المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ سورة الأعراف [7: 88] {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ - تفسير القرآن الثري الجامع - جـ ٩

[محمد الهلال]

فهرس الكتاب

سورة الأعراف [7: 88]

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} :

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} : الملأ: وجهاء القوم، وسادة القوم.

وكلمة الملأ مشتقة من ملأ؛ أي: البارزون، والظاهرون في كل مجلس، والمتحدثون باسم القوم الذين استكبروا. ارجع إلى الآية (75) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان، وسورة البقرة آية (87).

{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} : لنخرجنَّك: اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد على إخراجه.

{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} : الملة في هذه الآية تعني: الطريقة التي استمروا عليها، وسلكوها، وتعني: الشعور بالانتماء إلى جماعة مذهبها، أو عقيدتها واحدة، أو متقاربة.

{أَوْ لَتَعُودُنَّ} : اللام: والنون: للتوكيد. ولتعودنَّ: أيْ: أنت والذين آمنوا معك، والسؤال: وهل كان شعيب، والذين آمنوا معه على ملتهم سابقاً؛ ليقول: لتعودنَّ إلى ملتنا، وانظر إلى الجواب في ملحق الآية.

{قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} : قال شعيب: أولو: الهمزة: للاستفهام، والاستبعاد، والتعجب؛ أيْ: أتخرجوننا، أو تعيدوننا، ونحن كارهون لملتكم.

من هذه الآية: نفهم أن شعيباً عليه السلام كان أمام أحد الخيارين: إما الإخراج مع الذين آمنوا معه، أو العودة إلى ملة الكفر، والشرك، والسؤال هنا: هل كان شعيب على ملة الكفر قبل بعثه؛ لكي يقولوا له: {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ؟ في ملتنا، وليس إلى ملتنا؟

الجواب: لا شعيب عليه السلام ، ولا أيُّ نبيٍّ مرسل كان قبل بعثته في ملّة الكفر، أو الشرك.

{لَتَعُودُنَّ} : الخطاب كان موجَّهاً إلى أتباع شعيب؛ خاصَّةً الذين آمنوا معه، وبما أن شعيباً عليه السلام واحد منهم؛ فهم قد غلبوا لفظهم؛ لكثرتهم، أو هو ضم نفسه إلى جملتهم، وهذا ما يسمَّى إجراء الكلام على حكم التغليب.

ص: 1

سورة الأعراف [7: 89]

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} :

فردَّ شعيب على إنذارهم له قائلاً:

{قَدِ} : حرف تحقيق، وتوكيد.

{افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : الافتراء: هو الكذب المتعمَّد، المختلق.

{عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} : بصيغة النكرة؛ ليشمل كلَّ أنواع الكذب؛ مهما كان صغيراً، أو كبيراً.

{إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} : إن: شرطية؛ تفيد المستحيل، أو الندرة؛ أيْ: من المستحيل أن نعود في ملتكم: ملة الكفر، والشرك؛ لأن الشرك هو افتراء على الله، والعودة فيها، أو كيف يأمرهم شعيب بالإيمان بالله وحده، وطاعة الله سبحانه، والإيفاء بالكيل، والميزان، ثم يأمرهم مرة أخرى بالكفر، والشرك؛ فهذا يعتبر كذباً على الله -جل وعلا- .

{بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} : منها: أيْ: من ملة الكفر، والشرك.

{نَجَّانَا} : ولم يقل: أنجانا: نجى: للتلبث، والتمهل في النجاة.

وأنجى: للإسراع في النجاة؛ أي: الزمن أقصر؛ مقارنة بـ: {نَجَّانَا} : تحتاج زمن أطول.

{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا} : أيْ: أنه مستحيل أن نعود إلى الشرك، أو الكفر.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أَنْ} : شرطية؛ تفيد القلة، أو المستحيل، ولم يحدث قط أَنْ شاء الله لعباده الكفر، أو الشرك.

{يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا} : جمع الألوهية، والربوبية معاً؛ بقوله:{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} .

{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} : أيْ: أحاط علمه بكل شيء: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ} ، ويعلم ما في الصدور، وما يجول في العقول.

{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} : تقديم الجار والمجرور؛ يفيد الحصر؛ أيْ: لا نتوكل إلا عليه وحده، على الله وحده نتوكل أن يدبر، ويتولى أمرنا في منع الملأ الذين استكبروا من إخراجنا، أو إكراهنا على الردة إلى الكفر.

والتوكل في اللغة معناه: تفويض، وثقة، واعتماد، واصطلاحاً: هو الاعتماد على الله تعالى والثقة به، والالتجاء إليه في السراء والضراء، وفي كل حركة وسعي، ويعني: تفويض الأمر؛ أيْ: رده إلى الله سبحانه؛ أي: الاستعانة به في جميع الأمور والرجوع إليه في كل الأحوال؛ لأنه يملك تدبير كل الأمور، والقادر على جلب النفع، ودفع الضر؛ راجياً عونه، وتيسيره، وتوفيقه للوصول إلى الغاية بعد تقديم كل الأسباب الضرورية من قبل العبد، وأعظم التوكل على الله يكون في الهداية والإيمان والتوحيد، والتوكل قد يكون توكل اضطرار، أو توكل اختيار، وعلينا أن نتوكل عليه في كلا الحالين، والرضا ثمرة التوكل. والوكيل: المدبر القائم بأمور العباد، والموكول إليه تدبير أمر كل شيء، والثقة به، والاعتماد عليه في قضاء الحوائج والمصائب، ودفع المكروه، والوصول إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، والله يحب المتوكلين.

{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} : ربنا: ولم يقل: يا ربنا؛ لأنه يعلم أن الله قريب، ولا يحتاج إلى ياء النداء.

{افْتَحْ} : من الفتح؛ أي: الفصل؛ ويعني: الكشف؛ أي: افصل بيننا وبين قومنا. قوله: قومنا: تدلُّ على الحنان والرأفة، ولم يقل:(أعدائنا).

والفتح قد يعني: النصر من دون قتال، أو حرب، والفتح: أصله إزالة الإغلاق، واستعمل في الحكم، أو القضاء الذي يزيل الإشكال، أو الاختلاف في الأمر.

{بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} : الحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير؛ أي: احكم بنصر الحق على الباطل، والإيمان على الكفر.

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} : خير الفاتحين يشمل خير الناصرين، والمظهرين للحق، والفاصلين.

ص: 2

سورة الأعراف [7: 90]

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} :

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} : بعضهم لبعض، أو للذين آمنوا من قومه، أو لمن ينوي اتباع شعيب.

{لَئِنِ} : اللام: لام التوكيد، إن: شرطية، وجواب الشرط: هو قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} .

{اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} : آمنتم به، وصدقتموه فيما يقوله لكم.

{إِنَّكُمْ} : إنَّ: للتوكيد.

{إِذًا} : تفيد التوكيد.

{لَخَاسِرُونَ} : اللام: لزيادة توكيد الخسارة. والسؤال: لماذا سيخسرون؟ أيْ: إنهم إن اتبعوا شعيباً؛ سيخسرون ما كان سيأخذونه من أموال الناس بالباطل من جراء التلاعب بالكيل، والميزان، ومن جراء بخس الناس أشياءهم، أو لن ننصركم، أو نساعدكم.

ص: 3

سورة الأعراف [7: 91]

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} :

الفاء: للتعقيب، والمباشرة، أو السرعة.

{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : دمرتهم، أو أهلكتهم الزلزلة الشديدة.

{فَأَصْبَحُوا} : الفاء: للتوكيد.

{فِى دَارِهِمْ} : في بلدهم، أو موطنهم، والدار؛ أي: المسكن.

{جَاثِمِينَ} : ارجع إلى الآية (78) من نفس السورة.

ص: 4

سورة الأعراف [7: 92]

{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} :

{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} :

{كَأَنْ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} : هم في الحقيقة قد غنوا أثناء إقامتهم، وعاشوا في رغد العيش، وطال مقامهم، ولكن ما حدث لهم حين أخذتهم الرجفة؛ فأصبحوا في دارهم جاثمين؛ كأنهم لم يغنوا فيها، ويعمروا تلك الديار، ويقيموا فيها.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

تكرار {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} : يفيد في أمرين: يثبت لهم أنهم قد غنوا فيها؛ أيْ: في الدنيا، وعاشوا رغداً، ويثبت لهم الخسران:{كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} .

ولو حذف {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} : الثانية؛ لأثبت لهم الغنى، ورغد العيش، ونفى عنهم الخسران؛ بحيث يكون السياق: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، وكأنهم كانوا هم الخاسرين.

وقد تعني: كأن لم يغنوا فيها؛ أيْ: في الدنيا؛ لأنه كان غنى ومتاع زائل غير دائم، وقصير مهما طال مقارنة بمتاع، وغنى الآخرة.

{كَانُوا هُمُ} : هم: تفيد التوكيد.

{الْخَاسِرِينَ} : لأنفسهم ولأهلهم.

ص: 5

سورة الأعراف [7: 93]

{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} :

{فَتَوَلَّى} : الفاء: تدل على التعقيب، والسرعة؛ أيْ: لما رأى شعيب نزول العذاب بهم؛ تولى عنهم، وتركهم وولى ظهره إليهم، هو والذين آمنوا معه.

{وَقَالَ يَاقَوْمِ} : قول فيه حزن، وأسىً على قومه.

{لَقَدْ} : اللام: لام التوكيد، قد: للتحقيق، والتوكيد.

{أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى} : أبلغتكم، وأخبرتكم بكل ما أوحي إلي، وأُنزل عليَّ من ربي، والبلاغ: هو إيصال الخبر مع البيان، والفهم.

{رِسَالَاتِ رَبِّى} : جمع رسالة، أو مجموعة رسالات:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِنْ رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} ، رسالة التوحيد، رسالة الإصلاح، رسالة الشكر على نعمه.

{وَنَصَحْتُ لَكُمْ} : النصح: هو الإلحاح على الشخص، أو القوم؛ ليثوب إلى رشده، وأن يتبع منهج الحق.

{فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} :

{فَكَيْفَ} : استفهام، واستبعاد، وحسرة.

{آسَى} : الأسى: شدة الحزن؛ فقد اشتدَّ حزنه على قومه بعد أن أخذتهم الرجفة؛ فأصبحوا جاثمين ميتين، بلا حراك.

ثم أنكر على نفسه، فقال: كيف يشتد حزني {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، ماتوا وهم كفار، وكانوا مصرين على الكفر، وثبتوا عليه.

ص: 6

سورة الأعراف [7: 94]

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِنْ نَّبِىٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} :

{وَمَا} : الواو: استئنافية، ما: النافية.

{أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} : القرية: تمثل المدينة، أو العاصمة في زمننا الحاضر.

{مِنْ نَّبِىٍّ} : من: الابتدائية، استغراقية. في الآية إضمار: أيْ: فكذب أهلها النبي، ولم يصدِّقوه، ويؤمنوا به.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{أَخَذْنَا} : عاقبنا، أو أصبنا أهلها.

{أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ} : أي: البؤس، والفقر، والجدب، والقحط، والشدة، والمشقة؛ كالحرب، والدمار، والزلازل، والبراكين، والمجاعة العامة، والأوبئة والكوارث الجوية.

{وَالضَّرَّاءِ} المرض، ونقص في الأموال، والثمرات، والأنفس. وقيل: الضراء: مصيبة تصيب الإنسان نفسه مثل المرض، ونقص في الأموال، والأنفس، والثمرات، والبأساء: تصيب الجميع.

{لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} : لعلَّ: للتعليل، ولم يقل: يتضرعون. يضرعون: تدل على المبالغة في التضرع والكثرة، ويتضرعون طول التضرع، وكثرة العدد.

{يَضَّرَّعُونَ} : إظهار الضراعة؛ أي: الخضوع، والتذلل لله تعالى؛ بالدعاء، والطاعة، ويبدلوا ما بأنفسهم من استكبار وتكذيب، والبأساء، والضراء: وسيلتين لتنبيه الإنسان من غفلته، ويعود إلى منهج الله تعالى، ويصلح شأنه، أو وسيلتين للابتلاء، أيصبر، أم يشكر، وإذا استمر على كفره وشركه، ولم يتب، عندها يبدل الله مكان السيئة الحسنة، ويتركه وشأنه، ثم إذا ازداد بطره؛ أخذه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ.

ولمعرفة المزيد في الفرق بين {يَضَّرَّعُونَ} : و {يَتَضَرَّعُونَ} : فارجع إلى الآية (42) من سورة الأنعام؛ للبيان.

ص: 7

سورة الأعراف [7: 95]

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب، والتراخي، ثم إذا لم يتعظوا بعد البأساء والضراء، ويرجعوا عن حالتهم، ويتضرعوا.

{بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} : السيئة: كل ما يسوء النفس؛ مثل: الفقر، والخوف، والمرض. الحسنة: الغنى، والصحة، والأمن، والرخاء. ارجع إلى سورة البقرة، آية (201)؛ لمزيد من البيان.

{حَتَّى} : حرف غاية انتهاء الغاية.

{عَفَوْا} : كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم، وكثرت خيراتهم، وحسنت حالتهم المعاشية من كل النواحي.

{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} : أيْ: أبطرتهم النِّعم، ونسوا البأساء والضراء التي مستهم، وفسروا ذلك بأنها مجرد سنن كونية، قد مسَّت آباءَهم من قبل، ثم تحولَّت الضراء إلى سراء.

وحين لم يعد هناك أمل في إيمانهم، وعودتهم إلى طريق الهداية.

{فَأَخَذْنَاهُم} : الفاء: للترتيب والتعقيب دون إمهال.

{فَأَخَذْنَاهُم} : بالعذاب.

{بَغْتَةً} : على حين غرّة، أو فجأة.

{وَهُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{لَا يَشْعُرُونَ} : أن هناك شراً يحيق بهم، وهم على غير استعداد، وحيطة للنجاة، ولا يشعرون أن أجلهم قد اقترب ودنا.

ص: 8

سورة الأعراف [7: 96]

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} :

{وَلَوْ} : الواو: عاطفة، لو: شرطية.

{أَنَّ} : تفيد التوكيد.

{أَهْلَ الْقُرَى} : عامة، أينما كانوا.

{آمَنُوا وَاتَّقَوْا} : آمنوا بالله ورسله، وما أنزل عليهم من ربهم، وأطاعوا واتقوا: بامتثال أوامر الله عز وجل ، واجتناب نواهيه.

{لَفَتَحْنَا} : اللام: لام التوكيد.

{لَفَتَحْنَا} : من الفتح؛ يعني: التيسير.

{عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} : بركات: جمع بركة، وهي الزيادة، والنمو، ودوام النِّعم، والخير الإلهي، واشتقت من البروك، وهو اللزوم، والثبوت؛ ثبوت في البركة، أو دوام الخير الإلهي، والبركة لا تسند إلا لله -جل وعلا- .

{بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} : خيرات السماء من المطر، والطاقة الشمسية، والنجوم: هي أفران نووية شديدة يخلق لنا فيها ربنا من غاز الهيدروجين كل العناصر؛ مثل: الحديد، والذهب، والنحاس، والبلاتين من عمليات الاندماج النووي داخل النجوم، النجوم حين تبلغ مرحلة الكهولة تنفجر، وتتناثر العناصر المركبة منها على الأرض، كما حدث للحديد.

{وَالْأَرْضِ} : النبات، والزرع، وكنوز الأرض من الذهب، والفضة، والمعادن الأخرى، والبترول، والغاز.

{وَلَكِنْ كَذَّبُوا} : ولكن: حرف استدراك، كذبوا: بالآيات، والرسل، وبما أنزل إليهم من ربهم.

{فَأَخَذْنَاهُم بِمَا} : الفاء: للتعقيب، والسرعة، أخذناهم: بالعذاب، أو العقاب، أو الإهلاك.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو باء السببية. ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{كَانُوا يَكْسِبُونَ} : من الشرك، ومن المعاصي، والفساد.

ص: 9

سورة الأعراف [7: 97]

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} :

{أَفَأَمِنَ} : الهمزة: للاستفهام، والإنكار، والتعجب، والفاء: للتعقيب، والمباشرة، وباء السببية ما قبلها سبب ما بعدها لقوله تعالى:{فَأَخَذْنَاهُم} ، ولذلك فلا يأمنوا أن يأتيَهُم العذاب، بسرعة، أو بغتة.

{أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} : أيْ: أفأمن أهل القرى أن ينزل بهم عذابنا.

{بَيَاتًا} : أيْ: ليلاً.

{وَهُمْ نَائِمُونَ} : أكَّد على كونهم نياماً، وليلاً (بياتاً)، ولا يعني حتماً أنهم نائمون، وإنما أكثرهم نائمون.

ص: 10

سورة الأعراف [7: 98]

{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} :

{أَوَأَمِنَ} : الهمزة: للاستفهام، والإنكار، والتعجب، والواو للعطف أو التخيير.

{أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} : ارجع إلى الآية السابقة، وتكرار {أَهْلُ الْقُرَى} مرتين: للإنذار، والتوكيد.

{ضُحًى} : نهاراً، وأصل الضحى: أول النهار.

{وَهُمْ يَلْعَبُونَ} : لماذا ذكر عز وجل : {يَلْعَبُونَ} : بدلاً من يشتغلون، أو يعملون؛ لأن أعمالهم مهما عظمت إذا كانت تلهيهم عن طاعة الله؛ فهي لعب ولهو؛ مقارنة بالأجر العظيم الذي فاتهم.

ص: 11

سورة الأعراف [7: 99]

{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} :

{أَفَأَمِنُوا} : الهمزة: همزة استفهام إنكار، وتعجب؛ أيْ: أغرّهم تأخير بأسه عنهم، وبعدم مجيئه بياتاً، فأمنوا مكر الله سبحانه.

{مَكْرَ اللَّهِ} : المكر: هو التدبير الخفي، الذي يبيته الإنسان لخصمه، وخصمه لا ينتبه إليه، وهل يمكر الله سبحانه، أو يحتاج إلى أن يمكر بالعبد، أو بأهل القرى؛ أبداً ـ حاشا لله ـ؛ لأن المكر يدل على ضعف الذي يقوم به، ولكونه ضعيفاً فهو يمكر، ولو كان قوياً؛ لما فعل ذلك، واستعمال هذه الكلمات في الأداء البياني؛ هو فقط للمشاكلة في اللفظ.

{فَلَا} : الفاء: للتوكيد.

{يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا} : إلا: أداة حصر.

{الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} : لأنفسهم، وأهليهم.

ص: 12

سورة الأعراف [7: 100]

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} :

{أَوَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام، والتوبيخ.

{يَهْدِ} : يتبيَّن، أو يتضح.

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص.

{يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} : أيْ: ورثوها عن غيرهم، ولم تكن ملكاً لهم سابقاً.

{أَنْ} : المخففة؛ تفيد التوكيد.

{لَّوْ نَشَاءُ} : لو: شرطية، أصابهم بذنوبهم.

{بِذُنُوبِهِمْ} : الباء: للتعليل؛ أيْ: عذبناهم بسبب ذنوبهم، كما عذبنا الذين من قبلهم.

{وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : أيْ: لو نشاء كذلك؛ لطبعنا على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، والطبع على القلب أشد من الختم.

{فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} : ما يتلى عليهم من الآيات، والمواعظ، والنذر؛ أيْ: لا يفهمون ما يوعظون به، أو يطلب منهم؛ حتى يهلكوا، كما حدث للذين من قبلهم.

ص: 13

سورة الأعراف [7: 101]

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} :

{تِلْكَ} : اسم إشارة؛ يفيد البعد، إشارة إلى قرى نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وشعيب عليهم السلام.

{نَقُصُّ عَلَيْكَ} : يا محمد {مِنْ أَنبَائِهَا} : أخبارها المهمة. من: بعضية، بعض أنبائها، وهناك أنباء أخرى لم نقصها عليك.

{وَلَقَدْ} : الواو: عاطفة، لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق.

{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} : بالمعجزات، والدلائل على نبوَّة الرسل، وبالآيات، وبالتوحيد، وقدرة، وعظمة الله -جل وعلا- ، وأنه الإله الحق، واجب الوجود الذي يجب أن يُعبد، وإذا قارنا جاءتهم رُسُلهم وقوله تعالى:{جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} [المائدة: 32]: نجد أن رسلنا تأتي في سياق عما جاء به الرسل عن الله تعالى ورسلهم تأتي في سياق موقف القوم من الرسل، وسياق الدعوة والإعراض والتحدي والنفع وفائدة الرسل.

{فَمَا} : الفاء: للتوكيد، ما: النافية.

{كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} : ليؤمنوا: اللام: للتوكيد؛ أي: استمروا على التكذيب، وعدم الإيمان، من بعد إرسال الرسل إليهم، كما كذبوا، ولم يؤمنوا من قبل إرسال الرسل إليهم، ومجيئهم بالمعجزات، والآيات، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (74) في سورة يونس وهي قوله تعالى:{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} إضافة به تجعل التكذيب مقيداً، أما حذفها كما في آية الأعراف تجعل التكذيب مقيداً من نوع المطلق؛ أي: الأقوام كذبوا بما جاء به الرسل تكذيب عام، أو تكذيب مقيد بأمر ما، وعندما أطلق قال تعالى:{يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} ولما قيد قال تعالى: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} ؛ أي: قوم فرعون.

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} : أيْ: مثل ذلك الطبع؛ الذي طبع الله به على قلوب كفار الأمم السابقة، فلم يؤمنوا برسلهم، يطبع الله على قلوب كفار مكَّة، والذين من بعدهم إذا لم يؤمنوا بعد بالرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن، وما نزل به الوحي.

ص: 14

سورة الأعراف [7: 102]

{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: حرف نفي.

{وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} : أيْ: وما وجدنا للكفار، من عهد، فأكثرهم ينقضون عهودهم، ولا يوفون بها، والقليل منهم من يحافظ على عهده، ويوفي به.

{لِأَكْثَرِهِم} : اللام: لام الاختصاص.

{مِّنْ} : استغراقية، تشمل كلَّ عهد على السمع، والطاعة، وعدم الشرك. ارجع إلى سورة البقرة، آية (27)؛ لبيان معنى العهد، والميثاق.

{وَإِنْ} : للتوكيد.

{وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} : لفاسقين: اللام: للتوكيد؛ أيْ: وجدنا أكثرهم فاسقين، خارجين عن طاعة الله، ولا يوفون بعهودهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ لمزيد من البيان في معنى فاسقين.

ص: 15

سورة الأعراف [7: 103]

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} :

{ثُمَّ} : للترتيب، والتراخي في الزمن.

{بَعَثْنَا} : ولم يقل: أرسلنا. البعث؛ يعني: أن يبعث الله تعالى رسولاً، أو نبياً؛ لإحياء منهج رباني سابق اندثر، زالت معالمه، بينما الإرسال؛ يعني: يرسل الله تعالى رسولاً بشيء جديد لم يعلمه الناس، برسالة جديدة، أو تغيير، أو تعديل حسب الزمان، والمكان، والبعث أشد من الإرسال؛ أيْ: يحتاج إلى عمل أقوى، وجهد أشد، ومشقة، والبعث فيه معنى الإثارة، والتهيج، وهو أعم من الإرسال. ارجع إلى سورة البقرة، آية (119)؛ لمزيد من البيان.

{مِنْ بَعْدِهِم} : من: الابتدائية؛ تعني: بزمن قصير، أو مباشرة من بعدهم؛ تعني: الرسل؛ الذين ذكروا سابقاً، وهم: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط عليهم السلام.

{مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ} : موسى بآياتنا: التسع؛ مثل: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون، والطوفان، والطمس على أموالهم، وقدَّم الآيات على فرعون، ولم يقل: بعثنا موسى إلى فرعون وملئه بآياتنا؛ للاهتمام بها.

{إِلَى فِرْعَوْنَ} : فرعون: لقب لمن كان يحكم مصر قديماً، والفراعنة شكلوا أو كانوا (19) أسرة، آخرهم الأسرة التاسعة عشر، وموسى عليه السلام أدرك فرعون المسمى رمسيس الثاني، ويطلق عليه رمسيس الأكبر، وهو الذي ربى موسى، والذي أطلق عليه فرعون الاضطهاد الذي اضطهد بني إسرائيل وحكم مصر (67 سنة)، وكان له أولاد منهم منفتاح الأول، وهو الابن الثالث عشر لرمسيس الثاني (الأكبر) شارك أباه في الحكم وتولى الحكم بعد وفاة أبيه، وحكم حوالي (10 سنوات)، فموسى أدرك الأب (رمسيس الثاني) وأدرك الابن (منفتاح) الذي أطلق عليه فرعون الخروج فحين يذكر اسم فرعون قد يكون الأب أو الابن أو كلاهما، ولذلك يجب الانتباه إلى السياق في الآيات.

{وَمَلَإِيهِ} : ولم يقل: إلى فرعون وقومه، وملئه: أيْ: وجهاء القوم، وسادة القوم، وكلمة الملأ مشتقة من ملأ العيون؛ أي: المتحدثون باسم القوم، أو الشعب، والظاهرون للعيون؛ أيْ: ممثلو الشعب، والوزراء، والنواب.

{فَظَلَمُوا بِهَا} : كذَّبوا بها، أو جحدوا بها، وإذا قارنا هذه الآية (75) في سورة يونس: نجد أنه في آية الأعراف قدم الآيات على فرعون وملئه، وفي يونس قدم فرعون وملئه على الآيات، والتقديم أو التأخير عادة يكون للأهم أو الأفضل، فالآيات في آية الأعراف الأهم؛ لأنها كانت محور الجدال بين موسى وفرعون، وفي يونس لم يذكر أي تفاصيل عن الآيات، كما ذكر في الأعراف لذلك قدم فرعون وملئه.

{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} :

{فَانظُرْ} : نظرة اعتبار، وتدبُّر، نظرة: قلبية، فكرية.

{كَيْفَ} : استفهام فيه تعجُّب.

{كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} : عاقبة: أيْ: عقاب، وعذاب المفسدين. ارجع إلى الآية (86) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان في معنى عاقبة.

{الْمُفْسِدِينَ} : جمع مفسد، والمفسد: هو الذي يخرج عن حد الاستقامة، والاعتدال، والفساد لغةً: ضد الصلاح، والفساد اصطلاحاً: هو انفلات الفرد، أو المجتمع بالخروج عن منهج الله تعالى. ارجع إلى سورة البقرة، آية (205)؛ لمزيد من البيان في معنى المفسدين، وإذا قارنا المفسدين بقوله تعالى:(المجرمين) كما في الآية (84) في نفس السورة: نجد أن المجرمين أشد وأعم من المفسدين؛ المفسدين: قسم من المجرمين.

ص: 16

سورة الأعراف [7: 104]

{وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

تصوِّر لنا هذه الآية أول لقاء بين موسى عليه السلام ، وفرعون بعد رجوع موسى من مدين (فرعون الابن). ارجع إلى الآية (103) في نفس السورة لبيان من هو فرعون، وبعد أن كلمه ربه سبحانه وتعالى ، فقال له:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} : فهذا موسى يقدِّم نفسه لفرعون على أنه أصبح رسولاً مرسلاً من رب العالمين، وتعني أيضاً: إنك يا فرعون لست الربَّ، كما تزعم، وتقول: أنا ربكم الأعلى.

