المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الأنعام [6: 111] {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٨

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الأنعام [6: 111]

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} :

سبب النزول: رُوِيَ عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جماعة من كفار مكة وزعمائها؛ فقالوا له: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحقاً ما تقول أم باطلاً؟ أو ائتنا بالله، والملائكة قبيلاً؛ فنزلت الآية.

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} : ولو: الواو: استئنافية، لو: شرطية.

{أَنَّنَا} : بدل أنا؛ للتوكيد، والتعظيم.

ولو استجبنا لمطالب هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننَّ بها.

و {نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} : ورأوهم بأعينهم، وسمعوا شهادتهم لك بالرسالة والنبوَّة.

{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} : الذين يعرفونهم بعد إحياء الله لهم من جديد.

{وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا} : حشرنا: جمعنا؛ أيْ: أحضرنا لهم الآيات، والحجج، يُزاحم بعضها بعضاً، كما يطلبونها.

{قُبُلًا} : مواجهة، ومعاينة، ومقابلة؛ أيْ: وضعنا أمام أعينهم كل آية أو كل ما طلبوه من الآيات من القُبل الذي هو أمامك، والدبر: هو الذي خلفك.

{كُلَّ شَىْءٍ} : شيء: نكرة، تضم كل شيء طلبوه من الآيات، والدلائل.

{مَا} : نافية.

{كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} : أي: لن يصدقوك، ويؤمنوا بما جئت بإرادتهم، ورغبتهم.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : أن يهديهم إذا اختاروا الإيمان لأنفسهم (الإيمان الاختياري)، أو يجبرهم على الإيمان قسراً، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (112) التالية من نفس السورة وهي قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} : نجد أن اسم الجلالة الله جاء في سياق الإيمان ونفي الشركاء، واسم الرب جاء في سياق الحفظ لرعاية.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} : يجهلون: أن الهداية بيد الله وحده، وليست بأيديهم، كما زعموا إذا رأوا آية؛ ليؤمننَّ، وإذا لم يروا آية: لا يؤمنون؛ فالله سبحانه قادر على أن يريهم آية، أو أكثر، ولا يؤمنون.

أو هو سبحانه قادر على أن يجعلهم يؤمنون من دون رؤية أيِّ آية، لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء.

وهناك القلة الذين لم يصفهم بالجهل؛ لأنهم سوف يؤمنون حين يرون الآيات، أو غيرها، ولكن بمشيئة الله. ارجع إلى سورة الزمر آية (64) لمزيد في معنى يجهلون، وسورة الفرقان آية (63).

ص: 1

سورة الأنعام [6: 112]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

{وَكَذَلِكَ} : الواو: استئنافية، كذلك؛ أيْ: كما جعلنا لك عدواً، أو أعداءً يخالفونك، ويعادونك؛ جعلنا للأنبياء من قبلك عدواً، أو أعداءً.

والسؤال هنا: كيف نفهم هذه الآية بأن يجعل الله لكل نبي عدواً، شياطين الإنس والجن؟ وفي سورة الفرقان، الآية (31) قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} .

وكذلك قوله جل جلاله في سورة غافر، الآية (51):{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، والجعل هنا لا يعني أن الله جعلهم بطبيعتهم أعداء، أو الله سبحانه فرض عليهم، أو ألزمهم، أو صيرهم، بأن يكونوا أعداء.

ولكن الله أودع فيهم، وأعطاهم العقل، وحرية الاختيار، فاختاروا هم أنفسهم أن يكونوا أعداء، ومجرمين للأنبياء والرسل، وهناك بشر أمثالهم؛ اختاروا أن ينصروا الرسل، ويؤمنوا بهم، ويصدقوهم، بدلاً من أن يكونوا أعداء، وإذا سألت: لماذا تركهم يختارون أن يكونوا أعداء، وكان باستطاعته منعهم؟ لأن له القدرة المطلقة.

الجواب: لكان منعهم، سيكون قسراً وقهراً، والله لا يريد أن يقهر عاقلاً؛ فقد قال تعالى في سورة البقرة، آية (256):{لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} ، فلا يحدث شيء في الكون إلا بحكمة؛ فهو أحكم الحاكمين، قد يتداخل سبحانه حين يشاء، وكيف يشاء؛ لينصر رسولاً، أو نبياً، أو مظلوماً.

{يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} :

{يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} : الوحي: هو إعلام بخفاء، ويعني: يوحي بعضهم إلى بعض، شيطان من الإنس يوحي إلى إنسي، أو شيطان من الجن يوحي إلى الإنس.

والوحي هنا يعني: الوسوسة، والتزيين، والإغراء؛ أيْ: يزيِّنون لهم فعل الأعمال القبيحة، والمعاصي، والفواحش، والمنكر، والقتل. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لبيان معنى الوحي.

{زُخْرُفَ الْقَوْلِ} : الزخرف: هو أصله الذهب، والزخرف: يطلق كذلك على الزينة، وزخرف القول غروراً: هو الباطل والخداع.

زخرف القول: الكلام المزيَّن، والأوهام، والذي يحمل الأماني الباطلة.

{غُرُورًا} : خداعاً، وباطلاً. ارجع إلى سورة فاطر، آية (5)؛ لمزيد من البيان.

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.

{شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} : أيْ: ما فعلوا الإيحاء بزخرف القول غروراً، والتزيين، والوسوسة بالباطل، والخداع، وإنما كان ذلك للابتلاء والفتنة، وربط المشيئة بالربوبية، ولم يربطها بالألوهية، كما ربطها بالألوهية في الآية السابقة.

وربط المشيئة بالألوهية في سياق آيات التوحيد، والعبادة، والإيمان، وربط المشيئة بالربوبية في سياق المعاصي، والوسوسة، والإغراء.

وقوله -جل وعلا- : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} : إضافة الرب إلى الضمير العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتشريف مقامه صلى الله عليه وسلم؛ ارجع إلى الآية السابقة (112) للمقارنة بين قوله تعالى: (ولو شاء ربك)، وقوله تعالى:(ولو شاء الله).

{فَذَرْهُمْ} : أيْ: اتركهم، ودعهمْ؛ تعود على كفار مكة.

{وَمَا يَفْتَرُونَ} : الافتراء: هو الكذب المتعمَّد، المختلق.

أي: اتركهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، و (ما): اسم موصول، أو مصدرية؛ يفترون من أساليب التزيين، والوسوسة، والكذب، والباطل.

ص: 2

سورة الأنعام [6: 113]

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْـئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ} :

{وَلِتَصْغَى} : الإصغاء: هنا يعني الميل؛ أي: تميل إليهم قلوبهم إلى الاستماع إلى زخرف القول وتميل إلى الاستماع إليه؛ أي: تحب الاستماع إليه.

أما السمع: فأن تسمع إلى من يتكلم، وأنت لا تريد، أو ليس هناك رغبة ولا نية في السماع إليه.

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} : الهاء: تعود على زخرف القول غروراً.

{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} : أيْ: تميل إلى السماع إليه؛ أيْ: زخرف القول غروراً، قلوب الكفرة الذين لا يؤمنون بالآخرة.

{أَفْـئِدَةُ} : قيل: هي القلوب، أو العقول؛ أيْ: منطقة الإدراك بالعقل. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (179)؛ للبيان، والحج، آية (46).

{الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{وَلِيَرْضَوْهُ} : أيْ: يقبلون بالباطل، والتزيين، والذنوب، والعمل به، واللام؛ لام الاختصاص، والتوكيد.

{وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ} : من القرف، والاقتراف، وأصل القرف: اقتلاع قشرة الشجرة، أو اللحاء من الشجرة، والجلدة عن الجرح.

إذنْ ليقترفوا: ليكتسبوا ما هم مكتسبون من الإثم، والمعاصي، والذنوب.

إذنْ هناك ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: الإصغاء، والإدراك.

المرحلة الثانية: القبول.

المرحلة الثالثة: التطبيق، وارتكاب الإثم، والذنب.

وتتم المرحلة الأولى: بالسمع، والبصر، والمرحلة الثانية: بالفؤاد، والمرحلة الثالثة: بالنزغ، وارتكاب الإثم، والذنب.

ص: 3

سورة الأنعام [6: 114]

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} :

أسباب النزول: كما ذكر الماوردي: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكماً؛ إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى؛ ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك؛ فنزلت هذه الآية:

{أَفَغَيْرَ} : الهمزة: استفهام إنكاري.

{اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا} : اطلب، أو التمس.

{حَكَمًا} : قاضياً، أو حكماً بمعنى: الحاكم المتخصص؛ أي: أخص من الحاكم والذي لا ينقض حكمه، وهو الحكم العدل بيني وبينكم، ومن أسمائه الحسنى الحكم وليس الحاكم.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر والتوكيد.

{الَّذِى} : اسم موصول.

{أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} : أنزل: القرآن العظيم. إليكم: خاصة لهدايتكم.

{مُفَصَّلًا} : المفصل المبين؛ أي: الذي بان فيه الحق من الباطل، والحلال من الحرام، فلا داعي لغير الله حكماً.

{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} : أيْ: علماء اليهود والنصارى.

{يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} : أي: القرآن.

{أَنَّهُ} : للتوكيد، منزل من ربك بالحق، يعلمون: أن القرآن منزل عليك من ربك، بالحق: الباء: للإلصاق؛ إذ أشارت كتبهم إلى ذلك.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.

{تَكُونَنَّ} : النون هنا: لزيادة النفي: لا تكوننَّ من الممترين؛ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود به أمته عليه الصلاة والسلام.

{مِنَ الْمُمْتَرِينَ} : أي: الشاكين، والمتردِّدين، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون من هؤلاء، ولكن الخطاب مُوجَّه إلى الذين آتيناهم الكتاب، والمشركين من عامة الناس، مع أن بعض أهل الكتاب أمثال عبد الله بن سلام يعلمون: أن القرآن منزل عليك من عند ربك بالحق.

والامتراء: هو الجدال بالباطل، بعد ظهور الحق: أنه منزل عليك من ربك بالحق؛ أيْ: لا تجادلوهم في هذا الأمر بعد أن تبيَّن الحق.

ص: 4

سورة الأنعام [6: 115]

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} :

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ} : تعني: كل كلمة في القرآن، وصلت إليك، كما أنزلت.

{كَلِمَتُ رَبِّكَ} : يعني: القرآن: وهو كلام الله، وكلام الله يطلق عليه كلمة من باب المجاز.

{صِدْقًا} : في أخباره، وفي وعده، ووعيده، وغيبه.

{وَعَدْلًا} : عدلاً في أحكامه، وفيما قضى، وقدر، وأمر، ونهى، صدقاً، وعدلاً في آن واحد.

{لَا} : النافية للجنس.

{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} : لا مغير لكلماته: بتحريف، و تبديل، أو نقص، أو زيادة.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد، والسميع والعليم: صفتان من صفات الذات العليم.

{السَّمِيعُ} : لكل ما يقال في الملأ الأعلى، وفي الأرض، ومن سر وعلن، وقريب وبعيد.

{الْعَلِيمُ} : المحيط علمه بكل شيء، وبجميع مخلوقات، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].

والعليم: صيغة مبالغة كثير العلم، عالم، عليم، علّامة.

ص: 5

سورة الأنعام [6: 116]

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} :

{وَإِنْ} : الواو: عاطفة، إن: شرطية، وتفيد القلة، أو الندرة؛ إنك تستطيع أن تطع أكثر من في الأرض.

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ} : لم تبيِّن هذه الآية من هم أكثر من في الأرض، والخطاب مُوجَّه إلى أفراد أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول حاشا أن يطيع الضالين، والمكذبين.

ولكن بيَّنته آيات أخرى؛ كقوله -جل وعلا- : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} ، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، إذنْ أكثر من في الأرض من غير المؤمنين بالله؛ أي: الكفار.

{يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : سبيل الله: هو دِينه الإسلام.

كيف يضلّون عن سبيل الله؟ لأنهم يتبعون أهواءهم، أو الظن؛ لكونهم يقلِّدون آباءَهم.

والظنُّ: هو التردد الراجح؛ أي: الشك إذا رجحت إحدى كفتيه بالإثبات.

{وَإِنْ} : نافية أقوى أدوات النفي.

{هُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{يَخْرُصُونَ} : الخرص: هو الظن، والتخمين؛ أي: الحزر، ثم تجوز به إلى الكذب؛ أيْ: يكذبون.

{يَخْرُصُونَ} : يكذبون، يقولون بالظن.

{يَخْرُصُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على التكرار، والتجدد، فهم مستمرون على الخرص؛ القول بالظن والكذب.

وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : هو توكيد لما قبله؛ أي: الظن، والظن، والخرص: من أنواع الكذب المذكورة في القرآن، ومنها: الإفك، والبهتان، والاختلاق، والافتراء.

ص: 6

سورة الأنعام [6: 117]

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، والحصر.

{أَعْلَمُ} : صيغة مبالغة؛ تدل على كثرة العلم على وزن أفعل.

{مَنْ يَضِلُّ} : من اسم موصول، أو استفهامية، وهي للعاقل المفرد، والجمع.

{يَضِلُّ} : جاء بفعل مضارع؛ ليدل على التجدد، والحدوث، ولم يقل: من ضل على سبيله، كما ورد في كثير من الآيات؛ لمعرفة معنى الضلال: ارجع إلى سورة البقرة، آية (198).

{عَنْ سَبِيلِهِ} : عن دِينه.

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} : وهو أعلم بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة، والصراط المستقيم، وتكرار: وهو أعلم يفيد التوكيد.

وهذه هي الآية الوحيدة في القرآن التي ذكر فيها: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} ، وباقي الآيات ذكرت:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، في سورة النحل، والنجم، والقلم.

فما هو الفرق بين الآيتين؟

ضل: فعل ماض، وانتهى؛ أيْ: خرج ذلك الإنسان عن الدِّين، والمنهج، أيام، أو أسابيع، أو أشهر، أو سنين، ثم في النهاية عاد؛ أيْ: ضل في الماضي وعاد، أو ضل ولم يُعد من ضلاله.

أما قوله تعالى: {مَنْ يَضِلُّ} : فيدل على التجدد والتكرار في المستقبل، ولم يتوقف، ومن المفسرين من قال: جيء بكلمة {يَضِلُّ} بدلاً من ضل؛ لأنها جاءت في سياق الآيات التي سبقتها، والتي جاءت بصيغة المضارع، مثل {يُضِلُّوكَ} ، {وَإِنْ تُطِعْ} .

ص: 7

سورة الأنعام [6: 118]

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} :

سبب النزول: رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى لما حرم الميتة؛ أتى أناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! أنأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتل الله؛ يريدون الميتة؛ فنزلت هذه الآية، وجاءت في سياق:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} .

{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} : اسم الله؛ أي: القول بسم الله، والله أكبر.

ذكر اسم الله عليه: باللسان، أو القلب عند ذبحه، أو صيده.

{فَكُلُوا} : الفاء: للتوكيد، والمباشرة؛ أيْ: لا تتبعوا أهواء المضلين الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال، تبعاً لأهوائهم، أو ما وجدوا عليه آباءهم، وليس لما أنزل الله جل جلاله .

{إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} : فكلوا إن كنتم مصدقين بآيات الله التي أنزلها إليكم، وأحكامه من الأوامر، والنواهي التي وردت في القرآن والسنة.

ص: 8

سورة الأنعام [6: 119]

{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: أداة استفهام.

{أَلَّا تَأْكُلُوا} : ألا: أداة حضٍّ، وتعجب، وإنكار؛ حضٌّ للأكل، وتعجُّب لعدم الأكل، يحمل معنى الأمر، أو: أيُّ سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، مثل باسم الله، والله أكبر.

{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} : الذي ورد في آية سورة الأنعام (145)، قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}

إلخ.

أو سورة المائدة، الآية (3)، أو غيرها من الآيات.

{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} : ارجع إلى آية المائدة (3)؛ للبيان، {فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ} .

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} :

{وَإِنَّ} : للتوكيد.

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ} : اللام: للتوكيد.

{لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} : أيْ: يفتون بغير علم، يحرمون، ويحللون بما لم يشرع به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، حسب ما تميل أنفسهم إلى الباطل، أو بعيد عن الحق، مثل تحريم البحيرة، والوصيلة، والسائبة، والحام.

{بِأَهْوَائِهِم} : جمع هوى، والهوى: هو ما تميل إليه النفس، بما لا ينبغي باطلاً، أو بعيداً عن الحق، ولا دليل له في الشرع، ويغلب عليه الذم، ويختص بالأداء، والاعتقادات.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : بما شرعه الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّ رَبَّكَ} : إن: للتوكيد، {رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ}: هو للتوكيد، والحصر.

{أَعْلَمُ} : صيغة مبالغة؛ من علم، عليم، أعلم.

{بِالْمُعْتَدِينَ} : الباء: للإلصاق.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} : ولم يقل إن ربك هو أعلم بالضالين، وإنما سماهم بالمعتدين؛ المعتدين على أنفسهم وعلى غيرهم وأنهم ضلوا وضلوا غيرهم؛ المعتدين: الذين يضلون بأهوائهم، ولكن الله أعلم منهم بكثير، يعلم مدى ودرجة ضلالهم، وكم ضلوا من الناس ومصيرهم.

والمعتدين، المتجاوزين الحلال إلى الحرام، والحق إلى الباطل، أو حدود الله.

ص: 9

سورة الأنعام [6: 120]

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} :

{وَذَرُوا} : الواو: استئنافية.

{وَذَرُوا} : اتركوا فعل المعاصي، مهما كان نوعها، الظاهر، والباطن منها.

{الْإِثْمِ} : وهو القبيح، والإثم: الظاهر هو ما حرمه الله شرعاً، وما حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل: أفعال الجوارح؛ كالزِّنى، ثم القول به أمام الناس، وشرب الخمر، ثم الإعلان به، وشربه علناً، والسرقة، وأكل ما حرم الله من الميتة، والدم، والخنزير، وما لم يذكر اسم الله عز وجل عليه.

وأما باطن الإثم: فهي آثام القلوب: كالحسد، وكتمان الشهادة، والغيبة. ارجع إلى سورة الأعراف، آية (33)؛ لمزيد من البيان.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ} : إن: للتوكيد.

{يَكْسِبُونَ} : ولم يقل: يكتسبون؛ لأن ممارستهم للمعاصي، والآثام أصبحت أمراً سهلاً عادياً، لا تحتاج إلى جهد، ولو احتاجت إلى جهد أو مشقة لقال: يكتسبون.

{سَيُجْزَوْنَ} : السين: للاستقبال القريب.

{بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} : أيْ: بما كانوا يكتسبون، الباء: للإلصاق، إذا ماتوا، ولم يتوبوا. يقترفون: ارجع إلى الآية (113) من نفس السورة؛ للبيان.

ص: 10

سورة الأنعام [6: 121]

{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} :

{وَلَا تَأْكُلُوا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} : مثل الميتة، وما ذبح، أو أُهل به لغير الله، أو أهل لغير الله به، وما ذبح عن النصب، أما ما ذبحه المسلم، ولم يسمِّ عليه عمداً، أو سهواً؛ فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك.

{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} : وإنه: للتوكيد، لفسق: اللام: لام التوكيد.

{لَفِسْقٌ} : أي: الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه: هو فسق؛ أيْ: خروج عن طاعة الله، والدِّين.

{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} :

{وَإِنَّ} : للتوكيد.

{الشَّيَاطِينَ} : شياطين الإنس (كفرة الإنس)، والجن المردة، أو الكفرة من الجن.

{لَيُوحُونَ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

والإيحاء: هنا يعني: الوسوسة، والإغراء، والتزيين، أو الوقوع في الشبه، ولمعرفة معنى الوحي ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} : إلى أتباعهم: من الإنس.

{لِيُجَادِلُوكُمْ} : اللام: للتوكيد، الجدال: في الأكل، أو عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، بالوسوسة، والتزيين، وإصدار الحكم، والأمر والنهي، مثال: كيف لا تأكلون ما قتل الله من الميتة، وتأكلون ما قتلتم أنتم من الصيد.

{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.

أطعتموهم في استحلال ما حرم عليكم، أو تحريم ما أحل الله لكم، أو أطعتموهم فيما أمروكم به، أو نهوكم عنه.

{إِنَّكُمْ} : إن: للتوكيد، والكاف: للخطاب.

{لَمُشْرِكُونَ} : اللام: للتوكيد، مشركون مثلهم، ومشركون: جملة اسمية؛ تعني: ثبات صفة الشرك عندكم.

ص: 11

سورة الأنعام [6: 122]

{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{أَوَمَنْ} : الهمزة للاستفهام، وتحمل معنى النفي، والإنكار، والتعجب.

{كَانَ مَيْتًا} : كان كافراً، أو ميتاً بالكفر، فالكافر يشبه الميت، والمؤمن يشبه الحي؛ كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]. ارجع إلى سورة الفرقان آية (49) لمعرفة الفرق بين مَيْتاً ومَّيِّتاً.

{فَأَحْيَيْنَاهُ} : الفاء: عاطفة، أحييناه بالإيمان والإسلام؛ أيْ: أصبح حياً.

{وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ} : نوراً يمشي: هو نور الإيمان، والقرآن، والهدى.

{يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ} : على بصيرة، ولم يقل: يمشي به بين الأشياء، وإنما اختار الناس؛ لأن الأعمى قد يستطيع أن يمشي بين الأشياء بحذر، وحيطة، ولكن المشي بين الناس مستحيل؛ لأنه سيصطدم بهذا، أو ذاك؛ فيشعر بالذنب، ويتوقف عن المشي ويبتعد عنه الناس، ولا يعني فقط المشي، وإنما عيشته، وسمعته، وسلوكه.

{كَمَنْ مَثَلُهُ} : الكاف: للتشبيه، من: بمعنى: الذي.

{فِى الظُّلُمَاتِ} : في: ظرفية، الظلمات: الكفر، والضلال، والشرك، والمعاصي، والفسق؛ أيْ: كمن يمشي في ظلمات الجهل، والليل، والظلام، والتيه.

{لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} : ليس: أداة نفي، وهو مستمر، ومستقيم عليها.

{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

أي: كما زُين للمؤمنين إيمانهم، زُين للكافرين ما كانوا يعملون: من المعاصي، والكفر، والأقوال، والأفعال.

وزُيِّن: حُسِّن؛ أيْ: رأى المؤمنون إيمانهم حسناً، وجميلاً، ورأى الكافرون كفرهم شيئاً جميلاً، والمزيِّن: لهم هو: الشيطان، وأهواؤهم، والمزيِّن للمؤمنين: هو الله -جل وعلا- . ارجع إلى الآية السابقة (108)؛ لمزيد من البيان في معنى زيَّن.

ص: 12

سورة الأنعام [6: 123]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} :

أي: وكما جعلنا في قريتك مكة، أكابر: جمع كبير وهم رؤساء أو زعماء القوم أو سادتهم من المجرمين، ودعاة الكفر، وشياطين الإنس والجن؛ كذلك جعلنا في كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين، أمثال هؤلاء؛ ليمكروا فيها.

{لِيَمْكُرُوا} : اللام: لام الاختصاص (التعليل).

والمكر: هو عمل يقوم به الماكر؛ ليحقق شيئاً عن طريق ملتوٍ؛ لأنه ضعيف، لا يستطيع المواجهة.

والمكر يتضمن: الحيلة، والخديعة، والغدر، والخلاف؛ ليصرف الناس عن الحق، والإيمان، والطاعة إلى الكفر، والشرك، والصد عن سبيل الله، والباطل.

{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ} : وما: نافية، إلّا: أداة حصر، وقصر، أيْ: وبال مكرهم، عائد عليهم.

{وَمَا يَشْعُرُونَ} : إن وبال المكر السيِّئ عائد عليهم؛ أيْ: يحيق ويحل، ويحيط بأهله. ارجع إلى سورة الرعد، آية (33)؛ لمزيد من البيان.

ص: 13

سورة الأنعام [6: 124]

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} :

{وَإِذَا} : الواو: عاطفة، إذا: ظرفية زمانية؛ تدل على حتمية الحدوث.

{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} : جاء هؤلاء أكابر المجرمين، من أهل مكة، آية؛ أيْ: دليل، أو حُجَّة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، لم يستجيبوا لها، ولم ينتفعوا بها.

{قَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ} : لن: نافية لكل الأزمنة، في المستقبل القريب، أو البعيد.

{حَتَّى} : حرف لانتهاء الغاية.

{نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ} : من المعجزات، أو الآيات، أو تنزل علينا الملائكة، أو يوحي إلينا ربنا، ثم يجيب الله سبحانه عليهم:

{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} : أيْ: أعلم من يختار لرسالته: من نبي، أو رسول، ومن هو أحق بحمل الرسالة، وكفء لها، وليس كما قالوا:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].

{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} :

{سَيُصِيبُ} : السين: للاستقبال القريب.

{الَّذِينَ أَجْرَمُوا} : أيْ: أكابر المجرمين والرؤساء؛ من كفار مكة، والمشركين، والعاصين. ارجع إلى الآية (55) من نفس السورة لبيان معنى أجرموا.

{صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: ذل، وهوان وخضوع في الدنيا؛ مثل: الأسر، والقتل، والمرض، والأوبئة، والمصائب

وغيرها، والصغار قد يكون ناشئ عن عوامل داخلية نفسية تؤدي إلى شعور الفرد بالهوان والذل.

{وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} : في الآخرة عذاب النار.

{بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} : أيْ: بسبب، أو بديل ما كانوا يمكرون بالناس: بالقيام بالحيل، والخداع، والغدر؛ لصدهم عن الإيمان، وصرفهم عنه، وإبقائهم في حالة الكفر، والشرك.

ص: 14

سورة الأنعام [6: 125]

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{فَمَنْ} : الفاء: استئنافية، ومن: شرطية.

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} : فقد يسأل سائل: إذا كانت الهداية، أو الضلالة من إرادة الله، فما ذنب الذي يُضله الله؟! وما معنى يشرح صدره للإسلام، أو يجعل صدره ضيِّقاً حَرَجاً؟

للردِّ على هذا السؤال؛ لا بُدَّ من العلم اليقيني: أن الله سبحانه زود كل عبد بالعقل؛ أي: الفهم، ومقومات الإدراك، والإحساس، وبين له طريق الهداية، وطريق الضلال بواسطة رسله، وأنبيائه، وكتبه، وآياته، وغيرها من الوسائل، وترك له حرية الاختيار للسير، إما على طريق الهداية، والحق، والصراط المستقيم، والنجاة، أو السير على طريق الضلال، والباطل، والهلاك.

فمن اختار طريق الهداية، وسار عليها؛ أيْ: آمن، واتبع أوامر الله -جل وعلا- ، واجتنب نواهيه، ثم طلب المزيد من الهداية، والعون من الله أعانه الله، ووفقه للوصول إلى غايته، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].

ومعنى: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} ؛ يعني: أن العبد يُقبل على دِينه، وعلى طاعة الله، وعبادته بعشق، وحب، وجد، بنفس مطمئنة، ويؤدِّي الفرائض، والتكاليف بخشوع، وكمال، ويكثر من النوافل، والذكر، وتلاوة القرآن، ويستقيم على ذلك، ويرتقي في سلم التقوى، والإحسان، وإسلام الوجه حتى يلقى ربه.

{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ} : ومن اختار طريق الضلال، والباطل، والهلاك، ورفض الإيمان بالرسل، والكتب، وما أنزل الله، ولم يتب، وسار في ضلاله، وغيه؛ تركه الله سبحانه وشأنه، ووفقه إلى غايته ومبتغاه، فهذا العبد سيجد صدره ضيِّقاً غير واسع وضيقاً يدل على ضيق ثابت وليس ضائقاً (الذي يدل على أنه ضيق عارض غير دائم) حَرَجاً، لا يتَّسع لسماع موعظة، أو آية، أو حديث، بل ويعطل سمعه وبصره عن كلِّ ما ينفعه، ويتَّبع هواه وخطوات الشيطان، ويخلد إلى الأرض؛ حتى يلقى ربَّه.

وشبَّه الله هذا العبد الذي يشعر بضيق في صدره، ويعرض عن سبيل الله بالذي يصعد إلى المرتفعات العالية، الأمر الذي يؤدِّي به إلى الشعور بضيق الصدر، وصعوبة في التنفس، والشعور بالهلاك من نقص الأوكسجين، وانخفاض الضغط الجوي، وتراكم مادة ثاني أوكسيد الكربون في دمه؛ بالتالي إلى زيادة عدد أنفاسه، ونبضات قلبه، وربما يفقد وعيه، وتكون نهايته.

{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

{الرِّجْسَ} : أصل الرجس: هو كل ما يستقذر؛ حساً، أو شرعاً، أو عقلاً؛ مثل: الخمر، والميتة، والخنزير، أو النتن، والخبيث من الأقوال، والاعتقادات، وأما الرجز: فهو العذاب الشديد، ففعل هذه المحرمات والمنكرات يؤدي إلى الرجز؛ أي: العذاب، فالرجس: أعم وأشمل من الرجز؛ أي: الرجس يعني كل ما مستقذر، ويعني: العذاب. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لمزيد من البيان، فالرجس قد يعني العذاب. ارجع إلى سورة المدثر آية (4) لمزيد من البيان.

{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} :

أي: كما يجعل صدر الذي أراد الضلال، وعدم الإيمان ضيِّقاً حَرَجاً، كذلك يجعل الله العذاب على الذين لا يؤمنون (أي: الكافرين).

ص: 15

سورة الأنعام [6: 126]

{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} :

{وَهَذَا} : الواو: استئنافية، والهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة.

{صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} : دِين الإسلام، الصراط المستقيم الذي يوصلك إلى غايتك بأقصر مسافة، وأسهل وسيلة، صراط ربك، نسبه عز وجل إليه تشريفاً.

{قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} : قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{فَصَّلْنَا الْآيَاتِ} : بيَّنَّاها، بأشكال متعددة، ومواضيع مختلفة.

{لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} : قد فصلنا الآيات لقوم وليس لواحد، أو اثنين؛ لأنه إذا فصلها لواحد أو اثنين قد ينسون ويغفلون ما فصل لهم.

وأما حين يكون هناك قوم، أو عدد كبير؛ فإن هذا التكافل، والتذكير يعصم المؤمن، من الخطأ والنسيان.

{يَذَّكَّرُونَ} : أيْ: إذا نسوا ما فصل لهم يذكرونه، ويستعيدون تذكره بوقت قصير، ولم يقل: لقوم يتذكرون؛ إذ (يتذكرون): تحتاج إلى وقت طويل.

ص: 16

سورة الأنعام [6: 127]

{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، ولهم تعود إلى قوم يذكرون.

{دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} : الجنة، ومن أسمائها: دار السلام، ولم يقل: دار الله، بل أتى بوصف، أو اسم آخر: هو السلام؛ اسم من أسماء الله الحسنى، ونسب إليه سبحانه الدار، فسماها دار السلام؛ أيْ: دار الأمن، والاطمئنان، والسلامة.

{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} : هو: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر والتوكيد.

{وَلِيُّهُمْ} : المتولِّي أمرهم، المعين، والكافي، كافيهم لكل ما يحتاجونه.

{بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : الباء: للتعليل، أو الإلصاق، ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{يَعْمَلُونَ} : في الدنيا؛ من الأعمال الحسنة التي تضم: الأقوال، والأفعال الطيبة الحسنة.

ص: 17

سورة الأنعام [6: 128]

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} : ويوم القيامة يحشرهم في أرض المحشر، والحشر هو السوق والجمع.

{جَمِيعًا} : الجن، والإنس؛ أي: الثقلان، وغيرهم.

وانتبه إلى كلمة {وَيَوْمَ} : التي جاءت منصوبة بالفتحة؛ أيْ: منصوبة بمحذوف تقديره: واذكر يوم يحشرهم جميعاً، أو يوم يحشرهم يقول:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الْإِنسِ} .

{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ} : يا: أداة نداء، المعشر: تعني: الجماعة المختلطة، اختلاط تعايش، ومعاشرة، والمعشر: قد تطلق على أصحاب حرفة معينة، يا معشر العلماء، يا معشر التجار.

{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ} : هنا معشر الجن: هم الشياطين، وغيرهم من الجن.

{قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} : أيْ: أخذتم الكثير من الإنس؛ لكي يصبحوا أتباعاً لكم، وأولياء، استكثر: أخذ الكثرة.

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِنَ الْإِنسِ} : أيْ: أتباع الجن من الإنس.

{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} : أي: انتفع بعضنا ببعض، والاستمتاع: هو النفع، والخدمة الذي تصاحبه اللذة.

