تستمر مواصلتهم للجدال.

{وَقَالُوا} : الواو: استئنافية. قالوا: أيْ: كفّار مكة.

{لَوْلَا} : أداة حضٍّ.

{نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : معجزة.

وكأنهم لا يريدون أن يعترفوا بالقرآن كمعجزة، رغم أنهم طلبوا طلباً آخر، حين قالوا:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} : إن: تفيد التوكيد، قادر: على أن ينزل آية، أو أكثر من آية، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (20) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} : نجد في آية الأنعام نزل التي هي أكد وأبلغ من أنزل، ويرجع ذلك أن آية الأنعام جاءت في سياق:{أَنْ تَبْتَغِىَ نَفَقًا فِى الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} ، وآية يونس جاءت في سياق:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} : نجد أن آية الأنعام أشد وأصعب من آية يونس.

{وَلَكِنَّ} : حرف استدراك.

{أَكْثَرَهُمْ} : ولم يقل: كلهم لا يعلمون.

{أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} : أن الله إذا استجاب لهم، وأنزلها عليهم، ولم يؤمنوا؛ لكانوا من المهلكين.

ص: 80

سورة الأنعام [6: 38]

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: النافية.

{مِنْ دَابَّةٍ} : من: استغراقية؛ تعني: الشمول؛ أيَّ دابة، مهما كانت. دابة: مشتقة من الدبِّ، وهو المشي، وبعضهم يطلق كلمة الدابَّة على كل ما يدبُّ على الأرض: من إنسان، أو حيوان، أو جنٍّ، وبعضهم يطلقها على الحيوان فقط. ارجع إلى سورة البقرة، آية (164)؛ لمزيد من البيان، وسورة العنكبوت آية (60) لبيان معنى دابة.

{فِى الْأَرْضِ} : ولم يقل: على الأرض؛ لأن {فِى الْأَرْضِ} : تعطي معنى على الأرض، وفي داخل الأرض معاً، ولأن الأرض تشمل الطبقة الغازية المحيطة بالأرض، والتي هي تخص الأرض.

ولو قال: على الأرض؛ لما شملت الدواب الكثيرة التي تعيش تحت الأرض.

{وَلَا} : الواو: استئنافية، لا: النافية؛ لتوكيد النفي.

{طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} : من المعلوم أن معظم الطيور تحتاج إلى أجنحة لتطير بها، وذكر {بِجَنَاحَيْهِ}: للتوكيد.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} : الأمة هنا معناها: جماعة معينة لها صفات معينة، وعمل، وزمان.

{مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِنْ شَىْءٍ} : ما: نافية.

{فَرَّطْنَا} : من التفريط، وهو التقصير والتضييع؛ أيْ: لم نترك شيئاً إلا بيَّنَّاه لكم مما تحتاجون إليه من أمور الدنيا والدِّين.

{فِى الْكِتَابِ} : مثل اللوح المحفوظ، أو القرآن.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية، وشيء: نكرة.

يشتمل كل شيء صغير، وكبير، مهما كان نوعه وجنسه، والشيء: أقل القليل؛ إلّا وذكر في اللوح المحفوظ، أو القرآن.

{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} : ثم: للترتيب، والتراخي.

{إِلَى رَبِّهِمْ} : جار ومجرور، اسم الجلالة، وتقديم الجار والمجرور: يفيد الحصر، والقصر، بدلاً من القول: ثم يحشرون إلى ربهم.

{يُحْشَرُونَ} : إليه، وحده يحشرون.

والحشر: يتم بعد البعث من القبور، ويشمل السوق إلى أرض المحشر، والجمع.

ص: 81

سورة الأنعام [6: 39]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{وَالَّذِينَ} : الذين: اسم موصول.

{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : أيْ: آيات القرآن، شبههم ربُّهم بالصُّم؛ الذين لا يسمعون أبداً، والبكم؛ الذين لا ينطقون رغم أنهم يسمعون، ويتكلمون، والباء: للإلصاق.

{صُمٌّ وَبُكْمٌ} : صم؛ لأنهم أصموا أذانهم عن سماع الحق وتلقي القرآن؛ لا يسمعون القرآن وآياته، وما أنزل إليهم من ربهم، وبكم؛ لأنهم لا ينطقون، ويقرؤون القرآن؛ أيْ: سماع تدبر، وهداية، أو نطق بالحق.

في الظلمات: وصفهم بالصم والبكم التائه في الظلمات (لتعدد الظلمات) ومنها ظلمة الشرك، والكفر، والضلالة، والمعاصي.

{مَنْ} : ابتدائية، تضم المفرد، أو الجمع، وتعني العاقل.

{يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} : أيْ: من اختار، واستحب الضلالة على الهدى، ولا يريد الخروج منها يتركه وشأنه؛ فيموت على الكفر، والشرك، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم، ومن اختار الهداية يساعده كي يبقى، ويستقيم على الصراط المستقيم: وهو الإسلام.

وجاء بالصمم، قبل النطق؛ لأن الإنسان لا يتكلم إلَّا إذا سمع، أو كون جهاز السمع يخلق قبل جهاز النطق.

وقوله عز وجل : {صُمٌّ وَبُكْمٌ} : إضافة الواو يدل على أنهم جماعات مختلفة، منهم: الأصم، ومنهم الأبكم.

ولو قال: صم بكم، من دون الواو؛ لدلَّ ذلك أنهم جماعة واحدة، أصابها الصم والبكم معاً؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (18) للمقارنة وهي قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} .

{يَشَإِ} : من المشيئة، والمشيئة تأتي قبل الإرادة، والمشيئة أو غريزة الإيمان موجودة عند كل عبد، وما عليه إلَّا أن يبعثها ويوقظها في قلبه، وكما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].

ص: 82

سورة الأنعام [6: 40]

{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ} : أيْ: أخبروني إِخبارَ من له علم ودراية، أخبروني بشيء من التأكيد.

والهمزة في {أَرَءَيْتَكُمْ} : للاستفهام، والتقرير، والتعجب، والرؤية هنا رؤية بصرية، ورؤية قلبية، فكرية؛ بمعنى: العلم.

وزيادة الكاف كلمة {أَرَءَيْتَكُمْ} : مقارنة بقوله: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : لزيادة التنبيه، والتوكيد، فكأن المخاطب غافلٌ، والأمر يستوجب التنبيه؛ لأن الآية التي قبلها تحدثت عن الذين في الظلمات، والصم والبكم، فمثل هؤلاء يحتاجون إلى تنبيه شديد، ولذلك أعقبها عز وجل بقوله:{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ} ، بدلاً من أرأيتم، مبالغة في الإخبار؛ لأن هناك عذاباً، وهلاكاً قادماً عليهم.

{إِنْ أَتَاكُمْ} : إن شرطية، وتفيد القلة في الحدوث؛ لأن هذا الحدث؛ أيْ: وقوع العذاب، أو مجيء الساعة يحدث مرة واحدة فقط.

{عَذَابُ اللَّهِ} : الذي كان يأتي الأمم السابقة؛ كالريح الحاصبة، والعقيم، والصيحة، والرجفة.

{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} : أيْ: ساعة تهدم النظام الكوني الحالي، أو ساعة الاحتضار، أو ساعة الكرب والهلاك.

{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} : الهمزة: للاستفهام التوبيخي، أتدعون عندها حجراً، أو وثناً، أو صنماً؛ لمساعدتكم، وإنقاذكم من العذاب.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : المعنى: إن كنتم حقاً صادقين أخبروني من تدعون، وتستغيثون حين نزول البلاء بكم؛ لكشف الضر عنكم، آلله سبحانه، أم غيره.

إذنْ: {أَرَءَيْتَكُمْ} : فيها تنبيه أشد وأكثر من أرأيتم، وكذلك مبالغة في الإخبار، وذلك كلُّه ناتج عن زيادة الكاف.

ومثال آخر: هو كلمة {قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ} [الإسراء: 62] مقارنة بكلمة: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43].

{أَرَءَيْتَكَ} : فيها تعجب، وإخبار أشد؛ أيْ: أعلمني، وأخبرني بكل تأكيد مقارنة بكلمة {أَرَءَيْتَ} .

ص: 83

سورة الأنعام [6: 41]

{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} :

{بَلْ} : للإضراب الإبطالي.

{إِيَّاهُ} : ضمير منفصل؛ يدل على القصر الحقيقي، والتوكيد فقط.

{إِيَّاهُ تَدْعُونَ} : أيْ: فقط إياه وحده تدعون لإنقاذكم.

{تَدْعُونَ} : عند الشدائد.

{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} : أيْ: يرفع عنكم العذاب، أو يزيله، أو يكشف الضر، أو البأس.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة إن شاء أن يستجيب لكم، فله الخيرة.

{وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} : في تلك الفترة، فترة الإنقاذ، وكشف الضر، تنسون ما كنتم تشركون به من قبل؛ لأنكم حينئذٍ تعلمون حق اليقين: أن الله عز وجل هو الذي بيده الملك، والحاكم، والقادر على إنقاذكم.

ص: 84

سورة الأنعام [6: 42]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} :

{وَلَقَدْ} : ارجع إلى الآية (34)؛ للبيان.

{أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} : قال: {أَرْسَلْنَا} : ولم يقل: بعثنا؛ إذ هناك فرق بينهما؛ ارجع إلى الآية (64) من سورة النساء؛ للبيان، أو البقرة، آية (119).

{فَأَخَذْنَاهُم} : أيْ: بعد أن كذبوا رسلهم، عاقبناهم، والأخذ يعني: بشدة، وقوة.

{بِالْبَأْسَاءِ} : القحط، والفقر، والجوع، والخوف، والعواصف، والبراكين، والأوبئة، والكوارث الجوية تصيب الجميع.

{وَالضَّرَّاءِ} : المرض، والألم، والفقر، والجوع، يصيب الفرد وحده.

فالبأساء؛ تعني: الإصابة عامة تشمل الجميع، والضراء: خاصة تصيب الفرد.

{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} : التضرع: هو التذلل، والاستكانة، والخضوع؛ لعلَّهم يرجعون إلى طريق الإيمان، والتضرع: قد يُقبل، أو لا يُقبل.

لنقارن هذه الآية مع الآية (94) من سورة الأعراف.

في سورة الأنعام، الآية (42):{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} .

وسورة الأعراف، الآية (94):{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَّبِىٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} .

الاختلاف الأول بكلمة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} : اللام: للتوكيد. قد: للتحقيق.

{وَمَا أَرْسَلْنَا} : ما: للنفي؛ أيْ: آية الأنعام: تؤكد، وآية الأعراف: تنفي.

الاختلاف الثاني: {أَرْسَلْنَا إِلَى} ، {أَرْسَلْنَا فِى}: إلى: تفيد الانتهاء، أرسلنا إلى الإرسال، لا يقتضي المكث، وإنما يقتضي التبليغ والعودة.

أما أرسلنا في: فتفيد الظرفية، أرسلنا في: الإرسال؛ يعني: المكث، والدخول فيهم، مع التبليغ، والانتظار.

الاختلاف الثالث: أمم مقابل قرية، الأمم أكثر عدداً من القرية.

الاختلاف الرابع: {يَتَضَرَّعُونَ} : أطول بعدد الحروف، وفيها تشديد واحد، عدد المتضرعين أكثر بكثير، من القرية، فزيادة البناء في كلمة {يَتَضَرَّعُونَ}: لتناسب زيادة عدد السكان، وتضرعهم أقل شدة من تضرع أهل القرية.

{يَضَّرَّعُونَ} : الكلمة أقصر، وفيها تشديدان؛ لأن عدد المتضرعين في القرية أقل من عدد المتضرعين من الأمم، ولكن تضرع أهل القرية رغم عددهم القليل هو أشد تضرعاً من تضرع الأمم.

ص: 85

سورة الأنعام [6: 43]

{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{فَلَوْلَا} : الفاء: استئنافية. لولا: حرف توبيخ، وندم؛ لأنها دخلت على فعل ماض، ولو دخلت على المضارع؛ فهي للحضِّ والحثِّ.

{إِذْ} : ظرف زماني للماضي.

{بَأْسُنَا} : عذابنا.

{تَضَرَّعُوا} : أظهروا الخضوع، والتذلل لله تعالى، وأنابوا إلى ربهم وتابوا.

{وَلَكِنْ} : حرف استدراك.

{قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} : بدلاً من أن تلين، وتتوب، وتندم على العكس قست قلوبهم، وأقاموا على كفرهم، ولم يرتدعوا.

{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : قبل مجيئهم بأسنا.

وقال: ما يعملون: ولم يقل: ما عملوا؛ لأن عملهم استمر، وتكرَّر، وتجدَّد.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الذي كانوا يعملون، أو مصدرية؛ أيْ: زيَّن لهم الشيطان أعمالهم.

ص: 86

سورة الأنعام [6: 44]

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: عاطفة، وتدل على التعقيب والمباشرة.

{نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي ذكروا به؛ أيْ: ما وعظوا، أو تضرعوا.

{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} : أبواب: ولم يقل: باب ليصور لك كثرة الخيرات والرخاء، والسرور، والرزق، والنعيم؛ حتى يظنوا ظناً باطلاً، ما نزل بهم، وحلّ بهم، ليس انتقاماً، أو أمراً سيئاً، وما يحدث لهم الآن من فتح وخيرات؛ لكونهم يستحقونها، وعندئذٍ يفرحون، وعندما يبلغ فرحهم وسرورهم أقصاه:{أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} : أيْ: أطبقنا عليهم العذاب فجأة.

{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا} : حرف لنهاية الغاية؛ إذا: ظرفية زمانية للمستقبل؛ فرحوا: بطروا؛ أي: بلغ فرحهم أقصى درجاته، وهو الفرح المذموم. ارجع إلى سورة آل عمران آية (170) لبيان معنى الفرح وأنواعه.

{فَإِذَا} : للمفاجأة.

{هُمْ} : ضمير منفصل، يفيد التوكيد على كونهم {مُّبْلِسُونَ} .

{مُّبْلِسُونَ} : مرة أخرى، يائسون من رحمة الله، ومنقطع رجاؤهم، وساكتون، منقطعة حججهم، ليس عندهم ما يقولونه؛ من كلام في اكتئاب، وكسوف، وحزن، وحسرة، وندم، ولكون هذه المرة ليست المرة الأولى التي تمر بهم فهم قد كذبوا ما عاهدوا الله عليه.

وهذه إحدى السنن الكونية في الاستدراج في العذاب. ارجع إلى سورة المؤمنون، آية (77)؛ لمزيد من البيان في معنى مبلسون.

ص: 87

سورة الأنعام [6: 45]

{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{فَقُطِعَ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب.

{دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أيْ: آخرهم، والدابر: التابع من الخلف؛ أيْ: هلكوا واستُؤصِلوا جميعاً.

{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : السؤال هنا: كيف نفسر قوله تعالى: والحمد لله رب العالمين، ولم يقل: وهو العزيز الحكيم كما في الآيات الأخرى.

الحمد لله هنا قد يكون لسببين:

الأول: لأنه انتهى أمر الذين ظلموا، بكونهم هلكوا عن بكرة أبيهم، وانتهى أمر فسادهم، وظلمهم في الأرض، فهذا يستحق الحمد.

والثاني: الحمد لله على نعمته على المؤمنين بأن أنجاهم ونصر رسله وأوليائه.

ص: 88

سورة الأنعام [6: 46]

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} :

{قُلْ أَرَءَيْتُمْ} : الهمزة: همزة استفهام، والتقرير.

والرؤية هنا: رؤية قلبية، ورؤية بصرية، وتعني: أخبروني بشكل مؤكد، أو من له علم ودراية. ارجع إلى الآية (40)، من نفس السورة؛ لمعرفة الفرق بين أرأيتم، وأرأيتكم.

{إِنْ} : شرطية؛ تدل على الاحتمال.

{أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} : الأخذ يعني بقوة وشدة والأخذ هنا قد يكون الأخذ الحقيقي بالطمس أو بالتعطيل، بمرض ما، {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}: على عقولكم، فتصبح لا تعي ولا تفهم، أو لا يدخلها إيمان، أو يخرج منها كفر، والطبع أشد من الختم؛ لأن الختم لا زال فيه بريق أمل أما الطبع انتهى الأمر.

{مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} : من: استفهامية، إله: غير الله يأتيكم به: يُعيدُ إليكم سمعكم وأبصاركم؛ أيْ: يشفيكم، وتعني: يهديكم للإيمان.

{انظُرْ} : أيْ: فكِّر وتمعَّن.

{كَيْفَ} : للاستفهام والسؤال عن الحال والتعجب، والإنكار.

{نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} : الآيات: جمع آية، أيْ: نكرر، ونوضِّح الآية الواحدة، أو المسألة الواحدة بأساليب متعددة، مختلفة، وصور شتى؛ حتى يتبيَّن، وينكشف المعنى الحق، والخفي. ارجع إلى سورة البقرة آية (164).

{ثُمَّ} : للإيغال في التوكيد.

{هُمْ} : يفيد التوكيد.

{يَصْدِفُونَ} : من صدف؛ أيْ: أعرض إعراضاً شديداً، وقيل: أيضاً صرف غيره عنها؛ أيْ: أضل غيره، وصدف عنه: مال، وأعرض عنه، ميلاً شديداً، والإعراض، أو الميل قد يكون خفيفاً، فتبقى بجانب الشخص الذي تعرض عنه، ولكن إذا صدفت تذهب إلى الجانب البعيد الآخر.

إذنْ الصدف: الإعراض عن الشيء، إضافة للذهاب إلى الجانب البعيد، إلى ناحية بعيدة، وذكرت هذه الكلمة في سورة الأنعام أربع مرات.

ص: 89

سورة الأنعام [6: 47]

{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} :

{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ} : ارجع إلى الآية (40) للبيان.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.

{أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} : بشكل مفاجئ، دون أيِّ إنذار، أو علامة سابقة، أو ليلاً، هل تستطيعون دفع العذاب عن أنفسكم، وأهليكم، أو تنصركم آلهتكم التي تدعون من دون الله.

{أَوْ جَهْرَةً} : أي: أتاكم عذاب الله ظاهراً، عياناً، بإنذار، ومقدِّمات، أو نهاراً، وذكر {جَهْرَةً}: هنا لكيلا يقولوا: لو جاءنا جهرة؛ لكنا قادرين على ردِّه، أو دفعه؛ أيْ: أنتم عاجزون عن دفع العذاب في كلا الحالين: إن أتاكم بغتة، أو جهرةً.

{هَلْ يُهْلَكُ} : استفهام تقريري، أو إنكاري؛ بمعنى النفي؛ أيْ: ما يهلك بالعذاب، إلّا القوم الظالمون، وفي الآية تهديد ووعيد للظالمين.

{إِلَّا} : تفيد الحصر، والقصر على القوم الظالمين.

{الظَّالِمُونَ} : جمع ظالم؛ لنفسه، أو لغيره، أو معاً. والظالمون، والظلم: هو الخروج عن دِين الله، أو المنهج.

