الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن الكريم
سورة الفاتحة - سورة البقرة
سورة آل عمران- سورة النساء
فوائد - منوعات - فضائل - أقوال
إعداد
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير الاستعاذة والبسملة
تفسير سورة الفاتحة
10/ 4/ 1431 هـ
تفسير الاستعاذة والبسملة.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أي أستجير بجناب الله من الشيطان أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله.
• قوله تعالى (الشيطان) يحتمل: أن المراد به الشيطان المخصوص وهو إبليس الذي كانت قصته مع أبينا آدم، ويحتمل: أن المراد به كل شيطان [كل ما يصدق عليه هذا الاسم أو الوصف]، وهذا أصح، لأنه يدخل فيه الأول ويدخل فيه سائر الشياطين، ومن المعلوم أن سائر الشياطين يصدون الإنسان عن طاعة الله.
• قوله تعالى (الشيطان) مشتق على الصحيح من شَطَن أي بعُد، فالشيطان بعيد عن الخير وطباع البشر وعن كل معروف، وقيل: مشتق من شاط، لأنه مخلوق من نار، والأول أصح.
• (الرجيم) صفة للشيطان، فالرجيم فعيل بمعنى مفعول أي: إنه مرجوم مطرود عن الخير كله.
والرجم أصله الرمي بالحجارة، والشيطان مرجوم بالقول وبالفعل:
بالقول: بالسب والشتم والذم ويلحق به كل قول قبيح.
وبالفعل: أن رجمه الله أي طرده وأبعده من رحمته، ويرجم بالشهب كما قال تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) وقال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحوراً ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب).
وقيل: رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس. قال ابن كثير: والأول أشهر وأصح. [تفسير ابن كثير]
مباحث:
•
تشرع الاستعاذة في مواضع:
منها: عند قراءة القرآن.
قال تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
ومنها: عند حصول نزغ من الشيطان ووسوسة.
قال تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ومنها: عند ما يوسوس الشيطان للمسلم في معتقده بربه.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) متفق عليه.
ومنها: عند ما يُلبس الشيطان على الإنسان في صلاته.
لحديث عثمان بن أبي العاص (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال: فعلت ذلك، فأذهبه الله عني) رواه مسلم.
ومنها: عند الغضب.
لحديث سليمان بن صُرد قال (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،
…
) متفق عليه.
ومنها: عندما يرى الإنسان رؤيا يكرهها.
لحديث أبي قتادة. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه، فلينفث عن يساره ثلاثاً، ويتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره .. ، وفي رواية: وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها
…
فإنها لن تضره).
ومنها: عند نزول منزل.
لحديث خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات، من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم.
ومنها: عند دخول الخلاء.
لحديث أنس. قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) متفق عليه.
•
اختلف العلماء في حكم الاستعاذة في الصلاة وخارجها على قولين:
القول الأول: أنها واجبة.
لقوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) قالوا: هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
استحباب الاستعاذة قبل القراءة، وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها قبل القراءة لقوله تعالى (فاستعذ بالله).
القول الثاني: أنها مستحبة قبل القراءة، سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها.
وهذا قول جمهور العلماء.
قال ابن كثير: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة، يأثم تاركها.
وقال النووي: ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب، وهو مستحب لكل قارئ، سواء كان في الصلاة أو في غيرها.
ويدل على عدم الوجوب:
حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم (لقد أنزلت علي سورة آنفاً: بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر) رواه مسلم. ولم يذكر الاستعاذة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة، وهذا القول هو الصحيح.
• قوله (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) هذه إحدى صيغ الاستعاذة. واختار هذه الصيغة أكثر العلماء، لأنها الصيغة التي جاءت بالقرآن. [الجامع لأحكام القرآن: 1/ 62].
وهو الذي ورد في السنة كما في حديث سليمان بن صُرد قال (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه، مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم،
…
) متفق عليه.
قال ابن عطية: وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس، هو لفظ كتاب الله تعالى (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
الصيغة الثاني: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى (فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
الصيغة الثالثة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
كما في حديث أبي سعيد الذي عند أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته
وكبر قال (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك ـ ثم يقول ـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).
قال ابن كثير: وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق، والنفخ الكبر، والنفث الشعر [الشعر المذموم].
•
الحكمة من الاستعاذة قبل القراءة:
أولاً: أن القرآن شفاء لما في الصدور يُذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات.
ثانياً: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه.
ثالثاً: أن الشيطان يُجلب بخيله ورجله على القارئ حتى يشغله عن المقصود بالقرآن.
رابعاً: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه. [إغاثة اللهفان: 1/ 107].
• ذهب جماهير العلماء أن الاستعاذة تكون قبل القراءة، ويدل لذلك:
قوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) المعنى: إذا أردت القراءة فاستعذ بالله.
قال الشنقيطي في قوله تعالى: (فإذا قرأت لقرآن فاستعذ بالله): إنه على حذف الإرادة، أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، والدليل على ذلك تكرر حذف الإرادة في القرآن، وفي كلام العرب، لدلالة المقام عليه، كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .. ) الآية، أي إذا أردتم القيام إليها.
…
[أضواء البيان:].
وأيضاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يستعيذ قبل القراءة.
وقال بعض العلماء: تكون الاستعاذة بعد القراءة، على ظاهر الآية (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله).
والراجح قول الجمهور.
• فيه أنه لا نجاة من الشيطان الجني إلا بالاستعاذة، أما الشيطان الإنسي فكما قال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وقال تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
قال ابن كثير:
…
ولهذا أمر الله بمصانعة شيطان الإنسان ومداراته بإسداءِ الجميل إليه، ليَرُدَّهُ طبعُه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رِشوةً ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله تعالى في الأعراف (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
…
) هذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقال تعالى في سورة قد أفلح (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ). وقال تعالى في فصلت (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فالشيطان الجني لا يقبل رشوة ولا إحساناً، لا يبتغي إلا هلاك بني آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) وقال تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام إنه لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
قال بعض العلماء: إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) فإذا كانت هذه معاملته مع أنه قد أقسم أنه من الناصحين فكيف تكون معاملته مع أنه أقسم أنه يضل و يغوي؟!
الفوائد:
1 -
مشروعية الاستعاذة دائماً من الشيطان.
2 -
فيه دليل على أن الإنسان ينبغي أن يطلب العون من الله على الطاعة وعلى مجاهدة عدوه.
3 -
وفيه دليل على اعتراف العبد بالعجز وقدرة الرب.
4 -
وفيه أنه لا وسيلة إلى القرب من الله إلا بالعجز والانكسار.
5 -
وفيه الإقرار بالفقر التام للعبد، والغنى التام لله سبحانه وتعالى.
تفسير (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي أبتدئ بتسمية الله وذكرهِ قبل كل شيء، مستعيناً به جل وعلا في جميع أموري، طالباً منه وحده العون، فإنه الرب المعبود ذو الفضل والجود، واسع الرحمة كثير التفضل والإحسان، الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام.
• يستحب للمسلم أن يبدأ قراءة القرآن بالبسملة.
• (الله) علم على ذاته تبارك وتعالى، وكل الأسماء الحسنة تضاف إليه كما قال تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) متفق عليه.
ولذلك تقول: الرحمن من أسماء الله، ولا تقول الله من أسماء الرحمن.
• ومعنى (الله) أي: المألوه المعبود الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة وتعظيماً وخضوعاً له، وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، لما له من صفات الألوهية، وهي صفات الكمال.
• (الله) لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو مختص بالله لفظاً ومعنى.
لفظاً: أي أن هذا اللفظ لا يصح أن يسمى به أحد.
ومعنى: أي أن الصفة التي تضمنها هذا الاسم وهي الإلهية لا يصلح شيء منها للمخلوق.
• قال بعض العلماء: إنه الاسم الأعظم.
لأنه يوصف بجميع الصفات، هذا دليل نظري على أن لفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم، أي أن هذه الأسماء جميعاً ترجع إليه لفظاً ومعنى.
• معنى ترجع إليه لفظاً: أي أن أسماء الله تأتي بعده ولا يأتي بعد شيء منها كما سبق في الآيات الحديث.
• ومعنى ترجع إليه معنىً: أي أن هذا الاسم يتضمن صفة الإلهية وهي أوسع الصفات، وهذه الصفة ترجع إليها جميع الصفات.
وقد اختلف العلماء ما هو الاسم الأعظم الذي ورد فيه الحديث (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى).
القول الأول: هو الله.
للعلة التي سبقت وهي أن جميع الأسماء ترجع إليه.
ولأنه الاسم الذي تكرر في الأحاديث الواردة ومنها: أن رجلاً قال (اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى) رواه أبو داود.
وكحديث أنس قال (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات
…
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب) رواه أبو داود.
ولأن هذا الاسم ما أطلق على غير الله.
القول الثاني: إن اسم الله الأعظم: الحي القيوم.
واستدل لهذا القول ببعض الأحاديث التي فيها مقال مثل حديث (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وفاتحة آل عمران (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وهما عند أبي داود.
وهذان القولان أقوى الأقوال، والأول أقوى من الثاني.
• قوله (الله) اختلف هل هو مشتق أم غير مشتق والراجح أنه مشتق.
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: واختلفوا في اشتقاقه على أقوال أقواها أنه مشتق من أله يأله إلاهة، فأصل الاسم الإله، ومن أقوى الأدلة عليه قوله تعالى (وهو الله في السماوات وفي الأرض) مع قوله عز وجل (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) ومعناه ذو الألوهية التي لا تنبغي إلا له.
• فائدة: والأسماء المشتقة أبلغ من الأسماء الجامدة، لأن الأسماء المشتقة تتضمن أوصافاً، بخلاف الأسماء الجامدة، فكل أسماء الله مشتقة.
• قوله (الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم.
لكن ما الفرق بينهما:
قيل: الرحمن: ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة الخاصة للمؤمنين يوم القيامة.
واستدلوا بقوله تعالى (وكان بالمؤمنين رحيماً).
وقيل: الرحمن يدل على الصفة العائدة على الله من الرحمة، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، فالرحمن دال على أن الرحمة صفته، والرحيم دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وهذا أصح وهو اختيار ابن القيم.
إذن: الرحمن تدل على الوصف، والرحيم تدل على الفعل، أي: على أنه يرحم.
ومما يضعف القول الأول قوله تعالى (إن الله بالناس لرؤوف رحيم).
•
…
(الرحمن) على وزن فعلان، وهو ذو الرحمة الواسعة. (والرحيم) الموصل رحمته لمن يشاء من عباده.
•
…
(الرحمن) مختص بالله لا يسمى به غيره ولا يعرف أحد تسمى به، قال ابن كثير: ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب.
• والفرق بين الرحمن والله: الله مختص بالله لفظاً ومعنى، وأما الرحمن مختص بالله لفظاً لا معنى، فإن المخلوق يوصف بالرحمة.
• وقد قسّم العلماء رحمهم الله الرحمة إلى قسمين:
عامة - وخاصة.
فأما العامة: فهي الشاملة لجميع الخلق (المؤمن والكافر والبر والفاجر)، فكل الخلق تحت رحمة الله عز وجل.
وأما الرحمة الخاصة: فهي التي تختص بالمؤمنين.
والفرق بينهما: أن الرحمة الخاصة تتصل برحمة الآخرة، فيكون لله على المؤمنين رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة.
وأما الرحمة العامة: فلا أثر لها إلا في الدنيا، ولذلك الكفار في الآخرة يعاملون بالعدل ولا يعاملون بالرحمة
• قال الشيخ ابن عثيمين: وذكر هذين الاسمين الكريمين في البسملة التي تتقدم فعل العبد وقوله، إشارة إلى أن الله إذا لم يرحمك فلن تستفيد لا من هذا الفعل ولا من هذا القول، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
الفوائد:
1 -
إثبات اسم من أسماء الله وهو الرحمن المتضمن للرحمة الواسعة.
الواسعة: كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).
وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
ورحمته سبقت غضبه: كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب عنده: إن رحمتي تغلب غضبي) متفق عليه.
والله أرحم بعباده من الأم بولدها. كما في حديث عمر أنه قال (قدم على رسول الله بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته بطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها) متفق عليه.
• وإذا كان الله ذو رحمة واسعة فينبغي أن يعمل ب
الأسباب التي تنال بها الرحمة:
أولاً: رحمة الناس.
قال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله).
ثانياً: الإحسان.
قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
ثالثاً: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
-.
قال تعالى (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
رابعاً: السماحة في البيع والشراء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). رواه البخاري.
خامساً: عيادة المريض.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً خاض في الرحمة).
سادساً: قيام الليل وإيقاظ الأهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء) رواه أبو داود.
سابعاً: الحلق في النسك.
قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم (اللهم ارحم المحلقين ثلاثاً).
ثامناً: مجالس الذكر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة .... ). رواه مسلم.
تاسعاً: الجلوس في المسجد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة تستغفر للمصلي مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه). متفق عليه
عاشراً: سماع حديث الرسول وتبليغه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع) رواه ابن حبان.
الحادي عشر: الإنصات للقرآن.
قال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
•
تشرع التسمية (استحباباً أو وجوباً) في مواضع:
منها: عند الوضوء.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لا وضوء له) رواه أبو داود.
ومنها: عند الركوب.
قال الله تعالى (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ).
وفي حديث علي (
…
وأُتيَ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله .... الحديث وفي آخره قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت) رواه أبو داود.
ومنها: عند الذبح والصيد.
لقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).
وعن عدي بن حاتم. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه فكل) متفق عليه.
ومنها: عند الأكل.
لحديث عمرو بن سلمة. قال (كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال: يا غلام سم الله، وكل بيمينك ..... ) متفق عليه.
ومنها: عند دخول المنزل.
لحديث جابر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء) رواه مسلم.
ومنها: عند الجماع.
لحديث ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا
…
) متفق عليه.
ومنها: عند الخروج من البيت.
لحديث أنس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت
…
) رواه أبو داود.
ومنها: في المساء والصباح.
لحديث عثمان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال: بسم الله، الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو
السميع العليم، ثلاث مرات، لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح
…
) رواه أبو داود.
ومنها: إذا عثر المرء أو عثرت دابته.
لحديث رجل قال (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعُثِر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتي صرعته، وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب) رواه أبو داود.
ومنها: عند وضع الميت في قبره.
لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سنة رسول الله) رواه أبو داود.
•
وقد اختلف العلماء في البسملة في أول السور هل هي من السورة أم لا؟
القول الأول: هي آية من سورة الفاتحة، ومن كل سورة.
وهذا مذهب الشافعي.
لحديث أنس قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا بالمسجد، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: نزلت علي آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر) رواه مسلم.
القول الثاني: ليست من الفاتحة ولا من أول سورة بل هي آية مستقلة نزلت للفصل بين السور.
وهذا مذهب الحنفية واختيار ابن تيمية.
لحديث أبي هريرة. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (قال تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي،
…
) رواه مسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بقوله: الحمد لله رب العالمين، دون بسم الله الرحمن الرحيم، ولو كانت البسملة من الفاتحة لبدأ بها لا بالحمد.
ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن سورة من القرآن من ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: تبارك الذي بيده الملك) رواه الترمذي.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن مقدار سورة الملك ثلاثون آية، وقد اتفق القراء وغيرهم على أنها ثلاثون آية سوى البسملة، ولو كانت منها لكانت إحدى وثلاثين، وهو خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول هو الصحيح.
فائدة الخلاف: أن من قال أنها آية من أول كل سورة قال بوجوب قراءتها قبل الفاتحة في الصلاة، لأنها إحدى آياتها، ومن لم يقل بأنها آية من أول كل سورة لم يقل بذلك.
تفسير سورة الفاتحة
مقدمة:
أسماؤها:
•
بعض أسماء سورة الفاتحة:
الاسم الأول: فاتحة الكتاب.
ويعد هذا أشهر أسمائها، وقد ثبتت هذه التسمية في السنة في أحاديث كثيرة.
كقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) رواه مسلم.
وسبب التسمية بذلك: كما قال ابن كثير: لأنها فاتحة الكتاب خطاً وبها تفتح القراءة في الصلوات.
الاسم الثاني: أم الكتاب، أم القرآن.
وقد ورد هذا الاسم في السنة في أحاديث كثيرة.
كقوله صلى الله عليه وسلم (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم) رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم (الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني) رواه الترمذي.
وسبب التسمية بذلك: أن أم الشيء أصله، وهي أصل القرآن لاشتمالها على أنواع أغراض القرآن ومقاصده.
قال البغوي رحمه الله: سميت أم القرآن وأم الكتاب، لأنها أصل القرآن، منها بدئ القرآن.
الاسم الثالث: السبع المثاني.
وقد ورد هذا الاسم في السنة.
كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى (ألا أعلمنك أعظم سورة في القرآن، .... الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) رواه البخاري.
سبب التسمية: أما السبع، فلأن آياتها سبع، وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لآياتها بالمثاني، فأرجح الأقوال أنها تثنى في الصلاة، أي تكرر، فتكون التثنية بمعنى التكرار.
الاسم الرابع: القرآن العظيم.
كما قال صلى الله عليه وسلم (الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
سبب التسمية: قال القرطبي: سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن.
الاسم الخامس: سورة الحمد،
سميت بذلك لأنه ذكر في أولها لفظ الحمد.
الاسم السادس: الصلاة.
وهذا الاسم ثبت بالسنة.
فقد قال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال الحمد لله رب العالمين، قال حمدني عبدي) رواه مسلم.
وقد ذكر الإمام النووي في شرحه على مسلم بعد ذكر الحديث السابق أن المراد بالصلاة الفاتحة، وعلل تسميتها بقوله: لأنها لا تصح الصلاة إلا بها.
•
عدد آياتها:
قال ابن كثير: وهي سبع بلا خلاف.
• وهي مكية لقوله تعالى (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم).
•
ما ورد في فضلها:
سبق بعض الأحاديث في فضلها:
كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى (ألا أعلمنك أعظم سورة في القرآن، .... الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) رواه البخاري.
وكقوله صلى الله عليه وسلم (أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم) رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم (الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني) رواه الترمذي.
(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
[الفاتحة: 1 - 3].
(الْحَمْدُ للّهِ) ثناء من الله على نفسه سبحانه وتعالى، وهذا يتضمن أمر لعباده بحمده، وقد أمر بذلك فقال تعالى مخاطباً لنبيه خطاباً يدخل فيه جميع أمته (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها). وقال تعالى (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى).
• الحمد وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
• الحمد لله: الألف واللام للاستغراق فجميع المحامد كلها لله، ومن أسمائه الحميد، قال ابن القيم:
وهو الحميدُ فكل حمدٍ واقع
…
أو كان مفروضاً مدى الأزمان
ملأ الوجودَ جميعَه ونظيرَه
…
من غير ما عدٍّ ولا حُسْبان
هو أهله سبحانَه وبحمده
…
كل المحامد وصف ذي الإحسان
• والله عز وجل يحمد على كمال صفاته، وعلى كمال إنعامه:
الحمد على كمال صفاته:
كقوله تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).
الحمد على إنعامه:
كقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشربَ الشربة فيحمده عليها) رواه مسلم.
• قال بعض العلماء: إن الحمد هو الثناء على الله، وهذا قول ضعيف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قال تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال الحمد لله، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال: أثنى علي عبدي ..... ) رواه مسلم، ففرق بين الحمد والثناء، فالصحيح أن الثناء هو تكرار الحمد.
• قال ابن القيم: ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له، أن يجعلنا عبيداً له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلنا عبيداً لإله نحتته الأفكار، لا يسمع أصواتنا ولا يبصر أفعالنا ولا يعلم أحوالنا ولا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا تكلم قط ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى.
ومما يحمد الله عليه:
خلق السماوات والأرض.
قال تعالى (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور
…
).
وعلى دخول الجنة.
قال تعالى (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
(وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور).
وعلى صفات الكمال كالوحدانية وغيرها.
قال تعالى (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً).
إنزال الكتاب.
قال تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا).
وعلى ماله في السماوات والأرض.
قال تعالى (الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض).
• قال بعض العلماء إن هذه الكلمة (الحمد لله) كلمة كل شاكر ويدل لذلك:
قول أهل الجنة (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).
وبقول نوح عليه السلام (الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين).
وبقول أهل الجنة أيضاً (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
وبقول إبراهيم عليه السلام (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق).
وبقول داود وسليمان عليهما السلام (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين).
• الحمد هل هو مرادف للشكر أم بينهما تغاير، اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
فقيل: بمعنى واحد.
وهذا اختيار ابن جرير الطبري.
وقيل: ليسا بمعنى واحد. وبه قال جماعة.
قال ابن تيمية: والحمد نوعان، حمد على إحسانه إلى عباده وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا لمن هو في نفسه مستحق للحمد.
فالحمد أعم من الشكر.
قال ابن عطية: الحمد معناه الثناء الكامل، وهو أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدي إلى الشاكر، والحمد المجرد هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً.
وقال الزمخشري: الشكر لا يكون إلا على نعمة، وأما الحمد فهو المدح والوصف بالجميل وهو شعبة واحدة من شعب الشكر.
• استنبط بعض العلماء من قول (الحمد لله) أن من أسماء الفاتحة: الحمد، وسميت بذلك لأنه ذكر في أولها لفظ الحمد ولم تنفرد هذه السورة بافتتاحها بلفظ الحمد، إنما يشترك معها أربع سور من سور القرآن وهي سورة الأنعام، والكهف وسبأ وفاطر، ولكن أطلق هذا الاسم بالغلبة على سورة الفاتحة، فإذا قلنا: سورة الحمد، فالمتبادر إلى الأذهان أن المقصود بها هي سورة الفاتحة لا غيرها من السور.
1 -
جاءت أحاديث في فضل الحمد لله.
قال صلى الله عليه وسلم (الحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) رواه الترمذي.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ)) الرب هو المالك المتصرف المعبود المدبر لشؤون خلقه المربي لهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة:
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر.
• العالمين: اختلف ما المراد بالعالمين على أقوال:
قيل: كل موجود سوى الله، وهذا قول قتادة ورجحه القرطبي وابن كثير.
وقيل: أهل كل زمان عالم لقوله تعالى (أتأتون الذكران من العالمين) أي من الناس.
وقيل: الجن والإنس، لقوله تعالى (ليكون للعالمين نذيراً).
وقيل: العالَم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين.
والصحيح الأول، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود، ودليله قوله تعالى (قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السموات والأرض وما بينهما).
• العالمين: جمع عالَم:
قيل: مأخوذ من العَلامة، لأنهم عَلمٌ على خالقهِم وصانعهم، وهذا هو الصحيح.
فإن هذا الخلق في كل فرد منه، وفي كل جزء منه، آية تدل على وحدانية الله وعلى عظمته وعلى انفراده بالملك.
قال الشاعر:
فوا عجباً كيف يُعصى الإلهُ
…
أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شيءٍ له آيةٌ
…
تدل على أنه واحدُ
قال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).
وسئل بعض الأعراب عن وجود الله فقال: إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا يدل على وجود اللطيف الخبير.
جسمك وروحك فيه من الآيات ما يبهر العقول.
وقيل: مأخوذ من العِلم، لأن هذا الخلق لا يصدر إلا عن علم ومعرفة بأحوالهم.
• العالمين: تطلق أحياناً ويراد به الإنس والجن:
كما قال تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).
وأحياناً تطلق على البشر:
كقوله تعالى (أتأتون الذكران من العالمين).
• قال بعض العلماء: واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه، وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم.
الثاني: أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو متعال عن النقصان والضرر، كما قال تعالى:(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).
الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:(إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء).
الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال كنت جنيناً في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلاً غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية.
الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغْيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة.
السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم، أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل، كما قال:(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
فثبت تعالى أنه رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
(الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ).
سبق شرحهما.
قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله: رب العالمين؛ ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب؛ كما قال تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ) وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته أحد).
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي: هو سبحانه وتعالى المالك للجزاء والحساب المتصرف في يوم الدين الذي يُدان كل عاملٍ بما عمل (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً).
وسمي يوم الدين لأن الناس يُدانون به (يعني يُجزون به).
• يوم الدين: أي يوم الجزاء، والدين في القرآن يطلق على معنيين:
الأول: بمعنى الجزاء كما في هذه الآية، وكما قال تعالى (إنا لمدينون) أي: لمجزيون، وكما قال تعالى (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي: جزاء أعمالهم، وقال تعالى (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: غير مجزيين بأعمالكم ومحاسبين عليها، وقال تعالى (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أي: إن الجزاء على الأعمال لواقع حقيقة.
والثاني: العمل، كما في قوله تعالى (لكم دينكم ولي الدين) وقوله (ورضيت لكم الإسلام ديناً).
• ومثل هذه الآية: قوله تعالى (وله الملك يوم ينفخ في الصور). وقوله تعالى (الملك يومئذ لله يحكم بينهم). وقال سبحانه (الملك يومئذ الحق للرحمن). وقال تعالى (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار).
• تخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً).
• مالك يوم الدين: جاء في قراءة (ملِك) وقد اختلف العلماء أيهما أبلغ مالك أو ملك.
قال الشوكاني: فقيل: إن ملِك أعمّ وأبلغ، إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملك، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في
ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك، قاله أبو عبيد والمبرد ورجحه الزمخشري.
وقيل: مالك أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم
…
ثم قال الشوكاني: والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر، فالمالك يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع والهبة والعتق ونحوها، والملِك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعاية، فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور، والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه أن الملك صفة لذاته والمالك صفة لفعله.
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة، وهي أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي، لأن من الخلق من يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك، يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء، ومن الناس من يكون مالكاً ولا يكون ملكاً كعامة الناس، ولكن الرب جل وعلا مالك ملك.
الفوائد:
1 -
كمال صفات الله عز وجل، لأن الحمد المطلق لا يستحقه إلا من كان كاملاً في وصفه، كاملاً في فعله.
2 -
ينبغي حمد الله دائماً وأبداً.
3 -
ثبوت ألوهية الله لقوله (لله) فالله عز وجل إله الحق، وما سواه فهو باطل.
4 -
إثبات ربوبية الله، والرب هو الخالق المالك المدبر.
5 -
فيه أن كل مخلوق مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج إلى الله تعالى.
6 -
فيه دليل على أن هذا العالم علَم وآية دالة على الله عز وجل، فجميع هذه المخلوقات تدل على وجود الخالق سبحانه.
7 -
إثبات صفة الرحمة الواسعة لله تعالى.
8 -
إثبات يوم القيامة والجزاء.
9 -
حث الإنسان على أن يعمل ويستعد لذلك اليوم الذي يجازى كل إنسان بعمله.
10 -
إثبات البعث.
11 -
في الآية ترغيب وترهيب، فإن الإنسان إذا أيقن بأنه سيحاسب على عمله، ويثاب عليه حرِص على الأعمال الصالحة واجتهد، وترهيب للإنسان الذي يعمل السيئات أنه سيجازى على عمله في يوم القيامة.
12 -
حكمة الله عز وجل، حيث جعل لهذا الخلق مآلاً يُدانون فيه، ويُجازون بأعمالهم، لأنه لولا ذلك لكان الأمر عبثاً، والله عز وجل منزه عن العبث (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).
13 -
كمال عدل الله تعالى.
(إياك نعبد وإياك نستعين. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
[الفاتحة: 4 - 7].
(إياك نعبد وإياك نستعين) قال ابن كثير: أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين،
…
فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل.