أي: انتفع الإنس بالشياطين من الجن؛ إذ دلوهم على الشهوات، والمعاصي، وتلذذوا بها، أو لعبوا دور الكهنة، والعرافين، وانتفع الجن بالإنس؛ إذ جعلوهم أتباعاً لهم وأولياء، وهو استمتاع مخالف لمنهج الله تعالى.

{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} :

أي: استمر استمتاع بعضنا ببعض؛ حتى جاء أجلنا (الموت)؛ فإنهم يعتذرون إلى ربهم.

{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} : والمثوى؛ يعني: مكان إقامتكم الدائمة، والإقامة القسرية الجبرية؛ كالسجن في مكان ضيق، مطبق عليهم، لا يستطيعون الحركة، أو القيام بأي شيء.

{خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} : إلا: أداة استثناء.

{إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} : قد يعني: قسم من هؤلاء من أصحاب النار، بعد أن يعذبوا فيها زمناً حسب ذنوبهم وآثامهم، يخرجون منها بعد تطهيرهم من ذنوبهم؛ كهؤلاء الذين في قلوبهم شيء من الإيمان، والتوحيد، ولا إله إلا الله من الإنس، ولم يغفر اللهُ لهم، فلا بُدَّ لهم من الدخول في النار.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{رَبَّكَ حَكِيمٌ} : بتدبير شؤون خلقه، وحكيم في قضائه، وحكمه، لا يفعل شيئاً إلا بحكمة، فهو أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء.

{عَلِيمٌ} : بالكفار، وأعمالهم، وبعباده عامة، وبمن يستحق هذا العذاب، ونراه هنا قدَّم {حَكِيمٌ} على {عَلِيمٌ} ؛ لأن السياق في الجزاء، والعمل؛ فقدَّم {حَكِيمٌ} في الجزاء، لا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولو كان السياق في العلم، والمعرفة؛ لقدَّم العليم على الحكيم، كما سنرى في سورة يوسف آية (6، 83، 100).

ص: 18

سورة الأنعام [6: 129]

{وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: كما ولينا شياطين الجن، عصاة الإنس، بعضهم بعضاً، كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً.

وهذه سنة من سنن الله -جل وعلا- في أهل الظلم.

أي: يجعل بعضهم أولياء بعض بالمودة، والنصرة؛ ليزدادوا ظلماً، وإثماً، ثم يبعث الله لكل ظالم من هو أشد ظلماً منه، أو قوة، فيقتص الواحد منهم من الآخر، بأنواع مختلفة من العقاب.

{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} : الباء: للتعليل، أو السببية، ظالم ينتقم من ظالم، أو يؤدب ظالماً بظالم.

{كَانُوا يَكْسِبُونَ} : من الآثام، والذنوب في الدنيا، واستعمل فعل (كسب) بدلاً من (اكتسب). ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 19

سورة الأنعام [6: 130]

{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} :

أي: يوم يحشرهم يناديهم: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ} : ألم: الهمزة: للاستفهام، والتقرير، والتوبيخ.

{يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} : أيْ: من جنسكم، وليس من الملائكة.

قيل في تفسير هذه الآية: الجن لهم رسل، والإنس لهم رسل، أو أن الجن ليس لهم رسل، ورسلهم كانوا من الإنس، أو أن الجن كانوا يأخذون تعاليمهم من الإنس؛ لأنهم قادرون على الاستماع لكل ما يقوله الإنس بالخفاء.

والرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعث للإنس والجن معاً.

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} : ولم يقل: يتلون عليكم آياتي، كما جاء في الآية (71) من سورة الزمر:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} ، فما هو الفرق بين يقصون ويتلون؟

قص: أعم من تلا، {يَقُصُّونَ}: تشمل الأنبياء والرسل، {يَقُصُّونَ}: يبلغونكم الرسالة من دون كتاب معين.

{يَقُصُّونَ} : من كتاب، أو من غير كتاب، غير مقيدة، ويقصون تعني: بدقة وتفصيل، وقص أعم من تلا.

أما يتلُون: فالتلاوة مقيدة من كتاب، أو صحيفة.

وعدد الذين يقصون أكثر من عدد الذين يتلون، يتلون هم فقط من أُنزل عليهم الكتب والصحف. ارجع إلى سورة الزمر آية (71) لمزيد من البيان.

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} : يقصون من قص، وقص؛ مأخوذة من قصّ الأثر؛ أيْ: تتبع آثار القدم، من دون أيِّ انحراف؛ أيْ: بدقة وتفصيل.

{وَيُنذِرُونَكُمْ} : ولم يقل: ينذروكم، وإنما أضاف لها النون؛ للتوكيد، الإنذار: هو إعلام تحذير، أو تخويف.

{وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} : يخبرونكم عن هذا اليوم، يوم القيامة والبعث، ويحذرونكم للاستعداد له.

{قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} : قالوا: إجابة للسؤال {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} .

{قَالُوا شَهِدْنَا} : أيْ: أقررنا، بأن الرسل قد بلغونا، وأنذرونا، ولم يقولوا: شهدنا لأنفسنا؛ لأن الشهادة للنفس تعني: شهادة خير ومنفعة.

وإنما قالوا: شهدنا على أنفسنا؛ تعني: شهادة ضد أنفسنا؛ أيْ: شهادة سوء.

{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : من القائل هنا؟ مبني للمجهول، لا يهم وقيل: الملائكة؛ أيْ: خدعتهم الحياة الدنيا بزخارفها، وزينتها، ومتاعها، وشهواتها؛ ففرطوا فيها، ولم يستجيبوا للرسل، ولا لما أنذروا به.

{وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} : كانوا كافرين في الدنيا، وهذه تعتبر شهادة ثانية بعد الشهادة الأولى، أو توكيد للأولى. وهي جملة اسمية تفيد الثبوت، ثبوت الكفر في أنفسهم.

ص: 20

سورة الأنعام [6: 131]

{ذَلِكَ أَنْ لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} :

{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، ويشير إلى إرسال الرسل، حتى لا يكون لأحد حُجَّة بعد الرسل.

{أَنْ} : للتعليل، والتوكيد.

{لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} : الباء: للإلصاق، ولم: النافية.

{بِظُلْمٍ} : أيْ: لم يأتهم رسول، ولا نبي، ولا إنذار، ولا كتاب، ولا تحذير عمّا جاء به الرسل والأنبياء.

{غَافِلُونَ} : عن الإيمان لا يعرفون ما الإيمان ولا الكتاب، صفة ثابتة لهم؛ أيْ: لم يُنذروا قط، والغفلة ملازمة لهم.

وقوله تعالى: {لَّمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} : بالصيغة الاسمية؛ التي تدلُّ على أمر ثابت، ولا يتغيَّر، هو كون الله سبحانه لن يهلك القرى بظلم، وأهلها غافلون، وكذلك لن يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ، كما ورد في الآية (117) من سورة هود {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، كما ورد في الآية (59) من سورة القصص، ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى غافلون. ارجع إلى سورة القصص آية (59) للمقارنة بين الآيات الثلاث.

ص: 21

سورة الأنعام [6: 132]

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} :

{وَلِكُلٍّ} : أيْ: لكلٍّ من الجن والإنس.

{دَرَجَاتٌ} : منازل في الآخرة متفاوتة في الجنة، أو في النار، درجات الجنة؛ قيل:(100درجة)، ودركات النار قيل:(7دركات). فالمؤمن كلما ازداد عمله من الصالحات صعد درجة من درجات الجنة، والكافر أو الظالم كلما ازداد ظلماً لنفسه أو للآخرين نزل دركة من دركات النار.

{مِمَّا عَمِلُوا} : بحسب أعمالهم في الدنيا، التفاوت في الدرجات ينشأ بكثرة العمل، والكم، والكيف، والإخلاص، والتوحيد، واتباع القرآن، والسنة.

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: نافية.

{رَبُّكَ} : من الربوبية، وتعني: الخلق، والتدبير والرزق.

{بِغَافِلٍ} : الباء: للإلصاق، غافل: لا يغفل عن عمل أيِّ عبد، ظاهراً، أو باطناً: من قول، أو فعل، ولا تخفى عليه خافية في الملأ الأعلى، أو في الأرض. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان.

{عَمَّا يَعْمَلُونَ} : يملون: تضم الأقوال، والأفعال في الدنيا.

ص: 22

سورة الأنعام [6: 133]

{وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} :

{وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ} : عن عباده، ولا يحتاج إليهم، ولا لعبادتهم، ولا يضره كفرهم، ومع كل ذلك هو:{ذُو الرَّحْمَةِ} : ولم يقل الغني الرحيم، وإنما قال ذو الرحمة: من كمال الغنى، وذو: تعني: صاحب رحمة، وكلمة (ذو): أشرف، وأبلغ من كلمة صاحب. وذو رحمة تعني: كثير الرحمة، وذو رحمة؛ لأنه يمهل ولم يذهب بهؤلاء الكافرين.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم} : إن: شرطية.

{يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} : أيها العصاة، ويستأصلكم بالعذاب.

{وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم} : ويستخلف بعد إهلاككم من هو أفضل منكم.

{مَا يَشَاءُ} : من خلقه، ممّن هو أطوع منكم.

{كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} : الإنشاء: الإحداث حالاً بعد حال، أو الإيجاد من غير الاحتذاء على مثال سابق؛ قيل: هم أهل سفينة نوح عليه السلام ، أو ذريات أخرى على مدى العصور.

ما هو الفرق بين الاستخلاف والاستبدال؛ كما في سورة هود، الآية (57):{وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْـئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} ، وسورة التوبة، الآية (39):{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .

الاستخلاف: يأتي بجيل، تلو الجيل، من دون انقطاع.

الاستبدال: يأتي بجيل بعد جيل، ولو مرت قرون طويلة، ولا يعني تلو الآخر؛ أيْ: هناك انقطاع في الزمن بين الجيل المُهلك، والجيل الجديد.

والاستخلاف: أفضل من الاستبدال، فالاستبدال: يحصل لأقوام أعرضوا عن تطبيق الشريعة، ودين الله، أما الاستخلاف: فيحصل لأقوام لم يعرضوا، ولكنهم قصروا، أو لم ينالوا رضا الله التام.

ص: 23

سورة الأنعام [6: 134]

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} :

أي: أخبرهم يا محمد:

{إِنَّ} : تفيد التوكيد.

{مَا} : بمعنى: الذي، وما: أوسع شمولاً من الذي، ونلاحظ أنه فصل بين إنَّ وما، وإذا قارنا (إنَّ) (ما) في هذه الآية مع الآية (5) في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} : نجد آية الأنعام جاءت كتحذير في الدنيا وفيها فصل (إنَّ) عن (ما)، ونجدَّ آية الذاريات وصل (إنَّ) مع (ما) وجاءت في سياق القسم بأمور في الدنيا تخص الآخرة فوصل بين (إنَّ وما)؛ أي: فك الإدغام عندما تحدث عن الدنيا، وجاء بالإدغام عندما تحدث عن الدنيا والآخرة.

{تُوعَدُونَ} : لم يقل: وعِدتُم، أو وعدَكُم، وجاء بصيغة المضارع؛ ليدل على التجدد، والاستمرار، والوعد غالباً ما يكون في الخير، والوعيد في الشر.

{لَآتٍ} : اللام: للتوكيد.

{لَآتٍ} : أي: البعث، والحساب، والجزاء الأخروي.

{وَمَا} : ما: النافية.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{بِمُعْجِزِينَ} : من أعجز، تقول العرب: أعجزني فلان؛ أيْ: هرب فلم أستطيع اللحاق به؛ أيْ: هرب، وفلت من العقاب، أو العذاب.

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} : أيْ: فائتين من عذاب الله، والله قادر غير عاجز عن اللحاق بكم، ولن تستطيعوا الفرار من عذابه.

ص: 24

سورة الأنعام [6: 135]

{قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} :

{قُلْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم لهم:

{يَاقَوْمِ} : يا قوم: نداء ممزوج بشيء من المحبة، والعطف، والمودة، والقوم: هم الجماعة، وعادة ما يطلق على الرجال، وهنا القوم: قومه الذين لم يصدقوا نبوَّته.

{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : المكانة؛ تعني: مكان، ومكانة مثل منزل، ومنزلة، والمنزلة: الدرجة الاجتماعية، أو الطريقة، والمكان: هو الحيز، الذي يأخذه جسم الإنسان إن كان واقفاً، أو جالساً على الأرض، أو الموضع، اعملوا قدر استطاعتكم من التمكن، اعملوا ما بوسعكم، أو استمروا على حالكم التي أنتم عليها من الكفر، والعداوة، أو الطريقة التي أنتم عليها.

{إِنِّى عَامِلٌ} : وأنا سأعمل ما بوسعي على الثبات على هذا الدِّين، وتبليغه.

{فَسَوْفَ} : الفاء: للتأكيد، وسوف: حرف استقبال يدل على التراخي في الزمن، الزمن البعيد.

{تَعْلَمُونَ} : علم اليقين.

{مَنْ} : ابتدائية، وقد تعني: الواحد، أو الاثنين، أو الجمع.

{تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} : أي: الجنة، أو الحسنى.

انتبه في القرآن إذا أنث العاقبة، كما ورد في هذه الآية، فالعاقبة؛ تعني: الجنة، وإذا لم يؤنث العاقبة؛ أيْ: جاءت بصيغة مذكر، فقال مثلاً:{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : فالعاقبة؛ تعني: العذاب، والهلاك.

وقوله -جل وعلا- : {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : فيه تهديد، ووعيد؛ لما يقومون به من كفر، وعدوان، ومن الملاحظ في القرآن الكريم حين يستعمل كلمة:{قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} : يأتي دائماً بفاء التعقيب، فيقول:{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

وحين لا يستعمل قل؛ يأتي بكلمة سوف من دون الفاء، وكذلك نجد أنه حين يأتي بالفاء في (فسوف) فيها توكيد وإنذار شديد أكثر من (سوف) كما نرى في سورة هود؛ ارجع إلى سورة هود آية (93)، وسورة الزمر آية (39) للمقارنة ولمزيد من البيان.

{إِنَّهُ} : يفيد التوكيد.

{لَا} : النافية للجنس.

{يُفْلِحُ} : من الفلاح؛ يعني: الفوز بالجنة، والنصرة، والسعادة، أو حسن العاقبة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (5)؛ لمزيد من البيان.

{الظَّالِمُونَ} : الكافرون، أو المشركون الذين أصبحت صفة الظلم ثابتة لهم، والظالم لنفسه: هو كل من يخرج عن منهج الله تعالى يعتبر ظالماً. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

ص: 25

سورة الأنعام [6: 136]

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} :

{وَجَعَلُوا} : الجعل: هو التصيير، والتحويل، هذا الجعل غايته التقرب من الله، والآلهة معاً، وهذا التقرب إلى الآلهة: هو عين الشرك الذي حرمه الله؛ أيْ: جعل كفار قريش لله {مِمَّا} من البعضية؛ أي: الذي ذرأ الله من الحرث والأنعام؛ أيْ: جعل كفار قريش لله من بعض الذي ذرأ الله تعالى خلق، والذرء: هو الخلق الذي يتكاثر بذاته؛ أيْ: من بعض الحرث (الزرع)، والأنعام: هي الإبل، والغنم، والماعز، والبقر.

{نَصِيبًا} : قسماً، أو حظاً.

{فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} : هذا نصيباً، أو حظاً لله بزعمهم؛ أيْ: باعتقادهم الباطل الذي لا يستند إلى أيِّ دليل، وهذا نصيباً لآلهتهم؛ أيْ: أصنامهم التي يعبدونها، لتُنفق على خدمتها، وسدنتها.

ولم يكتفوا بذلك، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك بأن حاولوا الاحتيال، بالأخذ من حصة الله، وإعطائها لأوثانهم، وآلهتهم إذا ما حدث نقص في الحصاد، أو الثمر، أو نتاج الأنعام، ويبقون على حصة الأوثان، والآلهة ثابتة كاملة، ولا يمسوها بنقص، ويبررون ذلك بأن الله غني عن حصته، وأما آلهتهم فهي بحاجة إلى من يخدمها، ويقوم على سدانتها، فحصة الآلهة لا يمكن أن يعطوا بعضها إلى الله عز وجل ، وأما حصة أو نصيب الله تعالى فيمكن أن يعطوه لشركائهم.

{سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} : ساء: فعل ذم، يعني: بئس ما يحكمون، وبئس ما تهوى أنفسهم، أو ما يشتهون. ارجع إلى سورة المائدة، آية (103-104).

ص: 26

سورة الأنعام [6: 137]

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

{وَكَذَلِكَ} : أيْ: كما زين للمشركين القسمة غير العادلة بين الله سبحانه، والآلهة؛ التي يعبدونها، رغم أن الله وحده هو الذي ذرأها، زين لكثير من مشركي قريش قتل أولادهم، ووأد بناتهم؛ مخافة الفقر، أو عار الزِّنى، أو السبي، أو التقليد الأعمى.

والذي قام بالتزيين: هم شركاؤهم من شياطين الإنس والجن.

{لِيُرْدُوهُمْ} : اللام: لام التعليل.

{لِيُرْدُوهُمْ} : من الردى؛ أي: الهلاك؛ أيْ: يهلكونهم.

{وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} : الواو: عاطفة، ليبلسوا: اللام: للتعليل.

{وَلِيَلْبِسُوا} : أصل اللبس: هو الستر بالثوب، ومن اللباس: يلبس الحق بالباطل؛ أيْ: يستره.

ومعنى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} : ليدخلوا الشك في دِينهم، وكانوا على دِين إسماعيل، دِين الحنيفية، فرجعوا عنه، وليخلطوا عليهم الحق والباطل، فيزينوا لهم الباطل، ويتركوا الحق؛ حتى يصلوا إلى درجة اللبس، وهو الخلط، ثم تأتي مرحلة الشرك، بعد اللبس.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة. لو: شرطية.

{شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} : أيْ: لو شاء الله لقسرهم، وأجبرهم على ترك ذلك، ومنعهم، ولكن لم يشأ، وتركهم في ضلالهم وكذبهم المفترى؛ أي: المختلق العمد، وهذا تهديد، ووعيد لهم، وابتلاء وفتنة لهم، واختار اسم الجلالة (الله)(ولم يقل ربك)؛ لأن الآيات في سياق العبادة والتوحيد وتقليد الآباء.

{فَذَرْهُمْ} : أيْ: اتركهم يا محمد صلى الله عليه وسلم ودعهم.

{وَمَا} : أي: الذي يفترون، فذرهم على كذبهم المتعمد المختلق في الخلق، والجعل.

{يَفْتَرُونَ} : بصيغة المضارع؛ ليدل على تجدد، وتكرار افترائهم، وأنه مستمر، ولم يتوقف، والافتراء: هو نوع من الكذب المتعمد.

ص: 27

سورة الأنعام [6: 138]

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

تمادى مشركو قريش في شركهم، ولم يكتفوا بما زعموه في الآيات السابقة، بل قالوا:{هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} : أيْ: محرمة، إلا على الآلهة؛ أيْ: خاصة بالأصنام والأوثان، لا تذبح، ولا تستخدم، ولا يؤخذ لبنها؛ لكونها مخصصة لضيوف الآلهة، الرجال منهم، دون النساء، والعاملين عليها.

{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} : مثل: الحام، والبحيرة، والسائبة.

حرمت ظهورها: أي: الركوب عليها، أو حمل الأثقال، أو المتاع على ظهورها.

{وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} : عند ذبحها؛ لأنها قربان للآلهة؛ إذ لا يقولون: الله أكبر، أو بسم الله عند ذبحها.

{افْتِرَاءً عَلَيْهِ} : لا يذكرون اسم الله عليها؛ افتراء عليه عز وجل ؛ أيْ: على الله باختلاقهم الكذب: أن الله قد أوصاهم بفعل ذلك، أو وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، والافتراء: هو الكذب المتعمد المختلق.

{سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : السين: للاستقبال، والقرب في الزمن؛ أيْ: سينالون عقابهم قريباً.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، بسبب كذبهم على الله، وبأنه أوصاهم بذلك، وحلَّل لهم ما يفعلونه من الحرام، أو الباطل.

ص: 28

سورة الأنعام [6: 139]

{وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} :

{وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ} : أي: الأجنة، والأنعام يقصدون بها: السائبة، والبحيرة، والوصيلة.

{خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} : أيْ: ما خلص حياً؛ أيْ: ولد حياً من الأجنة؛ فهو حلال للرجال، ومحرَّم على أزواجنا؛ أي: النساء، الذكور: جمع كثرة، والذكران: جمع قلة.

{وَإِنْ يَكُنْ مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} : وإن ولد ميتاً؛ فيشترك فيه الرجال والنساء في أكل لحومها، وكل ذلك؛ نوع من جهالاتهم، وكذبهم، وضلالهم.

{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} : السين: للاستقبال القريب؛ أيْ: سينالون جزاء كذبهم، بالتحليل، والتحريم، حسب أهوائهم عن قريب.

{إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} : إنه: للتوكيد.

{حَكِيمٌ} : في أفعاله، وأقواله، وتدبير شؤون خلقه، وكونه، وما شرعه.

و {عَلِيمٌ} : بما يفترون، ويفعلون من خير وشر، وحلال وحرام، ولا تخفى عليه خافية في السماء، ولا في الأرض.

قدَّم {حَكِيمٌ} على {عَلِيمٌ} : لأن السياق في الجزاء، سيجزيهم وصفهم، والجزاء يتطلب حكمة، ولذلك قدَّم ذلك.

ص: 29

سورة الأنعام [6: 140]

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} :

{قَدْ} : حرف تحقيق وتوكيد، خسر الذين قتلوا أولادهم: خسروا الدنيا والآخرة.

{الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} : سواء الإناث، أو الذكور؛ بالوأد، أو أيِّ وسيلة.

ومثل الإجهاض في زمننا الحاضر، فلا تظننَّ أن قتل الأولاد انتهى زمنه.

{سَفَهًا} : أيْ: طيشاً، وقصوراً عقلياً، أو الخفة في العقل، خوفاً من الفقر؛ لأن الفقر قد يكون فقراً مؤقتاً، وأمراً موهوماً، والقتل أعظم من الفقر، وبذلك لا يحل لأحد الاعتقاد، أو القول، أو العمل من دون علم شرعي.

{وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} : حرموا على أنفسهم الطيبات، والمنافع من الحرث، والأنعام: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، سواء أكانت أطعمة، أم أشربة، أم أولادها.

{افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} : الافتراء: هو الكذب المتعمد، المختلق.

وافتراء الكذب على الله حينما قالوا: الله حرَّم هذا، وهو -جل وعلا- لم يحرِّم شيئاً، أو أحلَّ الله شيئاً، وهو جل جلاله لم يحلِّله.

فهذا الافتراء عليه -جل وعلا- من أعظم الذنوب والكبائر.

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{ضَلُّوا} : عن طريق الحق، والهدى، وقد ضلوا عن تعاليم الدِّين، والشريعة، وذهبوا إلى طريق الضلال والشرك.

{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : الواو: عاطفة، ما: النافية.

من الذين هداهم الله، أو يستحقون الهداية.

و {مُهْتَدِينَ} : جملة اسمية؛ تدل على الثبوت؛ أيْ: ما كانوا مهتدين دائماً وأبداً.

{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} : تعني: قد ضلوا، جاءت لتؤكد عدم اهتدائهم.

من ذلك يتبيَّن لنا: أن الله سبحانه قد حكم الله على هؤلاء الذين يقتلون أولادهم بسبع أمور:

1 – الخسران، خسروا أنفسهم:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ} .

2 -

السفه: {سَفَهًا} .

3 -

الجهل: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

4 -

{وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} .

5 -

{افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} .

6 -

الضلال: {قَدْ ضَلُّوا} .

7 -

عدم الهداية: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .

وأكَّد على خسارتهم بحرف قد، وأكَّد كذلك على ضلالهم.

ص: 30

سورة الأنعام [6: 141]

{وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} :

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد الحصر والتوكيد.

{وَهُوَ} : اسم موصول.

{أَنْشَأَ} : خلق، وأوجد بالتدريج، والإنشاء فيها معنى التطور، والنمو، والإبداع.

{جَنَّاتٍ} : بساتين، وحدائق كثيفة بالأشجار المثمرة.

{مَّعْرُوشَاتٍ} : أيْ: تقوم على دعائم خشبية، يصنعها الإنسان، والأصل: أن تكون منبسطة على الأرض، فنأتي بالقوائم الخشبية؛ لكي تعلو عليها هذه الأغصان.

{مَّعْرُوشَاتٍ} : مشتقة من العرش؛ الذي يدل على العلو، أو العرش: هو السرير المرتفع عن الأرض.

{وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} : وهو ما قام على ساق، وغني عن التعريش، وبناء الدعائم الخشبية؛ مثل: شجر النخل والأعناب.

{وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} : وأنشأ النخل، والزرع.

{مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} : أيْ: ثمره مختلف في الطعم، والشكل، والجودة؛ أي: التمر، والزرع يشمل: الحب، والقمح، والشعير، والذرة.

{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا} : في الشجر والورق، ومختلف في الثمر. ارجع إلى الآية (99) من سورة الأنعام؛ للبيان.

{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} :

{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} : الهاء في ثمره: تعود على الله سبحانه، وتعود على ثمر النخل، والزرع، والزيتون، والرمان.

وقوله: {إِذَا أَثْمَرَ} : تعني: إذا اقترب نضجه؛ أيْ: قبل أن ينضج يسمح لكم بأكله، وكذلك مفهوم يؤكل بعد نضجه.

{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} : وهذا يدل على الترخيص للمالك، بالأكل منه، قبل أداء حقِّه.

{حَقَّهُ} : حق الله تعالى، زكاته، أو الصدقة على المساكين، والفقراء.

{يَوْمَ حَصَادِهِ} : يوم قطفه، وجنيه؛ أيْ: جذاذه، أو بعد الانتهاء من تحضيره، ووزنه، وبيعه.

{وَلَا تُسْرِفُوا} : في الأكل، أو التصدق، وهنا؛ يعني: عدم ترك شيءٍ للأهل من المال، أو الطعام، والثمر؛ أي: الإسراف في الصدقة.

والإسراف يعني: صرف المال زيادة على ما ينبغي، أو تجاوز الحد في صرف المال، أو غير المال.

{إِنَّهُ} : للتوكيد، وتعود على الله سبحانه.

{لَا يُحِبُّ} : لا النافية.

{الْمُسْرِفِينَ} : الذين أصبح الإسراف صفة ثابتة ملازمة لهم. ارجع إلى الآية (99) من نفس السورة لمقارنة الآيتين (99، و141)، وإلى سورة الإسراء، آية (26-30).

ص: 31

سورة الأنعام [6: 142]

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} :

وأنشأ -جل وعلا- لكم أيها الناس.

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ} : وهي الإبل، والغنم، والبقر، والماعز، من: البعضية الابتدائية؛ أيْ: لكل نوع من الأنعام ميزاته من ناحية الركوب، والأكل، أو الاستفادة منها، وهذه الأنعام بأنواعها هي من آيات الله الدالة الشاهدة على طلاقة قدرته، وإبداعه في خلقه.

{حَمُولَةً} : أيْ: ما يحمل على ظهورها مثل: الإبل، والبقر، ومنها: من لا يحمل عليها: كالغنم، والماعز، وصغار الإبل، والبقر.

{وَفَرْشًا} : أيْ: منها ما يستفاد من أوبارها، وأشعارها، وأصوافها، وجلودها، تستعمل لصناعة الفرش، وما تجلسون عليه من الحصر، والسجاد، أو تفترشونه مثل: الفراش؛ أيْ: تنامون عليه.

{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} : تكرار وتوكيد للأكل ممّا ذكره سابقاً؛ من رزق الله، كلوا واشكروا الله المنعم على ما رزقكم.

{مِمَّا} : (من + ما)؛ أيْ: من بعض، ما: اسم موصول؛ تعني: الذي رزقكم الله.

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله لكم، وبالإسراف، وبعدم ذكر اسم الله عليه، وبعدم شكر الله المنعم، والإشراك به، وغيرها، وخطوات جمع خطوة، والخطوة: المسافة بين القدمين؛ أيْ: وساوس الشيطان وما يأمر به من الفحشاء والمنكر.

{إِنَّهُ} : للتوكيد، والهاء: تعود على الشيطان.

{لَكُمْ} : خاصَّة يا بني آدم.

{عَدُوٌّ مُبِينٌ} : عدوٌّ ظاهر العداوة، عداوته ظاهرة لكل فرد، ولا تحتاج إلى شرح وبيان.

ص: 32

سورة الأنعام [6: 143]

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّـئُونِى بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

وقد أنشأ الله لكم من الأنعام ثمانية أزواج.

{مِنَ الضَّأْنِ} : من: ابتدائية.

{الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} : أيْ: من الغنم، اثنين: الذكر والأنثى؛ أي: الكبش والنعجة ذوات الأصواف.

{وَمِنَ الْمَعْزِ} : اثنين (زوجين): التيس والعنزة، السخلة، والجدي، ذوات أشعار.

{قُلْ} : أيْ: اسألهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{آلذَّكَرَيْنِ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري، {آلذَّكَرَيْنِ}: من الضأن (الكبش)، والمعز (الجدي، أو التيس)، حرم الله عليكم، أم حرم عليكم الأنثيين من الضأن والمعز؛ أي: النعجة والسخلة، والعنزة.

{أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ} : من الأجنة وذكر ما في الأرحام للمبالغة في الرد على إنكارهم؛ أيْ: إذا كنتم تزعمون أن الله حرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام نبئوني بعلم: أخبروني بخبر موثَّق، كيف حرَّم الله هذه الأنعام، ومن أين جاء التحريم، ومتى صدر، ومن بلغه إليكم، أين الدليل؟

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن: شرطية، إن: تفيد الاحتمال، والشك؛ أيْ: تكونوا صادقين.

ص: 33

سورة الأنعام [6: 144]

{وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

وأنشأ لكم من الإبل اثنين (الذكر والأنثى): الجمل والناقة، ومن البقر اثنين (الثور والبقرة).

{قُلْ} : أيْ: اسألهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ} : نفس التفسير السابق.

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} : شهداء؛ أيْ: حضور؛ ففي الآية السابقة؛ طلب منهم: البرهان، والدليل على التحريم.

وفي هذه الآية؛ كأنه يقول لهم: إذا عجزتم عن إحضار الدليل، والبيِّنة على التحريم، هل كنتم حاضرين حينما وصَّى الله سبحانه أحداً منكم بهذا، أو كنتم حين وصَّى الله أنبيائه، أو وصَّاكم الله بهذا، بل أنتم كاذبون، أو تفترون الكذب على الله.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

{فَمَنْ} : الفاء: استئنافية، من: شرطية.

{أَظْلَمُ} : على وزن أفعل، مبالغة في الظلم؛ أيْ: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً.

{افْتَرَى} : الافتراء: هو الكذب المتعمَّد، المختلق.

{عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : كذباً: نكرة؛ تشمل كل أنواع الكذب المفترى، والخرص، والإفك، والكثير، والقليل، المتعمَّد، أو غير المتعمَّد.

{لِيُضِلَّ} : اللام: لام التعليل، والتوكيد.

{النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} : ليضل الناس عن اتباع الحلال وتجنب الحرام.

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} : دليل من الله، أو بغير حُجَّة، وبرهان، أو من دون علم شرعي.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{لَا} : النافية.

{يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} : الذين شرعوا ما لم يشرع الله تعالى، ولا رسوله به، افتروا على الله الكذب.

وقد يسأل سائل: هو أضل الناس بغير علم، ولم تكن نية إضلال الناس بعلم؟

نقول له: إذا هو أضل الناس بغير علم؛ أي: هو أضل الناس بأهوائه، فهذا يعتبر افتراء على الله عز وجل .

ص: 34

سورة الأنعام [6: 145]

{قُلْ لَا أَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

تشير هذه الآية إلى أن التحريم، أو التحليل يكون بالوحي، أو يثبت بالوحي فقط، والوحي: هو القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى} [النجم: 4]، ولمعرفة معنى أوحي إلي؛ ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

و {قُلْ لَا أَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ} : قل لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجد من المحرمات التي ذكرتموها شيئاً محرماً في القرآن؛ إلا ثلاثة أشياء على أيِّ آكل، هي: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير.

وكذلك ما ذكر في سورة المائدة، الآية (3):{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} .

{فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} :

{فَإِنَّهُ} : إن: للتوكيد؛ أيْ: هذه المحرمات: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير.