{إِنِّى} : ولم يقل: أنا رسول من رب العالمين، إني: أكثر توكيداً.

{رَبِّ الْعَالَمِينَ} : رب الجن، والإنس، والملائكة، ورب كل شيء. ارجع إلى سورة الفاتحة، آية (2)؛ لمزيد من البيان.

ص: 17

سورة الأعراف [7: 105]

{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :

{حَقِيقٌ} : واجب، أو حريص، أو جدير.

{عَلَى أَنْ لَا} : على: تفيد العلو، أن: حرف مصدري؛ تفيد التعليل، والتوكيد.

{لَا} : الناهية.

{أَقُولَ عَلَى اللَّهِ} : أيْ: لا أخبر على الله بأي شيء من عندي، وفي قراءة أخرى: حقيقة عليَّ: بتشديد الياء، وفتحها.

{إِلَّا} : للحصر، حصراً هو الحق من عند ربكم.

{الْحَقَّ} : الصدق، والشيء الثابت الذي لا يتغير، ولا يتبدل؛ أيْ: ما نزل به الوحي إليَّ من ربي.

{قَدْ} : للتحقيق، والتوكيد.

{جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ} : حُجَّة من ربكم، وبرهان ساطع، أو معجزة من ربكم، وهي العصا، واليد.

{فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} : الفاء: للتوكيد؛ أي: اترك بني إسرائيل يخرجون معي إلى الأرض المقدسة؛ أيْ: أطلق سراحهم؛ إذ كانوا ممنوعين من الخروج من مصر، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (47) في سورة طه وهي قوله تعالى:{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} ، وفي آية الأعراف:{فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} ؛ في سورة طه السياق كان في موسى وهارون، وفي الأعراف السياق معظمه في موسى وحده عليه السلام .

ص: 18

سورة الأعراف [7: 106]

{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} :

{قَالَ} : فرعون لموسى: {إِنْ كُنْتَ} : إن: شرطية؛ تدل على الاحتمال.

{جِئْتَ بِآيَةٍ} : بمعجزة، أو دليل، أو برهان.

{فَأْتِ بِهَا} : الفاء: رابطة لجواب الشرط؛ تفيد التوكيد، أرنا إياها، أو أخرجها لنا، أو أحضرها إلينا.

{إِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الشك بأن تكون من الصادقين؛ أيْ: إنك من الكاذبين.

{كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} : فيما قلت، أو زعمت.

ص: 19

سورة الأعراف [7: 107]

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} :

{فَأَلْقَى} : الفاء: تدل على الترتيب، والتعقيب، والمباشرة.

{فَأَلْقَى عَصَاهُ} : أيْ: ألقى موسى عصاه على الأرض، طرحها على الأرض، هذا هو الإلقاء الثاني للعصا، فهناك الإلقاء الأول: كان بعد رجوع موسى من مدين، وعند الطور الأيمن، أمام رب العالمين.

وهذا هو الإلقاء الثاني: أمام فرعون.

وأما الإلقاء الثالث: فسيكون أمام السحرة، والناس في يوم الزينة.

{فَإِذَا} : الفاء: للتوكيد، إذ: الفجائية؛ ظرف للزمان، أو المكان.

{هِىَ} : تفيد الحصر، والتوكيد.

{ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : حية عظيمة، ضخمة، مخيفة، من أعظم الحيات، والثعبان هو الذكر، ففي هذه الآية وصف العصاة بأنها ثعبان مبين فهي ليس حية أو كأنها جان، وإنما ثعبان مبين خاص ليراه فرعون في كل مرة لعله يخاف ويرتدع، وأما لموسى فقد تظهر كحية أو كأنها جان، ولم يذكر الخوف، ولم يعقب؛ لأن موسى الآن في موقف التحدي وبعد أن علم حقيقة العصا، كما رأينا في سورة طه آية (20)، وسورة النمل آية (10).

وفي سورة طه، الآية (20)، وصفها بأنها حية تسعى، فقال:{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ؛ لأن موسى كان وحده بعد رجوعه من مدين. ارجع إلى سورة طه لمزيد من البيان.

وفي سورة النمل، الآية (10): وصفها بأنها: جان وكان موسى لوحده، فهذه العصا بقدرة الله -جل وعلا- قادرة على أن تأخذ شكل ثعبان، أو حية، أو جان. ارجع إلى سورة النمل لمزيد من البيان.

{ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} : ظاهر لكل إنسان يراه، وليس من نوع السحر، وملامحه وشكله المخيف لا تدعو إلى الشك.

ص: 20

سورة الأعراف [7: 108]

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} :

{وَنَزَعَ يَدَهُ} : من جيبه؛ أيْ: أخرج يده بعنف، وعسر.

{فَإِذَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. إذا: تفيد الفجائية.

{هِىَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} : من غير سوء؛ أيْ: أدخل يده في جيبه، والجيب في الأصل: هو مكان دخول الرأس في الثوب، ثم أخرجها فإذا هي تشع كالشمس من غير سوء، ليس فيها أي عيب؛ كالبرص، أو غيره؛ أيْ: هذا البياض ليس مرضاً، وبين ذلك في آية أخرى قال سبحانه:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12].

أيْ: أدخل يدك في جيبك، ثم أخرجها (انزعها): تخرج {بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} من غير سوء.

ص: 21

سورة الأعراف [7: 109]

{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} :

{الْمَلَأُ} : هم سادة القوم، ممثلو القوم (أو الشعب) من قوم فرعون. ارجع إلى الآية (75) وآية (103) من نفس السورة،؛ لمزيد من البيان.

{قَالُوا} : لما شاهدوا تحوُّل العصا إلى ثعبان مبين.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، ذا: اسم إشارة؛ يفيد القرب.

{لَسَاحِرٌ} : اللام: لام التوكيد.

{عَلِيمٌ} : صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير العلم في علم السحر، وفي سورة الشعراء آية (137) قال تعالى:{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} كان هذا رد الملأ على سؤال فرعون لهم فماذا تأمرون للمبالغة؛ فقد تأثروا بما حدثهم فرعون عن تربية موسى في قصره. ارجع إلى سورة الشعراء للبيان.

ص: 22

سورة الأعراف [7: 110]

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} :

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُم} : أن: للتوكيد.

{يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} : أرضكم: أرض مصر، وفي آية أخرى، قال:{يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35]. آية الشعراء من قول فرعون فهو يؤكد لهم أن ما جاء به موسى هو السحر كي لا يؤمنوا بموسى.

{فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. ماذا: استفهام؛ يفيد توكيد، أشد، وأقوى من: ما تأمرون.

فماذا تأمرون. قيل: هذا كلام فرعون.

يسأل الملأ من حوله: ما رأيهم؟ مما شاهدوه من السحر، فكيف يشاورهم، وهو الذي ادّعى أنه ربهم الأعلى، فهذا يدل على ضعفه، أو يحاول أن يستميل قلوب قومه.

وقيل: هذا كلام الملأ، يسأل بعضهم بعضاً.

ص: 23

سورة الأعراف [7: 111]

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} :

{قَالُوا} : أي: الملأ من قوم فرعون.

{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} : أخِّره، أخِّر هذه المسألة، أو أجِّل، أو اطلب الإرجاء في الحكم، في هذه المسألة.

{وَأَرْسِلْ} : وأرسل جنودك في كل مدينة، يبحثوا عن السحرة؛ كي يحضروهم إليك، وفي سورة الشعراء آية (36) {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}؛ البعث: معناه الإرسال، وفيه تحريض وإثارة أشد من الإرسال.

{فِى الْمَدَائِنِ} : في كل مدينة من مدن مصر المدائن، جمع مدينة، وهي القرية الكبيرة.

{حَاشِرِينَ} : أيْ: يجمعون إليك سحرة كل مدينة، ويسوقونهم إليك.

ص: 24

سورة الأعراف [7: 112]

{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} :

{يَأْتُوكَ} : من الإتيان: وهو المجيء بسهولة.

{بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} : بكل: الباء: للإلصاق، بكل ساحرٍ عليمٍ. كل: تفيد الاستغراق والشمول، وتعني كل من هو ماهر بفنون السحر، أو صيغة مبالغة؛ أيْ: عليم بعلم السحر.

وفي آية أخرى، قال:{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 37]: سحار: أقوى وأعظم سحراً من ساحر؛ أيْ: خبير، أو أستاذ في فن السحر، يُعلِّمُ السحر للآخرين، وفيها مبالغة أشد من ساحر عليم.

ونفسر القولين: بأن قسم من الملأ من قوم فرعون قالوا: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .

وقسم آخر قالوا: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} .

ص: 25

سورة الأعراف [7: 113]

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} :

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} : أيْ: جاؤوا بصعوبة من كل المدائن، أُحضروا بالقوة. فرعون الابن. ارجع إلى الآية (103) للبيان.

{قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} : أيْ: لا بُدَّ أن نؤتى أجراً على حضورنا وقيامنا بالسحر.

{إِنَّ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال.

{نَحْنُ} : للتوكيد.

{الْغَالِبِينَ} : على موسى وسحره.

لنقارن هذه الآية من سورة الأعراف، مع الآية (41) من سورة الشعراء:{قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} .

ففي آية سورة الشعراء: قسم من السحرة، قالوا:{أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} ؛ أيْ: يستفهمون.

وفي آية سورة الأعراف: قسم من السحرة، قالوا:{إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} : قد حكموا بضرورة وجود الأجر، جاء بصيغة الخبر.

فالقرآن ينقل لنا الصورة كاملة، ما قاله كل طرف، طرف يستفهم، وطرف واثق بأن لهم أجراً، وليس في القرآن تعارض، كما يظن البعض خطأً.

ص: 26

سورة الأعراف [7: 114]

{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} :

قال فرعون للسحرة: {نَعَمْ} : أيْ: لكم أجر، وأضاف أيضاً، {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .

وفي سورة الشعراء، الآية (42):{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ، أضاف إذن: للتوكيد على الوفاء بوعده أن لهم أجراً، وإنهم من المقربين، وأكَّد على كونهم من المقربين بإضافة لام التوكيد حين قال: لمن المقربين إليَّ إذا انتصرتم على موسى.

ص: 27

سورة الأعراف [7: 115]

{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِىَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} :

{قَالُوا} : أي: السحرة: {يَامُوسَى إِمَّا} : للتخيير، {أَنْ تُلْقِىَ}: أن حرف: مصدري؛ يفيد التوكيد.

{إِمَّا أَنْ تُلْقِىَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} : إما أن تلقي عصاك أولاً، أو نحن نلقي أولاً.

و {نَحْنُ} : يفيد التوكيد.

عند هذا السؤال أوحى الله -جل وعلا- إلى موسى عليه السلام : بأن يطلب منهم أن يلقوا أولاً؛ حتى تلقف عصاه ما يأفكون.

ص: 28

سورة الأعراف [7: 116]

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} :

{قَالَ} : موسى للسحرة: ألقوا ما أنتم ملقون.

{فَلَمَّا} : ظرفية زمانية؛ بمعنى: حين.

{أَلْقَوْا} : حبالهم، وعصيهم.

{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} : أيْ: حبالهم، وعصيهم، لم تتغيَّر، والذي تغيَّر هو أعين الناس، بسبب السحر؛ فالسحر لا يقلب الحقيقة، والحقيقة تظل كما هي، ويراها الساحر على حقيقتها، والناس يرون الحقيقة مختلفة. ارجع إلى سورة طه، آية (58) وسورة البقرة، آية (102)؛ لبيان معنى السحر.

{وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} : أيْ: أدخلوا الرهبة في نفوس الناس الحاضرين، المشاهدين، والرهبة: اضطراب النفس والخوف والشعور بالضعف والهرب.

{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} : أعظم ما عندهم من فنون السحر.

ص: 29

سورة الأعراف [7: 117]

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} :

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} : الوحي: هو إعلام بالخفاء. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لمزيد من البيان.

{أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا} : أن: مصدرية؛ تفيد التوكيد، أو تفسيرية. فإذا: إذا فجائية.

{تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} : أي: العصا؛ تتحول إلى ثعبان عظيم، تبتلع ما ألقوه.

{تَلْقَفُ} : بالضم؛ تعني: الأمر واقع الآن، أما حين يقول: تلقفْ بالسكون: فيعني: السحر لم يقع بعد، وسيقع في المستقبل.

{مَا} : موصولة، أو مصدرية؛ بمعنى: الذي.

{يَأْفِكُونَ} : من الإفك، وهو الكذب المتعمد، المختلق؛ أيْ: ما كان السحر الذي جاء به سحرة فرعون إلا كذب مختلق لا يصل إلى الحقيقة بشيء، بل هو أوهام، وتخيلات.

ص: 30

سورة الأعراف [7: 118]

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{فَوَقَعَ} : الفاء: للتعقيب، والسرعة.

{الْحَقُّ} : تبيَّن الحق، وظهر، وثبت بشكل حسي، وتبيَّن ما جاء به موسى عليه السلام ، هو الحق؛ أي: الصدق.

{وَبَطَلَ} : اندحر، وتبيَّن بطلان سحر السحرة.

{مَا كَانُوا} : ما: اسم موصول، أو مصدرية.

{يَعْمَلُونَ} : أيْ: يقولون، أو يفعلون.

ص: 31

سورة الأعراف [7: 119]

{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} :

{فَغُلِبُوا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{فَغُلِبُوا} : أي: السحرة؛ أي: انهزموا أمام موسى.

{هُنَالِكَ} : وأمام الناس، وفي مكان الاجتماع، اجتماع السحرة، والناس، وموسى، وفرعون.

{وَانْقَلَبُوا} : انقلب فرعون وقومه، والانقلاب: هو الرجوع إلى حالة غير التي كانوا عليها قبل إلقاء موسى لعصاه.

{صَاغِرِينَ} : جمع صاغر، والصغار: الاعتراف بالذل والإقرار به بما لحقهم من الهزيمة والخيبة، أما السحرة؛ فآمنوا عندما رأوا المعجزة، وخرّوا لله ساجدين.

ص: 32

سورة الأعراف [7: 120]

{وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} :

{وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ} : أيْ: خرّ السحرة ساجدين لله سبحانه؛ حين رأوا الحق، وعلموا أن ما جاء به موسى عليه السلام ليس سحراً، وتيقنوا أن عصا موسى حق؛ عندها لم يتمالكوا أنفسهم. وكلمة ألقى: تدل على سرعة الهوي إلى الأرض.

{سَاجِدِينَ} : وكلمة ألقي: تدل على أنهم خروا سجداً تلقائياً، من دون تردُّد، وظهرت فطرتهم الإيمانية، وزال عنها الحجاب، وأسرعوا بالعودة إلى فطرتهم الإيمانية، ولم يبالوا بأيِّ تهديد ووعيد من فرعون.

ص: 33

سورة الأعراف [7: 121]

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} :

{قَالُوا} : أي: السحرة: آمنا برب العالمين.

أما في سورة طه، فقالوا:{آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70].

السؤال: ماذا قال السحرة؟ هل قالوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ؟ أم قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} ؟

الجواب: كان هناك أكثر من سبعين ساحراً، فهناك من:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، وهناك من قال:{آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} .

السؤال الثاني: لماذا قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} ؟ وقدَّموا هارون على موسى؟

الجواب: لأنهم لو قالوا: رب موسى وهارون؛ فقد يظن أحدٌ ما أن رب موسى هو فرعون الذي رباه حين كان وليداً، ولذلك أخَّر موسى، وقدَّم هارون؛ لأن هارون لم يربِّه فرعون، وأتبع موسى بهارون.

ص: 34

سورة الأعراف [7: 122]

{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} :

وحين يقدِّم موسى على هارون يسبقه دائماً بالقول: رب العالمين، رب موسى وهارون، فلم يعد هناك شبهة لغوية، أو بيانية.

فهم قد آمنوا: أن رب هارون هو رب العالمين، ورب موسى وهارون هو رب العالمين.

ص: 35

سورة الأعراف [7: 123]

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} :

{قَالَ فِرْعَوْنُ} : ارجع إلى الآية (103). للبيان.

{آمَنْتُمْ بِهِ} : به: تعود إلى الله سبحانه، وقد تعود إلى موسى، أما قوله في سورة الشعراء، الآية (49):{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} : أيْ: صدقتم بموسى، وأطعتموه.

{قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} : أن: للتوكيد.

{آذَنَ لَكُمْ} : أسمح لكم.

{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} :

{إِنَّ} : حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد.

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه، وذا: اسم إشارة.

{لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} : المكر: هو التدبير الخفي؛ الذي تبيته لتنال من خصمك من دون أن يعلم بما تفعله؛ أيْ: هذه حيلة، أو خديعة تواطأتم مع موسى في المدينة سابقاً، قبل أن تخرجوا إلى هذا المكان.

{لِتُخْرِجُوا} : اللام: لام التعليل.

{لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} : أي: القبط، وتسكنون فيها، أنتم فيها؛ يعني: بني إسرائيل.

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} : وعيد، أجمله، ثم فصَّله في الآية التالية (124). وسوف: للمستقبل البعيد. فسوف: الفاء: للتوكيد؛ سوف تعلمون: لإدخال الرعب في قلوبهم، ولتدل على جبروته وظلمه.

{تَعْلَمُونَ} : عاقبة أمركم هذا بالتآمر مع موسى.

ص: 36

سورة الأعراف [7: 124]

{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} :

{لَأُقَطِّعَنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ} : من كل شق طرفاً؛ أي: اليد اليمنى، والرجل اليسرى، أو اليد اليسرى، والرجل اليمنى.

{ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} : ثم: تفيد التباين، بين القطع والصلب، وتفيد الترتيب، والتراخي بعد القطع تأتي مرحلة الصلب.

{أَجْمَعِينَ} : توكيد، ولم يذكر في هذه الآية كيف سيصلبنهم، ولكن شرح ذلك في الآية (71) من سورة طه.

فقال: {فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} : ارجع إلى سورة طه؛ للبيان.

وإذا نظرنا في سورة الشعراء، الآية (49): نجده عز وجل يقول: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

أضاف اللام في كلمة {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بدلاً من فسوف تعلمون، واللام: تفيد التوكيد؛ أيْ: تهديده في آية سورة الشعراء أشد وأقوى من تهديده في آية سورة الأعراف.

ص: 37

سورة الأعراف [7: 125]

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} :

وكأنهم يقولون: إنا لا نبالي بالموت؛ لأنَّا على أي حال {إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} : راجعون، وإنا: إنَّ: حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد، وفي سورة الشعراء، الآية (50):{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} .

لنقارن هذه الآية (125) من سورة الأعراف، مع الآية (50) من سورة الشعراء:{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} :

إضافة {لَا ضَيْرَ} في سورة الشعراء؛ لأن الوعيد في الشعراء أشدّ، فجاء الرد من السحرة مناسباً للوعيد بقولهم:{لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} .

أيْ: هناك من السحرة من قال هذا، وهناك من قال:{لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} .

ص: 38

سورة الأعراف [7: 126]

{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} :

{وَمَا} : الواو: عاطفة، ما: حرف نفي.

{تَنْقِمُ مِنَّا} : تعاقبنا، أو تثأر منا.

{إِلَّا} : أداة حصر، أن: حرف مصدري؛ يفيد التوكيد.

{آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} : صدقنا بالعصا، وغيرها من المعجزات التسع.

{لَمَّا جَاءَتْنَا} : لما: ظرف حين (أو زمن).

{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} :

ثم اتجهوا إلى خالقهم، فقالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} : ولم ينادوا: يا ربنا؛ لأنهم يعلمون أنه قريب منهم، ولا يحتاجون إلى أداة نداء.

{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} : أيْ: صب علينا الصبر صباً؛ حتى يفيض ويغمرنا؛ أيْ: هب لنا كل الصبر، الصبر الكثير التام؛ حيث سمعوا ما توعدهم فرعون به: من تقطيع الأيدي، والأرجل، والصلب، وكان قادراً على فعل ذلك.

{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} : ثابتين على الإسلام، والتوحيد، مخلصين لك.

ولم يرد في القرآن ما يدل على أن فرعون نفَّذ وعيده في السحرة، أم لا؟ وما حدث لهم، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما عنهم:(كانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة).

ص: 39

سورة الأعراف [7: 127]

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} :

وينتقل القرآن بنا إلى ما قاله الملأ من قوم فرعون، ويبدو أن موسى وهارون تركا المكان، ولم يقبض عليهما.

{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} : ارجع إلى الآية (103) من نفس السورة.

{أَتَذَرُ} : أتترك، والهمزة: همزة استفهام إنكار، وتعجب، موسى وقومه (بني إسرائيل) {لِيُفْسِدُوا}: اللام: لام التوكيد، {لِيُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ}: بدعوة الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة فرعون، ومخالفة أوامرك، وإثارة الفتن.

{وَيَذَرَكَ} : أيْ: لا يطيعك موسى، ولا يطيع آلهتك، فكيف تتركه يفعل ذلك.

{وَآلِهَتَكَ} : قيل: كان فرعون يعتقد أن هناك آلهة في السماء، وآلهة في الأرض، وهو الرب الأعلى في الأرض، كما قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .

وقيل: إنه كان لقومه أصنام حجارة يعبدونها، وفرعون لا يبالي بذلك؛ لأنه يظن أنه هو الرب الأعلى.

{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} :

انتبه! الملأ يسألونه عما سيفعله بموسى، وجوابه لم يتطرق إلى موسى، وإنما تطرق إلى قوم موسى الضعفاء؛ فهو يخاف من موسى باطناً، ويخاف الاتصال بموسى، ولا يريد مفاجأة أخرى، كما حدث أمام الناس يوم الزينة.

{سَنُقَتِّلُ} : السين: للاستقبال القريب.

{أَبْنَاءَهُمْ} : أي: الأطفال الذكور من بني إسرائيل، ويؤكد على قتل الأبناء، كما فعل سابقاً.

{وَنَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ} : نبقي نساءهم على قيد الحياة؛ للخدمة، والسخرة.

{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} : وإن حرف مشبه بالفعل؛ يفيد التوكيد.

{قَاهِرُونَ} : أيْ: غالبون؛ أيْ: هم تحت سيطرتنا، ونفعل بهم ما نشاء، فالمُلك، والسلطان لنا، وهم شرذمة قليلون، وقولهم قاهرون: تدل على الاستكبار والعلو، وتدل على تمكنهم من بني إسرائيل.

ص: 40

سورة الأعراف [7: 128]

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} :

{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} : هم بنو إسرائيل.

{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} : اطلبوا العون من الله، واصبروا على أذى فرعون وقومه، وما حل بكم، فما لكم إلا الصبر.

{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} :

{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} : إنَّ: تفيد التوكيد، الأرض لله؛ أي: وهو الحاكم، والمالك الحق، وهو يورثها من يشاء من عباده، متى يشاء، وكيف يشاء.

{لِلَّهِ} : اللام: لام الاختصاص، والملكية.

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} : بشارة من موسى لقومه، والعاقبة: الخاتمة للمتقين في الدنيا والآخرة، فما عليكم إلّا الصبر، والصلاة، والتقوى؛ هذا هو سلاحكم.

ص: 41

سورة الأعراف [7: 129]

{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} :

{أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} : كرسول، ونبي: بالقتل، والاستحياء، والتسخير؛ أي: الخدمة، أو أُوذينا قبل مجيئك، وقبل ولادتك.

{وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} : كرسول، ونبي، وأن الله لم يخلصنا، أو يكشف عنا العذاب، وينجينا من فرعون؛ أيْ: لم يتغير شيء، ويبدو أنهم في حالة يأس، وانهزام نفسي، ولم يحددوا ما جاء به موسى.

انتبه! إلى الفرق بين أتى وجاء: الإتيان: هو أيسر من المجيء، والمجيء: يستعمل لما هو أشق، وأصعب، وأشد، ولم يستعمل حرف به بعد كلمة تأتينا، أو بعد كلمة ما جئتنا؛ لأنه لا يريد سبحانه تحديد ما أتاهم، أو ما جاءَهم.

ولو استعمل به وقال: من قبل أن تأتينا به، أو ما جئتنا به؛ لحدد المعنى، ولكن لم يحدد؛ لكي تشمل كلَّ المعاني.

{قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} : عسى: فعل ترجي؛ لحصول الفعل في المستقبل؛ أيْ: أرجو من الله، وأطمع أن يهلك عدوكم (فرعون وملئه).

{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الْأَرْضِ} : أيْ: يمكن لكم في الأرض دِينكم، والسيادة، والملك، والنجاة من فرعون، وقومه.

{فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{كَيْفَ} : للاستفهام، والتعجب، والتخدير.

{كَيْفَ تَعْمَلُونَ} : هل تشكرونه، ويزداد إيمانكم، أو تكفرون، وتجحدوا نعمه عليكم.

{فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} : سبحانه! هو ينظر لا ليعلم ـ حاشا لله ـ فهو يعلم بكل شيء قبل أن يقع، ولكن لا يريد أن يحكم بعلمه على خلقه، ولكن يريد أن يحكم على خلقه؛ بفعل خلقه؛ حيث ترك لهم الإرادة، والاختيار، وليكون ذلك حُجَّة عليهم، وإقراراً منهم.

ص: 42

سورة الأعراف [7: 130]

{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية، لقد: اللام: لام التوكيد، قد: تحقيق وتوكيد.

{أَخَذْنَا} : الأخذ يكون باليد، أو اللسان، ويعني: بالعذاب، بقوة وشدة؛ أيْ: بالسنين.

{آلَ فِرْعَوْنَ} : أتباع فرعون، وأعوانه.

{بِالسِّنِينَ} : أيْ: بالقحط، والفقر، والمجاعة.

{بِالسِّنِينَ} : جمع سنة، وتعني: العام، وكلمة السنة في القرآن: تحمل معنى البؤس، والشدة، والقحط، والشر؛ بينما كلمة العام: تحمل معنى الخير، والبركة، والرزق، وهذا من خصائص القرآن.

{بِالسِّنِينَ} : الباء: للإلصاق، والتوكيد.

{وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} : ثمرات النخيل، والأعناب، والثمار، والفواكه؛ أيْ: بنقص بالزراعة.

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} : لعلَّ: أداة للتعليل، والترجي، تستعمل في الأمور الممكن تحققها.

{يَذَّكَّرُونَ} : تدل على المبالغة في التذكر؛ أيْ: أخذناهم بالسنين، بالقحط، والجدب، ونقص من الثمرات؛ لعلَّ ذلك يحدث لهم هزة قلبية، فيرتدعون، ويتعظون، ويعودون إلى رشدهم بعد طول نسيان، وضلال، وكفر.

ص: 43

سورة الأعراف [7: 131]

{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

{فَإِذَا} : الفاء: للترتيب، والتعقيب. إذا: ظرفية زمانية للمستقبل، وفيها معنى الشرط، وتدل على حتمية الحدوث.

{جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} : من الله، والحسنة: هي كل ما يسر النفس، أو تستحسنه؛ مثل: الغنى، والأمن، وكثرة الرزق، والعافية، والسلامة من الأوبئة.