قد تعني المشركون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54) لمعرفة معنى الظلم.

ص: 90

سورة الأنعام [6: 48]

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: نفي للتوكيد.

{نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا} : للحصر.

{مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} : ارجع إلى الآية (119) من سورة البقرة؛ للبيان، فهذه مهمتهم، الإبلاغ، الإنذار، والتبشير.

{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} : مهمة الناس الإيمان، والإصلاح، والاستجابة، أو بالعكس: رفض الاستجابة للمرسلين، كما سنرى في الآية (49)، والإيمان محلُّه القلب، والإصلاح، والطاعة من عمل الجوارح، مثل اليد، واللسان، وغيرها؛ لأن الفساد الذي يحدث في الأرض هو من عمل الإنسان.

{فَمَنْ} : الفاء: عاطفة، من: شرطية تشمل الفرد، والجمع.

{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، ولا: نافية تعمل عمل ليس والخوف: هو توقع الضرر والمشكوك في وقوعه؛ ارجع إلى الآية (38) من سورة البقرة؛ لبيان معنى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ص: 91

سورة الأنعام [6: 49]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} :

في الآية السابقة ذكر {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

أما القسم الآخر: فهم الذين كذبوا بآيات الله، سواء أكانت القرآنية منها، أم الكونية، أم المعجزات، فهؤلاء يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.

{يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} : يمسهم: يصيبهم العذاب، وشبه العذاب بأنه كائن حي؛ لأن المسَّ من صفات الأحياء.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق. وما: مصدرية.

{يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} : في الدنيا، أو في الآخرة.

{يَفْسُقُونَ} : أيْ: خروجهم عن طاعة الله، وعن الدِّين. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ للبيان. يفسقون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدلّ على استمرار فسقهم، وتجدُّده.

ص: 92

سورة الأنعام [6: 50]

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر مهمة الرسل؛ مبشرين، ومنذرين، وبعد أن ذكر قول كفَّار مكة:{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 8]، {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى} [الأعراف: 187]، وقولهم:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].

فأنزل الله -جل وعلا- رداً على بعض أسئلتهم.

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أنباء:

أولاً: لا أقول لكم عندي خزائن الله، وهذه الخزائن مذكورة في سورة الحجر الآية (21)، وهي قوله:{وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} . ارجع إلى سورة الحجر، هي: النجوم السماوية التي يقدر عددها بالترليونات في كل مجرة من المجرات التي يتراوح عددها بين (200. 000) مليون مجرة، و (500. 000) مليون مجرة، وكل نجم من هذه النجوم هو فرن ذري جاهز لإنتاج ما يريده رب العالمين من معادن: كالذهب، والفضة، والحديد، والألماس، وغيرها من المعادن بكميات أكبر من الأرض، وفي هذه النجوم تتشكل كل المواد التي يحتاجها البشر فهي لا تنفد ولا تنقص.

ثانياً: ولا أعلمُ الغيبَ: الغيب: هو كل ما غاب عن البصر، والحواس، أو المدركات.

ثالثاً: ولا أقول لكم إني ملك؛ أيْ: من الملائكة.

وتكرار (لا) ثلاث مرات يفيد التوكيد، وفصل كل أمر عن الآخر، أو الكل معاً.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} :

{إِنْ} : نافية، وأقوى من النفي من (ما)؛ أيْ: ما أتبع إلَّا ما يوحى إليّ.

{إِلَّا} : تفيد الاختصاص والحصر.

{يُوحَى إِلَىَّ} : الوحي: هو الإعلام بالخفاء، {إِلَىَّ}: من ربي؛ أيْ: كل ما يُلقي إليَّ الله من تكاليف، وتعاليم دِينية، وآيات. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ للبيان.

وهو بذلك ينفي عن نفسه أيَّ صفة من صفات الألوهية، وهي ملكية الخزائن، وعلم الغيب، وكونه من الملائكة؛ أيْ: له طاقة، وقدرة تفوق القدرة البشرية.

{هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} : هل: استفهام توبيخي، يستوي الأعمى: الضال، الكافر، أو المكذب بآيات الله تعالى، والبصير، المهتدي، المؤمن، والمصلح.

{أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} : الهمزة: استفهام إنكاري على عدم تفكرهم، وتوبيخ على عدم استعمال عقولهم؛ أيْ: النظر فيما يوعظون به.

{أَفَلَا} : الفاء: فاء السببية؛ أي: ما قبلها سبب لما بعدها، ألا: أداة تنبيه، وحضٍّ، وتحمل معنى الأمر؛ أيْ: لم لا تتدبَّرون في هذه البراهين، والدلائل الدالَّة على وحدانية الله، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الله هو الإله الحق؛ الذي يستحق العبادة.

لنقارن هذه الآية مع الآية (31) من سورة هود.

في سورة الأنعام، الآية (50):{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ} .

وفي سورة هود، الآية (31):{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ} ؛ حذف لكم في سورة هود.

الاختلاف يعود أولاً:

1 -

آية سورة الأنعام: هي قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وآية سورة هود هي ما قاله نوح عليه السلام .

2 -

زيادة لكم في آية سورة الأنعام؛ كانت رداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه؛ الذين كانوا يسألونه عن كثير من المعجزات، ولذلك أضاف لكم؛ فيها توكيد، ولكم خاصة.

بينما نوح عليه السلام : لم يسأله قومه عن المعجزات التي سألتها قريشٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

سورة الأنعام [6: 51]

{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :

{وَأَنذِرْ بِهِ} : الواو: عاطفة.

{وَأَنذِرْ بِهِ} : أيْ: بالقرآن؛ لقوله في سورة الأنبياء، الآية (45):{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْىِ} بالقرآن، وقوله:{وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].

{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : يخافون: من الخوف وهو توقع الضرر المشكوك في وقوعه، السؤال: وهل يخاف المؤمن أن يحشر إلى ربه؟ الجواب: لا.

إذنْ من هم هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم؟ هم الذين كذبوا بآياتنا، ولم يؤمنوا، أو فسقوا، وقيل: هم المؤمنون العاصون، الفاسقون.

وهذا الإنذار مُوجَّه إلى كل فرد، والإنذار هو إعلام مع تخويف، أو زجر، أو تحذير، ولعلَّهم إن جاءهم الإنذار أن يؤمنوا ويصلحوا.

{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ} : أيْ: في الدنيا، {لَيْسَ}: نافية. {لَهُمْ} : من غير الله من ولي.

{مِنْ دُونِهِ وَلِىٌّ} : من: استغراقية؛ تشمل أيَّ ولي. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (22) لمعرفة الفرق بين قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، وقوله تعالى:{مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .

الولي: هو المعين، والحفيظ؛ يحفظ المؤمن، ويتولى شؤونه، ويُكن له المودة.

{وَلَا شَفِيعٌ} : ولا: نافية. و (لا): في النفي أقوى من: (ليس).

إذنْ نفي الشفيع أقوى من نفي الولي. ارجع إلى الآية (70) من نفس السورة للبيان.

وتعني: أيَّ شفيع، مهما كان من الإنس، أو الجن، أو الملائكة.

والشفيع: صيغة مبالغة من شافع: وهو الذي يطلب العفو لشخص آخر؛ لكي يدفع عنه العذاب لذنب، أو جرم فعله المشفوع له، ولا تتم الشفاعة إلَّا بإذنٍ ورضا من الله تعالى.

{لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : لعلَّ: أداة رجاء، أو تعليل، لعلَّ هذا الإنذار يعيدهم إلى طاعة الله، والإيمان، والإصلاح، وكذلك اتخذوا الأسباب الأخرى للتقوى، وطلبوا من الله القبول أن يصبحوا من المتقين.

ص: 94

سورة الأنعام [6: 52]

{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} :

سبب النزول: عدة روايات منها: أن رؤساء المشركين من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنك فقراء المسلمين، أمثال: عمار، وصهيب، وبلال، وخباب، وسلمان، وغيرهم؛ لجلسنا معك، وحادثناك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين، فقالوا: فأقمهم عنا، إذا جئنا، فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت، ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الاقتراح طمعاً في إيمانهم؛ فنزلت هذه الآية. رواه مسلم.

وفي رواية أخرى: رواها الطبري عن عكرمة: أنهم طلبوا من أبي طالب أن يكلِّم ابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّم أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة السابقة، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننتظر ماذا يريدون؛ فنزلت هذه الآية. والمهم عموم اللفظ وليس بخصوص السبب.

{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: ناهية.

{تَطْرُدِ} : الطرد: هو الإبعاد، والإقصاء.

{الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ} : قائمون على طاعة، وعبادة ربهم، بالغداة والعشي؛ أي: الدائمون، والغداة: أول النهار، والعشي: آخر النهار؛ أي: الدائمون في العبادة.

{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} : عبر عن الذات بالوجه، ذكر الجزء، ويراد به الكل؛ أيْ: ليس عبادتهم رياءً، وإنما سِمَتُهم الإخلاص لله تعالى وحده {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .

{مَا} : النافية.

{عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ} : أيْ: حساب هؤلاء على ربهم فقط، وليس عليك يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية، تستغرق كل شيء؛ والشيء هو كل ما يُعلم ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً، ويعني: أقل القليل، وسواء أكان صغيراً، أم كبيراً، مهما كان نوعه، وفي هذا دليل على كرامتهم عند ربهم، وصدقهم، وإخلاصهم، ولا يجوز طرد هؤلاء، أو إشعارهم بذلك.

وذكر المفسرون شيئاً آخر، أراد الله أن يكرمهم به، فكان لا يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه مع هؤلاء المستضعفين حتى يقوموا هم أولاً، ونزلت في حق هؤلاء الآية.

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].

{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَىْءٍ} : اتباعاً لقوله -جل وعلا- : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ أيْ: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم.

{فَتَطْرُدَهُمْ} : الفاء: السببية.

{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} : الفاء: للتوكيد.

{الظَّالِمِينَ} : الذين ظلموا أنفسهم، أو ظلموا غيرهم. ارجع إلى الآية (47) من نفس السورة؛ لبيان معنى الظلم.

وهذا الخطاب، وإن كان مُوجَّهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالمقصود به الدعاة إلى الإسلام، ففيه إرشاد لمنهج الدعوة.

وإن الهداية لا تكون إلَّا بمشيئة الله، وأن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الدعاة فقط التبليغ، والتبشير، والإنذار.

ص: 95

سورة الأنعام [6: 53]

{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: كما فتنّا المستكبرين من زعماء قريش بعدم الجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يطرد الفقراء الضعفاء من حوله {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا} : الفقير بالغني، والغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والعالم بالجاهل، والفتنة: هي الابتلاء والاختبار، وقد تكون خيراً، أو شراً. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)؛ لمزيد من البيان.

{لِّيَقُولُوا} : اللام: لام التوكيد. ليقولوا: تعود على المستكبرين من زعماء قريش، والأغنياء منهم.

{أَهَؤُلَاءِ} : الهمزة: للاستفهام، والاستخفاف، والتهكم، والاستبعاد، والهاء: للتنبيه. أولاء: اسم إشارة؛ يشير إلى الفقراء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين أسلموا معه.

{مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنْ بَيْنِنَا} : أيْ: فضَّلهم الله علينا، أو أنعم الله عليهم؛ بالهداية، والتوفيق.

{مِنْ بَيْنِنَا} : أيْ: من دوننا.

{أَلَيْسَ} : الهمزة: للاستفهام، والتقرير.

{اللَّهُ بِأَعْلَمَ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{بِالشَّاكِرِينَ} : ممن يقع منهم الإيمان والشكر، فيهديهم، ويوفقهم، بالشاكرين لأنعُم الله، فأكبر نعمة هي نعمة الإسلام والإيمان لله وحده. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لبيان معنى الشاكرين.

ص: 96

سورة الأنعام [6: 54]

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{وَإِذَا} : الواو: عاطفة، وإذا: ظرفية للمستقبل، وتتضمن معنى الشرط.

{جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} : أيْ: جاءك الذين يصدقون، ويؤمنون بآياتنا من هؤلاء الذين يريدون وجهه، ويدعون ربهم بالغداة والعشي، ونهيناك عن طردهم إذا جاؤوك هم، أو غيرهم من المؤمنين.

والمجيء فيه معنى المشقة، والصعوبة؛ لكونهم كانوا يخفون إيمانهم خوفاً من كفار قريش.

{فَقُلْ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ تفيد التوكيد؛ أيْ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : الفاء: للمباشرة والتعقيب؛ قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم لهم؛ أي: للذين يؤمنون: سلام عليكم؛ أي: ألقي عليهم تحية الإسلام، وهي السلام عليكم مع أن المتعارف عليه أن يلقي من يدخل السلام؛ فهذا يدل على كرامتهم عند الله تعالى بأن يوصي نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالسلام حين دخولهم، وسلام جاءت بالرفع: لتدل على السلام الثابت الدائم، وفي هذا بشرى للمؤمنين؛ سلام أمان من الله لكم؛ من ذنوبكم، و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}: جملة اسمية تدل على الثبوت، وكذلك نكرة تشمل سلام التحية، وسلام الأمن، وعدم الخوف، وسلام من كل مكروه، وغير مستحب.

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} :

{كَتَبَ} : وعدكم ربكم من ذاته العلية الرحيمة، وتفضلاً منه، وإحساناً، ومِنَّةً. وقيل: كتب في اللوح المحفوظ على نفسه الرحمة، وأن يتقبل توبتكم.

{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا} :

{أَنَّهُ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والعلَّة.

{مَنْ} : ابتدائية، استغراقية.

انتبه إلى قوله: من عمل، ولم يقل: كسب، كسب: تستعمل عادة في الخير، وليس في السوء.

{سُوءًا} : السوء: كلٌّ إثم وقبح، يسوء إظهاره، أو سيِّئ العاقبة، مثل: المعاصي، والزِّنى، والسيئات: الصغائر، والكبائر.

{سُوءًا} : نكرة؛ تشمل كلَّ سوءٍ.

{سُوءًا بِجَهَالَةٍ} : الباء: السببية، سبب جهالة؛ أيْ: سفه وطيش، والطيش: هو عدم تدبر نتائج أفعاله، والسفه؛ لكونه لا يُقدَّر قيمة ما يفوته من الثواب والأجر، وما يلحقه من العذاب. ارجع إلى سورة النساء، آية (17) لمعرفة الفرق بين جهل وجهالة.

{ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} : ثم: هنا للبعد؛ أي: التباين بين عمل السوء، والتوبة، وهي ليست للتراخي في الزمن.

وأركان التوبة: الكف عن المعصية، وعدم العودة إليها، والندم، والإكثار من النوافل، وإصلاح ما أخذه.

{بَعْدِهِ} : من بعد عمل السوء.

{وَأَصْلَحَ} : ردّ المظالم إلى أهلها، وأصلح ما أفسده بالمعصية.

{فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : الفاء: جواب الشرط (أنه). أن: تفيد التوكيد.

{غَفُورٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير المغفرة، ويغفر الذنوب العظام، ولو كانت مثل زبد البحر، ولا يفضح خلقه، ويستر ذنوبهم، ويمحوها، ويعفو عنها.

{رَحِيمٌ} : صيغة مبالغة، كثير الرحمة، لا يعجل العقاب، أو العذاب لعباده؛ حتى يتوبوا، ودائم الرحمة، يمحو السيئات، ويثيب على الحسنات، فهو رحيم بعباده المؤمنين في الآخرة.

ص: 97

سورة الأنعام [6: 55]

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} :

{وَكَذَلِكَ} : كما فصّلنا لك في الآيات السابقة، كيف تتعامل مع الذين يؤمنون بآياتنا؛ من الفقراء والمستضعفين، والذين يستكبرون، وما هو مصيرهم.

{نُفَصِّلُ} : نبيِّن لك الآيات الأخرى.

{وَلِتَسْتَبِينَ} : اللام: للتوكيد؛ أيْ: ليتضح لك، ولغيرك، وينكشف لك.

{سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} : المجرمين: جمع مجرم؛ لغةً: جرم؛ أي: أذنب وارتكب ذنباً، وجرم تعني: قطع؛ أي: قطع جميع صِلاته بالله تعالى، واصطلاحاً: كل من تمرد على أوامر الله ونواهيه ورفض الخضوع إليها؛ أي: ما يفعله المجرمون؛ أي: الكفار، المعاندون، المصرون على المعاصي، وارتكاب المخالفات الشرعية، وما سيكون مصيرهم.

وسبيل المجرمين: الطريق الذي يسلكه المجرمون، أو ما يقومون به؛ أيْ: نفصل ونبيِّن أمر كل فئة حتى يظهر لك طريق سلوك المجرمين من المنافقين والمشركين، وكيف تتعامل مع كل فئة.

ص: 98

سورة الأنعام [6: 56]

{قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم {إِنِّى} : للتوكيد.

{نُهِيتُ} : من النهي: وهو المنع؛ أيْ: مُنعت.

{أَنْ} : مصدرية؛ تفيد التعليل، والتوكيد.

{أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أيْ: أعبد الذين تعبدون من غير الله، مثل: هذه الأصنام، والآلهة، أو أدعوها للمساعدة، أو أطلب منها أيَّ شيء مثل: العون، والنصرة.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{قُلْ} : تكرار قل؛ يفيد التوكيد.

{لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} : لا: النافية. أتبع أهواءكم ولم يقل لا أتبعكم، وإنما قال لا أتبع أهواءكم؛ جمع هوى: وهو ما تميل إليه النفس باطلاً، بما لا ينبغي، ولا دليل، وبعيد عن الحق، والهوى: يغلب عليه الذم، ويختص بالأداء والاعتقادات. وقيل: الهوى هو المحبة المفرطة التي تعمي عن الحق؛ أي: لا أتبع دينكم، أو كقوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وهذا يدل على جهلهم واتباع شهواتهم.

{قَدْ ضَلَلْتُ} : قد: للتحقيق، والتوكيد، توكيد الضلالة، باتباع أهوائهم.

{قَدْ ضَلَلْتُ} : إذا دعوتها، أو عبدتها.

{وَمَا أَنَا} : الواو: عاطفة، ما: النافية، أنا: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{مِنَ الْمُهْتَدِينَ} : من: ابتدائية، المهتدين: السائرين على الصراط المستقيم، والمهتدين إلى الحق إذا اتبعت أهواءَكم.

ص: 99

سورة الأنعام [6: 57]

{قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} :

{قُلْ إِنِّى} : ارجع إلى الآية السابقة.

{بَيِّنَةٍ} : والبينة: كل ما يُبيَّن به الحق، من الحجج العقلية، أو الأدلة الحسية، أو الدلالة التي يتبيَّن بها الحق من الباطل؛ أي: القرآن.

{وَكَذَّبْتُم بِهِ} : به ترجع إلى الرب، أو ترجع إلى المنهج؛ أي: القرآن.

{مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ} : ما: الأولى: نافية، عندي؛ أيْ: بيدي، ما: الثانية: اسم موصول؛ بمعنى: الذي؛ أيْ: ما بيدي الأمر الذي تستعجلون به، والاستعجال: هو طلب الحدث قبل زمنه أو وقته، وهو: مذموم غالباً ونقيض العجلة الأناة، وهي محمودة.

{بِهِ} : تعود إلى العذاب؛ إذ كانوا يشكّون في حدوثه، وأنه سينالهم؛ لأنهم كذبوا به، ولذلك كانوا يقولون:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} :

{إِنِ} : نافية، أشد نفياً من ما؛ تفيد التوكيد.

{الْحُكْمُ} : الفصل، والقضاء؛ أيْ: متى سيحل عليكم العذاب.

{إِلَّا} : أداة حصر وقصر، الحكم بيد الله فقط؛ فهو يُصدر الحكم، أو يقضي القضاء متى شاء.

{لِلَّهِ} : لام الاختصاص.

{يَقُصُّ الْحَقَّ} : أيْ: وكل ما يخبر به، ويقص علينا، هو الحق، وقص: ذكر الخبر، أو تتبع الأثر، وهو خير الفاصلين.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} : خير من يحكم بالعدل، والفصل: هو القضاء، والحكم بين الحق والباطل، ومن يُدخل الجنة، ومن يُدخل النار.

ص: 100

سورة الأنعام [6: 58]

{قُلْ لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الْأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} :

{قُلْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{لَّوْ} : حرف شرط.

{أَنَّ} : يفيد التوكيد.

{عِندِى مَا} : ما: الذي اسم موصول.

{تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} : أي: العذاب.

{لَقُضِىَ الْأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} : لقضي: اللام: للتوكيد، إما الإيمان والتصديق، وإما الهلاك، وما أمهلكم دقيقة.

{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} : لكن الأمر ليس لي، إنه يرجع إلى الله العليم الحكيم، إن شاء عجل لكم العذاب، أو إن شاء أخَّر.

فهو {أَعْلَمُ} : على وزن أفعل، صيغة مبالغة بما يعمله الظالمون؛ فقد يؤمن بعضهم، أو لا يؤمن، وما يؤول إليه أمرهم؛ لأنه عالم الغيب والشهادة.

{بِالظَّالِمِينَ} : والباء: للإلصاق، الظالمين: المشركين، الظالمين لأنفسهم وغيرهم، وظلم النفس يكون بالخروج عن منهج الله تعالى. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

ص: 101

سورة الأنعام [6: 59]

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} :

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ} : وعنده: الواو: عاطفة؛ عنده: ظرف مكان، وتقديم عنده على مفاتح الغيب: يدل على الاختصاص والحصر؛ مفاتح جمع لـ (مِفتح): بكسر الميم، وهو آلة الفتح، وتسمَّى المفتاح، وتجمع أيضاً على مفاتيح؛ أيْ: إنه سبحانه يملك المفاتيح التي تفتح الغيب، أو مشتقة من مَفتح: بفتح الميم؛ يعني: عنده خزائن الغيب.

والغيب: ما استأثر الله بعلمه، والغيب هنا يعني: الغيب المطلق؛ الذي لا يعلمه إلَّا الله، والغيب: هو كل ما غاب عنك، فهناك بعض الأمور الغيبية التي أطلعها الله لرسله، وغيرها، وهذا النفي من الغيب غير المقصود هنا في هذه الآية، ومفاتح الغيب هي: خمسة جاء ذكرها في سورة لقمان آية (34)، وهي قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} .

{لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} : لا: النافية. إلا: أداة حصر، وهو: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد؛ أي: فيها نفي واستثناء يفيد الاختصاص والإثبات.

وقيلت أقوال كثيرة في مفاتح الغيب منها:

الساعة، والأرحام، ما تفيض وما تزداد، والغيث، متى ينزل، وأين، ومقداره، والموت، متى، وبأي أرض، وبأي سبب، والرزق، ماذا نكسب غداً، ومقداره، ومن أين.

وقيل: مفاتح الغيب هي خزائنه؛ لقوله سبحانه وتعالى : {وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} ، فالمفاتيح لتلك الخزائن.

فعلينا أن نؤمن: بأنه لا يعلمها إلّا هو سبحانه، حصراً وقصراً، ويعلم كذلك:

{مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} :

{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} : من مخلوقات، وأرزاق، وجمادات، ونباتات.

{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} : انتبه إلى تكرار ما الأولى: اسم موصول؛ أي: الذي في البر والبحر.

وما الثانية: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} : نافية.

{إِلَّا يَعْلَمُهَا} : إلّا أداة حصر.

ولم يقل: إلا هو يعلمها؛ لأن هذا الأمر، لا يمكن أن يشاركه في علمه أحد، فلا حاجة لذكر (هو)، وقوله تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فيه إجمال، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} تفصيل واستخدام النفي والاستثناء مرة أخرى يدل على الإثبات والتوكيد.

{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} : من أوراق الشجر والنباتات، يعلم زمن سقوطها، وأين تسقط، وما يطرأ عليها من تغيرات، ومصيرها.

{وَلَا حَبَّةٍ} : ولا حبة، مهما كان نوعها.

{فِى ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} : في طبقات الأرض، وباطنها، ولا حبة فيها إجمال.

{وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} : تكرار {وَلَا} : يفيد التوكيد، والنفي، وفيها تفصيل.

الرطب؛ قيل: هو الحي، أو ما يُنبت بالماء، أو الطري، أو الذي يتحرك (يربو وينمو).

اليابس؛ قيل: هو الميت، أو ما لا ينبت، أو لا حركة له؛ أي: الهامد.

إذنْ: لاحظ سعة علم الله، ثم عليك أن تؤمن بأن الله يعلم كلَّ شيء، جملةً وتفصيلاً؛ إذ يعلم -جل وعلا- ما كان، وما يكون، وما سيكون، وبعد علمه، جاءت الكتابة. وانظر إلى تتابع الإجمال ثم التفصيل ثم الإجمال ثم التفصيل ثلاث مرات في آية واحدة.

{فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} : هو مكتوب في اللوح المحفوظ.

ص: 102

سورة الأنعام [6: 60]

{وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَهُوَ} : الواو: عاطفة، هو: ضمير منفصل؛ يفيد الاختصاص، والقصر.

{يَتَوَفَّاكُمْ} : أيْ: يتوفَّى أنفسكم؛ لقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42].

{بِالَّيْلِ} : الباء: للإلصاق، وتفيد الظرف؛ أيْ: بالنوم الوفاة الصغرى؛ كي ترتاح الجوارح، وتنشط بهذا النوم، وهو آية من آيات الله -جل وعلا- الدالة على قدرته على البعث. ارجع إلى سورة الزمر، آية (42)؛ للبيان.

{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} : أيْ: كسبتم من الخير، والشر، والحسنات، والسيئات، بجوارحكم.

والاجتراح: هو الاكتساب باليد، أو القدم، أو الفم، واللسان، والعين، والأذن، وغيرها، وغالباً ما يكون في النهار.

{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} : فيه: أيْ: يوقظكم بالنهار، الباء: ظرفية؛ أيْ: في النهار، البعث يعني: اليقظة، والنهوض من النوم، كما سيقوم الميت، ويبعث من قبره، والنوم يشبه الموت.

{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} : اللام: لام التعليل، أجل مسمَّى: لتبلغوا الأجل، الزمن الذي كُتب وقُدر لكم؛ لانقطاع حياتكم؛ أي: الموت.

{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} : ثم: تفيد الترتيب والتراخي في الزمن.

{إِلَيْهِ} : تقديم الجار والمجرور هنا يفيد الحصر والقصر؛ أيْ: فقط إليه وحده مرجعكم، لا إلى أحد غيره بعد حياة البرزخ.

{ثُمَّ} : للتوكيد.

{يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : ينبئكم في يوم القيامة، بما كنتم تعلمون في الدنيا من خير، أو شر، والعمل يشمل: القول، والفعل؛ أيْ: ما كنتم تقولونه، وتفعلونه في دنياكم.

ص: 103

سورة الأنعام [6: 61]

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} :

{وَهُوَ الْقَاهِرُ} : جاء بضمير الفصل هو؛ ليدل على أنه هو وحده عز وجل القاهر.

{الْقَاهِرُ} : الغالب، المسيطر، القوي، المقتدر، المتحكم، لا يعجزه شيء، ولا يخرج أحد من تحت سيطرته.

{فَوْقَ عِبَادِهِ} : أيْ: هو فوقهم بقهره، وهم تحته بذلِّهم، فهو قهر استعلاء، فهم المقهورون بلا اختيار، والمنقادون لحكمه، فيما لهم فيه اختيار، أو غير اختيار، يقهر بالمرض، وبالفقر، وبالموت، والأذى، والضرر، والعذاب، وبالبأساء، والضراء.

{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} : يحفظون أعمال العباد، ويكتبونها؛ لقوله:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17].

وهم الكرام الكاتبون، ومنهم المعقبات:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ، وأما الكرام الكاتبون فهم أربعة: ملكان بالليل، وملكان بالنهار، وأما الحفظة: جمع حافظ، موكلون بالعبد، يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه، فإذا جاء أمر الله؛ أي: الذي قدَّره؛ خلَّوا بينه، وبين أمر الله؛ ليقع قضاء الله وقدره على عبده.

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} : قدَّم المفعول به على الفاعل؛ للاهتمام، ولأن الموت شيء مكروه للإنسان؛ فهو قد أخّره، ولم يقل:«حتى إذا جاء الموت أحدكم» ، ومجيء الموت صعب جداً، واستخدم جاء: المناسبة للصعوبة، والمشقة، وسكراته بدلاً من أتى التي تدل على السهولة.

{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} : نزعت ملائكة الموت روحه، بأمر من ملك الموت.

فالموت: ينسب إلى الله لقوله عز وجل : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].

وينسب إلى ملك الموت لقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].

وينسب إلى الرسل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].

انتبه {رُسُلُنَا} : هنا تعني: ملك الموت، إضافة إلى الملائكة الذين يحملون الروح، ويصعدون بها إلى علّيين، أو سجين.

فقبض الروح بالنسبة إلى الله سبحانه أمرٌ، وإلى ملك الموت واسطة الذي يأمر الرسل بقبض الروح؛ لقوله:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 1-2].

{وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} : فرط: أهمل، لا يهملون، ولا يقصرون، ولا يتجاوزون الحد؛ أيْ: لا يستأخرون ساعة، ولا يستقدمون؛ حين يطلب منهم قبض الروح.

{وَهُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، والقصر الحقيقي على عدم تفريطهم.

ص: 104

سورة الأنعام [6: 62]

{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} :

{ثُمَّ} : تدل على التعقيب، والتراخي.

{رُدُّوا} : يعني: العباد، والردّ يكون بعد الموت، بعد البعث، بعد النفخة الثانية، والرد: هو الرجوع المجبر عليه من دون إرادته، أو رغبته.

{إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} : المولى: المالك، ردوا إلى مالكهم وحاكمهم.

{الْحَقِّ} : صفة للمولى؛ أي: الذي لا يتغير، أو يتبدل؛ مهما طال الزمن، أو تغير.

{أَلَا} : أداة تنبيه.

{لَهُ الْحُكْمُ} : الحكم يشمل القضاء، والفصل، وهناك فرق بين الحكم والقضاء والفصل، فالحكم والقضاء كقوله: يحكم بينهم، أو يقضي بينهم، يستعملها القرآن بين أفراد الملة الواحدة، أو الأمة الواحدة، ويفصل بينهم: للفصل بين الأمم، أو الأنبياء، وأممهم، أو للفصل بين الحق والباطل، أو أهل الجنة والنار، والمؤمنين والمشركين، وقيل: الفصل أشد من الحكم، والفصل من الحكم، فهو سبحانه يحكم بينهم، ثم يفصل بينهم؛ فهو سبحانه يحكم أو يقضي بين أفراد الأمة الواحدة، ثم يفصل بينهم؛ فريق إلى الجنة، وفريق إلى السعير.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يدل على التوكيد، والحصر.

{أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} : يحاسب الخلق، بوقت قصير، لا يعلمه إلا هو، أو بكلمةِ: كن، فيكون، أو لمحة البصر؛ لأنه لا تخفى عليه خافية.

سُئِلَ الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كيف يحاسب ربنا -جل وعلا- الناس جميعاً في وقت واحد؟ فقال: كما يرزقهم في وقت واحد.

ص: 105

سورة الأنعام [6: 63]

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

{قُلْ مَنْ} : استفهام تقريري.

{يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : من الشدائد؛ كالعواصف، والأعاصير، والكوارث الجوية: من زلازل، ورعد، وبرق، والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه الشدة: يوم مظلم.

كقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].

حينئذٍ {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} : لا تجدون ملجأً إلّا إيّاه، تدعونه علانية وسراً، وبخشوع، وذل، وخوف.

{تَضَرُّعًا} : قد تكون بالعلن، مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إليه، والحاجة إليه، والذل، والانكسار.

{وَخُفْيَةً} : في الخفاء: أي التستر؛ أيْ: في أنفسكم، دعاء الصمت بالخفاء.

{لَّئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

{لَّئِنْ} : اللام: لام التوكيد، إن: حرف شرط؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.

{أَنْجَانَا} : من أنجى، وأنجيتنا.

{أَنْجَانَا} : تفيد السرعة، وقصر الزمن، ولم يقل: لئن نجانا؛ تفيد البطء، والزمن الطويل؛ لأن الزمن قصير جداً في تلك الشدائد، والصبر قليل، والنجاة يلزمها وقت قصير.

{مِنْ هَذِهِ} : من: ابتدائية. {هَذِهِ} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة؛ يفيد القرب، وتشير إلى الشدة والمحنة.

{لَنَكُونَنَّ} : اللام: للتوكيد، وكذلك نون النسوة: لزيادة التوكيد.

{مِنَ الشَّاكِرِينَ} : لله سبحانه، الشاكرين على نعمة النجاة. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (10)؛ لمزيد من البيان على الشاكرين.

ص: 106

سورة الأنعام [6: 64]

{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} :

{قُلِ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} : الله ينقذكم من هذه الكارثة، أو المصيبة، وكذلك {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}: من: استغراقية؛ تشمل {كُلِّ كَرْبٍ} : كرب: نكرة؛ أيِّ كرب مهما كانت شدته وحجمه.

الكرب: هو كلُّ غمٍّ شديد الذي يصحب الشدائد، ويصيب النفس، ويصاحبه ضيق في الصدر، ولا يستطيع أحد دفعه، أو رده في أغلب الأحوال إلا الله وحده سبحانه.

{ثُمَّ} : للترتيب، والتراخي، أو لتباين الصفات من التضرع، والشرك.

{أَنتُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{تُشْرِكُونَ} : بالله تعالى، وتجعلون له أنداداً بعد إذ أنجاكم منها.

ص: 107

سورة الأنعام [6: 65]

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} :

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} : هو: ضمير منفصل؛ يدلّ على الحصر، والتوكيد، ويعود على الله -جل وعلا- ؛ إذ هناك من البشر من هو قادر أن يبعث عليكم عذاباً، ولكن القادر الحقيقي هو الله وحده.

{عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} : كالصواعق والرعد والبرق والصيحة والرياح المدمرة والمطر الغزير.

{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} : الزلازل، والغرق، والفيضانات، والرجفة والخسف

وغيرها، من أنواع العذاب.

{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} : شيعاً: جمع شيعة: وهم الأتباع والأنصار؛ الذين اجتمعوا على أمر ما، ولو كان باطلاً؛ أيْ: يجعلكم طوائف، ومذاهب متفرقة، متضاربة في الآراء، والعقيدة، والغايات.

{يَلْبِسَكُمْ} : أيْ: يخلط أمركم، خلط اضطراب، ويقال: لبست عليه الأمر؛ أيْ: لم أبيِّنه له.

{وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} : البأس: هو العذاب، أو الحرب، أو القتل، والتدمير، والنهب، والسلب؛ أيْ: يطغى بعضكم على بعض بالقتل، والفساد، والسوء، كما في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129].

{انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} :

انظر كيف نوضح، ونبيِّن الآية بأساليب مختلفة، وصور شتى؛ حتى يتبيَّن معناها الحقيقي، والخفي، والغاية من وراء ذلك؛ لعلَّهم يفقهون.

{لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} : الفقه لغةً: الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مثل القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها، وهو الفهم للشيء؛ بدليله وعلته، يؤدِّي إلى الاعتبار، والاتعاظ، والعمل الأفضل، والوصول إلى الحق. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

ص: 108

سورة الأنعام [6: 66]

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} :

{وَكَذَّبَ بِهِ} : القرآن.

{قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} : والحق: هو القرآن، أو الوحي، وهو الأمر الثابت؛ الذي لا يتغير، ولا يتبدل.

فالقرآن: حق ثابت، لا شك فيه، ولا ريب فيه، ولا يتغير، ولا يتبدل:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].

{قُلْ لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} : قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: لا سبيل لإجباركم على الإيمان. {لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} : أيْ: حفيظ، ولا موكل إليَّ أموركم، ولا حسابكم، ولا كافيكم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (108) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} : نجد أن (ما) في النفي أقوى من (ليس)، وكذلك الجملة الاسمية {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}: تدل على الثبوت، وأقوى من الجملة الفعلية لست؛ فقوله:{وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} : أشد نفياً وأكد؛ فقد جاءت {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} في سيق الضلال والهداية، ولست في سياق التكذيب بالقرآن.

وكلمة {قَوْمُكَ} : فيها تقريع لهم؛ لأنه شملهم جميعاً.

ص: 109

سورة الأنعام [6: 67]

{لِكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

{لِكُلِّ} : اللام: لام التوكيد.

{نَبَإٍ} : خبر عظيم، يخبر به الله تعالى.

{مُّسْتَقَرٌّ} : أيْ: وقت يقع فيه؛ من غير تقديم، ولا تأخير، ومكان يذاع فيه النبأ.

{وَسَوْفَ} : حرف استقبال؛ يدل على البعد الزمني، والتراخي.

{وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : صدق ما جاء به القرآن، أو الوحي، ومحمد صلى الله عليه وسلم من خبر، ووعد، ووعيد، ووقوع، وما أخبر به من عذاب وجزاء، عاجلاً، كما وقع في بدر، أو آجلاً يوم القيامة.

ص: 110

سورة الأنعام [6: 68]

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

سبب النزول: كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في أهل الأهواء، والبدع من المسلمين الذين يُؤَوِّلون الآيات بالباطل.

{وَإِذَا} : ظرفية متضمنة معنى الشرط، وتدل على حتمية الحدوث.

{رَأَيْتَ} : رؤية بصرية، أو فكرية، قلبية.

{يَخُوضُونَ} : الخوض: أصله الدخول في الماء الكثير الذي يستر القدمين، وعندها لا يدري إلى أيِّ موقع تقع أو تزل قدميه في هوة، أو حفرة، والخوض يكون من دون اهتداء.

{يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا} : ومعنى الخوض في آياتنا: لم تبيِّنه هذه الآية، وإنما بيَّنته آية أخرى، في سورة النساء، الآية (140)، فقال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} .

إذنْ الحوض؛ يعني: الكفر، أو الاستهزاء بآيات الله سبحانه.

وفي هذه الآية كذلك يبيِّن الحكم فيما إذا استمر الصحابة في الجلوس مع الذين يخوضون في الآيات، والحكم هو أنكم إذنْ مثلهم؛ أيْ: في الذنب، والإثم، وبدعهم، ومعتقداتهم الباطلة، {فَأَعْرِضْ}: الفاء: للتوكيد.

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} : انصرف عنهم، ولا تجالسهم، ولا تستمع لهم، {حَتَّى}: حرف غاية، نهاية الغاية.

{حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} : وعندها لا مانع من مجالستهم، والتحدث معهم، إذا غيروا الحديث، أو توقَّفوا عن الخوض.

{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : وإما: الواو: عاطفة، إما: أصلها (إن+ما)، إن: شرطية، ما: للتوكيد.

وإذا حدث أنك نسيت أمر النهي، والمنع، ووجدت نفسك تجلس معهم؛ فمجرد ما تتذكر المنع، وعدم مخالطتهم اترك، وانصرف عنهم، إذنْ يمكن أن تنسى، والنسيان من عمل الشيطان الذي يُزين ويشغل الإنسان فلا يتذكر، ولكن بعد الذكرى لا تجلس مع القوم الظالمين.

{الذِّكْرَى} : تذكر النهي.

{الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : المشركين، أو الظالمين، والظالم: هو كلُّ مَنْ يخرج عن منهج الله تعالى يُعد ظالماً لنفسه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

ص: 111

سورة الأنعام [6: 69]

{وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: نافية.

{عَلَى} : تفيد الاستعلاء، والمشقة.

{الَّذِينَ} : أيْ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه.

{يَتَّقُونَ} : أيْ: يطيعون أوامر الله، ويتجنبون محارمه.

{مِنْ} : ابتدائية.

{حِسَابِهِمْ} : أيْ: حساب الذين يخوضون في آيات الله، لستم مسؤولين عنهم في أيِّ شيء.

{وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : أيْ: قيامكم، وترككم لهم، هو استنكار، وعدم رضا؛ لما يخوضون فيه.

ولعلَّ هذا القيام، وتركهم يؤثر فيهم، ويكون لهم تذكرة، ويتعظون به، ويتوقفون عن الخوض في آيات الله، وينأون بأنفسهم عن الباطل، فيكون ذلك وقاية لهم من عذاب الله وسخطه، وإذا قارنا ذكرٌ مع ذكرى التي تعني التذكر نجد ذكرٌ أقوى من ذكرى، ويأتي في سياق الدعوة والتبليغ؛ ارجع إلى سورة يوسف آية (104) للبيان.

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : لعل: للتعليل، ولا بُدَّ من الأخذ بالأسباب الأخرى؛ للتقوى، بعد توقفهم عن الخوض، والتوبة؛ لعلَّهم يصبحوا من المتقين.

ص: 112

سورة الأنعام [6: 70]

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} :

{وَذَرِ الَّذِينَ} : أيْ: اتركهم، أو أعرض عنهم.

{اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} : اللعب: هو كل فعل لا يُلهي عن واجب ويسمى اللعب لهواً إذا شغل الإنسان عن واجب اتخذوا دِينهم لعباً ولهواً بالسخرية، والاستهزاء، وعبادة الأصنام، وتحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ لعباً ولهواً: ارجع إلى الآية (32) من سورة الأنعام؛ للبيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (51) في سورة الأعراف نجد أن في هذه الآية قدم اللعب على اللهو، وفي آية الأعراف قدم اللهو على اللعب، وذلك لأن آية الأنعام جاءت في سياق الحياة الدنيا وسياق الخوض في آيات الله الذي يعتبر لعباً أكثر مما هو لهواً، وأما آية الأعراف جاءت في سياق الآخرة وقدم اللهو على اللعب؛ ارجع إلى سورة الأعراف للمقارنة.

{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : وغرتهم: من الغرور، الخداع، الباطل، الفاني، أو الغفلة، أو إظهار ما هو خلاف الحقيقة، خدعتهم الحياة الدنيا، وألهتهم بمتاعها، الفاني، الزائل، حتى ضيعوا آخرتهم.

{وَذَكِّرْ بِهِ} : بالقرآن، وقد تعني بالعذاب، أو الحساب، وبعاقبة المخالفة لمنهج الله.

{أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} : البسل: هو القهر، والمنع بالحبس، أو تسليمه إلى الهلاك.

{أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} : أن: مصدرية؛ للتعليل، والتوكيد.

فالمعنى: وذكر بالقرآن؛ لئلا تهلك نفس، أو تحبس في النار، بما: الباء: للإلصاق، والسببية؛ أيْ: بما كسبت من الذنوب والآثام. ولبيان معنى كسبت ارجع إلى سورة البقرة آية (286) للبيان المفصل.

{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ} : ارجع إلى الآية (51) من نفس السورة؛ للبيان.

ونفي العثور على الشفيع في الآخرة أشد من العثور على الولي في الدنيا؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق الدنيا، وفي الدنيا قد يجد الظالم من ينصره، ويعينه، ويشفع له إلى حد ما.

ولا أحد يستطيع الشفاعة {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]؛ لأنه لا يعلم أنه مؤهل، أو غير مؤهل، وهل يسمح له؟ وإن سمح له هل تقبل منه شفاعته، أم لا؟

{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} : العدل: هو الفدية، وعادة ما يكون بالمال. ارجع إلى سورة المائدة، آية (36)؛ للبيان.

{وَإِنْ} : الواو: عاطفة. إن: شرطية؛ تدل على القلة، أو الندرة، إن تعدل كل عدل؛ أيْ: تقدَّم كل فداء، مهما كان، لن يؤخذ منها.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا} : أولئك: اسم إشارة، تحمل معنى التحقير، أبسلوا: أيْ: هلكوا، أو حبسوا في الجحيم.

{بِمَا كَسَبُوا} : الباء: السببية، وللإلصاق، بما كسبوا: بسبب كفرهم، وذنوبهم، أو بسبب ما كسبت جوارحهم من الآثام والمعاصي.

{لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} : لهم: اللام: للاختصاص، شراب من حميم: ماء: حار، بالغ نهاية الحرارة.

{وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} : شديد الإيلام، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}: بكفرهم، وعصيانهم، الباء: باء السببية، وما: مصدرية، أو اسم موصول، ولم يقل: بما كفروا، وإنما: يكفرون: بصيغة المضارع؛ الدالة على تجدد كفرهم، واستمراره؛ فهو لم يتوقف بعد.

ص: 113

سورة الأنعام [6: 71]

{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{قُلْ أَنَدْعُوا} : الهمزة: استفهام إنكاري.

{قُلْ أَنَدْعُوا} : أيْ: نعبد من دون الله من غير الله أصناماً، أو آلهة.

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من: ابتدائية.

{مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} : ما: نافية، لا ينفعنا، ولا يضرنا، تكرار لا: النافية؛ تفيد زيادة التوكيد، لا ينفعنا وحده، ولا يضرنا وحده، أو معاً، والمنفعة قد تكون حسنة، أو قبيحة، والمتعة منفعة، والمضرة قد تكون حسنة، أو قبيحة.

{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} : العقب: هو مؤخر القدم، ويقال نكص على عقبيه؛ أي: رجع إلى المكان الذي جاء منه، ويعني هنا: نرجع إلى الشرك، والضلال. وهذه الآية تمثل حال المرتد إلى الكفر أو الشرك بعد أن أسلم، أو رجع إلى الكفر بعد الإيمان.

{بَعْدَ إِذْ} : إذ: ظرف للزمن الماضي.

{هَدَانَا اللَّهُ} : بعد إذ أنقذنا الله، وهدانا للإسلام، ودين الحق.

{كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} :

{كَالَّذِى} : الكاف: للتشبيه، الذي: اسم موصول.

أولاً: {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الْأَرْضِ حَيْرَانَ} : استهوته: على وزن استفعل، وتأتي للطلب؛ أيْ: جعلته الشياطين يتبع هواه، ويتبع خطوات الشياطين، ويتقبل ما تمليه عليه، والشياطين: هم كفرة الجن، أو شياطين الإنس الذين يفتنون المرء عن دينه.

ثانياً: وهوى قد تعني: السقوط من الأعلى إلى الأسفل، أو تعني استهوته: أيقظت فيه هوى النفس، وزينت له؛ فهو لا يهتدي إلى طريق الحق، أو هوت به بعيداً؛ كأنما ألقته في الصحراء؛ ليصبح ضالاً، لا يهتدي، وهذه الآية تتعلق بأسطورة قديمة: هي أن العرب كانت تزعم أن مرض الجنون سببه الجن.

وبما أن الجن تعيش في الصحارى، والقفار، وهؤلاء الجن المردة الكفار لهم القدرة على التلون بألوان مختلفة، تذهب بالعقل، فيهيم على وجهه من سحر هذه الشياطين، وفي الصحراء؛ حتى يهلك، ويصبح الإنسان هائماً حيراناً، لا يهتدي، ولا يعرف إلى أين يذهب.

{فِى الْأَرْضِ حَيْرَانَ} : بعد أن هجر دينه وأصحابه وفسد عقله فجن وهام في الأرض لا يدري أين يذهب، وماذا يفعل.

{لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} : أيْ: مع كونه له أصحاب، والصاحب؛ أي: الرفيق، الملازم، والذي يحصل منه نفع، أما القرين: فهو الصاحب الذي يحصل منه ضرر.

يدعونه أن يؤمن، ويدعونه إلى الهداية، أو ارجع إلى الهدى، فلا يستجيب لهم.

قل يا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ} : للتوكيد، {هُدَى اللَّهِ}: أيْ: هداه، ودينه؛ الذي ارتضاه لعباده المؤمنين.

{هُوَ الْهُدَى} : الإسلام، ودين الحق.

وهذا ردع، وزجر؛ لمن دعا إلى عبادة الأوثان، وكأنه قيل له: لا تفعل ذلك؛ لأن دِين الإسلام هو الهدى.

{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} : أن نسلم: أيْ: نخلص عبادتنا لرب العالمين: بالتوحيد، والإخلاص. اللام: لام التوكيد، ومثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران: هو من يرتد عن دِينه.

ص: 114

سورة الأنعام [6: 72]

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :

{وَأَنْ} : الواو: عاطفة؛ أيْ: وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن نقيم الصلاة، وأن نتقي ربنا.

{وَأَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.

{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : بأركانها، وشروطها، والمحافظة عليها، والدوام، والصلاة لأوقاتها.

{وَاتَّقُوهُ} : التقوى: هي أداء الأوامر، وتجنب النواهي؛ للوقاية من النار، ومن غضب الله تعالى.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل يفيد التوكيد، والحصر.

{الَّذِى} : اسم موصول للمفرد المذكر العاقل وأكثر تحديداً من (ما) و (مَنْ).

{إِلَيْهِ} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر، والقصر في الحشر.

{تُحْشَرُونَ} : بعد البعث، والخروج من القبور، والحشر: هو السوق والجمع إلى أرض المحشر.

ص: 115

سورة الأنعام [6: 73]

{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} :

كيف ندعو من دون الله ما لا ينفعنا، ولا يضرنا؛ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التعظيم.

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق؛ تعني: بالشيء الثابت الذي لا يتغير، فالسموات، والأرض، والكواكب، والأفلاك على نظام ثابت لا تتغير قوانينه؛ {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

{بِالْحَقِّ} : تعني: لم يخلقها عبثاً، أو لهواً، بغير حكمة؛ أيْ: خلقهما بحكمة. ارجع إلى سورة إبراهيم آية (19) لمزيد من البيان في معنى: بالحق.

{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} :

ويوم يقول -جل وعلا- ليوم القيامة: {كُنْ فَيَكُونُ} .

{قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} :

{قَوْلُهُ الْحَقُّ} : أي: الصدق الكائن، لا محالة، قوله في كل شيء، أو أمر، وحكم، أو إيجاد، أو بدء، أو نهاية، أو قضاء: هو الحق.

{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ} : وله الملك، تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر، له وحده عز وجل .

{الْمُلْكُ} : ملك السموات والأرض، وما فيهن، والملك يعني: الحكم، وكذلك يعني الملك.

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ} : نفخة الصعق، الموت، والفناء، فلا يبقى إلا هو وحده سبحانه؛ كقوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} : عالم اسم فاعل: من علم؛ أي: الاتصاف بالعلم ما غاب، واستتر عنه العيون: من الكون، والخلق، والسر، والنجوى، عالم الغيب، والأسرار، وعالم ما يُشاهد، ويُرى بالمدركات العيون والآذان، وغيرها، يعلم السر، والعلن، ويعلم السر، وما أخفى، الرقيب، المحيط بكل شيء علماً، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض، ولنعلم أن كلمة عالم في كل القرآن جاءت مقترنة بعالم الغيب أو غالم الغيب والشهادة، وكلمة علام في كل القرآن جاءت مقترنة بالغُيُوب؛ أي: علام الغيوب، وكلام صيغة مبالغة، وكلمة عليم تفيد المبالغة في العلم؛ أي: المحيط علمه بظواهر الأمور وبواطنها.

{وَهُوَ الْحَكِيمُ} : في تدبير خلقه، وكونه، وشرعه، والحكيم مشتقة من الحكم، أو الحكمة، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ للبيان.

{الْخَبِيرُ} : العليم ببواطن الأمور، وخفايا الصدور.

ص: 116

سورة الأنعام [6: 74]

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{وَإِذْ} : واذكر، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}: وإذ: ظرف؛ بمعنى: حين.

{لِأَبِيهِ آزَرَ} : هناك من المفسرين من قال: إن آزر هو عمه، وهناك من قال: إن آزر أبوه، وقيل: إن اسم والد إبراهيم هو تارخ، وقيل: كان له اسمان، آزر، وتارخ.

والأدلة تشير إلى أن آزر هو عم إبراهيم، وليس والده.

والقرآن يطلق على العم اسم الأب، وكذلك يطلق اسم الأب على الجد، والدليل على ذلك قوله تعالى:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133].

فالجد والعم يطلق عليهم لقب الأب، ولأن العرب كانت تسمِّي العم أباً، والجد أباً.

ويعقوب عليه السلام أطلق على إسماعيل كلمة أباه، مع أنه عمه، وبهذا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب هي أبوّة عمومة، ويعقوب عليه السلام أبوه إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل.

إذنْ أطلق على آزر كلمة الأب، وأريد بها العم.

{أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} : استفهام إنكاري؛ للتوبيخ؛ أيْ: أتجعلها آلهة لك تعبدها.

{أَصْنَامًا} : جمع صنم: وهو التمثال، أو الوثن والصنم: يطلق على ما يُعبد من دون الله وهو عبارة هيكل تمثال مصنوع من النحاس أو الفضة أو الذهب أو الخشب، والوثن: هو عبارة عن حجر لا صورة له. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (17)؛ لمزيد من البيان.

{إِنِّى} : للتأكيد.

{أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : ضلال، واضح، مبين؛ لكل إنسان، وواضح بنفسه، لا يحتاج إلى دليل، أو برهان.

ص: 117

سورة الأنعام [6: 75]

{وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: كما أريناه البصيرة في الدِّين، وضلال أبيه وقومه، وبطلان عبادتهم للأصنام.

{نُرِى إِبْرَاهِيمَ} : الرؤية: إدراك الشيء بالبصر ويُعد من اليقين نريه مظاهر قدرتنا؛ أيْ: ملكوت السموات والأرض.

{مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أيْ: بعض الملكوت، وليس كل الملكوت.

وكلمة {مَلَكُوتَ} : وردت في القرآن أربع سور، وإضافة التاء للملك؛ تدل على المبالغة، فالمُلك هو ما تراه، وتحسه، وتشاهده أمامك.

أما {مَلَكُوتَ} : فهو ما وراء هذا الملك، ملك الله الخاص، لم يعطه لأحد، أو يريه لأحد إلا إبراهيم عليه السلام .

والسموات والأرض، وما فيهما، فهو داخل في كلمة الملكوت.

والملكوت تشمل المجموعات الشمسية، والمجرات كلها، والكون كله، بأقماره، وشموسه، وكواكبه، ونجومه، وغيرها.

والرؤية هنا رؤيا بصرية، رأى إبراهيم عليه السلام ما لا تراه المراصد الفضائية، أو الفلكية.

{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} : اللام: للتعليل، من الموقنين جمع: موقن بالرؤية، وليس بالعلم فقط؛ أيْ: عين اليقين؛ أيْ: ليستدل من هذه الرؤية، ويصبح من الموقنين؛ الذين صفة اليقين ثابتة عندهم، لا تتبدل، ولا تتغير. ارجع إلى سورة البقرة آية (4) لبيان معنى اليقين وأنواعه.

ص: 118

سورة الأنعام [6: 76]

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: عاطفة، لما ظرف بمعنى حين يتضمن معنى الشرط.

{جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ} : أيْ: أظلم، وستر، واشتد ظلامه، وأصبح كل واحد لا يرى الآخر؛ بسبب الظلام.

{رَأَى كَوْكَبًا} : والكوكب: كالقمر، هو الذي يأخذ ضوءَه من مصدر آخر، مثل الشمس، فالكوكب ليس مضيئاً بذاته.

{قَالَ هَذَا رَبِّى} : والسؤال هنا: كيف يقول إبراهيم عليه السلام هذا القول الذي يدل في ظاهر الأمر على الشرك؟، ولكن الحقيقة وفي باطن الأمر: هو استفهام إنكاري وتهكم على قومه، وتقدير كلامه أهذا ربي أو هل هذا ربي؟.

فإبراهيم هو الذي حاج النمرود قبل القدوم إلى الشام (سورة البقرة، آية 258).

وإبراهيم الذي راغ إلى الآلهة؛ فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين (سورة الصافات، آية 91-93).

فقوله تعالى: {رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّى} : قال ذلك في مقام الحجاج والجدال مع هؤلاء الذين يعبدون النجوم، والكواكب؛ ليثبت لهم زيف وبطلان عبادتهم، وكانوا يسكنون قرية من قرى بلاد الشام تسمَّى حرَّان؛ التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام ، بعد أن ترك أباه وقومه في أرض العراق، بسبب شركهم وضلالتهم، وهذا قد يشبه قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِى} [فصلت: 47]؛ فالله سبحانه يعلم أنه لا شركاء له.

قال ذلك إبراهيم؛ ليقيم الحُجَّة على هؤلاء القوم، تمهيداً للإنكار عليهم، وإثبات الوحدانية لله تعالى.