{رِجْسٌ} : لحمها قذر، وقبيح، ومحرم؛ أيْ: أكلها عمل قذر قبيح محرم.

{أَوْ فِسْقًا} : خروجاً عن الدِّين، وعن طاعة الله سبحانه وتعالى .

{أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : أيْ: ذبح، ولم يذكر اسم الله عليها، وإنما ذكر اسم الأصنام عليها، والإهلال: رفع الصوت باسم المذبوح له.

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

{فَمَنِ} : الفاء: عاطفة، من: شرطية.

{فَمَنِ اضْطُرَّ} : أيْ: ألجئ بحكم الضرر؛ المخمصة، واستنفد كل الأسباب، وخاف على نفسه الهلاك؛ فله أن يأكل، لكن على شرط:

{غَيْرَ بَاغٍ} : أيْ: لا يأكل فوق حاجته.

{وَلَا عَادٍ} : أيْ: لا يأكل من هذه المحرمات وعنده أطعمة أخرى، قد تسد رمقه.

{وَلَا} : تفيد التوكيد، توكيد النفي.

وفي الآية (3) من سورة المائدة أضاف عز وجل : {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} : أيْ: مائل، أو راغب لارتكاب الإثم.

{فَإِنَّ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، وتفيد التوكيد.

{رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : غفور: كثير الغفران، صيغة مبالغة؛ أيْ: يغفر الذنوب جميعاً إلّا الشرك به، يغفر لمن اضطر لأكل المحرم، غير باغٍ، ولا عاد.

{رَحِيمٌ} : أباح الأكل من المحرمات في حالة الاضطرار، وهذه صفة ثابتة لذاته، رحيم: بعباده المؤمنين.

وتكرار لا: {وَلَا عَادٍ} : لنفي كلٍّ منهما على حدة، وكلاهما معاً، لا يجوز له أن يكون باغياً، ولا يجوز له أن يكون عادياً، ولا كليهما معاً. ارجع إلى الآية (115) من سورة النحل للبيان المفصل، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (3) في سورة المائدة، والآية (115) في سورة النحل وهي قوله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : نجد أن آية الأنعام جاءت في سياق الشرك، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم قل لا أجد في ما أوحي إلي، وآية المائدة والنحل في سياق قول الله تعالى أو مخاطبة الله تعالى للناس في (الأطعمة) فيما أحل وحرم الله عليهم، وفيما أُهل لغير الله بـ (الشرك).

ص: 35

سورة الأنعام [6: 146]

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} :

ويذكر الله تعالى لنا في هذه الآية: بتحريم خاص؛ حرّمه على الذين هادوا؛ بسبب ظلمهم، وعدم الأخذ بما أنزل الله إليهم في التوراة.

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} : تقديم (على): لتفيد الحصر، والقصر.

{الَّذِينَ هَادُوا} : تهدوا، هم أتباع بني إسرائيل؛ الذين جاؤوا بعد موسى عليه السلام ، ودخلوا في اليهودية.

{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} : بسبب ظلمهم، وصدهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذهم الربا، وقد نهو عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وغيرها.

{كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} : أيْ: كلّ ذي مخلب، وناب أيضاً.

{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا} : إلا: أداة استثناء.

{إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} : من الشحم؛ فهو مباح.

{أَوِ الْحَوَايَا} : الأمعاء، الشحم المختلط بالأمعاء.

{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} : أو الشحم المختلط بعظم.

{ذَلِكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، يشير إلى التحريم بعدم أكل الشحوم.

{جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} : الباء: للإبدال، أو السببية، بسبب بغيهم؛ أيْ: ظلمهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق، واتخاذهم العجل، وأكلهم الربا؛ وقد نُهُوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، والاصطياد يوم السبت.

{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} : وإنا: للتعظيم. لصادقون: اللام: لام التوكيد

صادقون: فيما وعدناه للعصاة الظالمين، وما وعدناه للمطيعين.

وصادقون: جملة اسمية؛ تفيد الثبوت.

ص: 36

سورة الأنعام [6: 147]

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} :

{فَإِنْ} : الفاء: عاطفة، إن: شرطية تفيد الاحتمال، والندرة؛ أيْ: من النادر أن يكذبوك؛ لأنهم يعلمون أنك الصادق الأمين.

{كَذَّبُوكَ} : أي: المشركون، أو اليهود، في مسألة التحريم، والتحليل، وزعموا أن الله ذو رحمة واسعة.

{فَقُلْ} : الفاء: جواب الشرط، قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: نعم {رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} .

ولكن لأهل الطاعة، والمؤمنين، ولأنه لا يعجل لكم بالعقوبة؛ لعلكم تتوبون، ولا يعني تأجيل بأسه؛ أيْ: عذابه عنكم أنكم ناجون من العذاب، أو أنه غفر لكم.

{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} : أيْ: لا أحد يستطيع منع عذابه، أو دفعه، إذا حلَّ، أو نزل بالقوم المجرمين، الكافرين، والمشركين، العاصين، والذين إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون.

وفي هذه الآية قال سبحانه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} : بصيغة الماضي؛ لأن التكذيب لأمر محدد، وهو مسألة التحريم، ولم يقل:(يكذبوك). ارجع إلى الآية (33) من سورة الأنعام؛ للبيان، والآية (184) من سورة آل عمران؛ للمقارنة.

ص: 37

سورة الأنعام [6: 148]

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَىْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} :

{سَيَقُولُ} : السين: للاستقبال القريب.

{الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : من قريش، وغيرهم.

{لَوْ شَاءَ اللَّهُ} : لو: شرطية.

{مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَىْءٍ} : الشرك: هنا جاء في سياق الأطعمة، وما هو بزعمهم لله، وما هو لشركائهم.

أي: في سياق التحليل والتحريم: في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ فهم يدعون، أو يزعمون: أن شركهم في الأطعمة، والتحليل، والتحريم؛ لو كان باطلاً، أو هم على غير حق؛ لأُرسل إلى آبائهم، أو إليهم رسلاً يخبرونهم أو يأمرونهم بترك الشرك، أو التحريم؛ فرد الله عليهم {كَذَلِكَ}: أيْ: بمثل كذبهم هذا؛ كذب الذين من قبلهم، وقالوا لرسلهم هذا القول نفسَه.

ولو قارنا هذه الآية مع الآية (35) في سورة النحل وهي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ ففي آية الأنعام قال: ما أشركنا، وفي آية النحل: ما عبدنا؛ فآية الأنعام جاءت في سياق المحرمات من الأطعمة والحدث، وآية النحل جاءت في سياق الرد على الشرك وعبادة غير الله سبحانه، وآية الأنعام ولا آباؤنا، وآية النحل ولا آباؤنا: زاد نحن تدل على شدة التوكيد في النحل؛ لأن السياق في العبادة والتوحيد وهي أهم من الأطعمة، وفي الأنعام قال:{كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ؛ لأن السياق في الأنعام في الكذب، والسياق في النحل الشرك وعبادة غير الله.

{حَتَّى} : حرف غاية، نهاية الغاية.

{ذَاقُوا بَأْسَنَا} : عذابنا.

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم، هل: للاستفهام؛ يحمل معنى: الإنكار، والإلزام.

{عِنْدَكُمْ مِّنْ عِلْمٍ} : أيْ: هل عندكم من كتاب، أو دليل يدل أن الله حرَّم عليكم ما تزعمون من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، أو هو راض عنكم، أن تشركوا به.

{فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} : أيْ: تظهرونه لنا؛ عبر عنه بالإخراج؛ لأن سبب إظهاره سيكون حُجة عليكم.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : إن: حرف نفي، أشدُّ نفياً من ما.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : الظن: هو التردد الراجح، وهو رجحان ظرف الإثبات على النفي، دون بلوغ درجة العلم، أو الإثبات، ويعني: الشك.

{وَإِنْ} : لزيادة توكيد النفي.

{أَنتُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{تَخْرُصُونَ} : الخرص: هو الحزر، والتخمين، واستعمل موضع الكذب؛ لأن الخرص لا يستند على علم، أو دليل؛ فهو نوع من أنواع الكذب، مثل: الإفك، والبهتان، والاختلاق.

ص: 38

سورة الأنعام [6: 149]

{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} : الفاء: للتوكيد، واللام: للاختصاص؛ أي: عند الله وحده سبحانه الحُجة: الدليل، والحُجة: أخص من الدليل، وتستعمل الحجة في سياق الدعوى، والحجة البالغة التامَّة؛ أيْ: إذا لم يكن معكم دليل وبرهان أن الله حرَّم ذلك؛ فعند الله الحُجَّة البالغة؛ أي: والدليل التام، البالغة: مؤنث البالغ: اسم فاعل من فعل بلغ، والتاء: للمبالغة.

{فَلَوْ} : الفاء: للتوكيد، لو: شرطية.

{شَاءَ لَهَدَاكُمْ} : اللام: لام التوكيد.

{أَجْمَعِينَ} : توكيد آخر، وأحياناً يسبقها كلمة كلكم.

الفرق بين شاء، وأراد: المشيئة: المرحلة السابقة للإرادة؛ أيْ: لو شاء الله تعالى؛ لأكرهكم، وأجبركم على الهداية، ولكن لم يشأ، وترك لكم حرية الاختيار، بين سلوك طريق الهداية والإيمان، أو طريق الضلال، والانحراف.

ص: 39

سورة الأنعام [6: 150]

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين: إذا كنتم لا تملكون العلم؛ فتخرجوه لنا، وليس لديكم دليل، ولا برهان على التحريم؛ فربما عندكم شهداء يشهدون لكم أن الله حرم هذا، أو ذاك؛ مما تخرصون.

إذنْ فأحضروا هؤلاء الشهداء.

{هَلُمَّ} : تستعمل للجماعة، والمفرد، والمثنى، سواء كان ذكراً، أم أنثى، وتعني: أحضر، أو ائت، أحضروا أيَّ شهداء حتى وإن كانوا شهداء الزور.

{فَإِنْ شَهِدُوا} : إن: شرطية؛ تفيد الشك، والاحتمال على أن يشهدوا بمثل هذه الشهادة.

{فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} : لأن الله لم يشهدهم، أو يخبرهم أنه حرم ذلك، فلا تشهد معهم.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، فهم كاذبون إن شهدوا، ويخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي أمته، ويحذرهم من اتباع أهواء الذين كذبوا.

{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : وتكرار لا؛ يفيد التوكيد، وفصل الشهادة معهم عن اتباع أهوائهم؛ أيْ: لا تفعل هذه، ولا تلك، ولا كليهما.

{أَهْوَاءَ} : جمع هوى، والهوى: ما تميل إليه النفس، بما لا ينبغي، باطلاً، أو بعيداً عن الحق، والهوى؛ يغلب عليه الذم، ويختص بالأداء، والاعتقادات.

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : آيات القرآن، أو المعجزات، أو الآيات الكونية، والأدلة.

{وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : والذين لا يؤمنون بالآخرة، لا يصدقون بالبعث، والجزاء، والحساب، والجنة، والنار.

{وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} : وهم ضمير منفصل، يفيد التوكيد.

{بِرَبِّهِمْ} : الباء: للإلصاق.

{يَعْدِلُونَ} : ارجع إلى الآية (1) من سورة الأنعام؛ لبيان المعنى.

ص: 40

سورة الأنعام [6: 151]

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لهؤلاء المشركين: حسبكم هذا الخرص.

{تَعَالَوْا} : أقبلوا عليَّ، أو ائتوا إليَّ، وتعالوا فيها معنى ترفعوا عن الكذب، والظن.

{أَتْلُ} : اقرأ عليكم ما حرم ربكم عليكم بدلاً من خَرصِكم، وتشبه الوصايا العشر التي وصَّاها الله تعالى لموسى عليه السلام .

1 -

{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا} : ألّا مركبة من: أن ولا: النافية، أن لا تشركوا: أو لا تشركوا؛ تعني: العرض والتحضيض، و {شَيْـئًا}: هو أقل الشيء، وشيئاً: نكرة؛ أيْ: مهما كان نوع الشرك.

2 -

{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} : الإحسان إلى الوالدين؛ إحسان مطلق، ولا يكفي عدم الإساءة إليهما؛ لأن الإساءة إلى الوالدين محرَّم. ارجع إلى سورة النساء آية (36) لمزيد من البيان، وارجع إلى سورة البقرة آية (112)، وعدم الإحسان يدخل فيه عدم الإساءة إليهما.

3 -

{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} : ولا تقتلوا أولادكم: ذكوراً، أو إناثاً؛ بالوأد أو غيره من وسائل القتل؛ كالإجهاض مثلاً.

{مِّنْ إِمْلَاقٍ} : من الفقر، وقيل: الفقر بعد الغنى، أو الإسراف، والتبذير الذي حدث زمن الغي، وأدَّى إلى الإملاق؛ أي: الفقر.

ولنقارن هذه الآية من سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} مع الآية (38) من سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} .

في آية سورة الأنعام؛ قال سبحانه وتعالى : {مِّنْ إِمْلَاقٍ} : تعني: الآباء، هم فقراء الآن في حالة فقر، فيقدمون على قتل أولادهم من الفقر الواقع بهم بسبب الأولاد الذكور أو الإناث.

ولذلك؛ سارع ربُّ العالمين، وطمأنهم، وقال:{نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} : قدَّم رزق الآباء على رزق الأولاد.

في آية الإسراء قال: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} : تعني: الآباء ليسوا فقراء الآن، ولكنهم يخشون الفقر في المستقبل، فيُقدِمون على قتل أولادهم؛ خشية الفقر؛ خوفاً من الفقر الذي قد يحدث، ولذلك سارع ربُّ العالمين، وطمأنهم، وقال:{نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} : فقدَّم رزق الأولاد على رزق الآباء.

{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} :

{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} : جمع فاحشة، وتطلق عادة على الزِّنى، أو اللواطة، والقذف، وعبادة الأصنام، وقال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا} : أيْ: لا تفعلوا؛ أي: المقدمات التي قد تؤدِّي إلى ارتكاب الفواحش، وقوله:{وَلَا تَقْرَبُوا} : أشدُّ وآكَدُ من قوله: ولا تفعلوا الفواحش.

وقيل في تعريف الفاحشة: هي كل ما عظُم جرمه، وإثمه من الأقوال، والأفعال.

{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : ما ارتكب في العلن، وعلى مرأى ومسمع الناس، أو ما بطن: ما ارتكب سرّاً، وفي الخفاء؛ حتى لا يراه الناس، أو يسمعوا به.

{تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ} : حصراً.

{بِالْحَقِّ} : بالقصاص، والردة، وزنى المحصن، إذا توافرت الشروط والشهود.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : ذلكم: بدلاً من ذلك؛ لأن (ذلكم): تستعمل للأمور المتعددة والمهمة التي يُراد التوكيد عليها، مثل: الإشراك بالله، والوالدين إحساناً، وقتل الأولاد، وقتل الأنفس؛ إلا بالحق، أو الفواحش، وذلكم بدلاً من ذلك التي تستعمل للأمر المفرد، والعادي، غير المهم.

{وَصَّاكُمْ بِهِ} : من الوصية، والوصية: أن تعهد إلى شخص بعمل خير، أو ترك شر، والوصية: تدل على محبة الموصي للموصى له.

وقال: {وَصَّاكُمْ بِهِ} : ولم يقل: وصَّاكم بها؛ لأن أوامر الله ونواهيه كأنها تمثل أمراً واحداً، فلا نأخذ بعضها، ونترك بعضها.

{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : لا يعقل أن تشركوا بالله، وتعقوا الوالدين، وتقربوا الفواحش، وتقتلوا أولادكم، أو تقتلوا النفس التي حرم الله بالحق؛ أيْ: هذه التكاليف التي يقرها العقل، ولا يعقل أن تقوموا بها.

{لَعَلَّكُمْ} : لعلَّ: للتعليل، لعلَّ هذه الوصايا تحملكم على الكف، وعدم ارتكاب تلك المحرمات، وإذا قارنا هذه الآية بالآيات التالية (152) (153) وهي قوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: نجد يمكن القول لعلكم تعقلون جاءت في سياق أشد الأحكام (الكبائر) التي تحتاج إلى العقل ليكبحها ويمنعها؛ (ولعلكم تذكرون): في سياق الأحكام التي ينساها، وتحتاج إلى تذكرة دائمة للقيام بها، (ولعلكم تتقون): في سياق الاستقامة على التقوى.

ص: 41

سورة الأنعام [6: 152]

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} :

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} : ولا تقربوا: أبلغ في النهي عن الأخذ، ولم يقل لا تأخذوا مال اليتيم؛ فمن لم يقرب لا يرى، ولا يطمع، أو تسول له نفسه؛ إلا: استثناء بالتي هي أحسن؛ أي: بما فيه صلاحه الذي يتضمن حفظ ماله، وتنميته، ومصلحته، ومصلحتكم، وعدم الأخذ من مال اليتيم إلا لضرورة، أو حاجة، وعدم تبذيره، أو إضاعته حتى يبلغ أشده.

{حَتَّى} : حرف غاية، معناها: انتهاء الغاية.

{يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} : قيل: أشده تعني: صار قادراً على إنجاب طفل، (ما بين 15-18سنة)، وهو سن الرشد، عندها ادفعوا إليه ماله. ارجع إلى الآية (2)، والآية (6) من سورة النساء؛ للبيان.

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} : أيْ: أتموا الكيل إذا كلتم للناس، والكيل، أو المكيال: يستعمل لما يكال حجماً.

والميزان: يستعمل لما يكال كثافة، أو وزناً، ويستعمل الكيلوغرامَ وأجزاءَه، والغرامَ، وأجزاءَه.

وتختلف الموازين بحسب الأشياء؛ فالذهب، والمواد الكيميائية؛ لها معايير، وموازين دقيقة جداً، وحساسة.

{بِالْقِسْطِ} : بالعدل؛ أيْ: تحروا العدل، وقيل: القسط: هو تطبيق أمر العدل وتنفيذه.

{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} : أيْ: عليكم أن تبذلوا أشد وسعكم، وطاقتكم؛ لتحقيق القسط؛ أيْ: إقامة العدل، وتنفيذه، وإذا فعلتم ذلك، وحدث خطأ غير متعمد، أو نقص، أو زيادة: لا يؤاخذكم الله به.

ومن المهم جداً: أن تعلم لماذا وردت هذه الآية: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ؛ لأن الوزن بالقسط صعب تحقيقه أحياناً، فالوزن حين يكون بالميليغرام، أو النوانوغرام؛ من الصعب جداً التأكد منها.

فالله -جل وعلا- يعلم أن ذلك متعذِّر؛ فيغفر ذلك إذا لم يكن الخطأ متعمَّداً، وتوعَّد الله سبحانه هؤلاء الذين يتعمَّدون التلاعب بالمكيال، والميزان؛ بقوله -جل وعلا- :{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1-5].

والفرق بين قوله في هذه الآية: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، وقوله تعالى في الآية (35) من سورة الإسراء:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} : في آية الأنعام {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} تعني: في المستقبل إذا كلتم، أو وزنتم، فأوفوا الكيل، والميزان بالقسط.

في آية سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ؛ تعني: الآن، وأنتم تكيلون، أو تزنون؛ أوفوا الكيل، والميزان في حال كيلكم، أو وزنكم، وإياكم والتأخير؛ حتى لا يقول أحد: سأوفيه حقه لاحقاً، إذا كلتم: للتوكيد، إذا: شرطية، ظرفية.

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} :

{وَإِذَا} : ظرفية زمانية؛ تتضمن معنى الشرط.

{قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} : أيْ: إذا حكمتم، أو شهدتم في أمر ما؛ أيْ: دعيتم للشهادة بعد أن شهدتهم ما حدث؛ فاعدلوا؛ أيْ: قولوا: الحق، وأعطوا كل ذي حق حقه، وتحرُّوا العدل.

واحذروا الهوى واعدلوا، والعدل: هو القول الحق، وفعل الحق، فالعدل لا يقتصر على القول، بل يشمل الفعل أيضاً.

وهناك عدل في الأمور المادية الحسية، والأمور المعنوية، (والميل القلبي)، فاعدلوا.

{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} : ذا القربى؛ كالأب، أو الأخ، أو قرابة، فتميلوا بالهوى، فتحكموا عليهم أولهم من دون عدل، وخص ذا القربى؛ لأنه من أصعب الأمور أن تحكم على أبيك، أو أخيك، أو قرابتك.

ولكن هذا هو الإسلام، يأمرك بذلك.

وهذا الأمر جاء في آية أخرى، وهي الآية (135) من سورة النساء:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} .

{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} : العهد: يضم العقود، والمواثيق، والوعود، ويضم التكليف، والوصية، والأمر، والنهي، ومن قوله:{عَهِدْنَا} ، و {وَصَّيْنَا} .

{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} : الباء: تفيد الإلصاق، والتوكيد بالوفاء.

وقدَّم الجار والمجرور؛ للاهتمام.

{أَوْفُوا} : أتموا، ونفذوا العهد.

ما هو الفرق بين قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152].

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا} [الإسراء: 34].

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91].

ففي آية سورة الأنعام: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} : العهد هنا ما عهده الله إلى عباده من ميثاق، أو عهد؛ كقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} .

ويضم العهد هنا: عقود البيع، والشراء، والزواج.

وأضاف العهد إليه سبحانه؛ أهميةً، وتفخيماً.

وقدَّم الجار والمجرور؛ للعناية، والاهتمام، والحصر، والقصر، والتوكيد.

أما في آية سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا} : فهذا العهد: هو الذي يعقده الشخص باختياره؛ أي: النذر الذي هو عهد يلزمه الإنسان على نفسه باختياره؛ لقوله: {إِذَا عَاهَدتُّمْ} .

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : ذلكم: ارجع إلى الآية (151).

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : لعل: تفيد التعليل أو الترجي أو الإشفاق؛ لأن هذه الأمور الأربعة: من عدم أكل مال اليتيم، والوفاء بالكيل، والميزان بالقسط، وقول العدل، والوفاء بالعهد أمور قابلة للنسيان، فذكرها لكم المرة بعد الأخرى لعلكم لا تنسوها؛ أيْ: تذكروها.

أو كأنهم يبدو أنهم نسوا أنهم كانوا يعملون تلك الأعمال في السابق؛ فهو يذكرهم بها مرة أخرى.

فقال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، ولم يقل: لعلكم تتذكرون؛ لأنهم لا يحتاجون إلى زمن طويل، لتذكر القيام بتلك الأعمال، وكأنها حاضرة لديهم. ارجع إلى الآية (151) في نفس السورة للمقارنة والبيان.

ص: 42

سورة الأنعام [6: 153]

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} :

{وَأَنَّ} : للتوكيد.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه. ذا: اسم إشارة للقريب، يشير إلى كون الصراط المستقيم قريباً.

{صِرَاطِى} : أيْ: دِين الإسلام.

{مُسْتَقِيمًا} : لا اعوجاج فيه، والصراط المستقيم؛ يعني: الطريق المعبد المستقيم الذي يوصلك إلى غايتك بأقرب مسافة، أو أقصر زمن، ومن دون مشقة، أو عوائق.

ونسبه الله عز وجل إليه؛ فقال: {صِرَاطِى} : تشريفاً لهذا الدِّين؛ فهو دِين الله جل جلاله .

{فَاتَّبِعُوهُ} : الفاء: للتوكيد.

{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} : أي: الطرق الضالة المنحرفة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» ، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

{فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} : أيْ: فتضلكم عن دِينه.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : ارجع إلى الآية (151) من نفس السورة.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : لعلَّ: للتعليل. تتقون: بامتثال أوامر الله تعالى، وتجنب نواهيه. ارجع إلى الآية (151) في نفس السورة للمقارنة والبيان.

ص: 43

سورة الأنعام [6: 154]

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} :

{ثُمَّ} : هذه شغلت عقول المفسرين؛ فمنهم من قال: (ثم): للترتيب، ترتيب الأخبار، فبعد ذكر الوصايا التي جاءت في الألواح، ثم آتينا موسى الكتاب (التوراة) تماماً على الذي أحسن؛ حيث الألواح نزلت قبل نزول التوراة.

ومنهم من قال: (ثم): حرف عطف على {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ، والتقدير عندها يكون: تعالوا أتلُ ما حرَّم ربكم عليكم، ثم أتلُ عليكم، ما آتى اللهُ موسى عليه السلام .

ومنهم من قال: (ثم): للترقِّي في الأخبار؛ حيث كان إيتاء موسى عليه السلام الكتاب قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلاوته؛ لما أنزل عليه ربه عز وجل ، ثم لتباين الصفات، وتعني: أعظم مما تلوته عليكم، هو ما آتينا موسى الكتاب، وأنزلنا هذا الكتاب المبارك (أي: القرآن).

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} : أي: التوراة.

{تَمَامًا} : تاماً كاملاً؛ أيْ: دفعة واحدة.

{عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ} : الذي أحسن، قيل: هو موسى عليه السلام ، أحسن في الطاعة، والتبليغ، والعبادة.

{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَىْءٍ} : لكل شيء تحتاج إليه بنو إسرائيل من الأحكام، والشرائع، والعبادات، والمعاملات.

{وَهُدًى} : مصدر للهدى، يهدي للحق، أو سبب للهدى، يهدي إلى الوصول إلى الغاية، وهي رضوان الله تعالى، وسعادة الدارين.

{وَرَحْمَةً} : نعمة لمن عمل به، وامتثل أوامره، وتجنب نواهيه، والرحمة تعني: وقاية لكم من الضرر، وجلب ما يسرُّ.

{لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} : لعلَّهم: لعلَّ: للتعليل، لعلَّ بني إسرائيل.

{بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} : لعلَّهم يؤمنون بالبعث، والجزاء، ولقاء ربهم، وما يترتَّب عليه من الاستعداد.

قيل: كانوا قليلاً ما يؤمنون بالآخرة.

ص: 44

سورة الأنعام [6: 155]

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :

{وَهَذَا} : الواو: استئنافية، هذا: الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة؛ للقريب.

{كِتَابٌ} : أي: القرآن.

{أَنزَلْنَاهُ} : أي: جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

{مُبَارَكٌ} : كثير الخير، والبركة، والنفع الدنيوي، والأخروي.

{فَاتَّبِعُوهُ} : الفاء: للتأكيد، اتبعوه؛ أي: العمل بما فيه، والأخذ بما جاء به؛ من الشرائع، والأحكام، والعبادات، والعقائد، والإيمان به كاملاً، وعدم الأخذ ببعضه، والكفر ببعضه.

{وَاتَّقُوا} : امتثلوا لأوامره، وتجنبوا نواهيه، واتقوا مخالفة ما جاء به، واتقوا تحريفه، أو تبديله، كما فعل الآخرون بالتوراة والإنجيل.

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : لعلَّ؛ للتعليل، ترحمون باتباع هذا القرآن، والأخذ بالأسباب الأخرى المطلوبة لنيل الرحمة، كالجنة، ورضوان الله سبحانه وتعالى ، مثل: الدعاء، والتضرع، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: في الدنيا والآخرة. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (8)؛ لمزيد من البيان، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (50) في سورة الأنبياء وهي قوله تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} : نجد أن آية الأنبياء جاءت على الأصل تقديم الصفة مبارك على أنزلناه، أما في آية الأنعام قدمت أنزلناه أولاً؛ لأن الآية جاءت رداً على زعم اليهود أن الله ما أنزل على البشر من شيء فقدم الإنزال للاهتمام والرد عليهم مباشر.

ص: 45

سورة الأنعام [6: 156]

{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} :

{أَنْ} : حرف مصدري؛ للتعليل، ومنهم من قال:{أَنْ} : تعني: لئلا تقولوا.

{تَقُولُوا إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر.

{أُنْزِلَ الْكِتَابُ} : أي: التوراة والإنجيل. أنزل: تعني: دفعة واحدة.

{عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} : اليهود، والنصارى، ومن: تفيد القرب في الزمان؛ أيْ: منذ زمن غير بعيد.

{وَإِنْ} : الواو: عاطفة، إن: المخففة: تفيد التوكيد.

{كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ} : الدراسة؛ تعني: القراءة، والتعلم، وعلم ما فيهما.

{لَغَافِلِينَ} : اللام: لام التوكيد، غافلين؛ أيْ: لم يصل إلينا علم ما في التوراة، والإنجيل؛ أيْ: لا نعلم ما فيها؛ أيْ: لئلا يكون لكم حُجَّة أن تقولوا: لم ينزل علينا أيُّ كتاب، مثل: التوراة، والإنجيل، ولم ندرس ما في التوراة والإنجيل؛ لأنهما ليستا بلغتنا، فأنزل الله -جل وعلا- القرآن العظيم بلغتكم، ولتنقطع حجتكم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان عن غافلين.

ص: 46

سورة الأنعام [6: 157]

{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} :

{أَوْ} : للتخيير.

{تَقُولُوا لَوْ أَنَّا} : لو حرف شرط وتمنٍّ، أنا: ضمير الشأن.

{لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ} : لو أنزلنا علينا القرآن جملة واحدة.

{الْكِتَابُ} : قد يعني: القرآن، أو التوراة.

كما أنزل على الطائفتين من قبلنا؛ أي: اليهود، والنصارى.

{لَكُنَّا} : اللام: تفيد الاختصاص، والتوكيد.

{أَهْدَى مِنْهُمْ} : أهدى من اليهود، والنصارى.

{فَقَدْ} : الفاء: للتوكيد، قد: للتحقيق، وزيادة التوكيد.

{جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} : بيِّنة: هي القرآن، والقرآن: هو المعجزة الخالدة الباقية على مدى العصور؛ فهو منزل من ربكم، وقال عز وجل :{جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ} ، ولم يقل:(جاءتكم بيِّنة)؛ فالتأنيث؛ يعني: أن البيِّنة هي معجزة، من المعجزات التي أنزلت على أقوام، وزالت وانطمرت، ولم يبق لها أيُّ أثر يذكر، وتذكير البيِّنة كما في هذه الآية: يدل على أهمية وقوة هذه البيِّنة.

{وَهُدًى} : مصدر للهدى، أو سبب للهدى، والوصول إلى الغاية.

{وَرَحْمَةٌ} : مصدر رحمة، لمن عمل به، وأخذ به، وأطاع أوامره، وتجنَّب نواهيه، تجلب لكم الخير، وتدفع عنكم الضرر، ووقاية لكم من الوقوع في المعاصي.

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} :

{فَمَنْ} : الفاء: استئنافية، من: شرطية.

{أَظْلَمُ} : على وزن أفعل، مبالغة في الظلم؛ أيْ: لا أحد أظلم منه.

{كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} : بآيات القرآن العظيم، والباء: للإلصاق.

{وَصَدَفَ عَنْهَا} : الصدف: النفور الشديد عن آيات الله، ولم يؤمن بها، وأصل الصدف: هو ترك المكان، والذهاب إلى الجانب البعيد؛ حتى لا يسمع شيئاً مما يقال.

{سَنَجْزِى} : السين؛ للاستقبال القريب.

{الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} : ينفروا عن آيات ربهم بشدة، أو يصرفون الناس عن الإيمان، والقرآن.

{عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ} : سوء العذاب؛ أيْ: أشده.

{بِمَا} : الباء: باء السببية، أو البدلية.

{بِمَا} : اسم موصول بمعنى الذي، أو مصدرية.

{كَانُوا} : في الدنيا.

{يَصْدِفُونَ} : يعرضون عن آيات الله، ولا يطيقون سماعها، أو الالتفات إليها، أو يكذبونها، أو يستهزئون بها.

ص: 47

سورة الأنعام [6: 158]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} :

المناسبة: بعد أن بيَّن -جل وعلا- : أنه أنزل الكتاب (القرآن)؛ كبيِّنة، وهدى، ورحمة، فلم يعُد لهم عذرٌ لعدم الإيمان، ولذلك ينذرهم بسوء العذاب.

{هَلْ} : استفهام؛ تتضمن معنى النفي، والاستنكار؛ أيْ: ما ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة.

{يَنْظُرُونَ} : ولم يقل: ينتظرون؛ لأنهم لم يصدقوا أنه سيقع.

ينتظرون: انتظار معه ترقب؛ أيْ: توقع ما سيحدث، وطول في وقت الانتظار.

أما ينظرون: فانتظار؛ من دون ترقب، بل يأتي فجأة بغتة، ويقع بسرعة؛ أيْ: ليس هناك طول انتظار.

{إِلَّا أَنْ} : إلا: للحصر، أن: مصدرية؛ للتعليل.

{تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} : ملائكة الموت؛ لقبض أرواحهم، أو تأتي الملائكة يوم القيامة؛ لقوله -جل وعلا- :{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].

{أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} : يوم القيامة؛ لقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِى ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210].