{قَالُوا لَنَا هَذِهِ} : أيْ: نحن نستحقها؛ لأننا كذا وكذا، أو أوتيناها على علم، وخبرة، وقدرة.

{وَإِنْ} : الواو: حرف عطف، إن: شرطية؛ تدل على قلَّة الحدوث.

{تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} : مثل: بلاء، أو شدة، أو مجاعة، أو وباء عام، أو قارعة، والسيئة: كل ما يسوء النفس، وجاءت بصيغة النكرة؛ لتشمل كلَّ سيئة مهما كانت.

{يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} : يطيروا: أدغمت التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، والطير، والتطير: مشتقة من كيف يطير الطائر؛ حيث كان صاحب الطير في قديم الزمان يزجره، ثم يتركه يطير؛ فإذا طار عن يمينه: أصابه الفأل الحسن، وإن طار يساراً: دل على فأل سيِّئ، فالتطير، أو الطيرة: هي التشاؤم، وضده التفاؤل.

إذن: إذا أصابتهم سيئة تشاءموا بموسى، ويقولون: كل ما حدث من أشياء سيئة هو والذين آمنوا معه سببُها.

{أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} : ألا: أداة استفهام، وتنبيه.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} : أيْ: سبب شرهم، أو خيرهم هو من عند الله، هو الذي قدَّره لهم، ومن حكمته ومشيئته، وليس من موسى عليه السلام ، أو غير موسى.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :

{لَا يَعْلَمُونَ} : ما هو التطيُّر في الحقيقة؛ هو وهم، ومرض نفسي، وسببه ضعف الشخص، وبدلاً من أن يتَّهم نفسه بالعجز، والكسل، والجهل، يتَّهم غيره ليبرِّر لنفسه تقصيره.

ص: 44

سورة الأعراف [7: 132]

{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} :

{وَقَالُوا} : أيْ: آل فرعون.

{مَهْمَا} : قيل: إنها مكونة من مه: بمعنى اكفف، وما: اسم للشرط، مثل ما يفتح الله للناس من رحمة.

وقيل: إنها مكونة من ما: الشرطية، زيدت عليها ما: للتوكيد، مثل: إما يأتينكم، ثم أبدلت الألف الأولى هاء؛ لئلا تتوالى كلمتان من لفظ واحد.

وقيل: مهما: إنها كلمة واحدة، أو قيل: هي ما: المضاعفة؛ بغرض الإبهام.

{تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} : مثل العصا، وغيرها؛ لتسحرنا بها؛ لتصرفنا عما نحن عليه، فلن نؤمن بك، ونصدقك، فهم لم يميزوا بين المعجزة التي هي حق، وبين السحر الذي هو باطل.

وقولهم: مهما: يدل ذلك على تمادي فرعون في العناد، والضلال، والتحدي، وأنهم لن يقبلوا بأي آية (معجزة)، مهما كانت.

فيكون معنى الآية (مه): كف عن أن تأتينا بآية؛ فلن نصدقك، أو نؤمن لك.

ص: 45

سورة الأعراف [7: 133]

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} :

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} : الفاء: للتعقيب والمباشرة؛ أرسلنا على قوم فرعون؛ أي: استجاب الله لدعاء موسى عليهم، وأرسلنا: نون الجمع أو العظمة للدلالة على عظم وهول هذه الآيات، وعليهم: تدل على الشدة والمشقة؛ أي: تمكن هذه الأمراض منهم.

{الطُّوفَانَ} : المطر الشديد؛ المسبب للغرق، المدمر لمساكنهم، وزروعهم. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (14).

{وَالْجَرَادَ} : أرسله الله؛ لإتلاف الزرع، والثمرات.

{وَالْقُمَّلَ} : حشرات صغيرة؛ مثل: حشرة السوس؛ تؤذي الزرع، أو الحنطة، وقيل: أولاد الجراد، قبل أن تنبت الأجنحة، والمهم: هو ليس قمل الرأس المعروف.

{وَالضَّفَادِعَ} : بأعداد كبيرة، تلقي أنفسها في الطعام، أو القدور؛ فتفسد الطعام، وتشمئز منها النفوس.

{وَالدَّمَ} : كان يُرى في الماء العذب، ويرون الدم في الأنهار، حتى إن ماء نهر النيل؛ اختلط بالدم، وقيل: هو الرعاف.

{آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ} : مفصلات: تعني: لا توجد آية مع آية أخرى في زمن واحد، بل بين الآية والآية فاصل زمني، أو مشتقة من نفصل الآيات؛ أيْ: مبينات، ظاهرات، أنها من آيات الله سبحانه، وفيها عبر ومواعظ.

{آيَاتٍ} : وهي الآيات التسعة، وهي: العصا، واليد، والأخذ بالسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة (20 سنة) يريهم الآيات (المعجزات).

{فَاسْتَكْبَرُوا} : عن الإيمان بالله، والتصديق بموسى عليه السلام . ارجع إلى سورة البقرة آية (87) لمزيد من البيان.

{وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} : أيْ: مستمرين على ارتكاب الذنوب القبيحة، والشرك، والكفر، والعصيان. ارجع إلى سورة الأنعام آية (55) لبيان معنى المجرمين.

ص: 46

سورة الأعراف [7: 134]

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: استئنافية، لما: ظرف بمعنى حين، وفيها معنى الشرط.

{الرِّجْزُ} : العذاب، وأصل الرجز: من رجز الجمل؛ أي: ارتعشت قوائمه عند القيام أو ناقة، وجزاء؛ أي: تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها، ووردت هذه الكلمة في عشر مواضع من القرآن، وللبيان ومعرفة الفرق بين الرجس والرجز ارجع إلى سورة البقرة آية (59).

{وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} : وحين وقع عليهم العذاب، مثل: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

{قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} :

إذن: هذا السؤال يدل على أنهم أدركوا، أو آمنوا بأنَّ موسى عليه السلام مرسل من ربِّه، وقالوا:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} : ولم يقولوا: ربنا.

و {رَبَّكَ} : يدل على أن موسى عليه السلام هو أقرب إلى الرب منهم، فهم لم يؤمنوا بعد، وكذلك هم أيقنوا أن العذاب منزل من الله، ولن يرتفع إلّا بسؤال موسى، وإذا كانوا يعتقدون أن فرعون هو الرب، فلماذا لم يطلبوا من فرعون بدلاً من موسى عليه السلام أن يكشف عنهم الرجز.

{بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} : بما أوصاك، أن تدعوه فيجيبك، أو {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} في كشف العذاب.

{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} : لئن: اللام: لام التوكيد، إن: شرطية؛ تدل على الندرة، والاحتمال.

{لَئِنْ كَشَفْتَ} : رفعت عنا العذاب، أو لئن كشفت، والكشف؛ يعني: الزوال؛ أي: إزالته بعد نزوله، وأما دفع البلاء منعه قبل نزوله.

{لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} : اللام: لام التوكيد، نؤمننَّ: نون التوكيد الثقيلة؛ أيْ: لنصدقنك، أو نصدقنَّ ما جئت به.

{وَلَنُرْسِلَنَّ} : مثل: ولنؤمنَنَّ: لنخرجن معك بني إسرائيل؛ أيْ: نطلق سراح بني إسرائيل من مصر، ونتركهم يخرجون معك، واللام في لنرسلنَّ، والنون تفيدان التوكيد.

ص: 47

سورة الأعراف [7: 135]

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} :

{فَلَمَّا} : ظرف؛ بمعنى: حين، تتضمن معنى الشرط. فلمّا: عاطفة تدل على الترتيب، والتعقيب، فلما كشفنا: أزلنا، أو رفعنا عنهم العذاب، عن آل فرعون:{إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} : الأجل هنا هو إغراقهم في اليم؛ أيْ: إلى حين أوحينا أن موسى اضرب بعصاك البحر، أو كلما كشفنا عنهم العذاب إلى أجلٍ؛ أيْ: بعد رفع العذاب عنهم في كل مرة، يمكثون زمناً، ثم يطالبهم موسى بالإيمان، أو إرسال بني إسرائيل؛ إذا هم ينكثون عهدهم في كل مرة.

إذا: ظرف زمان فيه معنى الفجأة، ينقضون العهد الذي عاهدوه، والنكث في الأصل: مشتق من فك، وخيوط الصوف المغزول؛ أيْ: نقضها وحلها، ثم استعير لنقض العهد، كما قال -جل وعلا- :{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]. أنكاثاً: جمع نكث؛ أيْ: ما حُلَّ فتله من الغزل.

ص: 48

سورة الأعراف [7: 136]

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} :

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، فبعد أن نكثوا عهدهم في كل مرة.

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ} : في البحر، الانتقام: هو العذاب بسلب النِّعمة.

{بِأَنَّهُمْ} : الباء: للإلصاق، والتعليل.

{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : لم يؤمنوا بالآيات؛ أي: المعجزات، أو الآيات التسعة.

{وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} : وكانوا عنها معرضين، فالغفلة: تعني: تجاهل الأمر، ولم يلتفتوا إليها، لا يفكرون فيها ونسوها. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان.

وبهذا الخبر ينتهي خبر آل فرعون، وأما عملية إغراق فرعون، وكيف هلك، فذكر ذلك في آيات سورة يونس (90-91)، ونهاية مصيرهم ذُكر، أو جاء في آيات القصص، وهود، وغافر.

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41].

{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45-46].

{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].

ص: 49

سورة الأعراف [7: 137]

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} :

{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} :

أيْ: بني إسرائيل؛ لقوله في سورة الشعراء، الآية (59) كذلك:{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ} ، {كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ}: كان يستضعفهم فرعون، وآل فرعون؛ أيْ: يُذلهم، ويسخرهم لخدمته، وخدمة قومه، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم.

{مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} : المراد بها جميع نواحيها، أو جهاتها، ويعني: أرض مصر، والشام، مَلكها وحكمها بنو إسرائيل بعد الفراعنة، والعمالقة.

{الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} : بالماء الخصب، وسعة الأرزاق. باركنا فيها: تعود على الأرض؛ أرض الشام، ومصر.

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ بِمَا صَبَرُوا} :

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} : وعد ربك بني إسرائيل؛ بإهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، والتمكين في الأرض، وإقامة شعائر الدِّين والحرية، كما قال تعالى:{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ} [القصص: 5-6].

{الْحُسْنَى} : صفة ونعت لكلمة {رَبِّكَ} على بني إسرائيل.

{بِمَا صَبَرُوا} : الباء: للإلصاق، والتعليل؛ أيْ: بسبب صبرهم على فرعون وملئه؛ إذ كانوا يسوموهم بسوء العذاب، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم.

{وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} :

{وَدَمَّرْنَا} : الدمار: هو دائماً يأتي كعقوبة، ويشمل كل شيء بلا استثناء؛ أيْ: أهلكنا، خربنا ما كان يصنع فرعون. ارجع إلى سورة الإسراء آية (16) لبيان معنى دمرنا.

{مَا} : اسم موصول أو مصدرية؛ أيْ: دمرنا الذي كان مصنوعاً من فرعون وقومه، مثل: الأهرامات، والأبنية، والتماثيل، والصروح العالية، والأبنية المشيدة؛ كصرح هامان، وما: أوسع شمولاً من الذي.

{كَانَ} : زائدة؛ تفيد التوكيد.

{يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} : فرعون الأب (رمسيس الثاني)، والابن منفتاح. ارجع إلى الآية (103) من نفس السورة للبيان.

{وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} : أيْ: دمرنا جناتهم، وحدائقهم المعروشات، وغير المعروشات، وتكرار (كان)؛ لإثبات تدمير ما كان يصنع فرعون، وقومه من البنيان، وإثبات تدمير ما كانوا يعرشون من الجنات.

ص: 50

سورة الأعراف [7: 138]

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} :

{وَجَاوَزْنَا} : أيْ: مكّناهم من عبور البحر الأحمر، وساروا مسافة بعدها.

جاوز الشيء إلى غيره: قطعه، وخلفه وراءه.

{فَأَتَوْا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} : قدِموا ومرُّوا على قوم يعكفون؛ أيْ: يقيمون على أصنام لهم. من عكف: يقيم إقامة لازمة، أو عكف على الشيء: واظب على الشيء، ولم يتركه.

{عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} : أيْ: يعبدون أصناماً، ويقيمون، أو يواظبون على عبادتها، والأصنام: هي أجسام لها صورة الإنسان أو الحيوان مصنوعة من خشب أو معادن فالذهب أو الفضة أو النحاس أو حجارة تمثل أشخاصاً، أو أشياء خيالية. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (17) للبيان.

{لَّهُمْ} : أصنام خاصَّةً لهم، وليس لغيرهم؛ أي: ليست أصنام معروفة، أو مشهورة (عامة)، وتنكير هذه الأصنام للحط من شأنها، ولا قيمة لها.

{قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} : قالوا ذلك بعد رؤيتهم كيف أنجاهم الله من فرعون وجنوده، وفلق البحر، وعبوره؛ قالوا هذا القول؛ الذي يعتبر قمة الغباء، وعمى البصيرة، والشرك.

{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} : أيْ: صنماً نعبده، كما: الكاف: للتشبيه، ما: اسم موصول؛ أيْ: كالذي لهم من آلهة.

{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : قال موسى عليه السلام لهم: إنكم قوم جهلاء، وهي كلمة ذم؛ تعني: ليس عندكم؛ أيْ: علم في الدِّين: وأن العبادة لا تكون إلا لله وحده. ارجع إلى سورة الفرقان آية (63)، وسورة الزمر آية (64) لبيان تجهلون.

وجاء بالفعل المضارع: تجهلون: ليدل على تجدد جهلهم، واستمرار عمى بصيرتهم، فهم قد شاهدوا قوم فرعون من قبل، قبل أن يعبدوا الأصنام، ويعبدوا فرعون؛ فهم يريدون تقليدهم.

ولنقارن ثلاث آيات متشابهة تصف ثلاثة أقوام؛ وصفوا بالجهل:

أولاً: قوم نوح، الآية (29) من سورة هود:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .

ثانياً: قوم لوط، الآية (55) من سورة النمل:{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

ثالثاً: قوم موسى؛ بنو إسرائيل، الآية (138) من سورة الأعراف:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

فآية قوم نوح: جاءت في سياق طرد الذين آمنوا، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى .

وآية قوم لوط: جاءت في سياق الفاحشة.

وآية بني إسرائيل، جاءت في سياق الشرك، وعبادة الأصنام، وبما الشرك والارتداد الذي يطلبه بنو إسرائيل من أعظم الذنوب، وأعظم من الفاحشة؛ لذلك أكَّد بقوة:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، وأما قوله:{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} : ففيها توكيد أقل من التوكيد في: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، والتوكيد في:{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، أقوى من:{وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .

إذن: مقابل الشرك (أعظم الذنوب): قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

مقابل الفاحشة (من الكبائر): قال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

ومقابل طرد الذين آمنوا (بسب السيئات): قال: {وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .

ص: 51

سورة الأعراف [7: 139]

{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{هَؤُلَاءِ} : الهاء: للتنبيه، أولاء: اسم إشارة، يحمل معنى الذم، ويشير إلى القوم؛ الذين يعكفون على أصنام لهم.

{مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} : التتبير: هو الهلاك.

{مَا هُمْ فِيهِ} : من عبادة الأصنام؛ أيْ: هؤلاء الذين يعكفون على أصنام لهم، هم وأصنامهم هالكون، خاسرون.

{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : باطل زائل، لا يفيدهم، أو ينفعهم ذلك، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويحبط شركهم هذا ما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة ثواب لهم.

{مَا} : اسم موصول، أو حرف مصدري؛ أي: الذي كانوا يعملون، أو عملهم هذا باطل.

وإضافة {كَانُوا} : بدلاً من قوله: (وباطل ما يعملون): تفيد التوكيد، وتفيد الدلالة على بطالة الذي يعملونه، سواء أكان في الماضي، أم الحاضر، أم المستقبل، (كان) هنا تشمل: الأزمنة الثلاثة.

ص: 52

سورة الأعراف [7: 140]

{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} :

{قَالَ} : موسى عليه السلام لبني إسرائيل.

{أَغَيْرَ اللَّهِ} : الهمزة في أغير: همزة استفهام، وتعجب، وتوبيخ، واستغفار.

{أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} : ألتمس، أو أطلب لكم؛ أيْ: أأبغي لكم إلهاً غير الله؟! فيها تهويل، وتعجب، واستنكار شديد، وقدَّم كلمة غير المفعول به؛ للاهتمام بدلاً من القول:(أبغيكم غير الله إلهاً).

{وَهُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، تعود على الله -جل وعلا- .

{فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} : عالمي زمانهم ذاك؛ أيْ: على الأمم، أو الأقوام التي كانت تعيش في ذلك الزمن، ثم أراد أن يذكرهم ببعض نعمه عليهم، ومن أفضلها؛ نجاتهم من آل فرعون.

ص: 53

سورة الأعراف [7: 141]

{وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} :

{وَإِذْ} : ظرف زمان للماضي؛ أيْ: واذكروا إذ أنجيناكم، أو حين أنجيناكم.

{أَنجَيْنَاكُم} : ولم يقل: نجيناكم، أو نجاكم؛ لأن أنجيناكم: تدل على السرعة في النجاة، والقوة، والشدة في عملية النجاة، من الغرق، وعبور البحر، أما نجيناكم، أو نجاكم؛ فتدل على طول الزمن، والبطء في عملية النجاة، كما في يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم.

{مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} : من أتباع وأعوان فرعون.

{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} : يسومونكم: يبغونكم. ارجع إلى الآية (49) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان، وسورة القصص آية (4)، وسورة إبراهيم آية (61). ويسومونكم؛ تعني: يذيقونكم.

واختيرت هذه الكلمة؛ لأنها تجمع كل المعاني، ففرعون ابتغى لهم العذاب، وأذلهم وأعنتهم، وآل فرعون أذاقوهم ونفذوا فيهم سوء العذاب، وسوء العذاب: أشده وأفظعه.

والسوء: هو كل ما يغم الإنسان من أمور الدنيا والآخرة، أو يسيء إلى النفس، وسوء العذاب؛ يعني: الضرب، والشتم، والعنت إضافةً إلى {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ}: ولم يقل: (يذبحون أبناءكم)؛ لأن الذبح نوع من أنواع القتل، ويقتلون: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على حكاية الحال؛ أيْ: لإظهار بشاعة القتل، وكأنك تراه أمام عينيك.

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : من استحيا؛ أيْ: أبقاه على قيد الحياة؛ أيْ: يتركونهنَّ أحياء؛ للخدمة، وللمتعة، وللذل.

{وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} : ذلكم: اسم إشارة، يشير إلى البعد؛ أيْ: إلى سوء العذاب، والقتل، والاستحياء، وكذلك النجاة من الغرق، وقوله:{وَفِى ذَلِكُمْ} : ولم يقل: في ذلك، فذلكم: تفيد التوكيد، والتعدد.

{بَلَاءٌ مِنْ رَّبِّكُمْ} : البلاء: امتحان من ربكم، والبلاء، والابتلاء: يكون في الخير، والشر؛ لكي يرى أتشكرون، أم تكفرون؟ ولإقامة الحُجَّة، والإقرار عليكم.

{عَظِيمٌ} : لشدّته، وفظاعته، ليس فوقه بلاء؛ لما فيه من العذاب، والألم، وطول الزمن.

ص: 54

سورة الأعراف [7: 142]

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} :

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} : انتبه إلى واعدنا، غير وعدنا، الوعد: إذا كان بين طرفين، وقبل به كلا الطرفين، يقال: واعدنا.

وإذا كان الوعد من طرف واحد، يقال: وعدنا.

وهنا في هذه الآية؛ كانت المواعدة بين الله سبحانه، وموسى عليه السلام : أن الله سبحانه سينزل الألواح عليه بعد تمام ثلاثين ليلة، وأمره بصومها؛ فصامها، وقيل: كانت شهر ذي القعدة.

فلما أتم موسى الصيام؛ أنكر موسى رائحة فمه؛ فاستاك؛ فكان ذلك سبباً لزيادة العشر، وهذا تفسير قوله سبحانه:{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، وكانت هذه العشرة هي العشر الأوائل من شهر ذي الحُجَّة.

ونحن نذكر في سورة البقرة الآية (51)، قال -جل وعلا- :{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} ، ولا تعارض بين الآيتين، فآية البقرة جاءت بالأسلوب الإجمالي، وآية الأعراف جاءت بالأسلوب التفصيلي.

وانتبه! إلى قوله عز وجل : {ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ، أو {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، ولم يقل: ثلاثين، أو أربعين يوماً؛ لأن العرب تحسب بالليالي، فأول الشهر يبدأ بليلة أول الشهر؛ لكونهم يعتمدون على الأهلة؛ فصارت الأيام تبعاً لليالي.

{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} :

{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ} : عندما عزم على الذهاب للطور؛ لتلقي الألواح، قال موسى لأخيه هارون:{اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى} : أيْ: كن خليفتي في قومي؛ أيْ: راعياً لبني إسرائيل.

{وَأَصْلِحْ} : تفقد أحوالهم، وارفق بهم، وارعاهم، وحل خلافاتهم.

{وَلَا} : الواو: عاطفة، لا: الناهية.

{وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} : كيف يقول موسى عليه السلام لأخيه هارون النبي؛ الذي بعثه الله لمؤازرته هذا الكلام؟! وهو نبي، وكيف يتبع سبيل (طريق) المفسدين (بالشرك، والضلال، والباطل). ارجع إلى الآية (103) من نفس السورة؛ لبيان معنى المفسدين.

هذا يدل على أن موسى كان خائفاً أن تحدث فتنة، وخاصَّةً بعد أن رأى ما حدث من بني إسرائيل حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً، كما لهم آلهة بعد نجاتهم من آل فرعون، ونجاتهم من الغرق؛ فكأنه قد توقع حدوث فتنة بعد ذهابه، ويريد أن يحذر أخاه هارون؛ الذي يمتاز برأفة، ورحمة على بني إسرائيل.

ص: 55

سورة الأعراف [7: 143]

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: عاطفة، لما: ظرف زمان؛ بمعنى: حين.

{لِمِيقَاتِنَا} : اللام: الاختصاص. الميقات المكاني: جانب الطور الأيمن، والزماني:(40 ليلة).

{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} : عن قتادة قال: لما سمع موسى عليه السلام كلام الله له، طمع في الرؤيا؛ أي: اشتياقاً، والله أعلم بما دفعه للسؤال بذلك.

قال الحق سبحانه: {لَنْ تَرَانِى} : لن: هذه تفيد نفي المستقبل، ولكن لا تفيد النفي المؤبد، كما قال بعض المفسرين سابقاً؛ أيْ: لن تراني في الحياة الدنيا، أما في الآخرة؛ فقد يرى الإنسان ربه، كما دلت على ذلك الآيات، والأحاديث، مثل قوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26].

ولو قال سبحانه: لن أُرى؛ فهذا قد يعني في الدنيا، والآخرة.

وكذلك انتبه إلى قول موسى عليه السلام : {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} : فيها معنى: إن أريتني؛ فهذا من مشيئتك؛ أيْ: وهبت لي الطاقة على رؤيتك، وجاء جواب الله سبحانه لموسى بلطف وكرم، قال له:{لَنْ تَرَانِى وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} : أيْ: إنه أراد أن يُبيِّن لموسى عليه السلام لِمَ لا يستطيع أن يراه عز وجل ، ويجب عليه أن ينتظر إلى الآخرة؛ كي يرى ربه، ولم يقل جل جلاله : لن تراني، وانتهى الكلام، ولا تسألني عن شيء بعدها، لكنه سبحانه وتعالى قال:{وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} ، ولكن: حرف استدراك.

{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} : فإن: الفاء: للتعقيب، والمباشرة. إن: شرطية.

{اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} : ثبت، ولم يتزلزل، أو يصبح مستوياً بالأرض.

{فَسَوْفَ تَرَانِى} : الفاء: للتعقيب، سوف للمستقبل مع التراخي، ولماذا، جاء بسوف بدلاً من السين التي تدل على القرب في الزمان، وذلك لأن وقوع هذه الرؤية بعيدة المنال، ومستحيلة الحصول الآن.

وسوف: أكثر توكيداً من السين.

سوف: للتراخي في الزمن، أو للبعد الزماني، والاستبعاد المعنوي؛ أيْ: أن يحدث ذلك الأمر قريباً.

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} : فلما: الفاء: للتعقيب، والمباشرة. لمّا: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} : ظهر وانكشف، بدء ظهور نوره، والجبل: أعظم من الطور حجماً وارتفاعاً وعرضاً.

{جَعَلَهُ دَكًّا} : صار الجبل مدكوكاً: مسحوقاً كالتراب، ومستوياً مع وجه الأرض، لم يعد له أثر ارتفاع على الأرض.

ومعنى دكه: جعله مساوياً، أو مستوياً مع الأرض.

يقال ناقة دكاء: أيْ: ذاهبة السنام، مستوٍ ظهرها؛ كأن سنامها دك.

وأصل دككت: أيْ: دققت.

{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} : مغشياً عليه، أو مغمى عليه؛ أيْ: فاقداً لوعيه.

إذن: من رحمة الله -جل وعلا- بموسى عليه السلام : أنه لم يتمكن من رؤيته جل جلاله ، ولو أصر موسى لحدث له عليه السلام مثل ما حدث للجبل، وعدم استطاعته رؤية ربه؛ لأصبح عقاباً له، وليس رحمة له، وبمجرَّد أن تجلَّى ربه للجبل؛ أصبح الجبل دكاً، وخرّ موسى صعقاً.

{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} : الفاء: للتعقيب؛ لما: ظرفية زمانية؛ أيْ: حين: {أَفَاقَ} : من غيبوبته، وارتد إليه وعيه، وأفاق من صعقته.

{قَالَ سُبْحَانَكَ} : أيْ: أنزهك تنزيهاً من كل عيب، ونقص، وأنزهك عن الذي تصورته؛ أيْ: تصورت أني أستطيع رؤيتك، وهذا لا يليق بذاتك سبحانك؛ أيْ: لا تشبه خلقك.

{تُبْتُ إِلَيْكَ} : وكأن موسى شعر بالذنب بطلب الرؤية، وقد أخطأ، وشعر أنه قد دخل في زمرة الذين ما قدروا الله حق قدره.

وشعر أن ربه قد يبتعد عنه؛ فهو يريد العودة إلى ما كان عليه، وباب العودة معروف: هو التوبة أولاً؛ فلذلك نزه ربه وقال: تبت إليك.

{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} : أيْ: أول المؤمنين بأن لن يراك أحدٌ من خلقك في الحياة الدنيا، أو أول المؤمنين من بني إسرائيل، أو أول المؤمنين في الإيمان، ودرجة الطاعة، وأول المؤمنين: لا تعني ترتيباً زمنياً؛ لأن هناك الكثير ممن آمن قبل موسى؛ مثل: آدم، ونوح، وإبراهيم عليهم السلام.

وانتبه! إلى قوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} ، ولم يقل: إني تبت إليك؛ لتدل على السرعة في التوبة.