…
قال الشيخ السعدي: أي نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة.
قال ابن القيم: وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول (إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبرياء.
ثم قال ابن القيم: فدواء الرياء (إياك نعبد) ودواء الكبر بـ (إياك نستعين).
• العبادة تعريفها باعتبار المفعولات (الأعمال المتعبد بها): اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وباعتبار فعل العبد: الانقياد لله عز وجل والخضوع له.
• (وإياك نستعين) قال ابن القيم: والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره - مع ثقته به - لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه - مع عدم ثقته به - لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
وقال الشيخ السعدي: والاستعانة هي: الاعتماد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
•
يكون العبد محققاً للعبودية بأمرين:
الأول: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم
-.
الثاني: الإخلاص لله تبارك وتعالى.
• كلما كان العبد أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له: كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله.
وقال ابن تيمية: أعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه. كما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ومتى احتجت إليهم -ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً.
وقال رحمه الله: سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي نوع من الشرك، ومفسدة إيذاء المسؤول وهي نوع من ظلم الخلق، وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال (إنما أنا عبد)، وقد وصفه الله في وصف العبودية في أعلى المنازل:
فقال تعالى في الإسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً).
وقال تعالى في مقام التحدي (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ).
وقال تعالى في مقام الدعوة (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).
وكان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس لربه وأخشاهم له.
ووصف الله بذلك أكمل خلقه وأحبهم إليه وهم رسله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ).
وقال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
وقال تعالى عن المسيح (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ).
وقال عنه وعن الملائكة (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).
وقال أيضاً عن الملائكة (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ).
والعبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وبها أرسل جميع الرسل كما قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
• (وإياك نستعين) فيها وجوب الاستعانة بالله في جميع أموره، فلا توفيق للعبد إلا إذا أعانه العبد.
كما قال تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (وإذا استعنت فاستعن بالله).
وفي استعانة الله وحده فائدتان:
إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات.
والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه في خطبته أن يقول: الحمد لله نستعينه.
وأمر معاذاً أن يقول دبر كل صلاة (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادك).
وينبغي الاعتناء بهذا الدعاء لثلاثة أمور: لأنه وصية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ فيه: إني أحبك، ولأنه دعاء جامع شامل.
وفي دعاء القنوت (اللهم إنا نستعينك .. ).
وقال موسى لقوم (استعينوا بالله واصبروا).
ولما بشر صلى الله عليه وسلم عثمان بالجنة على بلوى تصيبه قال: الله المستعان.
ومن كلام بعض العارفين: يا رب عجبت لمن يعرفك يرجو غيرك، عجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك.
وكتب الحسن الى عمر بن عبد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه.
• أتى بضمير الجمع في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) والحكمة كما قال ابن القيم: الإتيان بضمير الجمع في الموضع أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى، وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته، فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه: نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك، فيكون هذا أحسن وأعظم موقعاً عند الملك من أن يقول: أنا عبدك ومملوكك.
قال الشيخ السعدي: وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي.
• وقال ابن تيمية: وكثير ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله (إياك نعبد) والمعجب لا يحقق قوله (إياك نستعين) فمن حقق قوله (إياك نعبد) خرج عن الرياء، ومن حقق قوله (وإياك نستعين) خرج عن الإعجاب.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي دلنا وأرشدنا، ووفقنا إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وإلى جنته.
• اختلف في المراد بالصراط المستقيم: فقيل: هو الإسلام. وقيل: هو القرآن. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه.
قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة.
وقال الشوكاني: وجميع ما روي في تفسير هذه الآية يصدق بعضه بعضاً، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي فقد اتبع الحق.
قال ابن جرير: وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه، وقد زعم بعض أهل الغباء أنه سماه مستقيماً لاستقامته بأهله إلى الجنة، وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلاف، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلاً على خطئه.
…
• الهداية هي: معرفة الحق والعمل به، فلا يكفي معرفة الحق دون العمل به، فالكثير من الناس يعرفون الحق ولا يعملون به، واليهود يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه.
• قال ابن كثير: فإن قيل: فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك؟
فالجواب: أن المراد الثبات والاستمرار على الأعمال المعينة.
وفيما قاله رحمه الله قصور، فإن الهداية أعم من ذلك.
قال ابن القيم: فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم.
وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه - مما نريده - كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوته الحصر.
وأيضاً للهداية مرتبة أخرى وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصراط الموصل إليها. [مدارج السالكين: 1/]
ومن ذلك الهداية إلى العلم والتعلم، فكم من الناس لا يسلكون طريق العلم وطلبه، وكم من الناس سلكوا هذا الطريق ولم يستمروا عليه.
وكم ممن تعلم ولم يفوق، بل يقال له: ليتك ثم ليتك ما علمتَ.
وكم من الناس من ينشغل بالمفضول عن الفاضل، وينشغل بالمباحات والإكثار منها.
وأيضاً نحتاج للهداية في الأمور المستقبلية، فالمسلم بحاجة إلى سؤال الهداية في كل لحظة، فالأمور والعوارض والقضايا الدينية والدنيوية تمر عليه كل ساعة، فهو بحاجة إلى معرفة الحق فيها.
وأيضاً المسلم بحاجة للهداية عند احتضاره وفي قبره قال تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة).
وأيضا بعد موته في يوم القيامة ثم إلى منزله في الجنة قال تعالى (والذين قتلوا في سبيل الله سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم) أي سيهديهم إلى الجنة وإلى أماكنهم فيها ".
• فيه دليل على استحباب سؤال الله الهداية دائماً وأبداً، فإن المسلم محتاج لها.
قال ابن تيمية: أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة [اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين]، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال رحمه الله في موضع آخر: ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله [اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين] فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.
وكان يقول في صلاة الليل (
…
اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه مسلم
وعلم الحسن أن يقول في دعاء قنوت الوتر (اللهم اهدني فيمن هديت) رواه أبو داود.
وجاء أعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله علمني كلاماً؟ .. الحديث وفيه ثم قال الأعرابي هؤلاء لربي فما لي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني). رواه مسلم
وعن أبي مالك قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني). رواه مسلم
وعن علي. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (قل اللهم اهدني وسددني). رواه مسلم
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) المعنى: أي اهدنا ووفقنا للصراط المستقيم الذي هو: صراط الذين أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- هؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون في قوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
• وفي ذكر الله تبارك وتعالى المنعم عليهم -وهم من سبق ذكرهم في الآية السابقة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين-
فائدة ذكرها ابن القيم حيث قال:
ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس عنه ناكبون، مريداً لسلوك طريق مرافقُه في غاية القلة والعزة، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه سبحانه وتعالى على الرفيق في هذه الطريق، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط: هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقل قدراً وإن كانوا هم الأكثرين عدداً.
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلَا الضَّآلِّينَ) أي: اهدنا ودلنا على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم (غير) صراط (المغضوب عليهم) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم و (لا) صراط (الضالين) الذين تركوا الحق على جهل وضلالة كالنصارى ونحوهم.
• المغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى، كما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون) رواه الترمذي.
• ينبغي على المسلم أن يحذر من سلوك طريق اليهود والنصارى، لأن الله حذر منهما، فيجب على المسلم أن يحذر كل الحذر.
قال ابن تيمية رحمه الله: ولما أمرنا الله سبحانه وتعالى، أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين، كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين، وقد وقع ذلك كما أخبر به صلى الله عليه وسلم حيث قال: لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وهو حديث صحيح.
• ومن الأمور التي وقعت فيها ناس من هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى: كتم العلم، والبخل بالعلم والمال، وقسوة القلب (ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) وغيرها كثير.
…
• وصف اليهود بالغضب والنصارى بالضلال: فإن الغضب إنما خص به اليهود، وإن شاركهم النصارى فيه، لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمداً فكان الغضب أخص صفاتهم، والنصارى جهلة لا يعرفون الحق فكان الضلال أخص صفاتهم.
…
وقال ابن القيم: ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به، ومن ههنا كان اليهود أحق به، والجاهل بالحق أحق باسم الضلال، ومن هنا وصف النصارى به.
• فإن قيل: لم قدم المغضوب عليهم على الضالين؟
وأما تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه:
أحدها: أنهم متقدمون عليهم بالزمان.
الثاني: أنهم كانوا الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه، ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة (البقرة والمائدة وآل عمران) .. وغيرها من السور.
الثالث: أن اليهود أغلظ كفراً من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة،
فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم، فالتحذير من سبيلهم، والبعد منها أحق وأهم بالتقديم، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم.
• قوله تعالى (أنعمت عليهم) ولم يقل: المنعم عليهم كما قال: المغضوب عليهم.
أولاً: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن، وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، بخلاف الشر فإنه لا يضاف إلى الله تأدباً.
ونظير هذا قول إبراهيم الخليل (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله، ولما جاء إلى ذكر المرض قال (وإذا مرضت) ولم يقل: أمرضني.
ومثل قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً).
ثانياً: أن النعمة بالهداية إلى الصراط: لله وحده، وهو المنعم بالهداية دون أن يشركه أحد في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال: أنعمت عليهم، أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة. [ذكره ابن القيم].
• ذكر الله تعالى انقسام الناس وأنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، المنعم عليهم - وهم من عرف الحق واتبعه - والمغضوب عليهم - وهم من عرفه واتبع هواه - والضالين - وهم من جهله - فالناس لا يخرجون عن هذه الأقسام الثلاثة.
• يجب بغض ومعاداة اليهود والنصارى.
الفوائد:
1 -
فيه وجوب الإخلاص في عبادة الله.
فإن قال قائل كيف أتخلص من طلب العوض والثناء؟
فالجواب: علمه بأنه عبد محض والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته.
ومعرفته أن الناس ليس بيدهم نفع ولا ضر، قال الفضيل:(من عرف الناس استراح) يريد -والله أعلم- أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
2 -
الحذر من الرياء، وقد قال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمِل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه) رواه مسلم.
3 -
يجب على المسلم أن يطلب العون من الله في جميع أموره.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (رب أعني ولا تعن علي) رواه الترمذي.
وعلم معاذ فقال له (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود.
4 -
يجب على المسلم أن يحذر من أي أمر يعوقه عن الهداية.
قال ابن القيم: " ولينظر إلى الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه ".
5 -
نستفيد أن من أسباب الهداية دعاء الله بذلك، لأن الله أمرنا بذلك بقوله:(اهدنا الصراط).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك)، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
6 -
دليل على أنه يستحب للداعي أن يقدم بين دعائه ثناء على الله بالتوحيد والثناء على الله.
قال ابن القيم: ولما كان طالب الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ".
7 -
فيه أن الطريق الحق المستقيم واحد لا غير كما قال تعالى (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه).
قال ابن القيم: وذكر الصراط المستقيم منفرداً، لأنه صراط واحد، وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) فوحد لفظ الصراط وسبيله، وجمع
السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ".
8 -
قال ابن القيم: فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط.
9 -
يجب على المسلم أن يفعل الأسباب التي تعينه على السير على الصراط المستقيم.
10 -
دليل على أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قوم علموا بالحق وعملوا به وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالهداية، وقسم علموا الحق ولم يعملوا به وهو المغضوب عليهم، وقسم لم يهتدوا إلى الحق لا علماً ولا عملاً وهم النصارى.
11 -
أن نعمة الدين أعظم من نعمة الدنيا.
12 -
عظم ذنب من أوتي علماً ولم يعمل به، لأنه يستحق الغضب.
فالعلم يطلب من أجل العمل.
وقد ذم الله اليهود لأنهم لم يعملوا بعلمهم وشبههم بالحمار يحمل أسفاراً.
قال تعالى (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً).
قال ابن كثير: يقول تعالى ذاماً لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل ثم لم يعملوا بها: مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملاً حسياً ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه حفظوه لفظاً ولم يتفهموه ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالاً من الحمير، لأن الحمار لا فهم له، وهؤلاء لهم فهم لم يستعملوه.
ومن لم يعمل بعلمه فإنه سيكون حجة عليه.
كما جاء في الحديث (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع وذكر منها .. وعن علمه ماذا عمل به).
وقال بعض السلف: (من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم).
والذي يعمل بعلمه يثبت علمه.
نماذج مشرقة في تطبيق العمل بالعلم:
1 -
عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً) رواه البخاري ومسلم
2 -
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة: أن يسبحا ثلاثاً وثلاثين ويحمدا ثلاثاً وثلاثين ويكبرا أربعاً وثلاثين وقال: (فهو خير لكما من خادم) قال علي رضي الله عنه: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. رواه مسلم
3 -
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته مكتوبة) قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي). رواه مسلم
4 -
قال البخاري: ما اغتبت أحداً منذ علمت أن الغيبة حرام، إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت
أحداً.
5 -
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت).
قال ابن القيم رحمه الله: بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال: ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسياناً أو نحوه.
6 -
قال الإمام أحمد بن حنبل: (ما كتبت حديثاً إلا قد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبي طيبة ديناراً فاحتجمت وأعطيت الحجام ديناراً).
فالعمل بالعلم دليل على أن هذا علم مبارك نافع.
وكان السلف يستعينون بحفظ الأحاديث بالعمل. قال وكيع: إذا أردت أن تحفظ حديثاً فاعمل.
13 -
وجوب التبرؤ من طريقة اليهود والنصارى.
14 -
يجب معرفة أهل الباطل لنتجنب أعمالهم وأخلاقهم.
تم ولله الحمد والمنة
أخوكم
الشيخ/ سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير
سورة البقرة
(كاملةً)
فوائد - منوعات - فضائل - أقوال
إعداد
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة البقرة
مقدمة:
هي سورة مدنية، قال ابن كثير: والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف.
سميت بهذا الاسم، لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية، فقد كان للبقرة شأن إلهي عجيب في هذه الحادثة.
فضلها:
عن النَّوَّاس بْن سَمْعَان قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ) رواه مسلم.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ). رواه مسلم
وعن أَبي أُمَامَة الْبَاهِلِي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) رواه مسلم.
الزهراوان: المنيرتان، والغياية: ما أظلك من فوقك، والفِرْقُ: القطعة من الشيء، والصواف: المصطفة المتضامة، والبطلة: السحرة.
ومعنى لا تستطيعها: أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها.
قوله (اقرؤوا الزهراوين) قال القرطبي: للعلماء في وجه تسمية البقرة وآل عمران بالزهراوين ثلاثة أقوال:
الأول: أنهما النيرتان، لهدايتهما قارئهما مما يزهر له من أنوارهما أي من معانيهما.
الثاني: لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة.
الثالث: سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم.
•
أغراضها:
أولاً: بيان صدق القرآن، وأن دعوته حق لا ريب فيه.
ثانياً: بيان أصناف الناس أمام هداية القرآن.
ثالثاً: تناولت السورة الحديث بإسهاب عن أهل الكتاب وبوجه خاص اليهود، وناقشتهم في عقيدتهم، وذكّرتهم بنعم الله على أسلافهم.
رابعاً: والنصف الأخير من السورة تناول جانب التشريع، لأن المسلمين كانوا في بداية تكوين الدولة الإسلامية، وهم في أمس الحاجة إلى التشريع السماوي الذي يسيرون عليه في حياتهم، وقد ذكرت السورة من ذلك (القصاص، وأحكام الصوم، وأحكام الحج والعمرة، وأحكام الجهاد في سبيل الله، وشؤون الأسرة وما يتعلق بها، وذكرت الإنفاق في سبيل الله، وذكرت البيع والربا).
خامساً: ختمت السورة بتوجيه المؤمنين إلى التوبة والإنابة والتضرع إلى الله وطلب النصر على الكفار. (نقلاً من كتاب: أسماء القرآن وفضائلها).
• قال ابن عاشور: هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان. قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها.
وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين:
قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس.
وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين. (تفسير ابن عاشور).
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)).
[البقرة: 1، 2]
(الم) هذه تسمى الحروف المقطعة، اختلف العلماء في الحروف المقطعة التي وردت في أوائل بعض السور على أقوال كثيرة:
فقيل: لها معنى، واختلف في معناها: فبعض العلماء: قال هي أسماء للسور، وبعضهم قال: هي أسماء لله، وبعضهم قال غير ذلك.
وقيل: هي حروف هجائية ليس لها معنى، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين وقال: وحجة هذا القول: أن القرآن نزل بلغة العرب، وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية.
وأما الحكمة منها: فأرجح الأقوال أنها إشارة إلى إعجاز القرآن العظيم، ورجح هذا القول ابن كثير في تفسيره فقال: وقال آخرون إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وإليه ذهب الشيخ أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
…
وقد رجح هذا الشيخ الشنقيطي في أضواء البينان حيث قال بعد أن ذكر الخلاف: أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله
…
ثم قال رحمه الله: ووجه استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وأنه حق، قال تعالى في البقرة (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه)، وقال في آل عمران (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق)، وقال في الأعراف (المص كتاب أنزل إليك)، وقال في يونس (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)، وقال في هود (الر كتاب أحكمت آياته .. )، وقال في يوسف (الر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربياً).
ثم ذكر رحمه الله بقية السور.
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال بعدما رجح هذا القول: أن هذا القرآن لم يأت بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر، وإنما هي من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر، ومع ذلك فقد أعجزهم
• وأما قول من قال إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور، فهذا ضعيف، لأن الفصل حاصل بدونها.
• وقول من قال: بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذا تواصوا بالإعراض عن القرآن إذا تلي عليهم، وهذا ضعيف، لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها.
• عدد هذه الحروف المقطعة (14) حرفاً يجمعها قولهم: نص حكيم قاطع له سر.
• افتتح الله عز وجل (29) سورة بالحروف المقطعة.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) يخبر تعالى أن هذا الكتاب وهو القرآن العظيم لا شك أنه أنزل من عند الله كما قال تعالى في سورة السجدة (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
• قال الرازي: واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال تعالى (كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ).
• قوله تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ) أي هذا الكتاب، و (ذلك) تستعمل بمعنى (هذا) كقوله تعالى (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي هذا، وقال بعض العلماء: استعمل ذلك، لما تفيده الإشارة بلام البعد عن علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
•
وسمي القرآن كتاباً:
أولاً: لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ: كما قال تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).
ثانياً: لأنه مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة: قال تعالى (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ).
ثالثاً: لأنه مكتوب في الصحف التي بأيدينا، ونقرؤه من هذه الكتب.
•
من أسماء القرآن:
أولاً: الفرقان.
كما قال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) وقال تعالى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ).
وسمي بذلك: قيل: لأنه يفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، وقيل: لأنه نزل متفرقاً في حين أن سائر الكتب نزلت جملة واحدة، وقيل: الفرقان هو النجاة، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة، وكل هذه الأقوال صحيحة.
ثانياً: القرآن.
كما قال تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقال تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
ثالثاً: الكتاب، كما في هذه الآية.
رابعاً: الذكر.
كما قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
قال ابن جرير في وجه تسميته بالذكر: إنه محتمل معنيين:
أحدهما: أنه ذكر من الله جل ذكره، ذكّر به عباده، فعرفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائر ما أودعه من حكمه.
والآخر: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به وصدق بما فيه، كما قال جل ثناؤه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يعني أنه شرف به شرف له ولقومه.
•
والكتاب جاء في القرآن على وجوه:
أحدها: الفرض، قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص)(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام)(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً).
وثانيها: الحجة والبرهان، قال تعالى (فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين) أي برهانكم.
وثالثها: الأجل، قال تعالى (وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ) أي أجل.
ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده، قال تعالى (والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم).
(لا رَيْبَ فِيهِ) الريب هو الشك مع القلق فهو أخص من الشك.
فالقرآن لا شك ولا ريب أنه موحى من عند الله، كما قال تعالى (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين).
والقرآن لا شك أنه يبعث على عدم الريب والشك.
والقرآن لا شك ولا ريب أنه واقع موقعه.
والقرآن لا يتضمن أموراً تبعث على الريب والشك.
والقرآن لا يوجد فيه متناقضات.
والقرآن لا ريب فيه وإن ارتاب فيه المرتابون.
• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال.
أحدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه.
ومثله (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) أي: ما ينبغي لنا.
والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين.
والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين.
• قال السعدي: لا ريب فيه: ونفي الريب عنه يستلزم ضده، إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين، المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدة: أن النفي المقصود به المدح، لا بد أن يكون متضمناً لضده، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحض لا مدح فيه.
فيه دليل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يرتاب في هذا الكتاب، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة.
هذا التنويه بهذا القرآن في كماله وعدم تناقضاته يستوجب حمد الله تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا).
(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي هاد للمؤمنين والمؤمنات الذين اتقوا عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالقرآن هاد لمن اتبعه وعمل بما فيه لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة.
• فالقرآن العظيم يُطلق هداه على الهدى العام، ويطلق هداه على الهدى الخاص.
فالهدى العام معناه بيان الطريق وإيضاح المحجة البيضاء، وبيان الحق من الباطل، والنافع من الضار، ومنه (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) أي: بينا الحق على لسان نبينا صالح، ومنه قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ).
وأما الهدى الخاص فمعناه توفيق الله لعبده حتى يهتدي إلى ما يرضي ربه، ويكون سبب دخوله الجنة، ومنه قوله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).
وخصهم المتقين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بآيات الله، كما قال تعالى (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) فخصهم بالإنذار لأنهم المنتفعون به، وإلا فالإنذار للجميع. (الشنقيطي).
• وقال رحمه الله: قوله تعالى (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) خصص في هدى هذا الكتاب بالمتقين، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس، و هي قوله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) الآية.
ووجه الجمع بينهما:
أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين: أحدهما عام والثاني خاص.
أما الهدى العام: فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة سواء سلكها المبين له أم لا.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
ومنه أيضا قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)، أي بينا له طريق الخير والشر بدليل قوله (إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
وأما الهدى الخاص: فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد.
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) الآية. وقوله (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ).
فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين، هو الهدى الخاص وهو التفضل بالتوفيق عليهم، والهدى العام للناس هو الهدى العام، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة.
• وقال ابن الجوزي: والثاني: خصَّ المتقين لانتفاعهم به، كقوله (إنما أنت منذر من يخشاها) وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى.
• وقال السعدي: قوله تعالى (هدى للمتقين) وقال في موضع آخر (هدي للناس) فعمّ وفي هذا الموضع و غيره (هدى للمتقين) لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق، فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فاهتدوا به وانتفعوا غاية الانتفاع قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً) فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية.
• قال الشنقيطي: صرح في هذه الآية بأن هذا القرآن هدى للمتقين، ويفهم من مفهوم الآية - أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب - أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لَا يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) وقوله (وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً) وقوله (وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) وقوله تعالى (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً) الآيتين، ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق.
• قال بعض العلماء: ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا في قوله تعالي (هدي للمتقين) كفاه لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) ثم قال ها هنا (هدى للمتقين) فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان.
•
قوله تعالى (هدى للمتقين) في الآية فضل التقوى، ومن فضائلها:
أولاً: أنها سبب لتيسير الأمور.
قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).
ثانياً: أنها سبب لإكرام الله.
قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ثالثاً: العاقبة لأهل التقوى.
قال تعالى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
رابعاً: أنها سبب في دخول الجنة.
قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وقال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
خامساً: أنها سبب لتكفير السيئات.
قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).
سادساً: أنها سبب لحصول البشرى لهم.
قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا).
سابعاً: أنها سبب للفوز والهداية.
قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
ثامناً: أنها سبب للنجاة يوم القيامة.
قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).
تاسعاً: أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض.
قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).
عاشراً: أنها سبب للخروج من المأزق.
قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
الحادي عشر: أنها سبب لمحبة الله.
قال تعالى (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
الثاني عشر: أنها سبب للاهتداء بالقرآن.
قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).
الثالث عشر: بالتقوى تنال معية الله.
قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
الرابع عشر: أنها خير زاد.
قال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
الخامس عشر: أنها من أسباب نيل الأجر العظيم.
قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).
السادس عشر: أن الآخرة خير من الدنيا للمتقين.
قال تعالى (والْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
السابع عشر: أنها سبب لقبول الأعمال.
قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
الثامن عشر: أن لباس التقوى خير لباس.
قال تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).
التاسع عشر: أنها من أسباب الرحمة.
قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).
العشرون: أنها من أسباب ولاية الله.
قال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
وقال تعالى (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
• قال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.
• والتقوى مأخوذة من الوقاية، وهي: أن يجعل الإنسان لنفسه وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وهذا من أجمع التعاريف، وقد جاء في معناها آثار عدة عن السلف كلها داخلة تحت هذا المعنى.
قال علي: التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وقال ابن مسعود: حقيقة تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.
قال ابن القيم: وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى.
وروي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.
قال ابن المعتز:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
كن مثل ماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرة إن الجبال من الحصى
• قال ابن القيم:
مراتب التقوى:
التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، والثانية: حميّتها عن المكروهات، والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
…
وقال القرطبي: سأل عمر أبياً عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.
المراد بالمتقين من اتقوا الله تبارك وتعالى، ففعلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وقال بعض العلماء: سمي المتقون بذلك: لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
قال ابن القيم: فكلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى، فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى، وكلما فوت حظاً من التقوى، فاته حظ من الهداية بحسبه، فكلما اتقى زاد هداه، وكلما اهتدى زادت تقواه.
فالقرآن كله هدى، قال تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) أي أن هذا القرآن العظيم القدر، يهدي للتي هي أقوم أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، وقال تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين)، وقال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)، إن القرآن العظيم كالمصباح لهذه الأمة، فلا سبيل لهدايتها إلا به.
والقرآن مثبت على الحق، كما قال تعالى (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا).
الفوائد:
1 -
بيان إعجاز هذا القرآن وأنه من عند الله.
2 -
أن هذا القرآن مكون من هذه الحروف التي يعرفونها ومع ذلك أعجزهم الله أن يأتوا بمثله.
3 -
عظمة هذا القرآن العظيم.
4 -
أن الله يتكلم بحرف وبصوت، لأن قوله (ألم) من كلام الله، وهي حروف.
5 -
الثناء على هذا القرآن بأنه لا ريب فيه ولا شك، بل هو كامل يهدي لكل خير ويقين.
6 -
الترغيب في القرآن لقوله (هدى).
7 -
فضل التقوى وأنها سبب لهداية القرآن.
8 -
أنه كلما زادت تقوى الإنسان ازداد اهتداؤه بهذا القرآن، لأن الحكم إذا علق على وصف ازداد بزيادته ونقص بنقصه.
قال بعض العلماء: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي، والحرمات، وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة.
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))
[البقرة: 3 - 5].
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هذه من صفات المتقين، أنهم يؤمنون بما غاب عنهم مما أخبر به الله ورسله، من البعث، والجنة، والصراط والحساب وغيرها.
• عظم منزلة الإيمان بالغيب، حيث ذكره الله تعالى في أول صفات المتقين، والغيب كل ما غاب عنك، و هو ما لا يقع تحت الحواس، ويعلم بخبر الأنبياء، فلا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الوحي.
• ومعنى الغيب: قيل: كل ما غاب عن العباد من الجنة والنار، وقيل: القرآن، وقيل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه وبالبعث، قال ابن كثير: كل هذه متقاربة في معنى واحد، لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به، وقال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
• الإيمان بالغيب من أعظم الفروق بين المؤمن التقي كامل الإيمان وبين المؤمن ناقص الإيمان، لأن المحسوسات كل يؤمن بها، بخلاف المغيبات.