وقيل: {يَأْتِىَ رَبُّكَ} : تعني: يأتي أمر ربك؛ أي: العذاب، والهلاك.

{أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : قيل: هي علامات الساعة الكبرى، أو أشراط الساعة مثل طلوع الشمس من المغرب، أو ظهور الدابَّة، أو يأجوج ومأجوج، والدجال، ونزول عيسى عليه السلام .

{يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا} :

{يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} : أيْ: إذا ظهرت الآيات الكبرى، للساعة، أو أشراط الساعة.

{لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} : أيْ: لا توبة، ولا إيمان بعد ذلك، لا: النافية للجنس؛ أيْ: إن جاءت هذه الآيات فلن يعد هناك تكليف، أو عبادة تقبل من العبد بعد ظهور هذه الآيات.

{أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا} : أيْ: آمنت، عملت الصالحات قبل عِلمها بمجيء الساعة، ومعنى كسبت في إيمانها خيراً، ليس كإيمان فرعون:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ} .

{آلْـئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90-91]. ارجع إلى سورة البقرة آية (286) لبيان معنى الكسب.

{قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} : فيها تهديد، ووعيد لمن يرجئ توبته، وإيمانه حتى حدوث هذه الأمور؛ أيْ: أشراط الساعة، قل لهم يا محمد: انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم، أو يأتي بعض آيات ربكم، ونحن منتظرون وعد ربنا، بالنصر والنجاة؛ لمن آمن، والهلاك والعذاب، لمن أعرض وكفر بآيات ربِّه.

{مُنْتَظِرُونَ} : جملة اسمية؛ تدل على الثبوت؛ أيْ: سوف ننتظر، ولن نكفَّ عن الانتظار حتى النهاية.

ص: 48

سورة الأنعام [6: 159]

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد، الذين: اسم موصول؛ يفيد الذمَّ، والذي: قد تعني: اليهود، والنصارى، وأهل الضلالة من هذه الأمة.

{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} : وهم أهل البدع، والضلالة، والشبهات، فرَّقوا دِينهم: تعني: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.

{وَكَانُوا شِيَعًا} : فرقاً، وجماعات، ومذاهب شتى، والشيعة: جماعة تتبع أمراً، سواء أكان خيراً، أم شراً.

وفي قراءة أخرى: إن الذين فارقوا دِينهم؛ أيْ: تركوا دِينهم؛ أيْ: ارتدوا، أو ابتدعوا.

{لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ} : أيْ: أنت بريء منهم، وهم منك بُراء.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد الحصر.

{أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} : مصيرهم، جزاؤهم، عقابهم موكل إلى الله تعالى.

{ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ} : ثم: تفيد الترتيب، والتراخي؛ أيْ: يوم القيامة ينبِّئهم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، ما: اسم موصول بمعنى الذي، وما أوسع شمولاً من الذي.

{كَانُوا يَفْعَلُونَ} : يفعلون: العمل يشمل الفعل والقول؛ فالفعل جزء من العمل؛ أي: العمل أشمل في الدنيا من خير، أو شر، أو تفريق، وابتداع في الدِّين.

ص: 49

سورة الأنعام [6: 160]

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :

{مَنْ} : ابتدائية شرطية.

{جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} الحسنة: هي كل عمل من قولٍ، أو فعل خير، يورث ثواباً. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمزيد من البيان.

وحسنة: جاءت من حسن، والتاء تسمَّى تاء المبالغة، كقولك: فلان علَّامة، وثواب الحسنة بعشر أمثالها جمع مِثِل: المثِل هنا يعني حسنة وعشر أمثالها أي عشر حسنات، وعشر (مذكر) حسنات (مؤنث) والعدد من (3-10) يخالف المعدود في التذكير والتأنيث ولذلك جاءت عشر ولم يقل عشرة، وقد يضاعف ذلك إلى سبعمئة ضعف، وهذا من رحمته -جل وعلا- ، وفضله.

{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ تفيد التوكيد، لا: النافية.

{يُجْزَى} : من الجزاء.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مِثْلَهَا} : أيْ: {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. وهذا من رحمته سبحانه وتعالى.

{وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} : وهم: ضمير منفصل؛ يفيد توكيد عدم ظلمهم، ولو كان مثقال ذرة، فلا تنقص من حسناتهم حسنة، ولا تزد سيئاتهم سيئة.

ص: 50

سورة الأنعام [6: 161]

{قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} :

{قُلْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{قُلْ إِنَّنِى} : زيادة النون؛ تفيد التوكيد على الهداية، أو أنَّه هداني؛ أيْ: دلّني.

{رَبِّى} : من الربوبية.

{إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : دِين الإسلام، دِين الحق.

{دِينًا قِيَمًا} : قِيَماً: وليس ديناً قَيَماً؛ أي: مستقيم، أو قائماً على سائر الكتب كما جاء في سورة الكهف في آية (2) وإنما قال ديناً قيماً الاستقامة؛ أيْ: لا تقوم الحياة إلّا به، مستقيماً لا عوج فيه.

و {قِيَمًا} : صيغة مبالغة في الاستقامة ليس فقط مستقيم وإنما أبلغ أو كامل الاستقامة ليس هناك أفضل من الاستقامة؛ أيْ: أبلغ من القائم، وإنما قيم على مصالح العباد.

{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} : شريعة إبراهيم عليه السلام .

{حَنِيفًا} : مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دِين الحق. ارجع إلى الآية (135) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : ما: النافية لكل الأزمنة؛ من المشركين: من: المفرد والمثنى والجمع للعاقل، والمشركين: جمع مشرك.

ص: 51

سورة الأنعام [6: 162]

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{قُلْ} يا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ} : للتوكيد.

{صَلَاتِى وَنُسُكِى} : نسكي؛ أيْ: عبادتي، والنسك: تطلق على أفعال الحج خاصة، والنسك: يدخل فيها النحر؛ لأن الكفار كانوا يتقرَّبون إلى آلهتهم بالنحر، وكلُّ ما يتقرَّب به إلى الله جل جلاله يُعدُّ نُسكاً؛ فالنسك تطلق على كل عبادة بما فيها أعمال الحج؛ فالطواف نسك، والسعي نسك، والرمي والوقوف بعرفة.

{وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} : ومحياي: كل ما أعمله في حياتي، وما أموت عليه: من الإيمان، والعمل الصالح، كله لله رب العالمين، أو حياتي؛ أيْ: طاعتي لله.

{وَمَمَاتِى} : أيْ: رجوعي إلى الله رب العالمين؛ فصلاتي وعبادتي ومحياي ومماتي كلها خالصة لله رب العالمين من الشرك، والرياء.

ص: 52

سورة الأنعام [6: 163]

{لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} :

{لَا شَرِيكَ لَهُ} : لا: النافية، لا شريك له في ذاته، ولا في ألوهيَّته، ولا في ربوبيته، ولا في صفاته وأسمائه.

{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} : أي: أمرني ربي.

{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} : لها عدة معان منها: أول المسلمين من أمته صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول المسلمين قد لا تعني الترتيب الزمني، وإنما تعني أشد المسلمين إسلاماً، أو من أمة الإسلام من آدم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أول المسلمين تطبيقاً للإسلام؛ أيْ: في شدة الأداء.

ص: 53

سورة الأنعام [6: 164]

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم؛ رداً على دعواهم لك على عبادة آلهتهم، وترك أمر الدِّين، والرجوع عنه.

{قُلْ أَغَيْرَ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وغير: تفيد المغايرة بالذات في هذه الآية.

{أَبْغِى رَبًّا} : ألتمس، أو أطلب ربّاً خالقاً، ومربِّياً، ورازقاً؛ أيْ: لا أبغي ربّاً إلا الله وحدَه؛ فهو يكفي: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 132].

{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ} : مالكه، وخالقه، ومدبِّره.

{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} : قال: {عَلَيْهَا} : وليس: لها؛ لقوله في آية أخرى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} : لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبته من السيئات. ارجع إلى الآية (286) من سورة البقرة؛ للبيان.

{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} : ولا تتحمل نفس وازرة؛ أيْ: إثم أو ذنب نفس أخرى، فكل إنسان مجزيٌّ بعمله، سواء أكان صالحاً، أم سيئاً؛ كقوله تعالى:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} : ثم: للترتيب، والتراخي، ثم يوم القيامة إلى ربكم مرجعكم للحساب، والجزاء.

تقديم الجار والمجرور {إِلَى رَبِّكُمْ} : يدل على الحصر؛ أيْ: فقط إليه -جل وعلا- مرجعكم، لا إلى غيره عز وجل .

{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} : كنتم: في الدنيا. فيه تختلفون: من أمور الدِّين، والحق، والباطل، والآيات، والأحكام.

ص: 54

سورة الأنعام [6: 165]

{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} :

الخطاب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَهُوَ} : الواو: استئنافية، هو: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، والحصر، تعود على الله -جل وعلا- .

{الَّذِى} : اسم موصول؛ يفيد التعظيم.

{جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} : خلائف جمع خليفة (ارجع إلى سورة البقرة آية (30) للبيان) وردت كلمة {خَلَائِفَ الْأَرْضِ} مرتين في القرآن، وخلائف في الأرض مرتين، ووردت كلمة خلفاء الأرض ثلاث مرات.

فنحن أمام ثلاثة فروق:

1 -

خلائف الأرض: أعم وأشمل من قوله خلائف في الأرض، وتعني: العباد الصالحون المسلمون؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].

2 -

خلائف في الأرض: تأتي في سياق الأقوام الكافرة الفاسدة؛ التي أهلكت بسبب أعمالها السيئة.

3 -

خلفاء في الأرض: أي: الحاكمون، أو الحكام، جمع خليفة:(ملوك، ورؤساء، وحكام للدول)؛ خلفاء على كرسي الحكم، أو العرش.

والآيات التي وردت فيها كلمة {خَلَائِفَ الْأَرْضِ} هي: {وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165].

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [يونس: 73].

وأما الآيات التي وردت فيها كلمة: {خَلَائِفَ الْأَرْضِ} فهي: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 42].

{هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الْأَرْضِ} [فاطر: 39].

وأما الآيات التي وردت فيها كلمة خلفاء؛ فهي: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69].

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74].

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62].

{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} :

{دَرَجَاتٍ} : قيل: في الرزق، والعلم، والقوة، والصحة، والخُلق، وغيرها، وقيل: درجات في الجنة، وقيل: درجات في التقوى، والإيمان.

وقد تشمل الكلَّ؛ أيْ: كلَّ ما سبق.

ولماذا الرفع؟ الرفع {لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ} : أو كما بيَّن في سورة الزخرف: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].

ويجب أن لا نظن: أن البعض مرفوع، والبعض الآخر مرفوع عليه، فهذا ظنٌّ خاطئ، فما دام قد جاءت كلمة {بَعْضُهُم}: مبهمة؛ فإن كلَّ واحد منا مرفوع، ومرفوع عليه؛ أيْ: كلٌّ منا محتاج إلى الآخر في حياته، والآخر محتاج إلينا في حياته.

{لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ} : ليبلوكم: اللام: للتأكيد، والتعليل، فيما: في: ظرفية، ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، أو مصدرية من الرزق، بالغنى، والفقر، بالشكر، أو الصبر، ومن الصحة، أو المرض، والعلم، والجهل، والقوة، والضعف، وغيرها.

{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{سَرِيعُ الْعِقَابِ} : والعقاب: هو الجزاء على الفعل؛ فالعقاب: يقع بعد، أو عقيب العمل.

{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} : أكَّد هنا بإنَّ، واللام في كلمة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

غفور: صيغة مبالغة من غفر؛ أيْ: ستر، ورحيم: صيغة مبالغة. ارجع إلى سورة الفاتحة، الآية (3)؛ لمزيد من البيان.

فهنا جاء التأكيد على كونه -جل وعلا- غفور رحيم؛ أشدُّ وأقوى من التوكيد على كونه سريع العقاب؛ ليبث الأمل في النفوس.

ولو قارنَّا هذه الآية (165) من سورة الأنعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} : إذ تتحدث عن العقوبات في الآخرة، وأكَّد رحمته في الآخرة لعباده الصالحين بالقول: وإنه لغفور رحيم.

أما الآية (167) من سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : فتتحدث عن العقوبات العاجلة في الدنيا لبني إسرائيل؛ إذ اتخذوا العجل، وقتلوا الأنبياء، واعتدوا في السبت؛ فناسب التأكيد بتعجيل العقوبات؛ فقال:{لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} : أكَّد باللام، وإنَّ.

وقال: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} : أكَّد على كونه سريعَ العقاب، وأنه غفورٌ رحيمٌ؛ أيْ: كلاهما بنفس الدرجة.

ص: 55

سورة الأعراف [7: 1]

سورة الأعراف

ترتيبها في القرآن (7)، وترتيبها في النزول (39)

{المص} :

{المص} : ارجع إلى الآية (1) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 56

سورة الأعراف [7: 2]

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} :

{كِتَابٌ} : أيْ: هذا كتاب، أو هو كتاب، وجاء بصيغة النكرة؛ للتعظيم؛ أيْ: هذا كتاب عظيم، أو هو كتاب عظيم؛ أي: القرآن.

{أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : أنزل: تعني: جملة واحدة، أو دفعة واحدة، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ولم يقل: نزل إليك التي تدل على إنزاله منجماً، وعلى دفعات؛ أيْ: أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم نُزِّلَ على دفعات خلال (23 عاماً).

{إِلَيْكَ} : ولم يقل: عليك، إليك: تفيد الانتهاء، وتستعمل في سياق التبليغ، والانتهاء إلى عامة الناس.

عليك: تفيد العلو، والجهة المنزِلة، وتستخدم في سياق التشريع، وعليك: من على؛ تفيد الاستعلاء، والمشقة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (4)؛ لمزيد من البيان.

والقول أُنزل عليك لا يتناسب مع السياق؛ لأن الآية جاءت في سياق تخفيف الحرج؛ فاستعمال على في معناها الحرج.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.

{يَكُنْ فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} : حرج: ضيق في الصدر، لا مخرج منه، والحرج يطلق على المكان الضيق بسبب كثرة الأشجار كما نرى في الغابات أحياناً يصعب تجاوزه، والخطاب هنا موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فالرسول صلى الله عليه وسلم فرد من هذه الأمة، ويمثل هذه الأمة.

وقيل: النهي هنا للحرج: أن يدخل صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{حَرَجٌ مِّنْهُ} : من تبليغه، أو الإنذار به، أو عدم تصديق الكفار به.

{لِتُنْذِرَ بِهِ} : اللام: لام التعليل، والهاء في {بِهِ}: تعود على الكتاب، والإنذار يكون للناس كافة وقومك، ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، وخاصَّةً أم القرى، ومن حولها، وتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك.

{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} : اللام: في كلمة {لِلْمُؤْمِنِينَ} : تفيد الاختصاص، ذكرى: أيْ: تذكرة للمؤمنين خاصَّةً؛ لكي ينتفعوا بها إذا غفلوا؛ كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11].

ص: 57

سورة الأعراف [7: 3]

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} :

في هذه الآية: انتقل الخطاب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الآية السابقة كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمته شيء واحد.

{اتَّبِعُوا} : بامتثال أوامر ربكم، واجتناب ما نهى عنه.

واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم داخل في اتبعوا؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ} [النساء: 69].

{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ} : ما: اسم موصول بمعنى: الذي.

{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ} : أي: القرآن، الوحي وما أنزل إليكم من ربكم، لا يعني: القرآن فقط، بل كل ما آتاكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهاكم عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5].

{مِنْ رَّبِّكُمْ} : من: ابتدائية، ربكم: الخالق، والمربي.

{وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} : من دون الله؛ أيْ: غيره، أو سواه.

{أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي، والولي؛ سواء أكان من البشر، أم من الشياطين، أم الأصنام، أم الآلهة، والولي: هو القريب المعين الذي تلجأ إليه حين الضرورة.

{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} : ما: للتوكيد.

{قَلِيلًا} : قد تعني: العدد؛ أيْ: عدد الذين يتذكرون قلة، أو {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}: تعني: الكمية من الوصايا، والشرائع، وما أنزل إليكم من ربكم لا تتذكرون إلا القلة منها.

{تَذَكَّرُونَ} : ولم يقل: تتذكرون؛ لأن اتباع القرآن والسنة، وما أنزل اللهُ سبحانه لا يحتاج إلى وقت طويل؛ لكي يتذكرها الإنسان؛ لأنكم علمتم بها من قبل.

وأما تتذكرون: فتستعمل في الأمور، أو المسائل التي تحتاج إلى طول تأمل ونظر، مثل: مسألة الهداية، وترك عبادة الأصنام، وغيرها.

ص: 58

سورة الأعراف [7: 4]

{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} :

ينتقل في هذه الآية، والآيات القادمة؛ للتحذير من عدم اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله بالهلاك.

{وَكَمْ} : الواو: استئنافية، كم: الخبرية، وتفيد الكثرة؛ أيْ: عدد القرى المهلكة كثيرة جداً.

{مِنْ} : ابتدائية.

{قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} : ذكر القرية، والمراد بها أهلها، والقرية؛ تعني: المنازل، وساكنيها معاً.

{أَهْلَكْنَاهَا} : الهلاك؛ يعني: الموت بشكل عام، وتستعمل للإنسان، وغير الإنسان؛ الحرث، والحيوان، والنسل، والأموال، والبنيان.

والهلاك ليس بالضرورة عقوبة؛ فالهلاك: كلمة عامة قد يعني: زوال النِّعمة، أو فقدان المال كقوله:{أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد: 6]، وكقوله:{هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29].

وهناك فرق بين الهلاك، والدمار. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (16)؛ للبيان.

ولم يقل: كانت ظالمة، كما وصفها في سورة الحج، آية (45)؛ لأنه سبحانه أشار إلى ذلك حين اعترف أهلها وقالوا:{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، آية (5) من نفس السورة.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} : فجاءها: الفاء: للترتيب الذكري؛ لعطف المفصل على المجمل، البأس: العذاب، ونسب العذاب إليه -جل وعلا- ؛ بقوله:{بَأْسُنَا} : للتخويف، والحذر، والإنذار.

وكلمة: {فَجَاءَهَا} : المجيء فيه معنى الصعوبة، والمشقة؛ مقارنة بكلمة أتاها: التي تدل على السهولة، واليسر.

{بَيَاتًا} : سواء أكانوا نائمين، أم غير نائمين؛ لأن معنى بات فلان: أظله المبيت، وأجنه الليل، سواء أنام، أم لم ينم.

{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} : أيْ: في زمن القيلولة، والاستراحة، والنوم، ويكون ذلك بعد الظهر عادة، وهنا لا بُدَّ من سؤالين: الأول: لماذا قال: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} ، بعد أن قال:{أَهْلَكْنَاهَا} ؛ لأن البأس (العذاب): يأتي عادة قبل الإهلاك، الجواب هذا يسمَّى: التفصيل بعد الإجمال.

السؤال الثاني: لماذا اختار وقت الراحة، أو النوم؟

الجواب: كي يكون الحدث مرعباً، ومفجعاً، وهم على غير استعداد، وحيطة، والله -جل وعلا- قادر على أن يأخذهم في أي زمن، ومكان، وحال سواء في تقلبهم، أم هم على حيطة، وحذر، كما قال تعالى في سورة النحل، آية (45-47):{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 59

سورة الأعراف [7: 5]

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} :

{فَمَا} : الفاء: عاطفة، ما: للنفي.

{كَانَ دَعْوَاهُمْ} : من دعوى؛ مصدر لفعل دعا، ومنها: الدعاء، وأقام الدعوى ضد فلان؛ أيْ: أقام البينة.

إذن: لم تكن لهم بينة، أو دعوى يردون عليها على مجيء البأس؛ إلَّا اعترافهم بالظلم، أو دعاؤهم:{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

{أَنْ} : يفيد التوكيد.

{قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} : ظالمين: جملة اسمية؛ تدل على الثبوت؛ أي: الظلم صفة ثابتة لهم.

وماذا حدث بعد اعترافهم بظلمهم: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [تبارك: 11]، وفي سورة الأنبياء:{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} .

وبأس الله سبحانه وتعالى إذا وقع؛ لا يرد، أو يتبدل، أو يتحول؛ لقوله تعالى:{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147].

وإذا أوقع بأسه جل جلاله ؛ لا ينفع عند وقوعه الإيمان؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] إلا في قوم يونس. ارجع إلى سورة يونس آية (98).

ص: 60

سورة الأعراف [7: 6]

{فَلَنَسْـئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} :

{فَلَنَسْـئَلَنَّ} : الفاء: للتعقيب بالترتيب.

{فَلَنَسْـئَلَنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد، والسؤال يكون يوم القيامة.

{الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} : هم أقوام الرسل، أو أمم الرسل، يسألون: هل بلغوكم رسلي؛ كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].

{وَلَنَسْـئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} : أي: الرسل، والأنبياء؛ لأن الأنبياء، والرسل كلهم مرسلون من الله، مع العلم أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي. ارجع إلى سورة النساء، آية (164).

سوف يسألهم الله تعالى: هل بلغتم عبادي ما أُرسلتم به؟

والله سبحانه يعلم جواب المرسلين، هل بلغوا، أم لم يبلغوا، فلماذا يسألهم؟

الجواب: هذا سؤال للإقرار: أن يجيبوا عن هذا السؤال بأنفسهم؛ فهو للإقرار، والتقريع، ولإقامة الحُجَّة على أقوامهم.

ص: 61

سورة الأعراف [7: 7]

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} :

{فَلَنَقُصَّنَّ} : الفاء: للتعقيب، والترتيب، اللام: للتوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{عَلَيْهِم} : على الرسل، والأنبياء، وأقوامهم، أو أممهم عليهم جميعاً.

{بِعِلْمٍ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، فلنقصن عليهم {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ}: أيْ: نخبرهم بما فعلوه؛ فالله سبحانه: هو الشهيد، والرقيب على جميع خلقه، وأحاط علمه بكل حدث، أو قول، أو فعل.

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: النافية.

{كُنَّا غَائِبِينَ} : غائبين عنهم، سواء في الزمان، أم المكان، أو أيِّ حدث، فنحن أقرب إليهم من حبل الوريد، أو كانوا رسلي لديهم يكتبون ما فعلوه.

ص: 62

سورة الأعراف [7: 8]

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} : أيْ: وزن الأعمال يوم القيامة الحق، والميزان الحق، لا جور فيه، ولا ظلم؛ حتى ولو كان بمقدار حسنة، أو سيئة، أو مثقال حبةٍ من خردل، وما يوزن: هو أعمال العباد.

كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

والسؤال: لماذا الوزن ما دام الله سبحانه يعلم أعمال العباد، ويعلم مقدار حسناتهم وسيئاتهم؟

الجواب: لإقامة الحُجَّة عليهم بعد سؤالهم عن الرسل.

{فَمَنْ} : الفاء: استئنافية، من: ابتدائية شرطية.

{ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} : أيْ: رجحت حسناته على سيئاته.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة للبعد.

{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : هم: ضمير منفصل؛ يفيد المبالغة في الفلاح؛ أيْ: إذا كان هناك مفلحون فهم المفلحون حقاً، أو في طليعة المفلحين الذين نجوا من النار، وفازوا بالجنة. ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 63

سورة الأعراف [7: 9]

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} :

{وَمَنْ} : من: ابتدائية شرطية.

{خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} : أيْ: رجحت سيئاته على حسناته. ارجع إلى سورة القارعة، آية (6)؛ لمزيد من البيان.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء: للتوكيد، أولئك: اسم إشارة للبعد.

{الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} : بإدخالها في النار.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، أو السببية، أو البدلية، بسبب ظلمهم بآياتنا.

{كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} : الظلم: هو الخروج عن منهج الله سبحانه بكل أشكاله، والظلم: يشمل الشرك، والإنكار، والتكذيب، والاستهزاء، والصد عنها

وغيرها.

ص: 64

سورة الأعراف [7: 10]

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق والتوكيد.

{مَكَّنَّاكُمْ فِى الْأَرْضِ} : بالاستخلاف في الأرض، والقدرة على إقامة الدِّين، ولا يعني التمكين: السيطرة، أو الهيمنة.

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} : وجعلنا لكم خاصَّةً في الأرض، معايش جمع معيشة، ومعيشة اسم لما يعيش به الإنسان من مطعم، ومشرب، وملبس، أو هيأنا لكم أسباب العيش، من مطعم، ومشرب، وملبس، وهواء، وشمس، وقمر، ومعايش: جاءت بصيغة النكرة، ولو كانت بصيغة المعرفة؛ أي: المعايش؛ لاستوى الفقير، والغني في المعيشة؛ أي: الكل استوى، فلا نجد فقراء وأغنياء.

{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} : ما: للتوكيد.

{قَلِيلًا} : أي: قليل منكم شاكرون؛ أيْ: عدد الشاكرين قليل، أو شكركم قليل، أو كلاهما معاً، وكما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

والشكر: من أعلى منازل العبودية، هذه العبودية التي تتجلى بظهور نعمة الله سبحانه على لسان عبده بالحمد، والشكر، والثناء، والاعتراف بالمنعم، وتتجلى على قلبه بمحبة بالمنعم، وعلى جوارحه خضوعاً وطاعة للمنعم.

وتحت مقام الشكر يندرج مقام المحبة، والرضا، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ولا ننسى قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

والشكر على المصائب؛ مثل: البأساء، والضراء، أشد وأصعب من الشكر على السراء، {وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. ارجع إلى سورة الفاتحة؛ لمعرفة الفرق بين الحمد، والشكر، آية (2).

ص: 65

سورة الأعراف [7: 11]

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} :

{وَلَقَدْ} : ارجع إلى الآية السابقة.

{خَلَقْنَاكُمْ} : يعني: الخلق، تعني: التقدير، والحساب، والخلق بالنسبة لله من العدم، ويعني من تراب، أو من ذكر، أو أنثى، أو من آدم.

{ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} : التصوير: يعني حينما خلق الله سبحانه آدم وحواء؛ وضع في أصلابهما الصفات الوراثية لكل نسلهما إلى قيام الساعة، من بداية الخلق إلى آخر مخلوق، وهناك (25-30) ألف شفرة وراثية تعطي البشر ملامحهم، وأشكالهم، وألوانهم، هذه الشفرة الوراثية التي توجد في نواة الخلية البشرية التناسلية للحيوان المنوي، والبويضة، فاختيار الصفات الوراثية لكل مخلوق؛ تعني: التصوير، والخطاب إلى جميع البشر، وليس إلى آدم؛ فالذي يعطي صورة كل فرد هو صفاته الوراثية، فالقدرة الإلهية: أن الله قد وضع في صلب آدم وحواء كل صفات ذرياتهما إلى قيام الساعة، وتنتقل هذه الصفات إلى كل أب، وأم، ثم تنتقل إلى ذريتهما بطريق التناسل. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (6)؛ لمزيد من البيان.

{ثُمَّ} : تفيد الترتيب، والتراخي في الزمن، أو الترقي في الصفات.

{قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} : سجود تحية، وتكريم، وليس سجود عبادة، والملائكة الذين أُمروا بالسجود هم الموكلون بآدم، وذريته، وليس جميع الملائكة، وسجودهم لآدم لا يعني الخضوع، بل هو طاعة لأمر الله عز وجل .

{إِلَّا} : أداة حصر.

{لَمْ} : للنفي.

{يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} : لم يكن من الملائكة الساجدين؛ لأن إبليس كان من الجن، وليس من الملائكة، وكذلك لم يكن مع الساجدين؛ لأنه لم يسجد مع الملائكة.

ص: 66

سورة الأعراف [7: 12]

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} :

{قَالَ} : تعالى: {مَا مَنَعَكَ} : ما: في هذه الآية ليس غايتها الاستفهام، كما هو العادة، وإنما غايتها الإظهار؛ لأن الله سبحانه قبل أن يأمر إبليس بالسجود؛ يعلم أن إبليس لن يسجد، ويعلم سبب عدم سجوده لآدم، فسؤاله إبليس ليس على سبيل الاستفهام، أو المعرفة ـ حاشا لله ـ ولكن للإظهار؛ ليظهر للبشر، ما حدث، وما لدى إبليس من الكبر، وليقيم الحُجَّة على إبليس، وليحذر الناس من الكبر.

{أَلَّا تَسْجُدَ} : ألا: أصلها: أن: حرف مصدري، لا: للتوكيد.

{إِذْ أَمَرْتُكَ} : إذ: ظرفية زمانية؛ تفيد الماضي، بمعنى: حين أمرتك.

{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} : أي: الكِبْرُ منعه، وكان بإمكان إبليس أن يقول: أنا لست من الملائكة؛ لأن إبليس من الجن؛ لأن الأمر الإلهي كان للملائكة: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (الآية السابقة)، وقول إبليس:{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} : يعني: أن إبليس أدرك أن الأمر الإلهي بالسجود كان يشمله، والمانع للسجود، أو القيام بأمر ما، إما أن يكون عاملاً داخلياً؛ أيْ: صادراً من نفس العبد، أو يكون عاملاً خارجياً؛ أي: العبد مجبر أو مكره على القيام به.

وقوله {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} : تشير إلى العامل الداخلي؛ أي: القوة التي منعته هي نفسه المتكبرة، قالت له، أو زينت له: لا تسجد.

أما قوله تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، فهذه الآية على أن العامل الخارجي، أو قوة خارجية منعته، أو أكرهته على عدم السجود، وكان الأفضل لإبليس أن يكتفي بقوله:(أنا خير منه)، وينهي الإجابة، ولكنه أراد أن يخبر: أن النار أفضل من الطين؛ أي: لأنه خلقه من نار، وآدم خلق من طين؛ فهو أفضل من آدم، ويسمَّى هذا في اللغة: الحشو.

ص: 67

سورة الأعراف [7: 13]

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} :

{قَالَ فَاهْبِطْ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، اهبط: الهبوط نوعان: هبوط من منزلة عالية إلى منزلة أدنى، أو هبوط مكاني من أعلى إلى أسفل؛ أي: لم تعد أهلاً أن تكون مع الملائكة الكرام البررة، ولا في الجنة هبوط طرد، وذلة، وليس كهبوط نوح عليه السلام بسلام منا وبركات؛ أي: هبوطاً مباركاً.

{مِنْهَا} : من الجنة.

{فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} : أيْ: ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.

{فَمَا} : الفاء: تعليلية. ما: نافية، وأن: مصدرية؛ تفيد التوكيد.

{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ} : الفاء: للتوكيد؛ تدل على التعقيب، والمباشرة: اخرج من الجنة الآن؛ من: للعاقل وتشمل المفرد والمثنى والجمع.

{الصَّاغِرِينَ} : جمع صاغر، مقابل الاستكبار؛ أيْ: ذليل، والصغار: هو الذل، والهوان، والخضوع؛ أي: من الأذلاء الدنيئين.

ص: 68

سورة الأعراف [7: 14]

{قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} :

{أَنظِرْنِى} : أيْ: أمهلني.

{إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : انتبه إلى إبليس يطلب الإمهال إلى يوم البعث؛ أيْ: زمن النفخة الثانية، ويريد أن ينجو من الصعق، والموت، والنفخة الأولى، ويضمن الخلود إلى نفخة البعث، فلا يموت أبداً.

ص: 69

سورة الأعراف [7: 15]

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} :

ولم يحدد في هذه الآية الزمن، بل حددها في آية أخرى، ذكرت في سورة الحجر، الآية (38):{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} : وهو النفخة الأولى، نفخة الصعق، والموت، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (80) في سورة ص، والآية (37) في سورة الحجر: نجد أنه حذف الفاء، فقال:(إنك) وفي ص والحجر جاء (بالفاء). قيل: إن الفاء جاءت مقترنة بجواب الشرط، أو ما قابلها سبب ما بعدها، وجملة انظرني جملة مستأنفة، وقيل: لما كان السؤال فأنظرني إلى يوم يبعثون جاء الجواب مقترناَ بالفاء، ولما خلا السؤال من الفاء (انظرني الى يوم يبعثون) جاء الجواب: إنك من المنتظرين.

ص: 70

سورة الأعراف [7: 16]

{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} :

{فَبِمَا} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، والمباشرة، والباء: باء القسم؛ أيْ: أقسم بإغوائك إياي. وقيل: باء السببية.

{أَغْوَيْتَنِى} : الإغواء، وله معنيان: الإضلال، والإهلاك، وأصل الغي: الفساد، وغواه؛ أيْ: أضله، انتبه إلى قوله:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} : أيْ: نسب الإغواء لرب العالمين، والله -جل وعلا- يهدي، ولا يغوي أحداً من الإنس، أو الجن، وكلا الجن والإنس له القدرة على اختيار الطاعة، أو المعصية.