وانتبه! إلى قوله: {سُبْحَانَكَ} أولاً؛ أيْ: نزه ربه أولاً؛ أي: أصلح ما قاله، ثم قال:{تُبْتُ إِلَيْكَ} : أيْ: تاب ثانياً، ثم قال:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} : عاد، وأعلن إيمانه.

ص: 56

سورة الأعراف [7: 144]

{قَالَ يَامُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِى وَبِكَلَامِى فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

{إِنِّى} : إنّ: للتوكيد.

{اصْطَفَيْتُكَ} : الاصطفاء: الاختيار من بين أشياء متشابهة؛ كأن تختار قلماً من بين مجموعة أقلام.

أما الاختيار يكون من بين أشياء غير متشابهة؛ كأن تختار قلماً من بين ورقة، وكتاب، وقلم، فالاصطفاء عملية أشد وأصعب من مجرَّد الاختيار، والاصطفاء يحدث بعد الاختيار، والاصطفاء يكون لأمر، أو فعل متميز فريد في نوعه ربما لم يحدث قبل مثل تكليم الله رب العالمين لموسى لأول مرة. فالاصطفاء أعلى درجة من الاختيار، والاجتباء يشبه الاصطفاء، ولكن يأتي في سياق الأفراد وليس في الأفعال كما هو الحال في الاصطفاء.

{عَلَى النَّاسِ} : أيْ: برسالاتي، جمع رسالة في العقيدة، والعبادات، والمعاملات؛ أيْ: الشرائع، والشرعة: هي المنهج، أو الرسالة، ومجموعها رسالات أو رسائل، والباء: تدل على الإلصاق، والتوكيد، وتقديم الجار والمجرور {عَلَى النَّاسِ}: يفيد الحصر {عَلَى النَّاسِ} ؛ أي: اخترتك على الناس لتكون رسولاً إلى بني إسرائيل، برسالاتي: جمع رسالة؛ رسالة: التوحيد، والإيمان، والطاعة، والأخذ بالأوامر، وتجنب النواهي، والإيمان بالأخرة، ودعوة فرعون وقومه.

{وَبِكَلَامِى} : أيْ: تكليمي إياك من وراء حجاب؛ يعتبر اصطفاءً أيضاً.

{فَخُذْ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{مَا آتَيْتُكَ} : ما: اسم موصول، أو مصدرية؛ بمعنى: الذي أتيتُك.

{مَا آتَيْتُكَ} : من الألواح والرسالة، ولم يقل: ما أعطيتك. الإيتاء: ليس فيه تملك، كما هو الحال في العطاء، والإيتاء: أعم من العطاء؛ يشمل النواحي المادية، والحسية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (251)؛ لمزيد من البيان.

{وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} : لله؛ لهذا الاصطفاء، والتكليم، والإكرام، ولبيان معنى الشكر؛ ارجع إلى آية (10) في نفس السورة.

ص: 57

سورة الأعراف [7: 145]

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} :

{وَكَتَبْنَا لَهُ} : ولبني إسرائيل في الألواح، ولم يبين سبحانه عددها، والألواح قيل: هي غير التوراة، وغير الصحف التي أنزلت على موسى.

{مِنْ} : الاستغراقية، كل ما يحتاجه بنو إسرائيل في دِينهم، ودنياهم.

{كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً} : الوعظ: هو النصح بالترغيب، أو الترهيب، أو كلاهما، والوعظ: هو القول الصدق الذي يؤثر في النفوس المؤمنة، وغير المؤمنة.

{وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَىْءٍ} : أيْ: تبياناً لكل شيء، بيان للأحكام المفصلة للحلال، والحرام، والأمر، والنهي، والحدود.

{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة. بقوة: بجد، وعزيمة؛ عزم على الطاعة، والعمل بالأوامر، وتجنب النواهي، وتدبر المواعظ، والأمثال.

{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} : أحسنها: هناك حسن وأحسن؛ أيْ: مبالغة في الحسن، على وزن أفعل، وكلها تعتبر حسنة، وأحسنها؛ أي: الأكثر ثواباً؛ مثال: القصاص النفس بالنفس، والعين بالعين، وأحسن من القصاص: العفو.

{سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} : سأوريكم: السين: للاستقبال القريب.

{سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} : وهي النار، ونحن نعلم: أن كل مخلوق سيرد على النار؛ ليراها، وهي دار الفاسقين؛ لقوله -جل وعلا- :{وَإِنْ مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71].

وقد تعني: {سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} : في الدنيا، دار الفاسقين، مساكن الذين كفروا، وعصوا الرسل، أمثال: فرعون وأتباعه، وقوم عاد، وثمود، ولوط؛ لقوله تعالى:{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52].

وقوله تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص: 58]، ولمعرفة معنى الفاسقين: ارجع إلى سورة البقرة، آية (26).

ص: 58

سورة الأعراف [7: 146]

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} :

{سَأَصْرِفُ} : سأبعد، والسين: للاستقبال القريب.

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ} : أيْ: أصرفهم عنها، فلا يتأملونها، ولا يعتبرون بها، ولا يصدقونها، أو يعملون بها، والصرف يكون بالغفلة، أو الطبع أو المنع.

{آيَاتِىَ} : تشمل الآيات القرآنية، أو الكونية، أو المعجزات.

وإضافة الآيات إليه -جل وعلا- بقوله: {آيَاتِىَ} : تدل على أهمية، وشرف هذه الآيات

{الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : يتكبرون عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، وعن الإيمان، والتصديق برسلي.

والمتكبر: هو من أظهر عظم شأنه فوق ما يستحق، ولا يملك من مقومات الكبر: الغنى، والقوة، والسلطة، والجاه شيئاً.

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} : والسؤال هنا: هل هناك تكبر بحق؟ نعم، التكبر بالحق، لله وحده فقط، وكل من دون الله تعالى؛ فهو يتكبر بغير حق، أو حين يستكبر إنسان؛ لحماية الضعيف، أو يفعل ذلك لكف ظالم عن ظلمه.

{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد القلة أو الاحتمال.

{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} : مع كثرة الآيات لا يؤمنون بأي آية منها.

{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} : سبيل الرشد: طريق الهدى، والسداد، والصواب، والاستقامة في أمور الدنيا والدين؛ أي: في الأمور الدنيوية والأخروية والاهتداء لا يسلكونه. ارجع إلى سورة النساء، آية (6)؛ لمزيد من البيان عن الرشد.

{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} : سبيل الغي، طريق الضلال

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} : ذلك الصرف عن آيات الله أولاً؛ بسبب تكذيبهم بآيات الله المنزلة في التوراة، والآيات الكونية، أو المعجزات. وثانياً:{وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} : غير عاملين بها، أو مبالين بها، ونسوها، ولم يعدوا يذكرونها؛ بسبب الطبع على قلوبهم، أو بسبب الكبر، والتكذيب؛ فالذين يصرفون عن آيات الله هم الذين يتكبرون في الأرض بغير حق. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان عن معنى غافلين.

قد يظن قارئ أنه يكفي قوله سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} ؛ أنه سيسلك سبيل الغي إذا لم يسلك سبيل الرشد، والحقيقة: أن ذلك لا يكفي؛ لأن من يعرض، ويبتعد عن سبيل الرشد؛ قد لا يسلك سبيل الغي حتماً، فهو قد لا يسلك لا سبيل الرشد، ولا سبيل الغي، بل يقف على الحياد.

ولكي يؤكِّد على كونه لم يقف على الحياد، ويلغي ذلك الظن صرح بأنه سلك سبيل الغي.

ص: 59

سورة الأعراف [7: 147]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول يفيد الذم.

{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} : المنزلة على رسلنا، ولم يؤمنوا بها؛ أي: الآيات المنزلة في الكتب السماوية، أو المعجزات، أو الآيات الكونية الدالة على عظمة الخالق، ووحدانيَّته.

{وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} : ولم يصدِّقوا بالبعث، والحساب، والجزاء.

{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت أعمالهم التي عملوها في الدنيا. أعمالهم الحسنة: كالصدقات، والإحسان، وذهبت سدى؛ لفقدان شرط القبول: وهو الإيمان؛ أيْ: بسبب كفرهم، أو شركهم، أو عدم الإيمان. ارجع إلى سورة البقرة، آية (217)؛ لبيان معنى حبطت.

{هَلْ} : للاستفهام، والنفي.

{يُجْزَوْنَ} : الجزاء يكون مطابقاً للعمل، والعمل يشمل القول والفعل معاً.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولن يظلمهم الله مثقال ذرة.

ص: 60

سورة الأعراف [7: 148]

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} :

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى} : اتخذ: من أفعال التصيير.

{مِنْ بَعْدِهِ} : من بعد أن تركهم؛ ذاهباً إلى جبل الطور؛ لتلقي الألواح.

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} :

{وَاتَّخَذَ} : أيْ: صيروا، أو صنعوا من حُليهم. الحُلي هنا هي: الذهب، والفضة، وقال:{حُلِيِّهِمْ} : حلي بني إسرائيل، وحلي القبط التي استعاروها منهم، وبقيت عندهم بعد عيدهم، والذي اتخذ من حليهم عجلاً: هو السامري، وعبر بالقوم بدلاً من السامري؛ لأنهم شاركوا في الجريمة بإعطائهم الحلي له، ولم يعيدوها إلى أصحابها.

واتخذ: من الأفعال المتعدية؛ أيْ: لها مفعولان؛ فالمفعول الأول: هو {عِجْلًا} ، والثاني: محذوف تقديره: إلهاً، وفي جميع القرآن يحذف المفعول الثاني، وهو إلهاً؛ لأن هذا الإله لا يستحق أن يذكر اسمه لكونه عجلاً، أو صنماً، أو وثناً.

{عِجْلًا جَسَدًا} : أيْ: مجرد تمثال على هيئة العجل. جسداً: يعني: لا روح فيه.

{لَهُ خُوَارٌ} : الخوار: هو صوت البقر.

واختار السامري العجل بدلاً من غيره؛ لأن قوم موسى رأوا المصريين القدامى، وغيرهم يعبدون العجل.

{أَلَمْ يَرَوْا} : ألم: الهمزة للاستفهام، والإنكار، والتعجب.

{يَرَوْا} : الرؤية هنا: رؤية بصرية، أو عينية حقيقية.

{أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} : أنه: للتوكيد، لا: النافية، يكلمهم: ولو بكلمة واحدة، فكيف يعقل أن يكون إلهاً لا يتكلم، وكيف يهديهم إلى أيْ: سبيل، وهو لا يتكلم؟!

{وَلَا يَهْدِيهِمْ} : تكرار لا: لزيادة النفي.

{وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} : إذا ضلوا، وانحرفوا عن الهدى، والصواب. سبيلاً: نكرة تشمل أيَّ سبيل. لا يهديهم؛ أيْ: سبيل يمكن أن ينقذهم من ضلالهم، وغيِّهم.

{اتَّخَذُوهُ} : صيَّروه، وجعلوه إلهاً من جهلهم.

{وَكَانُوا ظَالِمِينَ} : أيْ: كانوا مشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ولمعرفة معنى الظلم: ارجع إلى سورة البقرة، آية (54).

وكانوا ظالمين لأنفسهم ولغيرهم؛ لأنهم أوردوها مورد الهلاك.

والظلم: الخروج عن منهج الله؛ فكل من يخرج عن منهج الله تعالى يُعدُ ظالماً لنفسه.

ص: 61

سورة الأعراف [7: 149]

{وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} :

{وَلَمَّا سُقِطَ} : لما: ظرفية زمانية؛ بمعنى: وحين بعد رجوع موسى إليهم.

{سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ} : لها تفسيران: يقال للنادم: سقط في يده؛ أي: سقط الندم في يده؛ أي: في قلبه؛ فالسقوط هو الندم، والسقوط بمعنى الوقوع، والسقوط أعم من الوقوع؛ أي: وقعت بهم الشدائد والمصائب.

التفسير الأول: ولما سقط (الندم) في أيديهم؛ أيْ: في أنفسهم؛ أيْ: بعد أن تبيَّنوا جريمتهم؛ باتّخاذ العجل؛ ندموا ندماً شديداً على شركهم، وكان ذلك بعد رجوع موسى، والسقوط يدل على السرعة، وشعروا بالندم بسرعة على ما فعلته أيديهم، وقالوا:{لَئِنْ لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

التفسير الثاني: النادم أحياناً يعض على يده من شدة الندم، ويقال للرجل النادم على ما فرط: قد سُقط في يده؛ أيْ: في نفسه؛ لأن اليد كانت هي السبب في الفعل السيِّئ.

{لَئِنْ لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} : ارجع إلى الآية (23) من سورة الأعراف؛ للبيان، ولمعرفة الفرق بين دعاء بني إسرائيل هذا ودعاء نوح وآدم، وقدَّموا الرحمة على المغفرة؛ لأن الرحمة أعم وأوسع من المغفرة، والمغفرة تأتي بعد الرحمة، فمن لا يرحمه ربه لا يغفر له، وأكَّدوا خسارتهم في الدنيا والآخرة باستعمال لام التوكيد في كلمة (لئن)، والنون في (نكوننَّ).

ص: 62

سورة الأعراف [7: 150]

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: عاطفة. لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} : من بعد استلام الألواح، والميقات. غضبان: على وزن فعلان ملآن غضباً، صيغة مبالغة؛ أيْ: شديد الغضب؛ لما فعله السامري وقومه من بعده.

{أَسِفًا} : الأسف: هو الحزن، والغضب معاً.

وأسفاً: صيغة مبالغة؛ تدل على الحزن الشديد، مع الغضب الشديد.

حين تقول: أنا آسف: يعني أسف عادي، وأنا آسِف: صيغة مبالغة، أو أسفاً شديداً.

{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنْ بَعْدِى} : بئس: من أفعال الذم؛ أيْ: بئس الخلافة، والخليفة: هو من استخلف في أمرٍ مكان من كان قبله، أو بئس شيئاً خلفتموني من بعدي؛ إذ عبدتم العجل، أو بئس الشيء خلفتموني من بعدي. كان يكفي خلفتموني، وإضافة من بعدي؛ أي: من بعد ذهابي إلى الطور، أو من بعد حذرتكم منه، وتدل على فظاعة وسوء ما فعلوا بعد غيابه من الضلال واتخاذ العجل، واستعمال (من) بدلاً من (الذي): لزيادة الإبهام على السامع، بينما الذي تستعمل للشيء المحدَّد على السامع، والخطاب موجَّه إلى من الْتقى بهم بعد رجوعه بمن فيهم أخوه هارون.

{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} : الهمزة: استفهام إنكاري، وعجل الأمر؛ أيْ: لم يتممه، وتركه ناقصاً.

{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعجلتم ميعاد ربكم، فلم تصبروا (40 ليلة) على عودتي، أو تحافظوا على وصيتي لكم (40 ليلة)؛ فعبدتم العجل، أو لم تنتَظروا أمر ربكم؛ حتى آتيكم بالتوراة، أو استبطأتموني، وظننتم أن لن أرجع إليكم.

{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ} :

{وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} : من شدة غضبه، وأسفه، ودهشته، وتكسر بعضها.

{قَالَ ابْنَ أُمَّ} : ولم يقل: ابن الأب؛ لأن أبا موسى وهارون ليس له خبر، أو ذكر في قصة موسى، وكل الآيات تتعلق بأم موسى، بعكس قصة يوسف: الأب هو المحور، وجاء ذكره في كل الآيات، ولم تذكر أم يوسف في أي آية.

{وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} ، وفي سورة طه، آية (94) قال:{يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى} : ذوائبه.

{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى} : أيْ: بشعري؛ أيْ: برأس أخيه، ولحيته يجره إليه؛ حيث ظن موسى عليه السلام أن أخاه هارون عصى الله؛ لبقائه معهم، ولم يلحق به، وبين هذا في سورة طه، الآيتان (92-93)، قال:{قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} .

{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} :

قال هارون لموسى عليه السلام : {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى} : أي: استذلوني، ولم يطيعوني.

{وَكَادُوا} : من أفعال المقاربة.

{يَقْتُلُونَنِى} : هذا يدل على أنه قد قاومهم، وخاصمهم، ولم يكن راضياً عما فعلوه.

{فَلَا} : الفاء: للترتيب، والتعقيب. لا: الناهية.

{تُشْمِتْ بِىَ الْأَعْدَاءَ} : الشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم، والأعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل.

{وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : ولم يقل: في القوم الظالمين؛ لأنه لم يكن في السابق، ولا في الحال، ولم يكن قط في زمرة الظالمين؛ أي: المشركين، أو الذين ظلموا أنفسهم بعبادة العجل؛ أيْ: لا تجعلني مع زمرة الظالمين، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (94) في سورة طه وهي قوله تعالى على لسان هارون:{يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} : نجد في آية طه جاءت بالسبب؛ سبب عدم تدخل هارون بشكل صارم بعدا اتخاذهم العجل، وفي آية الانحراف: يحذر هارون موسى؛ النتيجة: نتيجة جره من لحيته أمام الناس، وعدم الظن السيء به.

ص: 63

سورة الأعراف [7: 151]

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} :

بعد أن سمع اعتذار أخيه، وأنه حاول صدهم عن اتخاذ العجل؛ راح موسى عليه السلام يستغفر الله لنفسه ما قاله، وفعله بأخيه هارون، ويستغفر لأخيه كذلك عما حدث منه من تقصير في صد قومه عن عبادتهم للعجل، ويسأل ربه أن يدخلهما في رحمته، ويقول:{فِى} : الظرفية، {رَحْمَتِكَ}: أيْ: هو وأخوه، كان سابقاً في رحمة الله؛ أيْ: وأدخلنا في رحمة أخرى، أو رحمة جديدة.

{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} : الراحمين: جمع راحم، فهناك من البشر من يرحم، ولكن الله سبحانه هو أعظم الراحمين، أو أفضلهم.

{أَرْحَمُ} : على وزن أفعل، ومن يرحم الناس يسمَّى: رحيماً، وراحماً، فالله سبحانه أوصى خلقه بالتراحم، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ» [متفق عليه]، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (155) في نفس السورة وهي قوله تعالى على لسان موسى:{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : نجد أن في آية الاعراف (151) قال موسى: (رب اغفر لي ولأخي، وفي الآية (155) قال موسى: (فاغفر لنا) إذن طلب المغفرة في كلا الآيتين، والمغفرة تدل على ذنبٍ كبيرٍ، أو صغيرٍ، وطلب الرحمة في كلا الآيتين، وفي الآية (155) ذكر خير الغافرين؛ لأن ذنب الذين اتخذوا العجل كان أعظم مما حدث بين هارون وموسى.

ص: 64

سورة الأعراف [7: 152]

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} : اتخذوا: من أفعال التحويل، والتصيير؛ أي: اتخذوا العجل إلهاً.

{سَيَنَالُهُمْ} : السين: للمستقبل القريب؛ أيْ: في الدنيا.

{غَضَبٌ مِنْ رَّبِّهِمْ} : عذاب من ربهم، وهو ما أمرهم به، من قتل الذين اتخذوا العجل.

{وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} : خروجهم من ديارهم، وتشردهم: بالقتل، والجلاء، والجزية {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61].

{وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} : جمع مفترٍ: وهو الذي يختلق الكذب المتعمد؛ أيْ: كما جزيناهم بالغضب، والذلة؛ نجزي المفترين على الله الكذب، والمشركين بالله، والفرية مثل ما عمل السامري نجزي المفترين؛ أمثال: السامري

وغيره.

ص: 65

سورة الأعراف [7: 153]

{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

هذه الآية تشير إلى حكم عام، أما من اتخذوا العجل فكانت توبتهم قتل أنفسهم. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54).

وأما {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} : فقيل: الصغائر والكبائر.

{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} : من بعدها؛ أي: السيئات، وندموا على ما فعلوا، وعزموا على ألّا يعودا إليها، وأصلحوا ما أفسدوا، وأكثروا من النوافل. ارجع إلى سورة النساء، آية (16-17)؛ لمزيد من البيان.

{وَآمَنُوا} : أخلصوا إيمانهم لله، ولم يشركوا به شيئاً.

{إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} : بعد تلك السيئات {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . إن: للتوكيد.

أو {بَعْدِهَا} : من بعد التوبة، وتطبيق شروطها.

{لَغَفُورٌ} : اللام: تدل على التوكيد.

{لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} : ارجع إلى الآية (54) من سورة الأنعام؛ للبيان.

ولم يقل: لغفور رحيم لهم، بل جعل صفة الرحمة والمغفرة عامة، وشاملة، ولم يقيدها بهم فقط.

ص: 66

سورة الأعراف [7: 154]

{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} :

{وَلَمَّا} : الواو: استئنافية. لما: ظرف زماني؛ يعني: حين.

{سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} : شبَّه الغضب بشيء يُثير موسى، ويهيِّجه؛ فلما سكت عن موسى الغضب؛ أيْ: زال وانتهى، أو سكن؛ فالغضب جعله يلقي الألواح، ويأخذ برأس أخيه، ثم جاءت مرحلة الاستغفار، والألواح ما زالت ملقاة على الأرض، أخذ الألواح التي ألقاها.

{وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى} : أيْ: ما كتب فيها هدى، مصدر هدى، أو هو هدى يهدي للحق، والخير، ويهدي للغاية الموصلة إلى السعادة، والكمال في الدارين.

{وَرَحْمَةٌ} : الرحمة: جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، وتعني النِّعم، أو الأنعام على المحتاج.

{لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} : للذين: اللام: لام الاختصاص، والتوكيد. هم: لزيادة التوكيد، والمبالغة.

{يَرْهَبُونَ} : يخافون، والرهبة: هي الخوف الذي يمتد طويلاً، مع توقُّع العقوبة بعلم؛ أيْ: من دون شك؛ الخوف الذي يصاحبه ازدياد في نبضات القلب، واللجوء إلى الهرب؛ لتجنب وقوع العقوبة.

ص: 67

سورة الأعراف [7: 155]

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} :

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} : ولم يقل: من قومه؛ لأن من اختارهم موسى عليه السلام هم خيرة القوم، أو هم مختارون سابقاً من القوم، ولم يخترْ غيرهم؛ أيْ: ممثلو القوم وسادتهم، وربما اختار موسى عليه السلام عدة؛ أيْ: عدد قليل جداً لم يغيروا المشهد.

{سَبْعِينَ رَجُلًا} : يمثلون قومه؛ للاعتذار عن عبادة العجل، واتخاذه إلهاً.

{لِّمِيقَاتِنَا} : اللام: لام الاختصاص، ميقاتنا: الميقات الزماني، والمكاني للحضور، ويعني: لميقاتنا الثاني. الميقات الأول: حين استلم الألواح، وهذا الميقات: للاعتذار للربِّ.

{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} : الفاء: للترتيب، والتعقيب، لما: ظرفية، زمانية؛ تعني: حين. أخذتهم الرجفة: أصابتهم الزلزلة الشديدة المرعبة حين سألوا موسى عليه السلام ، وقالوا: أرنا الله جهرة.

{قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ} : قال موسى: رب لو: حرف امتناع لامتناع، ولم يقل: يا رب؛ لأنه يعلم أن ربه قريب منه، ولم يستعمل ياء النداء.

{أَهْلَكْتَهُم مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ} : من قبل مجيئنا للميقات، وإذا قارنا هذه الآية بالآية (9) من سورة النحل:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} نرى أنه سبحانه أكد على الهداية، ولم يؤكد على الهلاك؛ لأن الهداية أهم أو أصعب من الهلاك.

{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} : أتهلكنا: الهمزة: للاستفهام، والاستعطاف.

{بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} : الذين طلبوا رؤية الله سفهاً وجهلاً، أو قيل: الذين عبدوا العجل؛ أمثال: السامري، وأصحابه، أو كلاهما، وتشمل كلَّ السفهاء.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو الإلصاق، وما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي.

{إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} :

{إِنْ} : حرف نفي؛ أيْ: ما هي إلّا فتنتك.

{هِىَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{إِلَّا} : للحصر، والتوكيد.

{فِتْنَتُكَ} : ابتلاؤك، واختبارك. ارجع إلى سورة العنكبوت، آية (2)؛ لمزيد من البيان عن الفتنة.

{تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} : تضل بهذه الفتنة من أرادوا الضلال منهم، واختار لنفسه طريق الضلال؛ فهم أعطوا حق الاختيار؛ فاختاروا اتخاذ العجل بأنفسهم.

{وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ} : تهدي من أراد، أو طلب الهداية؛ أيْ: من رفض اتخاذ العجل إلهاً، وآمن بالله، ولم يشرك به.

{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} :

{أَنْتَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{وَلِيُّنَا} : المتولي لأمورنا، والمدبر لها، وحافظنا، والمعين لنا.

{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} : الفاء: للتوكيد، والترتيب، والتعقيب.

{فَاغْفِرْ لَنَا} : الغفر: هو الستر؛ أي: استر ذنوبنا، وامحها.

{وَارْحَمْنَا} : طلب الرحمة بعد الغفران، وتعني: أنعم علينا من نعمك، وقنا السيئات، والرحمة تعني: جلب ما يسر، ودفع ما يضر.

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : جمع غافر، من فعل غفر؛ أيْ: ستر، والمغفرة معناها: ستر الذنب، الغفور الذي يستر الذنوب والمعاصي، ولا يفضح صاحبها، ولا يعاقبه عليها، ويجازيه على ما قام به من أعمال صالحة (حسناته)، فلا يطرح السيئات من الحسنات.

وأما العفو: فهو الذي يسقط الذنب (يترك العقوبة)، ولا يقتضي إيجاب الثواب، وقد تمنُّ عليه بعفوك له، وتذكره به؛ لأنه ربما كان لا يستحق العفو.

وأما الصفح: فهو العفو مع ترك المن، وعدم ذكر الزلة لصاحبها؛ أيْ: ترك العقوبة، والمن، وعدم ذكر ذلك له.

أما بالنسبة للتدرج فكما يلي:

العفو: إسقاط الذنب، أو ترك العقوبة، ولا يقتضي الثواب.

الغفران: العفو مع إعطائه ثواب أعماله الحسنة.

الصفح: العفو مع عدم المن عليه بالعفو (ترك اللوم)، والصفح أبلغ من العفو.

والغفار: صيغة مبالغة؛ أيْ: كثير المغفرة كمّاً؛ أيْ: يغفر الذنوب الكثيرة مهما كثرت وتعدَّدت، أو تجددت.

الغفور: صيغة مبالغة كثير الغفر. قيل: يغفر الذنوب العظام؛ (صيغة مبالغة)؛ أيْ: يغفر الذنوب مهما كان نوعها إلا الكفر والشرك إذا لم يتب قبل موته، وتعني دوام المغفرة.

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : أنت: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : أفضل الغافرين، والغافرين: جمع غافر، وغافر يعني: الساتر للذنب، ولا يعاقبه عليه، إضافةً إلى ذلك يعطي لمن غفر له؛ ثواب أعماله الحسنة.

{خَيْرُ الْغَافِرِينَ} : معنى ذلك: أن هناك من الخلق من يغفر لغيره من الناس، ولا يعاقبه على ذنبه بأسباب، أو بغير أسباب؛ كأن يغفر له خوفاً منه، أو سمعة، أو رياء، أو صدقاً، وابتغاء وجه الله تعالى.