• قال السعدي: وليس الشأن في الإيمان في الأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله، فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه
تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقله وفهمه.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي ومن صفات المتقين أنهم يقيمون الصلاة على وجه مستقيم بشروطها وأركانها ومستحباتها كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• قال السعدي: لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون الصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقام الصلاة، إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناً بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها.
• لم يأمر الله بالصلاة إلا بلفظ الإقامة، كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة) وقوله تعالى (والمقيمين الصلاة).
إقامة الصلاة ليس مجرد أداؤها، وإنما المراد إقامتها بإدائها بتدبر وحضور قلب وخشوع، وهذه هي الصلاة التي قال الله عنها (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فإن الله في هذه الآية علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها وليس فقط أداؤها (والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه) فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وبهذا يزول الإشكال الذي يورده البعض: وهو أن كثير من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر.
• قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يشمل صلاة الفرض والنفل.
• قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فيه دليل على أهمية الصلاة و
عظيم منزلتها
وأنها من أعظم صفات المتقين، ومما يدل على عظيم منزلتها:
أنها فرضت في أعلى مكان (في السماء ليلة الإسراء والمعراج).
وفرضت خمس صلوات في اليوم والليلة، وأول ما فرضت خمسين ثم خففت إلى خمس في العدد، وهذا يدل على محبة الله لها، وعنايته بها سبحانه.
أن تاركها كافر يحشر مع فرعون وقارون وأبي بن خلف، وأعظم العبادات بعد الشهادتين، وهي عمود الدين.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أي ومما أعطيناهم من المال يخرجون.
• اختلف في المراد بالنفقة هنا: فقيل: الزكاة المفروضة، وقيل: صدقة التطوع، والصحيح أنها عامة في كل أنواع الإنفاق، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري والقرطبي والسعدي.
• قال السعدي: يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير.
• قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أي ينفقون بعض مالهم لا كله.
• قال السعدي: وأتى بـ[من] الدالة على التبعيض، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم، غير ضار لهم ولا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم.
• ولم يبين الله القدر الذي ينبغي إنفاقه، وقد بين ذلك في قوله تعالى (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها.
• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ) صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجاً إلى دلائل صدق صاحبه وهي
عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه (الذين يؤمنون بالغيب) ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به، ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالاً لأمر الله بذلك.
•
في الآية فضل الإنفاق في طاعة الله، ومن فضائله:
أولاً: أن الإنفاق استجابة لأمر ربنا تعالى.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ).
وقال تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
ثانياً: مضاعفة الحسنات.
قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
ثالثاً: أن درجة البر تنال بالإنفاق.
قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
رابعاً: أنها من صفات المتقين.
كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقوله تعالى (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) دليل على أن الإنفاق ملازم لهم في جميع أحوالهم.
خامساً: الأمان من الخوف يوم الفزع الأكبر.
قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
سادساً: أن صاحب الإنفاق موعود بالخير الجزيل.
قال تعالى (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).
سابعاً: أن الله يخلف الصدقة.
قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
ثامناً: أن الإنفاق دليل على صحة الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة برهان) رواه مسلم، فالصدقة برهان على صحة الإيمان.
تاسعاً: ينال دعاء الملائكة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (ما من صباح إلا وينزل ملكان: يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.
عاشراً: فضل من سبق بالإنفاق والجهاد.
قال تعالى (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).
الحادي عشر: أنها إرغام للشيطان وحسن ظن بالله.
قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
الثاني عشر: لا حسد إلا لمن أنفق في وجوه الخير.
قال صلى الله عليه وسلم (لَا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).
• قال السعدي: قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفقون) إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي أنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم الله به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين.
• قوله تعالى (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى بين الصلاة والإنفاق [الزكاة] كقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
قيل: إن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين: إخلاصه لمعبوده، وسعيه في نفع الخلق.
وقيل: الصلاة رأس العبادات البدنية، والزكاة رأس العبادات المالية.
وقيل: الصلاة طهارة للنفس والبدن، والزكاة طهارة للمال.
قال السعدي: وكثيراً ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان.
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي: ومن صفات هؤلاء المتقين أنهم يؤمنون بجميع الكتب المنزلة، فيؤمنون بالكتاب الذي أنزل إليك وهو القرآن، ويؤمنون بالكتب السابقة، كالتوراة والإنجيل والزبور.
• قال الشيخ ابن عثيمين: وبدأ بالقرآن مع أنه آخرها زمناً، لأنه مهيمن على الكتب السابقة ناسخ لها.
• اختلف العلماء في الموصوفين هنا، هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما زرقناهم ينفقون) على قولين:
فقيل: إن الموصوفين أولاً مؤمنوا العرب، والموصوفون ثانياً بقوله (والذين يؤمنون بما أنزل إليك
…
) لمؤمني أهل الكتاب، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله.
وقيل: إن هؤلاء هم الموصوفون قبل هذه الآية، وهم مؤمنوا العرب ومؤمنوا أهل الكتاب، ورجح هذا ابن كثير.
ويدل لصحة هذا القول أن الله أمر بذلك فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).
وقال تعالى (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
• ورد فضل للكتابي الذي آمن بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا).
قال صلى الله عليه وسلم (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين:
…
ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به).
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي: يوقنون بما يكون بعد الموت من لقاء الله والبعث والحساب والجنة والنار.
• قال السعدي: الآخرة اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان، ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، والموجب للعمل
• وقال ابن عاشور: والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة.
• الآخرة أي اليوم الآخر، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده، ويتضمن البعث، والثواب، والعقاب، والجنة، والنار وغير ذلك مما يكون يوم القيامة.
• قال ابن عاشور: فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديراً بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثَار (يوقنون) هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنباً لإعادة لفظ (يؤمنون) بعد قوله (والذين يؤمنون بما أنزل إليك).
•
للإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة:
منها: الرغبة في فعل الطاعات والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم.
ومنها: الرهبة من فعل المعصية والرضى بها خوفاً من عقاب ذلك اليوم.
ومنها: تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
• قيل: ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها، فقد قيل عشرة من المغرورين: من أيقن أن الله خالقه ولا يعبده، ومن أيقن أن الله رازقه ولا يطمئن به، ومن أيقن أن الدنيا زائلة ويعتمد عليها، ومن أيقن أن الورثة أعداؤه ويجمع لهم، ومن أيقن أن الموت آت فلا يستعد له، ومن أيقن أن القبر منزله فلا يعمره، ومن أيقن أن الديان يحاسبه فلا يصحح حجته، ومن أيقن أن الصراط ممره فلا يخفف ثقله، ومن أيقن أن النار دار الفجار فلا يهرب منها، ومن أيقن أن الجنة دار الأبرار فلا يعمل لها.
• قال ذو النون المصري: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب.
•
فضل اليقين، ومن فضائله:
أولاً: سبب للإمامة.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ).
ثانياً: وأهل اليقين هم أهل الانتفاع بالآيات.
قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ).
ثالثاً: خص الله أهل اليقين بالهدى والفلاح.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
رابعاً: سبب دخول أهل النار النار عدم يقينهم.
قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).
خامساً: صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين.
قال صلى الله عليه وسلم: (صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمان).
سادساً: سبب لتهوين مصائب الدنيا.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قبل أن يقوم من مجلسه: (
…
ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا).
قال ابن مسعود: لو وقع اليقين في القلب لطار إلى الجنة اشتياقاً.
(أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال ابن كثير: يقول الله تعالى: (أولئك) أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، (على هدى) أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، (وأولئك هم المفلحون) أي في الدنيا والآخرة.
• قوله تعالى (عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على هدى عظيم، لأن التنكير للتعظيم، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة (وأولئك هم المفلحون) والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم، لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم.
• قال الشوكاني: معنى الاستعلاء في قوله (على هدى) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه.
• وقال السعدى: وأتى بـ (على) في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ (في) كما في قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر.
…
• قوله تعالى (مِنْ رَبِّهِمْ) أي خالقهم المدبر لأمورهم، والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
• قوله تعالى (وأولئك هم المفلحون) قال النووي: الفلاح الفوز والنجاة وإصابة الخير، قالوا وليس في كلام العرب كلمة أجمع للخير من لفظة الفلاح.
• قال البقاعي: والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير.
• وقال ابن عاشور: والفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة.
• وقال الشنقيطي: والفلاح في لغة العرب يطلق إطلاقين مشهورين، وكل منهما يدخل في الآية:
الإطلاق الأول: أن العرب تقول (أفلح فلان) إذا فاز بمطلوبه الأكبر، فكل إنسان كان يحاول مطلوباً أعظم ثم ظفر به وفاز بما كان يرجو فهذا قد أفلح.
الإطلاق الثاني: أن المراد بالفلاح: الدوام والبقاء السرمدي في النعيم، فكل من كان له دوام وبقاء في النعيم تقول العرب (نال الفلاح). (الشنقيطي).
• وقال السعدي: والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل، فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.
• قوله تعالى (وأولئك هم المفلحون) فيه أن الفلاح مرتب على الاتصاف بهذه الصفات، فإن اختلت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات، لأن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، ولولا ذلك ما كان في الجنات درجات.
فائدة: قال مجاهد: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاثة عشر في المنافقين.
الفوائد:
1 -
أهمية الإيمان بالغيب وأنه من أعظم صفات المتقين.
2 -
أهمية الصلاة وأنها من أعظم صفات المتقين، وهذا يشمل فرضها ونفلها.
3 -
أهمية الإنفاق في سبيل الله في كل مجالات الخير، وقد سبق فضائل الإنفاق.
4 -
على المسلم أن يحرص على المحافظة على الصلاة والإنفاق، فإن الله كثيراً ما يقرن بينهما في كتاب (وقد سبق الحكمة من ذلك من كلام السعدي رحمه الله.
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).
وقال تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
وقال تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
وقال تعالى (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
وغير ذلك كثير.
5 -
ذم البخل.
6 -
إثبات علو الله لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ .. ) والنزول يكون من أعلى إلى أسفل.
وعلو الله ينقسم إلى ثلاثة أقسم:
علو ذات (أن الله فوق سمواته مستو على عرشه بائن من خلقه)، وعلو القدر (أي قدره وشأنه عال)، وعلو القهر والغلبة والسلطان.
علو القهر والقدر: متفق عليه بين أهل السنة وأهل البدعة (فكلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً).
وأما العلو الذاتي، فيثبته أهل السنة والجماعة، ولا يثبته أهل البدع، والحق مذهب أهل السنة وأن الله عال بذاته والأدلة كثيرة جداً على علوه سبحانه وتعالى، من الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.
أما أدلة الكتاب والسنة فقد تنوعت دلالتهما بطرق كثيرة:
أحدها: التصريح بالفوقية.
كقوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).
وكقوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).
الثاني: التصريح بالعروج إليه.
كقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ).
وقوله صلى الله عليه وسلم (يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم.).
الثالث: التصريح بالصعود إليه.
كقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).
الرابع: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه.
كقوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ).
وقوله تعالى (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).
الخامس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو.
كقوله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
وقوله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
السادس: التصريح بنزيل الكتاب منه.
كقوله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم).
وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وقوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ).
وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ).
السابع: التصريح بأن الله تعالى في السماء.
كقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
الثامن: التصريح بالاستواء على العرش.
كقوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).
التاسع: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى.
كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).
والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع.
العاشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم، إنما يكون من علو إلى أسفل.
الحادي عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له، لما كان بالجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم:(أنتم مسؤولون عني، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم اشهد).
الثاني عشر: التصريح بلفظ (الأين) كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه:(أين الله).
الثالث عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه بالسماء بالإيمان.
الرابع عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السموات، فقال:(يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً) فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبتها فهو موسوي محمدي.
الخامس عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة.
من العقل:
أن العلو صفة كمال والسفل صفة نقص، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.
وأما الفطرة:
قال شارح الطحاوية: وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله.
وأما الإجماع:
فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله فوق سمواته مستو على عرشه.
7 -
فيه أن القرآن منزل غير مخلوق، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة.
ومن الأدلة على أنه منزل:
قوله تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً).
وقوله سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
والدليل على أنه غير مخلوق: قوله تعالى (ألا له الخلق والأمر) فجعل الأمر غير الخلق، والقرآن من الأمر لقوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وقوله سبحانه (ذلك أمر الله أنزله إليكم).
8 -
وجوب الإيمان بجميع الكتب المنزلة.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: الإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقاً.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه: كالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى، والزبور الذي أوتيه داود عليه السلام، وأما ما لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالاً.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.
الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ منها، والرضا والتسليم، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم قال الله تعالى (وأنزلنا إليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه).
9 -
فضل الإيمان باليوم الآخر (من الموت والبعث والجنة والنار وعذاب القبر ونعيمه وغيرها).
• قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لأن الإيمان بالله هو الذي يبعث على العمل، ولهذا يقرن الله دائماً الإيمان بالله وباليوم الآخر.
10 -
أن ربوبية الله تكون خاصة وعامة، وقد اجتمعا في قوله تعالى عن سحرة فرعون (آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون).
11 -
أن الفلاح مرتب على الاتصاف بما ذكر، فإن اختلت صفة منها نقص من الفلاح بقدر ما اختل من تلك الصفات.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)).
[البقرة: 6، 7]
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اختلف العلماء في تأويل هذه الآية:
فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره، أراد الله أن يعلم
الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً، وقيل: نزلت في رؤساء اليهود، وقيل: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب. قال القرطبي: والأول أصح.
فمعنى الآية - والله أعلم - أن الكفار الذين كتبت عليهم الشقاوة وحقت عليهم كلمة العذاب يستوي عندهم الإنذار من عدمه فهم لا ينتفعون بإنذار ولا بغير إنذار، كما قال تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم).
وقد حكى ابن عطية الاتفاق على أن هذه الآية غير عامة لوجود كفار قد أسلموا بعدها.
• قال ابن الجوزي: قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
• قال الشنقيطي: قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف) الآية. وكقوله (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) وكقوله: (وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)، ووجه الجمع ظاهر وهو أن الآية من العام المخصوص لأنه في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ). ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) الآية وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون مادام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا.
• قوله تعالى (إن الذين كفروا) الكفر لغة الستر والتغطية، ويسمى الليل (كافراً) لأنه يغطي كل شيء، وكل شيء غطى شيء فقد كفره، والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب، وشرعاً: ضد الإيمان، فهو عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب.
• قوله تعالى (أَأَنْذَرْتَهُمْ) الإنذار: هو الإعلام المقرون بالتخويف.
• قوله تعالى (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فيه دليل على أنه
ينبغي إنذار الكفار وتحذيرهم من غضب الله إن لم يؤمنوا، وننذرهم لأمور:
أولاً: لأن الله أمر بذلك.
فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
وقال تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى).
ثانياً: ننذرهم رجاء انتفاعهم.
كما قال الواعظون من بني إسرائيل (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
ثالثاً: تبرئة الذمة وقياماً بالواجب.
كما في الآية السابقة (معذرة إلى ربكم) أي قال الناهون: إنما نعظكم لنعذر عند الله بقيامنا بواجب النصح والتذكير.
• قال الرازي: الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة؛ لأن اشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة، وهذا الموضع موضع
المبالغة وكان ذكر الإنذار أولى.
• قال القاسمي: سؤال: فإن قيل: لم اقتصر على الإنذار ولم يذكر البشارة في قوله تعالى (أأنذرتهم أم لم تنذرهم)؟
الجواب: لأنهم ليسوا أهلاً للبشارة ولأن الإنذار أوقع في القلوب ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع البشارة رأساً.
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الختم: الاستيثاق منه حتى لا يصل إليه خير ولا يخرج منه شر، فالمعنى: أن الله ختم على قلوب هؤلاء وطبع عليها، بحيث لا يخرج منها شر ولا يدخل إليها خير، كالقارورة إذا ختمتها وطبعت عليها، لا يخرج شيء مما فيها، ولا يصب إليها شيء آخر.
والمعنى: ذكر الله تعالى المانع لهؤلاء عن الإيمان وهو أن الله ختم وطبع على قلوبهم وعلى سمعهم بطابع لا يدخلها الإيمان ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم، ولا يسمعون ما يفيدهم وعلى أبصارهم غشاء وغطاء تمنعها من النظر إلى الذي ينفعهم، وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعدما تبين لهم الحق.
قال القرطبي: الختم يكون محسوساً كما بينا، ومعنىً كما في هذه الآية.
فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق سبحانه مفهوم مخاطباته والفكر في آياته، وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعُوا إلى وحدانيته، وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته؛ هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.
• وقال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى (خَتَمَ الله) بيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله (ختم الله).
والختم مصدر ختمت الشيء ختماً فهو مختوم ومختّم؛ شدّد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء؛ ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه.
• قال ابن عاشور: قوله تعالى (خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة) هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا عَلم أن على قلوبهم ختماً وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة عَلِمَ سبب ذلك كله وبطل العجب.
• الختم يكون على القلب والسمع، والغشاوة على الأبصار، كما قال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة). والغشاوة: الغطاء على العين يمنعها من الرؤية.
• فإن قيل لم خص القلب بالختم دون سائر الجوارح؟ فالجواب: لأنه محل الفهم والعلم.
• فإن قيل لم خص الله هذه الأعضاء بالذكر؟ فالجواب: قيل إنها طرق العلم، فالقلب محل العلم وطريقه السماع أو الرؤية.
• فإن قال قائل: إن الله بيّن أنه ختم على قلب هؤلاء وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فكيف يعاقبهم الله وقد جعل فيهم هذه الأمور المانعة من الإيمان؟
الجواب: إن القرآن بيّن أن هذا الطبع وهذا الختم لا يأتي الإنسان إلا بسبب ذنب من ذنوبه، فهو جزاء وفاق على بعض الذنوب، وقد دلت آيات كثيرة على أن الله عز وجل يسبب للإنسان الضلالة بسبب ارتكاب الذنوب كما يسبب له الهدى بسبب الطاعات، قال تعالى (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)(الباء) في قوله (بِكُفْرِهِمْ) سببية، فبيّن أن هذا الطبع بسبب كفرهم، وكقوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وكقوله (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) وكقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً).
• قوله تعالى (على قلوبهم) القلب سمي بذلك قيل: لأنه خالص كل شيء، وقيل: لسرعة تقلبه.
• قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم
…
) فيه أن طرق الهدى إما بالسمع وإما بالبصر وإما بالقلب، فهؤلاء ختم الله على قلوبهم: فلا تعي ولا تفقه ولا تتعظ ولا تنزجر ولا تتأثر، وختم على سمعهم: فلا تسمع ما تنتفع بها، وجعل على أبصارهم غطاء: فلا يرى ما ينفعه، بل يرى ما يضره ويهلكه.
• قال القرطبي: قوله تعالى (ختم الله على قلوبهم) قال القرطبي: قال أهل المعاني: وصف الله قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والريْن والموت والقساوة والانصراف والحميّة والإنكار.
فقال في الإنكار (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) وقال في الحمية (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) وقال في الانصراف (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) وقال في القساوة (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) وقال (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) وقال في الموت (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ) وقال في الرين (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وقال في المرض (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وقال في الضيق (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) وقال في الطبع (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) وقال في الختم (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ).
• قال ابن عاشور: وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع (قلوبهم) و (أبصارهم) إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله (يجعلون أصابعهم في أذانهم) وقوله (وفي آذاننا وقر) فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم.
وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعاً كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضاً متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت.
وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يُلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعاً متساوياً وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعاً واحداً.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: ولهؤلاء الكفار عقوبة عظيمة في نار جهنم، فإن مصير الكفار في نار جهنم يعذبون أشد العذاب، يعذبون جسدياً ونفسياً.
• الفرق بين العظيم والكبير: أن العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان في الجثث والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير وتريد جثته أو خطره.
الفوائد:
1 -
أن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن مهما كان الداعي والمنذر.
2 -
أن الهداية والتوفيق بيد الله تعالى، فمن أراد الله هدايته فلن يستطيع أحد أن يضله، ومن أراد الله إضلاله فلن يستطيع أحد أن يهديه.
3 -
أن الإنسان ينبغي أن يدعو الله بالتوفيق والهداية والثبات.
4 -
حكمة الله تعالى في عدم إيمان هؤلاء الكفار.
5 -
أن من لا يشعر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله، فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ.
6 -
تهديد هؤلاء الكفار بالعذاب العظيم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)).
[البقرة: 8 - 10]
(وَمِنَ النَّاسِ
…
) ذكر الله تعالى في هذه الآيات صفات المنافقين، فأول أربع آيات في سورة البقرة في المؤمنين، وآيتين في الكفار، وثلاثة عشرة آية في المنافقين.
• قال النسفي: افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم (إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار).
• قال الشوكاني: ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة؛ لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار.
• فإن قال قائل: لماذا كان التحذير من المنافقين أشد من الكفار؟ فالجواب: نظراً لخطرهم العظيم، ولالتباس أمرهم، وتسميهم باسم الإسلام، بخلاف الكافر فإنه معلوم كفره فيجتنب.
• قال ابن كثير: نزلت صفات المنافقين في السور المدنية، وذلك لأن مكة لم يكن بها نفاق، بل كان الأمر في مكة على خلاف النفاق، فكان كثير من أهل الإسلام بمكة يخفون إسلامهم ويسرون بإيمانهم خوف القتل من المشركين، أما المدينة فلما كثر فيها المسلمون وقويت شوكتهم بدأ أهل الكفر يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر خوف السيف.
(مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يقول تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر، أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فأكذبهم الله بقوله: وما هم بمؤمنين، لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
• قال تعالى (واليوم الآخر) أي يوم القيامة، وسمي آخراً لأنه لا يوم بعده.
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخداع: الإخفاء، فالذي يخادع يظهر شيئاً ويخفي شيئاً. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة المرأة في مخدعها خير من صلاتها في بيتها) ومن قول العرب: انخدع الضب في جحره، والمعنى: أنهم يخادعون الله والمؤمنين بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده.
(وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) كما قال تعالى في آية أخرى (إن الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).
• قال ابن كثير: قوله تعالى (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ).
• وقال الشوكاني: الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك.
(وَمَا يَشْعُرُونَ) أي ما يشعر هؤلاء أن خداعهم على أنفسهم مع أنهم يباشرونه، ولكن لا يحسون به.
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المرض هو اعتلال الجسم، ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله، فهؤلاء قلوبهم مريضة، وهذا المرض الذي في قلوبهم هو مرض الشك والنفاق الناتج عن ضعف يقينهم وإيمانهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في وصف المنافقين (مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة) رواه مسلم [العائرة: الحائرة].
وقد ذكر الله هذا المرض عن المنافقين في عدة آيات:
فقال تعالى (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ).
وقال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ).
وقال تعالى (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ).
(فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية: فقيل: المراد الدعاء عليهم بزيادة المرض، وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم.
• فيه دليل على أن مرض القلب وفساده - إذا لم يصلحه صاحبه - أنه يزيد هذا المرض ويتفاقم، كما قال تعالى:(فزادتهم رجساً إلى رجسهم).
• وفيه دليل على أن الإنسان إذا لم يصلح قلبه ويهتم به فإن مرضه يكون من أسباب قسوته ومرضه وهلاكه، لأن الذنوب والمعاصي سبب لمرض القلب، ومرض القلب إذا لم يحاول الإنسان إصلاحه والاهتمام به يصبح ذنباً ومعصية.
• قال ابن القيم: ومرض القلب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن.
قال تعالى في مرض الشبهة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)، وأما مرض الشهوات فقال تعالى (يا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) فهذا مرض شهوة الزنا.
وقال عن مرض الشبهات: هو أصعبهما وأقتلهما للقلب.
• قوله تعالى (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) فيه دليل على أن من عقوبة المعصية المعصية بعدها، كما سبق في آيات سابقة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) وكقوله (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) وكقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً).
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع. بالغ الإيلام الغاية العظمى، كما قال تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) وقال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
• قال هنا في المنافقين (ولهم عذاب أليم) بينما قال في الكفار كما تقدم (ولهم عذاب عظيم) لأن الأليم هو البالغ في الإيلام الغاية العظمى.
(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) أي: بتكذيبهم وهو قولهم (آمنا بالله وباليوم الآخر)، وفي قراءة أخرى (يُكذِّبُون) أي يكذبون بالله ورسوله، والمنافقون اجتمع فيهم الوصفان: فهم كاذبون في دعواهم الإيمان، ومكذبون لله ولرسوله، كما قال تعالى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وقال تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).
الفوائد:
1 -
مكر المنافقين، وأنهم أهل مكر وخداع، ولذلك قال تعالى في سورة المنافقين (هم العدو فاحذرهم) فحصر العداوة فيهم، لأنهم مخادعون.
2 -
أنه يجب الاحتراز والتحفظ من المنافقين لأنهم أهل خداع ومكر.
3 -
أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله. كما قال تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).
4 -
أن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، وأن مرض القلوب أعظم وأخطر من مرض الأبدان، قال ابن القيم: والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعة، وذلك موت القلب والروح.
5 -
يجب الاهتمام بالقلب، والحذر من مرضه والحرص على حياته. وأن يدعو الله دائماً وأبداً بتثبيته على الحق، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك.
وأن يدعو الله أن يكون سليماً، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ).
وأن يحذر من التساهل في أمر القلب، فقد قال صلى الله عليه وسلم (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). رواه مسلم
وأهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله، كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
وإذا صح القلب صح الجسد، كما قال صلى الله عليه وسلم (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب) متفق عليه
وأن يحذر من قسوة القلب، كما قال تعالى (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
6 -
أن القلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت.
فالقلب السليم: هو القلب الذي سلم من الشرك، ومن البدعة، ومن كل آفة يراد بها غير وجه الله.
والقلب المريض: هو القلب الذي فيه مادة حياة ومادة مرض.
والقلب الميت: هو قلب الكافر.
7 -
أن الإيمان يزيد وينقص.
8 -
أن من عقوبة المعصية المعصية بعدها.
9 -
أن من أسباب عذاب المنافقين كذبهم، وهذا من الأسباب، وإلا فالسبب الرئيسي هو كفرهم بالله تعالى.
10 -
التحذير من الكذب وأنه من صفات المنافقين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) متفق عليه، وهؤلاء المنافقون جمعوا بين الكذب والتكذيب وهذا شر الأحوال.
11 -
فيه دليل على أن الله لا يعاقب أحداً إلا بسبب ذنبه ومعصيته لقوله (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
كما قال تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).
وقال تعالى (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وقال تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).
وقال تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).
12 -
فيه تنفير وتقبيح من الكذب كما سبق، وفي هذا إشارة إلى أن السبب في استحقاقهم العذاب هو أنهم كانوا يكذبون، ومن المعلوم أن هذا أحد الأسباب في عذابهم، لأن الأسباب كثيرة في استحقاقهم العذاب، لكن قد يعبر الله تعالى عن إهلاك الكفار ببعض ذنوبهم تنفيراً منه وتقبيحاً له كما قال تعالى في قوم نوح (مما خطيئتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً) وقوم نوح كان سبب هلاكهم كفرهم بالله، لكن خص الخطيئات تقبيحاً لها.
13 -
أن المؤمن قلبه سليم، كما قال تعالى (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)).
[البقرة: 11، 12]
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا قال لهم أحد من الناس: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا قائلين:
• قال القرطبي: قوله (لَا تُفْسِدُواْ)" لا " نهي، والفساد ضدّ الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدّها.