{فَلَمَّا أَفَلَ} : أيْ: حين اختفى؛ أيْ: غاب.

قال إبراهيم عليه السلام : {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} : أيْ: لا أحب أن يختفي ربي؛ لأن الرب الحقيقي لا يغيب أبداً؛ إذنْ هذا الكوكب ليس إلهاً، ولا يستحق أن يُعبد، وهذا من ألطف أساليب الدعوة إلى الله تعالى بدلاً من القول إني أكره ما تعبدون أو أن يسب ألهتهم.

ص: 119

سورة الأنعام [6: 77]

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: استئنافية، لما؛ أيْ: حين.

{رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} : البزوغ: هو أول الظهور.

{قَالَ هَذَا رَبِّى} : على سبيل المحاجة والجدال.

{فَلَمَّا أَفَلَ} : غاب، واختفى عن العيون.

{قَالَ لَئِنْ لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى} : اللام: للتوكيد. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والندرة.

{يَهْدِنِى} (جاء بياء المتكلم) مقارنة بيهدين في سورة الكهف آية (24) لأن هذه في سورة الأنعام هداية عامة، وظرف معين لأمناع من حوله للكف عن عبادة الأصنام.

{لَّمْ} : نافية، يهديني ربي إلى الحق.

{لَأَكُونَنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون في كلمة (أكوننَّ): كذلك لزيادة التوكيد.

{مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} : هذا كلام مُوجَّه إلى هؤلاء عبدة الكواكب؛ لعلَّهم ينتبهون إلى خطئهم، فهم القوم الضالُّون، وليس إبراهيم هو الضالُّ.

ص: 120

سورة الأنعام [6: 78]

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّى هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} :

{فَلَمَّا} : ارجع إلى الآية السابقة.

{رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} : أيْ: أشرقت بنورها.

{قَالَ هَذَا رَبِّى} : ولم يقل: هذه ربي، أراد أن يُنزه الرب؛ بأن تلحق به علامة التأنيث، وكذلك الشمس ليست مؤنثاً حقيقاً، وإنما مؤنث مجازي.

{هَذَا أَكْبَرُ} : ممّا تقدَّم (القمر، أو الكوكب).

{فَلَمَّا أَفَلَتْ} : أيْ: حين غابت، واختفت بعد غروبها.

{قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّى} : إن: للتوكيد.

{بَرِاءٌ} : من البراءة، وهي قطع الموالاة، والتخلي، والابتعاد.

{مِمَّا} : من + ما، من: ابتدائية، استغراقية، ما: اسم موصول بمعنى: الذي، أو مصدرية.

{تُشْرِكُونَ} : بالله من الأصنام، والكواكب، والملائكة، وغيرها.

لنقارن هذه الآية مع الآية (26) من سورة الزخرف:

في سورة الأنعام، الآية (78):{إِنِّى بَرِاءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} .

في سورة الزخرف، الآية (26):{إِنَّنِى بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} .

في سورة الزخرف: زاد النون في {إِنَّنِى} ، وبدل كلمة {بَرِاءٌ} بـ:{بَرَاءٌ} ؛ أيْ: كلاهما يفيد التوكيد؛ أيْ: يوغل في التوكيد، في آية الزخرف. أما آية الأنعام تمثل بداية الدعوة، وآية الزخرف تمثل المرحلة المتأخِّرة في دعوة إبراهيم؛ لوحدانية الله سبحانه وتعالى ؛ لذلك كان التأكيد أبلغ.

وأما في سورة الممتحنة، آية (4) فقال:{إِنَّا بُرَآؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} بُرآءُ: جمع بريء، مثل شريف وشرفاء.

ص: 121

سورة الأنعام [6: 79]

{إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

{إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} : الوجه هنا يعني: الذات، إطلاق الجزء وإرادة به الكل، من قبيل المجاز المرسل.

{لِلَّذِى} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق.

{فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : شق وأوجد السموات والأرض؛ أيْ: أظهر للوجود السموات والأرض على مثال غير سابق.

واستعمل {فَطَرَ} : وليس خلق؛ لأن كلمة {فَطَرَ} : لا يشاركه فيها أحدٌ، فلا يقال لأيِّ أحدٍ غير الله عز وجل : فطر السموات والأرض، أو فطر أيَّ شيء.

{حَنِيفًا} : مائلاً عن الضلال والشرك إلى الدِّين القيم (الحق). ارجع إلى سورة البقرة، آية (135)؛ لمعرفة معنى الحنف.

{وَمَا} : الواو: عاطفة. ما: النافية.

{أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : بالله من شيء.

ص: 122

سورة الأنعام [6: 80]

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْـئًا وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} :

بعد أن برهن وبين إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الذين يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله أن عبادتهم باطلة، ولا تضر، ولا تنفع، وأقام عليهم الحُجَّة، لم يقتنع هؤلاء بما قاله إبراهيم، وبدلاً من الإذعان والصمت واتباعه؛ راحوا يجادلونه في عبادتهم لغير الله، وحاولوا أن يخوفوه بها، ومن انتقامها، لكن إبراهيم عليه السلام لم يخف، وثبت أمامهم.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} : أيْ: في العبادة، والتوحيد، وعبادة الأصنام، وغيرها، والحجاج: هو أن يقول كل طرف حجته، والطرف الآخر يرد عليه؛ ليبطل حجته.

{وَقَدْ هَدَانِ} : قد: للتحقيق، والتوكيد، {هَدَانِ}: إلى توحيده وعبادته.

وحذف الياء من هدان، ولم يقل: هداني؛ لأن الهداية عند إبراهيم تمت منذ زمن طويل، ولم تحتاج إلى زمن طويل، أو تمت بالقليل من العلم، أو الآيات.

{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْـئًا} :

{وَلَا} : الواو: استئنافية. لا: النافية.

{أَخَافُ} : أخاف من الخوف.

الخوف: هو توقُّع أمرٍ مكروهٍ، أو شرٍّ مقبلٍ، لم يقع بعد ومشكوك في وقوعه، قد لا يكون لك القدرة على دفعه.

{مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} : ما: للعاقل، وغير العاقل، تشركون بالله: من أوثان، وأصنام وغيرها.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التعليل، والتوكيد.

{يَشَاءَ رَبِّى شَيْـئًا} : شيئاً من الضرر، أو الخوف، و {شَيْـئًا}: نكرة، أيَّ شيء مهما كان نوعه وشدته.

فإن أصابني شيءٌ من الضرر، أو الخوف، فهذه من مشيئة الله تعالى.

{وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} : أيْ: أحاط علمه سبحانه بكل شيء، علماً تاماً، بما تشركون وبحالي.

{أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} : أفلا: الهمزة تفيد الاستفهام، والإنكار عليهم وتوبيخهم على عدم تذكُّرهم، والتعجب منه، وتحضُّهم على ذلك التذكر، وفيها معنى الأمر.

{تَتَذَكَّرُونَ} : تستعمل للبحث الأطول الذي يحتاج إلى طول تأمل ونظر وتبصر، بينما تذكرون تستعمل للحدث الأقصر الذي يحتاج إلى زمن أقصر للتأمل والتبصر الذي فطركم، وفطر السموات والأرض، أفلا تتذكرون الميثاق الذي أخذه عليكم، ميثاق الذرِّ.

ولكن بدلاً من استعمال أفلا تذكرون، قال:{تَتَذَكَّرُونَ} بزيادة التاء؛ لأن قوم إبراهيم أبطلوا عقولهم، ويحتاجون إلى هزّة عنيفة، وزمن أطول، وتذكر عميق؛ لكي يرجعوا عن عبادتهم الكواكب، والشمس، والقمر إلى زمن أطول؛ للتذكر؛ حتى يرجعوا إلى صوابهم، وعبادتهم لله سبحانه.

ص: 123

سورة الأنعام [6: 81]

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

{وَكَيْفَ} : الواو: عاطفة.

{وَكَيْفَ} : للاستفهام عن الحال؛ يفيد النفي والاستبعاد؛ أيْ: يستبعد إبراهيم أن يخاف في المستقبل.

{أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} : أيْ: كيف أخاف هذه الأصنام، على أيِّ حال؛ لأنها لا تضر، ولا تنفع، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله، {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} .

{وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ} : الباء: للإلصاق، الذي بيده النفع، والضر، والأمن، والخوف، {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}: أيْ: حُجَّة ودليل.

والسلطان نوعان: سلطان قوة، وقهر، أو سلطان حُجَّة، وبرهان، أو آية، أو دليل.

انتبه إلى قوله -جل وعلا- : {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} : جاء بلفظ {عَلَيْكُمْ} ؛ أيْ: هو أمر خاص بهم (بقوم إبراهيم)، وأهل زمانه، أما قوله:{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : من دون عليكم؛ فالخطاب هنا عام، وشامل لكل الناس، وليس محدوداً بجماعة معينة، أو قوم كما ورد في سورة آل عمران، الآية (151)، وسورة الأعراف، الآية (33).

{فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

{فَأَىُّ} : الفاء: للتوكيد؛ أيْ: أداة استفهام.

{الْفَرِيقَيْنِ} : الذين آمنوا، ووحدوا ربهم الذين لم يلبسوا إيمانهم بشرك؛ أيْ: بظلم، أم الذين ظلموا؟

{أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} : أيْ: أحق بأن يأمن العذاب، عذاب ربه، أو بالأمن؛ أيْ: عدم الخوف.

انتبه إلى الفرق بين الأمن في هذه الآية، والأمنة كقوله:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} [آل عمران: 154].

الأمن: هو الطمأنينة، مع زوال الخوف، والسبب كاملاً؛ أيْ: سبب الخوف من دون بقاء أيِّ أثر لهما.

الأمنة: تعني الطمأنينة إلى حد ما، فالخوف لا يزول تماماً، ولا يزال الشخص خائفاً غير مطمئن إلى حدٍّ ما، فالأمن أفضل من الأمنة.

{إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : ولم يقل: إذا كنتم تعلمون؛ لأن: {إِنْ} : شرطية، تفيد الاحتمال، أو الندرة بعكس (إذا) التي تفيد الحتمية والكثرة.

واحتمال كونهم يعلمون: هو احتمال نادر، أو قليل، ولذلك استعمل: إن.

{كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} : من هو أحق بالأمن.

ص: 124

سورة الأنعام [6: 82]

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} :

{الَّذِينَ آمَنُوا} : بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأخلصوا في إيمانهم، وتوحيدهم.

{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} : لم يخلطوا إيمانهم بظلم؛ أيْ: بشرك؛ لقوله -جل وعلا- في سورة لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعيد، غرضه التعظيم، أو علو مكانهم، لهم الأمن في الدنيا، وفي الآخرة. ارجع إلى الآية (81) من نفس السورة؛ لبيان معنى الأمن.

{وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} : هم: ضمير منفصل، غرضه المبالغة، والتوكيد، على أنهم مهتدون؛ أيْ: أكثر الناس هداية.

والهداية هي الطريق الذي يوصل للغاية، وهي رضوان الله تعالى.

و {مُّهْتَدُونَ} : جملة اسمية؛ تدل على صفة الهداية ثابتة لهم، ولا ينحرفون عنها.

ص: 125

سورة الأنعام [6: 83]

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

{وَتِلْكَ} : الواو: استئنافية، تلك: اسم إشارة، يشير إلى الحُجَّة التي احتج بها إبراهيم عليه السلام ، على وحدانية الله، من غياب القمر والشمس.

{حُجَّتُنَا} : الحُجَّة هي البرهان والدليل على ثبات أحد النقيضين أو الخصمين، وهنا تعني: الحُجة الدالة: على التوحيد، {آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ}: أيْ: علمناها إبراهيم، فغلب بها قومه.

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} : بالهداية، والإرشاد، والعلم، والحكمة، والفهم، والمعرفة، وبالاصطفاء للرسالة.

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} : قدَّم الحكمة على العلم، {حَكِيمٌ}: صيغة مبالغة من الحكمة، كثير الحكمة؛ فهو أحكم الحاكمين، وواهب الحكمة لمن يشاء من عباده. ارجع إلى الآية (129) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة في العلم، أحاط علمُه بكل شيء، بما يقوله خلقه، أو يفعلونه، وما قاله إبراهيم لقومه.

عليم بما يجري في كونه؛ من تغيرات، وأحداث، و {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3].

ولنقارن هذه الآية، بآية أخرى في سورة يوسف، رقم (6):{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

قدَّم العلم على الحكمة؛ لأن آية يوسف جاءت في سياقه تعلم الأحاديث، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} ، فالعلم يحتاج إليه أولاً، والحكمة ثانياً، ولذلك قدَّم العلم على الحكمة.

أما آية سورة الأنعام (83): فقد جاءت في سياق الحُجَّة والسلطان {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} .

وإقامة الحُجَّة تحتاج إلى حكمة أولاً، وعلم ثانياً، ولذلك قدَّم حكيم على عليم؛ أيْ: حسب السياق.

ص: 126

سورة الأنعام [6: 84]

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} :

{وَوَهَبْنَا} : الهبة في اللغة: العطية الخالية من العوض، وشرعاً: تمليك في الحياة بلا عوض، ومن الله هي: عطاء تفضل، تعطى لمن يستحق أو لا يستحق، ولا تكون واجبة.

ولنعلم أنه لا يوجد أيُّ إنسان له حق عند الله؛ إلا ما جعله الله حقاً له، وكل شيء من الله هو هبة، والهبة قد تكون هبة في العطاء، أو هبة في المنع. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (38)؛ لمزيد من البيان.

{وَوَهَبْنَا} : أيْ: لإبراهيم إسحاق، ويعقوب هو ابن إسحاق.

{إِسْحَاقَ} : ابن إبراهيم عليه السلام ، أمه سارة، ويعقوب: هو ابن إسحاق عليه السلام ؛ أيْ: وهبنا لإبراهيم إسحاق أولاً، ويعقوب (ابن الابن) نافلة.

{كُلًّا هَدَيْنَا} : كلاً؛ أيْ: إسحاق، ويعقوب كلاً كان من أهل الهداية والنبوَّة.

وتقديم الواو على {كُلًّا} : تدل على هداية غيرهم من الأنبياء والرسل؛ كقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ؛ أيْ: وعدهم الله الحسنى، ووعد غيرهم.

{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} : أيْ: أن الهداية لم تبدأ بإسحاق ويعقوب، بل بنوح عليه السلام ، هذا من باب المدح والثناء، وليس من باب الحصر والتخصيص.

{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} : الهاء: تعود على نوح، ولا يجوز أن تعود على إبراهيم؛ لأنه ذكر لوطاً؛ وهو ليس من ذرية إبراهيم؛ لأن لوطاً عليه السلام كان عمه إبراهيم عليه السلام ؛ أيْ: لوط ابن أخي إبراهيم.

داود (وابنه) سليمان، وأيوب ويوسف بن يعقوب، وموسى (وأخاه) هارون.

{دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} : جمع لهم الملك مع النبوَّة وسليمان بن داود.

{وَأَيُّوبَ} : الابتلاء، والصبر (العبد الصابر).

{وَيُوسُفَ} : الابتلاء، والصبر مع الحكم، ثم الملك، والسلطان في النهاية.

ص: 127

سورة الأنعام [6: 85]

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} :

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} : وابنه يحيى عليه السلام قُتلا.

{وَعِيسَى} ابن مريم عليهما السلام رفعه الله سبحانه.

{وَإِلْيَاسَ} : ارجع إلى سورة الصافات، آية (123-127).

{كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} : لأنهم امتازوا بالفقر، والزهد في الدنيا، فوصفهم بالصالحين.

ص: 128

سورة الأنعام [6: 86]

{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} :

إسماعيل: ابن إبراهيم، واليسع قيل كان بعد إلياس، واتبع منهج إلياس؛ يونس الذي التقمه الحوت، ولوطاً: ابن عم إبراهيم.

{وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} : فضلنا: ارجع إلى سورة البقرة آية (253) لبيان معنى الفضل والكيفية: من باب المدح والثناء، وليس من باب الحصر والتخصيص، لم يكونوا ملوكاً، ولا فقراء، واستعمال الواو في كلاً تشير إلى ليسوا هم فقط المفضلين، بل هناك غيرهم.

{عَلَى الْعَالَمِينَ} : أيْ: عالمي زمانهم، لا على الإطلاق؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم، هو أفضل الأنبياء، ثم إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم السلام، وبذلك ذكر في هذه الآيات -جل وعلا- (18) نبياً، ورسولاً، من أصل (25) من الأنبياء، والرسل المذكورين في القرآن.

ص: 129

سورة الأنعام [6: 87]

{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} :

{وَمِنْ} : ابتدائية بعضية؛ أيْ: بعض {آبَائِهِمْ} ، {وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} .

{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} : أي: اصطفيناهم، واخترناهم للنبوَّة، وحمل الرسالة، واجتبيناهم؛ مشتقة من الاجتباء، من جبى الماء في الحوض؛ أيْ: جمعه، فالاجتباء؛ اختيار الشخص وضمه إلى أمثاله؛ أيْ: زمرة خاصة.

{وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : هو الدِّين الحق، وهو الإسلام.

ص: 130

سورة الأنعام [6: 88]

{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة، إلى ما تقدَّم ذكره من الهداية إلى صراط مستقيم.

{هُدَى اللَّهِ} : الخاص، يهدي إليه من أحب من عباده؛ وهو الإيمان، والاستقامة، أو دِين الله؛ أي: الإسلام.

{يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} : هداية خاصة، وليست عامة.

{وَلَوْ} : حرف امتناع لامتناع؛ أيْ: هم لم يشركوا، ولذلك لم يحبط عملهم.

{أَشْرَكُوا} : جعلوا لله شركاء.

{لَحَبِطَ} : اللام: للتوكيد. حبط: بطل ثواب أعمالهم، وأصبحت أعمالهم هباءً منثوراً.

{عَنْهُم مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : يعملون: يقولون، ويفعلون في الدنيا. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)؛ لمزيد من البيان عن الحبط.

ص: 131

سورة الأنعام [6: 89]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ للبعد.

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : اسم جنس؛ يشمل القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور.

{وَالْحُكْمَ} : الفقه في الدِّين، والعلم، ومعرفة الأحكام، والفتاوى.

{وَالنُّبُوَّةَ} : الرسالة.

{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} : قريش، أو كفار مكة.

{فَإِنْ} : الفاء: عاطفة، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بها.

{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} : فقد: الفاء: رابطة لجواب الشرط، قد: حرف تحقيق، وتوكيد، وكلنا بها الأنبياء، والرسل المذكورين، أو المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أو غيرهم من المؤمنين من الأمم الأخرى.

{قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا} : الباء: هنا للإلصاق.

{بِكَافِرِينَ} : الباء: هنا للتأكيد، تأكيد النفي، وأصلها: ليسوا بها كافرين.