فكيف يدخل الله سبحانه ذاته مع خلقه في صفة الغفر، أو الخلق: خير الخالقين، أو الرزق: خير الرازقين، والوارثين، والحاكمين؟

والجواب على هذا: هو أولاً: إعطاؤهم هذه الصفات هي من فضله وإحسانه، أو وصفهم بهذه الصفات هي من فيض إحسانه، وفضله.

ثانياً: وإن أُعطوا هذه الصفات فهم عرضة للأغيار؛ فهي صفات غير دائمة؛ أيْ: زائلة بمجرد موتهم، وهي محدودة غير مطلقة، بينما صفات الخالق مثل الغفر والرحمة والرزق: صفات لا تتغير، أو تتبدل مطلقة غير محدودة، ودائمة غير زائلة منذ الأزل إلى الأبد.

ص: 68

سورة الأعراف [7: 156]

{وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} :

{وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} : واكتب: أيْ: آتِنا، وشرع لنا في هذه الدنيا حسنة. لنا: خاصَّةً في هذه الدنيا. حسنة: لمعرفة معنى حسنة ارجع إلى سورة البقرة، آية (201).

{وَفِى الْآخِرَةِ} : الجنة، والرضوان، والنعيم المقيم.

{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} : هاد؛ أيْ: رجع، وهدنا إلي: رجعنا إليك؛ أيْ: تبنا إليك، هذا كلام يعبر به موسى عليه السلام عن نفسه، وأخيه، وقومه، وخاصَّةً الذين عبدوا العجل؛ أيْ: تبنا إليك؛ فأنت أكرم من أن تردَّنا خائبين.

{قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} : أيْ: إذا أذنب العبد ذنباً؛ فأنا أعذبه، أو أغفر له، وقوله تعالى:{عَذَابِى} : فيه تحذير شديد حيث نسب العذاب له تعالى.

{وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} : ورحمتي؛ أيْ: في الدنيا وسعت كلَّ شيء؛ أيْ: تشمل الطائع، والعاصي، والمؤمن، والكافر، وكل شيء خلقه، ووسعت الذنوب جميعاً؛ إذا تاب العبد، وأناب إلى ربه.

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} :

{فَسَأَكْتُبُهَا} : الفاء: للتوكيد، والسين: للاستقبال القريب، والكتابة؛ تعني: رحمتي أمنحها أو أوتيها، والكتابة تحصل قبل، أو قيد العطاء، أو العقد المحقق حصوله وفيها معنى العهد، والله لا يخلف عهده.

{لِلَّذِينَ} : اللام: لام الاختصاص، والاستحقاق؛ أيْ: رحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، ولكن هذه الرحمة سوف تنتهي بالنسبة للكافرين متى توفتهم رسلنا، ولكنها رحمة مستمرة للمؤمنين، فسأكتبها في الآخرة:{لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} : (أي: الشرك والمعاصي) بامتثال أوامر الله تعالى، وتجنب نواهيه.

{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ} : هم: ضمير منفصل؛ يفيد: التوكيد.

{بِآيَاتِنَا} : التشريعية، والكونية، والمعجزات.

{يُؤْمِنُونَ} : يصدِّقون.

وجاءت: {يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} : بصيغة المضارع: للدلالة على الاستمرار، والتجدُّد.

ص: 69

سورة الأعراف [7: 157]

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} :

المناسبة: بعد أن ذكر الله -جل وعلا- مستحقي رحمته الذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياته يؤمنون.

روى عن ابن عباس: اليهود قالوا: نحن مستحقو هذه الرحمة، فجاء الرد: لو كنتم مستحقي هذه الرحمة؛ لآمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن من تعاليم التوراة: أن تتبعوا الرسول النبي الأمي؛ الذي تجدونه مكتوباً عندكم.

{فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ} : اسمه، ووصفه؛ النبي الأمي؛ أي: الذي لا يكتب.

والأمي: كما في لسان العرب لابن منظور: هو الذي لا يكتب، وليس كما هو متداول بين الناس: أن الأمي الذي لا يقرأ، ما يتلى عليه؛ أيْ: يتلو عن سماع، وأحسن من قرأ القرآن هم الأميون.

وكما وصفه ربه بأنه يأمرهم المعروف؛ أي: الموافق لما أمر به الشرع، وتعارفت عليه الأمة، أو تعني ما يجدونه في التوراة، والإنجيل يأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك يأمرهم بالمعروف.

{وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} : مثل الشرك، والباطل، وما تنكر صحته العقول السليمة، والشرع.

{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} : جمع طيب، والطيب: هو الحلال الطاهر.

{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} : جمع خبيثة؛ مثل: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والربا، والرشوة، والمال الحرام.

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} : الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه؛ أيْ: يحبسه من الحركة أو يحمله على ظهره؛ ارجع إلى سورة البقرة، آية (286)؛ لمزيد من البيان في معنى الإصر.

{وَيَضَعُ عَنْهُمْ} : أي: يحطها عنهم؛ أيْ: يخفِّف عنهم؛ كقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].

والإصر؛ قد يعني: العهد المؤكد بيمين، أو قسم.

{وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} : القيود، أو التكاليف الشاقة في الشريعة؛ مثل: الزكاة (25%)، تحريم العمل في السبت، القصاص بالقتل فقط، وليس بالدِّيَة، أو التسامح، إزالة النجاسة: بقطع طرف أو جزء من الثوب النجس، والأغلال: جمع غل: هو القيد الذي تربط به يد الجاني إلى عنقه، والمراد بها التكاليف الشاقة في بالشريعة.

{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} : به: تعود على محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَعَزَّرُوهُ} : أيَّدوه، وعظَّموه؛ أيْ: منعوه؛ حتى لا يقوى عليه عدوه؛ أيْ: حاموا عنه: دافعوا عنه.

{وَنَصَرُوهُ} : من النصرة على أعدائه.

{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ} : أي: القرآن أنزل معه.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} : أولئك: اسم إشارة للبعد؛ يفيد التعظيم؛ أيْ: إذا كان هناك مفلحون؛ فهم حقاً المفلحون.

{هُمُ} : ضمير منفصل؛ يفيد القصر، والتوكيد، والمبالغة.

{الْمُفْلِحُونَ} : الفلاح: الفوز، الظفر بالمرغوب، والدخول إلى الجنة. ارجع إلى سورة البقرة، آية (5)؛ لمزيد من البيان.

ص: 70

سورة الأعراف [7: 158]

{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَـئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الْأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

{قُلْ} : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} : أداة نداء، والهاء: للتنبيه، والناس: كافة الإنس والجن.

{إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ} : للتوكيد، رسول الله تعالى.

{إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} : إلى الناس جميعاً: للتوكيد كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، والسؤال هنا: لماذا جاءت (157-158) التي تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في خضم آيات بني إسرائيل؟ لأن اليهود جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فذكرهم الله سبحانه بأنه مالك السموات والأرض، وأنه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو الذي يحيي ويميت.

{الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : الذي: اسم موصول؛ يفيد المدح، والتعظيم له.

{لَهُ} : تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر؛ أيْ: له وحده حكم السموات والأرض.

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} : لا: نافية.

إله: اسم بمعنى: مألوه؛ أيْ: معبود، ولا معبود إلا هو، فما دام الوجود كله، السموات والأرض لله؛ فهو الأولى، والأحق: أن يعبد، وقمة العبادة: هي أن تشهد أن لا إله إلا الله، وما دام كونه إلهاً، فلا بُدَّ أن يطاع، ولا يطاع إلّا بما شرعه؛ أيْ: بمنهجه، وأول المنهج وقمته التوحيد، ولا أحد غيره يحيي ويميت. ارجع إلى سورة البقرة، آية (255)؛ لمزيد من البيان.

{لَا} : النافية.

{إِلَهَ} : اسم بمعنى: مألوه؛ أيْ: معبود، ولا معبود إلّا هو.

{يُحْىِ وَيُمِيتُ} : هو الذي يحيي، ويميت: صفة لا يشاركه فيها أحد من خلقه؛ أيْ: ماذا بعد الإقرار بوحدانية الله، وعبوديته؛ إلا الإيمان.

{فَـئَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الْأُمِّىِّ} : دعوة إلى الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، النبي، الأمي. ارجع إلى الآية (157) من نفس السورة، والآية (8) من سورة البقرة.

{الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} : أيْ: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي؛ الذي يؤمن بوحدانية الله، وبكل أركان الإيمان وفروعه.

{وَكَلِمَاتِهِ} : أيْ: ما تضمنته كتبه: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، ورسائله.

{وَاتَّبِعُوهُ} : اتبعوا هديه، وسنته، اتبعوا الإسلام.

{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : لعلَّ أداة ترجٍّ، أو للتعليل.

{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} : لعلَّكم: لعلَّ: للتعليل؛ أيْ: إذا اتبعتم أسباب الهداية الخاصَّة، والعامة، وآمنتم بالله، ورسوله، النبي، الأمي، وسألتم الله العون، فستهتدون.

ص: 71

سورة الأعراف [7: 159]

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} :

{وَمِنْ} : من للابتداء، والتبعيض، وتعني: ليس كل قوم موسى من بني إسرائيل.

{قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} : يرشدون الناس، ويهدونهم إلى الإيمان الصحيح، وطاعة الله، وعبادته، والعمل بالتوراة، وما أنزل الله فيها.

{بِالْحَقِّ} : بالوحي، أو التوراة، أو ما أنزل الله عليهم.

{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : به: تعود على التوراة، أو ما أنزل إليهم من ربهم، وبالحق يحكمون بين الناس؛ أيْ: يعدلون في الحكم.

{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : ولم يقل: بالحق يعدلون، بل قال:{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ؛ لأن الحديث عن بني إسرائيل، وضلالهم، وعنادهم، ومعلوم: أن إعادة الاسم الظاهر أقوى وأبلغ من الضمير، فقوله:{أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} وبالحق يعدلون: أبلغ، وأقوى في النفس من قوله:{بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .

{أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : وذلك؛ لأن الخطاب إلى بني إسرائيل، وكذلك كرَّر هذه حين قال في الآية (181):{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .

ص: 72

سورة الأعراف [7: 160]

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} :

{وَقَطَّعْنَاهُمُ} : القطع: الفصل بينهم بشكل ظاهر؛ أيْ: صيَّرناهم اثنتي عشرة أسباطاً؛ أي: اثنتي عشرة قبيلة.

السبط في بني إسرائيل يعادل قبيلة عند العرب.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} :

{وَأَوْحَيْنَا} : الوحي: هو إعلام بخفاء، أعلمنا موسى بطريق الوحي. ارجع إلى سورة النساء، آية (163)؛ لبيان معنى (أوحينا)، وتم هذا الإيحاء إلى موسى عليه السلام ، وهم في التيه.

{إِذِ} : ظرفية، زمانية؛ بمعنى: حين.

{اسْتَسْقَاهُ} : الألف، والسين، والتاء؛ تعني: الطلب؛ أيْ: حين طلب قوم موسى من موسى الماء للسقيا للشرب.

وهذا الطلب يعد المرحلة الأولى، وبعدها جاءت الآية (60) في سورة البقرة:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} موسى طلب السقيا من الله تعالى؛ فأوحى إليه أن اضرب بعصاك الحجر.

{أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} : أن حرف مصدري يفيد التوكيد، والتعليل.

{فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} : الانبجاس؛ قيل: هو خروج الماء، وتدفقه بقلة، أو ضعف، وليس كالانفجار الذي ورد في آية البقرة (60).

{اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} : عدد أسباط بني إسرائيل، أولاد يعقوب عليه السلام الاثني عشر، بما فيهم يوسف وأخوه.

السؤال هنا: ما هي الفروق بين هذه الآية، والآية (60) من سورة البقرة:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} ؟

ففي آية سورة البقرة: الذي استسقى، أو طلب السقيا الماء: هو موسى عليه السلام ، طلب من الله السقيا، وموسى أقرب إلى الله تعالى من بني إسرائيل، بينما في آية سورة الأعراف الذي طلب السقيا هم بنو إسرائيل، طلبوا السقيا من موسى عليه السلام .

الفرق الثاني: هو في آية سورة البقرة: {فَانفَجَرَتْ} ، وفي آية سورة الأعراف:{فَانبَجَسَتْ} ، والانفجار؛ يعني: بقوة، وسعة، وكثرة في تدفق الماء، وغزارة، مقارنة بقوله: فانبجست: التي تدل على تدفق الماء بقلة، وضيق، وبعض العلماء فسروا ذلك: بأن الانفجار حدث أولاً؛ لكثرة حاجتهم إلى الماء في البداية وعطشهم، وبعد ذلك خفت الحاجة إلى الماء؛ فقل الماء؛ فأصبح يتدفق بقلة حسب الحاجة بعد أن كان يتدفق بشدة؛ إذن حدث الانفجار، ثم الانبجاس.

{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (60).

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (57).

{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : ارجع إلى سورة البقرة، آية (57).

ص: 73

سورة الأعراف [7: 161]

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} :

قبل البدء بتفسير هذه الآية ومقارنتها بآية (58) من سورة البقرة لنعلم أن آية الأعراف (161) جاءت في سياق آيات التوبيخ والذم لبني إسرائيل التي افتتحت بقوله تعالى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، وكذلك لا بد من الرجوع إلى سورة البقرة لمقارنة هذه الآية لبيان لفروق بينهما.

{وَإِذْ} : واذكر إذ، أو واذكر حين.

{قِيلَ لَهُمُ} : قيل لهم: بصيغة المبني للمجهول مقارنة بقوله تعالى في سورة البقرة آية (58) قلنا، قيل لهم تدل على قلة الاهتمام.

{اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} : مقارنة بقوله تعالى في سورة البقرة آية (58) ادخلوا فلا تعارض بين الآيتين الدخول ثم السكن.

{هَذِهِ الْقَرْيَةَ} : الهاء: للتنبيه، ذه: اسم إشارة؛ للقريب، وقيل: هي بيت المقدس، أو ريحاً أو غيرها أمروا بدخولها بعد التيه.

{وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} : مقارنة بقوله تعالى: فكلوا منها حيث شئتم رغداً في سورة البقرة آية (58) حيث أضاف الفاء ورغداً.

{وَقُولُوا حِطَّةٌ} : أي: اغفر لنا، أو حط عنا أوزارنا، وخطايانا.

{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} : باب القرية، سجداً بتواضع، وخضوع لله -جل وعلا- ، واسجدوا لله عند دخولكم الباب، سجود شكر، ونجد تقديم وتأخير معاكس في كلا الآيتين آية البقرة وآية الأعراف يناسب سياق الآيات؛ في سورة البقرة: الاهتمام والتكريم، وفي سورة الأعراف: التوبيخ والذم.

{نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} : الغفر: هو الستر، والمغفرة هي ستر الذنب. لكم: أي نغفر لهؤلاء؛ الذين قاموا بما أمروا به. خطيئاتكم: الخطايا: هي الذنوب، وخطيئاتكم: جمع قلة. وسواء كان خطاياكم أو خطأكم: جمع خطيئة. خطاياكم: جمع كثرة (في مقام التكريم والاهتمام)، وخطأكم: جمع قلة (في مقام التوبيخ والذم).

{سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : السين: للاستقبال القريب. من النعم، والخيرات، والرضى، والثواب، والإحسان؛ هنا مستقل عن المغفرة؛ أي: نغفر لكم وأيضاً نزيد المحسنين.

انتبه إلى أن الواو في (وكلوا)، و (قولوا)، و (حطة): لا تدل على الترتيب، فسواء دعوا، أو دخلوا، أو أكلوا، أو أكلوا، أو دخلوا، أو دعوا؛ كلها مقبولة، والترتيب لا يهم.

في آية الأعراف قال: {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : الإحسان: مستقل عن المغفرة، فبعد الغفران سنزيد المحسنين.

أما في آية البقرة؛ فقال: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : الإحسان: المغفرة شيء واحد، وهذا أفضل من سنزيد المحسنين، الواو: تدل على الاهتمام.

ص: 74

سورة الأعراف [7: 162]

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} :

هذه الآية تتمة للآية التي جاءت بعد أن قل إيمان بني إسرائيل.

{فَبَدَّلَ} : الفاء: تدل على التعقيب، والمباشرة على التبديل.

{الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} : فقالوا: بدلاً من حط عنا خطايانا قالوا: حطة.

ودخلوا الباب من دون خضوع، وخشوع.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} : خاصَّةً؛ تفيد التوكيد.

{فَأَرْسَلْنَا} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة، والإرسال: فيه معنى الكثرة؛ أيْ: مرات عديدة، بعكس: أنزلنا؛ تعني: مرة، أو عدداً قليلاً.

{رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} : عذاباً من السماء.

أما الفرق بين الرجز والرجس:

فالرجس: المعاصي، والمآثم، والأصنام، والأوثان، وكل ما يستقبحه الشرع؛ فالرجس: يؤدِّي إلى الرجز: وهو العذاب؛ أي: الرجس أعم من الرجز، فالرجس يشمل الرجز (العذاب) وكل أمر، أو شيء مستقبح قذر مثل الأصنام والمعاصي. ارجع إلى سورة البقرة آية (59) لمزيد من البيان في معنى الرجز والرجس.

{بِمَا} : الباء: باء البدلية، أو السببية، ما: بمعنى: الذي.

{كَانُوا يَظْلِمُونَ} : من الظلم، وهو الشرك، وعدم الطاعة، والخروج عن منهج الله. ارجع إلى الآية (54) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان عن الظلم.

ولنقارن هذه الآية (162) من سورة الأعراف: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} .

مع الآية (59) من سورة البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .

آية سورة الأعراف في سياق الذين أقل إيماناً، وآية سورة البقرة في سياق الأكثر إيماناً، وإذا قارنا هاتين الآيتين نجد الاختلافات التالية:

ففي آية الأعراف قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} : منهم: تدل على التوكيد من بني إسرائيل.

أما في آية سورة البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} : فلم يذكر (منهم).

في آية الأعراف قال: {فَأَرْسَلْنَا} : تعني: مرات كثيرة، فيها شدة أكثر من {أَنزَلْنَا} التي وردت في سورة البقرة، فأرسلنا؛ أي: العذاب المرسل، إرسالاً متتابعاً، ومتكرراً، {أَنزَلْنَا}: يعني: مرة أو مرتين.

في آية الأعراف قال: {عَلَيْهِمْ} : أعم من (على) التي وردت في سورة البقرة؛ لأن عليهم: تشمل الذين ظلموا وغيرهم.

في آية الأعراف قال: {يَظْلِمُونَ} ، وفي سورة البقرة {يَفْسُقُونَ} ، والظلم أشد من الفسق، وأعلى درجة، والفسق يسبق الظلم، وهو أقل إثماً من الظلم، ويعني: الخروج عن طاعة الله، أو الدِّين.

ص: 75

سورة الأعراف [7: 163]

{وَسْـئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} :

{وَسْـئَلْهُمْ} : ولم يقل أخبرهم عن قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، بل لأن هذه القصة لها أهمية وشأن، والسؤال موجَّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يسأل اليهود من بني إسرائيل عن قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وهذا السؤال له غايات عدة منها: أن هذه القصة ليست كما وردت في التوراة فهم حرفوها وغيروها، وكانوا يكتمونها، وأن الله سبحانه أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة فهي علامة على صدق نبوته، ولتكون أيضاً عبرة لمن يحاول الاحتيال على ما حرم الله سبحانه، وعاقبة أمره الخسران والهلاك وجدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

{عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} : القرية: المدينة، وقيل: هي مدينة العقبة على البحر الأحمر، أو مدين.

{حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} : قريبة، أو مجاورة للبحر؛ البحر الأحمر على شاطئه.

{إِذْ} : ظرف زمان؛ بمعنى: حين.

{يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} : فقد أمروا أن يعظموا السبت؛ بترك العمل فيه، والتفرغ لعبادة الله، ونهوا عن الاصطياد في ذلك اليوم، ولكنهم خالفوا أمر الله، وتجاهلوه، وتجاوزوا الحد.

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} : السمك، والعرب تستعمل كلمة الحوت، وتعني السمكة.

{يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} : أيْ: ظاهرة على وجه الماء، شرعاً: جمع شارع من شرع عليه؛ أي: اقترب وأشرف، وتطلق على إتيان الإبل والنعم نحو الماء لتشرب إذا شرعها الرعاة تسابقت واكتظت مع الماء فهو تشبيه بديع؛ شارعة ظاهرة على وجه الماء في كل ناحية؛ فقد كان السمك يأتيهم بكثرة، ويطفو على سطح الماء، ويسهل صيده، ومن دون عناء يوم السبت فقط، وبأعداد كبيرة.

{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} : في باقي الأيام من النادر أن ترى سمكة في الماء.

{كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : أيْ: مثل ذلك البلاء الشديد.

{نَبْلُوهُم} : نختبرهم، والابتلاء قد يكون في الخير، أو الشر. نبلوهم هل يطيعون ما أمرهم الله به بعدم الاصطياد.

{بِمَا} : الباء: للتعليل، أو بسبب ما كانوا يفسقون؛ لأن من سنة الله سبحانه: أن من عصاه يبتليه بأنواع كثيرة من المحن، والمصائب؛ لتزداد ذنوبه، وآثامه، أو يتوب ويعود إلى طريق الإيمان، ومن يطع الله كذلك يبتليه؛ لزيادة ثوابه في الآخرة، أو يرتد عن الإيمان، ولا يصبر.

ولكن حاولوا الاحتيال على ما حرَّم الله، فكانوا يرمون بشباكهم في البحر في غير يوم السبت؛ مثل يوم الجمعة مثلاً، وتبقى شباك الصيد في الماء؛ فإذا جاء يوم السبت دخلت الأسماك في الشباك، ولم تستطِع الخروج، وفي يوم الأحد مثلاً يخرجون شباك الصيد الممتلئة بالأسماك، وهكذا زين لهم الشيطان أعمالهم، وظنوا أن الله راضٍ عنهم.

{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} : من الاصطياد يوم السبت، والفسق: وهو الخروج عن طاعة الله ومعصيته. ارجع إلى سورة البقرة، آية (26)؛ لبيان معنى الفسق.

ص: 76

سورة الأعراف [7: 164]

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} :

{وَإِذْ} : واذكر إذ قالت، أو حين قالت. إذ: ظرفية زمانية؛ للزمن الماضي.

{قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ} : أمة: جماعة، أو فئة منهم من أهل القرية التي كانت حاضرة البحر؛ إذ انقسمت القرية، كما قيل إلى ثلاث جماعات، أو فئات.

الفئة الواعظة؛ أي: الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر.

الفئة الموعوظة؛ أي: العاصية التي تحتال، وتصطاد يوم السبت.

الفئة الثالثة: المتبقية من أهل القرية، ليس هم من الفئة الواعظة، أو الموعوظة، ويمكن تسميتهم الفئة الحيادية المتفرجة.

{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} :

{لِمَ} : استفهامية.

{تَعِظُونَ} : من الوعظ، ويعني: النصح، والتحذير، والأمر، والنهي، والإرشاد بأسلوب الترغيب، والترهيب. ارجع إلى آية (45) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.

{إِذْ} : بمعنى: حين قالت أمة منهم (الفئة الثالثة الحيادية) تسأل الفئة الواعظة (الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر)؛ لما تعظون الفئة العاصية التي تصطاد (الفئة الثانية).

{اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا} : لما تعظون الفئة العاصية التي تحتال، وتصطاد في يوم السبت ما دام اختاروا أن يهلكهم الله، أو يعذبهم عذاباً شديداً؛ أيْ: مصيرهم إلى الهلاك.

{قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} : قالت الفئة الواعظة: نعظهم؛ ليكون لنا عذراً عند ربنا؛ لأننا لم نستطع هدايتهم، أو منعهم من ارتكاب المعصية، وهي الصيد يوم السبت.

{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : أيْ: والسبب الثاني: لعلَّهم يتقون.

لعلَّ: تفيد التعليل.

{يَتَّقُونَ} : يطيعون أوامر الله، ويتجنبون الاصطياد يوم السبت، ويعودون إلى رشدهم؛ لأننا لم نيأس بعد من هدايتهم.

{وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : إذا قاموا بأعمال التقوى الأخرى، وسألوا الله العون؛ لعلَّ الله يجعلهم من المتقين.

ص: 77

سورة الأعراف [7: 165]

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَـئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب، والترتيب؛ أيْ: مباشرة، لما: ظرفية، زمانية، وشرطية؛ بمعنى: حين.

{نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} : أيْ: لما لم تعد الفئة العاصية تستمع إلى أي نصح، أو تحذير، وأصبحت مهملة وغير مبالية بوعظ الفئة الواعظة {نَسُوا مَا}: ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، ومصدرية.

{ذُكِّرُوا بِهِ} : من قبل الفئة الواعظة بعدم الاصطياد.

{أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} : أنجينا: تدل على السرعة، والقوة، ولم يقل: نجينا التي تدل على البطء وطول الزمن.

{الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} : هم الفئة الواعظة، الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر.

{عَنِ السُّوءِ} : العمل الذي تسوء عاقبته، وهنا؛ يعني: الاصطياد يوم السبت.

{يَنْهَوْنَ} : جاء بصيغة المضارع؛ لتدل على أنهم لا يزالون يأمرون بالمعروف، وأن عملهم هذا لم يتوقف، ولم يقل: أنجينا الذين نهوا عن السوء.

{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} : أي: الفئة العاصية الموعوظة.

{الَّذِينَ ظَلَمُوا} : بعدم طاعة الله، والإصرار على المعصية، وظلموا أنفسهم.

{بِعَذَابٍ بَـئِيسٍ} : الباء: للإلصاق، بئيس: من البأس: وهو الشدة؛ أيْ: عذاب ذي بأس، أو ذي شدة.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، أو السببية، أو التعليلية.

ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي.

{كَانُوا يَفْسُقُونَ} : من الفسق: وهو الخروج عن طاعة الله، وعصيانه.

ص: 78

سورة الأعراف [7: 166]

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} :

{فَلَمَّا} : ارجع إلى الآية السابقة (165).

{عَتَوْا} : طغوا، وتجاوزوا الحد في المعصية، وتمرَّدوا وتكبَّروا، وازدادوا فساداً، ولم يعد فيهم أمل في العودة إلى طاعة الله، والكف عن عصيانه.

{قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} :

{قُلْنَا لَهُمْ} : صيَّرناهم، أو حَولناهم إلى قردة خاسئين: صاغرين، أذلاء، حقيرين.

{خَاسِئِينَ} : مطرودين، مبعدين عن رحمة الله تعالى.

من الخسوء: وهو الطرد، والإبعاد، خسأت الكلب من باب منعته، وطردته، وزجرته.

قيل: عذبوا عذاباً شديداً، ثم مسخوا قردة، وعاشوا ثلاثة أيام، أو عدة أيام، ثم انقرضوا، وبعض المفسرين قالوا: كان المسخ مسخاً معنوياً، والله أعلم.

وأما مصير الفئة الثالثة: فقد قيل: إنها نجت برحمة الله، وعفوه.