فَسَد الشيء يَفْسِدُ فَساداً وفُسوداً وهو فاسد وفِسيد.
والمعنى في الآية: لا تُفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
• قال ابن عاشور: والقائل لهم (لا تفسدوا في الأرض) بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلماً بأن النبيء صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية.
(قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فجمعوا في قولهم هذا بين أمرين كبيرين: العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو صلاح، قلباً للحقائق وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً.
الفساد: ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها، والمعنى: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
• قال بعض العلماء: تصوروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كما قال الله فيهم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) هذا كلام مستأنف وجواب من الله تعالى رداً على هؤلاء المنافقين، فإنه لا أعظم إفساداً ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله وزعم - مع هذا - أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟
(وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي: ولكن لا يحسون ويفطنون لانطماس نور الإيمان في قلوبهم.
• قال ابن القيم: تأمل كيف نفى عنهم الشعور في هذا الموضع، وهذا أبلغ ما يكون من الذم والتجهيل أن يكون الرجل مفسداً ولا شعور له بفساده البتة، مع أن أثر فساده مشهور في الخارج، مرئي لعباد الله وهو لا يشعر به، وهذا يدل على استحكام الفساد في مداركه وطرق علمه.
الفوائد:
1 -
أن النفاق من الإفساد في الأرض.
2 -
أعظم الخطر أن يُزيّن للإنسان عمله.
3 -
فيه أن أهل الفساد والشر يرتكبون الكبائر ويزعمون أنهم أهل إصلاح، ومما يدل على ذلك، قوله تعالى عن فرعون أنه قال عن موسى عليه السلام (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد).
4 -
فيه دليل على أن موالاة الكفار والمنافقين وأعداء الله من أعظم الفساد في الأرض كما قال تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
5 -
فيه الإنكار على أهل الفساد وتبيين ضلالهم.
6 -
خطر النفاق.
7 -
وجوب الإصلاح في الأرض.
8 -
الحذر من التشبه بصفات المنافقين.
9 -
أنه ليس كل من ادعى شيئاً يصدق في دعواه.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)).
[البقرة: 13]
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) يقول تعالى: وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه.
• قال أبو السعود: قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد:
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، يعنون ـ لعنهم الله ـ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• السفيه: هو الذي لا يعرف مصالح نفسه ضعيف الرأي، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) قال ابن كثير: قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان.
• فإن قلت: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء) فالجواب: كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين.
• قال القرطبي: وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيّه والمؤمنين على ذلك، وقرّر أن السَّفه ورِقّة الحُلُوم وفساد البصائر إنما هي في حيزِّهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرَّينْ الذي على قلوبهم.
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) ألا أنهم هم السفهاء، فأكد وحصر السفاهة فيهم.
في هذه الآية يرد الله عليهم، ويخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة، لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم.
(وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
• قال ابن القيم: لما دعا أهل الإيمان أهل النفاق إلى الإيمان، أجاب أهل النفاق بقولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء) فرد الله عليهم وأسجل عليهم بأربعة أنواع: الأول: تسفيهم. الثاني: حصر السفه فيهم، الثالث: نفي العلم عنهم، الرابع: تكذيبهم فيما تضمنه جوابهم من الإخبار عن سفه أهل الإيمان، الخامس: أيضاً وهو تكذيبهم فيما تضمنه جوابهم من دعواهم التنزيه من السفه.
الفوائد:
1 -
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك دعوة أهل النفاق إلى الإيمان وترك النفاق.
2 -
فيه أن أعداء الدين دائماً يصفون أهله بأقبح الصفات، فالرسل وصفهم قومهم بالسحر والجنون والكهانة.
كما قال تعالى (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون).
وقال تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ).
وقال تعالى (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
3 -
فيه خطر المنافقين وشدة كفرهم وعنادهم.
4 -
فيه أن كل من لم يؤمن بالله فهو سفيه، كما قال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).
5 -
فيه دفاع الله عن المؤمنين كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).
6 -
ذم الجهل بدين الله وتعاليمه.
7 -
أن عدم العلم سبب للضلال.
8 -
فضل العلم.
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)).
[البقرة: 14، 15]
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) قال ابن كثير: يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعة وليشركوهم فيما أصابهم من خير ومغنم.
(وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي: وإذا خلوا إلى شياطينهم: أي سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.
• والشيطان في لغة العرب: هو كل عات ومتمرد، سواء كان من الجن أو من الإنس أو من غيرهما، وقد جاء في القرآن إطلاق الشياطين على العتاة المتمردين من الإنس والجن، كما قال جل وعلا (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) وكما هذه الآية (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) أي: رؤسائهم وعتاتهم المتمردين، وفي الحديث (الكلب الأسود شيطان).
(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) قالوا: إنا معكم، قال ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه.
(إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أي نستهزئ بالقوم ونلعب بهم.
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) عن ابن عباس: قال: يسخر بهم للنقمة منهم.
• قال أبو حيان: وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم.
• في الآية أن الله يستهزئ بمن يستهزئ به.
• قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله مبيناً ما يوصف الله به وما لا يوصف به:
إذا كانت الصفة نقصاً لا كمال فيها، فهي ممتنعة في حق الله تعالى كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز.
وإذا كانت الصفة كمالاً لا نقص فيها فإن الله يوصف بها مطلقاً، كالحياة، والعلم، والسمع، والعزة.
وإذا كانت الصفة كمالاً في حال، ونقصاً في حال لم تكن جائزة في حق الله تعالى ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، بل يُفصّل فيها: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمتنع في الحال التي تكون نقصاً، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، فهذه صفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها، لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله
أو أشد، ولهذا لم يذكرها الله تعالى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تعالى (ويمكرون ويمكر الله) وقوله (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً) وقوله (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) وقوله (قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم).
وأما الخيانة فلا يوصف بها مطلقاً لأنها صفة ذم مطلقاً، ولذلك لم يذكر الله أنه خان من خانوه، فقال تعالى (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ولم يقل فخانهم.
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي: يزيدهم، في طغيانهم: أي فجورهم وكذبهم، يعمهون: أي حائرون مترددون.
• وأصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى (إنا لما طغى الماء) أي ارتفع وعلا، وقوله في فرعون (إنه طغى) أي أسرف في الدعوى.
الفوائد:
1 -
بيان النفاق: وهو إظهار الإسلام والإيمان وإبطان الكفر والشر.
2 -
أن الجزاء من جنس العمل فمن استهزأ بالله استهزأ الله به، وهذه قاعدة معروفة بالشرع أن الجزاء من جنس العمل.
قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وقال تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى) وقال تعالى (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم)، وقال صلى الله عليه وسلم (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الله) رواه أبو داود، وقال صلى الله عليه وسلم (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم (من وصل صفاً وصله الله) رواه أبو داود.
3 -
أن الله قد يملي للإنسان ويطيل عمره استدراجاً.
كما قال تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً).
وقال تعالى (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) متفق عليه.
4 -
أن الله يستهزئ بمن يستهزئ به، فيوصف الله بهذا الوصف إذا كان في مقابلة استهزائهم.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)).
[البقرة: 16]
(أُولَئِكَ) أي المنافقون الموصوفون بتلك الصفات.
(الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، فاختاروا واستحبوا الضلالة وهي الكفر والنفاق بالهدى الذي هو الإيمان بالله تعالى.
• قال ابن الجوزي: واشتروا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعاً للآخر، والضلالة والضلال بمعنى واحد.
• قال السعدي: وهذا من أحسن الأمثلة، فإنه جعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه في الضلالة، هذه تجارتهم فبئس التجارة.
• وكيف شراء الضلالة بالهدى؟
لأنهم فضلوا موالاة الكافرين ومجالستهم واتباع أقوالهم على موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالسة أهل الإيمان.
وهناك وجه آخر: أنهم بعد أن حصل لهم الإيمان بالله ارتدوا على أدبارهم ورغبوا في الكفر كما قال تعالى: (فاستحبوا العمى على الهدى).
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وكيف تربح وهم اشتروا الضلالة وباعوا الهدى؟
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي: وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك.
الفوائد:
1 -
ذم المنافقين وأنهم اختاروا الفاني العاجل على الباقي الآجل.
2 -
ذم وقبح المنافقين.
3 -
أن كل تجارة لا تكون لله وبالله فهي خاسرة باطلة.
ومن التجارة الناجحة قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
• ونظراً لخطورة النفاق فسأذكر
بعض ما يتعلق بالنفاق وخطره:
أولاً: النفاق الأكبر صاحبه كافر مخلد بالنار.
تعريفه:
هو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار. [قاله ابن رجب جامع العلوم والحكم: 403].
قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
وقال تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً).
وقال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا).
ثانياً: بعض صفات المنافقين:
أولاً: الكذب والتكذيب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وقال تعالى (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
ثانياً: أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه أو لمزه.
قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
ثالثاً: التولي والإعراض عن حكم الله ورسوله.
قال تعالى (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).
ثالثاً: مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين.
قال تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).
رابعاً: المسرة بانخفاض دين الرسول أو الكراهية لانتصار دينه.
قال تعالى (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ).
خامساً: الرياء.
قال تعالى (يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).
سادساً: ثقل العبادة عليهم.
قال تعالى (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى).
سابعاً: يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
قال تعالى (والْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ثالثاً: خطرهم.
أولاً: تحذير القرآن منهم.
قال ابن القيم: كاد القرآن أن يكونَ كلّه في شأنهم؛ لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور.
قال الله تعالى (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
قال الله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُون. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).
قال الله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
وقال الله تعالى (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء).
عن ابن عمر رضي الله عنهما. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة).
قال النووي: العائرة: المترددّة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردَّد وتذهب.
وقال الله تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً).
وقال الله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترُجّة طعمها طيّب وريحها طيّب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمُها مرّ أو خبيث وريحها مرّ).
وعن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة، لا تزال حتى يكون انجعافها مرّة واحدة).
قال المهلّب: معنى الحديث: أنّ المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكراً.
والكافر لا يتفقّده الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا؛ ليتعسّر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشدّ عذابا عليه، وأكثر ألما في خروج نفسه.
وقال غيره: المعنى: أن المؤمن يتلقّى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظّه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان)
قال المناوي: قوله (عليم اللسان) أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكّل بها، ذا هيبة وأُبّهة، يتعزّز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه، ويستقبح عيبَ غيره، ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسّكَ والتعبّد، ويسارر ربّه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنان.
ثانياً: تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفاق.
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي: منافق عليم اللسان) رواه البيهقي في الشعب.
قال المناوي: كل منافق عليم اللسان: أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام.
ثالثاً: المنافقون كثر.
ومما يوجب مزيد الخوف من النفاق والحذر من المنافقين أنهم كثيرون منتشرون في بقاع الأرض.
قال الحسن البصري: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات.
وقال ابن القيم: كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم.
رابعاً: انتشار النفاق الأصغر في مجتمعاتنا.
ومما يؤكد خطر النفاق، أن الكثير من شعب النفاق الأصغر - الذي لا يخرج من الملة - قد عمت وطمت في مجتمعات المسلمين، كالكذب، وخلف الوعد، والرياء، والخيانة، والجبن، وترك الجهاد في سبيل الله، وعدم تحديث النفس بذلك.
ومع أن هذه الخصال من النفاق الأصغر لكنها قد تؤول إلى النفاق الأكبر المخرج من الملة.
رابعاً: الواجب تجاه المنافقين:
أولاً: زجرهم ووعظهم.
قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً).
ثانياً: جهادهم والغلظة عليهم.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
ثالثاً: تحقيرهم وعدم تسويدهم.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم) رواه أبو داود.
رابعاً: عدم الصلاة عليهم.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وقال تعالى (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ).
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)).
[البقرة: 17، 18]
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يُبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع.
…
فالمنافق يستفيد بإظهار إسلامه حيث يحقن دمه ويسلم ماله، لكن له عذاب عظيم في الآخرة، كما قال تعالى:(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار).
• قال ابن القيم: شبه الله تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار، وذهب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، وقد شاهدوا الضوء ورأوا النور عياناً. ولهذا قال تعالى في حقهم (فهم لا يرجعون) إليه. لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا. فهم لا يرجعون إليه. وقال تعالى في حق الكفار (فهم لا يعقلون) لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا به، لا بل يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي.
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافياً، وإلى الإيمان وحقائقه منادياً وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعياً، إلى طريق الرشاد هادياً.
• قال الخازن: لما ذكر الله تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح.
• وقال أبو حيان: قال الزمخشري: لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العاملون).
• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً) أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة، وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل، وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين، وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها.
• قال ابن كثير: وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي
أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)؛ فلهذا وجه ابن جرير هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة.
• قوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) جمعها لتضمنها ظلمات عديدة: أولها: ظلمة الليل، لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل، والثانية: ظلمة الجو إذا كان غائماً، والثالثة: الظلمة التي تحدث بعد فقد النور، فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة.
• قال ابن الجوزي: وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم:
إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.
والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم.
والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك.
• قال الخازن: فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة؟ قلت: وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلاّ حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلاّ حيرة.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الأصم: هو الذي لا يسمع، والأبكم: هو الذي لا ينطق، والأعمى: هو الذي لا يبصر.
والمراد بالآية: صم عن استماع الحق، وبكم عن النطق بالخير والإيمان فهم لا يتكلمون به، وعمي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل، فلما كانوا غير منتفعين بسمعهم وأبصارهم وألسنتهم وأفئدتهم وصفوا بأنهم صم بكم عمي، وهذا كما قال تعالى (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون)، وكما قال تعالى (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها).
• قال بعض العلماء: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل.
• قال ابن عطية: ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته.
• وقال النسفي: .... فكأنهم صم بكم عمي، ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء، فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم، كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) يعني كافراً فهديناه؛ وإنما سماهم موتى والله أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم، فكأن تلك الحياة لم تكن لهم، فكذلك السمع والبصر واللسان، إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم، فكأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون، يعني لا يرجعون إلى الهدى.
• وقال الشنقيطي: قوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الآية هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) وكقوله (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم) الآية، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم، وقوله (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَاد) إلى غير ذلك من الآيات، ووجه الجمع ظاهر، وهو أنهم بكم عن النطق بالحق وإن رأوا غيره، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً) الآية، لأن مالا يغني شيئا فهو كالمعدوم والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له.
(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قال السعدي: لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا يرجعون، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعاً منهم.
• قال ابن الجوزي: وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصمم البكم.
والعرب تسمي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصم.
الفوائد:
1 -
ضرب الأمثال، وفائدته تقريب المعنى.
2 -
أن هؤلاء المنافقين - بسبب نفاقهم - فاتهم النور وهو الإيمان.
3 -
أن النفاق ظلمة ووحشة في القلب.
4 -
تخلي الله عن المنافقين.
5 -
من علامات التوفيق أن يكون الله عوناً للعبد ومساعداً له.
6 -
أن المعاصي لها تأثير على الإنسان، فالله أصم آذان هؤلاء المنافقين، فلا يسمعون الحق، ولو سمعوا ما انتفعوا.
• قال ابن القيم مبيناً أن من أراد طلب العلم فعليه بالابتعاد عن المعصية وغض بصره وخطر إرساله: إنه -يعني غض البصر- يفتح له طريق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه.
7 -
أن هؤلاء المنافقين لا يرجعون عن غيهم، لأنهم يعتقدون أنهم محسنون.
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)).
[البقرة: 19، 20]
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) هذا مثل آخر لهؤلاء المنافقين، وصورة المثل العجيبة والمنطبقة على حالهم، هي مطر غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يجدوا مفراً ولا مهرباً، لأن الله تعالى محيط بهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر وهو ظلمات، وبذكر الوعيد وهو كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات وهي كالبرق في قوة الإضاءة وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم.
• اختلف العلماء في هذا المثل هل هو لطائفتين من المنافقين أم لطائفة واحدة، فذهب بعض العلماء إلى أن (أو) هنا بمعنى الواو، فالمعنى على هذا أن للمنافقين مثلين، مثل الذي استوقد ناراً، ومثل أصحاب الصيب، وكون (أو) تأتي بمعنى (الواو) صحيح كما في قوله تعالى (ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً).
وذهب بعض العلماء إلى أن (أو) هنا للتنويع، فمن المنافقين من مثله مثل الذي استوقد ناراً، ومنهم من مثله كمثل أصحاب الصيب، والذي يؤيد هذا القول أن المنافقين أصناف، والكفار أصناف.
• قال أبو السعود: (أَوْ كَصَيّبٍ) تمثيلٌ لحالهم إثرَ تمثيل، ليعُم البيانُ منها كل دقيق وجليل، ويوفيَ حقها من التفظيع والتهويل، فإن تفنُّنهم في فنون الكفر والضلال وتنقّلَهم فيها من حال إلى حال حقيقٌ بأن يُضربَ في شأنه الأمثال، ويرخى في حلبته أعِنّةُ المقال، ويُمدَّ لشرحه أطنابُ الإطناب، ويُعقَدَ لأجله فصولٌ وأبواب.
• قال ابن عاشور: والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى (مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد) بنوع إطلاق وتقييد.
• قوله تعالى (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) أي: ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر، (ورعد) وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، (وبرق) وهو الضوء اللامع المشاهد مع السحاب (كصيب) الصيب المطر.
• ضرب الله في هذه الآية مثلاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم بالمطر، لأن بالعلم والهدى حياة الأرواح، كما أن بالمطر حياة الأجسام، وقد قال صلى الله عليه وسلم (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً
…
) متفق عليه.
• قال السعدي: فهكذا حال المنافقين، إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فيروعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم، ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد، فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا ربما حصلت له السلامة، وأما المنافقون فأنى لهم السلامة، وهو تعالى محيط بهم، قدرة وعلماً.
• قوله تعالى (يجعلون أصابعم في آذانهم من الصواعق) أي: كلما تليت عليهم آيات الكتاب العزيز جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا كما فعل قوم نوح إذ حكى نوح عليه السلام فعلهم معه فقال (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً).
• قوله تعالى (يجعلون أصابعهم) أي أطراف أصابعهم وهي الأنامل، وهذا من باب تسمية الكل والمراد به البعض.
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) تهديد للكافرين، فالله جل وعلا محيط بالكافرين وبأعمالهم، فهو محيط بهم كإحاطة السور بمن في داخله، فلا يتمكنوا أن يفروا من الله ومن عذابه وسطوته.
• قال القرطبي: فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره؛ كما قال (والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة).
• وقال ابن الجوزي: قوله تعالى (والله مُحيط بالكافرين) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة، ومثله قوله تعالى (أحاط بكل شيء علماً).
والثاني أن الإحاطة: الإهلاك، مثل قوله تعالى (وأحيط بثمره).
والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.
وقال قال بعض العلماء: محيط بالكافرين: أي مهلكهم، ويشهد لهذا القول قوله تعالى (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ) أي: تهلكوا عن آخركم. وقيل: تغلبوا. والمعنى متقارب، لأن الهالك لا يهلك حتى يحاط به من جميع الجوانب، ولم يبق له منفذ للسلامة ينفذ منه. وكذلك المغلوب.
ومنه أيضاً بمعنى الهلاك قوله تعالى (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) الآية. وقوله تعالى (وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ).
(يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) قال الشنقيطي: ضرب الله في هذه الآية المثل للمنافقين إذا كان القرآن موافقاً لهواهم ورغبتهم عملوا به، كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم لهم، وعصمتهم به من القتل مع كفرهم بالباطن، وإذا كان غير موافق لهواهم كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
مذعنين).
وقال بعض العلماء: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) أي إذا أنعم الله عليهم بالمال والعافية قالوا: هذا الدين حق ما أصابنا منذ تمسكنا به إلا الخير، (وإذا أظلم عليهم قاموا) أي: وإن أصابهم فقر أو مرض أو ولدت لهم البنات دون الذكور، قالوا: ما أصابنا هذا إلا بشؤم هذا الدين وارتدوا عنه، وهذا الوجه يدل له قوله تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) دون أن تحدث الصواعق، ودون أن يحدث البرق، ولهذا قال:
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآية عامة، فالله على كل شيء قدير، على ما شاءه وما لم يشأه.
• قال الشنقيطي: وجرت العادة بذكر قدرته عند الأمور التي لا يستطيعها البشر، كما ذكر ذلك عند نصره لعباده الضعفاء المتمسكين بدينه كقوله تعالى في الأحزاب (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وقال في الحديبية (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).
ومن قدرته أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (إن الله على كل شيء قدير) تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغاً لهم وقطعاً لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.
• قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الآية عامة، فهو قدير على كل شيء، على ما شاءه وما لم يشأه، وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ، لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء، وأما قوله تعالى (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع، يعني: إذا أراد جمعهم وشاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجزه شيء.
الفوائد:
فوائد من المثلين ذكرهما ابن القيم رحمه الله:
قال رحمه الله: وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة:
منها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم، كان ما معه من النور كالمستعار.
ومنها: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفئ، كما تنطفئ النار بفراغ مادتها.
ومنها: أن الظلمة نوعان: ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور، وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.
ومنها: أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال، والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)).
[البقرة: 21].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا أول أمر في القرآن الكريم، وهو الأمر بعبادة الله تبارك وتعالى، والناس: قيل: المراد عموم الناس (الكفار والمؤمنون) وقيل: المراد بالناس الكفار الذين لم يعبدوه، والأول أصح.
…
(اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي: اخضعوا وذلوا لله سبحانه وتعالى، وأصل العبادة في لغة العرب: الذل والخضوع، وقيل للعبد (عبد) لذله وخضوعه لسيده، فالعبادة: الذل والخضوع على وجه المحبة خاصة، فلا تكفي المحبة دون الذل والخضوع، ولا يكفي الذل والخضوع دون المحبة، لأن الإنسان إذا كان ذله متجرداً عن محبة الله يُبغض الذي هو يذل له، ومن أبغض ربه هلك، وإذا كانت محبةً خالصة لا خوف معها، فإن المُحب الذي لا يُداخله خوف يحمله الدلال على أن يسيء الأدب، ويرتكب أموراً لا تنبغي، والله عز وجل لا يليق به شيء من ذلك (قاله الشنقيطي).
فالعبادة تطلق على معنيين: أحدهما: التعبد: يعني التذلل لله، كما سبق، وتطلق على المتعبد به (بالنسبة لأفعال العباد) وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة القلبية والجوارحية.
• وفي هذه الآية وجوب عبادة الله عز وجل، وقد جاءت النصوص الآمرة بذلك:
قال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وقال تعالى (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).
وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وقال تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
وقال تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ).
وأمر تعالى بعبادته حتى الموت: فقال تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
بل الناس ما خلقوا إلا لعبادة الله تعالى: كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وأمر الله بها جميع رسله:
كما قال نوح لقومه (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ) كذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم.
وأخبر الله أنه أرسل في كل أمة رسولاً لهذا الغرض:
قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
ووصف ملائكته بذلك:
فقال تعالى (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ).
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا
يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله تعالى.
…
(الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أوجدكم من العدم، وأوجد من قبلكم من الأمم الماضية.
• ففيها أن المستحق للعبادة هو من يخلق، أما من هو عاجز عن الخلق فلا يستحق أن يكون معبوداً، وقد جرت العادة في القرآن الكريم في آيات كثيرة أنه يجعل سبب العبادة التي تُستحق به هو الخلق والإبراز من العدم إلى الوجود، فمن يبرزكم من العدم إلى الوجود، ويوجدكم بعد أن كنتم عدماً هو هذا ربكم الذي يستحق أن تعبدوه وحده، أما الذي يحتاج إلى من يخلقه فهو عبد مربوب فقير مثلكم.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
وقال تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
وقال تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
• قال الشنقيطي: من براهين البعث بعد الموت خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله (اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ) لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني، وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة:
كقوله (وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ) الآية وقوله (كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ)، وكقوله (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية، وكقوله (يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ)، وكقوله:(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى) الآية.
ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول، كما في قوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الآية، وقوله (أَوَلَا يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً). ثم رتب على ذلك نتيجة الدليل بقوله (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) إلى غير ذلك من الآيات. (أضواء البيان).
• قال ابن الجوزي: وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة.
وقيل إنما ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع، ومعاقبة عاص.
• قال بعض العلماء: إنما نص الله تعالى على صفة الخلق دون غيرها من الصفات، لأن المشركين كانوا يعترفون أن الله خالقهم، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).
وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال السعدي: يحتمل: أن المعنى: إذا عبدتم الله وحده، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل: أن يكون المعنى أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى، وكلا المعنيين صحيح، وهما متلازمان، وقيل: المعنى خلقكم لتتقوه.
• قال بعض العلماء: أن كل (لعل) في القرآن هي بمعنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون.
الفوائد:
1 -
وجوب عبادة الله تبارك وتعالى.
2 -
تحريم عبادة غير الله عز وجل.
3 -
أن الخالق هو الله.
4 -
أن الخالق هو المستحق للعبادة.
5 -
أن العاجز عن الخلق لا يستحق أن يعبد.
6 -
أن الله خلق الخلق ليتقوه ويعبدوه.
7 -
فضل التقوى.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)).
[البقرة: 22].
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً) هذا من باب تعديد أصناف النعم، فجعل الله الأرض فراشاً موطئاً يستقر عليها استقراراً كاملاً.
وقد وصفها الله بأوصاف كلها تدل على أن الله جعلها مستقرة ثابتة ممهدة فراشاً.
كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ). وقال تعالى (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) وقال تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وقال تعالى (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) وقال تعالى (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً) والمراد بالقرار: أنها لا تميد بساكنيها، أي لا تضطرب كما قال تعالى (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً)
(قراراً) مستقراً بالدحو والتسوية. (مددناها) بسطناها ووسعناها (مهداً) كالفراش الذي يُوطّأُ للصبي.
وهذه من أعظم النعم أن جعل سبحانه الأرض فراشاً ومهاداً.
• قال ابن القيم: وإذا نظرت إلى هذه الأرض وكيف خلقت؟ رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً وذللها لعباده.
فيه دليل على أنه لو كانت الأرض غير مبسوطة، كأن تكون غير مستقرة أو مضطربة لكان في ذلك مشقة وتعب.
(وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) أي جعلها بمنزلة البناء وبمنزلة السقف.
كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وقال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
وقال تعالى (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).
• قال الرازي: إنه تعالى ذكر أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع، ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما، وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسراراً عظيمة، وحكماً بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم.
• المراد بالسماء هنا السماوات ذات الأجرام، وذلك أن السماء يُطلق على معنيين:
المعنى الأول: العلو، كقوله تعالى (أنزل من السماء ماء) المراد بالسماء هنا العلو، لأن المطر ليس ينزل من السماء السقف، بل ينزل من العلو.
المعنى الثاني: المراد بالسماء السقف كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى (والسَّمَاءَ بِنَاءً).
• قال الشنقيطي: وخلق السماوات والأرض من براهين البعث، لأنهما من أعظم المخلوقات، ومن قدر على خلق الأعظم، فهو على غيره قادر من باب أحرى، وأوضح الله تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة:
كقوله تعالى (لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس)، وقوله (أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن
يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم)، وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى)، وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)، وقوله:(أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) الآية .. إلى غير ذلك من الآيات.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي: أنزل من السماء مطراً عذباً فراتاً أنزله سبحانه بقدرته، فأخرج بذلك المطر أنواع الثمر والفواكه والخضار.
كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) وقال تعالى (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا). وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).
• المراد بقوله (السماء) العلو، لأن المطر ينزل من السحاب.
• هذا أيضاً من براهين البعث، فإحياء الأرض بعد موتها من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت.
كما أشار له هنا بقوله (وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ).
وأوضحه في آيات كثيرة كقوله (َمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخروج)، يعني: خروجكم من قبوركم أحياء بعد أن كنتم عظاماً رميما. وقوله (وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، وقوله تعالى (حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، إلى غير ذلك من الآيات. (أضواء البيان).
• قال القرطبي: ودلّت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق؛ ولهذا قال عليه السلام مشيراً إلى هذا المعنى (والله لأنْ يأخذ أحدُكم حَبْلَه فَيَحْتطِبَ على ظهره خير له من أن يسأل أحداً أعطاه أو منعه) أخرجه مسلم.
ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها؛ فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زُخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله نِدًّا.
(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنداد: جمع ند، وهو الكفء والنظير والمثيل، أي فلا تجعلوا لله أشباهاً ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبونه، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون، وأنتم تعلمون: أن الله ليس له شريك ولا نظير، لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في الألوهية والكمال.
• في الآية تحريم اتخاذ الأنداد من دون الله، وهو أعظم ذنب يفعله الإنسان.
قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
وقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ).
وقال تعالى (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).
وقال تعالى (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
وعن ابن مسعود. قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) متفق عليه
• قوله تعالى (فلا تجعلوا لله أنداداً) أن من أنعم بهذه النعم يستحق الشكر لا أن يجعل معه شريك ونظير.
• قوله تعالى (اعبدوا ربكم
…
فلا تجعلوا لله أنداداً) جمعت هذه الآية بين الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن عبادة ما سواه، ففيه أنه لا بد للتوحيد من الكفر بكل ما عبد من دون الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد عصم دمه وماله وحسابه على الله) رواه مسلم، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عصمة الدم والمال بأمرين:
الأول: قول: لا إله إلا الله عن علم ويقين.
الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: وهذا من أعظم ما يبين معنى: لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل اللفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.
وقد قال تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا).
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه لا ند له.
• وفي هذا ذم من اجترأ على معصية الله وهو يعلم، وهو أعظم جرماً مما لا يعلم.
الفوائد:
1 -
بيان رحمة الله بعباده.
2 -
كمال قدرة الله تعالى.
3 -
ينبغي التفكر في مخلوقات الله حتى يقود ذلك إلى الإيمان بالله وبوحدانيته وقد قال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).
4 -
رحمة الله بإنزال المطر.
5 -
إثبات الأسباب لقوله (فأخرج به من الثمرات .. ).
6 -
تحريم اتخاذ الأنداد لله.
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)).
[البقرة: 23 - 24].
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) قال أبو حيان: نزلت في جميع الكفار، وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود، وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه، والأظهر القول الأول.
• قال السعدي: وإن كنتم - يا معشر المعاندين للرسول، الرادين دعوته، الزاعمين كذبه - في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره؟ فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم، ليس من جنس آخر، وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب، أخبركم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون:
(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ) يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير،، فالضمير في قوله (من مثله) عائد على القرآن ونسب هذا القول ابن كثير لأكثر المحققين، ونسبه القرطبي أيضاً للجمهور.
ونسبه ابن عطية لجمهور العلماء أيضاً.
وقيل: (من مثله) أي من مثل محمد صلى الله عليه وسلم من البشر، لأن محمداً بشر مثلكم.
قال ابن جرير: والتأويل الأول هو التأويل الصحيح، لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه.
• قال الآلوسي: قوله تعالى (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ) لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة.
• وقال ابن عاشور: انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم).
• قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ) فيه تحدي المشركين أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن.
• وقد وقع التحدي على عدة أوجه:
تحداهم أن يأتوا بقرآن بمثل هذا القرآن: قال تعالى (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)، وقال تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله: قال تعالى (أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله. كما في هذه الآية.
• قوله تعالى (عَلَى عَبْدِنَا) فيه عظيم منزلة العبودية، حيث وصف الله تبارك وتعالى نبيه بهذا الوصف في مقام التحدي.
•
وقد وصف الله نبيه بالعبودية في أعلى المقامات:
في مقام التحدي: كما في هذه الآية.
وفي مقام الإسراء والمعراج: قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).
وفي مقام الإيحاء: قال تعالى (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى).
وفي مقام الدعوة: قال تعالى (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).
وقد قال تعالى عن المسيح ابن مريم (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
…
• قال ابن تيمية: والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له: كان أقرب إليه وأعز له، وأعظم لقدره، فأسعد الخلق: أعظمهم عبودية لله، وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره.
(وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قيل: أعوانكم ونصراءكم، وقيل: آلهتكم، وقيل: ائتوا بشهداء يشهدون لكم أن ما أتيتم به يعادل القرآن أو يقاربه.
وهذا غاية التحدي لهم. وهذا كما يقول المعجِز المتحدي لمن عانده وتحداه: اذهب وائت بمن تستطيع من أصحابك وأعوانك وأوليائك لتستعين بهم.
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيما تدعون من أن هذا القرآن ليس من عند الله.
• قال ابن عاشور: والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر.
فلا أحد يستطيع أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن ولو دعا من دعا إليه ليعاونه، كما قال تعالى (لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) أي معيناً.
• قال ابن كثير: ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى،
…
فكلٌ من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء، وأمر بكل خير، ونهى عن كل شر كما قال تعالى (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى،
…
لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء.
• وقال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِيهِ أَكْبَرُ دَلَالَةٍ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عليه السلام مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَرَعَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ مَعَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْصُوفٌ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ، فَلَمْ يُعَارِضْهُ مِنْهُمْ خَطِيبٌ، وَلَا تَكَلَّفَهُ شَاعِرٌ، مَعَ بَذْلِهِمْ الْأَمْوَالَ وَالْأَنْفُسَ فِي تُوهِينِ أَمْرِهِ، وَإِبْطَالِ حُجَجِهِ، وَكَانَتْ مُعَارَضَتُهُ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهَا أَبْلَغَ الْأَشْيَاءِ فِي إبْطَالِ دَعْوَاهُ وَتَفْرِيقِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ؛ فَلَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْعِبَادِ مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا أَكْبَرُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ أَنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ) وَقَالَ (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) فَتَحَدَّاهُمْ بِالنَّظْمِ دُونَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَظْهَرَ عَجْزَهُمْ عَنْهُ فَكَانَتْ هَذِهِ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ وَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الأنبياء؛ لِأَنَّ سَائِرَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ تَقَضَّتْ بِانْقِضَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُعْجِزَةً مِنْ طَرِيقِ الْأَخْبَارِ.
وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ بَعْدَهُ، كُلُّ مَنْ اعْتَرَضَ عَلَيْهَا بَعْدُ قَرَّعْنَاهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، فَتَبَيَّنَ لَهُ حِينَئِذٍ مَوْضِعُ الدَّلَالَةِ عَلَى تَثْبِيتِ النُّبُوَّةِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عليه السلام وَعِنْدَ الْجَاحِدِينَ لِنُبُوَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَتَمِّ النَّاسِ عَقْلًا، وَأَكْمَلِهِمْ خُلُقًا، وَأَفْضَلِهِمْ رَأْيَا، فَمَا طَعَنَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ وَوُفُورِ حِلْمِهِ وَصِحَّةِ فَهْمِهِ وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفُهُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ قَدْ أَرْسَلَهُ إلَى خَلْقِهِ كَافَّةً، ثُمَّ جَعَلَ عَلَامَةَ نُبُوَّتِهِ وَدَلَالَةَ صِدْقِهِ كَلَامًا يُظْهِرُهُ وَيَقْرَعُهُمْ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ كَذِبُهُ وَبُطْلَانُ دَعْوَاهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَدَّاهُمْ بِذَلِكَ وَلَمْ يُقَرِّعهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ إلَّا وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَى مِثْلِهِ.
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي: فإن لم تقدروا على الإتيان بسورة بمثل سورة من سوره.
(وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي: ولن تقدروا في المستقبل أيضاً على الإتيان بمثله و (لن) هنا للتأبيد.
وفي هذا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً، غير خائف ولا مشفق، أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن.
(فَاتَّقُوا النَّارَ) أي فخافوا النار واتقوها واحذروها، واجعلوا بينكم وبين عذابها وقاية، والوقاية من النار تكون بالإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.
وقد أمر الله باتقائها في آيات كثيرة:
فقال تعالى (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
وقال تعالى (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى).
وقال تعالى (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ. إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نذيراً للبشر) قال الحسن البصري: والله ما أُنذر العباد بشيء قط أدهى منها.
وقال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه.
واتقاء النار يكون: بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه.
• قوله تعالى (فاتقوا النار) ينبغي على المسلم أن يحذر من النار وأن يتقيها كما أمر الله عز وجل.
فقد أمر الله باتقائها كما في هذه الآية.
وأمر صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منها. كما قال صلى الله عليه وسلم (استعيذوا بالله من عذاب جهنم) متفق عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) متفق عليه.
ومن صفات عباد الله الخوف منها، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً).
• ينبغي تهديد أهل الكفر والطغيان بالنار وتخويفهم بها كما قال تعالى (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى. لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى).
•
هناك أعمال تنجي من النار منها:
أولاً: الإيمان بالله.
قال تعالى (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).
ثانياً: الصيام.
قال صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنة يستجن به من النار) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه.
ثالثاً: البكاء من خشية الله.
قال صلى الله عليه وسلم (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) رواه الترمذي.
رابعاً: الاستجارة بالله من النار.
كما قال صلى الله عليه وسلم (ما سأل أحد الله ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني).
خامساً: المحافظة على صلاة الفجر والعصر.
قال صلى الله عليه وسلم (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) رواه مسلم.
سادساً: الجهاد.
قال صلى الله عليه وسلم (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار) رواه الترمذي.
سابعاً: حسن الخلق.
قال صلى الله عليه وسلم (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار) رواه أحمد.
ثامناً: عتق الرقاب.
قال صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة مؤمنة كانت فكاكه من النار).
تاسعاً: الكلمة الطيبة.
لحديث الباب (فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَة) قال النووي: فيه أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار.
(الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وقودها: الوقود بفتح الواو: الحطب، أي مادة النار التي تشعل بها وتضرم لإيقادها الناس والحجارة.
والمراد بالناس الكفار الذين ماتوا على الكفر، قال تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ).
وأما الحجارة فاختلف فيه:
قيل: المراد حجارة الكبريت.
وقد قيل: أنها خصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت.
وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لقوله تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي وقودها. قال القرطبي: وعليه فتكون الحجارة والناس وقوداً للنار، وذكر ذلك تعظيماً للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس.
قوله تعالى (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) شدة عذاب الكفار في النار حيث يكونون وقوداً للنار مع أصنامهم.
(أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) أي هيئت للكافرين، ففيه دليل على أن أهل النار هم الكفار الذين ماتوا على الكفر، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ومن أهل النار المنافقين، كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
• قوله تعالى (أعدت للكافرين) فيه دليل على أن النار موجودة الآن، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار موجودتان الآن، والأدلة على ذلك كثيرة:
قوله تعالى (أعدت للكافرين) أي هيئت، وكذلك قال تعالى في الجنة (أعدت للمتقين).
وقال صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة، .. الحديث، وفيه: ثم أرسله إلى النار .. ) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به، حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أتقدّم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (
…
ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع منه) متفق عليه.
الفوائد:
1 -
عظمة القرآن حيث تحدى الله كفار قريش أن يأتوا بمثله.
2 -
وجوب العناية بالقرآن حفظاً وتدبراً وفهماً.
3 -
فضيلة أن يتصف الإنسان بوصف العبودية.
4 -
إثبات علو الله عز وجل.
5 -
أن من أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم.
6 -
لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن.
7 -
وجوب تقوى عذاب النار.
8 -
إهانة الكفار ومعبوداتهم حيث يكونون حطب لجهنم.
9 -
أن النار موجودة الآن.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)).
[البقرة: 25].
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) هذا أمر من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانهم ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) التبشير الإخبار بما يسر، الذين آمنوا بقلوبهم.
• قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه استحباب تبشير المسلم بما يسره، لأن البشارة مما تسر المسلم وتفرحه، وقد قال تعالى (فبشرناه بغلام حليم) وقال تعالى (وبشروه بغلام عليم).
• قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) التبشير: الإخبار بما يسر، وسمي بذلك لأنه يظهر أثره على البشرة وهو ظاهر الجلد، والغالب أنه يستعمل في التبشير بالخير، وقد يستعمل في الشر تهكماً كقوله تعالى (فبشرهم بعذاب أليم).
• قال ابن عطية: قوله تعالى (وبشر) مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصاً على الشر المبشر به، كما قال تعالى (فبشرهم بعذاب أليم) ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير.
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: وعملوا الأعمال الصالحات من واجبات ومستحبات، والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون خالصاً لله، قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
الشرط الثاني: أن يكون متابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
• قال عثمان بن عفان رضي الله عنه في (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): معناه أخلصوا الأعمال، يدلّ عليه قوله:(فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) أي: خالصاً لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصاً.
• قال السعدي: ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
(أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) الجنات جمع جنة، والجنة في لغة العرب: البستان، لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه، وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) أي البستان، وفي قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ).
وأما في الاصطلاح: فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
• قوله تعالى (جنات) دليل على أن الجنات أنوع، كما قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال تعالى (ومن دونهما جنتان) وقال صلى الله عليه وسلم (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما).
• قال الشيخ ابن عثيمين: (جنات) بالجمع، وأحياناً يقال بالإفراد (جنة)، فإذا كانت بالإفراد فالمراد بها مطلق الجنس، وإذا قيلت بالجمع فالمراد بها أنواع الجنات.
• أن الإيمان والعمل الصالح سبب لدخول الجنة، وقد ورد هذا في آيات كثيرة.
قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقال تعالى (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).
أن دخول الجنة أعظم بشرى وأعظم أمنية، كما قال تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). وقال تعالى (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً).
• قوله تعالى (جنات) دليل على أن الجنات أنواع، كما قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال تعالى (ومن دونهما جنتان) وقال صلى الله عليه وسلم (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما).
• في هذه الآية ذكر المبشّر: وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: وهي الجنات الموصوفات تلك الصفات الجميلة، وذكر العمل الموصل لذلك: وهو الإيمان والعمل الصالح.
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي من تحت أشجارها، قال ابن الجوزي: أي من تحت شجرها لا من تحت أرضها.
• قال ابن عاشور: وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً.
• قال ابن القيم: وهذا يدل على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها. الثاني: أنها جارية لا واقفة. الثالثة: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.
• وهذه الأنهار جاء تسميتها في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً).
• قال ابن القيم: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا.
فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب سبحانه وتعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها ويجريها في غير أخدود وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو.
• وهذه الأنهار لا تنضب ولا تنقص، وتجري من غير أخدود.
قال ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت
…
سبحان ممسكها عن الفيضانِ
(كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أي كلما أعطوا عطاء ورزقوا رزقاً من ثمار الجنة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وقد اختلف العلماء في قوله تعالى (من قبل) على قولين:
فقيل: المراد بقوله (من قبل) أي هذا الذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا، ورجحه ابن جرير.
ودليل هذا القول قوله تعالى (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ).
وقيل: المراد بقولهم (من قبل) أي في الجنة، أي هذا الذي رزقنا من قبل من ثمار الجنة، من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعضاً في اللون والطعم، واحتج هؤلاء بحجج:
منها: أن المشابهة التي بين ثمار الجنة بعضها لبعض، أعظم من المشابهة التي بينها وبين ثمار الدنيا، ولشدة المشابهة قالوا هذا هو.
ومنها: أن من المعلوم أنه ليس كل ما في الجنة من الثمار قد رزقوه في الدنيا، وكثير من أهلها لا يعرفون ثمار الدنيا ولا رأوها.
(وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً) قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأى وليس يشبهه في الطعم، قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء.
(وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ) الأزواج جمع زوج، وهو شامل للأزواج من الحور العين، ومن نساء الدنيا.
(مُطَهَّرَةٌ) يشمل طهارة الظاهر وطهارة الباطن، فهي مطهرة من الأذى، ومن القذر، لا بول ولا غائط ولا حيض ولا نفاس، مطهرة من كل شيء حسي، مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة، كالغل، والحسد، والكراهية، والبغضاء وغير ذلك.
• قال القرطبي: (مطهرة) نعتٌ للأزواج، ومُطَهّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ؛ ومعنى هذه الطهارة من الحَيْض والبُصاق وسائر أقذار الآدمِيّات.
• وقال السعدي: قوله تعالى (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) فلم يقل (مطهرة من العيب الفلاني) ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني، والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب، ولا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
• ذكر هنا تعالى صفة
من صفات نساء الجنة،
ومن صفاتهن:
أولاً: مطهرات.
كما في هذه الآية.
قال ابن القيم: ووصفهن بالطهارة فقال: (ولهم فيها أزواج مطهرة) طهرن من الحيض والبول والنجو (الغائط) وكل أذى يكون في نساء الدنيا، وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم.
ثانياً: كواعب أتراباً.
قال تعالى (وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً).
الكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثديها، والأتراب: المتقاربات في السن.
ثالثاً: أبكاراً.
قال تعالى (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً. عُرُباً أَتْرَاباً).
أبكاراً: يعني أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، العرب: المتحببات لأزواجهن.
قال ابن كثير رحمه الله: قوله (عُرُباً): قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني: متحببات إلى أزواجهن، وعن ابن عباس: العُرُب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون.
وقوله (أَتْرَابا) قال الضحاك عن ابن عباس يعني: في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة.
وقال السدي: (أترابا) أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر متعاديات. (تفسير ابن كثير).
وقال الحافظ ابن حجر: عن مجاهد في قوله (عُرُباً أتراباً) قال: هي المحببة إلى زوجها.
رابعاً: جميلات غاية الجمال.
قال تعالى (وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري.
حور: جمع حوراء، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض وسواده شديد السواد.
عين: جمع عيناء، وهي واسعة العين، المكنون: المخفي المصان، النصيف: الخمار.
• قال السعدي: أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعِين: حسان الأعين وضخامها، وحسن العين في الأنثى من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر.
خامساً: قاصرات الطرف.
قال تعالى (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ).
وقال تعالى (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ).
وقاصرات الطرف: هن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن.
• قال ابن القيم: ووصفهن بأنهن (مقصورات في الخيام) أي: ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن، بل قد قُصِرْن على أزواجهن، لا يخرجن من منازلهم، وقَصَرْنَ عليهم فلا يردن سواهم، ووصفهن سبحانه بأنهن (قاصرات الطرف) وهذه الصفة أكمل من الأولى، فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فلا يتجاوز طرفها عنه إلى غيره.
(وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا من أعظم تمام النعيم، أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآبدين.
• قال النسفي: الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع.
• وقال ابن الجوزي: والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.
• قال ابن عاشور: وقوله (وهم فيها خالدون) احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب:
أشدُّ الغم عندي في سرور
…
تحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالاً.
• قال الرازي: اعلم أن مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله (جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار) والمطعم بقوله (كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ) والمنكح بقوله (وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ) ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال (وَهُمْ فِيهَا خالدون) فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر.
• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهذا من أعظم النعيم وبه يتم النعيم، لأن أكبر ما ينكد اللذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم، والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً.
فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات، لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها، لأنه يقطعها، ولهذا قال (خالدين فيها) لا يزول عنهم ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.
• وجاءت الآيات الكثيرة بخلود أهل الجنة بالجنة.
فقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).
وقال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).
وقال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).
وقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على شكل كبش فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت
…
) متفق عليه.
• قال ابن القيم: جمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه.
الفوائد:
1 -
البشرى بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً.
• قال السعدي: وفيه استحباب بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها]، فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان، توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
2 -
الحث على الإيمان والعمل الصالح.
3 -
التحذير من الرياء ومن البدعة.
4 -
مشروعية تبشير المسلم بما يسره.
6 -
أن الجنات أنواع.
7 -
إثبات الجنة.
8 -
إثبات أن في الجنة أنهاراً.
9 -
عظم نعيم الجنة.
10 -
أن نعيم الدنيا ناقص زائل.
11 -
إثبات الزوجات في الجنة وأنهن مطهرات من كل دنس.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)).
[البقرة: 26 - 27].
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً
…
) قال ابن القيم: هذا جواب اعتراض، اعترض به الكفار على القرآن وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة، فلو كان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بأن قال (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)، فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض.
• قال الرازي: اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً، فأجاب الله تعالى عنه بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها.
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي) فيه إثبات الحياء لله تعالى، وجه الدلالة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن نفي الاستحياء عن الله تعالى في هذه الحال دليل على ثبوثه فيما يقابلها.
• وقد دلت السنة على إثبات الحياء لله تعالى.
كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) رواه أبو داود.
وحياؤه سبحانه وتعالى وصف يليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو يذم، بل نثبتها لله تعالى على ما يليق بجلاله وكماله، إثباتاً من غير تمثيل لها بخلقه.
(أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) أي: أن الله لا يستحيي أن يضرب ويبين أي مثل كان، بأيّ شيء كان، صغيراً أو كبيراً كالبعوضة فما فوقها.
• والسبب في ذلك: لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق وتقريبه، قال ابن القيم: فإن الأمثال تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر.
وقد ضرب الله الأمثال في كتابه بعدة أشياء:
الذباب: قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
العنكبوت: قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
الشجرة الطيبة والخبيثة: قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ
مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
• قوله تعالى (فَمَا فَوْقَهَا) اختلف العلماء في المراد بقوله (فما فوقها) على قولين:
قيل: أن معنى فما فوقها أي ما هو أكبر منها، ورجحه ابن جرير. . . .
ويؤيد هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يشوك شوكة فما فوقها) أي ما هو أعلى منها.
وقيل: (فما فوقها) أي ما هو أقل منها، كما يقال مثلاً فلان جاهل، فتقول هو فوق ذلك، أي أشد من الجاهل.
• قال الرازي: والمحققون مالوا إلى هذا القول لوجوه:
أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولاً.
وثانيها: أن الغرض ههنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول، يقال إن فلاناً يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه، يعني في القلة، لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار.
وثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.
• وقال ابن عاشور: وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن المثل من عند الله، فيزدادون إيماناً على إيمانهم.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) أي: وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة.
• فيه أن الاعتراض على أمر الله من أعمال الكفار، فيزدادون كفراً على كفرهم، ففيه التحذير من الاعتراض على أوامر الله.
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) أي: يضل ويخذل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم به.
(وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي: ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به فيزدادون هدى.
• قال الشيخ السعدي: هذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، كما قال تعالى (وإذا أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة، وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.
…
• قوله تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) قيل: هو من قول الكافرين، أي مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى.
وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، قال القرطبي: وهو أشبه.
• قال الشوكاني عن القول الأول: ليس بصحيح، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئاً من الهداية، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة.
(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) أي: وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن طاعة الله بكفرهم.
• والمراد بالفسق هنا الخروج عن الدين وهو الكفر، بدليل وصفهم بعد ذلك بقوله (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
…
) وهذه
الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين.
…
والفسق هو الخروج عن طاعة الله، ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها للإفساد، ويطلق ويراد به الكفر كقوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) وقال تعالى (ومَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ).
ويطلق ويراد به ما دونه من المعاصي كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ).
• قال القرطبي: والفِسْق في عُرْف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكُفْر وعلى من خرج بعصيان.
•
لفظ الضلال في القرآن يطلق على ثلاثة إطلاقات:
الأول: إطلاق الضلال على الضلال عن طريق الهدى إلى طريق الزيغ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار.
كما قال تعالى (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). ومنه قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
ومنه قوله تعالى (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)، وهذا أغلب استعمال الضلال.
والثاني: هو إطلاق الضلال على الغَيْبَة والاضمحلال.
ومنه قوله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: غاب واضمحل ولم يبق له أثر.
ومنه قوله تعالى (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فمعنى (ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) أي: اضمحلت عظامهم ولحومهم وجلودهم فيها فأكلتها واختلطت بها.
والثالث: إطلاق الضلال على الذهاب عن علم الشيء، فكل ما لم يهتد إلى علم شيء تقول العرب: ضل.
ومنه قول أولاد يعقوب (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: ذهاب عن علم الحقيقة حيث يفضّل يوسف علينا.
وقوله (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي: ذهابك عن حقيقة العلم بالشيء، لأنك تظن يوسف حياً، ولا يريدون الضلال، لأنهم لو أرادوا الضلال في الدين لكانوا كفرة لتضليلهم نبياً من الأنبياء. (الشنقيطي).
ومنه قوله تعالى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) أي: لا يذهب عنه علم شيء ولا ينسى شيئاً.
(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) ذكر تعالى صفات هؤلاء الفاسقين، فمنها أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، والنقض: إفساد ما أبرم من بناء أو حبل أو عهد.
• وقد اختلف في المراد بهذا العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه:
فقيل: أنه العهد الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من صلبه.
كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
وقيل: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله.
وقيل: أنه العهد الذي أخذ عليهم على لسان أنبيائهم عليهم السلام أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث فيهم.
كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).
والراجح العموم كما قال ابن كثير حيث قال: وقال آخرون بل عني بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا
يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وهذا حسن ومال إليه الزمخشري.
• وقال ابن عطية: النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به.
واختلف في تفسير هذا العهد:
فقال بعض المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر.
وقال آخرون: بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره.
• قال أبو حيان بعد ذكره للأقوال: والعموم هو الظاهر.
(يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي: من صفات هؤلاء الكفار قطع ما أمروا بوصله.
وقد اختلف العلماء ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله:
فقيل: المراد به صلة الأرحام، ورجحه ابن جرير.
وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل.
وقيل: المراد به حفظ شرائعه وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة.
قال الشوكاني: وبه قال الجمهور وهو الحق.
• فيه وجوب صلة ما أمر الله بصلته، وفي مقدمة ذلك صلة الرحم.
وقد جاءت نصوص تحرم وتحذر من قطيعة الرحم:
قال تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).
وقال تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
وقال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها بل صِلوها.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة قاطع) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة قاطع) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) رواه البخاري.
…
• وجاءت نصوص كثيرة تحث على صلة الرحم:
قال صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه.
وعن أبي أيوب (أن رجلاً قال يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) متفق عليه.
وهي من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، قال خديجة (كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكل، وتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق).
(يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي ومن صفات هؤلاء الكفار الإفساد في الأرض، والإفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها من الشرك بالله، والقتل، والربا، وغيرها، كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
(أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان، فمن لا إيمان له لا عمل له، وهذا الخسار هو خسار الكفر.
• قال الطبري: قوله تعالى (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الخاسرون جمع خاسر، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله - من رحمته، كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه. فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته.
• وأصل الخسران: نقصان مال التاجر من ربح أو رأس مال، وأكبر الخسارة غبن الإنسان بحظوظه من خالقه جل وعلا، وقد أقسم الله أنه لا ينجو منه أحد إلا بشروط معينة منصوصة في كتاب الله فقال تعالى (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
الفوائد:
1 -
فيه إثبات الحياء لله تعالى، وجه الدلالة: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن نفي الاستحياء عن الله تعالى في هذه الحال دليل على ثبوثه فيما يقابلها.