ص: 132

سورة الأنعام [6: 90]

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعيد؛ يفيد التعظيم، ويشير إلى الأنبياء، والرسل المذكورين، وأتباعهم من الموحدين، المخلصين، وأولوا العلم من كل الأقوام السابقة، والأمم المختلفة.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{هَدَى اللَّهُ} : إلى دِينه الإسلام.

{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} : اقتد؛ أي: اتبع هداهم في الدعوة إلى توحيد الله، وفيما لم يرد فيه نص.

والفاء تدل على التوكيد، والباء: للإلصاق، والملازمة.

{اقْتَدِهْ} : فعل أمر، وقيل: الهاء هاء السكت؛ أي: لا تنطق الهاء إلا في الوقف، وإذا جاءت في الوصل لا ينطق بها، ولكن هناك من القراء من يثبتها وقفاً ووصلاً ومنهم من يثبتها وقفاً فقط.

وإذا قارنا آية سورة الأنعام، مع آية سورة الزمر (18)، نجد أن:

في سورة الأنعام، الآية (90):{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} .

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، يشير إلى أقوام كُثُرٍ، وأنبياء مختلفين، ورسل وشرائع مختلفة، من إبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وغيرهم.

أما سورة الزمر، الآية (18):{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} .

فـ {أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ يشير فقط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والمؤمنين، وهم فئة واحدة، وقوم واحد، وليست مجموعة من الرسل، أو الأقوام.

وقوله عز وجل : {هَدَاهُمُ اللَّهُ} : آكَدُ، وأقوى من هدى الله؛ لوجود ضمير الفصل (هم) في هداهم.

و {هَدَى اللَّهُ} عددهم أكثر وأكبر من الذين: {هَدَاهُمُ اللَّهُ} .

وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} : أي: اتبعهم رغم كثرة عددهم، وشرائعهم المختلفة، فكيف يقتدي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً؛ أيْ: في منهاج الدعوة، والتبليغ، وتوحيد الله، والأخلاق الحميدة؛ أيْ: فيما هو عام وليس خاصاً.

{قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{لَا} : النافية؛ تنفي كل الأزمنة.

{أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ} : أيْ: على القرآن.

{أَجْرًا} : ولم يقل: (من أجرٍ)، حذف (من): التي تفيد الاستغراق، والتوكيد؛ لأن سياق هذه الآية في الاقتداء بالرسل السابقين، ولو كان السياق في الدعوة والتبليغ، كما في سورة يوسف، آية (104)؛ لاستخدم حرف من، كما في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} .

{إِنْ} حرف نفي أشد نفياً من (ما).

{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، ويعود على القرآن الكريم.

{إِلَّا} : أداة حصر؛ أي: القرآن الكريم، موعظة، وتذكير للعالمين، الخلق كافة.

وما هو الفرق بين ذكرى وذكر؟

كما في ورد في سورة الأنعام، الآية (90):{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} .

وفي سورة يوسف، الآية (104):{وَمَا تَسْـئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} .

{ذِكْرٌ} : أقوى من {ذِكْرَى} ، ذكر فيه معنى: الشرف، والرفعة، والاختلاف بين الآيتين يعود الاختلاف في السياق.

فقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} : جاءت في سياق قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

{ذِكْرٌ} : جاءت في سياق الدعوة والتبليغ، وتحتاج إلى الجهد، والمشقة، والتضحية.

و {ذِكْرَى} : جاءت في سياق ذكر الأنبياء، أو القرآن، أو تذكرة للناس؛ فقوله تعالى: ذكرٌ، أقوى وآكَدُ، وأبلغ من ذكرى.

ص: 133

سورة الأنعام [6: 91]

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} :

سبب النزول: اختلف في سبب نزول هذه الآية، وفيمن نزلت، فمنهم من يرجِّح؛ كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت في مشركي قريش، ومنهم من يرجح أنها نزلت في اليهود، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب.

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : وما: الواو: استئنافية. ما: النافية.

{قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : الضمير يعود على اليهود، أو على مشركي قريش.

أي: ما عرفوا قدر الله وحقه، وما عظموه حق عظمته.

{إِذْ قَالُوا} : ظرفية؛ تعني: حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم. ما: النافية.

{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَىْءٍ} : حين أنكروا بعثة الرسل، والوحي إليهم.

{مِنْ} : استغراقية، تستغرق أيَّ شيء.

{شَىْءٍ} : نكرة، لا كتاب، ولا وحي، ولا صحيفة، ولا أيِّ شيء، ومبالغة في الإنكار.

{عَلَى بَشَرٍ} : رسول، أو نبي، أو أيِّ بشر.

قل يا محمد لليهود، أو مشركي قريش، من: للاستفهام، والتوبيخ {أَنْزَلَ}: ولم يقل (نزل)؛ لأن التوراة أنزلت دفعة واحدة، و (نزل) تعني: منجماً على دفعات كثيرة، الكتاب الذي جاء به موسى هو التوراة؛ أيْ: من أنزل على موسى عليه السلام التوراة.

{نُورًا} : النور الكاشف للشبهات؛ والكاشف للحق من الباطل، ويبيِّن الأحكام للناس، والحلال من الحرام.

{وَهُدًى لِلنَّاسِ} : أيْ: مصدر هداية، أو سبب لهداية الناس؛ للوصول إلى الحق، والصراط المستقيم، والغاية. للناس: اللام: لام الاختصاص.

{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} : أيْ: تجعلون التوراة قراطيس؛ أيْ: تكتبونه في أوراق (قراطيس)، أوراق، أو دفاتر، والغاية من جعلها قراطيس؛ ليتمكنوا من إظهار ما يريدون إظهاره، وإخفاء ما يريدون إخفاءه، ولو جعلوه في كتاب؛ لكان متعذراً فعل ذلك.

{تُبْدُونَهَا} : تظهرونها لناس متى تشاؤون، أو كيف تشاؤون.

{وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} : تخفون كثيراً من هذه القراطيس؛ التي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً، وصفاته، وآية الرجم، وغيرها.

{كَثِيرًا} : للتوكيد.

{وَعُلِّمْتُم مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} :

{وَعُلِّمْتُم} : الخطاب إلى مشركي قريش، أو اليهود.

{وَعُلِّمْتُم مَا لَمْ تَعْلَمُوا} : على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، مما أوحى الله إليه في القرآن، وأخبركم به، وما جاء في التوراة، أو كان في التوراة، ولم تعلموه، ولا حتى آباؤكم، لم يعلموه؛ الذين كانوا أعلم منكم.

{أَنتُمْ} : للتوكيد.

{وَلَا آبَاؤُكُمْ} : لا: النافية المطلقة.

وأكَّد ذلك في آيات أخرى؛ منها: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].

قل الله: هذا جواب للسؤال؛ من أنزل الكتاب.

فإن أجابوك الله كان بها، وإلا فقل لهم: الله الذي أنزل الكتاب.

{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} : ثم: للتوكيد.

{ذَرْهُمْ} : اتركهم، أو أعرض عنهم، أو دعهم.

{فِى خَوْضِهِمْ} : في باطلهم، وجهلهم، وضلالهم يخوضون. ارجع إلى الآية (68) من نفس السورة؛ للبيان.

{يَلْعَبُونَ} : من اللعب: وهو العبث، وإضاعة الزمن، والاستهزاء، والخوض في آيات الله، أو حتى يأتيهم اليقين، وفي الآية تحذير ووعيد للكافرين.

ص: 134

سورة الأنعام [6: 92]

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} :

وهذه الآية رد على سؤالهم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَىْءٍ} ، وهذا القرآن أليس هو كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟!

{وَهَذَا} : الواو: عاطفة، هذا: اسم إشارة للقريب؛ يفيد التعظيم.

{كِتَابٌ} : أي: القرآن العظيم.

{أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} : أنزلناه في ليلة القدر، أنزلناه دفعة واحدة.

{مُبَارَكٌ} : نعت؛ أيْ: صفة للقرآن، ومبارك؛ أيْ: كثير البركة، كثير الفوائد، والمنافع، بما فيه من الأحكام، والهدى، والشفاء، والذكرى، والموعظة، والرحمة.

{مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} : من الكتب الأخرى، مثل: التوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها. ارجع إلى الآية (48) من سورة المائدة؛ للبيان.

{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} : الواو: عاطفة، اللام: لام التعليل، أو التأكيد؛ أيْ:{أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} ، وكذلك {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} .

{أُمَّ الْقُرَى} : هي مكة؛ سُمِّيت أمَّ القرى؛ لأنها أعظم القرى شأناً؛ لوجود البيت الحرام فيها، فهي أم؛ أيْ: أصل كل القرى، وهي قبلة المسلمين أجمعين، يؤمها المسلمون من كل مكان، وكذلك تعني: أقدم القرى؛ فقد كانت أرض مكة أول وأقدم جزيرة ظهرت على اليابسة، وتشكلت من ثورة البراكين التي ألقت بحممها على الأرض التي كانت مغمورة بالماء، ثم تراكمت هذه الحمم تدريجياً، وامتدت من مكة إلى غيرها من البقاع؛ لتشكل القارة الأم. ارجع إلى سورة الشورى، آية (7)؛ لمزيد من البيان.

{وَمَنْ حَوْلَهَا} : من القرى؛ أي: المدن كلها؛ تعني: الأرض كلها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : وتعني: كل مدينة وقرية في العالم؛ حيث أصبحت الكرة الأرضية اليوم؛ كأنها قرية واحدة؛ لسهولة الاتصالات.

{وَمَنْ} : استغراقية؛ أيْ: كل ما حولها من القرى والمدن.

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} :

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} : به: يعود على القرآن، الكتاب المبارك.

أي: والذين يؤمنون بالقرآن؛ يؤمنون بالآخرة، وهذا يشير إلى أهمية الإيمان بالآخرة، وبالقرآن.

{وَهُمْ} : هم ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، وهم: أي: المؤمنون بالآخرة، وبالقرآن.

{عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} : واختار الصلاة؛ لأنها عماد الدِّين، وتشمل في معناها: الزكاة، والصيام، والحج، فهي تمثل كل العبادات.

{يُحَافِظُونَ} : يؤدونها في أوقاتها، ويحافظون على أركانها، وخشوعها، وأحكامها، ويحافظون؛ تفيد الاستمرار والتجدد.

ص: 135

سورة الأنعام [6: 93]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} :

{وَمَنْ} : الواو: استئنافية. من: اسم استفهام؛ فيه معنى الإنكار والتعجب.

وتعني: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً.

{أَظْلَمُ} : أسوأ، أو أقبح، والظلم تتفاوت درجاته بين صغائر الذنوب وكبائر الذنوب.

{مِمَّنِ} : أصلها: (مِنْ + مَنْ): أدغمت الأولى في الثانية؛ فأصبحت ممَّن.

ومن الأولى: ابتدائية، ومن الثانية: اسم موصول؛ بمعنى: الذي.

{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : افترى: اختلق على الله الكذب المتعمد.

{كَذِبًا} : ولم يقل: الكذب.

{كَذِبًا} : نكرة؛ يشمل كل أنواع الكذب.

أما قوله: الكذب المعروف بأل التعريف: فهو يخص مسألة معينة؛ مثل قوله في سورة يونس (68-69): {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} ، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} .

الكذب هنا: محدد بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} .

{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : باتخاذ الشركاء، والأنداد، أو له ولد، أو بنت يشمل الكل؛ لأنه نكرة ولم يحدد.

{أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ} : أي: ادعى النبوَّة باطلاً؛ مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي كما روي عن ابن عباس، ولمعرفة معنى الوحي. ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} :

قيل: كما روي عن ابن عباس: هو عبد الله ابن أبي سرح، كان أخاً لعثمان بن عفان من الرضاعة، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اكتب سميعاً عليماً، كتب عليماً حكيماً، وكان يحاول الافتراء على الله، ولما نزلت آية:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} ، تعجَّب عبد الله بن سرح، فسارع بالقول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبها هكذا نزلت، ونزل في نفسه الغرور، فقال: لئن كان محمداً صادقاً؛ فلقد أوحي إليَّ مثل ما أوحي إليه.

وهذا تفسير {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، ثم ارتدّ عن الإسلام، ثم عاد، ورجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، وجاء به عثمان يطلب له العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقيل: غيره من البشر؛ الذين قال الله سبحانه في حقهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31].

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} .

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} : رؤية قلبية، وبصرية.

ولو: هنا شرطية، وتحتاج إلى جواب، والجواب محذوف؛ لرأيت أمراً عجباً.

{الظَّالِمُونَ} : الذين افتروا على الله كذباً، وقالوا أوحي إلينا، ولم يوح إليهم، أو سأنزل مثل ما أنزل الله، والظالمون: جمع ظالم، وهو كل من خرج عن منهج الله.

{فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} : سكرات الموت، وغمرات: جمع غمرة، وغمرات الموت؛ استعارة من غمر الماء؛ أيْ: أن تغمرهم سكرات الموت، وشدائده، كما تغمر مياه الفيضان المكان، أو الأرض. وهذا المشهد يدل على شدة الألم، أو الظالم المغمور بذنوبه فلا منجى ولا ملجأ له، ولم يقل في غمرة الموت، بل غمرات للتهويل لما سيصيبهم قبل نزع أرواحهم.

{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} : باسطوا: من البسط وهو مد اليد بالسوء؛ أي: بالضرب والعذاب؛ أيْ: مدوا أيديهم؛ لقبض وإخراج أرواح الظالمين.

يقولون: أخرجوا أنفسكم؛ أيْ: تقول لهم الملائكة ذلك؛ توبيخاً لهم؛ أيْ: خلصوا أنفسكم من العذاب، وسكرات الموت؛ إن استطعتم.

ففي هذه الآية؛ لم يصرح بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي، ولكن أشار إلى ذلك في آية أخرى في سورة الأنفال، الآية (50).

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} .

والسؤال هنا هل ملائكة العذاب هم أنفسهم ملائكة قبض الأرواح أن هناك نوعين من الملائكة منهم للعذاب أولاً ومنهم لقبض الأرواح يحضرون بعد انتهاء العذاب؟

{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} : عذاب الذل، والهوان، العذاب المؤلم الذي يخالطه الذلة، والإهانة، وعلى مرأى من الناس الحاضرين موته أو أهل الميت.

{بِمَا} : الباء: السببية؛ أيْ: بسبب.

الذي {كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} : بادّعاء النبوَّة، أو الإيحاء، أو أن الله لم ينزل على بشر من شيء، وأن له ولد، وله شريك، وغيرها.

{وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} : وكنتم في الدنيا تكرار كنتم: تفيد التوكيد، عن: للتعليل.

{تَسْتَكْبِرُونَ} : التاء، والسين: للطلب؛ أيْ: ليس عندكم مؤهلات الكبر، ومع ذلك كنتم تستكبرون.

ص: 136

سورة الأنعام [6: 94]

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاؤُا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية. لقد: اللام: لام التوكيد، قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{جِئْتُمُونَا فُرَادَى} : جئتمونا يوم القيامة يوم البعث أو يوم القيامة الصغرى (الموت)، أو عند سكرات الموت وهم ما زالوا على الأرض.

{فُرَادَى} : قيل: جمع واختلف في مفرده قيل: فرد أو فريد أو فرْدَان على وزن فعالي بضم الفاء مثل سُكارى مفردها: سكران فرداً فرداً، والواحد تلو الآخر، من دون أهل، ولا ولي، ولا نصير، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (48) في سورة الكهف وهي قوله تعالى:{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} هذه الآية جاءت في سياق يوم البعث أو عند الموت وتتحدث عن الكيفية: كيفية المجيء، وآية الأنعام تتحدث عن العدد، وآية الكهف أعم من آية الأنعام وآية الأنعام عن القيامة الصغرى.

وبيَّن ذلك في آية أخرى من سورة مريم، (95):{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} ، بينما السوق إلى الجنة: زمراً وزمراً، أو إلى النار زمراً وزمراً؛ كقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73].

مع الأهل، وممن يماثلهم في الحسنات والسيئات.

{وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ} : من خوَّله الشيء؛ أيْ: ملكه الشيء؛ خوَّل يخوِّل؛ أي: صار ذا خول؛ أي: خدم؛ أيْ: تركتم ما أعطيناكم: تفضلاً من ملك، ومال، وأهل، والخول: ما أعطاه الله من النِّعم.

والخول: تضم الخدم، والاتباع؛ أيْ: تركتم أولادكم، وأموالكم، وخدمكم.

{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاؤُا} :

الذين زعمتم أنهم شركاء لله في عبادتكم.

{وَمَا نَرَى} : وما: الواو: عاطفة، ما: نافية.

{مَعَكُمْ} : مع: ظرف مكان.

{شُفَعَاءَكُمُ} : الأصنام، والآلهة، والأولياء، والذين عبدتموهم؛ ليقربوكم إلى الله زلفى؛ الذين زعمتم أنهم سيشفعون لكم، أو يستحقون عبادتكم.

{الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاؤُا} : فيكم؛ أيْ: زعمتم أنهم لي شركاء في خلقي.

الزعم: هو القول غير المستند إلى دليل، أو ادّعاء العلم، وأكثر ما يقع في الباطل، ولمقارنة كيف كتبت {شُرَكَاؤُا} في هذه الآية مع كيف كتبت {شُرَكَاءُ} في الآية (12) في سورة النساء. ارجع إلى سورة النساء آية (12) للبيان.

{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} :

{لَقَدْ} : اللام: لام التوكيد، قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{تَقَطَّعَ} : وسائل الاتصال، والصلة، والروابط، والمودة بينكم، والقربى.

{بَيْنَكُمْ} : وبين الأصنام والأوثان، والآلهة والأولياء، وما عبدتم من دون الله.

والبين: هو ما يفصل، أو يصل بين شيئين، أو اثنين، فإذا كان واصلاً يمكن أن تقطعه، وإذا كان فاصلاً يمكن أن تصله.

{وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} : وضل: تاه، وغاب اليوم عنكم، الشركاء، وما تبحثون عنهم؛ للشفاعة.

{مَا} : اسم موصول؛ أي: الذين (الأصنام، والآلهة، وما عبدتم).

{كُنتُمْ} : في الدنيا.

{تَزْعُمُونَ} : تقولون قولاً باطلاً، إنهم سيشفعون لكم، وينصروكم في الآخرة.

ص: 137

سورة الأنعام [6: 95]

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله -جل وعلا- : أن عنده مفاتح الغيب، وأنه العليم، بما يجري في كونه، وهو الذي يتوفاكم، وهو القاهر، والمنجي، والقادر، وأنه الواحد الأحد، كما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام ، وما سيحدث حين الموت والبعث، يذكر بعض الآيات، والأدلة على قدرته في الخلق والإيجاد، ويبدأ بمثال فلق الحب والنوى، ثم ينتقل إلى مثال آخر، هو فالق الإصباح فيقول:

{إِنَّ} : حرف مشبَّه بالفعل، يفيد التوكيد.