فالله سبحانه يريد ابتلاء إبليس بالسجود لآدم، واعتبر إبليس هذا الابتلاء إغواءً له.

وفشل إبليس في الابتلاء، والامتحان؛ لأنه رفض السجود؛ ممّا أدَّى إلى طرده من الجنة والرحمة، وفي آية أخرى:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى} ؛ هنا: يعترف بالربوبية لله -جل وعلا- .

{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} : لأقعدن: اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{لَهُمْ} : أيْ: لعبادك المؤمنين.

{صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} : الصراط المستقيم: هو الإسلام، دِين الحق، ونسب إبليس الصراط إلى الله؛ فهو يعلم أنه الحق، والله سبحانه نسب الصراط إليه؛ فقال:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153]، {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 126].

وهو كما وصف في سورة الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.

والصراط: هو السبيل الموصل إلى الغاية، وهي الجنة بأقصر، وأسهل، وأسرع السبل، المستقيم: الواضح الذي لا اعوجاج فيه.

{لَأَقْعُدَنَّ} : أيْ: لأجلسنَّ لهم، يجب أن نذكر أن هناك قياماً، وقعوداً، واضطجاعاً، وحركات عدَّة، لم يقل: لأقفنَّ؛ لأن الوقوف بعد فترة، يؤدِّي إلى تعب، أما القعود، أو الجلوس: فهو أفضل، ويمكن أن تجلس لوقت طويل، ومن دون تعب؛ فإبليس اختار أفضل الحركات، وهي القعود.

{صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} : هو الإسلام، ويعني ذلك: لأقعدنَّ لهم على طرق المساجد، وأبوابها، وأبواب الطاعات: من صلاة، وزكاة، وصيام.

ص: 71

سورة الأعراف [7: 17]

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} :

{ثُمَّ} : تدل على التراخي، والإمهال في الزمن؛ لأتيناهم من بين أيديهم؛ أيْ: من أمامهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، استعمل:(من)، واستعمل (عن)، من: تفيد المباشرة، والإلصاق، والقرب، وعن: تفيد المجاوزة، والابتعاد.

{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : من أمامهم؛ أيْ: في أمر الدنيا، أرغبهم في الدنيا وشهواتها. من: تفيد القرب، أقعد قريباً، من أمامهم.

{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : من ورائهم؛ أيْ: في أمر الآخرة في التكذيب بالبعث والحساب، أقعد قريباً من خلفهم بالوسوسة، والتكذيب.

{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} : أقعد لهم مبتعداً عنهم من جهة اليمين، وقد تعني: أوسوس لهم من جهة اليمين: جهة الحسنات، من جهة حسناتهم؛ بالوسوسة بالمعاصي.

{وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} : من جهة سيئاتهم؛ بالتزيين، والإغواء؛ أيْ: أقعد لهم مبتعداً من جهة الشمال: اليسار، وذكر الجهات الأربع التي ذكرت من ضرب المجاز التمثيلي؛ لأننا نعلم ليس للشيطان مسلك إلا، بالوسوسة والإغراء والتزيين عن طريق العقل والنفس، وذكر الجهات الأربع، والعدو الذي يحيط بالإنسان من كل جهة، ولأقعدن لهم صراطك المستقيم فلا بد من الحذر منه وتجنبه.

وقوله: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} : ولم يقل: عن اليمين، أو عن الشمال، عن أيمانهم، وشمائلهم؛ تعني: يأتيهم بانحراف، أو بشكل منحرف من جهة اليمين، والشمال؛ لأن جلس يمينه؛ أيْ: في جهة اليمين جلس عن يمينه؛ أيْ: منحرفاً عن جهة اليمين، وبعيداً عنه، وكذلك عن شمائلهم؛ لأنه يخشى الملكين عن اليمين، وعن الشمال قعيد (رقيب عتيد).

{مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} : من: تعني: مباشرة من دون انحراف.

ولم يذكر من فوقهم، أو من تحتهم وهذا من رحمة الله بعبده؛ لأن الفوقية قيل: تخصّ الله سبحانه؛ حيث تنزل رحمته، أو تصعد عبادة العبد، والتحتية؛ فهي محروسة بالسجود، والركوع، ومن الصعب، أو نادراً ما يأتي الشيطان للعبد، وهو ساجد، أو راكع.

{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} : كيف علم إبليس هذا؟ أن أكثر الناس لن يكونوا من الشاكرين؟

قيل: لأنه من الجن، والجن لها شهوات مثل شهوات الإنس، وبما أن الجن قليلاً ما تشكر؛ فظن الإنس كالجن.

ص: 72

سورة الأعراف [7: 18]

{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} :

{مَذْءُومًا} : من الذأم: هو أشد الذم أو المبالغة في الذم وذأمه عابه، وحقَّره، محقَّراً ممقوتاً.

{مَّدْحُورًا} : أي: المبعد، والمطرود، والمقصى عن رحمة الله، دحره؛ أيْ: طرده؛ أيْ: مبعداً مطروداً من رحمة الله؛ جاء رد الله سبحانه وتعالى على إبليس رداً مناسباً بعد أن هدد بالقول ولا تجد أكثرهم شاكرين بالطرد من رحمة الله تعالى وهي أشد من القتل.

{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} : لمن: اللام: لام الاستحقاق، أو الاختصاص، من: شرطية.

لمن تبعك منهم: أولاد آدم المخالفين، أولياء الشيطان.

{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} : لأملأنَّ: اللام: لام التوكيد، وفيها إنذار من الله سبحانه، والنون: لزيادة التوكيد.

{جَهَنَّمَ} : ارجع إلى سورة الرعد آية (18) للبيان المفصل.

{مِنكُمْ} : خاصَّةً أجمعين؛ للتوكيد.

ص: 73

سورة الأعراف [7: 19]

{وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} :

{وَيَاآدَمُ} : الياء: ياء النداء؛ للبعد، ينادي الله -جل وعلا- آدم بعد طرد إبليس من الجنة، وأقصاه من رحمته.

{وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} : كلمة اسكن: لها معانٍ عدة منها: اسكن؛ من السكينة، والرجل يسكن إلى زوجته، والزوجة تسكن إلى زوجها، فالسكن يحمل معنى: الراحة، والهدوء.

والسكن في اللغة: يقال: للبيت الذي فيه زوجان.

وانتبه إلى قول الله سبحانه وتعالى : {اسْكُنْ} : ولم يقل: اسكنا؛ لأن السكن، والأكل، والشرب، والملبس، واجب على الزوج.

الجنة: هنا تعني جنة أرضية، وليس كما يظن البعض أنها جنة الخلد التي وعد المتقون. ارجع إلى سورة البقرة آية (35) للبيان.

{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} : ولم يقل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، بل قال:{وَلَا تَقْرَبَا} ؛ أيْ: لا تذهبا قربها.

{هَذِهِ} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة، يستعمل للقريب.

{الشَّجَرَةَ} : أبهم ما نوع هذه الشجرة، ولم يبيِّنه.

{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} : الظالمين لأنفسهم؛ لعدم طاعة الله تعالى، فيما أمركما. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

ص: 74

سورة الأعراف [7: 20]

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} :

{فَوَسْوَسَ} : الفاء: تدل على المباشرة؛ أيْ: حدثت الوسوسة لهما بعد التحريم بزمن قصير.

والوسوسة نوع من الحديث الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب الإنسان؛ أيْ: عقله ليفعل المعصية، وهي الأكل من الشجرة في هذه الآية، والغاية من الوسوسة؛ كي تظهر لهما سوءاتهما المخفية.

وكيف تمت الوسوسة، وأين كان إبليس، قيل: تمت الوسوسة عن بُعد، ولم يكن إبليس بقرب آدم، قيل: كان إبليس على الأرض بعد أن طرد منها، وآدم في الجنة (جنة أرضية).

{لَهُمَا} : لآدم وزوجته.

{لِيُبْدِىَ} : اللام: لام التعليل، والتوكيد.

{لِيُبْدِىَ} : يُظهر لهما ما وُوري عنهما من سوءاتهما.

{لَهُمَا} : لام: الاختصاص.

{مَا وُرِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} : أيْ: ما سترا، وغطِّي عنهما من سوءاتهما. قيل: كان آدم وزوجه عليهما السلام لا تُرى سوءاتهما؛ بسبب النور الساطع، نور الجنة.

والسوءة: تعريفها: ما يساء النظر إليه، وهي القُبل، والدُبر، والفطرة السليمة لا تحب رؤية سوءة الإنسان لنفسه، أو غيره.

أمّا العورة: فهي ما بين السرة والركبة.

{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا} :

{إِلَّا} : أداة حصر، أن: حرف مصدري للتعليل، وفيه معنى: لئلَّا.

{أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} : أيْ: من الملائكة، ولهم خصائص القوة، والبقاء.

{أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} : تكرار (تكونا): تفيد التوكيد، أو هنا للتخيير.

{الْخَالِدِينَ} : من الخلود: وهو البقاء من دون موت.

ص: 75

سورة الأعراف [7: 21]

{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} :

{وَقَاسَمَهُمَا} : أقسم لهم بالله.

{وَقَاسَمَهُمَا} : أيْ: دخل معهما في القسم، والمقاسم: أن تقسم لصاحبك، ويقسم لك، وتقاسما تحالفا، مثال: قال: إبليس أقسم بالله {إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} ، ورضيا بقسم إبليس.

{وَقَاسَمَهُمَا} : أي: اجتهد في القسم، أو بالغ فيه، وعبر عن ذلك بصيغة المفاعلة، المقاسمة؛ حتى يخدعهما.

{لَمِنَ} : اللام: للتوكيد.

{النَّاصِحِينَ} : بأن تأكلا من الشجرة لتكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، ناصحين: جمع ناصح: الذي يقدِّم النصيحة، ولو كان صحيحاً هذا لماذا لم يأكل منها إبليس نفسه؟

ص: 76

سورة الأعراف [7: 22]

{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} :

{فَدَلَّاهُمَا} : الفاء: للترتيب، والتعقيب من دون فترة للحوار، أو المشاورة، التدلية، أو الإدلاء: هو إنزال الدلو، أو إرساله من الأعلى إلى الأسفل.

{فَدَلَّاهُمَا} : أيْ: أنزلهما من مكان عالٍ إلى مكان أسفل، أو من درجة الطاعة إلى درجة المعصية.

{بِغُرُورٍ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، غرور: بالخداع، والقسم الكاذب.

{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} : الفاء: عاطفة؛ تدل على الترتيب، والتعقيب، مجرد أن ذاقا الشجرة.

{بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} : ظهرت لهما سوءاتهما.

{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} : طفق: شرع، طفقا؛ أيْ: شرعا.

{يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} : الخصف: الخرز، ومنه الإلصاق؛ يلزقان عليهما من ورق الجنة على سوءاتهما، والخصف: أن تأتي بشيء تلزقه على شيء آخر؛ لتواري العيب، وقديماً كانوا يستعملون هذه الكلمة في ترقيع الحذاء.

{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ} : استفهام؛ للتقرير.

{أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} : أنهكما عن الاقتراب من تلكما الشجرة، وبالتالي الأكل منها.

وقال: {عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} : ولم يقل: تلك الشجرة؛ لأن المخاطب هنا: آدم وحواء عليهما السلام، وليست الشجرة، و (تلكما): تشير إلى البعد، بينما هذه الشجرة تشير إلى القرب.

{وَأَقُلْ لَكُمَا} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لكما خاصَّةً من دون الآخرين.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} : ظاهر العداوة، عداوته ظاهرة لكل فرد، وهذه العداوة لا تحتاج إلى من يظهرها فهي ظاهره بنفسها، لا تحتاج إلى دليل، أو برهان.

ص: 77

سورة الأعراف [7: 23]

{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{أَنْفُسَنَا} : بصيغة الجمع، ولم يقل:(نفسينا) بصيغة التثنية؟ اعتذرا معاً، والدعاء بصيغة الجمع أفضل من الدعاء بصيغة المفرد.

{ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} : بمخالفة أمرك، وطاعة الشيطان بالاقتراب من الشجرة، والأكل منها.

{وَإِنْ لَّمْ} : إن: شرطية، لم: نافية.

{وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} : قدَّم المغفرة على الرحمة، والمغفرة: من غفر؛ أيْ: ستر؛ أي: استر ذنوبنا، وتقبل توبتنا.

{لَنَكُونَنَّ} : اللام: لام التوكيد، و (نكوننَّ): النون: لزيادة التوكيد؛ أيْ: استعظما ذنبهما.

{مِنَ الْخَاسِرِينَ} : الذين خسروا الدنيا والآخرة، خسروا أنفسهم.

لنقارن ثلاث دعوات وردت في القرآن متشابهة إلى حدٍّ ما، وهي: في سورة هود الآيتان (46-47): {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْـئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .

الدعاء هنا على لسان نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْـئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

وفي سورة الأعراف، الآية (23):{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} .

الدعاء هنا على لسان آدم وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

وفي سورة الأعراف، الآية (149):{لَئِنْ لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

الدعاء هنا على لسان بني إسرائيل، نجده استعمل كلمات، أكن، لنكوننَّ.

بما أن معصية نوح هي أقل شدة من معصية آدم، ومعصية بني إسرائيل؛ لذلك لم يؤكد نوح عليه السلام في دعائه بأي حرف، فقال:{أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

وبما أن معصية آدم عليه السلام هي أشد من معصية نوح عليه السلام ؛ لذلك استعمل التوكيد باللام، في (لنكوننَّ)، والنون؛ فقال:{لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

وبما أن معصية بني إسرائيل أشد من معصية آدم، ومعصية نوح: وهي الإشراك بالله، وعبادة العجل؛ لذلك استعمل:{لَّئِنْ} + {لَنَكُونَنَّ} ؛ أي: (اللام، والنون).

ثم في دعاء نوح، ودعاء آدم: قدَّم المغفرة على الرحمة، وفي دعاء بني إسرائيل: قدَّم الرحمة على المغفرة؛ لأن الرحمة أعم، وأوسع من المغفرة، فالرحمة لعموم الخلق؛ لذلك طلب بنو إسرائيل الرحمة أولاً؛ لأنه يناسب عظم المعصية، وهي الشرك، فإذا طرد الإنسان من رحمة الله، فلا مطمع له بعد في المغفرة، فالمغفرة تأتي بعد الرحمة، والمغفرة خاصَّةً بالمؤمنين، فمن لا يرحمه ربه، لا يغفر له، ومن غفر له كان مرحوماً.

ص: 78

سورة الأعراف [7: 24]

{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} :

{قَالَ اهْبِطُوا} : اهبطوا هبوط مكانة، ومنزلة؛ إذ كانت جنة آدم على الأرض، وليست هي جنة الخلد، كما قال بعض المفسرين.

والهبوط نوعان: هبوط مكانة ومنزلة، أو هبوط مكاني من أعلى إلى أسفل.

انتبه! لم يقل: منها في هذه الآية فقط: {اهْبِطُوا} ؛ لأنه قد يكون هبوط مكانة، ومنزلة، وليس هبوطاً من مكان عالٍ إلى مكان أسفل.

{اهْبِطُوا} : تشمل آدم، وزوجه، وإبليس، وقيل: آدم وإبليس؛ خوطبا بصيغة الجمع؛ لأنهما أصل الإنس والجن.

{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : لم يقل: (أعداء)، بل قال سبحانه وتعالى :{عَدُوٌّ} ؛ لأن العداوة واحدة في سببها، وفي نوعها، وهي عدم طاعة الله وعصيانه، ويقول: أعداء: إذا كانت العداوات مختلفة الأسباب، والعداوة: هي بين آدم ونسله، والشيطان.

{وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} : أيْ: إلى انقضاء الأجل: وهو الموت.

{مُسْتَقَرٌّ} : مكان استقرارٍ، وإقامة مؤقت.

{وَمَتَاعٌ} : ومكان تمتع، والمتاع: ما ينتفع به: من مشرب، وملبس، ومسكن، وأداة، وآنية.

{إِلَى حِينٍ} : ولتعريف المتاع: ارجع إلى الآية (14) من سورة آل عمران.

إلى: حرف يستعمل لكل الغايات الزمنية؛ البداية، أو النهاية، أو المنتصف.

بينما حتى: تستعمل لنهاية الغاية الزمنية.

وحين: زمن غير محدد قد يطول، أو يقصر يقدر سنين، أو شهور، أو أياماً، أو ساعات، والحين: يطلق على اللحظة الآن، والحين: هو الوقت الذي يحين فيه المقدور.

استعمل إلى، ولم يستعمل حتى؛ لأن الاستقرار، والتمتع قد يطول، أو يقصر؛ بحسب عمر الشخص.

ولم يستعمل حتى؛ لأن حتى: حرف نهاية الغاية؛ أي: التمتع والاستقرار يجب أن يدوم حتى نهاية العمر، وهذا أمر غير مؤكد؛ لما يصيب الإنسان من تغيرات في كل مرحلة، أو زمن.

ص: 79

سورة الأعراف [7: 25]

{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} :

{فِيهَا} : تعني: الأرض، وليس عليها؛ لأن الأرض تشمل طبقة الغازية المحيطة بالأرض، إذن نحن نسير في الأرض، وتعني الأرض الحالية.

{وَفِيهَا تَمُوتُونَ} : حين تنقضي آجالكم، وتعني الأرض الحالية.

{وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} : يوم البعث، أو القيامة من قبوركم، الأرض المستقبلية الأرض الجديدة.

ص: 80

سورة الأعراف [7: 26]

{يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} :

نداء إلى بني آدم، وحين ينادي الله -جل وعلا- خلقه: يا بني آدم! نرى هذا النداء يأتي في سياق خلق آدم عليه السلام ، أو بعد ذكر آدم عليه السلام أبو البشر، فينادينا الحق: يا بني آدم، يا أولاد آدم، وهو نداء فيه تكريم لآدم له، والتذكير بالنِّعم التي أنعمها على بني آدم، ومن هذه النِّعم: اللباس.

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} : واللباس: يطلق على ما يستر العورة عادةً يُصنع في الأرض، فما معنى {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ}: الإنزال: هو عادة يعني: المطر، والذي ينبت به القطن، والكتان، والذي يخرج به الزرع، والذي تأكل منه الأنعام، والتي هي مصدر الأصواف، والأوبار، والأشعار، والحرير، والريش.

وهذا يسمَّى في المجال اللغوي: المجاز المرسل، وهو الانتقال من المعنى الأصلي إلى معنى آخر بلاغي، مع وجود قرينة لفظية، أو مقامية، وهي الإنزال.

{يُوَارِى سَوْآتِكُمْ} : يستر، ويغطي سوءاتكم، والسوءة: هي القبل، والدبر. والعورة: ما بين السرة والركبة، فالعورة تشمل السوءة.

{وَرِيشًا} : والريش هنا يمثل: لباس الزينة.

{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} : تشبيه التقوى باللباس: وهو تشبيه بليغ، وهو لباس معنوي، فالتقوى: لتواري السوءات الباطنة، وتشمل الإيمان، والعمل الصالح، والباقيات الصالحات.

واللباس العادي: ليواري السوءات الظاهرة، وهو لباس حسي.

وقيل: لباس التقوى: هو لباس الجهاد، والحرب.

{ذَلِكَ} : الإنزال، أو اللباس خير؛ أيْ: نعمة من الله، وخاصَّةً: لباس التقوى.

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} : لعلَّ: للتعليل نعمة خلق اللباس، ونعمة ستر العورة؛ لأنهم سرعان ما ينسون هذه النِّعم، ونعمة سهولة ستر العورة، الآن مقارنة بما فعل آدم وحواء بالخصف، وإلزاق أوراق الشجر وغيرها.

ص: 81

سورة الأعراف [7: 27]

{يَابَنِى آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} :

نداء جديد آخر؛ يحذر الله سبحانه في هذه الآية ذرية آدم، من فتنة الشيطان لهم، كما فعل لأبيهم آدم عليه السلام .

{لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} : لا: الناهية، يفتننكم الشيطان: من الفتنة، وهي تشمل: الوسوسة، والإغراء، والتزيين، والإضلال، والتمني والشرك، والكفر

وغيرها. ارجع إلى سورة آل عمران، آية (7)؛ لمزيد من البيان.

{لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} : وتعني: لا يخرجكم الشيطان عن طاعة الله، أو يزيِّن لكم كشف عوراتكم، والمعاصي، وينزع عنكم لباس التقوى، ويحرمكم من دخول الجنة.

{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} : حين أوقعهما في المعصية بالأكل من الشجرة؛ التي أدت إلى ظهور سوءاتهما.

{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} : أي: الشيطان، وأكَّد ذلك بأنه يراكم، ويرى غيركم، وكذلك قبيله: ذريته، وأعوانه، أو جنوده، يرونكم من حيث لا ترونهم؛ أيْ: أنتم أمام عدو غير مرئي لكم، يراكم، ولا ترونه.

{إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} : أولياء؛ أيْ: أعواناً، وأنصاراً للكفار؛ الذين لا يؤمنون.

أيْ: خلَّى الله سبحانه بين الشياطين، وبين الذين يريدون أن يكونوا أولياء للشيطان، أو أولياء لذرية الشيطان.

ولو أراد الله لمنعهم من ذلك؛ إنه على كل شيء قدير.

ص: 82

سورة الأعراف [7: 28]

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

الفاحشة: هي ما فيه عقوبة الحد، أو: هي الكبائر، أو: ما اشتد قبحه من الأفعال، والأقوال، والفاحشة: هي الزِّنى، بشكل خاص، والآيتان السابقتان تتحدثان عن اللباس، وستر العورة، والسوءة.

وهذه الآية: تتحدث عن الذين كانوا يطوفون بالبيت الحرام عُراة، والفاحشة هنا كانت كشف العورة، والزِّنى، واللِّواطة، وكذلك الشرك، والسائبة، والوصيلة، والحام، وقد تعني: القذف، وغيرها.

وهؤلاء المشركون: كانوا إذا قيل لهم: ما تفعلون هو من الفواحش، قالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا؛ أيْ: نحن مقلدون لآبائنا، وكأنهم يعتقدون أن التقليد هو حكم تكليفي، والله أمرهم باتباع آبائهم، أو يقولون: الله قدَّرها، وكتبها عليهم؛ أي: الفاحشة من قدر الله، وقضائه، والله أراد لنا أن نكفر، أو حكم علينا بالكفر، والشرك، والضلال، أو هم لا يعتقدون أن التعري فاحشة، بل جمال الأجسام، ولا حرج، فكان الرجال يطوفون نهاراً، والنساء يطفن ليلاً.

وكانوا يدعون أنهم لا يريدون الطواف بثياب عصوا الله فيها، ويعتبرون هذا من قبيل الورع.

{قُلْ} : لهم يا محمد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} : بل ينهى عن الفحشاء، والذي أمركم بالفحشاء: هو الشيطان، وليس الله سبحانه.

{إِنَّ} : حرف مشبّه بالفعل؛ يفيد التوكيد؛ بأن الله لا يأمر بالفحشاء، أو متى أمركم الله بالفحشاء، أو كلمكم عنها، أو جاءكم الوحي، أو رسول، أو نبي يصدق ما تقولون.

{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : الهمزة: استفهام إنكاري، أتفترون على الله الكذب، والافتراء: هو الكذب المتعمد، وفي الآية إنذار ووعيد للمشركين، وهذه سمة العاصين؛ يسندون كفرهم، وضلالهم إلى أمر الله، ومشيئته، وأن الله قدَّر عليهم ذلك، أو أنهم يقلِّدون آباءَهم.

ص: 83

سورة الأعراف [7: 29]

{قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يأمر بالفحشاء.

بل يأمر بالقسط، بالحق، والعدل، وعدم الشرك، والاعتدال في الطاعات، والعبادات دون إفراط، ولا تفريط.

والقسط: يعني: العدل مع تنفيذ، أو تطبيق الحكم بالعدل.

{قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : كقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30]: في كل مكان وزمان، نقيم فيه الصلاة، إقامة الوجه: تعني: منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، وإقامة الوجوه تعني أيضاً: كمال الإقبال على الله كأنه نراه أمامنا، وعدم الالتفات لا يمنة ولا يُسرى.

{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : المسجد: هو كل موضع في الأرض، يمكن إقامة الصلاة فيه، يعتبر مسجداً؛ فالأرض كلها مسجد، كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه:«وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً» .

أو المسجد: وهو ما يطلق عليه: بيت الله، الذي تقام فيه خمس صلوات، وتقام فيه الجمعة، ويجتمع فيه الناس للصلوات، ويختلف عن المصلى.

{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} : وادعوه الدعاء: هو العبادة، وكذلك الدعاء المعروف؛ مخلصين له الدِّين: موحِّدين غير مشركين.

{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} : كما خلقكم أول مرة يعيدكم إليه أحياء؛ بالبعث يوم القيامة للحساب، والجزاء مرة أخرى.

ص: 84

سورة الأعراف [7: 30]

{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ} :

أيْ: تعودون إليه فريقين فقط يوم القيامة.

{فَرِيقًا هَدَى} : استجاب لأوامر الله، وطاعته، وطلبوا الهداية، فهداهم الله، ونجوا من العذاب.

{وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} : أي: العذاب؛ لأنهم ضلوا في الدنيا، ولأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون؛ أيْ: بدلاً من الله سبحانه، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ}؛ أيْ: يظنون أنهم مهتدون، وأن صفة الهدى ثابتة لهم.

ما هو الفرق بين حسب، وظنَّ؟

الظنُّ: هو رجحان كفة الإثبات على كفة النفي.

والحسبان: هو الظن القائم على حساب حسي، وقلبي، أو الاعتقاد القائم على النظر والتجربة، ويسمَّى الظنَّ حسباناً من كثرة الاستعمال.

{وَيَحْسَبُونَ} : بصيغة المضارع؛ تدل على تجدُّد، وتكرار ظنهم.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية مع الآية (36) من سورة النحل؛ لمعرفة معنى الضلالة في الآيتين:

في آية سورة الأعراف (30) يقول تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

وفي آية سورة النحل (36) يقول تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} .

إذا نظرنا في آية سورة النحل: نجده أنَّث الضلالة، فقال جل جلاله :{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} ، وأما في آية سورة الأعراف؛ فذكر الضلالة، فقال:{حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} ؛ لأن معنى الضلالة في سورة الأعراف: العذاب؛ لأن سياق الآية في الآخرة، والآخرة ليس فيها عبادة، وتكليف، وليس فيها هداية، وضلالة، انتهى الأمر حين الموت، ومعنى الضلالة في سورة النحل: الضلالة فعلاً، وعدم الاهتداء؛ لأن سياق هذه الآية في الدنيا.

ص: 85

سورة الأعراف [7: 31]

{يَابَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} :

أسباب النزول: كما روى مسلم وغيره: كانت العرب تطوف بالبيت الحرام عراة، إلا الحمس؛ أيْ: قريش وأحلافها، فمن جاء يحج وضع ثيابه، واستعار ثياب من أهل مكة كي يطوف بها، فإن لم يجد ثياباً طاف عرياناً، وكانوا في أيام الحج يحرمون على أنفسهم الطيبات، واللحوم؛ تقرباً من الله؛ فنزلت هذه الآية تأمرهم بستر عوراتهم، ولبس الثياب الطاهرة، وأكل الطيبات، واللحوم، وعدم الإسراف.

{يَابَنِى} : ارجع إلى الآية (26) من نفس السورة؛ للبيان.

{خُذُوا زِينَتَكُمْ} : الزينة: لفظ عام يشمل الزينة الخارجية والثياب والريش؛ أي: استروا عوراتكم، والبسوا الثياب الحسنة الطاهرة حين الطواف بالبيت والصلاة.

{عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} : ارجع إلى الآية (29) من نفس السورة.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} : أيْ: كلوا الطيبات، والحلال، واللحم، والشحم، وما تيسر على شرط عدم الإسراف، والإسراف: هو تجاوز الحد في كل شيء في المال، والطعام، واللباس، والإنفاق.

{إِنَّهُ} : إن: للتوكيد.

{لَا} : النافية.

{يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} : جمع مسرف، والإسراف: مجاوزة الحد، أو تعدي الحد الذي أباحه الله في الإنفاق، وما وراء الحاجة، أما التبذير؛ فهو الإنفاق في الأمور المحرمة غير المباحة، أو الحرام.

ص: 86

سورة الأعراف [7: 32]

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{مَنْ} : استفهام إنكاري، وتشمل: المفرد، والجمع.

{حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} : الزينة: ما يتزين به الإنسان: من الثياب، والجواهر، والحلي المباحة على شرطين: عدم الإسراف، وما لم يحرمه الله -جل وعلا- ، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ونسب الزينة إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه أخرجها لعباده.

{الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} : أيْ: أوجدها لعباده، وأحلها لعباده، اللام: لام الاختصاص.

{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} : الحلال من المطاعم، والمشارب، والطاهرة؛ أي: لا يحرمها إلا جاهل بدين الله تعالى.

{مِنَ} : بعضية.

{قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : أيْ: هي ضمير يفيد التوكيد للذين آمنوا، اللام: لام الاستحقاق، وإن شاركهم فيها غيرهم؛ أيْ: هي خلقت أصلاً للذين آمنوا، وهي من عطاء الربوبية الذي يشترك فيه المؤمن والكافر.

{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} : أيْ: خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا يشاركهم فيها أحد.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} : أيْ: كما فصلنا لكم الحلال، والحرام، والزينة، والطيبات، والأكل، والمشرب، وعدم الإسراف، {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ}: بصور شتى، ومختلفة، نأتي بها بأشكال مختلفة؛ حتى يدركوا غايتها، ويصلوا إلى الحقيقة والعلم الثابت.

{لِقَوْمٍ} : اللام: لام الاختصاص.

{يَعْلَمُونَ} : ما ينفعهم، وما يضرهم، أولو بصيرة.

ص: 87

سورة الأعراف [7: 33]

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} : ارجع إلى الآية (151) من سورة الأنعام.

والفواحش: تضم الزِّنى، واللِّواطة، وعبادة الأصنام، والقذف، ومعصية الرسول، والأقوال المنكرة، وشرب الخمر، وغيرها من الفواحش؛ السرية، والعلنية.

{وَالْإِثْمَ} : الإثم في اللغة: التقصير، الإثم شرعاً: هو فعل الحرام، أو ترك الواجب، وقيل: هو القبيح الذي عليه تبعة، أما ترك المباح، أو المكروه، والمستحب، والمندوب فليس عليه إثم.

مراتب الإثم: الصغائر، والكبائر.

أنواع الإثم:

1 -

آثام الجوارح، ويسمَّى ظاهر الإثم.

2 -

آثام القلوب: وهي الآثام الباطنة: كالحسد، وكتمان الشهادة

وغيرها.

أما شروط تحقق الإثم: فأن يكون مكلفاً، بالغاً، عاقلاً، والقدرة، والاختيار.

ما يترتب على الإثم: التوبة، إرجاع الحق إلى أهله، الكفارة، أو الفدية، أو القضاء (ما ترك)، وإقامة الحد إذا كان عليه حدٌّ.

{وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : هو الظلم، وأخذ حق الغير بقهر، وتعسف، ومجاوزة الحد في الفساد.

{وَأَنْ} : مصدرية تفيد التعليل والتوكيد.

{تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : أي: الإشراك بالله، باتخاذهم إلهاً آخر، أو صنماً، أو طاغوتاً.

{مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} : أيْ: حُجَّة، أو برهاناً، وهل يُعقل أن ينزل الله سبحانه برهاناً يسمح بأن يشرك به غيره.

والسلطان: الحُجَّة التي لا تدحض؛ لقوة دلالتها، أو سلطان قوة، وقهر.

{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : أيْ: أن القول على الله كذباً، أو من دون علم، تقولوا: حرم الله هذا، ولم يحرمه، أو تحرموا ما أحل الله، أو تحلوا ما حرم الله، وتنسبون ذلك إلى الله، أو تفتروا على الله كذباً بأن تقولوا المسيح ابن الله، أو الملائكة إناثاً، كل ذلك نوع من أنواع الشرك.

وانتبه إلى تقديم الفاحشة على الشرك، مع أن الشرك أعظم ذنباً من الفاحشة، التقديم هنا لا يقصد به الأهمية؛ أيْ: من الأهم؛ لأن السياق هو في التحريم، والحلال، والحرام، وإنما أدرج الشرك في سياق الفواحش؛ لأنه من أهمها، والتقديم والتأخير قد يكون بحسب السياق، كما هو الحال هنا، وليس بحسب الأهمية.