ص: 79

سورة الأعراف [7: 167]

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} :

واذكر {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} : أعلم من الأذان، وهو الإعلام، والكلام عن بني إسرائيل.

{لَيَبْعَثَنَّ} : اللام: لام التوكيد، والنون: لزيادة التوكيد.

{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} : يسلطنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم، مثل: البابليين، المجوس، والألمان، وغيرهم.

{مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} : من يذيقهم، من سام؛ أيْ: طلب. ارجع إلى الآية (49) من سورة البقرة؛ لمزيد من المعنى.

يعني ذلك: أن الله سيسلط، ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم سوء العذاب، ويستمر ذلك إلى يوم القيامة.

{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} : إن حرف مشبّه بالفعل؛ يفيد: التوكيد. لسريع: اللام: لام التوكيد، سريع العقاب للظالمين، والمفسدين، والعاصين، وسرعة عقابه هي رحمة منه للمظلومين؛ لكي يتخلصوا من ظلم الظالمين، وبالمقابل: إن ربك لغفور رحيم لمن تاب، وآمن، وعمل صالحاً.

لنقارن هذه الآية مع آية سورة الأنعام (165): {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

الاختلاف في الآيتين: يرجع فقط إلى زيادة اللام في كلمة {لَسَرِيعُ} : والتي تفيد التوكيد على أنه سريع العقاب.

والعقاب: هو الجزاء على الفعل؛ أيْ: يدل على المعاقب يستحق العقاب، عَقيب فعله، أو إجرامه، من دون تأخير.

والسبب في التوكيد: أن آية الأعراف: جاءت في سياق بني إسرائيل، وعدم التزامهم بأوامر الله، كما ورد في أصحاب السبت، وعبادة العجل، ونتق الجبل، ولذلك أكَّد الله أنهم يستحقون العقاب في الدنيا؛ لأنهم يستمرون على فعل المعاصي، ويظنون أنهم سيغفر لهم، وأما آية سورة الأنعام: فجاءت في سياق العقوبات في الآخرة.

ص: 80

سورة الأعراف [7: 168]

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الْأَرْضِ أُمَمًا} : أي: بني إسرائيل، فرَّقناهم في الأرض طوائف، فلا يكاد يخلو بلد منهم، وأمماً: جمع أمة، أو جماعة من الناس، تجمعهم عقيدة، أو شريعة واحدة؛ بغض النظر عن العدد، أو الحيز الجغرافي.

{مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} : أيْ: منهم المؤمنون بالله، وبموسى عليه السلام ، وبالتوراة.

{وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} : أي: الأقل صلاحاً، وإيماناً.

{وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} : بالنِّعم، والغنى، والجاه، والأمن، والصحة، وبالشدائد، وقلة الأمن، والخوف، والتشرذم.

{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : عن فسادهم، وطغيانهم، ويتوبون إلى الله.

ص: 81

سورة الأعراف [7: 169]

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} :

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} : الخلَف: بفتح اللام تستعمل لمن يأتي بعد من السلف؛ فإن حققوا مثالية السلف؛ يُطلَق عليهم خَلَفٌ، وإن ابتدعوا، وغيَّروا، وخالفوا السلف يعتبروا خلْفاً (بتسكين اللام).

فالعرب تستعمل خَلَفاً: في المدح، والخير، أو الصالح.

وتستعمل خلْفاً: بتسكين اللام في الذم، والسوء، أو الطالح.

وفي هذه الآية: نجد خَلْفاً بسكون اللام؛ أيْ: فَخَلَفَ من بعدهم خَلْف: ذرية سوء، أو ذرية غير صالحة.

{وَرِثُوا الْكِتَابَ} : أي: التوراة.

{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} : العرض: هو المتاع، والمال؛ كالرشوة، والربا، والسحت، أو الحرام.

الأدنى: من الدنو، أو الدناءة؛ أيْ: عرض هذه الدنيا.

{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} : السين: للاستقبال القريب؛ أيْ: يقولون بعد أن يأخذوه: سيُغفرُ لنا أفعالنا السيئة عن قريب؛ لأنهم يظنون أنهم أبناء الله، وأحباؤه، أو فضّلهم الله على العالمين. وسيغفر لنا: بناء الفعل للمجهول؛ لأنهم يظنون باطلاً أن ذنوبهم كلها مغفورة حتى بدون توبة واستغفار.

{وَيَقُولُونَ} : جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على استمرار، وتجدد أفعالهم، وأخذهم الحرام، وأنهم مصرُّون على الحرام، والآثام.

{وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} : أيْ: من المفروض، بعد الاستغفار، والتوبة، أن يكفوا عن العودة إلى أخذ العرض الأدنى، أخذ المال الحرام، وغيره من الخبائث، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى فعل ذلك، المرة تلو المرة.

{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} :

{أَلَمْ} : الهمزة: همزة استفهام تقريري، وتوبيخي.

{يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ} : الكتاب: هو التوراة، والميثاق: هو العهد، المؤكد، الموثق، وقيل: الميثاق في التوراة: هو من ارتكب ذنباً عظيماً، لا يغفر له إلا بالتوبة، والتوبة: تعني عدم الرجوع إلى ارتكاب الذنب مرة أخرى.

{أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} : أي: الصدق، وما ورد في التوراة من دون تحريف، أو تبديل.

{أَنْ لَا} : هذه، أن لا: تجمع معانيَ كثيرة منها:

بألا يقولوا على الله إلا الحق.

في ألا يقولوا على الله إلا الحق.

على ألا يقولوا على الله إلا الحق.

لئلا يقولوا على الله إلا الحق.

{أَنْ} : مصدرية، أو مفسرة.

{لَا} : قيل: إنها نافية، وقيل: إنها ناهية.

{وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} : قرؤوا التوراة، وفهموا معناها جيداً، ويعرفون أحكامها، ويذكرونها، فلِمَ كذبوا، فقالوا: إن الله سيغفر لهم، وكيف يغفر لهم، وهم مصرُّون على العودة إلى المعاصي، وقول الباطل.

{وَالدَّارُ الْآخِرَةُ} : أي: الجنة.

{خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} : للذين: اللام: لام الاختصاص، يتقون: المعاصي، والحرام، ويتقون غضب الله، والنار؛ أيْ: يطيعون أوامر الله، ويجتنبون نواهيه.

{أَفَلَا} : الهمزة: استفهام إنكاري، وتعجب، وتوبيخ، وأداة حضٌّ وتحمل معنى الأمر على التقوى، وعدم القول على الله إلّا الحق.

{تَعْقِلُونَ} : تفهمون أن الجنة، (الدار الآخرة) أفضل من الدنيا، وحطامها. تعقلون: مشتقة من عقل الشيء؛ أيْ: عرفه بدليله، وفهمه بأسبابه، ونتائجه، ويعني: الموازنة بين الأشياء؛ للوصول إلى الحقيقة.

ص: 82

سورة الأعراف [7: 170]

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} :

بعد أن ذكر الخَلْف: الطالح من اليهود؛ يذكر في هذه الآية الخَلَف: بفتح اللام؛ أي: الصالح من اليهود؛ الذين يعملون بالتوراة، وقد تشمل كلَّ الأمم التي تتمسك بكتابها، سواء أكان التوراة، أم الإنجيل، أم القرآن.

{وَالَّذِينَ} : اسم موصول؛ يفيد المدح.

{يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} : يُمَسِّكون؛ يعني: أن الماسك تمكن مما يمسك؛ أيْ: فيه مبالغة في المسك؛ أيْ: يعملون بالكتاب، سواء كان التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن، ويطبقون أحكامه، وحلاله، وحرامه، وما أمروا به.

{بِالْكِتَابِ} : بالباء: للإلصاق (بكل الكتاب).

{يُمَسِّكُونَ} : بصيغة المضارع؛ تدل على التجدُّد، والتكرار، والاستمرار، وليس بزمن ما وانتهى، بل هو زمن مطلق، ولأن التمسك يكون دائماً، ولا ينقطع بكتاب الله عز وجل .

{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} : بأركانها، وشروطها، وأوقاتها، وخشوعها، واختيرت الصلاة من بين العبادات؛ لأنها أهم أركان العبادة، وتمثل العبادات الأخرى.

{إِنَّا} : للتعظيم.

{لَا} : النافية.

{نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} : ولم يقل: إنا لا نضيع أجر الذين يمسكون بالكتاب، أو لا نضيع أجرهم، وإنما جاء بكلمة:{أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} : لأن الأجر لا يختص بهؤلاء الذين يمسكون بالكتاب، وإنما يشمل كل المصلحين، وهؤلاء الذين يمسكون: هم من زمرة المصلحين.

انتبه! إلى التغير في الصيغ: {يُمَسِّكُونَ} : جاءت بصيغة المضارع، و {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}: جاءت بصيغة الماضي، ولم يقل: يقيمون الصلاة، لماذا هذا التغيُّر؟

الجواب: لأن إقامة الصلاة لها أوقات محدودة، ولذلك جاءت بصيغة الماضي.

أما التمسُّك بالكتاب (بالقرآن)، أو غيره من الكتب؛ فهو مطلق، كما ذكرنا سابقاً غير محدد بوقت، وكذلك الإصلاح؛ مثل: التمسك غير محدد بزمن.

والفرق بين استمسك، ومسك؛ كقوله تعالى:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43]؛ أيْ: يأمرنا أن نستمسك بالقرآن، والألف، والسين، والتاء: للطلب، وبعد مرحلة الطلب استمسك؛ تأتي مرحلة التمكُّن من المسك؛ يعني: الماسك تمكن من المسك؛ أيْ: يُمَسِّكون بشدة، واستمرار، ويعتصمون به، ويلتزمون بالعمل بما فيه.

ص: 83

سورة الأعراف [7: 171]

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} :

{وَإِذْ} : أيْ: واذكر حين، أو اذكر إذ نتقنا.

{نَتَقْنَا} : النتق: هو قلع الشيء من جذره، أو نزعه، أو خلعه من الأرض؛ بتحريكه يمنة ويسرة، وهزاً وجذباً.

{الْجَبَلَ} : ولم يقل: الطور؛ الجبل أعظم حجماً، وبناءً من الطور.

{فَوْقَهُمْ} : ظرف مكاني، وقدَّم الجبل على الظرف فوقهم: جرياً على الأصل، فهذا هو الأصل.

وفي آية (63) من سورة البقرة، قال تعالى:{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} .

فإذا قارنا هاتين الآيتين: نجد في سورة البقرة، قال تعالى:{وَرَفَعْنَا} ، ولم يقل:{نَتَقْنَا} : النتق: هو أشد، وأقوى من الرفع؛ لأن النتق: هو اقتلاع الشيء بشدة، فيه جذبٌ مع تحريك، والنتق يسبق الرفع.

وقال تعالى: {الطُّورَ} : وليس الجبل، وقدَّم فوقهم، لماذا هذا الاختلاف؟ لأن سورة الأعراف: جاءت في سياق الأقل إيماناً من بني إسرائيل، وفي سياق التقريع، والتهديد لهؤلاء الخلْف، ولذلك استعمل في الأعراف لفظ الجبل بدلاً من الطور، وكلمة النتق بدلاً من الرفع، وقدَّم لفظ الجبل عليهم.

بينما في سورة البقرة: جاءت في سياق الأكثر إيماناً من بني إسرائيل، وسياق التكريم، وسياق ذكر نعم الله عليهم، فاستعمل كلمة الرفع، والطور، وقدَّمهم على كلمة الطور.

{كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} : سحابة تظلّهم.

{وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} : أيقنوا أنه ساقط، أو سيقع عليهم، إنذار لهم بوقوعه، والظن هنا: هو الظن الراجح؛ الذي تغلب، أو ترجح فيه كفة الإثبات على كفة النفي.

{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} : بجدٍّ، وقوة، وعزيمة؛ أيْ: نفِّذوا أحكام التوراة، أو خذوا التوراة بجدٍّ، وعزيمة، واعملوا بها، ولا تؤمنوا ببعض، وتكفروا ببعض.

{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} : من الأوامر، والنواهي، والأحكام، ولا تنسوها، وبيِّنوها للناس.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : لعلَّ: للتعليل، تتقون وقوع الجبل فوقكم، والقضاء عليكم، وتتقون عذاب النار، وسخط الله تعالى، وغضبه عليكم.

ص: 84

سورة الأعراف [7: 172]

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} :

{وَإِذْ} : أيْ: واذكر إذ، أو اذكر حين أخذ ربك من بني آدم.

{مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} : الذرية: هم النسل، الأولاد، والبنات، والذرية تكون جمعاً، وتكون واحداً.

وبنو آدم: هم أولاد آدم، من لدنه إلى أن تقوم الساعة.

لفهم وتفسير هذه الآية تحتاج إلى الاستعانة بالإعجاز العلمي للقرآن.

فكيف يأخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم؟ بالتزاوج، والإخصاب، والتناسل الذي يتم بالإلقاح، الحيوان المنوي الخارج من الخصية، والبويضة الخارجة من المبيض، وما يتلو ذلك من تطورات في عالم الجنين، ودلت اكتشافات العلم الحديث: أن الخصية التي هي مصدر الحيوان المنوي، والمبيض الذي هو مصدر البويضة كلاهما ينشأ من الخلايا الوريقة المتوسطة التي هي واقعة في المنطقة التي هي ظهر الجنين، إضافةً إلى خلايا الوريقة الخارجية، والداخلية التي تشكل الجنين، وبدلاً من القول: الخصية، أو الحيوان المنوي، والمبيض، والبويضة، أو أعضاء التناسل، قال: الظهر؛ لأن الوريقة الوسطى التي نشأت في الظهر؛ شكلت الأعضاء التناسلية، فاختصر كل ذلك بقوله:{مِنْ ظُهُورِهِمْ} ، وقال:{مِنْ ظُهُورِهِمْ} ، ولم يقل:(من ظهر آدم)؛ لأن الكل أُخرجوا من ظهره، فاستُغني عن ذكر آدم؛ لأن الكل يفهم أن آدم هو الأصل، وكل إنسان يعلم أنه خلق من ظهر أبيه، وأمِّه، وأبوه وأمُّه كانوا في ظهور آبائهم، وأمهاتهم، وهكذا حتى آدم، فكل إنسان في الحقيقة يحمل ذرة، أو ذرات من آدم، وهذه الذرات تسمَّى: الجينات، والمحفظة الوراثية، والحمض النووي المسمَّى (دي، ن، أي).

وهذه الجينات، والمورثات التي عندنا؛ انتقلت إلينا بطريقة الوراثة؛ فهي قد تشكلت في العهد الأول حين خلق الله تعالى آدم، وشهدت بأن الله ربّها، وخالقها، وأنه لا إله إلّا هو لا شريك له، حين عرض الله تعالى على آدم الأمانة؛ فقبل أن يحملها، وهذا يسمَّى عهد الذر، أو العهد الذري.

فكل ذرة أو خلية في جسم الإنسان (المؤمن، والكافر، والصالح، والطالح) تؤمن بالله، ولكن الله سبحانه أعطى الإنسان القدرة على التحكم بهذه الخلايا، أو الذرات، أو الجزيئات حتى يأتي يوم القيامة، وتشهد له، أو تشهد عليه، فالمؤمن الصالح ذرات جسمه متوازنة مطمئنة منسجمة؛ لأنها تعمل حسب الفطرة التي خلقت عليها، بينما ذرات الكافر، أو المشرك غير متوازنة، تعمل بما يأمرها صاحبها، وهي كارهة للقيام بذلك، فتراه غير مطمئن، وغير متوازن، ويخاف أن تسأله عن الله سبحانه، أو دِينه.

{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} : أقررهم ألست بربكم: استفهام تقرير.

والله سبحانه قادر أن يخاطب أي شيء من خلقه، وقادر أن يخاطب الذر، ويخاطب كل ذرة خلقها؛ لتشكل آدم، وتكون كالأم، أو المحفظة الوراثية بلغة العلم الجيني، وبالتالي تنتقل بالوراثة إلى ذرية آدم، فرداً فرداً إلى أن تقوم الساعة، وتتمثل هذه كذلك في الفطرة البشرية، السليمة، المسلمة لربها.

الفطرة التي تقر بأن لها رباً خالقاً، وكما ورد في الحديث الشريف:«كل مولود يولد على الفطرة» .

{قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} : فهذه الذرات، وبالتالي الجينات الوراثية شهدت أن خالقها هو الله؛ بقولها: بلى شهدنا أنك إلهنا، وأنه لا إله إلا أنت؛ فكانت هذه شهادة الوحدانية في العهد الفطري، أو عهد الذر.

{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} :

{أَنْ تَقُولُوا} : أن: مصدرية (أو مفسرة)؛ للتعليل والتوكيد. ارجع إلى آية (169).

{إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} : أيْ: أخذنا عليكم هذا العهد حتى لا يكون لكم علينا حُجَّة يوم القيامة بأنكم لم تُبَلَّغوا بأنه إله واحد أحد، أو ليس لكم إله، أو رب. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان في معنى غافلين.

ص: 85

سورة الأعراف [7: 173]

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} :

ولئلا تقولوا، أو حتى لا يقولنَّ أحد منكم يوم القيامة.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} : أيْ: نحن نقلد آباءنا، أو كنا عن هذا غافلين؛ أي: الغفلة عن عهد الذر، والتقليد هي أعذار الكافرين.

{أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} : أفتهلكنا: الهمزة همزة استفهام، وتعجب، ولمعرفة معنى الهلاك: ارجع إلى الآية (4) من نفس السورة.

{بِمَا} : الباء: للإلصاق، أو السببية، ما: مصدرية، أو اسم موصول؛ بمعنى: الذي، وهي أوسع شمولاً.

{فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} : المبطلون: جمع مبطل؛ اسم فاعل من أبطل؛ يعني: آباءَهم؛ لأنهم أبطلوا منهج الله تعالى، ولم يرغبوا إلى سماعه، ولا إلى تبليغه، فهم يدعون أنهم لا ذنب عليهم؛ لأنهم قلَّدوا آباءهم، والباطل: هو الزائل (الذاهب)، أو ما لا وجود له. ارجع إلى سورة الأنبياء، آية (18)؛ لمزيد من البيان.

إذن: ليس لهم عذر في التقليد، والإشراك، كما لم يكن لآبائهم عذر في الإشراك، أو الغفلة.

ص: 86

سورة الأعراف [7: 174]

{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} :

مثل هذا البيان لعهد الذر؛ نبيِّن لهم الآيات؛ ليتدبروها.

ولعلَّ الغافل يصحوا من غفلته، ويرجع عن كفره، أو شركه.

ولعلَّ المقلد لآبائه؛ يرجع عن تقليد الآباء، واتباع الباطل إلى اتباع الحق، والإيمان بوحدانية الله تعالى، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته.

ص: 87

سورة الأعراف [7: 175]

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} :

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} : يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{نَبَأَ} : أي: الخبر العظيم عن الذي.

{الَّذِى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} : أيْ: علمناه آياتنا التشريعية؛ أي: التي وردت في الكتب المنزلة؛ مثل: التوراة، والإنجيل، والقرآن. وقيل: هو ابن باعوراء، أو عامر الراهب. وقيل: أمية بن أبي الصلت، واسمه غير مهم.

عالم من علماء بني إسرائيل، أو أحداً من علماء السوء.

{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} : من الآيات، كفر بها، ونبذها وراء ظهره؛ طمعاً في حطام الدنيا، ومتاعها؛ أي: المال، والجاه؛ أيْ: باع آخرته.

والأصل في السلخ: هو إزالة الجلد عن الشاة، أو الحية من ثوبها؛ أيْ: تركها، وخرج منها، كما تخرج الحية من ثوبها، أو ينسلخ الجلد عن الشاة المذبوحة؛ أيْ: بعد أن تعلم آيات ربه، ودينه، وأصبح عالماً؛ تخلى عن كل ذلك، وباع دِينه لعرض من دنياه، وجحد، وأنكر آيات ربه.

{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} : أيْ: لحق به، وصار ملازماً له، يجري وراءه خطوة خطوة مخافة أن يعود إلى الإيمان.

{فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} : فصار من الضالين عن منهج الله بعد أن كان من المهتدين. ارجع إلى سورة الحجر آية (42) للبيان.

ص: 88

سورة الأعراف [7: 176]

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} :

هذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذا تهاونوا في دِينهم، ولم ينكروا المنكر؛ ابتغاء عرض من الدنيا مثل: المال، والجاه، أو مالوا إلى الهوى، واشتروا الدنيا، وباعوا آخرتهم.

{وَلَوْ شِئْنَا} : شرطية.

{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} : أكرمناه، ورفعناه منزلة وقدراً، واللام في كلمة لرفعناه: للتوكيد، الباء: للتعليل.

{بِهَا} : أي: الآيات.

{وَلَكِنَّهُ} : حرف استدراك، وتوكيد.

{أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} : مال إلى الدنيا، واختارها، ورغب فيها عن الآخرة، أو باع آخرته من أجل المال، والجاه، والشهوات.

{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} : الهوى: ارجع إلى الآية (119)، من سورة الأنعام؛ للبيان.

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} :

فأصبح مثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه؛ أيْ: تطرده؛ يلهث، أو تتركه مرتاحاً يلهث، واللهث: هو التنفس الشديد، السريع، مع إخراج اللسان.

ويلهث؛ لأن جسم الكلب لا توجد فيه غدد عرقية إلا في قدميه؛ فهو يلهث ليتخلص من العرق الذي تجمع في جسمه؛ كي ينظم حرارة جسمه، فمثل الذي يعرض عن الإيمان، ويحرص على دنياه؛ أيْ: يصبح جائعاً للدنيا؛ إن تعطه لا يشبع، وإن لم تعطه لا يشبع، يريد أكثر فأكثر، لا يهمه إلّا دنياه؛ إن حملت عليه كما تحمل على الكلب؛ أيْ: إن وعظته هو ضال، ومتبع هواه، وإن تركته، ولم تعظه ضال، وتمثيله بالكلب؛ يدل على خسة حاله، وذلة نفسه وهوانها؛ ذلك المثل الذي ضربناه لك للذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها، واتبع هواه، هو مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان، ومكان، وباعوا آخرتهم بدنياهم.

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ} : فاقصص: الفاء: للترتيب والمباشرة؛ أيْ: قص عليهم قصة الذي انسلخ عن آياتنا؛ لعلَّهم يحذرون، أو يتفكرون، ويرجعون إلى الحق.

ص: 89

سورة الأعراف [7: 177]

{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} :

{سَاءَ} : فعل ماض؛ لإنشاء الذم، مثل: بئس.

{سَاءَ مَثَلًا} : أيْ: بئس ذلك المثل الذي ضربناه للذي انسلخ عن آياتنا، وشبهناه بالكلب، وهو مثل ينطبق على كل الذين كذبوا بآياتنا، ولم يؤمنوا بها، ويصدقونها، وأضاف الآيات إليه سبحانه؛ فقال:{بِآيَاتِنَا} : ولم يقل: الآيات؛ لعظمة تلك الآيات.

{وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} : بتدنيسها بالشرك، والمعاصي، والتكذيب؛ فهم لن يضروا إلا أنفسهم، وقدَّم كلمة أنفسهم على يظلمون، بدلاً من القول: وكانوا يظلمون أنفسهم؛ للاهتمام، وأن الإساءة مقصورة عليها خاصَّةً.

والظلم: هو الخروج عن منهج الله تعالى في أي زمان، ومكان. ارجع إلى سورة البقرة، آية (54)؛ لمزيد من البيان.

ص: 90

سورة الأعراف [7: 178]

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} :

{مَنْ} : شرطية.

{يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى} : الفاء: تفيد التوكيد.

{فَهُوَ الْمُهْتَدِى} : ضمير منفصل؛ يفيد زيادة التوكيد.

{فَهُوَ الْمُهْتَدِى} : بزيادة الياء، ولم يقل: فهو المهتد.

والسبب في زيادة الياء؛ لأن هذا الذي كذب بآيات ربه، وانسلخ منها، واتَّبع هواه، واتبعه الشيطان، وأخلد إلى الأرض؛ يحتاج إلى زمن طويل؛ لكي يهتدي، فهدايته شاقة، وتحتاج زمن طويل، ولو كانت غير شاقة، ويمكن أن يهتدي بزمن قصير؛ لقال: فهو المهتد.

كما ورد في سورة الإسراء، الآية (97):{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} .

وفي سورة الكهف، الآية (17):{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} .

وفي سورة الحديد، الآية (26):{فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} .

فهذه الآيات جاءت في سياق الذي، أو الذين هدايتهم تحتاج إلى زمن أقصر، وأقل مشقة، وشدة.

{وَمَنْ يُضْلِلْ} : الله سبحانه لا يُضل أحداً، وأما إذا أراد العبد الضلال، وسار في طريق الضلال، وابتعد عن الحق، وعن الصواب، والصراط؛ فعندها يتركه الله تعالى وشأنه.

{فَأُولَئِكَ} : الفاء: رابطة لجواب الشرط، أولئك: اسم إشارة، ويفيد البعد، ويحمل معنى الذم، والتحقير، وعدم الأمل في التوبة.

{هُمُ الْخَاسِرُونَ} : هم: ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، والمبالغة في الخسارة؛ أيْ: إذا كان هناك خاسرون؛ فهؤلاء هم في مقدمة الخاسرين. ارجع إلى سورة النساء، آية (119)؛ لمزيد من البيان.

ص: 91

سورة الأعراف [7: 179]

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} :

{وَلَقَدْ} : الواو: استئنافية.

{وَلَقَدْ} : اللام: للتوكيد، قد للتوكيد أيضاً، والتحقيق.

{ذَرَأْنَا} : ذرأ: بث، ونشر، والبث في الأرض معناه: نشرهم في الأرض بالتكاثر بالتزاوج.

{ذَرَأْنَا} : يعني: خلقنا خلقاً؛ يتكاثر بذاته.

{لِجَهَنَّمَ} : اللام: لام التعليل، لام العاقبة، أو الصيرورة، جهنم: مشتقة من الجهومة: وهي الشيء المخوف الكريه المنظر، وقيل: بعيدة القعر. ارجع إلى سورة الرعد آية (18) للبيان المفصل.

{كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} : خلقنا لجهنم كثيراً من الجن، والإنس.

والسؤال هنا: إذا كان الله سبحانه ذرأ لجهنم كثيراً من الجن، والإنس، فما هو ذنبهم، أو مصيبتهم؛ ليعذبهم فيها؟

الجواب: ما هي علّة خلقهم: هي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

إذن علَّة الخلق: هي عبادة الله تعالى وطاعته، وليس دخولهم جهنم.

فبعد الذرء، فمن الجن والإنس من استجاب، وعبد الله -جل وعلا- ، وأطاعه؛ فهؤلاء مصيرهم إلى الجنة؛ لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الحق، والنجاة، ومن الجن والإنس من رفض، وانكر وجود الخالق، وطاعته، وعبادته؛ فهؤلاء مصيرهم إلى جهنم؛ لأنهم اختاروا لأنفسهم طريق الهلاك، وانتبه إلى قوله سبحانه:{كَثِيرًا} ، ولم يقل: قليلاً، فيا ويلتاه! ويا حسرة على العباد!