2 -
ضرب الأمثال، لتقريب المعاني.
3 -
فيه أنه لا ينبغي أن يكون الحياء مانعاً من قول الحق أو طلب العلم.
وقد قالت عائشة (نعم نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين) متفق عليه.
وقالت أم سلمة (إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت) متفق عليه.
4 -
فيه أنه ينبغي لمن أراد الإيضاح والبيان - وكان ذلك يتوقف على ضرب المثل - أن يبين ذلك بالمثل، كما قال تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون).
5 -
فضل أهل الإيمان، حيث يؤمنون من غير تردد.
6 -
أن الناس ينقسمون عند ضرب المثل إلى قسمين: مؤمن وكافر.
7 -
أن الهداية والإضلال بيد الله تعالى، ويتفرع على هذه الفائدة اللجوء إلى الله لطلب الهداية منه سبحانه.
8 -
وجوب الوفاء بجميع العهود.
كما قال تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً)، وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
9 -
تحريم قطيعة الرحم.
10 -
تحريم الإفساد في الأرض.
11 -
أن الإفساد في الأرض من صفات الكفار.
12 -
وجوب الإصلاح في الأرض.
13 -
أن أعظم الخسارة خسارة الإنسان نصيبه من الله.
14 -
معرفة صفات الكفار ليتجنبها الإنسان.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)).
[البقرة: 28].
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً
…
) يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره.
(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ) أي: قد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود.
• قال الرازي: اتفقوا على أن قوله (وَكُنتُمْ أمواتاً) المراد به وكنتم تراباً ونطفاً، لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف.
(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي: ثم يميتكم عند استكمال آجالكم.
(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حين يبعثكم.
• قال القرطبي: واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من مَوْتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تُخلقوا فأحياكم أي خلقكم ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
• قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا مَحِيد للكفار عنه لإقرارهم بهما؛ وإذا أذعنتْ نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قَوِي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم الجزاء الأوفى.
…
• قال ابن القيم: فهذا استدلال قاطع على أن الإيمان بالله أمر مستقر في الفطر والعقول وأنه لا عذر لأحد في الكفر به البتة، فذكر تعالى أربعة أمور، ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم، والرابع منتظر موعود به وعد الحق:
الأول: كونهم كانوا أمواتاً لا أرواح فيهم بل نطفاً وعلقاً ومضغة مواتاً لا حياة فيها.
الثاني: أنه تعالى أحياهم بعد هذه الإماتة.
الثالث: أنه تعالى يميتهم بعد هذه الحياة.
الرابع: أنه يحييهم بعد هذه الإماتة فيرجعون إليه، فما بال العاقل يشهد الثلاثة الأطوار الأول، ويكذب بالرابع، وهل الرابع إلا طور من أطوار التخليق.
• قوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ .. ) استفهام المراد منه التوبيخ والتقرير، فيُتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجج.
الفوائد:
1 -
إثبات الموت لقوله (ثم يميتكم).
كما قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ). وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
وقال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ) وقال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).
2 -
إثبات البعث.
3 -
إثبات الجزاء والحساب.
4 -
فيه الاستعداد ليوم الحساب بالإكثار من الأعمال الصالحة التي تنجيه من كرب يوم القيامة.
5 -
أن المرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ) وقال تعالى (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). وقال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) وقال تعالى (اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)).
[البقرة: 29].
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي خلق لكم، براً بكم ورحمة، جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) أي ثم قصد إلى السماء.
• قال ابن كثير: والاستواء ههنا متضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بـ (إلى) والمعنى: ثم قصد إلى السماء.
(فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أي: هيأهن وخلقهن ودبرهن وقومهن، والتسوية في كلام العرب التقويم والإصلاح والتوطئة.
وهذا يدل على كمال خلق السموات:
كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وقال تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
وقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).
وقال تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ).
وقال تعالى (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).
• هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة ثم التي هي للترتيب والانفصال وكذلك آية حم السجدة تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى أن قال (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ).
فما الجواب عن قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا). حيث أن هذه الآية تدل على أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء. (دحاها: يعني بسطها ومهدها وهذا قول الأكثر).
الجواب: أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وأما دحوها فمتأخر عنها، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض أولاً غير مدحوة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً، ثم دحا الأرض بعد ذلك، أي: بسطها ومهدها للسكن، بأن أخرج منها الماء والمرعى، وأرساها بالجبال.
قال بهذا ابن عباس.
ورجحه البغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير، والسعدي، والقاسمي، والشوكاني.
• قال ابن كثير: وقد تقدم في سورة (حم السجدة) أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء،
بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس، وغير واحد، واختاره ابن جرير.
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء سبحانه.
• مباحث علم الله تعالى:
أولاً: فالله تعالى يعلم كل شيء، يشمل الجزئيات والكليات.
قال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).
وقال تعالى (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
ثانياً: يعلم سبحانه الماضي والمستقبل.
قال تعالى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
(ما بين أيديهم) الحاضر والمستقبل (وما خلفهم) الماضي.
ثالثاً: الله يعلم الخفايا وما في الصدور:
كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وقال تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).
رابعاً: وليس شيء يصل إلى الأرض أو يصعد من الأرض إلى السماء إلا قد أحاط الله به علماً.
قال تعالى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).
خامساً: ويعلم الأمور التي لن تكون كيف تكون لو كانت.
كما قال تعالى عن الكفار حين يكونون في النار (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
وقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً، لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بحكمته بقوله (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) وهذا الخروج الذي لا يكون قد علم جل وعلا أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).
سادساً: ويستوي في علم الله السر والعلانية، والصغير والكبير والغيب والشهادة.
قال تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقال تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).
سابعاً: وعلم الله لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان.
قال تعالى ( .... قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى).
وقال تعالى (
…
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً).
أما علم ابن آدم فمسبوق بجهل ويلحقه نسيان كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).
ثامناً: علمنا قليل بالنسبة لعلم الله.
قال تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).
•
الآثار المترتبة من علمنا بأن الله عليم بكل شيء.
أولاً: الخوف من الله وخشيته، ومراقبته في السر والعلن، لأن العبد إذا أيقن أن الله تعالى عالم بحاله مطلع على باطنه وظاهره، فإن ذلك يدفعه إلى الاستقامة على أمر الله ظاهراً وباطناً.
ثانياً: اليقين بشمول علم الله تعالى لكل شيء في السماوات والأرض، وللبواطن والظواهر، يثمر في قلب العبد تعظيم الله تعالى وإجلاله والحياء منه، كما يعين على التخلص من الآفات القلبية التي تخفى على الناس ولكنها لا تخفى على الله كآفة الرياء والحسد والغل والعجب والكبر.
قال ابن القيم: فإن قلت: فما السبيل إلى حفظ الخواطر، قلت: أسباب عدة، أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك، والثاني: حياؤك منه، والثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.
ثالثاً: إن يقين العبد بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه بحال عبده المصاب وما يقاسيه من الآلام، إن ذلك يثمر في القلب الرجاء والأنس بالله ويدفع اليأس والقنوط من القلب.
رابعاً: ونستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: وجوب مراقبة الله، لأن العاقل إذا علم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، فسوف يراقب ربه، بلسانه وجنانه وأركانه، فبلسانه: لا ينطق بما حرم الله، وبجنانه: لا يعتقد بقلبه خلاف الحق، وبجوارحه: لا يستعملها في المحرمات، فيستعمل العين في النظر إلى الحرام، ويستعمل اليد في البطش الحرام، ويستعمل الآذان في السماع الحرام.
وأيضاً نستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: الرغبة والنشاط والرجاء، لأن الإنسان يعلم أن الله يعلم بكل أعماله الصالحة، وأنه لن يضيع منها شيء.
الفوائد:
1 -
إثبات أن الخالق هو الله تعالى.
2 -
في هذا دلالة على أنه سبحانه وتعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السموات سبعاً، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك.
3 -
فيه دليل على أن الأصل في الأشياء الحل حتى يقوم دليل على التحريم لقوله سبحانه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فكل ما على الأرض من الأشجار والنباتات والمياه الأصل فيه الحل. وهذه الآية هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء (أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة)، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة.
4 -
فيه دليل على أن السموات سبع، والآيات في هذا كثيرة:
كقوله تعالى (قل من رب السموات السبع). وقال تعالى (تسبح له السماوات السبع). وقال تعالى (فقضاهن سبع سموات). وقال تعالى (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن).
وأما الأرض فلم يأت في القرآن التصريح بأنها سبع ولكن جاء التلميح كما في الآية السابقة (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن). مثلهن: أي في العدد.
وجاءت السنة تبين أن الأرضين سبع:
كقوله صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه.
5 -
إثبات عموم علم الله تبارك وتعالى.
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30)).
[البقرة: 30].
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم فقال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك، حين قال ربك للملائكة.
(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي: قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، واختلف العلماء في المراد بالخليفة هنا:
فقيل: المراد آدم.
• قال القرطبي: والمعني بالخليفة هنا في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل آدم عليه السلام.
لأنه خليفة الله في تنفيذ أوامره.
وقيل: أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، ورجح هذا القول ابن كثير.
كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ). وقال (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ).
ويدل على أنه ليس المراد آدم قول الملائكة (أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء) فإنه من المعلوم أن آدم ليس مما يفسد في الأرض ويسفك الدماء. (انتهى كلام ابن كثير).
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن المراد بالخليفة آدم، وأن الله أعلم الملائكة أنه يكون من ذريته من يفعل ذلك الفساد وسفك الدماء، فقالوا ما قالوا.
(قَالُوا) أي: الملائكة.
(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) بالمعاصي.
(وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) هذا تخصيص بعد تعميم، فإن سفك الدماء من الفساد، لكن خصص لعظيم مفسدته، فإن القتل من أكبر الكبائر.
• وهذا فيه دليل على أن الملائكة لا تعلم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله كما قال تعالى (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).
• قال ابن كثير: قول الملائكة ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك.
• فإن قيل: كيف عرفت الملائكة أنه سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء:
قيل: لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد.
وقيل: إن الله أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
• قال القرطبي: قوله تعالى (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا) قد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعْلِمت ولا تَسبِق القول، وذلك عام في جميع الملائكة؛ لأن قوله (لَا يَسْبِقُونَهُ بالقول) خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا)؟
فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد؛ إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمّموا الحكم على الجميع بالمعصية؛ فبيّن الربّ تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييباً لقلوبهم (إني أَعْلَمُ) وحقّق ذلك بأن علّم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه.
وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء، وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورؤوس الجبال، فمن حينئذ دخلته العِزّة.
وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقاً أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً) أهو الذي أعلمهم أم غيره، وهذا قول حَسَن، والقول الأوّل أيضاً حسن جداً؛ لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء؛ وما بين القولين حسن، فتأمّله. (تفسير القرطبي).
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) التسبيح: تنزيه الله عن العيوب والنقائص، وبحمدك: أي تسبيحاً مصحوباً بحمدك، فتكون الجملة متضمنة لتنزيه الله عن النقص، وإثبات الكمال لله بالحمد.
• واختلف في تسبيح الملائكة: فقيل: تسبيحهم صلاتهم، وقيل: تسبيحهم رفع الصوت بالذكر، وقيل: تسبيحهم سبحان الله على عُرفه في اللغة وهذا هو الصحيح، لما رواه أبو ذَرّ. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: " ما اصطفى الله لملائكته (أو لعباده) سبحان الله وبحمده) أخرجه مسلم.
…
(وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي: نطهرك من كل عيب، فقال الله لهم:
(قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) أي: أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار.
• قال الشوكاني: قوله تعالى (قال إني أعلم ما لا تعلمون) ولم يذكر متعلق (تعلمون) ليفيد التعميم ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصر.
• وقال القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر بعض هذه الوجوه: قلت: ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون وما هو كائن فهو عام.
الفوائد:
1 -
إثبات القول لله تعالى لقوله تعالى (وإذ قال ربك .. ).
2 -
إثبات الملائكة. والملائكة عالم غيبي خلقهم الله من نور، وظيفتهم عبادة الله تعالى.
فالإيمان بهم من أركان الإيمان.
قال صلى الله عليه وسلم في بيان أركان الإيمان (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) متفق عليه.
خلقهم الله من نور.
كما قال صلى الله عليه وسلم (خلقت الملائكة من نور) رواه مسلم.
يعبدون الله لا يملون.
كما قال تعالى (يسبحون الليل والنهار لا يفترون). ومعنى لا يفترون: لا يضعفون.
وقال تعالى (فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون).
عددهم كثير لا يعلم عددهم إلا الله.
كما قال تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو).
وقال صلى الله عليه وسلم في البيت المعمور في السماء السابعة (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليهم) رواه مسلم.
ونعرف أسماء بعضهم.
إسرافيل (الذي ينفخ في الصور) وجبريل (هو الذي يأتي بالوحي) وميكائيل (هو الذي موكل بالقطر).
وهؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل فيقول (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) رواه مسلم.
ومالك (خازن النار).
قال تعالى (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون).
رضوان.
قال ابن كثير: وخازن الجنة ملك يقال له رضوان، جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث.
3 -
فيه أن خلق الملائكة سابق على خلق آدم أبي البشر.
4 -
فيه دليل على أن الملائكة لا تعلم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله كما قال تعالى (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).
5 -
تحريم الإفساد في الأرض بأنواع المعاصي.
6 -
أن القتل من أكبر الكبائر.
7 -
فيه عظم عبادة الملائكة لربها، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا ملك ساجد أو راكع).
8 -
فيه فضل تسبيح الله وحمده.
قال صلى الله عليه وسلم (أفضل الكلام ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس). رواه مسلم
9 -
فيه عموم علم الله، وأنه سبحانه يعلم المستقبل كيف يكون [وقد سبقت مباحث العلم].
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)).
[البقرة: 31 - 33].
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) في المقام أراد الله أن يبين فضل آدم فقال (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) اختلف العلماء في المراد في هذه الأسماء التي علمها الله آدم:
فقيل: علمه أسماء الملائكة وذريته، ورجح هذا ابن جرير الطبري رحمه الله.
لأنه قال (ثم عرضهم) وهذه عبارة من يعقل.
وقيل: علمه أسماء كل شيء ذواتها وصفاتها وأفعالها أسماء الملائكة وأسماء النبيين وأسماء ذرية آدم وأسماء البحار والأشجار والأحجار والأواني، واختار هذا القول ابن كثير رحمه الله.
…
لعموم قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها).
ولحديث الشفاعة الطويل لما يأتون الناس إليه (
…
فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، وعلمك أسماء كل شيء).
• فيه دليل على فضل آدم عليه السلام، ولآدم فضائل:
أنه أبو البشر - خلقه الله بيده - علمه الله أسماء كل شيء - أن الله نفخ فيه من روحه - وأسجد له الملائكة.
فقد جاء في حديث الشفاعة الطويل لما يأتون الناس إليه (
…
فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء)، وقال تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي).
• وفيه أن الإنسان يشرف بالعلم.
• قال الرازي: هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) أي: عرض المسميات (أي الأشياء التي علم آدم أسماءها).
(فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قال ابن جرير: معنى ذلك: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) من غيرنا، أم منّا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته، وأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وإن جُعلتم فيها أطعتموني، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعلمه غيركم بتعليمي إياه، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد، وبما هو مستتر من الأمور التي هي موجودة عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (إن كنتم صادقين) إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم (ونحن نسبح .. ) الخ تعريضاً بأنهم أحقاء بذلك، أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) كان قولهم (ونحن نسبح بحمدك) لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه.
(قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) أقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته، وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم، وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.
• قوله تعالى (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) فيه أدب من الآداب، وهو أن الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلمه: أن يقول: الله أعلم.
قال القرطبي: الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم، ولا أدري، اقتداء بالملائكة والنبيين والفضلاء من العلماء.
قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم).
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ فقال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فسأل جبريل: فقال: لا أدري.
…
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بكل شيء، السر وأخفى (وسبقت مباحث علم الله).
(الْحَكِيمُ) اسم من أسماء الله متضمن لصفة الحكمة الكاملة لله تعالى، فأوامره وأحكامه وأفعاله كلها لحكمة.
قال ابن جرير: هو الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.
وقال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله.
قال ابن القيم: وقد دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنة: أنه سبحانه (حكيم) لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل كما فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل.
وقال السعدي: فالا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه، والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.
• فهو سبحانه حكيم في صنعه، وحكيم في شرعه، فجميع مصنوعاته كلها محكمة، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وأما في الشرع فيقول سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فلا يمكن أن يوجد تناقض في القرآن أبداً.
قال بعض العلماء: الحكمة تكون في صورة الشيء: أي أن خلق الإنسان على هذه الصورة لحكمة، وكذلك خلق الحيوان على هذه الصورة لحكمة.
وتكون في غايته: أي: أن الغاية من خلق الإنسان لحكمة، وكذلك الحيوانات، وكذلك جميع المخلوقات، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).
• الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:
أولاً: أن الله خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة وهي عبادته سبحانه حيث قال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).
ثانياً: أن خلق الله محكم لا خلل فيه ولا قصور، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).
ثالثاً: ونستفيد من معرفتنا أن الله حكيم في كل أفعاله: اقتناع الإنسان بما يجري عليه وما يوجبه الله عليه، لأن ما يجريه الله -
عز وجل من الأحكام مقرون بالحكمة، فإذا علمت هذا يقينياً اقتنعت سواء كان هذا من الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية، حتى المصائب التي تنال العباد لاشك أن لها حكمة.
رابعاً: الرضا بالقضاء والقدر.
(قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) أي أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة فعجزوا عنها.
(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) تبين للملائكة فضل آدم عليهم.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم.
(وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) اختلف العلماء ما الذي أبدوه وما الذي كتموه.
فقيل: الذي أبدوه قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) والذي كتموه: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر واختار هذا ابن جرير.
وقيل: الذي أبدوه قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، والذي كتموه هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم.
قوله تعالى (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فيه عموم علم الله تبارك وتعالى وأنه يعلم السر والعلن، والظاهر والخفي.
كما قال تعالى (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
الفوائد:
1 -
فضل آدم عليه الصلاة والسلام.
2 -
أن الإنسان يشرف بالعلم.
3 -
فضل العلم، ووجه ذلك: أنه سبحانه لما أراد إظهار تفضيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عليهم بالعلم، فعلمه الأسماء كلها، فدل على أن العلم أشرف ما في الإنسان، وأن فضله وشرفه إنما هو بالعلم
4 -
فيه أن كل نعمة وفضل في الإنسان فهي من الله، فيجب الاعتراف بذلك والتواضع.
5 -
الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم، ولا أدري.
6 -
وجوب تنزيه الله عن كل نقص.
7 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العليم، والحكيم.
8 -
ويتفرع على ذلك عدم الاعتراض على أوامر الله وحدوده، لأن كل شيء يفعله لحكمه.
9 -
عموم علم الله لكل شيء.
10 -
وجوب الخوف من الله ومراقبته، لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِر (34)).
[البقرة: 34].
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم.
وقال الآلوسي: وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام.
(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) أي سجدوا جميعاً غير إبليس.
(أَبَى) امتنع.
(وَاسْتَكْبَرَ) تعاظم.
(وَكَانَ مِنَ الْكَافِر) أي: وصار من الكافرين.
• قوله تعالى (وَكَانَ مِنَ الكافرين) قيل: كان هنا بمعنى صار؛ ومنه قوله تعالى (فَكَانَ مِنَ المغرقين).
وقال جمهور المتأوّلين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر؛ لأن الكافر حقيقةً والمؤمنَ حقيقةً هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
قلت: وهذا صحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري (إنما الأعمال بالخواتيم).
وقيل: إن إبليس عبد اللَّه تعالى ثمانين ألف سنة، وأُعْطي الرياسة والخِزانة في الجنة على الاستدراج؛ كما أعْطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أُعْطي بَلْعَام الاسم الأعظم على طرف لسانه؛ فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن.
• الكفر لغة: الستر، ومنه سمي الزارع كافراً، لأنه يستر البذر ويغطيه ويدفنه في الأرض، وسمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء، وسميت الكفارة بذلك لأنها تستر الذنب، وسمي الشخص كافراً لأنه يستر نعمة الله عليه، والكفر بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: كفر استكبار وعناد وإصرار، ومنه كفر إبليس، فهو كفر استكبار كما قال الله (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
والثاني: كفر جحود وتكذيب وإنكار، كما قال تعالى (وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ)، ومنه كفر قريش حيث قالوا فيما حكى الله عنهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).
ويطلق الكفر على المعصية: كما قال صلى الله عليه وسلم في النساء (تكفرن العشير) وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) رواه مسلم.
• قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ) اختلف العلماء ما المراد بالملائكة:
فقيل: ملائكة الأرض فقط.
وقيل: ملائكة الأرض والسماء.
ونسبه الرازي للأكثر.
ورجحه ابن كثير، لقوله تعالى (فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).
• قال القاسمي: اخلتفوا في الملائكة الذين أمروا بالسجود، فقيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض.
قال تقي الدين ابن تيمية: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وقيل: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، وهذا قول العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة. (تفسير القاسمي).
• وقال ابن تيمية: ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، لأنه سبحانه قال (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) وهذا تأكيد للعموم. (مجموع الفتاوي).
• قوله تعالى (اسْجُدُوا لِآدَمَ .. ) اختلف ما المراد بالسجود:
فقيل: المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء.
قال الرازي مضعفاً هذا القول:
…
فضعيف أيضاً؛ لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على
الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير.
وقيل: كان قبلة والسجدة لله.
وقيل: السجود لآدم إكراماً واحتراماً، وهي طاعة لله لأنها امتثال لأمر الله تعالى.
وهذا القول هو الراجح، فهذا السجود تعظيم لله لأنه امتثال أمره لا عبادة آدم، ولا سجود إلا بأمر الله، والأمر إن كان ممتثلاً به أمر الله فالمطاع فيه الله، ونظيره أن ملَك الموت يقال له: اقبض روح محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، فأي جريمة في الدنيا أعظم من قتل النبي صلى الله عليه وسلم ونزع روحه، وقتل الأنبياء والأولياء؟ لكن ملك الموت مأمور من الله، فهو مطيع في ذلك الفعل، لأنه إنما فعله بأمر الله.
• هذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم كما قال تعالى في الحجر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ).
• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لآدَمَ) لم يبين هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق آدم أَو بعد خلقه؟ وقد صرح في سورة الحجر وص؛ بأنه قال لهم ذلك قبل خلق آدم، فقال في الحجر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)، وقال في سورة ص (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ).
• إبليس سمي بذلك لأنه أبلَسَ من رحمة الله: أي أيس منها يأساً لا رجاء بعده.
• قوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
…
) لم يبين سبب رفض واستكبار إبليس عن السجود لكنه بينه تعالى في آيات أخرى كقوله تعالى (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أنا خير).
وهذا قياس فاسد لأمور:
أولاً: أنه في مقابلة النص، وأي قياس في مقابلة النص فاسد الاعتبار.
ثانياً: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار، لأن طبيعتها الطيش والإفساد والتفريق، وطبيعته الرزانة والإصلاح.
ثالثاً: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين، فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم، لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع.
• قوله تعالى: (فسجدوا إلا إبليس) استدل بها بعض العلماء على أن إبليس من الملائكة، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول: أن إبليس ليس من الملائكة بل هو من الجن.
أ- للآية التي في سورة الكهف (إلا إبليس كان من الجن) والجن غير الملائكة، وهذا نص قرآني صريح في محل النزاع.
ب- ولأن الملائكة معصومين من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس كما قال تعالى عنهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
ج- ولقوله صلى الله عليه وسلم (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار) رواه مسلم.
د- أن إبليس له نسل وذرية قال الله تعالى (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو).
وقالوا إن استثناء الله إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم، وإنما استثناه منهم، لأنه كان مأموراً بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.
القول الثاني: أنه أصله كان من الملائكة. ونسب هذا القول القرطبي لجمهور العلماء.
قال القاسمي: قاله ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، واختاره الشيخ موفق الدين، والشيخ أبو الحسن الأشعري، وأئمة المالكية، وابن جرير الطبري. قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين.
لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم. قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فلولا أنه من الملائكة، لمَا توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزي والنكال.
وقالوا: فإخراجه بالاستثناء منهم دليل على أنه منهم.
• قال الماوردي: وعلى قول من يقول: إن إبليس كان من الملائكة، فاختلفوا في قوله تعالى (إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ) لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم، على أربعة أقاويل:
أحدها: أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنّاً كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهاداً، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه جعل من الجنِّ، لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ، فاشتق اسمه منها، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث: أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه، وهذا قول ابن زيدٍ.
والرابع: أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر، حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جناً لاستتارهم، وهذا قول أبي إسحاق.
الفوائد:
1 -
إثبات القول لله.
2 -
بيان فضل آدم على الملائكة، حيت أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له، ولآدم فضائل:
أنه أبو البشر - خلقه الله بيده - علمه الله أسماء كل شيء - أن الله نفخ فيه من روحه - وأسجد له الملائكة.
3 -
أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة، لأن الله تعالى يحكم بما شاء، ويدل على أن المحرم إذا كان بأمر الله كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله.
4 -
أن ترك السجود لله كفر بالله.
5 -
أن الأمر يقتضي الوجوب إذا لم يوجد قرينة، وجه الدلالة: أن الله قال للملائكة (اسجدوا) فلما امتنع إبليس وبّخه وحكم عليه بالعصيان وقال (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ). ومما يدل على أن الأمر للوجوب قوله تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
6 -
الحذر من الرجس والسريرة الخبيثة، لأن إبليس غلبه ما في قلبه من الرجس والسريرة الخبيثة حتى استكبر وأبى.
7 -
طاعة الملائكة لربها.
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)).
[البقرة: 35 - 36].
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) يقول تعالى إخباراً عما أكرم به آدم، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له (فسجدوا إلا إبليس) إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها حيث يشاء.
وسبق معنى الجنة في اللغة، وفي الاصطلاح، والمراد هنا جنة الخلد.
• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ
…
) عطف على (وقلنا للملائكة اسجدوا) أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة، ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به.
• قال الرازي: قوله (وزوجك) أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك وأنها مخلوقة منه كما قال الله تعالى في سورة النساء (الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وفي الأعراف (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت).
• قال القرطبي: قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عَوْجاء؛ لأنها خُلقت من أعوج وهو الضّلع.
• قال ابن كثير: أَمَرَ اللَّهُ آدَمَ عليه السلام أَنْ يَسْكُنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). وقال في الأعراف (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) وَقَالَ تَعَالَى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) وسياق هذه الآيات يقتضي أن خلق حواء كان قبل دخول آدم الجنة؛ لقوله (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذا قد صرح به ابن إسحاق، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ (البداية والنهاية).
• اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم هل هي جنة الخلد أم لا على قولين:
القول الأول: أنها ليست جنة الخلد، وإنما جنة في الأرض. واستدلوا:
قالوا: إن جنة الخلد يكون دخولها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها.
وقالوا: وصف الله الجنة بأنها (دار المقامة) فمن دخلها أقام بها، ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها.
وقالوا: إن جنة الخلد دار سلامة مطلقة، لا دار ابتلاء وامتحان، وقد ابتلي فيها آدم بأعظم الابتلاء.