ص: 88

سورة الأعراف [7: 34]

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر تحريم الفواحش، والإثم، والبغي، والشرك، جاء بهذه الآية؛ ليذكر كل من يرتكب تلك المحرمات أن له أجلاً محدداً؛ أيْ: سيموت، ويحاسب على ما اكتسبه.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} : لكل أمة جماعة من الناس بغض النظر عن العدد، أجل؛ أيْ: زمن محدد معين يموتون فيه، ففي كل ساعة، أو دقيقة نرى جماعة من الناس تموت، أو تقتل.

والأجل: هو وقت محدد، أو مدة معلومة في علم الله؛ لانقضاء عمر الإنسان؛ أيْ: موته.

وأجل الإنسان: زمن موته، أو الوقت المحدد المعلوم الذي يموت فيه الإنسان، وأجل الدَّين: هو وقت حلوله؛ أيْ: دفعه، والأجل المسمَّى: يوم القيامة.

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} : الفاء: تفيد التوكيد، وإذا: ظرفية زمانية للمستقبل، جاء أجل تلك الجماعة مثلاً: بسقوط طائرة، أو غرق سفينة، أو إلقاء قنبلة.

{لَا يَسْتَأْخِرُونَ} : لا: النافية. يستأخرون: ساعة، ولا أقل من ساعة؛ أيْ: ولا دقيقة، أو ثانية، أو أقل؛ نفي الأكثر يعني: نفي الأقل.

{وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} : وإذا لم يجئ أجلهم، {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ؛ لأنه إذا جاء أجلهم انتهى الأمر، فكيف يستقدمون، فجملة لا يستقدمون ليست تتمة، أو مرتبطة بجملة لا يستأخرون، كما يظن الكثير.

ص: 89

سورة الأعراف [7: 35]

{يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} :

{يَابَنِى آدَمَ} : ارجع إلى الآية (26) من نفس السورة.

{إِمَّا} : أصلها: (إن + ما)، إن: الشرطية، ما: للتوكيد، ثم أدغمت إنَّ في ما، وأصبحت إمَّا، ومعناها: إن يأتيكم رسل منكم.

{يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} : يأتينكم: النون للتوكيد، ولم يقل: يأتيكم.

{رُسُلٌ مِّنكُمْ} : تشمل الأنبياء، والرسل؛ فكل نبي هو أيضاً مرسل من الله. للتفريق بين النبي والرسول ارجع إلى سورة النساء، آية (164)؛ للبيان.

{مِّنكُمْ} : من البشر، وليس من الملائكة، أو الجن.

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} : ارجع إلى الآية (130) من سورة الأنعام؛ لمزيد من البيان؛ لمعرفة معنى {يَقُصُّونَ} .

أيْ: يخبرونكم بآياتي؛ أيْ: بما شرعته لهم: من افعل، أو لا تفعل، ولم يقل:(يتلون عليكم آياتي)؛ إذ هناك فرق بين يقصون ويتلون. ارجع إلى الآيات في سورة الأنعام، الآية (130)؛ والزمر، آية (71)؛ لمزيد من البيان.

{فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} : من: ابتدائية، والفاء: للتوكيد، ومن: تعني: المفرد، أو الجمع.

{اتَّقَى} : حرمات الله، واتقى المعاصي، اتقى الله؛ أيْ: أطاع، وامتثل أوامر الله، وتجنب محارمه.

{وَأَصْلَحَ} : أصلح نفسه، وشأنه، أو قام بالأعمال الصالحة، وأصلح ما بينه، وبين العباد، وأصلح في الأرض، ولم يفسد فيها.

{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} : ارجع إلى الآية (38) من سورة البقرة للبيان المفصل.

ص: 90

سورة الأعراف [7: 36]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

هذه الآية: هي تتمة للآية السابقة؛ أيْ: فمن اتقى وأصلح، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا.

{وَالَّذِينَ} : الواو: عاطفة، الذين: اسم موصول؛ يفيد التحقيق.

{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : أيْ: لم يؤمنوا بها، ويصدقوها، بعد أن قصتها رسلهم عليهم، (يقصون عليكم آياتي).

{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} : الاستكبار: أشد الكبر صيغة مبالغة؛ أي: طلب الكبر، وهو غير مؤهل له؛ أيْ: لا يملك أسباب الكبر، مثل: الغنى، والحكم، والعلم، وغيرها. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان في الكبر.

واستكبر: أيْ: أظهر عظم شأنه، فوق ما يستحق، والاستكبار يتضمن الإعراض عن آيات الله، والعمل بها، ورفض الإذعان لها. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{عَنْهَا} : عن: تعني: المجاوزة، والابتعاد؛ أيْ: عن آيات الله عز وجل .

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة للبعد، ويفيد معنى الذم والتحقير.

{أَصْحَابُ النَّارِ} : أي: الملازمون للنار، لا يفارقونها، ولا تفارقهم؛ كالصاحب الذي لا يفارق صاحبه، أو أصحابها؛ أي: المالكون لها، مثل: صاحب المنزل الذي يملك منزله، ولا يتخلى عنه.

{هُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{فِيهَا خَالِدُونَ} : الخلود: هو استمرار البقاء من وقت مبتدأ له بداية إلى ما لا نهاية له، أو يبدأ خلودهم في النار بعد دخولهم فيها.

ص: 91

سورة الأعراف [7: 37]

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} :

{فَمَنْ} : استفهام تقريري، والجواب: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً.

{أَظْلَمُ} : على وزن أفعل، والظلم في لغة العرب: وضع الشيء في غير موضعه، والظلم ثلاثة أنواع:

ظلم بين الإنسان، وبين الخالق، وأعظمه: الكفر، والشرك، والنفاق؛ لأن وضع العبادة في غير من خلق، ورزق؛ أشنع أنواع الظلم، وكما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وظلم بين الإنسان، وبين الناس؛ كقوله:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]، ويعني: أخذ حق الغير.

وظلم الإنسان لنفسه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32].

ويعني: الخروج عن منهج الله سبحانه هو ظلم للنفس. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : افترى: من الافتراء، وهو: اختلاق الكذب؛ أي: اختراعه، وهو الكذب المتعمد.

{كَذِبًا} : نكرة؛ تشمل كلَّ أنواع الكذب على الله -جل وعلا- بأن له شريكاً، أو أن له ولداً، أو أحل الله، أو حرم الله، وأنزل الله.

{أَوْ كَذَّبَ بِـئَايَاتِهِ} : أيْ: آيات القرآن، أو الآيات الكونية، أو المعجزات التي جاء بها الرسل.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة؛ للبعد.

{يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} : نصيبهم: حظهم، والنصيب يأتي في الأجر، والجزاء، والثواب، ويكون في المحبوب، والمكروه، والنعيم، أو العذاب، والحظ؛ لا يقال في العذاب، أو المكروه عادةً يأتي في سياق الخير.

{مِنَ الْكِتَابِ} : مما قدَّره لهم من الكتاب، مما كتب لهم في اللوح المحفوظ لهم من الرزق، والخير، والشر، والسعادة، والشقاء، والأعمار، والأعمال، وبذلك يكون المعنى:{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ} نصيبهم، أو ما قدر لهم في الحياة الدنيا من الكتاب؛ مما كتب لهم في اللوح المحفوظ، أو أم الكتاب، وما يحدث لهم بعد ذلك هو:{إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} .

{حَتَّى} : حرف لنهاية الغاية، والغاية هنا: مجيء رسل ملائكة الموت.

{إِذَا} : ظرف زماني للمستقبل، ويعني: الحتمية؛ أيْ: حتماً ستجيئهم رسلنا.

{جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} : المجيء: فيه معنى الصعوبة، والمشقة.

{رُسُلُنَا} : أيْ: ملك الموت، وأعوانه، ولم يقل: رسلهم، وإنما قال رسلنا؛ تشريفاً لهم.

{يَتَوَفَّوْنَهُمْ} : الوفاة: هي المرحلة التي تسبق الموت، مرحلة الاحتضار، عندما تتعطل حواس المحتضر، ويدخل في غيبوبة، ولا يُفهم ما يقول، والمحتضر يرى الملائكة، وتظهر عليه علامات الفرح، أو الحزن، ولا يمكن أن يعود إلى الدنيا.

ارجع إلى الآية (61) من سورة الأنعام، والآية (97) من سورة النساء؛ لمزيد من البيان.

{قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : أيْ: تسألهم ملائكة الموت، سؤال توبيخ وتقريع.

{أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} : أيْ: تعبدون، أو تدعونهم؛ لينصروكم، أو يمنعوكم من العذاب، أو يشفعوا لكم، أو يقربوكم زلفى عند الله؟!

{مِنْ دُونِ اللَّهِ} : من غير الله.

{مَا} : اسم موصول؛ تعني: الذين كنتم تعبدون.

{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} : غابوا عنا، أو اختفوا، ولم نعد نراهم، أو نجدهم، أو لا ندري أين هم.

{وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} : أيْ: أقروا، واعترفوا بكفرهم لملائكة الموت.

وقيل: هذا الاعتراف، والإقرار يكون يوم القيامة؛ لقوله تعالى:{قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِى النَّارِ} .

عندها يقال لهم: ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن، والإنس في النار.

{أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} : أنهم: للتوكيد كانوا: في الدنيا، كافرين: جملة اسمية؛ تدل على أن صفة الكفر كانت ثابتة لهم.

ولم يقل: كفار، بل {كَافِرِينَ}: تدل غالباً على العمل، وهو الكفر.

كفار: تدل على الحدث، وتدل على المبالغة، وأكثر من الكافرين.

ص: 92

سورة الأعراف [7: 38]

{قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَـئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} :

{قَالَ} : القائل هو الله سبحانه وتعالى ، أو مالك خازن النار.

{ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِى النَّارِ} :

{ادْخُلُوا فِى} : ولم يقل: ادخلوا مع.

{ادْخُلُوا فِى} : أيْ: أصبحوا مثلهم من دون أي ميزة، أو اختلطوا بهم، أما ادخلوا مع؛ فيعني: المصاحبة، من دون اختلاط، وابقوا بعزلة عنهم.

{ادْخُلُوا فِى} : في: ظرفية؛ أي: الحقوا.

{أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم} : أمم سابقة، أو جاؤوا قبلكم، مثل أمة نوح، أو لوط من حيث الزمن، أو القدم.

{مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} : من كلا الثقلين، وقدَّم الجن؛ لأنهم أقدم وجوداً.

{كُلَّمَا} : أداة شرط تفيد التكرار.

{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} : أيْ: لعنت التي سبقتها؛ لأن بعضهم أضل بعضاً، واللعن: هو الدعاء بالبعد، والطرد عن رحمة الله.

{حَتَّى إِذَا} : حتى: حرف لنهاية الغاية، إذا: ظرفية زمانية للمستقبل، وشرطية؛ تفيد معنى الحتمية.

{ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} : أصلها: تداركوا فيها، على وزن تفاعلوا؛ أيْ: لحق بعضهم بعضاً، أو أدرك بعضهم بعضاً؛ أيْ: اجتمعوا فيها في النار.

{جَمِيعًا} : للتوكيد، يحدث بينهم حوار، هو التالي:

{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ} : أي: الأتباع يقولون: ربنا هؤلاء الذين أضلونا؛ أي: القادة، والرؤساء، والزعماء الذين أضلونا في الدنيا.

{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} : الذين أضلونا في الدنيا؛ عن الصراط المستقيم، أو سبيلك، ودينك، ولم يقولوا للقادة، والزعماء مباشرة، أنتم أضللتمونا، بل قالوا: ربنا هؤلاء أضلونا؛ لأن الحكم، والقضاء بيد الله عز وجل .

{فَـئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} : الضعف: شيء مساوٍ لمثله.

أو {ضِعْفًا} : عذاباً مضاعفاً على مثله مرات؛ بسبب إضلالهم لهم.

قال: أيْ: أجابهم الله سبحانه: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} : لكل منكم، ومنهم عذاب مضاعف، أو لكلا الطرفين، أولهم، وآخرهم عذاباً مضاعفاً؛ أي: القادة، والأتباع؛ لأن كلاً منهم كانوا ضالين مضلين.

{وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} : أن هذه ستكون النتيجة، أو أن هذا سيكون الجزاء.

ص: 93

سورة الأعراف [7: 39]

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} :

{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ} : طائفة القادة، ورؤساء الكفر (المتبوعين).

{لِأُخْرَاهُمْ} : الأتباع.

{فَمَا} : الفاء: للتوكيد، ما: النافية.

{كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} : من: استغراقية؛ تستغرق كل فضل صغير، أو كبير.

أيْ: نحن وأنتم متساوون في العذاب، لا أحد أفضل من الآخر، أو أنتم لستم أفضل منا، أو إنا كلٌّ فيها؛ أيْ: في نار جهنم.

{فَذُوقُوا الْعَذَابَ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة.

{بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} : بدلاً من، بما كنتم تكفرون؛ لأن الكسب يشمل الكفر، وغيره من المعاصي أو بما كنتم تكسبون في إضلال غيركم، الباء: السببية، أو البدلية، أو التعليل، ما: مصدرية، حرف مصدري.

ص: 94

سورة الأعراف [7: 40]

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : آيات القرآن، أو الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله سبحانه، والبعث، والحساب.

{بِآيَاتِنَا} : الباء: للإلصاق، إلصاق الكذب بالآيات.

{وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} : أعرضوا عنها، ورفضوا العمل بها، عناداً، واستكباراً، استكبروا: طلبوا الكبر، وهم ليس أهلاً له؛ أيْ: لا يملكون مؤهلاته، والألف، والسين، والتاء: تفيد الطلب. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} : لا: النافية، أبواب السماء: كناية عن عدم قبول أعمالهم الصالحة، لا تفتح لأعمالهم، ولا لعباداتهم، ولا لدعائهم أبواب السماء، أو لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، أو لا تفتح لهم أبواب السماء بالخيرات الإلهية كناية عنه الحرمان.

{السَّمَاءِ} : أي: السماء المعروفة، وتشمل السموات السبع، أو قيل: السماء هي كل ما على الإنسان يسمى سماء.

{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} : وهذا يشير إلى الجنة في السماء.

{يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} : يلج يدخل: الولوج: هو الدخول بصعوبة من شدة التماس، أو الضيق، والجمل له ثلاثة معانٍ كلها تدل على استحالة دخولهم الجنة:

1 -

الحبل الغليظ، المفتول، المستعمل من ألياف الحصر المفتولة.

2 -

الجمل العادي؛ أي: الذكر من الإبل، مقابل الناقة.

3 -

اسم لجنس سمك معين، يسمَّى سمك الجمل.

{فِى سَمِّ} : ثقب الإبرة؛ أيْ: سم الخياط: ثقب الإبرة، وهذا مستحيل؛ أيْ: يدخل الجمل في سم الخياط.

وكذلك: دخول الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها في الجنة، مستحيل.

{وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ} : وكذلك؛ أي: مثل هذا الجزاء دخول المجرمين الجنة مستحيل؛ أو كما هو مستحيل أن يلج الجمل في سم الخياط، كذلك مستحيل لهؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها أن يدخلوا الجنة، وكذلك نجزي المجرمين الكافرين؛ أيْ: لا ندخلهم الجنة. ولبيان معنى المجرمين ارجع إلى سورة الأنعام آية (55).

ص: 95

سورة الأعراف [7: 41]

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} :

{لَهُمْ} : لام: الاستحقاق.

{مِنْ جَهَنَّمَ} : من: الابتداء: المهد: هو فراش الطفل، الرضيع، المهاد: جمع مهد؛ أيْ: لهم فرش من النار. جهنم: ارجع إلى سورة الرعد آية (18).

{وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} : لهم أغطية من النار؛ أيْ: لُحف من نار؛ أي: لهم فرش وأغطية من نار، وشبه ما تحتهم بالمهاد، وما فوقهم بالغواشي كناية عن حرمانهم من الراحة والعذاب المقيم الذي يحل بهم، وتدل الآية على الوعيد وما يخفى لهم من العذاب، كقوله تعالى:{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 54-55].

{وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} : أيْ: مثل ذلك الجزاء لهم، من جهنم مهاد، ومن فوقهم غواش؛ جزاء الظالمين، المشركين، الكافرين.

{غَوَاشٍ} : أصلها غواشي؛ دخل التنوين عوضاً عن الياء المحذوفة، ويسمَّى هذا: تنوين العوض.

ص: 96

سورة الأعراف [7: 42]

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

بعد أن ذكر الله وعيده للكافرين، والظالمين، والمجرمين.

يتبعه في هذه الآية وعده للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، بأن لهم الجنة خالدين فيها.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا} : الإيمان عمل قلبي، وعملوا الصالحات، هذا عمل الجوارح، فلا بُدَّ من كلا العملين معاً.

{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} : جملة اعتراضية؛ للتنبيه لبذل قصارى السعة؛ أي: الجهد للفوز بالجنة، وأنها ليست سلعة رخيصة.

{لَا} : حرف نفي.

{إِلَّا وُسْعَهَا} : إلا الحصر، وسعها: الوسع = القدرة + المخزون الاحتياطي؛ فالإنسان قادر على أن يصلي الصلوات الخمس، والسنن، والتهجد، وغيرها من صلاة النفل.

الوسع: القيام بكل الأوامر التكليفية، مع الزيادة، مثل: عمل النوافل، أما في حالات الضيق، والشدة؛ فعندها يلتزم بالرخص الشرعية.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، والكاف للبعد.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} : الملازمون للجنة، لا يفارقونها، ولا تفارقهم، وفيها معنى الملكية للجنة، مثل صاحب الدار؛ أي: المالك لها.

{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : هم: تفيد التوكيد، خالدون: من الخلود: وهو البقاء، والاستمرار من وقت له بداية؛ أيْ: زمن دخولهم الجنة إلى ما لا نهاية.

ص: 97

سورة الأعراف [7: 43]

{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَنَزَعْنَا} : من النزع: وهو قلع الشيء من قعره بشدة، وكأن الحقد شيئاً دفيناً في صدورهم، يحتاج إلى نزع بشدة.

{مَا فِى} : ما: اسم موصول؛ أي: الذي في صدورهم. وما: أوسع شمولاً من الذي.

{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ} : أيْ: ما في قلوبهم، والقلب: جزء من الصدر، وهو ما يسمَّى إطلاق الكل، وإرادة الجزء، فالكل هو الصدر، والجزء هو القلب.

{مِّنْ غِلٍّ} : الغل: الحقد، أو العداوة، أو الحسد والبغضاء، وجمع غل: أغلال؛ أي: قيود حديدية.

{تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} : تنبع من تحت قصورهم الأنهار؛ أيْ: جناتهم.

{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا} : الذي: اسم موصول، هدانا للإيمان، وللعمل الصالح، ووفقنا للفوز بالجنة، ونعيمها، وهذا اسم إشارة؛ يدل على القرب.

{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} :

{وَمَا} : الواو عاطفة، ما: نافية.

{لِنَهْتَدِىَ} : اللام: لام التوكيد، توكيد النفي.

{لَوْلَا} : حرف امتناع؛ لوجود؛ أيْ: لولا أن هدانا الله لامتنعت الهداية عنا، أو ما عرفنا الهداية.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.

{هَدَانَا اللَّهُ} : هداية: الدلالة والإرشاد والتوفيق؛ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا إلى الصراط المستقيم: وهو دِين الإسلام.

{لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} : لقد: اللام: لام التوكيد، قد: حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَاءَتْ} : ولم يقل: جاء، أنَّث؛ للدلالة على كثرة الرسل؛ الذين جاؤوا بالحق.

{رَبِّنَا بِالْحَقِّ} : ربنا: الباء: للإلصاق، والتوكيد، بالحق: بالبعث، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار.

بالحق: بالوحي، والصدق.

والحق تعريفه: الشيء الثابت؛ الذي لا يتغير، وكذلك تعني: الحكم المطابق للواقع، والحق: هو كل ما أخبر به الله تعالى رسله.

{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :

{وَنُودُوا} : من قبل الملائكة.

{أَنْ} : للتوكيد، مخففة من أن الثقيلة.

{تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} : اسم إشارة، والكاف: للبعد.

{الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} : يقال: ورث فلان غيره، إذا ناله شيء من الإرث، أو التركة.

{بِمَا} : الباء: للتعليل.

{كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} : في الدنيا: من أقوال، وأفعال.

وكلمة {أُورِثْتُمُوهَا} : تدل على أن هناك شيئاً ورثه من غيره.

ونعلم أن الله -جل وعلا- أعد لكل واحد من خلقه مكانة في الجنة، أو مقعداً في الجنة، ومقعداً في النار.

إذن: هناك جنات بعدد الخلق، أو أماكن في الجنات بعدد الخلق، وأماكن في النار بعدد الخلق؛ فإن آمن كل الخلق؛ فلهم كلهم أماكن، أو مقاعد في الجنة، وإن كفروا؛ فلهم مقاعد في النار.

وبما أن لكل واحد مقعداً في الجنة، ومقعداً في النار؛ فإذا ذهب هذا الواحد إلى النار، ترك مقعده في الجنة فارغاً، فسوف يُورث مقعده لشخص آخر، وبالعكس إذا دخل إلى الجنة، وله مقعد في النار؛ فسوف يورث هذا المقعد إلى شخص آخر.

إذن: في النهاية يصبح لكل واحد مقعدان: مقعده الأصلي في الجنة، ومقعد يرثه عن غيره من الذين ذهبوا إلى النار، وتركوا مقاعدهم في الجنة فارغة.

ص: 98

سورة الأعراف [7: 44]

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} :

{وَنَادَى} : النداء: هو رفع الصوت.

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} : ليس بالضرورة كون أصحاب الجنة مجاورين لأصحاب النار؛ حتى يتم النداء. وعبر عن الخطاب بين أصحاب الجنة وأصحاب النار بالنداء، ولم يقل: وقال؛ لأن النداء أكثر دلالة على بلوغه أسماع أصحاب النار، وقد يسئل سائل فيقول سيكون البعد شاسع بينهما؛ فالآن الواحد منا يستطيع أن ينادي، ويتحدث عبر الأقمار الاصطناعية، والهواتف، والإنترنت مع أي رجل في أية بقعة من العالم، المهم أن نفهم من الآيات: أن هناك حواراً بين أصحاب الجنة، وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف، ورؤية، فأصحاب الجنة قادرون على رؤية أصحاب النار، وليس العكس صحيحاً؛ أيْ: لا يرى أصحاب النار أصحاب الجنة.

{أَنْ} : المخففة؛ للتوكيد، وتعني: أيْ: قد وجدنا، قد: للتحقيق، والتوكيد.

{وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} : أيْ: ما وعدنا ربنا حقاً؛ أي: لم يتغير، أو يتبدل، أو ينقص؛ أيْ: تماماً كما وعدنا.

{فَهَلْ} : الفاء: للتوكيد، هل: للاستفهام، والتوبيخ.

{وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} : ما وعد ربكم من العذاب حقاً.

انتبه! إلى الاختلاف بين: فهل وجدتم ما وعد ربكم، ولم يقل: ما وعدكم ربكم.

أصحاب الجنة: كانوا ينتظرون وعد الله لهم؛ لأنهم كانوا يصدقون بما وعدهم ربهم بالجنات والنعيم، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

ولذلك قالوا: {وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} : أي: الوعد كان من الله، وهم قبلوا بالوعد، والوعد يكون من الطرفين، بينما أصحاب النار كانوا مكذبين بكل ما وعد الله من البعث، والحساب، والثواب، والعقاب، مكذبين للوعد، وللوعيد؛ أيْ: لم يقبلوا بوعد الله تعالى، ولذلك كان وعداً من طرف واحد؛ هو الله، وهم رفضوا قبوله، ولذلك قال:{وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} ، ولم يقل: ما وعدكم ربكم.

{قَالُوا نَعَمْ} : أيْ: قال أصحاب النار: نعم.

{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، أذن مؤذن: نادى منادٍ، والأذان: هو رفع الصوت بالإعلام بشيء، نادى منادٍ من الملائكة.

{بَيْنَهُمْ} : بين أصحاب الجنة، وأصحاب النار.

{أَنْ لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} : أن: للتوكيد، واللعنة: من اللعن: هو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى ، والخزي، والإهانة.

{عَلَى الظَّالِمِينَ} : كل الظالمين، ولم يقل: ألا لعنة الله على أصحاب النار؛ لكانت اللغة خاصَّةً بهم، فقط.

وبما أن أصحاب النار جزءٌ من الظالمين؛ فهو لعن كل الظالمين.

ص: 99

سورة الأعراف [7: 45]

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : يصرفون الناس عن دين الله؛ فهم صرفوا أنفسهم، وصرفوا غيرهم، ويمنعون الناس من الدخول في الإسلام.

{عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : عن: تفيد المجاوزة، والإبعاد عن سبيل الله؛ أيْ: دِين الله الإسلام.

{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} : الهاء: في يبغونها: تعود إلى ملة الإسلام، ملة الحنيفية، ويريدونها. عوجاً: أيْ: ملة زائفة، منحرفة عن الحق، معوجة، ذات عوج؛ حتى يبقى الناس حولهم، وتبقى لهم القوة.

{وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} : هم: ضمير منفصل يفيد التوكيد، والباء: للإلصاق.

{كَافِرُونَ} : مكذِّبون، جاحدون، لا يصدِّقون بالآخرة، والبعث، والجزاء، وبلقاء الله عز وجل ، ولذلك لا يهمهم وعد الله تعالى، أو وعيده، ولا يخافون عذاباً، أو عقاباً في الآخرة.

ص: 100

سورة الأعراف [7: 46]

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} :

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} : بين أصحاب الجنة، وأصحاب النار حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى في سورة الحديد، الآية (13){فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} .

{وَعَلَى الْأَعْرَافِ} : جمع عُرف: وهو أعلى الشيء، ولكل عالٍ عرف، مأخوذ من عرفُ الفرس، أو كل مرتفع من الأرض، ولأنه بسبب ارتفاعه يسير أعرف مما انخفض عنه؛ أيْ: على أعالي السور (الحجاب)، يقف أصحاب الأعراف، وهم الذين استوت حسناتهم، وسيئاتهم؛ فحبسوا على أعالي السور؛ حتى يقضي الله فيهم حكمه، وفي النهاية: يدخلون الجنة برحمة الله تعالى.

{رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} : رجال: أيْ: أصحاب الأعراف يعرفون كلاً بسيماهم، يعرفون كلاً من أصحاب الجنة، وأصحاب النار بسيماهم.

{بِسِيمَاهُمْ} : السيما: العلامة؛ أيْ: بعلاماتهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (273)؛ لمزيد من البيان.

فأصحاب الجنة يعرفون ببياض الوجه؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، ونضرة النعيم:{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]، وأما أصحاب النار: فيعرفون بسواد الوجه، وزرقة العيون.

{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : أن: المخففة؛ تفيد التوكيد، أو قيل: تفسيرية.

{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : ولم يقولوا: السلام عليكم، جاء السلام بصيغة النكرة؛ ليدل على العموم، والشمول، فهو سلام التحية، والأمان، ودوام السلامة، ولتعلم: أن السلام في كل القرآن جاء بصيغة النكرة؛ إلا آية واحدة هي قول عيسى عليه السلام في سورة مريم، آية (33):{وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} .

و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} : جملة اسمية؛ تدل على الثبات، والدوام، وأقوى من لو قالوا:(سلاماً عليكم): جملة فعلية؛ تدل على التجدد، والتكرار، وليس الدوام والثبات، وأما السلام عليكم معرفة؛ فتعني: سلام التحية، المعروف في الإسلام فقط.

{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} : لم يدخل أصحاب الأعراف، لم يدخلوا الجنة مباشرة، وهم يطمعون بدخولها مباشرة، ولكنه لم يحصل ذلك، وهم كانوا يطمعون في دخولها، ولكن حُبسوا على السور (الأعراف).

أو هذا إخبار من الله تعالى عن أصحاب الأعراف، إذا رأوا زمرة تدخل الجنة، يقولون: أن هؤلاء الداخلين لم يدخلوها، وهم يطمعون، ولكن هذه الزمرة دخلت الجنة برحمة الله تعالى، ولم تكن تطمع أن تدخلها، وفي الحقيقة: الكل لا يدخل الجنة إلا برحمة الله، وليس بعمله، والكل يطمع في ذلك.

حتى إبراهيم عليه السلام قال: {وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 8].

ص: 101

سورة الأعراف [7: 47]

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زماني للمستقبل، ومتضمِّن معنى الشرط، وتدل على حتمية الحدوث.

{صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} : تحولت أبصارهم؛ أيْ: أبصار أصحاب الأعراف.

{تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} : أيْ: جهة أصحاب النار، وتلقاء: ظرف مكان، بمعنى: جهة اللقاء، والمقابلة.

{قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : أيْ: ربنا، ولم يقولوا: يا ربنا؛ لأنهم يعلمون: أن الله تعالى قريب إلى العبد، ولم يستعملوا ياء النداء التي تدل على البعد، ربنا جنِّبنا، أو أبعدنا، ولا تصيِّرنا أن نكون مع هؤلاء الظالمين؛ أيْ: أصحاب النار.

ص: 102

سورة الأعراف [7: 48]

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} :

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ} : من أصحاب النار، القادة، ورؤساء الكفر.

قالوا لهؤلاء الكفار: {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} : ما: النافية للحال.

{أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} : أغنى عنكم من النار.

{جَمْعُكُمْ} : نكرة؛ تشمل العدد؛ أيْ: كثرتكم، كثرة عددكم، أو جموعكم، ولا كثرة مالكم، ولا أهلكم، ولا اجتماعكم؛ أي: اجتماعاتكم على الضلال؛ للصدّ عن سبيل الله.

{وَمَا كُنتُمْ} : وما: النافية، وتكرارها؛ لتوكيد النفي، وفصل جمعكم؛ من الاستكبار؛ أيْ: ما أغنى عنكم، لا هذا ولا ذاك، لا جمعكم ولا استكباركم.

{تَسْتَكْبِرُونَ} : عن الإيمان، والطاعة، تستكبرون: ارجع إلى الآية (40) من نفس السورة؛ للبيان.

ص: 103

سورة الأعراف [7: 49]

{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} :

{أَهَؤُلَاءِ} : الهمزة: همزة استفهام، وتوبيخ، والهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة، يشير إلى ضعفاء المسلمين؛ أيْ: يقول أصحاب الأعراف لأصحاب النار: {أَهَؤُلَاءِ} مشيرين إلى ضعفاء المسلمين.

وهناك من المفسرين من قال: إن الله -جل وعلا- ، أو بعض الملائكة يقولون لأصحاب النار:{أَهَؤُلَاءِ} ؛ مشيرين إلى ضعفاء المسلمين، وأصحاب الأعراف معاً.

{الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} : أيْ: حلفتم، والقسم في القرآن يستعمل في سياق الصدق؛ حتى ولو كان الذي يقسم ليس صادقاً، أما الحلف فيأتي في سياق القسم الكاذب، فهم ما كانوا يعتقدون اعتقاداً صحيحاً، ويقسمون على أن الله لن ينال الضعفاء، وفقراء المسلمين برحمة.

{لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} : الرحمة هنا؛ تعني: الجنة، والباء: للإلصاق.

ورحمة: جاءت بصيغة النكرة؛ لتشمل كلَّ أنواع الرحمة، الجنة، ورضوان الله، والطعام، والشراب، والأمن، والخلود، وغيرها.

{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} : هذا هو خطاب من الله سبحانه، أو الحكم الصادر من الله لأصحاب الأعراف، بدخول الجنة.

{لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} : ارجع إلى الآية (38) من سورة البقرة؛ للبيان.

ص: 104

سورة الأعراف [7: 50]

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} :

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} : ارجع إلى الآية (44) من نفس السورة.

{أَنْ} : المخففة؛ تفيد التوكيد، أو تفسيرية.

{أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} : أفيضوا: من أفاض الماء؛ أيْ: صبه، وتعني: أعطونا شيئاً من الماء الكثير؛ الذي أفاضه الله عليكم، أو {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: أيْ: من الطعام الكثير، وذلك؛ لما يعانيه أهل النار: من الجوع، والعطش، وأنواع العذاب الأخرى، مثل: السعير، والزمهرير، وغيرها.

{قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} : قالوا؛ أيْ: أصحاب الجنة لأصحاب النار.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{حَرَّمَهُمَا} : أي: الطعام، والشراب على الكافرين.

ص: 105

سورة الأعراف [7: 51]

{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} :

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{اتَّخَذُوا} : من اتخذ، من أفعال التحويل، والتصيير، والاتخاذ: فيه معنى الاستمرار، والتعب، والمشقة.