وقد وصف هؤلاء الذين اختاروا طريق جهنم من الجن والإنس بثلاث صفات، وقدَّم الجن على الإنس؛ للترتيب الزمني؛ فالجن كانوا أسبق خلْقاً.

{لَهُمْ} : اللام: لام الاختصاص، ثم وصفهم بثلاث صفات:

الأولى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} : الفقه: هو الفهم، واصطلاحاً: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها؛ ارجع إلى سورة النساء آية (78) لمزيد من البيان، ولنعلم أن القلب ليس القلب هو مضخة للدم فقط، بل وجدوا في القلب خلايا عصبية تحمل صفات الخلايا العصبية في الدماغ المختصة بوظيفة الذاكرة، والعاطفة، والإدراك، وهذا يؤكد على القلب هو مركز للأحاسيس، والمشاعر، والإيمان، والكفر، والحب، والكره

وغيرها.

وهذا يفسر لنا كيف يكتسب الذي زُرِعَ له قلب بعض صفات المتبرِّع من الحب، أو الكراهية لبعض الأشياء، أو يحدث تغيُّر في بعض أخلاق الذي زُرِعَ له القلب ومعاملاته.

{لَهُمْ قُلُوبٌ} : والقلب له علاقة بالدماغ محل الإدراك، فمن دون القلب لا يعمل الدماغ، وعقول، أو مناطق الإدراك، والفهم عندهم معطلة، فهي لا تستجيب، ولا تنتفع بآيات الله تعالى وبما جاء على ألسنة رسله من الحق.

والثانية: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} : أعين: جمع عين، وعين تجمع على أعين وعيون؛ أعين: تعني التي نبصر بها، أو قد تعني البصيرة، أما عيون: فلا تعني إلا عيون الماء مثل عيون الجنة، مثل قوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15]؛ أيْ: لا ينظرون نظر البصيرة، نظرة تبصُّر، واعتبار؛ فهم لا ينتفعون بأعينهم ولا يرون الحق.

والثالثة: {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} : وكذلك لا يسمعون سماع تدبُّر، وإصغاء، ولا ينتفعون بسمعهم، أو آذانهم.

{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} :

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة، واللام: للبعد، ويفيد الذمَّ.

{كَالْأَنْعَامِ} : الكاف: كاف التشبيه؛ كالأنعام: وهي البقر، والغنم، والإبل، والمعز، إذا لم يستخدموا عقولهم، وسمعهم، وأبصارهم، ويتجنبوا الكفر، والشرك، ويختاروا طريق النجاة، والهدى؛ فهم كالأنعام حين لا ينظرون في عواقب الأمور، وما يعملون في دنياهم، ثم يستمرون في غفلتهم.

ولنعلم: أن الأنعام، والنباتات، والجمادات كلها تسجد، وتسبح لله بطريقتها الخاصَّة، وأن الأنعام غير مكلَّفة، ولم تحمل الأمانة، وأدوات إدراكها؛ مثل: العقل، والعين، والأذن معدَّة لما خُلقت له من وظيفة (التسخير).

وهي من آيات الله سبحانه تعمل بما أودع الله سبحانه فيها من أجهزة خاصَّةً؛ كي تكون مسخرة لبني آدم.

{بَلْ هُمْ أَضَلُّ} : بل: للإضراب الإبطالي؛ أيْ: ليسوا كالأنعام، بل هم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تقوم بما أمرها الله به، ومحكومة بالغريزة، ولا اختيار لها في شيء، والأنعام تعرف ربها، وتسجد له، ولا يبلغ مواقع بها الضلال أن تقع في الهلاك أو الموت كما هم يفعلون، وهم لا يعرفون ربهم، وينكرونه؛ فهم أضل من الأنعام؛ أيْ: أسوأ.

{أُولَئِكَ} : اسم إشارة.

{هُمُ} : ضمير منفصل؛ يفيد المبالغة؛ أيْ: إن كان هناك غافلون على الأرض؛ فهم أغفلهم حقاً.

{الْغَافِلُونَ} : جمع غافل: وهو الذي لا يحضر في باله الشيء، أو انمحى عن ذاكرته الشيء، فلم يعد يذكرون آخرتهم، ويستعدون لها.

{الْغَافِلُونَ} : لما نسوا ذكر ربهم، وتركوا الإيمان، والتدبُّر في كتاب الله، كانوا بمنزلة الغافلين. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان.

ص: 92

سورة الأعراف [7: 180]

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :

{وَلِلَّهِ} : الواو: استئنافية.

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : تقديم الجار والمجرور، لفظ الجلالة، يدل على الحصر؛ أي: الأسماء الحسنى، هي قصراً، وحصراً لله وحده، ولا يسمَّى بها أحد من خلقه.

{الْحُسْنَى} : مؤنَّث الأحسن، ومعنى الحسنى: البالغة في الحسن والتفضيل هنا مطلق، وليس مقيداً.

مثال المطلق: الله الأفضل، بينما المقيد: الله أفضل من الآلهة، وهذه الأسماء الحسنى (99) اسماً، كما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله:«إن لله تسعاً وتسعين اسماً» .

{فَادْعُوهُ بِهَا} : الدعاء: هو السؤال؛ أيْ: تجعلها وسيلة لك عند الدعاء؛ فتقول مثلاً: يا حي، يا قوم، يا ذا الجلال والإكرام.

{فَادْعُوهُ} : الدعاء بها يتضمن معرفتها، والدعاء: دعاء عبادة تتعبد الله بها، مثلاً: الرحيم: مشتق من الرحمة، فتقوم بالأسباب التي تؤدِّي إلى الرحمة، أو دعاء المسألة؛ أي: التوسل بها.

{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ} : اتركوا.

والإلحاد: من اللحد، وهو الميل، والإلحاد بها يشمل إنكار أيِّ شيء من أسماء الله، أو التغيير، أو التعطيل، والتكذيب، أو أن يسمِّي أحد نفسه بها، أو زيادة اسم، أو حذف اسم، أو أن نشتق منها أسماء للآلهة، والأصنام؛ كتسمية اللَّات من الله، والعُزَّى من العزيز.

{سَيُجْزَوْنَ} : السين للاستقبال القريب؛ أيْ: سيلقون جزاء هذا الإلحاد قريباً، وهذا تهديد ثانٍ، ووعيد لهؤلاء الذين يلحدون في أسماء الله، والتهديد الأول: هو قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ} .

{مَا كَانُوا} : ما: اسم موصول؛ بمعنى: الذي، وما أوسع شمولاً.

{يَعْمَلُونَ} : يقولون، ويفعلون في الدنيا؛ لأن العمل يشمل: القول، والفعل.

ص: 93

سورة الأعراف [7: 181]

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} :

المناسبة: بعد قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} ، ولم يقل: كل من خلقنا، بل قال:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} ؛ يعني: القليل من الجن، والإنس.

{وَمِمَّنْ} : الواو: استئنافية، ممن: تضم من زائد من، أدغمت الثانية في الأولى، ومن الأولى: ابتدائية، ومن الثانية: بعضية.

{خَلَقْنَا} : في أي زمان، ومكان.

{أُمَّةٌ} : جماعة من الناس بغض النظر عن العدد، والحيز الجغرافي جماعة تجمعهم عقيدة، أو مبادئ واحدة.

{يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : ستجد أمة قائمة بشرع الله، وحاملة لمنهج الله، وداعية له، وسائرة على الطريق المستقيم.

{يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} : أيْ: هداة مهديون، هم اختاروا طريق الهداية، فهداهم الله، ثم أصحبوا هداة لغيرهم، ودعاة إلى الحق، يرشدون الناس إلى الإيمان، والدِّين الصحيح، وطاعة الله، وعبادته.

{يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} : الحق: هو الأمر الثابت الذي لا يتغيَّر، وكل شيء من عند الله، هو الحق، والحق هو القرآن، أو الوحي، وسنة رسوله.

{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : وبالحق يحكمون بين الناس؛ أي: بالعدل، ولا يجورون على احد.

{وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : وبه: بالحق يحكمون، أو يعملون به؛ مثل: الأنبياء، والعلماء، وكل من تمسك بشرع الله تعالى، وولي أمر الناس.

ومن قبل ذكر -جل وعلا- : {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} : ارجع إلى الآية (159) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.

ص: 94

سورة الأعراف [7: 182]

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} :

ومقابل الذين يهدون بالحق وبه يعدلون الذين كذَّبوا بآياتنا، لم يؤمنوا بها، وجحدوا بها، بآياتنا: تشمل القرآنية، أو الشرعية، والكونية، والمعجزات.

{سَنَسْتَدْرِجُهُم} : السين: للاستقبال القريب، الاستدراج: على وزن استفعال، واستدرجه؛ بمعنى: أدناه منه بالتدرج.

والاستدراج: من الدرج: وهو السلم، وسيلة للانتقال للصعود، أو النزول درجة درجة.

مثال على الاستدراج: نُملي عليهم النِّعم، النِّعمة تلو الأخرى، حتى يصلوا إلى أعلى درجات البطر، والعصيان، والإثم، والبعد عن الله، وعدم الشكر؛ ظانين أن تواتر النِّعم عليهم بسبب قربهم من الله، أو عدم مؤاخذتهم، وأن الله غفور رحيم، ولا يعلمون أنما هي خذلان لهم، وتبعيد عنه، ثم يأخذهم بالعذاب بغتة، أو على غفلة؛ فإذا هم مبلسون، أو خامدون.

{مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} : بما يُدبَّر لهم من الهلاك، والعذاب، والكيد.

{مِّنْ} : لابتداء الغاية.

{حَيْثُ} : ظرف زمان، أو مكان.

من حيث لا يعلمون الزمان، والمكان، ولن يفلت منهم أحد.

ص: 95

سورة الأعراف [7: 183]

{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} :

{وَأُمْلِى لَهُمْ} : من الإملاء: وهو التأخير؛ أيْ: تأخير العقوبة، أو العذاب، ولا يعني: الإهمال، مع طول، أو قصر الزمن.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{كَيْدِى} : أخذي، وتدبيري، والكيد: هو التدبير الخفي، والكيد: أقوى من المكر. ارجع إلى سورة يوسف، آية (5)؛ لبيان معنى الكيد.

{مَتِينٌ} : شديد؛ كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

وقوله: كيدي: فيه تحذير، وتهديد شديد؛ فهو كيد رب العالمين.

ص: 96

سورة الأعراف [7: 184]

{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} :

{أَوَلَمْ} : الهمزة: للاستفهام الإنكاري.

{أَوَلَمْ} : ولم يقل: ألم، وما هو الفرق بينهما؟

الواو في {أَوَلَمْ} : تدل على شيء مرئي، مشاهد، وتنكره، والواو: تدل على شدة الإنكار لذلك الشيء الذي تراه، ثم تنكره، وغيرك لا ينكره؛ أيْ: إنهم إذا تفكروا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وتجردوا من عصبيتهم، وأهوائهم؛ لأدركوا صدقه، وأنه ليس مجنوناً؛ كما يزعمون.

{مَا} : النافية.

{بِصَاحِبِهِمْ} : الباء: للإلصاق، والتعليل؛ يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.

{مِنْ جِنَّةٍ} : من استغراقية؛ أيْ: جنون؛ لأنهم كانوا يقولون: شاعر، مجنون، والباء: تدل على الإلصاق، وأنهم يعرفونه منذ بدء نشأته، وأنه الصادق، الأمين، وليس المجنون.

{إِنْ} : للتوكيد.

{هُوَ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد.

{إِلَّا} : أداة حصر.

{نَذِيرٌ مُبِينٌ} : نذير من الإنذار: وهو الإعلام مع التحذير، أو التخويف، نذير للمكذبين بآيات ربهم، ومنذر من عذاب يوم القيامة، أو الآخرة، مبين؛ أيْ: إنذاره واضح، وبين لكل فرد، ولا يخفى على أحد، وإنذار لا يحتاج معه إلى برهان، أو دليل.

وانتبه! كيف يستعمل في القرآن: {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، يستعملها دائماً في سياق، أو مقام الدعوة، الهادئة المبينة بالحُجَّة.

{إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} : يستعملها في سياق، أو مقام المجادلة، والمخاصمة، والجهاد في القول.

ص: 97

سورة الأعراف [7: 185]

{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} :

إذا لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة، لماذا لا ينظرون في ملكوت السموات والأرض؛ نظرة مشاهد، ومعتبر؛ ليروا عظيم ملكه، وقدرته، وبديع صنعه.

و {مَلَكُوتِ} : اسم لما يملكه الله من كل شيء، ولا نراه، وهو خاص بالله تعالى وحده، وهو صيغة مبالغة للملك.

والمُلك: هو كل ما تشاهده، وتراه، وتدركه، وتحسه أمامك، أما الملكوت: فهو كل ما غاب عنك، وراء الملك. ارجع إلى سورة الأنعام، آية (75)؛ لمزيد من البيان.

{وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَىْءٍ} : من: استغراقية؛ أيْ: تشمل كلَّ شيء.

وكلمة شيء: نكرة؛ تشمل كلَّ شيء، ومن: تشمل كلَّ شيء، والشيء: هو أقل القليل، فلا يوجد شيء مهما كان شكله، أو نوعه، أو حجمه، أو لونه، أو صفاته؛ إلا ويعتبر آية من آيات الله سبحانه؛ الدالة على عظمة قدرته، وأنه واجب الوجود، وأنه الإله الحق، خالق كل شيء، والذي يجب أن يعبد، ويسبح، ولا يشرك به.

{وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} :

{وَأَنْ} : تفيد التوكيد.

{عَسَى} : أداة رجاء؛ أيْ: ما بعدها، يرجى حدوثه.

{وَأَنْ عَسَى} : أصلها: وأنه عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، وهم لا يعلمون متى سيكون.

{قَدِ} : للتوكيد، والتحقيق.

فلما لا يسارعون في النظر، أو المبادرة إلى الإيمان، بالرسول وبالقرآن، قبل فوات الأوان، فربما يموتون عن قريب، أو لعلَّ أجلهم قد اقترب.

{فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} :

{فَبِأَىِّ} : الفاء: للتعقيب، والمباشرة؛ أي: استفهام، والباء: للتوكيد، والإلصاق.

{فَبِأَىِّ حَدِيثٍ} : أيْ: بعد القرآن يصدقون؛ أيْ: وإذا لم يؤمنوا بمحمد أولاً، وبما جاء به، وأنذر به، ولم يصدقوا بالقرآن، فهم لن يصدقوا، ويؤمنوا بأي حديث آخر، أو كلام آخر، وفي الكلام تحذير، وترهيب شديد.

ص: 98

سورة الأعراف [7: 186]

{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِىَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} :

{مَنْ} : شرطية.

{يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِىَ لَهُ} : والسؤال هنا: هل الله سبحانه يُضل أحداً؟

الجواب: لا؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7].

فالله -جل وعلا- دعا الناس جميعاً للإيمان، والهداية، فأنزل كتبه، وأرسل رسله، وآياته الكونية، والمعجزات، وكل ذلك؛ لكي يؤمنوا.

فمعنى: {مَنْ يُضْلِلِ} : أيْ: من يختار طريق الضلال، والكفر، ولم يؤمن بالله، ولا بكتبه، ولا برسله، فليذهب إلى ضلاله، وكفره، كما يشاء، ولن تجد له هادياً غير الله؛ {فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].

{وَيَذَرُهُمْ} : ويتركهم في طغيانهم، وترددهم، وحيرتهم {يَعْمَهُونَ}: والعمة: هو فقدان البصيرة، والعمى: هو فقدان البصر (النظر). ارجع إلى سورة الأنعام، آية (110)؛ للبيان.

ص: 99

سورة الأعراف [7: 187]

{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْـئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} :

{يَسْـئَلُونَكَ} : أي: السائل يقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهاً لوجه.

{عَنِ السَّاعَةِ} : الساعة؛ تعني: ساعة تهدم النظام الكوني الحالي، وأما القيامة؛ فيعني: البعث، والخروج من القبور.

{أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : أيَّان: للاستفهام، وأيَّان: تستعمل للأمور العظام، الجسام، وللتفخيم، والتعظيم، وجاءت في (6) آيات، كلها في سياق البعث:{أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} ، و {السَّاعَةِ} ، و {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} .

أيَّان: تعني: متى، ولكن هناك فرق بين متى، وأيَّان؛ أيَّان: تختص فقط بالمستقبل، وتستعمل للأمور العظام؛ كما قلنا، أما متى: فتستعمل للماضي، والمستقبل، والأمور العادية.

{مُرْسَاهَا} : حدوثها، أو متى وقوعها.

{مُرْسَاهَا} : مشتقة من مرسى السفينة؛ حيث تنتهي، أو قيل: بثبوتها، ويقال: رسا في الأرض؛ أيْ: ثبت، أو استقرَّ بعد الإبحار. فالساعة شبهها بالسفينة التي تقترب كل يوم حتى تبلغ مرساها في الشط؛ أي: منتهاها.

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى} : أيْ: قد استأثر ربي بعلمها، ولم يطلع عليها أحد.

{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا} : أيْ: لا يظهرها إلا هو. لوقتها: اللام: لام التوقيت، أو التعليل عند وقتها؛ أيْ: لا يكشف خفاء علمها إلا هو سبحانه، وهذا يعني عند دنوِّ أجل الساعة يكشف لنا ربنا أشراط الساعة، أو علاماتها الكبرى.

{ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : ثقل وقوعها على أهل السموات والأرض، أو عظم شأنها على أهل السموات والأرض، أو الكل يخافونها: الملائكة في السموات، والناس، الجن، والإنس على الأرض.

{ثَقُلَتْ} : الثقل: قد يكون فكرياً، نفسياً، أو مادياً؛ فالخوف يعتبر ثقلاً نفسياً، وفكرياً. ثقلت على أهل السموات: الملائكة، وعلى أهل الأرض، الإنس والجن، وثقلت؛ تعني: لا يستطيعون تحملها من شدتها.

والثقل: يكون كذلك من عدم معرفة أيَّان مرساها، وكونها تأتي بغتةً.

{لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} : لا تأتيكم إلّا فجأةً على غفلة منكم، إلا: أداة حصر.

{يَسْـئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} : الحفيُّ لها عدَّة معانٍ؛ منها:

1 -

هو المُلِحُّ في طلب الشيء؛ أيْ: بكثرة محاولاً الوصول إلى معرفتها، ومن كثرة ذلك يصبح عالماً بها أكثر؛ أيْ: كأنك دائب السؤال عنها، والعناية بها؛ كأنك عالم بها، أو كأنك معنيٌّ بطلب علمها.

2 -

وحفيٌّ: قد تعني: يسألونك عنها كأنك صديقٌ لهم (من كثرة السؤال)؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا} [مريم: 47].

أو حفي: حافي القدمين من كثرة الذهاب، والمجيء للسؤال عنها؛ أيْ: تمزق نعليك من كثرة المشي؛ للوصول إلى معرفتها، وأصبحت حافي القدمين.

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} : تكرار قل: للتأكيد، إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد.

علمها عند الله -جل وعلا- ؛ علم وقوعها، وحدوثها فقط عنده، وما يحدث فيها.

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} : أن الله أخفاها؛ لتجزى كل نفس بما تسعى، أو لا يعلمون أن الله العالم بها، واختص بها وحده، أو تعني: هناك القلَّة من العلماء من يعلم شيئاً عن أشراط الساعة، وأهوالها.

ص: 100

سورة الأعراف [7: 188]

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

المناسبة: في الآية السابقة: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّى} .

وفي هذه الآية قل أيضاً: {لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} : أي: الأمور كلها بيد الله وحده: الساعة، وعلم الغيب، والنفع، والضر.

{لَا} : النافية.

{أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: لا أستطيع جلب أي نفع، أو دفع أي ضر عن نفسي، ولا عن غيري، والضُّر: بضم الضاد ما يصيب البدن من مرض أو طارئ، والضَّر: بفتح الضاد ضد النفع، وقدم النفع على الضر في هذه الآية.؛ لأن السياق في ذكر الساعة والهداية فقدم النفع الذي هو ثواب الآخرة (الساعة)، أو الهداية هي (نفع) على الضر الذي هو عقاب الأخرة، أو الضلال والنفع أحب إلى الإنسان من الضر.

{إِلَّا} : أداة استثناء.

{مَا} : اسم موصول؛ بمعنى: الذي، وهي أوسع شمولاً من الذي؛ للعاقل وغير العاقل.

{شَاءَ اللَّهُ} : أيْ: إلا ما أراد الله، والمشيئة تأتي قبل الإرادة؛ إلا ما أراد الله أن أملكه.

{وَلَوْ} : لو شرطية.

{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} : الغيب: هو كل ما غاب عنا، فلا تراه العيون، ولا يدرك بالحواس، ومعناه محصل في الصدور، والغيب أنواع: منه المطلق: لا يعلمه إلّا الله، والنسبي: الغيب الذي يطلعه الله على رسله.

{لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} : اللام: للتوكيد.

استكثرت: الألف، والسين، والتاء: تعني الطلب؛ أيْ: لطلبت، أو لجلبت الكثير من الخير لنفسي، والخير: هو كل شيء حسن، ونافع، وحلال، وطيب.

{وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ} : ما: النافية، السوء: كل ما يسيء، أو يسوء إلى النفس، أو القبيح، والمكروه، والضرر، مثال: الفقر، والهزيمة في الغزوات، والموت؛ أيْ: من هو حاله كحالي كيف يعلم الغيب، أو علم الساعة.

{إِنْ أَنَا} : حرف نفي؛ بمعنى: ما أنا، وهي أشد نفياً من ما. والتقدير: ما أنا إلا: أداة حصر.

{نَذِيرٌ} : من الإنذار: وهو الإعلام مع التخويف، أو الزجر. وقدم نذير على بشير؛ لأن الآيات جاءت في سياق المشركين لذلك قدم الإنذار على البشارة.

{وَبَشِيرٌ} : من البشارة: الإخبار بما يسر، الإعلام بما يسر، ولأول مرة؛ أيْ: أرسلت بشيراً، ونذيراً، خاصَّةً.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : لقوم: اللام: لام الاختصاص، وأرسلت إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، وخاصَّةً لقوم يؤمنون؛ أيْ: من ينتفع من إنذاري، وتبشيري خاصَّةً، هم القوم الذين يؤمنون.

ص: 101

سورة الأعراف [7: 189]

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} :

{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : هو: تعود على الله سبحانه وتعالى، وهو ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد.

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : الخلق: هو التقدير، والإيجاد.

{مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} : أيْ: من نفس الجنس البشري؛ أيْ: كل النفوس خلقت من نفس واحدة (مثل جرم واحد).

{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : الجعل: يكون بعد الخلق؛ أيْ: مرحلة تلي الخلق؛ أيْ: بعد خلق النفوس من نفس واحدة جعل بعضها أنثوية، وبعضها ذكرية؛ ليسكن إليها، ويغشاها، وتحمل، وتلد.

ولا بُدَّ من مقارنة ثلاث آيات متشابهة في القرآن؛ هي:

آية سورة النساء، رقم (1):{خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} .

آية سورة الأعراف، رقم (189):{خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .

آية سورة الزمر، رقم (6):{خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .

أولاً: الآيات الثلاث مطلعها واحد هو قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ؛ أيْ: كافة البشر بما فيهم آدم وحواء، وكل نفس أخرى؛ ذكراً وأنثى، الكل خلق من نفس واحدة هي الأصل.

أما بالنسبة لآية النساء، فقوله تعالى:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : يؤكِّد أن نفس الذكر، ونفس الأنثى نفوس متشابهة (من حيث البناء) أو التشريح.

أما بالنسبة لآية الأعراف، قوله تعالى:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : فالجعل يكون عادة بعد الخلق، فبعد أن خلق الله -جل وعلا- النفوس من نفس واحدة ميزها؛ جعل بعضها ذكرية، وأنثوية؛ ليتم التزاوج والتناسل، وهكذا ما تؤكده الآية؛ ليسكن إليها، ويتغشاها، وتحمل، وتلد.

أما بالنسبة لآية الزمر، قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : فـ (ثم) هنا ليست للترتيب، والتراخي، وإنما للتباين، والاختلاف رغم كونها خلقت من نفس واحدة، فنفس الرجل (الزوج) غير نفس الأنثى (الزوجة) من حيث: اتخاذ القرار، والعواطف، والمشاعر، والرحمة، والأمومة، والحمل، والإرضاع، ومن حيث تحمل الأعباء، والمشاق، فلكل نفس طابع خاصٌّ مصوَّر في المحفظة الوراثية.

{لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} : اللام: لام التعليل؛ من السكينة، فالزوجة سكن لزوجها، والزوج سكن لزوجته؛ أيْ: لتأنس به ويأنس بها، ويأوي إليها، وتؤوي إليه، وفيها معنى الاستقرار، والإقامة؛ سكون مودة، ورحمة؛ أيْ: حب، وتراحم.

{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب، والترتيب. لما: ظرف زماني؛ بمعنى: حين.

{تَغَشَّاهَا} : كناية عن الجماع، أو لامسها، أو الوطء، وتغشاها: مشتقة من الغشاء؛ أي: الغطاء؛ أي: الستر؛ أيْ: هو يسترها، وهي تستره كالغطاء كلٌّ للآخر.

{حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} : أيْ: ابتدأ الحمل في أسابيعه الأولى، كانت لا تشعر بأنها حامل، ولا تشكو من أي أعراض الحمل من تعب أو إعياء.

{فَمَرَّتْ بِهِ} : فلما تجاوزت الأسابيع الأولى، واستمرت في حملها.

{فَلَمَّا أَثْقَلَت} : أيْ: بلغت مراحل الحمل الأخيرة زاد وزنها، وأصبحت تعاني من أعراض الحمل من التعب، والإعياء، وغيرها من الأعراض.

{دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} : أي: الزوج، والزوجة؛ دعوا الله ربهما دعاء التوحيد، توحيد الألوهية، والربوبية معاً.

{لَئِنْ} : اللام: للتوكيد، إن: شرطية.

{آتَيْتَنَا صَالِحًا} : أيْ: رزقتنا ولداً سوياً من العيوب، والأمراض، وقد تعني صالحاً: صلاح الدِّين، أو كلاهما.

{لَنَكُونَنَّ} : اللام، والنون: تفيدا التوكيد.

{مِنَ الشَّاكِرِينَ} : من: ابتدائية. الشاكرين: لنعمك علينا، والشاكرين على المولود. ارجع إلى الآية (10) من نفس السورة؛ لمزيد من البيان.

ص: 102

سورة الأعراف [7: 190]

{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} :

{فَلَمَّا} : الفاء: للتعقيب. لما: ظرفية؛ بمعنى: حين.