وقالوا: ولو كان آدم أسكن جنة الخلد، فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس المذموم حتى فتن فيها آدم.
القول الثاني: أنها جنة الخلد. واستدلوا:
بقوله تعالى (اهبطوا) والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل.
وقالوا: إن الله وصفها بصفات لا تكون إلا في جنات الخلد فقال (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) وهذا لا يكون في الدنيا أصلاً.
وجاء في الصحيحين في حديث احتجاج آدم وموسى، (قال موسى لآدم: أخرجتنا ونفسك من الجنة) ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين، فلم يخرجوا من الجنة.
وهذا القول هو الصحيح.
• قال القرطبي: ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخُلْد وإنما كان في جنة بأرض عَدَن.
واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن اللَّه يقول (لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) وقال (لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً) وقال (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً)، وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله:(وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ)، وأيضاً فإن جنة الخُلْد هي دار القُدْس، قُدّست عن الخطايا والمعاصي تطهيراً لها، وقد لَغَا فيها إبليس وكَذَب،
وأُخْرِج منها آدم وحواء بمعصيتهما.
قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخُلْد وهو في دار الخُلْد والمُلْك الذي لا يبلَى؟ فالجواب: أن الله تعالى عَرّف الجنة بالألف واللام؛ ومن قال: أسأل الله الجنة؛ لم يُفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد.
ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم؛ وقد لَقِي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيتَ ذُرّيتك وأخرجتهم من الجنة؛ فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لردّ على موسى؛ فلما سكت آدم على ما قَرّره موسى صحّ أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أُخرجوا إليه.
وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قُضي عليه بالفناء.
وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها جنة الخلد حقاً. (تفسير القرطبي).
(وَكُلا مِنْهَا رَغَداً) أي هنيئاً واسعاً طيباً.
(حَيْثُ شِئْتُمَا) أي: من أيّ مكان من الجنة أردتما وفي أي زمان.
(وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي فلا تأكلا منها كما قال تعالى (فدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ).
• قال في التسهيل (وَلَا تَقْرَبَا) النهيُ عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدّاً للذريعة، فهذا أصل في سدّ الذرائع.
• قال القاسمي: قوله تعالى (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي: هذه الحاضرة من الشجر، أي: لا تأكلا منها، وإنما علق النهي بالقربان منها، مبالغة في تحريم الأكل، ووجوب الاجتناب عنه، لأن القرب من الشيء مقتضى الألفة. والألفة: داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصمّ. فلا يرى قبيحاً، ولا يسمع نهياً، فيقع. والسبب الداعي إلى الشر منهيّ عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به. وعلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان) لما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك مفضٍ لارتكابه، فصار النظر مبدأ الزنا. وعلى هذا قوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)، (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
• قوله تعالى (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) اختلف العلماء بالمراد بهذه الشجرة:
فقيل: هي شجرة الكرم.
وقيل: السنبلة.
وقيل: شجرة التين، وقيل: غير ذلك.
والراجح ما رجحه ابن جرير من عدم تعيين ذلك حيث قال: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة.
• وقال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعيين ما يَعْضُده خبرٌ؛ وإنما الصواب أن يُعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها.
• فإن قيل: ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟
فالجواب: أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد.
وقال أبو العالية: كان لها ثقل من بين أشجار الجنة، فلما أكل منها: قيل أخرج إلى الدار التي تصلح لما يكون منك (زاد المسير).
(فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله، بمخالفة أمره.
• قال الرازي: قوله تعالى (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) قال بعض العلماء هذا النهي نهي تحريم ويدل عليه أمور:
أحدها: أن قوله تعالى (وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة) كقوله (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ) وقوله (وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ) فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول.
وثانيها: أنه قال (فَتَكُونَا مِنَ الظالمين) معناه: إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا).
وثالثها: أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه (تفسير الرازي).
• هل كان آدم ناسياً عند ما أكل من الشجرة؟
قيل: كان ناسياً.
لقوله تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
ويضعف هذا القول قوله تعالى (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).
وقيل: إنه كان عامداً وأنه طمع في جنة الخلد كما في قول إبليس له (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى). والله أعلم.
• ورجح القرطبي الأول، وقال: قلت: وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حَتْماً وجَزْماً فقال (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)، ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقّظ لكثرة معارفهم وعُلُوّ منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكّر النّهي تضييعاً صار به عاصياً؛ أي مخالفاً.
• قال في التسهيل: اختلفوا في أكل آدم الشجرة:
فالأظهر أنه كان على وجه النسيان، لقوله تعالى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).
وقيل: سكر من خمر الجنة فحينئذٍ أكل منها، وهذا باطل؛ لأن خمر الجنة لا تسكر.
وقيل: أكل عمداً وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر.
وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها.
وقيل: لما حلف له إبليس صدقه؛ لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذباً.
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ) أي استزلهما، وأوقعهما في الزلل وهو الخطأ.
• قوله تعالى (عَنْهَا) قيل المراد (عن الجنة) ويكون المعنى: نحاهما الشيطان عن الجنة، وقيل:(عن الشجرة) ويكون المعنى: أزلهما الشيطان بسببها، أي بسبب أكلهما منها.
• قال في التسهيل: (عَنْهَا) الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا.
• وقد بين تعالى في موضع آخر كيف أزلهما وذلك بالقسم والإغواء.
كما قال تعالى (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى).
وقال تعالى (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
وقال تعالى عنه (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).
• قال القرطبي: ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولّي إغواء آدم؛ واختلف في الكيفية: فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة؛ ودليل ذلك قوله تعالى (وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين) والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
• الحذر من مكايد الشيطان، فإنه كاد للأبوين بالأيمان الكاذبة أنه ناصح لهما وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة.
ومن مكايده: التخويف بالفقر، وتخويفه للمؤمنين من أوليائه فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر كما قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) وقال تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَه) المعنى: يخوفكم بأوليائه.
• قال ابن عاشور: وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) وقوله هنا (بعضكم لبعض عدو).
وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر.
•
كيف وسوس إبليس لهما؟.
قيل: أنه دخل في فم الحية.
وقيل: أنه مُنع من دخولها مكرماً، أما على وجه الإهانة فلا يمتنع.
وقيل: أنه وسوس لهما وهو بالأرض.
وقيل: أنه وسوس إلى آدم وهو خارج باب الجنة. والله أعلم بالصواب.
• شاركت حواء بالأكل كما قال تعالى (فأكلا منها).
(فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أي من نعيم الجنة من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.
(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) هذا الخطاب لآدم وحواء وإبليس، وهذه العداوة بين آدم وذريته وبين الشيطان، كما قال تعالى (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً).
وأما ما ورد في قوله بالتثنية (اهبطا منها) قيل المراد آدم وحواء، وقيل: آدم وإبليس وحواء تبع لآدم وهذا الصحيح.
• قال الرازي: اعلم أن في هذه الآيات تحذيراً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه:
أحدها: أن من تصور ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي.
وثانيها: التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص.
وثالثها: أنه سبحانه وتعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وإبليس، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر.
• فإن قيل ما الحكمة من إهباط آدم من الجنة؟ ذكر ابن القيم رحمه الله عدة حكم:
فقال: ليعود إليها على أحسن أحواله، فأراد سبحانه أن سيذيقه وولده من نصب الدنيا وغمومها وهمومها ما يُعظّم به عندهم مقدار دخولهم إليها في الدار، فإن الضد يظهر حسنه الضد، ولو تربوا في دار النعيم لم يعرفوا قدرها.
وأيضاً، فإنه سبحانه أراد أن يتخذ منهم أنبياء ورسلاً وأولياء وشهداء يحبهم ويحبونه، فخلّى بينهم وبين أعدائه، وامتحنهم بهم، فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته ومحابه، نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن ليُنال بدون ذلك أصلاً،
فدرجة الرسالة والنبوة والشهادة والحب فيه والبغض فيه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه عنده من أفضل الدرجات، ولم يكن يُنال هذا إلا على الوجه الذي قدّره وقضاه من إهباطه إلى الأرض.
وأيضاً، فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى، فمن أسمائه: الغفور، والرحيم، والحليم، والخافض، الرافع .. ولابد من ظهور آثار هذه الأسماء، فاقتضت حكمته سبحانه أن ينزل آدم وذريته دار يظهر عليهم فيها أثر أسمائه الحسنى، فيغفر لمن يشاء، ويرحم من يشاء، ويخفض من يشاء، ويرفع من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
وأيضاً، فإنه سبحانه الملِك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى، ويثيب ويُعاقب، ويهين ويكرم، ويعز ويذل، فاقتضى ملكه سبحانه أن ينزِل آدم وذريته داراً تجري عليهم فيها أحكام الملك، ثم ينقلهم إلى دار يُتم عليهم فيها ذلك.
وأيضاً، فإنه - سبحانه - أنزلهم إلى دار يكون إيمانهم فيها بالغيب هو الإيمان النافع، وأما الإيمان بالشهادة فكل أحد يؤمن يوم القيامة، يوم لا ينفع نفساً إلا إيمانها في الدنيا، فلو خلقوا في دار النعيم لم ينالوا درجة الإيمان بالغيب، واللذة والكرامة الحاصلة بذلك لا تحصل بدونه.
وأيضاً، فإنه سبحانه لما كان يحب الصابرين، ويحب المحسنين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الشاكرين، وكانت محبته أعلى أنواع الكرامات، اقتضت حكمته أن أسكن آدم وبنيه داراً يأتون فيها بهذه الصفات التي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فكان إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عليهم.
وأيضاً، فإنه سبحانه جعل عبوديته أفضل درجاتهم - وذكر نبيه باسم العبودية في أعلى الدرجات - اقتضت حكمته أن أسكن آدم وذريته داراً ينالون فيها هذه الدرجة بكمال طاعتهم لله، وتقربهم إليه بمحابه، وترك مألوفاتهم من أجله.
وأيضاً: فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته، ومعلوم أن كمال العبودية المطلوب من الخلق لا يحصل بدار النعيم والبقاء، إنما يحصل في دار المحنة والابتلاء، وأما دار البقاء فدار لذة ونعيم، لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف. [مفتاح دار السعادة].
(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي لكم في الأرض موضع استقرار بالإقامة فيها.
• قال الرازي: الأكثرون حملوا قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ) على المكان، والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت.
(وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) أي تمتع بنعيمها إلى وقت انقضاء آجالكم وهو الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا.
وقيل: إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور.
• فإن الله كتب الموت على كل نفس:
قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وقال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ).
الفوائد:
1 -
إثبات القول لله تعالى.
2 -
أن الجنة موجودة.
3 -
حكمة الله في نهيهما عن الأكل من هذه الشجرة.
4 -
أن الله قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء يحبه.
5 -
أن معصية الله ظلم للنفس.
4 -
إثبات عداوة الشيطان وأنه سبب كل شر، كما قال تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال تعالى (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
5 -
إثبات عداوة الشيطان لنا، فإنه هو الذي أخرج الأبوين من الجنة.
6 -
إثبات علو الله لقوله (اهبطوا) والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل.
7 -
يجب أن نتخذ الشيطان عدواً لنا، فنحذر من خطواته وتزيينه ومكره وخداعه.
8 -
أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا لقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومتاع إلى حين).
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)).
[البقرة: 37].
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) أي استقبل آدم دعوات من ربه وألهمه إياها فدعاه بها فتاب عليه.
• وهذه الكلمات هي المفسرة بقوله تعالى (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
• قال السعدي (فَتَلَقَّى آدَمُ) أي: تلقف وتلقن، وألهمه الله (مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) وهي قوله (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته (فَتَابَ) الله (عَلَيْهِ) ورحمه.
(فَتَابَ عَلَيْهِ) أي رزقه التوبة من خطيئته.
• قال القرطبي: إن قيل: لم قال (عليه) ولم يقل عليهما، وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع، وقد قال (وَلَا تَقْرَبَا هذه الشجرة) و (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا) فالجواب:
أولاً: أن آدم عليه السلام لما خوطب في أوّل القصة بقوله (اسكن) خصّه بالذكر في التلقّي؛ فلذلك كملت القصة بذكره وحده.
وثانياً: فلأن المرأة حُرمة ومستورة فأراد الله السّتر لها؛ ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله (وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى)
وثالثاً: لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تُذكر؛ كما لم يذكر فَتَى موسى مع موسى في قوله (أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ).
• وقال الماوردي: فإن قيل: فِلمَ قال: (فَتَابَ عَلَيْهِ)، ولم يقُلْ:(فتابَ علَيْهِما) والتوبة قد توجهت إليهما؟
قيل: عنه جوابان:
أحدهما: لما ذكر آدم وحده بقوله: (فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)، ذكر بعده قبول توبته، ولم يذكر توبة حوَّاء - وإن كانت مقبولة التوبة - لأنه لم يتقدم ذكرها.
والثاني: أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً، جاز أن يذكرَ أحدهما، ويكونَ المعنى لهما، كما قال تعالى (وَإذَا رَأَوا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا)، وكما قال عز وجل (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ).
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) اسم من أسماء الله، والتواب صيغة مبالغة لكثرة توبته وكثرة من يتوب عليهم.
معناه: التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه.
• قال السعدي: هو التائب على التائبين أولاً: بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب على التائبين بعد توبتهم قبولاً لها وعفواً عن خطاياهم.
• ووصف نفسه سبحانه بالتواب - وهي صيغة مبالغة - لكثرة من يتوب عليهم، ولكثرة توبته على العبد
•
وتوبة الله على العبد نوعان:
أحدهما: توفيق الله للعبد للتوبة، كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) بمعنى وفقهم للتوبة ليتوبوا.
الثاني: قبولها من العبد إذا تاب، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). [قاله الشيخ ابن عثيمين].
•
أثر الإيمان بهذا الاسم:
أولاً: أن الله يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، مهما كثرت وعظمت.
قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).
ثانياً: إفراد الله بالتوبة وطلب العفو وغفران الذنوب، لأنه لا يغفر الذنوب ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا الله وحده كما قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).
ثالثاً: الحياء من الله، البر الرحيم التواب الغفور، الذي يفرح بتوبة عبده، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيماً لله وحياء منه، ومبادرة إلى طاعته وترك معاصيه قدر الجهد والاستطاعة.
رابعاً: عدم اليأس من رحمة الله، والقوة في رجائه.
(الرَّحِيمُ) اسم من أسماء الله دال على إثبات صفة الرحمة الواسعة لله تعالى، كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان:
الأول: رحمة ذاتية موصوف بها سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه، يجب إثباتها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).
الثاني: رحمة مخلوقة أنزل الله منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم، ومن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل قال عن الجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء
…
) وهذه الرحمة ليست صفة لله تعالى، بل هي من أثر رحمته التي هي صفته الذاتية الفعلية.
•
ورحمة الله تعالى لعباده نوعان:
الأولى: رحمة عامة.
وهي لجميع الخلائق بإيجادهم، وتربيتهم، ورزقهم، وإمدادهم بالنعم والعطايا، وتصحيح أبدانهم، وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم، ومساكنهم، ولباسهم، وحركاتهم، وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى
الثانية: رحمة خاصة.
وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين فيرحمهم الله في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم، ويثبتهم عليه، ويدافع عنهم وينصرهم على الكافرين ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيها، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب، ويغفر لهم ذنوبهم، ويكفرها بالمصائب، ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخول الجنة، كما قال تعالى (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).
قال الشيخ ابن عثيمين: فهي رحمة إيمانية دينية دنيوية.
• ومن أعظم آثار رحمة الله تعالى إرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للناس وإخراجاً لهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وقال تعالى (ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
• ومن رحمته: سبحانه مغفرته لذنوب عباده بالصفح عنهم، وتكفير سيئاتهم، وفتح باب التوب لهم، كما قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
• ينبغي على العبد أن يتصف بصفة الرحمة، فقد مدح بها أشرف رسله فقال (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم (نبي الرحمة) ومدح الصحابة بقوله (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وخص أبو بكر من بينهم بقوله (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر).
•
الآثار المرتبة على معرفتنا بهذا الاسم:
أولاً: محبة الله المحبة العظيمة، وذلك حينما يفكر العبد وينظر في آثار رحمة الله في الآفاق وفي النفس والتي لا تعد ولا تحصى، وهذا يثمر تجريد المحبة لله والعبودية الصادقة له سبحانه وتقديم محبته على النفس والأهل والمال والناس جميعاً.
ثانياً: عبودية الرجاء والتعلق برحمة الله وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، فإن الله قد وسعت رحمته كل شيء، وحسن الظن بالله وانتظار الفرج بعد الشدة من أجل العبادات.
ثالثاً: اتصاف العبد بالرحمة وبذلها لعباد الله تبارك وتعالى، وقد حض الله عباده على التخلق بها، ومدح بها أشرف رسله فقال (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي الرحمة، ومدح الصحابة بقوله (رحماء بينهم) وخُص أبو بكر بينهم بالكمال البشري في الرحمة بعد الرسل حيث قال صلى الله عليه وسلم فيه (أرحم أمتي أبو بكر) رواه أحمد.
رابعاً: التعرض لرحمة الله بفعل أسبابها.
• وإذا كان الله رحيماً فينبغي أن يعمل ب
الأسباب التي تنال بها الرحمة:
أولاً: رحمة الناس.
قال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله).
ثانياً: الإحسان.
قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
ثالثاً: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
-.
قال تعالى (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
رابعاً: السماحة في البيع والشراء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). رواه البخاري.
خامساً: عيادة المريض.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً خاض في الرحمة).
سادساً: قيام الليل وإيقاظ الأهل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وايقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء) رواه أبو داود.
سابعاً: الحلق في النسك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم ارحم المحلقين ثلاثاً) متفق عليه.
ثامناً: مجالس الذكر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة) رواه مسلم.
تاسعاً: الجلوس في المسجد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة تستغر للمصلي مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) متفق عليه.
عاشراً: سماع حديث الرسول وتبليغه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) رواه ابن حبان.
الحادي عشر: الإنصات للقرآن.
قال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
الثاني عشر: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
قال تعالى (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
الثالث عشر: الاستغفار.
قال تعالى (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
•
والحكمة من قرن توبته برحمته:
أولاً: أن الله تعالى رحيم بعباده فلا يعاقبهم بعد التوبة.
ثانياً: أنه تعالى لا يخذل ولا يرد من جاء منهم تائباً، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وملء الأرض.
ثالثاً: أن قبوله لتوبة عباده تفضل منه عليهم، وهو مقتضى رحمته تعالى بهم.
الفوائد:
1 -
منّة الله تعالى على أبينا آدم حيث وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها توبته.
2 -
سعة رحمة الله حيث يقبل توبة التائبين.
3 -
إثبات القول لله تعالى.
4 -
إثبات هذين الاسمين الكريمين (التواب) و (الرحيم).
5 -
أن التوبة واجبة على كل أحد، وأن التائب قد يرجع بعد توبته إلى حال أحسن من قبل.
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)).
[البقرة: 38 - 39].
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان.
• قوله تعالى (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا) كرّر الأمر بالهبوط:
قيل: كرّره على جهة التغليظ وتأكيده؛ كما تقول لرجل: قُمْ قُمْ.
وقيل: كرّر الأمر لما علّق بكل أمر منهما حُكماً غيرَ حُكم الآخر؛ فعلّق بالأوّل العداوة، وبالثاني إتيان الهدى (فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله
هلك). (وهذا اقرب الأقوال والله أعلم) ورجحه ابن كثير رحمه الله.
وقيل: الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض.
ويضعف هذا الوجه قوله في الهبوط الأول (ولكم في الأرض مستقر).
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل.
• قال ابن القيم: أيَّ وقتٍ وأيَّ حين أتاكم مني هدى.
(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة.
(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من أمور الدنيا، فهم في سرور دائم، لا يعرض لهم حزن على ما فات.
كما قال في سورة طه (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
• قال ابن القيم: إن الله سبحانه جعل اتباع هداه وعهده الذي عهده إلى آدم سبباً ومقتضياً لعدم الخوف والأمن والضلال والشقاء، وهذا الجزاء ثابت بثبوت الشرط، منتف بانتفائه.
ونفي الخوف والحُزن عن متبع الهدى نفيٌ لجميع أنواع الشرور، فإن المكروه الذي ينزل بالعبد متى علِم بحصوله فهو خائف منه أن يقع به، وإذا وقع به فهو حزين على ما أصابه منه، فهو دائماً في خوف وحزن، فكل خائف حزين، وكل حزين خائف.
• قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى).
• قال السعدي: رتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن والفرق بينهما، أن المكروه إن كان قد مضى، أحدث الحزن، وإن كان منتظراً، أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه، وإذا انتفيا، حصل ضدهما، وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه، من الخوف، والحزن، والضلال، والشقاء، فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به، وكذب بآياته.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يؤمنوا بالله ولا برسوله (وسبق تعريف الكفر).
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أي: الآيات الشرعية، وهي الوحي المنزل من الله.
وآيات الله تنقسم إلى قسمين:
الآيات الكونية القدرية.
(فهي مما نشاهده مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها).
وهي ما نصبه الله (جل وعلا) ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد المستحق للعبادة، كالشمس والسماء والأرض ونحوها، وكل ما في الكون من مخلوقات الله شاهد بكمال الله وقدرته وعزته وأنه المستحق للعبادة.
قال تعالى (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لعلامات واضحة جازمة قاطعة بأن من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده.
الآيات الشرعية الدينية،
كآيات هذا القرآن العظيم. (لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله).
ومنه قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).
وسميت آيات، جمع آية، لأنها علامة على صدق من جاء بها.
الكفر بالآيات الكونية يكون بأمور: أن يجحد أن الخالق سبحانه خلقها فيدعي أن الذي خلقها غير الله، أو أن يعتقد أن له شريكاً في خلقه، أو أن له معيناً في خلقه.
والكفر بالآيات الشرعية إما بجحودها، أو بتكذيبها، أو بالاستكبار والعناد.
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.
والنار هي الدار التي أعدها الله للكافرين.
• قوله تعالى (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذا الأسلوب يطلق على الذين يخلدون فيها، فالمؤمن العاصي - وإن كان يستحق العذاب بالنار - فإنه لا يسمى من أصحاب النار، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.
(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
• وقد ذكر الله تأبيده لأهل النار في ثلاث آيات من القرآن الكريم.
في سورة النساء: قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً).
وفي سورة الأحزاب: قال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).
وفي سورة الجن: قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).
الفوائد:
1 -
إثبات علو الله.
2 -
الحكمة في إنزال آدم من الجنة.
3 -
أن الهدى من الله.
4 -
وجوب اتباع هدى الله الذي أنزله على رسله وبكتبه.
5 -
إثبات الأمن وعدم الخوف لمن اتبع هدى الله.
6 -
الخوف والحزن والقلق لكل من لم يتبع هدى الله.
7 -
أن النار دار للكفار ملازمين لها لا يخرجون منها.
8 -
إثبات الخلود المؤبد للكفار في النار.
(يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)).
[البقرة: 40 - 41].
(يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي اذكروا نعمي عليكم الكثيرة كالإنجاء من فرعون، وإغراق فرعون وقومه، وجعل منهم الأنبياء والمرسلين وغيرها.
كما قال تعالى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى).
وقال تعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).
وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ).
• قوله (نعمتي) والنعمة هنا اسم جنس، فهي مفردة بمعنى الجمع، قال الله تعالى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا) أي نِعمَه.
• قوله (اذكروا نعمتي) أي اذكروها بقلوبكم واذكروها بألسنتكم لتقوموا بشكرها.
• والضمير في (عليكم) يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعه كانت بين الآباء والأجداد.
• إسرائيل: لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.
• قال الرازي: واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه:
أحدها: أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور.
وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
وثالثها: أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.
• قال ابن عاشور: والمراد بالنعمة هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرة أو بواسطة الإنعام على أسلافهم فإن النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء لأنها سمعة لهم، وقدوة يقتدون بها، وبركة تعود عليهم منها، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها، وبعض النعم يكون فيما فطر الله عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير وتلك قد تورث في الأبناء، ولولا تلك النعم لهلك سلفهم أو لساءت حالهم فجاء أبناؤهم في شر حال.
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي أدوا ما عهد إليكم من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث.
• وهذا العهد ذكره الله في موضع آخر فقال سبحانه (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً).
(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو قوله تعالى (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي فاخشون، قال ابن كثير: وقال ابن عباس في قوله تعالى (وإياي فارهبون) أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره.
• قال ابن كثير: وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
• الرهبة: أشد الخوف.
•
والخوف ثلاثة أنواع:
الأول: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق، وهذا لا يلام عليه العبد، قال تعالى عن موسى (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ).
الثاني: خوف العبادة، أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله، وصرفه لغير الله شرك أكبر.
الثالث: خوف السر، كأن يخاف صاحب القبر، أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه، لكنه يخافه مخافة سر، فهذا ذكره العلماء من الشرك.
(وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) يعني بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل.
• قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم) يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
• قال الرازي: اعلم أن المخاطبين بقوله (وَءامِنُواْ) هم بنو إسرائيل ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه معطوف على قوله (اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كأنه قيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت.
الثاني: أن قوله تعالى: (مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ) يدل على ذلك.
•
قوله تعالى (مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ) التصديق لما معهم له معنيان:
أولاً: أنه شاهد لها بالصدق، وقد شهد القرآن أن التوراة والإنجيل كليهما من عند الله.
ثانياً: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت به.
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.
فالضمير في قوله (به) عائد إلى القرآن والمعنى: ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن وحقكم أن تؤمنوا به.
• فإن قيل: كيف قال (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) مع أن كفار قريش بمكة قد كفروا قبلهم؟
الجواب: قال ابن كثير: يعني (به) أول من كفر به من بني إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفْرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.
• اختار ابن جرير أن الضمير في قوله (به) عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، فإنهم يعتقدون أن هذه المناصب - كالرياسة والمال والجاه والمآكل - تنقطع إذا آمنوا بالله ورسوله.
• قال ابن عاشور: عطف على النهي الذي قبله وهذا النهي موجَّه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة لقومهم، والمناسبة أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو آمن بي عشرة من اليهود لآمَن بي اليهودُ كلهم.
وقال رحمه الله: ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشترِي في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته.
وقال رحمه الله: (ثمناً قليلاً) وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم.
• قال القرطبي: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول مَن فعل فعلهم.
سئل الحسن البصري عن قوله تعالى (ثَمَناً قَلِيلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.
• فالثمن القليل: يشمل المال والمنصب والجاه والشهرة والرفعة، فإن أحبار اليهود لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لذهبت عنهم بعض ما هم فيه من المكانة والمنزلة والرفعة.
وقد صدق من قال من السلف: من أحب أن يعرف ذهب دينه.
قال الحسن رحمه الله: عقوبة العالم موت القلب، قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة (جامع بيان العلم وفضله).
قال محمد بن عمر الأسلمي - توفي سنة (207 هـ) رحمه الله: لقد كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان، فيقول أحدهما لصاحبه: لأنت أفلس من القاضي، فصار القضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكاً وأصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال! (الطبقات الكبرى).
قال يوسف بن زكريا رحمه الله: كان محمد بن يوسف، لا يشتري من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن أعيش بديني؟ (حلية الأولياء).
جلس الحسن رحمه الله يُحَدّث فأُهدِيَ له فردَّه، وقال: إن من جلس هذا المجلس ثم قَبِل، فليس له عند الله خلاق، أو قال: فليس له خلاق (الزهد لأحمد).