{دِينَهُمْ} : الدِّين: هو ما يطاع به المعبود، ويشمل الشريعة، والعقيدة، والمنهج، والجزاء.

{لَهْوًا وَلَعِبًا} : اللهو: هو كل شغل يُلهي عن واجب؛ يعني: أهملوا واجباتهم وعطَّلوها: بالأغاني، والموسيقا، والأفلام، واللهو، والعبث: هو الذي يشغل الإنسان عن تطبيق شرائع الله؛ مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام.

{وَلَعِبًا} : اللعب: شغل لا يُلهي عن واجب، وقد يتحول اللعب إلى لهو إذا شُغل العبد عن واجب، تلاعبوا بدينهم الذي شرع الله لهم، فأحلوا، أو حرموا حسب أهوائهم؛ فجعلوا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، واستهزؤوا بالله، وآياته، ورسله، أو انتحلوا العقائد الباطلة. ارجع إلى سورة الأنعام آية (32)، وسورة العنكبوت آية (64) للمقارنة ومزيد من البيان.

{وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} : أيْ: خدعتهم شهواتها، وكثرة المال، والعرض، والمتاع، والقوة، وطول العمر، وحسن العيش، والمكانة، أو الجاه

وغيرها.

{فَالْيَوْمَ} : الفاء: للتوكيد، اليوم: أيْ: يوم القيامة دل على ذلك معنى التشبيه.

{نَنسَاهُمْ} : أيْ: نتركهم في النار، ولا نذكرهم، والنسيان؛ يعني: الإهمال والترك.

وحاشا لله أن ينسى، أو يتصف بالنسيان، وإنما هو على قبيل المشاكلة في اللفظ.

{كَمَا} : الكاف: للتشبيه، أو التعليل، وما: مصدرية.

{نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} : نسوا لقاء ربهم في هذا اليوم، ولم يستعدوا له.

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: للتوكيد. ويدل ذلك على حرمانهم من رحمة الله؛ لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون.

{كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} : الجحود: هو أخص من الإنكار، وهو إنكار الشيء الظاهر، أو الشيء المعلوم؛ مثل: إنكار الآيات الواضحة، والظاهرة للعيان، أو إنكار الشيء مع العلم به؛ أي: لا يصدقون.

وأما الإنكار: فهو إنكار الشيء الخفي غالباً، وأحياناً الشيء الظاهر، والإنكار أعم من الجحود، مثل: إنكار النِّعمة، ويكون مع العلم، وغير العلم بالشيء، أو النِّعمة؛ كقوله تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83].

ص: 106

سورة الأعراف [7: 52]

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، وزيادة التوكيد.

{جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ} : جئناهم: تعود على الكافرين؛ الذين اتخذوا دِينهم لهواً ولعباً، وغرتهم الحياة الدنيا.

{بِكِتَابٍ} : الباء: للإلصاق، والاستمرار، كتاب: أيْ: بالقرآن الكريم.

{فَصَّلْنَاهُ} : فصّلنا؛ أيْ: بيَّنَّا آياته، جئنا بها بصور شتى ومختلفة، وبيَّنَّا أحكامه، ومعانيه، ومواعظه، وقصصه.

{عَلَى عِلْمٍ} على: تعني: العلو، والسمو. علم: أيْ: على علم تامٍّ من الله بما فصل، وأحكم، وبيَّن، علم اليقين.

{هُدًى} : مصدر للهداية؛ فهو الهدى، يهدي إلى الحق، وللوصول إلى الغاية، وهي رضوان الله وطاعته.

{وَرَحْمَةً} : مصدر لجلب كل ما ينفع الإنسان في دنياه، وآخرته؛ أيْ: مصدر لجلب النِّعم، ودفع الضرر، يدفع عنه ما يضره في دنياه، وآخرته.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: هدى، ورحمة؛ لمن يؤمن به، ويعمل بأحكامه.

ص: 107

سورة الأعراف [7: 53]

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} :

{هَلْ} : للاستفهام؛ تفيد النفي؛ أيْ: ما ينظرون.

{يَنْظُرُونَ} : أي: ينتظرون، وكيف ينظرون وفي الآية (51) كانوا يجحدون به فهذا الانتظار ليس انتظار لقدومه، وإنما انتظار لما سينتج عنه من عاقبة.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{تَأْوِيلَهُ} : التأويل: هو ما يؤول إليه الشيء؛ أي: العاقبة، أو النتيجة، أو صدق ما أُخبر به: من الوعد، والوعيد؛ أيْ: ما ينظرون عاقبة ما أنذروا به، أو بُشِّروا به؛ إلا أن أتتهم فجأة وبغتة.

{يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} : أيْ: يوم القيامة، تتبيَّن لهم الحقيقة، وينكشف لهم الغطاء عن صدق ما أنذروا به.

{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} : نسوه: الهاء: تعود إلى الكتاب (القرآن)، ونسوه؛ بمعنى: تركوه، وأهملوه، ولم يؤمنوا به، من قبل: أيْ: في الدنيا.

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا} : ولم يقل: قد جاء رسل ربنا.

{جَاءَتْ} : بالتأنيث؛ للدلالة على كثرة الرسل؛ الذين جاؤوهم، ومجيء رسول واحد كمجيء كل الرسل؛ لأنهم أصحاب رسالة واحدة.

{بِالْحَقِّ} : الباء: للإلصاق.

{بِالْحَقِّ} : بالوحي، والصدق، والحق: هو الأمر الثابت؛ الذي لا يتغير، أو يتبدل، ويعني: البعث، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار.

{فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} : الفاء: للتوكيد، هل: استفهام؛ للتمني.

{شُفَعَاءَ} : جمع: شافع، و شفيع.

{فَيَشْفَعُوا} : الفاء: للتوكيد، يشفعوا لنا عند الله تعالى؛ للنجاة من عذاب النار. ارجع إلى سورة النساء، آية (85).

{أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ} : أيْ: نعود نرجع إلى الدنيا، والرد يختلف عن الرجوع، فالرد فيه معنى الإجبار على الرجوع، أو الإكراه، وفيه سهولة مقارنة بالرجوع الذي فيه الاختيار والصعوبة، والعودة إلى نفس المكان، أو الحالة التي انطلق منها.

{فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} : فنعمل: الفاء: للتعقيب والمباشرة، غير الذي كنا نعمل: أيْ: سابقاً من المعاصي، والشرك، والفساد، فهم يتمنون الخلاص بأي وسيلة، بالشفاعة، أو العودة إلى الدنيا.

وقد بيَّن الله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].

{قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} : قد: للتحقيق، والتوكيد، خسروا أنفسهم: خسروها بأن أدخلوها النار، وأهلكوها في جهنم.

{وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} : غاب وتاه عنهم، ولم يحضر شفعاؤهم، أو أولياؤهم؛ لنصرتهم، ومساعدتهم، كما كانوا يفترون في الدنيا: بأن الآلهة ستقرِّبهم عند الله زلفى، أو تشفع لهم.

{مَا} : أي: الذي، أو مصدرية.

{يَفْتَرُونَ} : الافتراء: هو الكذب؛ المتعمد، المختلق. وجاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدد، والتكرار في الافتراء، وكذبهم.

ص: 108

سورة الأعراف [7: 54]

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :

{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد.

{رَبَّكُمُ اللَّهُ} : أي: إن إلهكم وربكم جمع الألوهية والربوبية معاً؛ الذي خلق السموات والأرض، أو حينما يقول: إن ربكم الله ما سيأتي بعد ذلك سيشهد على ألوهية الله، وربوبيَّته، ووحدانيَّته، وأنه هو الإله الحق؛ الذي يستحق أن يعبد؛ فهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، هذه الستة أيام لا تعني مثل أيامنا الحالية، وإنما هي أيام لا يعلم طولها إلا الله تعالى، قد يكون طول كل دقيقة ملايين الأيام، أو تعني: ست مراحل، قد يكون طول كل مرحلة مئات الملايين من السنين؛ فالله سبحانه بدأ خلق السماء والأرض معاً في لحظة واحدة، ثم أتى الخلق في ستة أيام أو ستة مراحل، وهي:

1 -

مرحلة الرتق.

2 -

مرحلة الفتق (الانفجار، والدخان).

3 -

مرحلة التمييز أو التسوية: فسواهنَّ سبع أرضين وسبع سموات في نفس الزمن.

4 -

مرحلة الدحو، وتكون الغلاف المائي، والغازي للأرض.

5 -

مرحلة خلق الجبال، وتكوين الأنهار.

6 -

مرحلة تقدير الأقوات. ارجع إلى سورة البقرة، آية (22، 29)، وسورة الأنبياء، آية (30)؛ لمزيد من البيان.

{يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} : يُغشي: يغطي، ويستر بأن يتداخل كل بالآخر، يذهب نور النهار، فيحل مكانه ظلام الليل، ثم يحل محل الظلام النور.

{حَثِيثًا} : مسرعاً، أو بسرعة، وهذا ما حدث عندما كانت سرعة دوران الأرض حول محورها ستة أضعاف سرعتها الحالية، وكان طول الليل والنهار معاً يقدر بـ (4ساعات) فقط، وكان عدد أيام السنة (2200يوم)، وكان ذلك في بدء الخلق، ثم تباطأ دوران الأرض حول محورها؛ بسبب المد، والجزر، وظهور الرياح الشرقية المعارضة لدوران الأرض، وأصبح الليل والنهار (24ساعة)، ودلت على ذلك الدراسات على الأشجار، وجذوعها؛ فوجدوا أنه كلما تقادم الزمن؛ ازدادت الأيام، وقصر الليل والنهار، وتبيَّن ذلك من دراسة حلقات النمو في جذوع الأشجار، والصخور

وغيرها.

{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} : التسخير؛ يعني: التذليل؛ أي: خاضعات لأمر الله، ومذللات؛ للانتفاع بها.

فسخر الشمس؛ لمعرفة الزمن، ولتعطينا حزمة الطيف المرئي الذي يشكل لنا نور النهار، ولتزودنا بالطاقة، والدفء

وغيرها من الفوائد.

وأما القمر: فينير لنا الأرض؛ لكونه يعكس لنا أشعة الشمس، ويفيدنا في عملية المد والجزر المهمة في إبطاء دورة الأرض حول محورها، وفي تفتيت الصخور، وتلطيف المناخ، وحركة الرياح

وغيرها.

وأما النجوم: فللاقتداء بها، والاهتداء بها، وزينة، ورجوماً للشياطين.

{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} :

{أَلَا} : أداة تنبيه؛ ليلفت انتباه السامع ويُنصت.

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر، والقصر.

{الْخَلْقُ} : الكون، وجميع ما خلق خاضع لأمره، وحكمه عز وجل ؛ أي: لا يأمر في ذلك اليوم إلا الله؛ فهو الحاكم والآمر.

{وَالْأَمْرُ} : وله الشأن كله، يعني: التدبير، والتصرف حسب إرادته، وحكمته جل جلاله .

{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} : تعاظم، وتنزه عن كل نقص، وكثر إحسانه، وعظمت قدرته. ارجع إلى سورة الملك آية (1) لمزيد من البيان.

ص: 109

سورة الأعراف [7: 55]

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} :

{ادْعُوا رَبَّكُمْ} : سلوا ربكم حوائجكم.

{تَضَرُّعًا} : بتذلل؛ أيْ: إظهار ذل النفس، وخضوعها له، والضراعة: هي الذلة.

{وَخُفْيَةً} : بضم الخاء سراً، أو بالخفاء؛ لتجنب الرياء، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (205) في نفس السورة وهي قوله تعالى:{تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} خِيفة: بكسر الخاء من الخوف، نجد أن الآية (55) تعني: ادعوا ربكم في الخفاء، والآية (205) ادعوا ربكم بشيء من الخشية (الخوف والتعظيم والعلم)، وإذا نظرنا إلى الآية (56) في نفس السورة فهي تحث أيضاً على دعائه {خَوْفًا وَطَمَعًا} .

{إِنَّهُ} : للتوكيد.

{لَا} : النافية.

{يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} : أيْ: لا تعدوا في دعائكم؛ لأنه لا يحب المعتدين في الدعاء؛ أيْ: بالصياح، ورفع الصوت، أو الدعاء بأشياء مستحيلة؛ كأنه يدعوه أن يصبح نبياً، أو رسولاً، أو يخلد في الدنيا.

ص: 110

سورة الأعراف [7: 56]

{وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} :

{وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ} : الفساد في الأرض: بالقتل، والظلم، والتخريب، وإهلاك الحرث والنسل، وتكذيب الرسل، والمعاصي، والشرك، والكفر بعد إصلاحها.

{وَادْعُوهُ خَوْفًا} : خوفاً من صفات جبروته، وقهره، وغضبه وسخطه.

{وَطَمَعًا} : الطمع: هو الرغبة الشديدة في توقع الخير في غفرانه، ورحمته، وفضله، وطمعاً في الاستجابة لدعائكم، وخوفاً من أن يردَّ دعاءَكم.

{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} : إن: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد.

{رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} : ولم يقل: قريبة بصيغة المؤنث، وإنما قريب بصيغة المذكر، ويجوز في اللغة تذكير أو تأنيث قريب إذا لم يكن القرب في سياق النسب عندها لا بد من القول قريبة، ولو قال: رحمة الله قريبة؛ لدل على ذلك على أن رحمته فقط هي القريبة من المحسنين.

ولكن قال جل جلاله : {قَرِيبٌ} : تعود على ذات الله سبحانه؛ أيْ: إنه -جل وعلا- هو قريب بذاته، وبالتالي رحمته؛ التي هي جزء من ذاته، قريبة كذلك، وبذلك يكون المعنى: أن الله سبحانه بذاته المشتملة على الرحمة قريب من المحسنين، جمع بين قربَهُ وقُرب رحمته معاً، بدلاً من أن يقول: إن رحمة الله قريبة، والله قريب، جمع ذلك، وأوجز.

ص: 111

سورة الأعراف [7: 57]

{وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} :

هذه الآية: تتمة للآية السابقة، ومن رحمته يرسل الرياح؛ لتحمل السحب، وتقوم على تلقيحها، والسحاب الثقال: هي التي تبشر بالمطر؛ أي: السحب الركامية.

{وَهُوَ} : الواو: عاطفة، هو: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد، والقصر على الله سبحانه وحده الذي يرسل الرياح.

{يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} : يرسل: بلفظ المستقبل؛ لأنه سبق ذلك قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} ، والدعاء والطمع يكون في المستقبل؛ أي: ليناسب ما قبله بشراً؛ أيْ: تبشر بالمطر. ارجع إلى سورة النحل آية (89) لمزيد من البيان في معنى بشراً.

{رَحْمَتِهِ} : هنا: هو المطر؛ ولنعلم أن كلمة الرياح في القرآن أينما ذكرت؛ فإنها تحمل معنى الخير، والنِّعمة، بعكس كلمة الريح في القرآن؛ التي تحمل معنى الشر، والنقمة.

{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} : حتى: حرف نهاية الغاية.

{أَقَلَّتْ} : أي: الرياح، لها معنيان: الأول: أقلَّت: من القلة ضد الكثرة، أقل وزناً، والثاني: حملت، فالرياح تحمل السحاب بأنواعه المختلفة، ورغم أن الرياح أقل وزناً من السحب؛ فهي قادرة على حمل السحب الركامية؛ حتى ولو كان وزن السحب آلاف وملايين الأطنان، وهذه آية من آيات قدرة الله تعالى يجعل الأقل وزناً يحمل أكثر وزناً؛ كمثل الإنسان الذي يحمل الأثقال وزنه (150-200كغ) يرفع (400-500كغ).

{سَحَابًا} : اسم جنس، والسحب، أو السحاب: جمع سحابة.

ولذلك قال: {سُقْنَاهُ} ، يعود على {سَحَابًا ثِقَالًا} ، ولم يقل: سقناها: تعود على الرياح.

{لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} : لبلد: واللام: لام التعليل، ميِّت: بتشديد الياء مُجدِب، ليس فيه نبات؛ أي: ما زالت على قيد الحياة، وستموت إذا لم يصلها الماء. ارجع إلى سورة الفرقان آية (49) لمزيد من البيان، والفرق بين ميِّت وميْت.

{فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} : الفاء: تدل على التعقيب، والترتيب، والمباشرة.

في هذه الآية: يتحدث سبحانه عن دورة الماء على الأرض، فأشعة الشمس تبخر الماء من البحار، والمحيطات، والأنهار

وغيرها، ويرسل الله رياحاً؛ لتحمل هذا البخار، وتتشكل السحب التي لا تمطر؛ حتى يرسل إليها ريحاً أخرى تحمل هباءات الغبار التي تلقح السحاب؛ أيْ: بخار الماء الذي تبخر من الأرض، ويبدأ بخار الماء بالتكثف؛ فتتكون قطرات الماء؛ فينزل المطر بالقدر الذي يشاء الله جل جلاله ، وفي المكان، والزمن الذي يشاء الله -جل وعلا- .

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} : أخرجنا بالماء، أو المطر، من كل الثمرات: من: استغراقية، فحين يدخل الماء في البذرة، أو الحبة؛ تبدأ البذرة تنمو، وتتغذَّى بالجذر من عناصر، أو مركبات التربة، وكل بذرة قادرة على اختيار ما يلائمها من العناصر، ومركبات الأرض، والشفرة الوراثية الموجودة داخل البذرة تختار هذه العناصر؛ لتشكل الثمار المختلف ألوانها، وشكلها، وطعمها.

{كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : أيْ: كما أحيينا هذا البلد الميت بالمطر، أو الماء؛ نحيي الموتى بالبعث، بإرسال عليهم مطراً؛ فينبت به أعجاز الذنب، وبالتالي الناس يخرجون من قبورهم. ارجع إلى سورة الروم، آية (19)؛ للبيان المفصل.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : لعلَّ: أداة تعليل.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} : قدرة الله سبحانه هذه، ورحمته مرة أخرى، ولا تنسوها؛ إنه قادر على بعثكم، وحسابكم، لنقارن هذه الآية (57) من سورة الأعراف، والتي يقول فيها جل جلاله :{وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} : جاءت بصيغة المضارع، مع الآيات الأخرى في سورة الروم، آية (48)، وفي سورة الفرقان، آية (48)، وسورة فاطر، آية (9): فكلها جاءت بصيغة الماضي أرسل الرياح.

فالسياق هو الذي يحدد، فحينما يستعمل صيغة المضارع (يرسل): نجد الآيات السابقة لتلك الآية تتحدث بصيغة المضارع.

وحينما يستعمل صيغة الماضي (أرسل): نجد الآيات الأخرى، أو السابقة تتحدث عن الماضي.

إذن السياق هو السبب في الاختلاف بين الآيات أحياناً.

ص: 112

سورة الأعراف [7: 58]

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} :

{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} : الواو: عاطفة، أي: البلد، طيب التربة، البلد ذو التربة الخصبة.

{يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} : وذلك بعد إنزال المطر على تربته الخصبة، يخرج زرعاً بإذن ربه، وهذا مثل العبد الذي هو يمثل التربة الطيبة بعد إنزال الماء عليها؛ أيْ: بعد سماع آيات ربه، يزداد إيمانه، وتكثر أعماله الصالحة.

{وَالَّذِى خَبُثَ} : أيْ: والبلد الذي خبث؛ تربته خبيثة، غير صالحة للزراعة، فمهما نزل عليها الماء؛ فلا تستفيد من المطر، ولا يخرج نباته إلّا نكداً، وهذا يمثل العبد الخبيث الذي لا يتعظ بسماع آيات الله، أو بأي موعظة إيمانية.

{لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} : أيْ: لا يخرج إلَّا بصعوبة، ومشقة، وعُسر، وإذا خرج؛ خرج قليلاً، لا ينتفع منه، ويقال: إنسان نكد؛ أيْ: طباعه عسيرة، يصعب الحديث معه، وهو شؤم.

ويقال: نكدت البئر: أيْ: قلَّ ماؤها، والأرض الخبيثة، والجدباء، تشبه الكافر؛ الذي لا ينتفع بآيات ربه، ولا بالقرآن، ولا بالموعظة الحسنة، فيكون عمله بالتالي غير صالح، وخبيثاً يضر، ولا ينفع، وعمله قليل على كل حال؛ كالبئر المنكدرة.

{كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} : كذلك نبيِّن الآيات جمع آية؛ يصرفها؛ أي: يغيرها ويأتي بها بصور مختلفة وأساليب مختلفة، ويكررها بصور شتى؛ لكي يتبيَّن لكم المعنى الحقيقي، والخفي، والوصول إلى الحقيقة مثال تصريف الرياح.

{لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} : اللام: لام لاختصاص؛ لعلَّ المؤمنين يتذكرون نعم الله عليهم؛ فيشكرونه عز وجل عليها. ارجع إلى الآية (10) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان في معنى يشكرون.

ص: 113

سورة الأعراف [7: 59]

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} :

{لَقَدْ} اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أيْ: قد تحقق ما سيخبر الله تعالى به، ونجد لقد جاءت في هذه الآية بدون الواو كقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} كما في سورة هود آية (25)، وسورة المؤمنون آية (23)؛ لأن الآية (59) في الأعراف لم يسبق أي حديث، أو ذكر عن الأنبياء، أو الرسل، وأما بقية الآيات سبقها ذكر أو دعوة للأنبياء أو الرسل.

{أَرْسَلْنَا نُوحًا} : ذكر اسم نوح عليه السلام في ثلاث وأربعين آية في القرآن الكريم، وذكرت قصته في كثير من السور؛ مثل: سورة هود، ونوح، والأعراف، والمؤمنون، والشعراء، والقمر

وغيرها، فلا يظنّ القارئ أنها تكرار، وإنما تبرز كل سورة ناحية، أو جانباً من جوانب سيرته، ودعوته لقومه، وموقف قومه، وصناعته للفلك، والطوفان، ونجاة من آمن معه.

{أَرْسَلْنَا} : الإرسال يكون برسالة، والبعث يكون برسالة، أو بغير رسالة، والإرسال: ليس فيه إثارة، وتهيج، كما هو الحال في البعث: الذي فيه إثارة، وتهيج، والإرسال: أقل قوة، وشدة من البعث. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لبيان الفرق.

{فَقَالَ} : الفاء: تدل على الترتيب، والتعقيب، والفاء: تدل على الاستمرار في الدعوة، والإلحاح، والمتابعة.

{يَاقَوْمِ} : يا: أداة نداء، يا قوم: نداء فيه تحبب.

{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : إذ كان قومه يعبدون أصناماً كثيرة ذكرت في سورة نوح، مثل: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا.

{إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : يدل هذا القول على أن نوحاً عليه السلام ؛ كان عنده علم بالعذاب الذي سينزل على قومه، إذا لم يؤمنوا، ويظهر حرصه، وإشفاقه عليهم، وعلم ذلك؛ لأنه طلب منه أن يصنع الفلك بأعيننا.

{إِنِّى} : إنَّ: يفيد التوكيد.

{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : يوم الطوفان، أو يومَ القيامة.

ص: 114

سورة الأعراف [7: 60]

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} :

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} : الملأ: هم أشراف القوم، وسادتهم، ولم يقل: الملأ الذين كفروا من قومه؛ لأن قول: الملأ هذا كان في بداية الدعوة، ولم يكن هناك أي مؤمن بنوح عليه السلام ، حتى ذلك الزمن، وأما لو قال الملأ الذين كفروا من قومه: يعني أن هناك أشراف أو ملأ من قومه آمن وقال الذين كفروا.

{إِنَّا لَنَرَاكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : إنا: للجمع، والتعظيم، لنراك: اللام: لام التوكيد، نراك: نجدك؛ أيْ: نعتقد، رؤية قلبية، وبصرية.

{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : الضلال: الانحراف عن الحق؛ أيْ: تائه، وبعيد عن الصواب؛ أيْ: أنت مجرد تائه، ضال، والضلال: اسم جنس يشمل الضلالات كلها، ويعني الضلال الكثير، أو القليل أما الضلالة تفيد (اسم مرة)؛ أي: شيء قليل من الضلال.

{فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : واضح، ومكشوف لكل واحد، ولا يحتاج أن تبيِّنه؛ فهو بائن، وظاهر، ولا يحتاج إلى برهان؛ لأنه عليه السلام كان يدعوا إلى عبادة الله وحده.

{فِى} : تفيد الطرفين؛ كأن الضلال محيط بنوح عليه السلام من كل جانب، ومنغمس فيه من قبل.

ص: 115

سورة الأعراف [7: 61]

{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{قَالَ} : نوح مدافعاً عن نفسه.

{لَيْسَ بِى} : ليس: حرف نفي.

{بِى} : الباء: للإلصاق ولم يقل ليس في؛ في: ظرفية تفيد الإحاطة به من كل جانب أو الانغماس في الضلال؛ حتى ضلالة واحدة، رداً على قولهم:{لَنَرَاكَ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} : منغمساً في الضلال والبعد عن الصواب والحق؛ لأن نوحاً عليه السلام يعلم ما جاء به هو من عند الله سبحانه؛ فهو ينفي من كون الضلال لاصق به.

فقال عليه السلام : {لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ} : ضلالة: اسم مرة، بينما في ضلال مبين: ضلال اسم مصدر؛ أي: ليس بي أيُّ أي ضلالة. استبدال المصدر باسم المرة (ضلالة) للمبالغة في نفي الضلال عنه؛ أي: ليس بي أقل ضلالة.

{وَلَكِنِّى} : لكن: حرف استدراك، وتوكيد.

{رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : رسول مرسل من رب العالمين؛ أي: الرب الذي خلقكم، ورزقكم، وتولى تربيتكم.

ص: 116

سورة الأعراف [7: 62]

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} :

{أُبَلِّغُكُمْ} : من البلاغ، والبلاغ: هو إيصال ما أوحى إليَّ ربي من الأوامر، والنواهي، والبشائر، والنذر.

{رِسَالَاتِ رَبِّى} : رسالات: جمع رسالة فهي ليست رسالة واحدة كما قال تعالى على لسان صالح في الآية (79) في نفس السورة وهي قوله تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى} ورسالات تعني: في التوحيد، والعبادات، والأوامر، والنواهي، والعقيدة، وأمور الدِّين.

{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} : النصح: هو إخلاص القول، والعمل من كل شائبة؛ أيْ: أرشدكم، وأدلكم على مصلحتكم، أو ما فيه الخير لكم.

{لَكُمْ} : اللام: مبالغة في النصح، ولكم خاصَّةً.

{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} : جملة فعلية؛ تدل على التجدد، والاستمرار، وتكرار النصح، والإرشاد.

{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} : بما أخبرني الله -جل وعلا- عن طريق الوحي، من تفاصيل في أمور الدِّين، والوحدانية، والأحكام، والشرائع، والنجاة، والهلاك.

ص: 117

سورة الأعراف [7: 63]

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :

{أَوَعَجِبْتُمْ} : الهمزة: استفهام إنكاري، والواو: للتقرير.

{أَنْ} : حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.

{جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} : ذكر بيان، أو موعظة، أو رسالة، أو تعاليم.

{عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ} : على لسان رجل منكم، تعرفونه، ويعرفكم، وليس غريباً عنكم.

{لِيُنذِرَكُمْ} : اللام: للتوكيد، أو للتعليل، والإنذار فيه إعلام، وتحذير من العذاب إن لم تؤمنوا.

{وَلِتَتَّقُوا} : اللام: للتعليل، تتقوا: أيْ: تطيعوا أوامر الله، وتتجنبوا ما نهى عنه؛ كي تتقوا النار، وتتقوا غضب ربكم وجبروته.

{وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : لعلَّكم: لعلَّ: للتعليل، رجاء رحمة ربكم، وذلك بإطاعة أوامره، والأخذ بالأسباب الأخرى؛ للرحمة، وطلب العون منه، لعلَّكم ترحمون بعدها. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (8)؛ لمزيد من البيان.

ص: 118

سورة الأعراف [7: 64]

{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} :

{فَكَذَّبُوهُ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، كذبوه: بمجرد ما بدأ يدعوهم؛ لم يصدقوه، ولم يؤمنوا بما جاء به.

{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، وأنجيناه: تدل على السرعة في النجاة، والشدة، وقدم فأنجيناه على أغرقنا للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السامعين مع أن الإغراق بدأ أولاً.

{وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ} : الفلك: السفينة. والذين معه: ولم يقل: ومن معه؛ لأن (الذين): تدل على الكثرة، أكثر من كلمة معه؛ لوحدها التي تدل على القلة. وقيل: كانوا حوالي (70)، أو أقل من ذلك.

{وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} : أيْ: قوم نوح الذين ذهبت بصيرتهم؛ لأن عَمَى البصيرة أشد وأبلغ من عَمَى البصر.

{عَمِينَ} : جمع عمٍ صفة مشبهة من عَمَى يعْمَى، أصله عَمِيَ حذفت الياء؛ لأنه اسم منقوص، وعمين أصله عميين بياءين؛ حذفت إحداهما؛ لالتقاء الساكنين، وعمين: يدل على أنه عمًى ثابت.

ص: 119

سورة الأعراف [7: 65]

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} :

{وَإِلَى عَادٍ} : أيْ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، وكذلك أرسلنا {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} .

كلمة أخاهم: تشعر بأنه من جنسهم، وليس أجنبياً عنهم، وتعطي الشعور بالأنس.

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} : كان هود على علم بما حدث بقوم نوح عليه السلام ؛ فقوم عاد: هم بقية من قوم نوح الذين عادوا إلى مكة بعد الطوفان، وبعد أن تكاثروا؛ نزحوا إلى جنوب الجزيرة العربية، وسكنوا الأحقاف.

{أَفَلَا} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري. ألا: أداة حضٍّ، وتعريض، يحضُّهم على التقوى، وكذلك:{أَفَلَا تَتَّقُونَ} : من العذاب، وما حل بقوم نوح عليه السلام ، ولم يقل: فقال؛ لأن دعوته لهم كانت ليست بإلحاح، واستمرار، كما في دعوة نوح عليه السلام .

ص: 120

سورة الأعراف [7: 66]

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} :

{قَالَ الْمَلَأُ} : أشراف القوم الذين كفروا، وهناك الملأ الذين لم يكفروا.

{إِنَّا} : للجمع والتعظيم.

{لَنَرَاكَ} : اللام: لام التوكيد.

{فِى سَفَاهَةٍ} : طيش، وسخافة، وقلة عقل، وجهالة؛ إذ تركت دِين آبائك إلى دِين آخر.

{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} : وتكرار (إنا): للتوكيد، واللام في لنظنك: لام التوكيد. الظن: هو رجحان كفة الإثبات على كفة النفي؛ أيْ: نتصور أو نعتقد: إنك من الكاذبين.

ص: 121

سورة الأعراف [7: 67]

{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

قوله: {يَاقَوْمِ} : بعد أن اتهموه بالسفاهة، والكذب جاء رده عليهم بأدب، وخلق حسن، بنفي السفاهة عنه، وأنه رسول مرسل من رب العالمين.

لنقارن هذه الآية من سورة الأعراف: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .

بآية أخرى، وهي الآية (186) من سورة الشعراء:{وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} .

نجد أن التكذيب في آية سورة الأعراف أشد من التكذيب في آية سورة الشعراء، ولذلك أكَّد عز وجل بزيادة اللام في كلمة {لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ؛ لأن الكاذبين في آية الأعراف قوم غير القوم الكاذبين في سورة الشعراء.

فالكاذبون في آية الأعراف: هم الملأ الذين كفروا من قوم عاد.

أما الكاذبون، أو المكذبون في آية الشعراء: فهم الذين كفروا من قوم شعيب.

ص: 122

سورة الأعراف [7: 68]

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} :

{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى} : ارجع إلى الآية السابقة (62).

{وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} : ناصح أمين: جملة اسمية؛ تدل على الثبوت، بينما قوله:{وَأَنْصَحُ لَكُمْ} : جملة فعلية؛ تدل على التجدد، والاستمرار، والتكرار؛ لأن هوداً عليه السلام كان أسلوب دعوته غير أسلوب دعوة نوح عليه السلام ، فدعوة هود عليه السلام كانت أقصر من دعوة نوح عليه السلام ، وثابتة مستمرة، بينما دعوة نوح عليه السلام كانت دعوة طويلة، ومتجددة، استمرت (950 سنة).

{لَكُمْ} : اللام: لام الاختصاص. لكم: وحدكم خاصَّةً.

{نَاصِحٌ أَمِينٌ} : ناصح فيما أدعوكم إليه إلى الخير، والنفع، وأريد لكم الفوز والنجاة.