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} : فالق: أي: شاقّ الحب والنوى، ويعني ذلك: خالق الحب والنوى، فينبت به الزرع على اختلاف أصنافه، من الحبوب والثمار على اختلاف أشكالها.

{الْحَبِّ} : مثل القمح، والشعير، والأرز الذي ليس له نوى.

{وَالنَّوَى} : له نواة؛ مثل: البلح، والخوخ، وقسم نجد له نواة، وداخل النواة شيء آخر، مثل: بذرة البطيخ.

{فَالِقُ} : صفة لذات الله ثابتة؛ أي: قبل أن يوجد الحب والنوى؛ الذي يفلقه كان فالقاً، وبعد أن وجد الحب والنوى؛ كذلك يفلقه.

وكذلك مخرج: صفة لذات الله، مثل: الرزق؛ أي: رزاق، قبل أن يوجد أيُّ مخلوق يرزقه، وبعد أن خلقه يرزقه.

إذنْ: مثل هذه الأسماء والصفات؛ تدل على الثبوت.

{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} : قبل تفسير هذا الجزء من الآية؛ يجب أن نعلم: أن كل شيء خلقه الله فيه حياة؛ حتى الجمادات، مثل: الحجارة، والحديد، والمعادن؛ كلٌّ له حياته الخاصة به حتى تقوم الساعة، وكل شيء يسبح بحمد؛ لقوله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، وما دام كل شيء هالك؛ فكلُّ شيء فيه حياة، فلا يعني أن الشيء إذا لم يتحرك أمامنا، ويحس ليس فيه حياة، كما كان يعتقد القدامى؛ فالله يخاطب الأكثرية من الناس بمقدار علمهم على كون الشيء حياً أو ميتاً، وليس علمه بالأشياء، أو علم القلة من العلماء.

فالله سبحانه حين يقول: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} ، الميت الذي لا حسَّ فيه، ولا حركة، فهو يخاطبنا، كما نفهم الأشياء، بشكل ظاهري.

وبمفهوم الإعجاز العلمي اليوم: لا يوجد شيء ميت، وإن كان لا حسَّ له ولا حركة، مشاهدة بالعين، وبمفهوم الإعجاز العلمي اليوم: نستطيع أن نفسر {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : أي: يخرج الحي من الحي، ويخرج الميت (الحي) من الحي، فكل شيء فيه حياة. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (27)؛ لمزيد من البيان.

مثال: نجد في كثير من كتب التفسير؛ تفسير هذه الآية بأنه يخرج الحي (الدجاجة) من الميت (البيضة)، البيضة في نظر الكثير تعتبر شيئاً ميتاً، وهذا غير صحيح بمفهوم العلم الحديث.

وإذا نظرنا إلى هذه الآية: {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} : نجد كلمة يخرج ومخرج؛ فكلمة {يُخْرِجُ} : فعل مضارع، والفعل يدل على التجدد، والتكرار، والاستمرار.

وكلمة {وَمُخْرِجُ} : اسم (صفة): تدل على الثبوت، صفة ثابتة لذات الله عز وجل ، فبذلك جمع صفات الكمال التي تشمل التجدد والثبات معاً.

انتبه إلى قوله -جل وعلا- : {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : جاء بالفعل {يُخْرِجُ} : ثم قال سبحانه وتعالى : {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} : فجاء بالاسم (مخرج).

جاء بالفعل {يُخْرِجُ} : مع الحي؛ لأن من أبرز صفات الحي: الحركة والتجدد، وجاء بالاسم {وَمُخْرِجُ}: مع الميت؛ لأن أبرز صفات الميت السكون، وعدم الحركة؛ لأن من صفات الاسم: الثبوت؛ فهو يماشي السكون وحده (الموت).

{فَأَنَّى} : أنّى: استفهام إنكاري، وفيها معنى الذم التعجب؛ أيْ: لا مبرر لكم؛ لعدم إيمانكم، وعباداتكم إياه وحده، و (أنى): تعني كيف، ومن أين لكم؟

{تُؤْفَكُونَ} : من أفكه عن الشيء: صرفه عنه وقلبه، باستخدام الكذب كوسيلة.

فكيف تصرفون عن الإيمان به، وعبادته إلى عبادة غيره -جل وعلا- ، أو تصرفون عن خالقكم، إلى غيره، فكيف حدث ذلك، أو من أين لكم هذا؟

ص: 138

سورة الأنعام [6: 96]

{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} :

{فَالِقُ} : شاق، أو شاقق: ظلمة الليل؛ ليخرج النور.

{الْإِصْبَاحِ} : هو الضوء، أو النور؛ الذي نراه قبل شروق الشمس، هذا يسمَّى الإصباح، ويعني: الصبح.

وجاء بالاسم؛ فالق: ليدل على أن ذلك صفة ثابتة؛ لذاته، منذ الأزل، قبل أن يخلق الليل والنهار، والشمس والقمر.

{وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا} : الجعل: يكون مرحلة تالية للخلق.

{الَّيْلَ سَكَنًا} : يسكن فيه الناس عن الحركة؛ للراحة والهدوء، وهذا من رحمة الله بالإنسان؛ لكي يرتاح ويعود نشيطاً في الصباح، ويزاول عمله مرة أخرى.

وفي آية أخرى قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].

{جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47]، لباساً؛ أيْ: يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} : حسباناً؛ أيْ: لحساب الزمن بالساعة، والدقائق، والثواني، حساباً دقيقاً، لا يتغير، ولا يضطرب.

والشمس: تستعمل لحساب اليوم، والسنة.

والقمر: يستعمل لحساب الليلة، والشهر.

فدورة الأرض حول محورها (نفسها) دورة كاملة تحدد لنا اليوم.

ودورة القمر حول الأرض دورة كاملة تحدد لنا الشهر.

ودورة الأرض حول الشمس دورة كاملة تحدد لنا السنة.

وتختلف السنة القمرية عن السنة الشمسية بـ (11) يوماً، وتوالي الليل والنهار، وحركة الشمس والظل يحدد لنا الزمن، واليوم، والساعة. ارجع إلى سورة الإسراء آية (12) وسورة يونس، آية (5) وسورة إبراهيم، آية (33) وسورة الرحمن آية (5)؛ لمزيد من البيان.

أما قوله عز وجل : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]، بحسبان هنا تعني: مخلوقتين بحساب دقيق من حيث الدوران، والحجم، والبعد عن الكواكب الأخرى والمجرات.

{ذَلِكَ} : ذا: اسم إشارة، واللام: للبعد، ويشير إلى الحساب، أو الحسبان، من تقدير.

{تَقْدِيرُ} : من قدرة، أو تقدير؛ أيْ: حساب.

{الْعَزِيزِ} : أي: القاهر، والغالب، والممتنع، والذي سخرهما: الشمس والقمر، وقهرهما.

وقوله تعالى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ، {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: جمل اسمية؛ تدل على الثبوت.

{وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} : جاء بالصيغة الفعلية التي تدل على التجدُّد، والتكرار.

{وَجَعَلَ الَّيْلَ} : أيْ: سخر الليل والنهار، أو آية الليل والنهار إشارة إلى كروية الأرض، فالقسم المواجه للشمس يضيء بفضل وجود الطبقة الغازية المحيطة بالأرض، والتي سُمكها (200 كم)، هذه الطبقة الغازية التي إذا وقع عليها ألوان الطيف، أو حزمة الشمس المضيء أخرجت لنا نور الشمس الأبيض، وأما القسم من الأرض، أو النصف غير المقابل للشمس فيكون فيه الليل.

ص: 139

سورة الأنعام [6: 97]

{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر الحقيقي، والتوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول.

{جَعَلَ لَكُمُ} : الجعل يأتي بعد الخلق، والجعل يعني: التصيير، وجعل؛ تعني: صير، واللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكم خاصة.

{النُّجُومَ} : جمع نجم، والنجم هو: كتلة مشتعلة تضيء ما حولها؛ كالشمس، ويقدِّر علماء الفلك: أن في مجرتنا سِكَّة التبَّانة نحو تريليون نجمٍ.

{لِتَهْتَدُوا} : اللام: لام التعليل، والتوكيد للهداية، ومعرفة الاتجاهات والسير، سواء كان في البر، أم في البحر.

{بِهَا} : الباء: للإلصاق.

{فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} : في الأماكن النائية، والمظلمة؛ حيث لا يعرف شمالها من جنوبها، وشرقها من غربها، كما هي الحال في الصحارى والبحار.

{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} : بيَّنَّاها بأساليب متعدِّدة، الآيات الكونية، مثل: الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والنجوم، ارجع إلى آية (55) من نفس السورة؛ للبيان.

{لِقَوْمٍ} : اللام: لام الاختصاص.

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : يعلمون: كون الشمس والقمر حُسباناً وجعل الليل سكنا والشمس يدل على كروية الأرض؛ فهذه الأمور لا يعلمها حقيقة إلا نخبة من العلماء ولذلك قال تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ؛ أيْ: فصَّلناها؛ كي يدركها، وينظر إليها الذين درسوا العلم الفلكي، والعلوم الكونية، ثم يستدلون بها على وحدانية الله، وقدرته العظيمة.

بعد ذكر الآيات الكونية ينتقل إلى ذكر آيات الخلق.

ص: 140

سورة الأنعام [6: 98]

{وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} :

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد؛ أيْ: هو وحده {الَّذِى أَنْشَأَكُمْ} .

{الَّذِى} : اسم موصول.

{أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : الإنشاء: هو الإيجاد، والخلق، والإحداث؛ أيْ: أنشأكم خلقاً من بعد خلق.

{مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : أيْ: من نفس واحدة؛ أيْ: ذات واحدة، هي التي خلق منها آدم، وحواء، فالكل خلق من نفس واحدة. ارجع إلى سورة النساء، آية (1)؛ للبيان.

{مِنْ} : ابتدائية.

{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} : فمستقر: الفاء: عاطفة؛ أيْ: أودع الله كل ذرية آدم في صلب آدم، فآدم هو المستقر، وحواء هي المستودع، أو بالعكس؛ أيْ: مستقر في أصلاب الرجال (الآباء)، ومستودع في أرحام الإناث (الأزواج)، أو مستقر في الأرض، على ظاهر الأرض، ومستودع في القبور؛ باطن الأرض. مستقر لها حين تكون حية، ومستودع لها بعد الموت.

{قَدْ فَصَّلْنَا} : أيْ: لم نأتِ بها مجملة، ارجع إلى الآية السابقة (55)؛ للبيان.

{لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} : الفقه لغةً: هو الفهم، اصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مثل القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها، ويعني: الفهم الناجم عن التأمل، والنظر، والفهم مرحلة تسبق مرحلة العلم؛ فهذه الآيات تحتاج إلى: فهم وتدبر وتفكر لذلك قال تعالى: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ، ولا يفقهه الكل يفقهون قدرة وعظمة الخالق، وأنه الإله الحق الذي يجب أن يُعبد ويطاع بينما الآيات في الآية (97) تحتاج أو ينتفع بها قوم يعلمون (فئة خاصة من العلماء بعلم الفلك والنجوم)، وإما الآيات في الآية (99) ينتفع بها أو خاصة بالقوم المؤمنين. ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان.

ص: 141

سورة الأنعام [6: 99]

{وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{وَهُوَ الَّذِى} : وهو: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر والتوكيد؛ أيْ: هو وحده الذي أنزل.

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التعظيم.

{مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} : أيْ: أنزل من السحب ماءً؛ أي: المطر، والسحاب يسمَّى السماء؛ لأن تعريف السماء: هو كل ما يعلو الإنسان يسمَّى سماء، وهذا الإنزال نتيجة دورة الماء حول الأرض، يبدأ ببخار الماء، تحمله الرياح، تشكل السحب المنبسطة، ثم الركامية؛ التي تنزل المطر بعد تلقيحها برياح تحمل هباءات الغبار.

{فَأَخْرَجْنَا} : السياق كان يقتضي أن يقول: فأخرج، ولكن جاء بصيغة الجمع: فأخرجنا؛ للتعظيم، أو لأنه سبحانه لا ينسى من حرث الأرض، وبذرها، وسقاها، وهيأها، وحصدها.

وهذه الأعمال كلها: من الأخذ بالأسباب؛ للوصول إلى الغاية والهدف، فلا بُدَّ للإنسان من القيام بها، ومن فضله أن أشرك الإنسان بعملية الإخراج.

{بِهِ} : الضمير يعود على الماء؛ أيْ: أخرجنا بالماء.

{نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ} : فكل نبات لا بُدَّ له من الماء؛ ليخرج وينبت، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} [الأنبياء: 30].

والنبات لا ساق له.

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} : فأخرجنا من النبات.

{خَضِرًا} : لا تعني اللون الأخضر، كما يظن الكثير من الناس، فلو أراد بها اللون الأخضر لقال: فأخرجنا منه نبات أخضر، وخُضر، وإنما تعني: مادة اليخضور التي أعطاها الله القدرة على امتصاص الطاقة من أشعة الشمس، ثم تمتص الماء من الأرض، فتحلِّله بالطاقة إلى ذرتين من الهيدروجين، وذرة من الأوكسجين، وتحتفظ بذرتي الهيدروجين، وتطلِق الأوكسجين إلى الجو؛ ليتنفَّسه الإنسان، والحيوان، وتأخذ ثاني أوكسيد الكربون من الجو، وتحلِّله بطاقة الشمس إلى كربون، وذرتي أوكسجين؛ تطلِق ذرتي الأوكسجين إلى الجو؛ ليتنفَّسها الإنسان والحيوان، وتحتفظ بذرة الكربون، ثم تربط بين ذرتي الهيدروجين والكربون، وتشكل السلاسل الغذائية من المواد السكرية، والدهنية، والسللوز، وغيرها، فمادة اليخضور: هي المادة التي يصنع لنا ربنا منها الثمرات.

{نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا} : كما في سنابل القمح والشعير.

{مُّتَرَاكِبًا} : مرصوص، بعضه على بعض.

{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} :

{مِنْ طَلْعِهَا} : هو الثمرة الأولى للنخلة، قبل أن تنشق، ويخرج منها القنوان.

{قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} : مفردها: قنو، أو العرجون الذي يحمل المشاريخ التي تحمل البلح (التمر)، كعنقود العنب.

{دَانِيَةٌ} : قريبة، يمكن قطفها باليد مباشرة، وهناك قنوان بعيدة، لا يمكن أن تصل إليها اليد أو محاطة بالشوك صعب الوصول إليها.

وفي سورة (ق) الآية (10): {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} .

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} : واختار من بين الثمار: الزيتون والرمان.

فالزيتون: الذي يستخرج منه زيت الزيتون؛ لكونه يحتوي على نسبة عالية من الحموض الدهنية غير المشبعة التي تقي من تصلب الشرايين، وأمراض القلب، وارتفاع الضغط، ومقاومة السرطانات، وأمراض المفاصل، ومقاومة ضعف الذاكرة

وغيرها.

وأما الرمان: فثمرته تحتوي على تركيز عالٍ مضادة للأكسدة، وهو يستعمل في علاج قرحات المعدة، ومقاومة السرطانات، وأمراض ضعف الذاكرة.

ما هو الفرق بين مشتبهاً ومتشابهاً؟

مشتبهاً: التشابه بأوجه كثيرة: (طول، وعرض، ولون، وطعم، وحجم)، أو على الأقل وجهان، أو أمران.

فلوجود هذه الأوجه من التشابه يلتبس الأمر على الإنسان.

وأما متشابه: فالتشابه بوجه واحد فقط، أو معنى واحد، إما الطول، أو العرض، أو اللون، أو الطعم، فقط.

فالتشابه: ينقسم إلى نوعين: تشابه في أمر، أو وجه من الوجوه، ويسمَّى ذلك متشابه.

أو تشابه في أكثر من وجه (وجهين أو أكثر)؛ يسمَّى مُشتبهاً.

وأما غير المتشابه: فليس فيه أيُّ أمر، أو وجه من التشابه.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} : بأكثر من أمرين، أو جهين على الأقل بعدة أوجه، أو أمور.

{مُشْتَبِهًا} : في ورقه، وأغصانه، ولكن يختلف في ثمره، هذا زيتون، وهذا رمان، ونلاحظ قدم الحب على أربعة أنواع من الأشجار: النخيل، والعنب، والزيتون، والرمان؛ لأن الزرع هو: الغذاء العام، وقدم التمر على الفواكه والعنب حسب الأهم.

{انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{وَيَنْعِهِ} : أكثر نضجاً، والينع: النضج، انظروا إلى ثمره إذا أثمر، وإلى نضجه، مرحلة التطور، ثم مرحلة النضج، وهي الينع.

{انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} : بتدبر، وتأمل، وقدرة الله سبحانه، وعظمته على الخلق، ولم يذكر الأكل هنا في الآية.

{إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{فِى ذَلِكُمْ} : ذا: اسم إشارة، لم يقل: ذلك؛ لأن {ذَلِكُمْ} : آكَدُ من ذلك، و {ذَلِكُمْ}: للأكثر، والجمع، والتوكيد.

{لَآيَاتٍ} : اللام: لام الاختصاص، والتوكيد، جمع آية، فيها آيات كثيرة خاصة بالقوم المؤمنين.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : لقوم: اللام لام الاختصاص؛ أيْ: هذه الآيات، هي دلائل على وحدانية الخالق، وقدرته، وعظمته؛ تفيد أو يقر بها المؤمنون فهي من نوع النعم.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية (99) مع الآية (141) من سورة الأنعام.

{وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

الآية (141): تذكر متشابهاً، وغير متشابه؛ أيْ: متشابه بوجه من الوجوه، أو أمر من الأمور فقط.

وغير متشابه؛ أيْ: بلا أيِّ وجه، أو أمر من التشابه.

في هذه الآية: يذكر الأكل، فيقول عز وجل :{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، فالآية (99): جاءت في قدرة الله وعظمته لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} السياق والتدبر، والإيمان، والعقيدة، والوحدانية، والآية (141): جاءت في سياق الأكل، وعدم الإسراف، والانتفاع بها، وبما أن الإيمان والعقيدة أهم من الأكل والشرب، ولذلك كل آية لها غاية وهدف يختلف عن الآخر، فالآية (99) هدفها التدبر والإيمان والآية (141) هدفها عدم الإسراف ودفع الزكاة.

ص: 142

سورة الأنعام [6: 100]

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} :

{وَجَعَلُوا} : الواو: استئنافية، جعلوا: من الجعل، من أفعال القلوب؛ أيْ: تعني: التصيير، والتحويل.

وجعلوا: يعود على المشركين؛ فهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} : الجن، وهم الشياطين كفرة الجن.

فالشياطين (كفرة الجن)، زينوا للمشركين عبادة الأوثان، والأصنام، فأطاعوا الشياطين؛ فعبدوا الأصنام، والأوثان، وعظموها؛ كما عظموا الله.