{آتَاهُمَا صَالِحًا} : حصل المطلوب، ولكن النتيجة كانت بالعكس، فلم يحصل منهما الشكر الذي وعدا الله به، بل جعلا له شركاء، فيما أتاهما؛ أيْ: هذا الولد الذي آتاهما الله سبحانه؛ كان صالحاً، معافىً، صحيح الجسم، فكيف جعلا له؛ أيْ: لله -جل وعلا- شركاء، فيما أتاهما؟ هناك عدَّة تفاسير:

1 -

أن هذه الآية نزلت في قصي، وهو جد من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد طلب، أو دعا قصي هو وزوجته من الله أن يعطيه ذرية صالحة، فلما أعطاهما الذرية الصالحة سمَّاها بأسماء الآلهة؛ مثل: عبد مناف، عبد العُزى، وجعل لله شركاء في التسمية، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

2 -

أو أن هذه الآية تعود إلى ذرية آدم حين تصبح الزوجة عاقراً، أو عقيمة غير قادرة على الإنجاب، ثم يشاء الله تعالى أن تحمل بالولد، ويظن أو يعتقد الأب والأم أن الولد الصالح الذي رُزِقا به كان بسبب أنهما ذهبا إلى قبر الولي فلان، ودعا عند قبره بأن يرزقهما الولد؛ فظنَّا أن الولي، أو الشيخ هو السبب فتعالى الله عما يشركون.

3 -

يجب الانتباه أن هذه الآية لا تتعلَّق بآدم وحواء، كما جاء في بعض كتب التفسير؛ فآدم وحواء لم يشركا بربهما، ولم يذكر اسم آدم أو زوجته في الآية أبداً.

{جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} : والذي جعل له شركاء فيما آتاهما هما الزوجان الكافران، أو المشركان بالله تعالى؛ لكونهما أبدلا شكرَ الله على الولد المعافى (صالحاً) بالكفر والجحود.

{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} : ترفع، وتقدس الله عما يشركون به من الأولياء، والأصنام، والمخلوقات.

ص: 103

سورة الأعراف [7: 191]

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْـئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} :

{أَيُشْرِكُونَ} : الهمزة: همزة استفهام تعجبي، وإنكاري، أيشركون في عبادةِ الله الأصنام، أو غيرها من الأشياء التي لا تخلق أي شيء مهما كان، وهي نفسها مخلوقة، فكيف يحق لها أن تكون آلهة تعبد، وهي عاجزة عن خلق أيِّ شيء.

{مَا} : اسم موصول، وتستعمل للمفرد، والجمع، ولا النافية.

{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} : هم ضمير فصل لا يطلق إلا على العاقل؛ أي: العقلاء، فكيف أطلق ضمير العاقل على الأصنام التي لا تعقل؟ أطلقها على الأصنام بناء على اعتقاد الذين يعبدونها أنها تنفع وتضر.

فالأصنام، والذين يعبدونها الكلُّ عجزة.

وإضافةً إلى عجزهم عن خلق أيِّ شيء هم لا يستطيعون لهم نصراً، وهذا عجز آخر، ولا أنفسهم ينصرون عجز ثالث؛ كما ورد في الآية التالية.

ص: 104

سورة الأعراف [7: 192]

{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} :

أيْ: هذه الأصنام لا تستطيع أن تنصرهم، ولا هي قادرة على نصر أنفسها، ولا هم قادرون على نصر هذه الأصنام أيضاً، والكلُّ عجزة، وتكرار لا يفيد توكيد النفي، وفصل نصر عابديها عن نصر أنفسها؛ أيْ: لا هذا، ولا ذاك، ولا كلاهما.

وإضافةً إلى هذا العجز هناك عجز آخر هو:

ص: 105

سورة الأعراف [7: 193]

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} :

{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال؛ أيْ: إن تدعوا هذه الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم؛ لا تستجيب لكم.

{تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ} : وإن تدعو هذه الآلهة الأصنام إلى الهدى، أو الاستجابة لكم فهي لا تستجيب؛ فهي لا تصلح أن تكون متبوعة، ولا تبعاً لغيرها.

فهي لا تجلب لكم نفعاً، ولا تستطيع أن تضركم، ولا تهديكم، ولا تهدوها.

{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} : الهمزة في أدعوتموهم: همزة التسوية؛ أي: يتساوى عندكم دعاؤهم، أو عدمه؛ أيْ: لا يسمعونكم إذا دعوتموهم، أو لم تدعوهم؛ أي: أنتم صامتون، والصمت يعني: عدم التفوُّه بأيِّ كلمة.

ص: 106

سورة الأعراف [7: 194]

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول.

{تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} : تعبدون من غير الله، أو تدعوهم؛ أيْ: تطلبوا منهم العون والنصرة.

{عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} : كيف تجعلون الأصنام عباداً أمثالكم، أو تشبهونها بكم؛ فهذا استهزاء بكم، وسخرية بكم، أو كيف تعبدونهم وتسمونهم آلهةً.

وتسميتهم عباداً أمثالكم: هو استهزاء بكم، وتقريع، وتوبيخ لكم.

وما دمتم اتخذتموهم آلهة هيَّا ادعوهم بأيِّ دعاء، أو طلب، وانظروا هل يستجيبون لكم.

{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} : إن: شرطية؛ تفيد الشك أن تكونوا صادقين، أو إن كنتم صادقين في عبادتكم لها، أو دعائكم لها، أو تعني: إنكم كاذبون.

ص: 107

سورة الأعراف [7: 195]

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} :

هذه تتمة للآية السابقة.

{أَلَهُمْ} : الهمزة: همزة استفهام إنكاري وتعجبي؛ أيْ: هل هذه الأصنام التي صنعتموها بأرجل، وأيدٍ، وأعين، وآذان؛ هل يمشون بهذه الأرجل التي صنعتموها، أم هل يبطشون بهذه الأيدي، أم هل يبصرون بهذه الأعين أيَّ شيء، أم هل يسمعون بهذه الآذان أيَّ دعاء، كلا، بل هي أعضاء معطَّلة لا حياة فيها، ولا حركة، ولا حسَّ.

ثم تحداهم، ولا داعيَ أصلاً للتحدِّي، ولكن ليقيم عليهم الحُجَّة، ويطلعهم على غباوة أمرهم، وأنه لا يخاف هذه الأصنام.

{ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} : أيْ: نادوا آلهتكم، وأصنامكم، ثم بعد ذلك {كِيدُونِ}: أي: أَجْمِعُوا أمرَكم، وتعاونوا على إلحاق الضررَ بي إن استطعتم.

{فَلَا تُنْظِرُونِ} : الفاء: للمباشرة، والتعقيب؛ أيْ: من دون انتظار؛ أيْ: كيدون الآن.

{تُنْظِرُونِ} : تمهلون.

انظر إلى المقارنة مع آية هود.

ولنقارن هذه الآية (195) من سورة الأعراف: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} .

مع قوله في الآية (55) من سورة هود: {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} .

آية الأعراف: جاء في سياق تحدِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش، والفاء في كلمة:{فَلَا تُنْظِرُونِ} : تدل على المباشرة؛ أيْ: كيدون الآن، ولا تنظرون، و {كِيدُونِ} من دون ياء: تدل على قصر التحدِّي، وأنه تحدٍّ عاديٍّ.

آية هود: جاءت في سياق تحدِّي هود لقومه، و {ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}: تدل على التراخي في الزمن؛ أيْ: كيدوني متى تشاؤون في المستقبل، و {فَكِيدُونِى} بالياء: تدل على شدة التحدِّي، وكونه أطول في الزمن، فليس ضرورياً أن يكون تحدِّياً قصيرَ الأمد.

ففي آية الأعراف: التحدِّي مباشرة، وتحدٍّ عاديٍّ قصير.

أما في آية هود: فالتحدِّي شديد، وبالغ، وتحدٍّ طويل الأمد ليس بقصير.

ص: 108

سورة الأعراف [7: 196]

{إِنَّ وَلِِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} :

المناسبة: بعد قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لمشركي قريش أنتم ادعوا شركاءَكم؛ فليستجيبوا لكم، ثم كيدون فلا تنظرون، وأنا أدعو ولييَ اللهَ الذي نزل الكتاب.

{إِنَّ} : للتوكيد.

{وَلِِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ} : الولي: هو الذي يليك بالقرب؛ أي: القريب، والمعين، والناصر.

{الَّذِى} : اسم موصول.

{نَزَّلَ الْكِتَابَ} : نزل القرآن، ونزل تعني: على دفعات، وليس جملة واحدة، وخلال (23 عاماً).

{وَهُوَ} : ضمير فصل؛ يفيد التوكيد.

{يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} : بدلاً من أن يقول: وهو يتولَّى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: يتولَّى الصالحين؛ أيْ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه؛ فهي ولاية عامة للصالحين، وهذه تعتبر بشارة له.

والصالحين: جمع صالح، والصالح: ضد المفسد، والصالح الذي قام بحق الله تعالى، وحق العباد.

{يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} : أيْ: يحفظهم، وينصرهم؛ لعمارة الأرض، ولمقاومة الفساد. ارجع إلى سورة البقرة، آية (130)؛ لبيان معنى الصالحين.

ص: 109

سورة الأعراف [7: 197]

{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} :

هذه الآية تتمة للآية السابقة: الله ولي الصالحين ينصرهم ويعينهم في الدنيا والآخرة.

{وَالَّذِينَ} : الواو: عاطفة. الذين: اسم موصول.

{تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} : تعبدون، وتدعون من غيره من أولياء، أو شركاء أصنام، أو غير أصنام، بشر، أو ملائكة.

{مِنْ} : استغراقية.

{لَا} : النافية.

{يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} : لأنهم غير قادرين، ولو كانوا قادرين فهو غير مسموح لهم، ولا يملكون كشف الضر عنكم، ولا تحويلاً.

{وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} : ولا قادرين على نصر أنفسهم، فكيف ينصرونكم، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

وتكرار (لا): يفيد توكيد النفي؛ نفي نصركم، ونصر أنفسهم كلاً على حِدَةٍ، أو معاً.

ص: 110

سورة الأعراف [7: 198]

{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} :

{وَإِنْ} : شرطية؛ تفيد الاحتمال، والواو: عاطفة.

{تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا} : أيْ: إن تدعوهم إلى الهدى بدلاً من أن يدعوكم هم أنفسهم إلى الهدى؛ لأن هذا هو المفروض، لا يسمعون، وسواء أنتم دعوتموهم، أم هم دعوكم، لا يسمعون في كلا الحالين.

{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} : النظر: هو الالتفات إلى الشيء؛ أي: توجه العين إلى الشيء دون رؤيته؛ لأن هذه الاصنام بأعينهم الاصطناعية؛ التي لا تبصر، ولا تدرك، ويشبهون من ينظر إليكم، واستعمل هم التي تستعمل للعقلاء؛ استهزاء بالأصنام التي شبَّهوه بها.

{لَا يُبْصِرُونَ} : البصر: رؤية الشيء بوضوح لا يدركون ما يبصرون، أو لا يبصرون أصلاً رغم أنه واضح يمكن رؤيته.

وقد تنطبق هذه الآية على المشركين، والمنافقين؛ الذين ينظرون بأعينهم، وهم لا يبصرون بقلوبهم، أو لا يدركون ما يبصرون، أو يسمعون، ولا يفهمون شيئاً من دِينهم.

{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} [الحج: 46].

ص: 111

سورة الأعراف [7: 199]

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} :

قال العلماء: جمع الله -جل وعلا- في هذه الآية مكارم الأخلاق.

{خُذِ الْعَفْوَ} : العفو له معانٍ عدة:

1 -

الصفح.

2 -

ما زاد عن الحاجة؛ لقوله: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا وَيَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219].

3 -

الأمر السهل اليسير.

وهذه المعاني الثلاثة تتضمن: اعفُ، واصفحْ عمن ظلمك، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]. وأقبل ما تيسر من أخلاق الناس، ولا تتبع عوراتهم، وما زاد عن الحاجة؛ يعني: ما زاد من المال؛ مثل: الزكاة، والصدقة، خذ إذا كنت أنت الفقير المحتاج، أو أعط إذا كنت أنت الغني الكريم. خذ الأيسر من التكاليف الشرعية، ويسِّر، ولا تعسِّر على الناس.

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} : العرف شرعاً: هو ما تعارف عليه الناس، واطمأنوا إليه من قول، أو فعل، ولا يحتاج إلى إثبات، أو ما تعرفه العقول السليمة، ويوافقه الشرع.

{بِالْعُرْفِ} : الباء: للإلصاق، والعرف: قيل: المعروف، والمعروف: اسم جامع لكل خير، وما تعارف عليه الناس في عبادتهم، ومعاملاتهم.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} : الجهل له معانٍ؛ منها: عدم العلم بشرع الله، والجهل ضد الحلم؛ أي: السفاهة، والجاهل؛ تعني: غير العالم، والسفيه. ارجع إلى سورة الزمر آية (64)، وسورة الفرقان آية (63) لمزيد من البيان في معنى الجاهلين.

{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} : بعد العفو، والصبر على سوء أخلاقهم، وسفههم، والحلم عنهم، والدفع بالتي هي أحسن، ودعوتهم إلى الحق؛ فإن لم يستجيبوا، واستمروا في شرِّهم؛ عندها: أعرض عنهم، ولا تجادلهم، وهذا الخطاب موجَّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الصالحين.

ص: 112

سورة الأعراف [7: 200]

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

هذه الآية تتمة للآية السابقة، والتقدير هو: خذ العفو، وأْمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلية.

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} :

{وَإِمَّا} : الواو: استئنافية. إن: الشرطية زائدة. ما: للتوكيد.

إن: الشرطية تفيد الاحتمال، أو الندرة في الحدوث.

{يَنْزَغَنَّكَ} : فيها نون التوكيد، والكاف: للخطاب، والنزغ: أي: النخس، أو الغرز، أو النغز: والنزغ: مشتق، أو مأخوذ من إدخال الإبرة، أو طرف العصا في الجلد، أو وضع شيء بارز في الحذاء؛ مثل: حديدة كي تحث الحيوان على السير بسرعة.

والنزغ في اللغة: الإفساد بين الناس، كما قال يوسف عليه السلام :{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} [يوسف: 100].

والنزغ قيل: هو الإهاجة التي تثير الغضب، ونهاية النزغ: هي البغضاء.

{مِنَ الشَّيْطَانِ} : من: لابتداء الغاية. ارجع إلى سورة البقرة، آية (36)؛ للبيان.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} : اطلب العون من الله؛ أي: استعن بالله، والجأ إليه؛ فهو الحفيظ، والملجأ، فالشيطان قوي، وخفي، فلا تستعين إلَّا بمن هو الأقوى، وهو الله سبحانه؛ فهو القادر على تعطيل عمل الشيطان.

{إِنَّهُ سَمِيعٌ} : لأقوال الجاهلين.

{عَلِيمٌ} : عليم بأحوالهم، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، ونواياهم.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية، مع الآية رقم (36) من سورة فصلت.

في سورة الأعراف، الآية (200):{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .

وفي سورة فصلت، الآية (36):{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : نجد في آية الاعراف قال تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وفي فصلت قال تعالى:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أضاف هو+ آل التعريف هناك عدة تفسيرات منها: آية الأعراف نزلت أولاً، أو فصلت نزلت ثانياً.

التفسير الثاني: في آية سورة الأعراف لم يؤكد بضمير الفصل (هو)؛ لأن الإعراض عن الجاهلين أسهل من مقابلة السيئة بالحسنة، والإحسان إلى من أساء إليك، أو المسيء.

التفسير الثالث: في آية سورة فصلت أكَّد عز وجل بضمير الفصل (هو)، وعرف بالسميع العليم؛ جاءت الصفتان معرفتان؛ لأن مقابلة السيئة بالحسنة أصعب على النفس.

في آية سورة الأعراف: وصف نفسه سبحانه بأنه سميع عليم، بعد ذكر الآيات التي تصف الأصنام التي يعبدونها؛ بأنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تقدر على الخلق، ووصف سبحانه نفسه بأن سميع عليم من دون أل التعريف، وضمير الفصل مقابل تلك الآلهة التي لا تسمع، ولا تعقل، ولا تعلم، فلا داعي للتعريف، والتوكيد.

بينما في آية سورة فصلت: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} : آيات فصلت: جاءت في سياق الذين ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً مما يعلمون؛ أيْ: نفوا عن الله كثيراً من العلم، فبيَّن لهم الحق، وأكَّد لهم أنه هو السميع العليم، المختص بالعلم الكامل، والسمع الكامل، ولو قال -جل وعلا- :(الله السميع العليم)؛ لكان ذلك يعني: أنه هو فقط السميع العليم، وغيره لا يسمع، ولا يعلم، وهذا نفي للإنس، والجن، والملائكة الذين وصفهم بالسمع والعلم.

ص: 113

سورة الأعراف [7: 201]

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ} :

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ} : اسم موصول؛ يفيد المدح.

{اتَّقَوْا} : أطاعوا أوامر الله تعالى، وتجنَّبوا نواهيه.

{إِذَا} : ظرفية زمانية؛ للمستقبل؛ تفيد حتمية الحدوث، وكثرته.

{مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} : المسُّ: هو أخف اللمس؛ أي: الإصابة الخفيفة، والمسُّ: يحدث بعد الوسوسة، والنزغ، والتزيين، والمسُّ يعني: أن المتَّقي بدأ بالعزم على فعل المعصية.

{طَائِفٌ} اسم فاعل من طاف، وطاف الشيء إذا دار حوله، والطائف؛ يعني: الخيال، أو الوسوسة، أو الفكرة.

{تَذَكَّرُوا} : أيْ: تذكروا أنهم مخطئون، تذكروا الله خالقهم، وربَّهم، تذكَّروا عقاب الله.

{هُمْ} : ضمير منفصل؛ يفيد التوكيد، أو المبالغة في البصر.

{مُّبْصِرُونَ} : الحق، والحرام من الحلال، مبصرون للخطأ، أو الذي همُّوا من أجله، أو عزموا عليه.

{مُّبْصِرُونَ} : جملة اسمية؛ تفيد الثبوت؛ لأن البصر يجب أن يكون صفة ملازمة للمتَّقي، ولم يقل:(يبصرون): الذي يدل على التجدُّد، والتكرار؛ يعني: الوقوع في المعصية مرة أخرى، فهذا ليس من صفات المتَّقي، أن يعود بعد التوبة إلى تكرار المعصية.

ص: 114

سورة الأعراف [7: 202]

{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} :

{وَإِخْوَانُهُمْ} : إما أن تعود على الجاهلين؛ أيْ: وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، وإما أن تعود على الشياطين؛ شياطين الجن، وشياطين الإنس، أو تعود على شياطين الإنس من أهل الشرك، والضلال، والمعاصي؛ أي شياطين الجن يمدونهم شياطين الإنس في الغي؛ أيْ: يمدون الفجار بالضلال، والغي، أو يمدون الجاهلين بالغي.

{يَمُدُّونَهُمْ} : من فعل مد، الثلاثي، ويستعمل فعل مد الثلاثي في الخير، والشر. بينما أمد الفعل الرباعي: يستعمل في الشر خاصَّةً، ويمدهم؛ تعني: يزيدهم، يمكن لهم، يملي لهم، يمهلهم.

{فِى} : أيْ: هم أصلاً في الغيِّ، ويمدونهم في غيٍّ جديد؛ إضافةً إلى غيِّهم السابق. ارجع إلى سورة الحجر، آية (42)؛ لمزيد من البيان.

{الْغَىِّ} : ضد الرشد، وأصل الغي: الفساد، وغوى: ضل عن الحقيقة، أغواه: أفسده، وأضله بالوسوسة، والتزيين، وكذلك تعني: المعاصي، والضلال، والجهل، والباطل من قول، وعمل.

{ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} : ثم: لا تدل على الترتيب، والتراخي هنا، وإنما تدل على التباين، بين الإمداد، والتقصير، والتقصير: أعظم من الإمداد.

{لَا يُقْصِرُونَ} : من التقصير، لا يكفون، أو يتوقَّفون، أو لا ينتهون، أو لا يمسكون عن إغوائهم؛ خوفاً من أن يعودوا إلى رشدهم، ودينهم.

ولا بُدَّ من مقارنة هذه الآية، مع الآية (15) من سورة البقرة.

سورة الأعراف، الآية (202):{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} .

سورة البقرة، الآية (15):{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

في آية سورة البقرة: أسند الله سبحانه المد إلى ذاته، فالله يمدهم في طغيانهم؛ الذي هم بدؤوا به، وأرادوه لأنفسهم، ولم يمدَّهم في طغيان جديد، لم يفعلوه.

في آية سورة الأعراف: أسند المد إلى الشياطين؛ فهم يمدونهم في غيٍّ جديد؛ إضافةً إلى الغي الذي هم بدؤوا به.

ص: 115

سورة الأعراف [7: 203]

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِنْ رَّبِّى هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} :

{وَإِذَا} : الواو: عاطفة. إذا: للمستقبل، شرطية، وتفيد الحتمية.

{لَمْ تَأْتِهِم} : لم: نافية للحال؛ أيْ: لم تأتهم الآن؛ أيْ: لم تأتِ أهل مكة، أو المشركين، أو قريش، كما اقترحوا لك من الآيات تعنتاً؛ مثل: أن تفجر لهم من الأرض ينبوعاً، أو لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً، أو تنزل عليهم كتاباً من السماء، أو غيرها.

{بِآيَةٍ} : الباء: للإلصاق. آية: معجزة، أو آية من آيات القرآن.

{قَالُوا لَوْلَا} : أداة حضٍّ، وطلب؛ أيْ: هلَّا.

{اجْتَبَيْتَهَا} : مشتقة من جبيت الماء في الحوض؛ أيْ: جمعته؛ أيْ: جمعت لنا آية، أو أتيت، أو اختلقت من عندك.

{قُلْ} : لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.

{إِنَّمَا} : كافة مكفوفة؛ تفيد التوكيد، والحصر.

{أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِنْ رَّبِّى} : أيْ: لست بمختلق؛ لأي آية، وليس الأمر بيدي، ولا حتى مؤيد لهذا الطلب، أو الاقتراح. ولمعرفة معنى الوحي: ارجع إلى سورة النساء، آية (163).

{هَذَا} : الهاء: للتنبيه. ذا: اسم إشارة للقرب، ويشير إلى القرآن.

{بَصَائِرُ مِنْ رَّبِّكُمْ} : أيْ: هذا القرآن بصائر، أو كالبصائر.

والبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة: هي البرهان القاطع؛ الذي ليس فيه شكٌّ. البصائر: تشمل الحجج، والبراهين، والبينات، والآيات التي لا لبس فيها؛ فهو أكبر آية لكم؛ أيْ: معجزة خالدة إلى يوم الساعة. ارجع إلى سورة الجاثية آية (20) لمزيد من البيان في معنى بصائر.

{وَهُدًى} : مصدر للهداية، أو هدى يهيد للحق، ويهدي للصراط المستقيم الموصل إلى السعادة، والكمال في الدارين، ويهدي للغاية، وبيان الحق من الباطل، والخير من الشر.

{وَرَحْمَةٌ} : يجلب ما ينفع، ويدفع ما يضر، أو مصدر إنعام في الدنيا والآخرة، وشفاء ووقاية.

{لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : اللام: لام الاختصاص؛ أيْ: ينتفع به الذين يؤمنون بربهم، وبما أن هذا القرآن بصائر، وهدى، ورحمة لقوم يؤمنون؛ فإذا قرئ عليهم يجب عليهم أن ينصتوا له، ويستمعوا إليه. ارجع إلى الآية (63) من نفس السورة.

ص: 116

سورة الأعراف [7: 204]

{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :

{وَإِذَا} : ظرف زمان للمستقبل، شرطية؛ تفيد الحتمية، والكثرة.

{فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} : الاستماع: الإصغاء إلى تلاوته؛ بقصد وبنية.

{وَأَنْصِتُوا} : الإنصات: السكوت، وعدم الكلام مع الاهتمام.

{لَعَلَّكُمْ} : لعلَّ: للتعليل.

{تُرْحَمُونَ} : أيْ: إذا استمعتم إلى القرآن، وأنصتم، واتخذتم الأسباب الأخرى للرحمة، وطلبتم العون من الله؛ فقد ترحمون.

{تُرْحَمُونَ} : بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدُّد، والتكرار. ارجع إلى سورة الإسراء، آية (8)؛ لمزيد من البيان.

ص: 117

سورة الأعراف [7: 205]

{وَاذْكُر رَبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} :

وبعد الاستماع إلى القرآن، والإنصات إليه؛ عليكم بذكر ربِّكم؛ تضرعاً، وخيفةً.

{وَاذْكُر رَبَّكَ} : والذكر: هو حضور الشيء للفكر، أو العقل، والذكر يكون باللسان، ويكون في النفس؛ أيْ: يتذكر الشيء في عقله، ويفكر به، والذكر يشمل الصلاة، والتسبيح، والتهليل، والحمد، والثناء، والدعاء، وقراءة القرآن، كلها من وسائل الذكر.

{تَضَرُّعًا} : بذلٍّ، وخشوع.

{وَخِيفَةً} : خوفاً، وخشية، وخاصَّةً حين تلاوة آيات الوعيد، والإنذار. ارجع إلى الآية (55) في نفس السورة للمقارنة.

{وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} : من دون صوت مرتفع؛ كأن تسمع نفسك فقط، دون الغير، وفوق السر.

{الْجَهْرِ} : نوعان: جهر مقبول، وهو دون الجهر، وجهر غير مقبول: حين يتحول الذكر إلى إزعاج الآخرين.

{بِالْغُدُوِّ} : من الفجر إلى طلوع الشمس، والإبكار من طلوع الشمس إلى الضحى، والأصال: من العصر إلى غروب الشمس.

{وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} : لا: الناهية.

{مِنَ الْغَافِلِينَ} : عن ذكر ربهم، أو عن صلاتهم. الغافلين: جملة اسمية؛ تدل على الثبوت؛ أيْ: باستمرار، ودوام على الفعلة؛ لأن المؤمن قد يغفل إلى فترة، ثم يعود إلى ذكر الله. ارجع إلى سورة البقرة، آية (74)؛ لمزيد من البيان.

ص: 118

سورة الأعراف [7: 206]

{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}

{إِنَّ} : للتوكيد.

{الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} : الذين: اسم موصول.

{عِنْدَ رَبِّكَ} : أي: الملائكة؛ لأن الملائكة في السموات العلى، والعندية هذه ليست عندية مكان؛ لأن ربنا لا يحدُّه مكان، ولكنها عندية الفضل، والرحمة، وقيل: هم الملائكة المقربون.

{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} : لا: النافية. يستكبرون: لا يشعرون بالكبر، والعلو، والعظمة؛ مهما بلغوا من المنزلة، والرفعة، ويفعلون ما يأمرون دون تكبر.

{وَيُسَبِّحُونَهُ} : بالليل، والنهار، لا يفترون؛ أيْ: ينزهونه عن كل عيب، ونقص، ذاتاً، وصفاتٍ، وأسماءً.

{وَلَهُ يَسْجُدُونَ} : تقديم الجار، والمجرور. له: يفيد الحصر بدلاً من القول، ويسجدون له، قال:{وَلَهُ يَسْجُدُونَ} .

أي: السجود لا يكون إلا لله وحده.

{يَسْجُدُونَ} : جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التجدُّد، والتكرار؛ سجود طاعة، وعبادة، سجود شكر، وتعظيم، سجود تلاوة؛ حيث يكون العبد أقرب إلى الله سبحانه من بقية الأوضاع.

ص: 119