{أَمِينٌ} : على ما أقول لكم، ولا أكذب عليكم.

ص: 123

سورة الأعراف [7: 69]

{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَص ْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} :

ارجع إلى الآية السابقة (63): لم يقل: ولتتقوا ولعلَّكم ترحمون؛ إذ تجاوز عن ذلك، وانتقل إلى التذكير، فقال:{وَاذْكُرُوا إِذْ} : إذ: ظرفية زمانية للماضي؛ بمعنى: حين، وتقديرها أيضاً: واذكروا نعمة ربكم؛ إذ جعلكم خلفاء.

{خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} : خلفاء: جمع خليفة، والخليفة: من خلف غيره، وقام مقامه، أو استخلف في الأمر مكان من كان قبله.

{وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَص ْطَةً} : أيْ: قوة، وعظمة، ولنقارن هذه الآية مع الآية (247) من سورة البقرة:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} : أيْ: طالوت.

انتبه إلى: كيفية كتابة كلمة {بَص ْطَةً} في آية سورة الأعراف، وإلى كلمة {بَسْطَةً} في آية سورة البقرة، فكلمة {بَص ْطَةً} في آية سورة الأعراف بالصاد وكلمة {بَسْطَةً} في آية سورة البقرة بالسين، والصاد: أقوى من السين في اللغة، وتعليل ذلك: أن آية الأعراف: جاءت في سياق قوم عاد، وآية البقرة: جاءت في سياق طالوت وحده، والقوم أقوى من الفرد الذي هو طالوت؛ فاستخدم الصاد للقوم، والسين للفرد (طالوت) وحده.

وكذلك في آية سورة الأعراف {بَص ْطَةً} : مطلقة في الغنى، والسعة، والقوة، والعلم

وغيرها. {بَص ْطَةً} : تشمل كلَّ شيء، بينما في آية سورة البقرة؛ التي تخص طالوت قيدها؛ فهي {بَسْطَةً} فقط بالعلم، والجسم.

{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : فاذكروا: الفاء: للتعقيب، والترتيب، والمباشرة. فاذكروا: فاشكروا.

{آلَاءَ} : مفردها: أَلو، وإلى، وأَلى: نِعَمٌ كثيرة؛ أيْ: اذكروا نعم الله الكثيرة عليكم.

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} : بشكر آلاء الله، واتخاذ الأسباب الأخرى المؤدِّية إلى الفلاح، والدعاء إلى الله.

{لَعَلَّكُمْ} : لعلَّ: للتعليل، والترجي.

{تُفْلِحُونَ} : الفلاح: هو الفوز بالجنة، والنجاة من النار، ارجع إلى الآية (5) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.

ص: 124

سورة الأعراف [7: 70]

{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{قَالُوا أَجِئْتَنَا} : الهمزة: استفهام إنكاري.

{لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} : اللام: لام التعليل.

{لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} : أيْ: نترك، ونهجر ما يعبد آباؤنا، ونعبد الله وحده؛ أيْ: أتأمرنا بالتوحيد، فنحن نقلِّد آباءنا، ولا يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، وإن كان ربُّك يُنذرنا بالعذاب، وتدل هذه الآية أن عبادتهم الأصنام أمر قديم ومتكرر ومتجدد منهم.

{فَأْتِنَا} : الفاء: تدل على المباشرة؛ فائتنا الآن.

{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} : بما: الباء: للإلصاق، وما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي تعدنا.

{إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : إن: شرطية تدل على الاحتمال؛ احتمال أنك من الصادقين، أو لا نصدق أنك من الصادقين؛ أيْ: نشك في صدقك، أو صدق ما تقول.

ص: 125

سورة الأعراف [7: 71]

{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} :

{قَالَ قَدْ} : هود لقومه. قد: حرف تحقيق، وتوكيد، وتفيد في تقريب الزمن الماضي من الحال.

{وَقَعَ عَلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} : قال: هذا بعد أن يئس من إيمان قومه، وبعد أن تحدوه، وقالوا: فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين؛ فجاءه الوحي من ربه: أن أبلغهم قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب.

انتبه! إلى قوله: {قَدْ وَقَعَ} : ولم يقل: سيقع في المستقبل، وقع: فعل ماضٍ، وهود لا يزال يُعْلمهُمْ، وينذرهم؛ لأن كلام الله سبحانه لا يحده زمان، ولا مكان، سواء ماضياً كان، أم حاضراً، أم مستقبلاً؛ أيْ: سيقع لا محالة، عاجلاً أم آجلاً؛ أي: اعتبروا أن وقوعه قد حدث فعلاً.

{عَلَيْكُم مِنْ رَّبِّكُمْ} : تقديم عليكم: يفيد الحصر، من ربكم وحده، وليس من غيره.

{رِجْسٌ} : عذاب من الارتجاس، وهو الاضطراب، ويعني: العذاب، كما ذكر في الآيات الأخرى: بالريح العقيم (الذاريات آية 41)، أو الريح الصرصر العاتية (الحاقة آية 6)؛ ارجع إلى سورة البقرة آية (59) للبيان المفصل في الرجز والرجس.

{وَغَضَبٌ} : هو انتقاض أو تغير الطبع الذي يظهر على الجوارح ويختلف عن السخط الذي هو شدة الكراهية وعدم الرضا. انظر كيف أخر الغضب وقدم الرجس للتهديد والوعيد ولعلهم يتوبون إلى الله.

{أَتُجَادِلُونَنِى} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري. تجادلونني: المجادلة: الجدال؛ يعني: الحوار، والمخاصمة، لإظهار الحُجَّة، ودفع الشبهة.

{أَتُجَادِلُونَنِى فِى أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} : أتجادلونني: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، والنون: لزيادة التوكيد، في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهةً، وهي في الحقيقة مجرد أسماء لا غير.

{مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} : قيل: الحُجة القوية الواضحة وكلمة سلطان: مشتقة من السليط، وعند العرب السليط؛ يعني: الزيت، أو دهن السمسم، وكانوا يستعملون الزيت في القديم؛ لإضاءة السُّرج؛ أي: السلطان نور، أو حُجَّة تنير طريق الحق.

والسلطان: يقسم إلى: سلطان قوة، وقهر، أو سلطان حُجَّة، وبرهان؛ أيْ: ماذا نزل عليكم من حُجَّة، أو برهان، أو قوة تثبت أنها تستحق العبادة، أو هي آلهة كما تزعمون.

وقوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} : فيها توكيد أشد، وأبلغ من قوله:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . [يوسف: 40].

{فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} : ثمّ هددهم بقوله: {فَانتَظِرُوا} : نزول العذاب من الله، والفاء: للتوكيد، {إِنِّى مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} .

ص: 126

سورة الأعراف [7: 72]

{فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} :

{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، أنجيناه: تعني: بسرعة، وقوة، وشدة، ولم يقل: نجيناه التي تدل على البطء، والزمن الطويل، أنجيناه من الريح المدمرة العقيم.

{وَالَّذِينَ مَعَهُ} : الذين: تعني: العدد أكبر، مقارنة بقوله: ومن معه، من معه: تعني: الواحد، أو الاثنين، أو أكثر.

{بِرَحْمَةٍ مِنَّا} : الباء: للإلصاق، ولم يقل: برحمة من عندنا، بل:{بِرَحْمَةٍ مِنَّا} ؛ تعني: رحمة عامة للناس، رحمة من عندنا: تعني رحمة خاصَّةً بالمؤمنين، أو رحمة من لدنا، وهي أفضل وأقرب الرحمات خاصَّةً بأولياء الله.

{وَقَطَعْنَا دَابِرَ} : وقطع: القطع؛ يعني: الاستئصال التام، دابر القوم: الدابر التابع من الخلف، دابر القوم، آخرهم بالمجيء، المراد بذلك: استُؤصلوا بالعذاب استئصالاً عن بكرة أبيهم، لم ينجُ منهم أحد.

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : الذين لم يصدِّقوا بها، وجحدوا بها.

{وَمَا} : النافية.

{كَانُوا مُؤْمِنِينَ} : توكيد لتكذيبهم، وعدم إيمانهم، ولم يبيِّن كيف حدث الاستئصال في هذه الآية، وإنما بيِّنه في آية أخرى، فقال:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24-25].

ص: 127

سورة الأعراف [7: 73]

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} : أيْ: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً.

{ثَمُودَ} : قبيلة عربية، كانت تسكن الحجر، بين الحجاز والشام، وهم من بقايا قوم عاد، ويسمون عاداً الثانية.

وقوله: {أَخَاهُمْ} : تدل على أن صالحاً كان منهم، وكان معروفاً، ومألوفاً عند قوم ثمود، وأطلق عليهم قوم ثمود باسم جدهم، ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح.

{قَالَ يَاقَوْمِ} : يا: النداء، وتدل على التحبب لقومه.

{اعْبُدُوا اللَّهَ} : أطيعوا الله، ولا تعصوه، وامتثلوا أوامره. ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (106)؛ لبيان معنى العبادة.

{مَا لَكُمْ} : ما: النافية. لكم: خاصَّةً، اللام: للاختصاص.

{مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : أيْ: لا إله إلا الله.

{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} : هذه: الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة للقريب؛ يشير إلى ناقة الله. لكم: اللام: لام الاختصاص، لكم خاصَّةً.

{آيَةً} : معجزة تدل على قدرة الله سبحانه، وتوحيده.

فقد سألوا صالحاً: أن يخرج لهم من إحدى الصخور ناقة عشراء، وَبْراء؛ أيْ: كثيرة الوبر، يتحرك جنينها بين جنبيها، ثم تلد فصيلاً، وجاءتهم الناقة كما سألوا.

{نَاقَةُ اللَّهِ} : سماها ناقة الله؛ تشريفها لها.

{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} :

{فَذَرُوهَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. ذروها: أي: اتركوها تسرح أينما تشاء.

{تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ} : فقد سمَّى صالح الناقة؛ بناقة الله، وسمَّى الأرض أرض الله، وهذه هي الحقيقة، فكل مخلوق، أو أرض، أو سماء من خلق الله، وملكه.

{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} : لا: الناهية. تمسوها: المس: هو مجرد اللمس، أو أقل للمس.

{بِسُوءٍ} : الباء: للإلصاق، السوء: أعم من القتل، أو العقر أي سوء مهما كان، مثل: الضرب، أو الطرد، أو منعها من الشرب، ولم يقل: ولا تعقروها، أو تقتلوها، بل لا تمسوها بسوء؛ أيْ: أدنى المس، أو الأذى.

{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : الفاء: للتوكيد، يأخذكم: يصيبكم عذاب أليم، وكان هذا الإنذار في بداية الدعوة والتبليغ، أما حين عقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم فأنذرهم إنذاراً آخر في نهاية الدعوة فقال:{تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، فقال:{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]. وفي الشعراء آية (156) قال تعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فهذا وصف لليوم (يوم عظيم) وقد ترجع إلى العذاب أيضاً، فيكون قد وصف العذاب بالأليم القريب العظيم.

ص: 128

سورة الأعراف [7: 74]

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} :

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} : ارجع إلى الآية (69).

{وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ} : بوَّأه منزلاً: أنزله، وهيأ له، مباءة؛ أيْ: بيوت، أو قصور، بوأكم: مشتقة من باء؛ أيْ: رجع؛ لأن الإنسان يخرج من بيته، ثم يعود إليه.

{وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ} : هيَّأ لكم، وأنزلكم منازل في الأرض، أرض الحجر بين الحجاز والشام، في الأردن (وادي القرى).

{تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} : تبنون في بعض سهولها قصوراً.

{وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} : وكأن الجبال كلها تنحتونها بيوتاً من كثرة البيوت التي نحتوها في الجبال؛ فكأن الجبال تحولت إلى بيوت (في المرحلة الثانية).

بينما في آية (82) من سورة الحجر: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} : أيْ: ينحتون من بعض الجبال بيوتاً (من: هنا بعضية).

في المرحلة الأولى: بدؤوا بنحت بعض الجبال بيوتاً، ثم ازداد النحت، وصار الكل يريد أن ينحت له بيتاً في الجبال (المرحلة الثانية).

{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} : الآلاء: النِّعم المتتالية، النِّعمة تلو الأخرى، أو النِّعم العظيمة، مفردها: ألَى، أو إلَى.

{وَلَا تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} : العثو: هو أشد الفساد؛ أيْ: لا تتمادوا في الفساد بالقتل، والشرك، والظلم، في إهلاك الحرث والنسل. ارجع إلى سورة البقرة، آية (251)؛ لمزيد من البيان.

ص: 129

سورة الأعراف [7: 75]

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} :

{قَالَ الْمَلَأُ} : هم السادة، والرؤساء الذين يمثلون القبائل، أو الشعب، أو الأحزاب، وسموا بالملأ؛ لأنهم يملؤون العيون؛ أيْ: تراهم عيون الناس دائماً، سواء في الاجتماعات، أو في أجهزة الإذاعة، أو دوائر الحكومة.

{الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} : السين، والتاء: تدلان على الطلب؛ أيْ: هم ليسوا أهلاً؛ لكي يتكبروا؛ لأنهم لا يملكون أسباب الكبر، أو مؤهلات الكبر. ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} : هذا يدل على أن المستضعفين قسمان: قسم آمن، وقسم استمر في الكفر.

فهناك الذين استكبروا، وهناك الذين استضعفوا، منهم من آمن، ومنهم من بقي على حاله من الكفر، واللام: لام الاختصاص.

{أَتَعْلَمُونَ} : الهمزة: همزة استفهام، وإنكار.

{أَنَّ} : للتوكيد.

{صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} : قالوا ذلك؛ للاستهزاء، والسخرية منه.

{قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} :

{قَالُوا} : أي: المستضعفون الذين آمنوا بصالح.

{إِنَّا} : للجمع، والتفخيم.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، والتوكيد، ما: اسم موصول؛ يعني: الذي أرسل به من ربه (أيْ: برسالته).

{بِهِ مُؤْمِنُونَ} : جملة اسمية؛ تدل على صفة الثبوت؛ أيْ: صفة الإيمان، أصبحت عندهم ثابتة.

أيْ: آمنا به كرسول، وآمنا بما أرسل به.

ص: 130

سورة الأعراف [7: 76]

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} :

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا} : إنا: للجمع، والتفخيم.

{بِالَّذِى آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} : أيْ: إنا برسولكم صالح، وما جاء به؛ كافرون؛ أيْ: جاحدون، لا نؤمن به كرسول، أو بما جاء به، وكافرون: تدل على الثبوت، والاستمرار؛ أيْ: لن نتراجع عن الكفر به، وعدم تصديقه.

ص: 131

سورة الأعراف [7: 77]

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} :

{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، والعقر: هو الذبح، والعقر: هو الجرح، أو قطع عضو من أعضاء الناقة.

والذي يعقر عادة هو فرد واحد، وقال:{فَعَقَرُوا} : لأنهم اشتركوا في المؤامرة، والجرم على عقرها؛ فهم شركاء في الإثم رغم أن الذي عقرها واحد، قيل: هو قدار بن سالف.

وجاءت تفاصيل ذلك في سورة النمل: {وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48-50].

وجاء ذلك في سورة القمر: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ؛ كونهم تنادوا؛ فهم اشتركوا في الجريمة، [القمر: 29].

{وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} : هنا بدأت مرحلة التحدي، بعد مرحلة الكفر {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} ، وما وعدهم صالح؛ إذ عقروا الناقة:{عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]، {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].

ص: 132

سورة الأعراف [7: 78]

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :

{فَأَخَذَتْهُمُ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، أخذتهم الرجفة، وفي سورة هود آية (66) قال سبحانه:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} ، فهناك صيحة، تبعتها رجفة أرضية؛ فالصيحة أشد من الرجفة وأكثر دماراً، والرجفة أشد وأعظم من الزلزلة إذن أصابتهم صيحة، ثم رجفة (زلزلة شديدة) فأصبحوا في ديارهم جاثمين؛ فالصيحة: حينما تصل شدة الصوت إلى أكثر من (70ديسبل) تبدأ الأذن بالانزعاج، وإذا استمرت لفترة طويلة، أو زادت عن (100ديسبل)، واستمرت لفترة قد يصاب الإنسان بالصمم، والانفجارات الشديدة التي أعلى من (140ديسبل) قد تؤدِّي إلى اضطرابات في القلب وتوقفه، وأتبع الصيحة الرجفة التي حدثت من تردد الموجات الصوتية بين صخور الجبال؛ فكان صدى الصوت، وموجاته الشديدة؛ أدَّت إلى أنهم أصبحوا جاثمين في ديارهم؛ بسبب إصابة الجهاز السمعي والعصبي.

{فَأَصْبَحُوا} : الفاء: للمباشرة، والتعقيب.

{فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} : جمع جاثم: هو من لزم مكانه؛ أيْ: تجمد على ما هو عليه، أو لصق بالأرض، وقيل: إن كان واقفاً ظل واقفاً، وإن كان قاعداً مات وهو قاعد، وإن كان نائماً مات وهو نائم؛ أيْ: على هيئته التي كان عليها قبل الصيحة، أو الرجفة.

وهناك فرق بين الجاثي، والجاثم:

فالجاثي: البارك على ركبتيه، من دون القدرة على القيام.

وأما الجاثم: فالميت الذي لا يتحرك، وهو على حالته، كما كان قبل الموت.

{فِى دَارِهِمْ} : دارهم؛ أي: بلادهم، أو بلدهم، وإذا قارنا هذه مع الآية (67) في سورة هود وهي قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ديارهم في هذه الآية تعني: منازلهم، وأما دارهم تعني: بلدهم.

{جَاثِمِينَ} : ميتين، هامدين، لا يتحركون.

ص: 133

سورة الأعراف [7: 79]

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} :

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

ترك أرضهم، مولياً لهم ظهره، وقال لهم: وهو يخاطبهم، وهم أموات جاثمين؛ من أسفه عليهم، وتحسره عليهم؛ لعدم إيمانهم، وموتهم وهم كفار.

{وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى} : ولم يقل: رسالات ربي، كما قال نوح، وهود عليهما السلام؛ لأن ما جاء به نوح وهود عليهما السلام أكثر من رسالة، أو تبليغ، أو أمر، بينما نبي الله صالح عليه السلام كانت رسالته واحدة، عبادة الله عز وجل وحده، وهي رسالة التوحيد.

{وَنَصَحْتُ لَكُمْ} : أرشدتكم إلى ما فيه الخير والنجاة.

{وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} : ولكن: استدراك، لا: نافية؛ بمعنى: لا تحبون الناصحين، مضارع تدل على حكاية الحال.

ص: 134

سورة الأعراف [7: 80]

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} :

نبي الله لوط عليه السلام : هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، وكان قد هاجر مع إبراهيم من بابل إلى الشام، وبُعث إلى أهل سدوم، وعمورة، وما حولها من القرى في منطقة البحر الميت، وسُمِّيت باسم آخر: هو المؤتفكات.

{وَلُوطًا إِذْ} : لوطاً في اللغة تعني: المصلح. إذ: ظرف زماني، زمن إرساله، أو اذكر لوطاً، أو اذكر حين قال لوط لقومه:{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} : الهمزة: همزة الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار؛ أي: أتفعلون الفاحشة، وهي ما كان يقوم به قوم لوط، وتسمية الفاحشة باللواطة، أو نسبة الفاحشة إلى لوط هو خطأ؛ أي: أن نسميها لواطاً، وعلينا أن نسميها كما سماها الله تعالى عمل قوم لوط، وأيضاً هو خطأ من حيث اللغة؛ لأن اللواط في اللغة: الإصلاح من لاط يلوط لوطاً؛ أي: أصلح الشيء، واسم لوط يعني المصلح، واللوطي يعني في اللغة المصلح، وخطأ من حيث الشرع؛ لأن نسبته إلى النبي لوط، وهو بريء من هذه الفعلة، فكيف تنسب إليه، ويرفض الكثير أن يوصف بأنه لوطي، ولذلك الأفضل أن نسميها عمل قوم لوط. والهمزة: للاستفهام الإنكاري، والتوبيخ.

{مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} : ما: النافية، ما فعلها، أو تجرأ، أو أقدم عليها أحدٌ من قبلكم.

{مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} : من: استغراقية؛ تفيد التوكيد؛ أيْ: توكيد النفي.

{الْعَالَمِينَ} : الجن، والإنس.

ص: 135

سورة الأعراف [7: 81]

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} :

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} : اللام: للتوكيد.

{لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} : تفعلون الفاحشة، بالرجال شهوة.

{بَلْ} : حرف إضراب انتقالي.

{أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} : أنتم قوم: تجاوزتم حدود ما أحل اللهُ لكم.

لنقارن هذه الآية (80-81) من سورة الأعراف: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} .

مع الآية (54-55) من سورة النمل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

الاختلاف الأول: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} : في الأعراف.

{وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} : في النمل.

الاختلاف الثاني: {إِنَّكُمْ} : في الأعراف.

{أَئِنَّكُمْ} : في النمل بزيادة همزة الاستفهام؛ للدلالة على شدة الإنكار، والتوبيخ.

الاختلاف الثالث: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} : في الأعراف.

{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : في النمل، وصفهم بالجهل فيه: توبيخ، وتقريع أسوأ من وصفهم بالإسراف.

والاختلافات ترجع إلى كونها مواقف متعددة للوط مع قومه، خلال زمن تبليغ الرسالة لهم، فالمواقف في سورة النمل فيها تقريع، وتوبيخ أشد من المواقف في سورة الأعراف.

ص: 136

سورة الأعراف [7: 82]

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} :

{وَمَا} : الواو استئنافية، ما: النافية.

{كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا} : إلا: أداة حصر.

{أَخْرِجُوهُم} : أيْ: لوط، والذين آمنوا معه، ولم يقل ارجموهم؛ لأن لوط جاء مهاجراً إليهم، وهو ليس من قوم لوط، فالأفضل طرده وإخراجه.

{مِنْ قَرْيَتِكُمْ} : وهي القرى الخمس، تسمَّى المؤتفكات، سدوم، وما حولها من القرى، والقرية الأم، أو العاصمة تمثل القرى الأخرى.

{أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} : يقولون ذلك سخرية بهم وتهكم.

{يَتَطَهَّرُونَ} : من الفاحشة: وهي إتيان الرجال وغيرها من أعمال المنكر في نواديهم. ولكونهم تمردوا على الفسوق كانوا يسخرون من لوط من كمال خلقه. يتطهرون: بصيغة المضارع تدل على التجدد، ولم يقولوا إنهم أناس طاهرون تدل على الثبات والدوام.

في هذه الآية قال -جل وعلا- : {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} : بينما في سورة النمل، الآية (56):{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} ، الفرق في حرف الفاء؛ التي تدل على السرعة، والترتيب، والتعقيب، فقوم لوط عليه السلام انقسموا طائفتين: طائفة كان جوابها مباشرة، وبسرعة: أخرجوهم من قريتكم الآن، وبسرعة، وهذا ما أشارت إليه الآية (56) من سورة النمل، وطائفة أخرى لم تتسرع بالطلب بإخراجهم، وهذا ما أشارت إليه الآية (82) في سورة الأعراف، وما كان جواب قومه، أو كانت آية الأعراف في بداية الدعوة، وآية النمل كانت في نهاية الدعوة؛ ففي بداية الدعوة وصفهم بالمسرفين، وفي نهاية الدعوة وصفهم بالجاهلين؛ أي: حين وبخهم بشدة وأثار غضبهم الشديد، كما في آية النمل جاء الرد السريع بالفاء (فما كان جواب قومه) التي تدل على سرعة الإخراج والطرد من القرية، ويؤيد ذلك نزول سورة الأعراف قبل نزول سورة النمل، والله أعلم.

ص: 137

سورة الأعراف [7: 83]

{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} :

{فَأَنجَيْنَاهُ} : الفاء: للتعقيب، والسرعة؛ تدل على السرعة، وشدة النجاة.

{وَأَهْلَهُ} : ابنتيه عليه السلام .

{إِلَّا امْرَأَتَهُ} : إلا: حرف استثناء. امرأته: لم تنجُ.

{كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} : الباقين في العذاب، والغابر الباقي.

وما دامت قد بقيت في قريتها، في المكان الذي سينزل فيه العذاب؛ فهي من الباقين الهالكين.

ص: 138

سورة الأعراف [7: 84]

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} :

انتبه! من خصائص القرآن: أن يستعمل كلمة المطر في سياق الانتقام، والعذاب، والغيث في سياق الرحمة.

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} : لم تبيِّن هذه الآية نوع المطر، وبيَّنته آية أخرى في سورة هود، الآية (82):{حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} .

{عَلَيْهِم} : قيل: كان عددهم (4000) أربعة آلاف، وفي سورة هود، آية (82) قال تعالى:{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} : فالمطر شمل القرية (عليها)، وشمل قوم لوط (عليهم).

وهناك فرق بين مطر وأمطر: مطر: فعل ثلاثي، وأمطر: فعل رباعي، وأمطر؛ يعني: أرسل عليهم الحجارة من سجيل؛ بإرسال المطر؛ أيْ: مطراً عجيباً ليس كأي مطر.

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} : عجيباً: وهو الحجارة بدلاً من الماء {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} . ارجع إلى سورة هود، آية (82)؛ لمزيد من البيان.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} : المفسدين. انظر نظرة تفكر، وتعجُّب كيف كانت نهاية هؤلاء العصاة المفسدين. المجرمين: مشتقة من الجرم: وهو الذنب القبيح، وأصله القطع. ارجع إلى سورة الجاثية، آية (31)؛ لمزيد من البيان في معنى المجرمين.

ص: 139

سورة الأعراف [7: 85]

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} :

وأرسلنا {وَإِلَى مَدْيَنَ} : مدين: هو ابن من أبناء إبراهيم عليه السلام ، ومدين: اسم لقبيلته التي سُمِّيت على اسمه، ومدين: اسم للمدينة التي بناها وعاش فيها. وقيل: إن مدين هذا تزوج من رئيا ابنة سيدنا لوط عليه السلام ، وشكلوا قبيلة مدين، وتقع مدين في الجهة الشمالية الغربية من المملكة العربية السعودية في تبوك، وتقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وخليج العقبة يكون شمالها.

{أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} : أخاهم؛ لأنه من قومهم، وعاش بينهم، فأصبح كالأخ لهم. اختاره الله نبياً لهم. قيل: إن اسمه بالسريانية: يثرون، وهو أحد الأنبياء العرب الأربعة: وهم هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم.

{قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} :

{قَالَ يَاقَوْمِ} : نداء لطيف، استعمل فيه ياء النداء؛ التي تدل على البعد.

{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} : أطيعوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وامتثلوا أوامره، وتجنبوا نواهيه.

{قَدْ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} : معجزة، شاهدة، على صدق نبوَّتي.

والسؤال: ما هي هذه البيِّنة أو المعجزة؟ حتماً كانت هناك معجزة بيِّنة، ولم يذكرها الله سبحانه في القرآن، وقد تكون حالة السعة، والغنى التي كانوا فيها.

{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} :

{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} : الفاء: للتوكيد، أوفوا الكيل: أريد به آلة الكيل؛ أي: المكيال، أو سُمِّي ما يكال به بالكيل، {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} .

وكان الإخلال في الكيل، والميزان هو الأمر الشائع فيهم، وكانوا يبخسون الكيل، والميزان حينما يبيعون، ويشترون.

{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} : البخس: النقص، ويقال: بخسته حقه: إذا أنقصته حقّه؛ بالمخادعة، والاحتيال في البيع، والشراء، أو إخفاء العيب، والغش؛ أيْ: لا تنقصوهم حقهم بالتلاعب بالكيل والميزان.

{وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} : والواو عاطفة، لا الناهية.

{وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ} : بالسرقة، والغصب، والرشوة، والاختلاس، وإهلاك الحرث والنسل، ومقومات الحياة، وارتكاب الفواحش. ارجع إلى سورة البقرة، آية (205)؛ لمزيد من البيان في معنى الفساد.

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} : إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده، والوفاء بالكيل، والميزان، وترك البخس، والإفساد في الأرض، والعمل بما أمر الله، وتجنب ما نهى عليه.

قال: {ذَلِكُمْ} : ولم يقل: ذلك؛ لتعدد الأوامر، والنواهي، وللتأكيد والأهمية يستعمل:{ذَلِكُمْ} .

{إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} : إن كنتم مصدقين قولي، ومؤمنين بما أرسلت به.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشك.

{مُّؤْمِنِينَ} : جملة اسمية؛ تفيد الإثبات.

ص: 140

سورة الأعراف [7: 86]

{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} :

{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} : الصراط: الطريق، تتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم، أو تصدون الناس؛ أيْ: تصرفون الناس عن الإيمان، والدخول في دِين الله، واتباع ما جئت به، وكيف يقول:{بِكُلِّ صِرَاطٍ} ، ونحن نعلم أن الصراط واحد، هو الصراط المستقيم؛ لقوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

الجواب: نعم، الصراط واحد، ولكن يتشعب إلى حدود، وأحكام، وعقائد؛ أيْ:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} : أيْ: بكل باب، من أبواب الطاعة، أو الخير.

{تُوعِدُونَ} : توعدون من آمن (بشعيب)، بالشر، وتخوفون الناس بالعذاب، والقتل إن آمنوا.

{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : الناس عن دِين الله، والهداية.

{مَنْ آمَنَ} : به؛ أيْ: بالله، وبدينه.

{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} : الواو عاطفة (عطف تبنوها على تصدون)؛ أيْ: تريدون دِيناً، معوجاً، مائلاً عن الحق في القيم، والمعايير، أو تريدون الميل عن الاستقامة، وذلك بإثارة الفتن، والأكاذيب، والشبهات، وإباحة التلاعب بالميزان والمكيال.

إذن نهاهم شعيب عن قطع الطريق الحسي، والمعنوي بسلب أموال الناس، وسلب أمتعتهم، وطعامهم، وشرابهم.

ونهاهم عن الصدّ عن دِين الله، ومنع الناس من حقوقهم في الكيل والميزان، وتجنب الفساد في الأرض. وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (99) في سورة آل عمران وهي قوله تعالى:{مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} بدون الواو وبدون به؛ لأن تبغون حال، والحال لا يدخله الواو (قاعدة نحوية).

{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} :

{وَاذْكُرُوا إِذْ} : أيْ: حين كنتم {قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} : حين كنتم قليلاً في العدد، فكثركم بالزيادة؛ فأصبحتم أكثر عدداً.

وتذكيرهم بالنِّعم يوجب الشكر، والإصلاح، وترك الفساد، والإيمان.

{وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} : وانظروا نظرة تدبُّر، واتعاظ، نظرة قلبية بتفكُّر، وتمعُّن.

{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} : حين يذكر العاقبة؛ فيقول: كيف كان بدلاً من كيف كانت؛ فهذا يعني: العذاب، وهذا من خصائص القرآن الكريم، كما هي الحال في هذه الآية، وحين يؤنث العاقبة، ويقول: كيف كانت عاقبة؛ يعني: الجنة.

{الْمُفْسِدِينَ} : أيْ: ماذا حلّ بالذين جاؤوا من قبلكم، من المفسدين في الأرض؛ الذين كذبوا رسلهم؛ كيف أهلكهم الله سبحانه؛ بسبب ذنوبهم؛ أمثال: قوم لوط، ونوح، وعاد، وثمود. ارجع إلى سورة البقرة، آية (205)؛ لمزيد من البيان.

ص: 141

سورة الأعراف [7: 87]

{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} :

{وَإِنْ} : الواو: استئنافية. إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال والشك.

{طَائِفَةٌ} : جماعة منكم، وسُمِّيت طائفة: جماعة تطوف؛ أيْ: تؤمن بعقيدة، أو فكرة ما، أو مبادئ، وقيم واحدة.

{مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ} : من التكاليف، والتوحيد، والطاعة.

{وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا} : استمروا في تكذيبهم، وعنادهم.

{فَاصْبِرُوا حَتَّى} : حتى: حرف نهاية الغاية، فكلا الطائفتين عليهم التحلِّي بالصبر.

{يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} : بأن يظهر الحق؛ فينجِّي الذين آمنوا، ويعذب الكافرين بكفرهم.

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} : أفضل القضاة، وأفضل الحكماء، خير الحاكمين من الحكم؛ أي: القضاء أو الحكام، أو مشتقة من الحكمة؛ أيْ: أحكم الحكماء. وقيل: الحكام تعني: الاسم والمراد بالحاكمين تعني الوصف وفي هذه الآية: حضٌّ للمؤمنين بالصبر على أذى الكفار، وأن نصرة الله عز وجل آتية لا محالة.

ص: 142