{وَخَلَقَهُمْ} : أيْ: هؤلاء المشركون، يعلمون أن الله خلقهم، وخلق الجن، وخلق الملائكة، ومع ذلك عبدوهم، وجعلوهم شركاء لله، فكيف يكون المخلوق شريكاً للخالق؟

وهناك من العلماء من يظن أن في هذه الآية تقديماً، أو تأخيراً، له فائدة في التوسُّع في المعنى.

فلو قال: وجعلوا الجن شركاء لله؛ لنقص المعنى.

إذنْ: لماذا التأخير والتقديم؟ هنا يفيد التوسُّع في المعنى.

فالآية تعني: إنكار أن يكون لله شريك: من الجن، أو غير الجن.

ولو قال: جعلوا الجن شركاء لله؛ تعني: أنكر الجن أن يكونوا شركاء لله، وأما غير الجن، فلا يستبعد ويستنكر أن يكونوا شركاء لله، وقد يظن أنه يجوز، أو مباح، ولذلك جاءت بهذه الصيغة؛ لتحمل المعنيين معاً.

{وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} :

{وَخَرَقُوا} : من الخرق: الذي يعني الشق والقطع أو الخرق: هو عمل فجوة في شيء طبيعي سليم؛ أي: سبحانه لم يلد ولم يولد اختلقوا له بشيئين وبنات وكان من المفروض عليهم أن يعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو أشركوا به لبث الفساد من غير تعقل وتدبر وفهم وقد تعني: اختلقوا؛ أي: الكذب، ومن دون علم؛ أي: افتروا الكذب، واختلقوه، وأخرق؛ تعني: أحمق، يختلق الأشياء.

{لَهُ بَنِينَ} : المسيح ابن مريم، أو العزير عليهما السلام.

{وَبَنَاتٍ} : أي: الملائكة كما افترى مشركو العرب، كانوا يقولون: الملائكة بنات الله سبحانه.

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} :

{سُبْحَانَهُ} : تنزيه لله عن الشرك، والنقص، وعما يصفونه به جل جلاله ، مما لا يليق بكماله عز وجل ؛ من الولد، والبنت، والند، والمثيل. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (1)؛ لمزيد من البيان.

وتنزيه ثابت قبل أن يوجد من ينزهه، أو يسبحه جل جلاله .

{وَتَعَالَى} : عن الشريك، والولد، والند، والنظير، تعالى على كل شيء؛ بقدرته، علو الذات، والقدرة، والقهر، علو الكبرياء، والعظمة، والجلال الأعلى؛ الذي لا يعلوه أحد.

{عَمَّا} : عن: حرف جر، ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{يَصِفُونَ} : من الشريك، والولد، وغيره.

ص: 143

سورة الأنعام [6: 101]

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} :

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : أيْ: خالق السموات والأرض، على غير مثال سابق.

والإبداع: هو إنشاء الشيء ابتداءً، وعلى غير مثال سابق.

{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} : أنّى للاستفهام، وأنى: تعني كيف، ومن أين، ومتى، وللتعجب، واستعمال (أنى): للدلالة على التوسع في المعنى؛ أيْ: كيف كان له ولد، ومن أين، ومتى كان ذلك؟

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} : أيْ: زوجة، (لم): تفيد نفي المستمر؛ الذي لم ينقطع، ولن ينقطع.

{وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ} : الخلق يعني: التقدير، والإيجاد.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد.

{بِكُلِّ} : الباء: للإلصاق، والاختصاص.

{شَىْءٍ} : أيِّ شيء (نكرة)، مهما كان نوعه، وحجمه، وشكله، ولونه.

{عَلِيمٌ} : أحاط علمه بجميع خلقه، ويعلم ما يقولون، ويفعلون، وما يسرون، وما يعلنون، وما يشركون {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3].

ص: 144

سورة الأنعام [6: 102]

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} :

{ذَلِكُمُ} : اسم إشارة؛ يفيد الجمع؛ لأنه سبقها قوله خالق كل شيء، والتوكيد، والتعظيم مقارنة بقوله ذلك.

{اللَّهُ رَبُّكُمْ} : جمع للألوهية، وللربوبية معاً.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا: النافية؛ أيْ: لا إله إلا هو؛ حصراً، وقصراً، لا معبود إلّا إياه. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ للبيان.

{خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ} : الفاء: للتوكيد.

{كُلِّ شَىْءٍ} : الشيء: كل ما يعلم ويخبر عنه سواء أكان حسياً أم معنوياً، ويعني أقل القليل، وشيء نكرة؛ تشمل كل شيء، مهما كان نوعه، وشكله، وحجمه. ارجع إلى الآية (1) من نفس السورة؛ لبيان معنى الخلق.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يدل على التوكيد.

{وَكِيلٌ} : أيْ: هو الوكيل على كل شيء؛ أي: الكافي المتولي، والقائم، والمدبر لكل شيء، والمعين عليه، سواء اختار المخلوق، أم لم يختر.

الله {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ} : أي: الله وكيل عليك، وليس وكيلاً لك؛ لأن الوكيل لك: ينفذ أوامرك، وقيل: فلان وكيل لفلان.

أي: ينفذ ما يريده، أما الحق جل جلاله ؛ فإنه وكيل على كل شيء؛ أيْ: أعلم بما يناسب كل إنسان، فيستجيب له، أو لا يستجيب له حسب ما تقتضيه إرادته -جل وعلا- ، ومشيئته وحكمته تعالى.

وفي هذه الآية: نجده قدَّم {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} على {خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} .

بينما في سورة غافر، آية (62) قدَّم {خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} على {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، وذلك لأن آية الأنعام جاءت في سياق التوحيد، ونفي الشرك، والصاحبة، والولد، فقدَّم كلمة التوحيد لا إله إلا هو، بينما في آية سورة غافر؛ فقد جاءت في سياق الخلق، وتعداد النِّعم؛ كقوله سبحانه وتعالى :{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 62]، ولذلك قدَّم خالق على لا إله إلا هو.

ص: 145

سورة الأنعام [6: 103]

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} :

{لَا} : النافية.

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : أيْ: لا تحيط به الأبصار أيَّ إحاطة؛ لأن -جل وعلا- إذا أحاطت به الأبصار؛ صار مقدوراً عليه.

وهناك فرق بين الرؤية والإدراك؛ الإدراك: أقوى من الرؤية؛ فقد ترى شيئاً ما، ولكن لا تدركه؛ أيْ: تحيط به علماً، ورؤيةً كاملة.

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : سواء أكانت العيون، أم العقول، لن يدركه عقل، أو بصر أبداً، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

أما رؤية الله في الآخرة: فهي حق، ولكن ليست رؤية إدراك، بل رؤية عن بعد، والله أعلم كيف تكون.

{وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} : يدرك سبحانه أبصار خلقه، وعقولهم؛ لأنه -جل وعلا- يحيط بخلقه إحاطة تامة.

{وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} : اللطيف: يعلم بمخفيات الأمور، ودقائق الأشياء، والوصول إليها بدقة ولطف.

واللطيف: من لطف، والشيء حين يدق ويصغر؛ يقال له: لطف؛ أيْ: كلما دقّ؛ أيْ: لطف، فهو يعلم كل شيء؛ مهما دق وصغر في الحجم، أو الاختفاء، واللطيف تعني كذلك: حسن المعشر، يرفق بعباده.

{الْخَبِيرُ} : العليم ببواطن الأمور، وذات الصدور، وكل الجوانب.

وأما الرؤية التي أخبر الله جل جلاله عنها عباده، فقال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]؛ رؤية لا يعلم حقيقتها إلا الله وحده.

ص: 146

سورة الأنعام [6: 104]

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} :

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَّبِّكُمْ} : بصائر: جمع بصيرة، والبصائر: البينات، تشمل آيات القرآن، والأصح: الحجج، والمعجزات، والبراهين التي تهدي إلى الحق. ارجع إلى سورة الجاثية آية (20) لمزيد في معنى بصائر.

وقيل: البصيرة: هي النور الذي يبصر به القلب، كما أن البصر هو النور الذي تبصر فيه العين، وهي البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبساً.

{فَمَنْ} : الفاء: للتوكيد، من: شرطية.

{أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} : أيْ: نفع نفسه من اهتدى بهذه البصائر؛ أي: الآيات، فلنفسه أفاد نفسه.

{وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا} : ضرّ نفسه؛ أيْ: من أعرض عن الحق، وضلَّ؛ فإنما يضل على نفسه؛ أيْ: عاقبة ضلاله، ووبال أمره يعود عليه وحده.

كقوله: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء: 15]؛ لأن الله سبحانه غني عن خلقه، وعن طاعتهم.

{وَمَا أَنَا} : الواو: عاطفة، وما: النافية، أنا: تعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{بِحَفِيظٍ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، حفيظ؛ أحصي لكم أعمالكم، وأجازيكم عليها، أو رقيب عليكم، أو قادر على أن أحرسكم، أو أحفظكم من المهالك، ومكائد الشيطان، ومصارع السوء، أو أحميكم من الوقوع في الذنوب.

ص: 147

سورة الأنعام [6: 105]

{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

أي: كما بيَّنَّا في الآيات السابقة؛ أيْ: صرفناها؛ كذلك نصرف الآيات الأخرى، ونبيِّنها بأساليب مختلفة، وهكذا يتبيَّن لكم الحق.

{وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} : اللام: لام التعليل، أو التوكيد، ليقولوا: الذين كفروا، أو المشركون، إذا سمعوا هذا البيان والتصريف: أنك درست على أهل الكتاب اليهود، وتعلمت منهم، وتعني: كثرة القراءة، أو تعلمت على بشر، أو قرأت، أو تعلمت من غيرك، أو دارست غيرك، ولم يوح إليك، وأصل درست: من درس الكتاب إذا أكثر من قراءته، أو من درس الحنطة يدرسها مرات عديدة؛ أي: داسها لكي يفصل القشر عن الحب.

{وَلِنُبَيِّنَهُ} : اللام: لام التوكيد، نبيِّنه: فعل مضارع؛ يعني: القرآن الكريم: نوضحه.

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : اللام: لام الاختصاص، هذا التصريف يفيد الذين يعلمون، أهل العلم، فيتبعون أحسن ما أنزل إليهم، من ربهم، أما الجاهلون، فلا ينتفعون به، ولا يريدون سماعه.

ص: 148

سورة الأنعام [6: 106]

{اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} :

{اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} : أي: القرآن، واعمل به، واستمر على رسالتك به، فإن ما أوحي إليك: هو الحق؛ لأنه لا إله إلّا هو. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ للبيان.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} : أيْ: لا تعتد بأقوالهم الباطلة، ولا تبال بها، مثل قولهم: درست، أو تعلمت، أو قولهم:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَىْءٍ} ، ولمعرفة معنى أوحي إليك؛ ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

ص: 149

سورة الأنعام [6: 107]

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.

{مَا أَشْرَكُوا} : أيْ: جعلهم مؤمنين، أو أنزل عليهم آية، اضطرتهم إلى الإيمان قهراً، ولكن الله ترك لهم الخيار.

{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} : وما: الواو عاطفة، ما: نافية.

{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} : أيْ: رقيباً عليهم، أو تحفظ أعمالهم، وأقوالهم، أو تحفظ لهم حياتهم، موكل إليك رزقهم، وحسابهم. ارجع إلى الآية السابقة (104)؛ لمزيد من البيان.

{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} : وما تكرارها يفيد توكيد النفي.

{بِوَكِيلٍ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، والوكيل؛ أيْ: موكل بتدبير شؤونهم، أو قيِّم على شؤونهم، أو نفوض إليك أمرهم؛ كي ترغمهم على الإيمان.

إذنْ: ما أنت عليهم بحفيظ، ولا بوكيل، ولا كليهما، وما عليك إلا البلاغ المبين.

ص: 150

سورة الأنعام [6: 108]

{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَلَا تَسُبُّوا} : أيْ: ولا تسبوا، لا: الناهية، لا تسبوا الذين يعبدون، أو يدعون من دون الله، أو تسبوا آلهتهم؛ فيكون ذلك سبباً لهم لسب الله سبحانه، والسب: يشمل الكلام القبيح، أو الشتم، والذم، والهجاء، والعيب.

{عَدْوًا} : أيْ: ظلماً، ظلماً بجهل، أو تسرعاً، والعَدْو: الاعتداء، والتجاوز، وعدا؛ أيْ: ظلم.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : جهلاً منهم؛ بما لله سبحانه: من حق، وتقديس، وقدر.

وفي هذه الآية: يتبيَّن الأدب القرآني في عدم السب؛ لأنه قد يكون سبباً في بُعدهم عن الإسلام أكثر فأكثر، ويكون وراء ذلك مفسدة، وهذا يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لأن الوسيلة هي أن تستميل القلوب للإسلام.

{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{كَذَلِكَ} : أيْ: كما زينا لهؤلاء القوم، حب آلهتهم، والانتصار لها، والدفاع عنها، وعدم الرضا بسبِّها.

{زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} : من الأمم عملهم: من خير أو شر، أو الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، والمزين هنا هو الشيطان، أو الله سبحانه. انظر إلى الملحق.

وتعريف الأمة: جماعة من الناس، تجمعهم عقيدة واحدة، أو دِين واحد، أو مبادئ وأسس اجتماعية غير ربانية.

{ثُمَّ} : للترتيب والتراخي.

{إِلَى رَبِّهِمْ} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر، حصراً إلى الله مرجعهم.

{فَيُنَبِّئُهُمْ} : الفاء: للتوكيد.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق.

{كَانُوا يَعْمَلُونَ} : في الدنيا بإخراج صحائف أعمالهم التي تشمل الأقوال والأفعال.

والسؤال في هذه الآية؛ من هو المزيِّن؟

التزيين يأتي من الله سبحانه، أو من الشيطان، أو أحياناً يكون فعل التزيين مبنياً للمجهول، فالله -جل وعلا- : هو المزين للأعمال الحسنة، أعمال البر، والتقوى، والخير، والإحسان التي تزيد في هداية المؤمن، وتقواه، وأما الشيطان وأتباعه: فهو المزين لأعمال السوء، أعمال الشرك، أو الضلال، والغواية، والمعصية، والعدوان، والشر، والظلم.

ص: 151

سورة الأنعام [6: 109]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

سبب النزول: كما جاء في الطبري: كلَّم رسول الله قريشاً، فقالوا: يا محمد! تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود لهم الناقة، فائْتنا من الآيات حتى نصدقك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ شيء تحبون أن آتيكم به؟

قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، قال فإن فعلت؛ تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، فقام رسول الله يدعو، فجاءه جبريل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً؛ فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم؛ أيْ: عذاب الاستئصال، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبُهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبُهم؛ فأنزل الله هذه الآية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} .

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} : أيْ: مشركو قريش.

{بِاللَّهِ} : الباء: باء الإلصاق.

ومن خصائص القرآن: أنه يستعمل القسم في سياق الصادقين في أيمانهم، والقسم؛ حتى ولو كانوا غير مؤمنين، أو يوهمون الناس: بأنهم صادقون، ويستعمل الحلف:(ليحلفن) في سياق المنافقين، والكاذبين في أيمانهم؛ أي: ظاهرهم الإخلاص والبر في القسم وباطنهم غير ذلك. ارجع إلى سورة التوبة، آية (56)؛ لمزيد من البيان والفرق بين القسم والحلف.

{جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} : أيْ: أقسموا بالله، أبلغ الأيمان، وأغلظها، وأجهدوا أنفسهم في صيغة القسم؛ لكي تصدقوهم.

{لَئِنْ} : اللام: للتوكيد، وإن: شرطية، تفيد الاحتمال، أو الندرة.

{جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} : معجزة، كما طلبوا؛ كتحويل جبل الصفا إلى ذهب، أو كما سألوا: أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً.

{لَّيُؤْمِنُنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{بِهَا} : ليؤمننَّ بها؛ أيْ: بالآية (بالمعجزة)، ولم يقولوا: ليؤمننَّ بك؛ مما يدل على نيتهم السيئة.

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر والتوكيد.

{الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} : المعجزات بيد الله، عند الله، وليست عندي؛ فهو القادر على أن ينزل آية، أو آيات.

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{وَمَا} : للاستفهام، والنفي، والسؤال مُوجَّه إلى المؤمنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين كانوا يطمعون في إسلام هؤلاء الكفار.

{يُشْعِرُكُمْ} : الإشعار: يعني: الإعلام، أشعره أعلمه.

{أَنَّهَا} : أن: للتوكيد؛ أيْ: ما يعلمكم أو يدريكم {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} : أيْ: أنزلها الله سبحانه عليهم ولم يؤمنوا؛ فالله سبحانه وحده يعلم الغيب، وأنتم لا تعلمون؛ فهو يعلم أنهم لا يؤمنون؛ حتى ولو نزل عليهم ما طلبوه، ولذلك لن ينزل عليهم ما طلبوه.

ص: 152

سورة الأنعام [6: 110]

{وَنُقَلِّبُ أَفْـئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} :

{وَنُقَلِّبُ} : من التقليب: هو التحول من حالة إلى حالة أخرى، فتصبح لا تعي، ولا تفهم.

{أَفْـئِدَتَهُمْ} : الأفئدة: جمع فؤاد، والفؤاد؛ قيل: هو القلب؛ أيْ: قلوبهم. ارجع إلى سورة الحج، آية (46)؛ للبيان العلمي، وارجع إلى سورة الأعراف، آية (179).

{وَأَبْصَارَهُمْ} : جمع بصر، فلا تبصر، ولا ترى؛ ما ينفعها، أو البصيرة: منطقة البصيرة في الدماغ.

أيْ: لو أنزلنا عليهم آية كما سألوا، وكما تتمنون أنتم أيها المؤمنون؛ طمعاً في إسلامهم، فنحن قادرون على أن نقلب أفئدتهم، وأبصارهم عن الإيمان، فلا يؤمنوا بالله، ولا بالقرآن، ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ أيْ: قادرون أن نحول بينهم، وبين الهدى، فلا يؤمنوا، كما لم يؤمنوا سابقاً قبل نزول الآية؛ أيْ: أول مرة، أو نقلب أفئدتهم، وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية حين أنزلنا عليهم الآيات أول مرة، الكاف: للتشبيه.

{لَمْ} : نافية، به تعود إلى القرآن، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو بالآيات.

{وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} : أيْ: نتركهم، أو ندعهم.

{فِى} : ظرفية، تدل على كونهم منغمسين في الضلال، والكفر من قبل، ومن بعد ما سألوا، ومع ذلك فهم يزدادون كفراً، وضلالاً.

{طُغْيَانِهِمْ} : الطغيان: مجاوزة الحد في الضلال، والكفر، والظلم، والعصيان، ومنع غيرهم من الدخول في الإسلام.

{يَعْمَهُونَ} : من العمه، والعمه هنا يكون في البصيرة، يقابل العمى؛ الذي يكون في البصر، أو العين، فهم الذين اختاروا العمه، عمى البصيرة، والحيرة، والتردُّد.

ص: 153