قال وهب بن منبه - توفي سنة (114 هـ) رحمه الله: كان العلماء من قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إليها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم، فأصبح أهل العلم يبذلون لأهل الدنيا عِلمَهُم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم، لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (حلية الأولياء).
قال أبو حازم رحمه الله لا تكون عالماً حتى تكون فيك خصال: لا تبغ على من فوقك ولا تحقر من دونك ولا تأخذ على علمك دنيا. (المداراة).
قال مطرف بن عبد الله رحمه الله إن أقبحَ ما طُلبت به الدنيا عملُ الآخرة. (حلية الأولياء).
قال شميط بن عجلان رحمه الله يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها. وكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(حلية الأولياء).
قال خالد بن دُرَيك رحمه الله: خرج ابن محيريز إلى بزاز يشتري منه ثوباً والبزاز لا يعرفه قال: وعنده رجل يعرفه فقال: بكم هذا الثوب قال الرجل: بكذا وكذا فقال الرجل الذي يعرفه: أحسن إلى ابن محيريز، فقال ابن محيريز: إنما جئت أشتري بمالي ولم أجئ أشتري بديني فقام ولم يشتر. (حلية الأولياء).
قال ابن المبارك رحمه الله إنما الناس العلماء والملوك والزهاد، والسفلة الذين يأكلون بدينهم أموال الناس بالباطل ثم قرأ (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل).
قال (يأكلون الدنيا بالدين، قال: فبكى فضيل بن عياض بكاءاً شديداً ثم قال: كذب من قال: إنه لا يأكل بدينه أنا - والله - آكل بديني. (شعب الإيمان).
• وقد ذكر العلامة المعلمي أن المنزلة والجاه من موانع الهداية فقال رحمه الله بعد أن ذكر الوجه الأول:
الوجه الثاني: أن يكون قد صار له في الباطل جاه وشهرة و معيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.
(وَإِيَّايَ) أي: لا غيري.
(فَاتَّقُونِ) هذا أمر لهم بالتقوى، أي اتقون وخافون دون غيري.
• التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وقد عرفها بعضهم بقوله: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وقال ابن مسعود (اتقوا الله حق تقاته) قال: أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يُكفر.
الفوائد:
1 -
وجوب ذكر نعمة الله على العبد.
2 -
أن ذكر نعمة الله موجب للشكر والانقياد.
3 -
أن من أساليب الدعوة تذكير العبد بنعم الله عليه.
4 -
أن من وفى الله بعهد وفى الله له.
5 -
وجوب الوفاء بالعهد.
6 -
أن الجزاء من جنس العمل.
7 -
وجوب الخوف من الله لا من غيره.
8 -
يجب على كل الناس الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
9 -
ذم من قدم الدنيا على الآخرة، واختار المتاع الزائل على الآخرة الباقية.
10 -
أن من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ففيه شبه من اليهود، فمن يطلب العلم للدنيا والمنصب، ففيه شبه من اليهود، وقد قال سفيان: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
11 -
أن متاع الدنيا - مهما كثر وتنوع وعظم - فهو قليل بالنسبة للآخرة، لأنه يزول، ومنغص بالأكدار والمصائب، قال تعالى (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
12 -
وجوب تقوى الله.
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)).
[البقرة: 42 - 43].
(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ).
• قال الشنقيطي: الحق الذي لبسوه بالباطل هو إيمانهم ببعض ما في التوراة، والباطل الذي لبسوا به الحق هو كفرهم ببعض ما في التوراة وجحدهم له كصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها مما كتموه وجحدوه، وهذا بينه قوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
• قال القرطبي: اللَّبْس: الخلط، لَبَست عليه الأمر ألبِسه، إذا مزجتَ بيّنه بمُشْكله وحقَّه بباطله، قال الله تعالى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) وفي الأمر لُبْسة؛ أي ليس بواضح.
(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به.
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
• قال ابن عاشور: (وأنتم تعلمون) حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد، فمفعول (تعلمون) محذوف دل عليه ما تقدم، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لَبسكم الحق بالباطل.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي: أدوها على وجه المطلوب، بخشوعها وواجباتها وسننها.
• وفي هذا أن الصلاة موجودة في الأمم السابقة كما قال تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
(وَآتُوا الزَّكَاةَ) أي أعطوا الزكاة الواجبة عليكم لمستحقيها.
• الإيتاء: هو الإعطاء قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ).
• الزكاة: هي: قدر واجب في مال مخصوص، لطائفة أو جهة مخصوصة.
وسميت بذلك: لأنها تزكي المال، وتزكي صاحب المال، كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ)، بل وتزكي المجتمع كله، فتنتشر المحبة والوئام والإخاء.
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة.
الفوائد:
1 -
وجوب بيان الحق.
2 -
تحريم كتمان الحق أو تلبيسه.
3 -
أن كتم الحق من صفات اليهود.
4 -
الحذر من التشبه بصفات اليهود، ومن أبرزها: كتم العلم، والحسد، والبخل.
5 -
وجوب إقامة الصلاة على أكمل وجه.
6 -
أن الصلاة مشروعة في الأمم الماضية.
7 -
وجوب إيتاء الزكاة إذا توفرت شروطها.
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)).
[البقرة: 44].
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم (أي: تتركونها) فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟
قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر: اثبت على ما أنت عليه فإنه حق.
• قال الشوكاني: قوله (وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب) جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع، وأشد توبيخ، وأبلغ تبكيت: أي: كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به؟ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل، وشدّة الوعيد عليه، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه، والآيات التي تقرءونها من التوراة. والتلاوة: القراءة، وهي المراد هنا، وأصلها الإتباع؛ يقال تلوته: إذا تبعته، وسمي القارئ تالياً، والقراءة تلاوة؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه.
وقوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) استفهام للإنكار عليهم.
• قوله تعالى (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) المراد بالكتاب هنا التوراة، وهذا قول أكثر العلماء.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.
• قال الطبري: أي أفلا تفقهون وتفهمون.
• قال الرازي: قوله (أفلا تعقلون) فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) وسبب التعجب وجوه:
الأول: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل
متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال (أفلا تعقلون).
الثاني: أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سبباً لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون أنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية فيصير هذا داعياً لهم إلى التهاون بالدين والجراءة على المعصية، فإذا كان غرض الواعظ الزجر عن المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين، وذلك لا يليق بأفعال العقلاء، فلهذا قال (أفلا تعقلون).
الثالث: أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثراً في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثراً في القلوب، فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.
• قال السعدي: وسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله، خصوصاً إذا كان عالماً بذلك، قد قامت عليه الحجة.
• قوله تعالى (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي: وتتركون أنفسكم، فالنسيان هنا المراد به الترك.
والنسيان في القرآن يطلق على معنيين:
المعنى الأولى: بمعنى الترك: ومنه قوله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) نسوا الله: أي: تركوه فلم يقوموا بحقه، فنسيهم: تركهم سبحانه فلم يجبهم، ومنه قوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ) أي تركوه (فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي: جعلهم ينسونها ويغفلون عنها ويتركونها إذا لم يعطوا الله حقه، ومنه قوله تعالى (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) أي: نترككم في النار.
المعنى الثاني: الذهول عن الشيء المعلوم، ومنه قوله تعالى (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) المراد بالنسيان: الذهول عن شيء معلوم، فالله تعالى أحصاه، لكن هؤلاء نسوه، وهذا المعنى لا يوصف به الله تعالى.
• التوبيخ بالآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الأمر بالبر، فإن الأمر بالمعروف وهو واجب، ولكن الواجب والأولى أن يفعله مع أمرهم به ولا يتخلف عنهم، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء.
وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، قال ابن كثير: والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟
قال الحسن لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول مالا أفعل، قال يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول، ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
• قال الشوكاني: الهمزة في قوله (أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر) للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر، فإنه فعل حسن مندوب إليه، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله (وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُم).
• قال السعدي: وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما، لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم
بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
الفوائد:
1 -
ذم من يأمر الناس بالطاعة والبر ولا يفعل ذلك.
قال تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
عن أسامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) رواه البخاري ومسلم.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون) رواه أحمد.
2 -
توبيخ العالم المخالف لما يأمر به.
3 -
أن من أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله من هذه الأمة، ففيه شبه من اليهود.
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (45)).
[البقرة: 45].
(وَاسْتَعِينُوا) أي اطلبوا العون على أموركم الدنيوية والأخروية.
(بِالصَّبْرِ) على فعل الطاعات، وبالصبر عن المعاصي، وبالصبر على أقدار الله المؤلمة.
والصبر شرعاً: هو حبس النفس على حكم الله.
وحكم الله نوعان: أحدهما: قدري، والآخر شرعي.
وقيل: الصبر احتمال وثبات على ما لا يلائم.
• قال السعدي: أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور، ومن يتصبر يصبره الله.
فلا نجاح في الدنيا، ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر.
فلولا صبر الزارع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس على غرسه ما جنى، ولولا صبر الطالب على درسه ما تخرج، ولولا صبر المقاتل في ساح الوغى ما انتصر، وهكذا كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر.
وإذا كان هذا في أمور الدنيا، ففي أمور الآخرة أولى، وخاصة أهل الإيمان، فهم أشد الناس حاجة للصبر لأنهم يتعرضون للأذى والمحن والابتلاءات.
قال تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
وقال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
• قال ابن القيم: هو خُلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمُل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
الصبر باعتبار متعلقه أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.
…
فالصبر سلاح عظيم للحصول على كل خير في الدنيا والنجاة من كل كرب.
كما قال تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).
وقال تعالى (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).
وقال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
…
).
وصبر يوسف عليه السلام من إجابة امرأة العزيز حين دعته إلى نفسها فصبر وقال (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
• فمن فضائل الصبر أنه من أعظم المعين على أمور الدنيا والآخرة،
وللصبر فضائل كثيرة:
أولاً: معية الله للصابرين.
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
ثانياً: محبة الله لهم.
قال تعالى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
ثالثاً: إطلاق البشرى لهم.
قال تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
رابعاً: إيجاب الجزاء على أحسن أعمالهم.
قال تعالى (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
خامساً: ضمان المدد والنصرة لهم.
قال تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ).
سادساً: استحقاقهم دخول الجنة وتسليم الملائكة عليهم.
قال تعالى (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).
وقال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
سابعاً: حفظهم من كيد الأعداء.
قال تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
ثامناً: سبب للحصول على درجة الإمامة في الدين.
قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ).
قال ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. ثم تلا هذه الآية (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
تاسعاً: أنه من أسباب النصر.
كما في حديث ابن عباس (واعلم أن النصر مع الصبر).
عاشراً: أمر الله به المؤمنين.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
الحادي عشر: الصبر ضياء.
كما في حديث أبي مالك الأشعري. قال: قال صلى الله عليه وسلم (والصبر ضياء) رواه مسلم.
الثاني عشر: أنه خير ما أعطي العبد.
قال صلى الله عليه وسلم (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) رواه مسلم.
• والذي يبعث على الصبر أمور:
أحدها: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع.
الثاني: مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له.
الثالث: مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه.
الرابع: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب إذا تمادى العبد في معصيته غضب.
الخامس: مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة.
السادس: مشهد القهر والظفر، فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاقه.
(وَالصَّلاةِ) أي استعينوا بالصلاة، فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر.
كما قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
وعن حذيفة. قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر صلى) رواه أبو داود.
• قال القرطبي: خصّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكرها.
لأن العبد إذا قام بين يدي ربه يناجيه ويتلو كتابه هان عليه كل ما في الدنيا رغبة فيما عند الله ورهبة منه فيتباعد عن كل ما لا يرضي الله فيرزقه الله ويهديه.
• قال ابن القيم: والصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن، وبالجملة: فلها تأثير عجيب في حفظ الصحة والبدن وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدفِعتْ شرور الدنيا والآخرة، ولا استُجلبتْ مصالحهما بمثل الصلاة، وسر ذلك: أن الصلاة صلة بالله، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه، والعافية والصحة والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم، والأفراح والمسرات كلها محضرة لديه ومسارعة إليه.
• وقال الشنقيطي في بيان سر أن الصلاة معينة على أمور الدنيا والآخرة: لأن العبد إذا وقف بين يدي ربه، يناجي ربه ويتلو كتابه، تذكر ما عند الله من الثواب، وما لديه من العقاب، فهان في عينه كل شيء، وهانت عليه مصائب الدنيا، واستحقر لذاتها، رغبة فيما عند الله، ورهبة مما عند الله.
(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) أي وإن الصلاة لكبيرة وثقيلة وشاقة.
• قال الشوكاني: (وإنها لكبيرة) والكبيرة التي يكبر أمرها، ويتعاظم شأنها على حاملها؛ لما يجده عند تحملها، والقيام بها من المشقة.
• والضمير في قوله (وإنها لكبيرة) عائد إلى الصلاة، واختار ذلك ابن جرير، لأنها أقرب مذكور.
• وقيل عائد على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى (ولا تستوي الحسنة .. ) أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم.
• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (وإِنها) في المكنى عنها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الصلاة، قاله ابن عباس والحسن، ومجاهد والجمهور.
والثاني: أنها الكعبة والقبلة، لأنه لما ذكر الصلاة، دلت على القبلة، ذكره الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
والثالث: أنها الاستعانة، لأنه لما قال (واستعينوا) دل على الاستعانة.
وقال القرطبي قوله تعالى (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) اختلف المتأوّلون في عود الضمير من قوله (وإنها):
فقيل: على الصلاة وحدها خاصة.
وقيل: عليهما، ولكنه كَنَى عن الأغلب وهو الصلاة؛ كقوله (والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله)، وقوله (وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا) فردّ الكناية إلى الفضة؛ لأنها الأغلب والأعم، وإلى التجارة؛ لأنها الأفضل والأهم.
وقيل: إن الصبر لمّا كان داخلاً في الصلاة أعاد عليها؛ كما قال (والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ) ولم يقل: يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز.
(إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) فإنها خفيفة عليهم.
• قال السعدي: أي فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحًا بها صدره، لترقُبه للثواب وخشيته من العقاب. كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي.
قال الشوكاني: (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر، وتوفر الجزاء، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة، وراحة عندهم محضة.
ولذلك قيل: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية.
• وقال ابن القيم: وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح.
• قال ابن الجوزي: والخشوع في اللغة: التطامن والتواضع، وقيل: السكون.
• والخاشع: المنكسر الخاضع لأوامر الله الذليل المصدق بوعده ووعيده.
• قال القرطبي: والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع.
• قال السعدي: والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه، ذلا وافتقاراً، وإيماناً به وبلقائه.
• وقال ابن عاشور: والمراد بالخاشع هنا الذي ذلل نفسه وكسر سورتها وعودها أن تطمئن إلى أمر الله وتطلب حسن العواقب وأن لا تغتر بما تزينه الشهوة الحاضرة فهذا الذي كانت تلك صفته قد استعدت نفسه لقبول الخير.
•
وللخشوع فضائل:
أولاً: يسهل فعل الطاعة.
لهذه الآية (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)
ثانياً: من علامات المؤمنين المفلحين.
قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ).
ثالثاً: من صفات الأنبياء.
قال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
رابعاً: لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
قال تعالى (إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
خامساً: هو أول ما يرفع.
قال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى خاشعاً).
سادساً: عاتب الله الصحابة به.
قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ).
سابعاً: حث النبي صلى الله عليه وسلم على الخشوع.
قال صلى الله عليه وسلم (هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوكم) متفق عليه.
ثامناً: الخشوع من أسباب دخول الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
…
ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه.
تاسعاً: أثنى الله على من آمن من أهل الكتاب بخشوعه.
قال تعالى (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً).
عاشراً: الخشوع من أسباب قبول العمل.
قال صلى الله عليه وسلم (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثن صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
قال سهل: من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان.
وقال أبو يزيد المدني: إن أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع.
وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يُريَ الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ) هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون (أي: يوقنون).
• والظن هنا بمعنى اليقين، والظن يطلق على اليقين.
كما في قوله تعالى (وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً). أي فأيقنوا وكقوله تعالى (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ). وكقوله تعالى عن الجن (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً).
(أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه.
(وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات.
• قال السعدي (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
الفوائد:
1 -
إرشاد الله عباده إلى الاستعانة بهذين الأمرين: الصبر والصلاة.
2 -
فضيلة الصبر، وأنه من أسباب التوفيق، في أنواعه الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
• الصبر نوعان: اختياري واضطراري:
والاختياري أكمل من الاضطراري، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري، ولذلك كان صبر يوسف الصديق عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله في ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لمّا ألقوه في الجب، وفرقوا بينه وبين أبيه فباعوه بيع العبد.
3 -
ينبغي على الإنسان معرفة الأسباب التي تعينه على الصبر، وقد ذكرتها قبل قليل.
4 -
فضيلة الصلاة.
5 -
فضيلة الخشوع والخاشعين، وأن الطاعات ثقيلة إلا عليهم.
6 -
الحث والجد في الخشوع والخضوع لله، لأن ذلك مما يسهل الطاعات.
…
(يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)).
[البقرة: 47].
(يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) سبق شرحها.
• قوله تعالى (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) المراد بالذكر هنا: ذكر يحمل على الشكر، ومن شكر تلك النعمة المأمور به: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما جاء به.
• قوله تعالى (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) سبق ذكر بعض هذه النعم: كالإنجاء من فرعون، وإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام وغيرها، وقد جرت العادة في القرآن أن الله يمتن على الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنعم التي أنعمها على أسلافهم الماضين، وكذلك يعيبهم بالمعائب التي صدرت من أسلافهم الماضين، لأنهم أمة واحدة، ولأن الأبناء يتشرفون بفضائل الآباء، فكأنهم شيء واحد، ولذلك كان جل وعلا يمتن على هؤلاء بنعمه على الأسلاف، وكذلك يعيبهم بما صدر من الأسلاف لأنهم جماعة واحدة.
• قال الآلوسي: (يا بَنِي إسرائيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم) كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هي فرد من أفرادها.
(وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ظاهر هذه الآية أن بني إسرائيل هم أفضل العالمين، بينما المعروف أن محمد صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأمم على الإطلاق، والجواب عن هذه الآية:
الجواب الأول: أن الله فضل بني إسرائيل على عالم زمانهم، بينما الأمة المحمدية مفضلة على سائر الأمم.
وهذا قول جمهور المفسرين.
قال أبوة العالية: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان، فإن لكل زمان عالماً.
قال ابن كثير: ويجب الحمل على هذا، لأن هذه الأمة أفضل منهم.
لقوله تعالى، خطاباً لهذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
ولقوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) رواه أحمد.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء،
…
وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم) رواه أحمد.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر) رواه البخاري.
ومن الآيات المبينة لفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمة موسى أنه قال في أمة موسى (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) فجعل أعلى مراتبهم الفئة المقتصدة، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقسمهم إلى ثلاث طوائف، وجعل فيهم طائفة أكمل من الطائفة المقتصدة وذلك في قوله في فاطر (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فجعل فيهم سابقاً بالخيرات، وهو أعلى من المقتصد، ووعد الجميع بظالمهم ومقتصدهم وسابقهم بجنات عدن في قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ).
الجواب الثاني: أن بني إسرائيل أفضل من العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء، وإلى هذا أشار الرازي والقرطبي والشوكاني.
• قال ابن كثير: وفيه نظر، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والَاخرة، صلوات الله وسلامه عليه.
الجواب الثالث: أن المراد بالعالم الجمع الكثير من الناس، فيكون المعنى: فضلتكم على الكثير من الناس لا الكل، وهذا قول الزمخشري في الكشاف، وضعفه الرازي، والصحيح الأول.
الفوائد:
1 -
أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكرون نعم الله عليكم.
2 -
أن الفضل والنعمة من الله، كما قال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
3 -
أن كثرة النعم توجب مزيد الشكر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ويقول: أفلا أكون عبداً شكوراً.
4 -
أن بني إسرائيل هم أفضل الأمم في زمانهم.
(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)).
[البقرة: 48].
(وَاتَّقُوا يَوْماً) لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال (وَاتَّقُوا يَوْماً) يعني يوم القيامة من أهواله وشدائده، واتقاء يوم القيامة يكون بالاستعداد له.
وهذا كثير في القرآن.
قال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
وقال تعالى (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً).
• قال ابن عاشور: عَطَفَ التحذير على التذكير، فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب بالتحذير من ذلك، والمراد بالتقوى هنا معناها المتعارف في اللغة لا المعنى الشرعي.
• قال الرازي: اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقى ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعاً.
•
وأسباب النجاة من كرب يوم القيامة كثيرة:
منها: التنفيس عن المسلمين.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من نَفَّس عن مؤمن كُرْبة منْ كُرب الدُّنْيا، نفَّس اللَّه عنْه كُرْبة منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومنْ يسَّرَ على مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْه في الدُّنْيَا والآخِرةِ) رواه مسلم.
ومنها: إنظار المعسر أو الوضع عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّه مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواه مسلم
ومنها: الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لله.
قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).
(لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يغني أحد عن أحد.
قال السعدي: (لا تَجْزِي) أي: لا تغني (نَفْسٌ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين (عَنْ نَفْسٍ) ولو كانت من العشيرة الأقربين (شَيْئًا) لا كبيراً ولا صغيراً وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
كما قال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وقال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً) فهذا أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.
(وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) يعني من الكافرين كما قال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وكما قال عن أهل النار (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم).
• ظاهر الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة لكنه بين في مواضع أخرى أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السموات والأرض، أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، والشفاعة لا تكون إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يأذن الله بها.
والشرط الثاني: أن يكون راضياً عمن شفع وعمن شفع له.
كما قال تعالى (منْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).
(وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) أي لا يقبل منها فداء، والعدل بمعنى: المعادل المكافئ.
كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقال تعالى (وإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا).
وقال تعالى (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ).
(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء.
• وأصل النصر في لغة العرب: هو إعانة المظلوم.
• قال السعدي: فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) هذا في تحصيل المنافع، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هذا في دفع المضار، فهذا النفي للأمر المستقل به النافع.
الفوائد:
1 -
التحذير من يوم القيامة.
2 -
وجوب الاستعداد ليوم القيامة.
3 -
أن يوم القيامة لا ينفع الإنسان إلا عمله.
4 -
أن يوم القيامة لا ينفع لا مال ولا ولد ولا ملك، وإنما الذي ينفع العمل الصالح.
5 -
أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذراً خائفاً في كل حال، والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم. (قاله الرازي).
6 -
أن يوم القيامة ليس فيه فداء، وأيضاً لا أحد ينصر أحد، فلا الآلهة والأسياد ولا غيرهم يستطيعون نصر أحد.
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)). [49 - 50].
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) أي: خلصتكم منهم، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وأشده وأفظعه.
• يسومونكم: يذيقونكم ويلزمونكم إياه، وقيل: يديمون عذابكم.
• سبب ذلك: قيل أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها.
• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالاً بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة.
• الإنجاء هو الإنقاذ من المكروه.
• والخطاب للموجودين، والمراد من سلف من الآباء، وقيل: إنما قال نجيناكم، لأن نجاة الآباء كانت سبباً لنجاة هؤلاء الموجودين.
• فرعون: عَلَمٌ على من ملَك مصر كافراً.
(يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) أي يذبحون الذكور دون الإناث.
وعبر بالتشديد (يذبّحون) دلالة على الكثرة، لأنهم ذبحوا كثيراً من أبنائهم.
• قال الرازي: قال بعض العلماء: إن المراد بقوله (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) الرجال دون الأطفال ليكون في مقابلة النساء، وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين، وهذا هو الأولى لوجوه:
الأول: حملاً للفظ الأبناء على ظاهره.
الثاني: أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم.
الثالث: أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة.
الرابع: أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى.
• وقال الرازي رحمه الله: إن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه:
أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وذلك يقضي آخر الأمر إلى هلاك الرجال والنساء.
وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت، لما قد يقع إليها من نكد العيش بالانفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن، والنجاة منها في العظم تكون بحسبها.
وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعاً به مسروراً بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه.
ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى (وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ) الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله (وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور.
وخامسها: أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان.
(وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أي يستبقون الإناث على قيد الحياة، للخدمة.
• فإن قال قائل: إن بقاء البنت حية أفضل من موتها، فما وجه جعل ذلك من إهانتهم؟
إبقاء الإناث يعتبر عار وتعذيب، لأن موت البنت أرحم من بقائها عند عدو يذلها ويهينها.
• قال الشنقيطي:
…
فبقاؤهن [أي الإناث] تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب، وموتهن راحة من هذا العذاب وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفاً من مثل هذا.
(وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك.
• وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (وبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
• وقيل المراد بقوله (وفي ذلكم بلاء) إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء، واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور.
(وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) أي: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً في سورة الشعراء (فأنجيناكم) أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم.
• قوله تعالى (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) الباء للسببية أي: أي: فصلنا بعض أجزاء البحر عن بعض بسبب دخولكم فيه، ليمكنكم المرور سالكين بين أجزائه، وقيل إن (الباء) بمعنى (اللام) والمعنى: فرقنا بكم أي: أي فرقنا لكم، وهو عائد للمعنى الأول، لأن اللام للتعليل، والباء للسبب، فالمعنى متقارب.
• فرقنا: أصل الفرق الفصل، ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل، أي يفصل ومنه قوله تعالى (فالفارقات فرقاً) يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل.
(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) بأبصاركم، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم.
• قال ابن عاشور: وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضاً نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيماناً وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد.
• البحر: معروف سمي بذلك لاتساعه.
• ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه، لكن ثبت في الصحيح أنه كان يوم عاشوراء.
فعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه).
• لم يبين هنا كيفية فرق البحر بهم، لكنه بين ذلك في مواضع:
كقوله تعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).
وقوله (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى).
الفوائد:
1 -
عظم نعمة الله على بني إسرائيل إذ نجاهم من آل فرعون، حيث تضمن هذا التذكير حصول المطلوب وذلك بنجاتهم، وزوال المكروه بإهلاك عدوهم.
2 -
أن الإنجاء من العدو من أعظم النعم.
3 -
شدة عذاب فرعون لبني إسرائيل.
4 -
شدة قوة الله عز وجل حيث أهلك فرعون.
5 -
بيان قدرة الله على كل شيء.
6 -
أن إهلاك عدو الإنسان وهو ينظر من نعمة الله عليه.
7 -
قال السمرقندي: وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعرف ذلك إلا بالوحي، فلما أخبرهم بذلك
من غير أن يقرأ كتاباً، كان ذلك دليلاً أنه قاله بالوحي، وفيه أيضاً تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، وفيه أيضاً تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي.
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)).
[البقرة 51 - 53].
(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ) يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
• في هاتين الآيتين يذكر الله بني إسرائيل بنعمته عليهم بهذا العفو العظيم، وذلك أن الله واعد موسى ثلاثين ليلة فأتمها بعشر فصارت أربعين ليلة، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله، فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل، وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فلما تأخر موسى عن الموعد الذي ذكره لبني إسرائيل فتنوا بعبادة العجل، وقال لهم السامري (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) فاطمأنوا إلى قوله ونهاهم هارون وقال (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفاً فيما روي في الخبر، وتهافت في عبادته سائرهم، فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح وأحرق العجل وذره في البحر، وقال (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى
…
) فجعل الله من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً.
• قوله تعالى (مِنْ بَعْدِهِ) أي: من بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه.
(وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) أي: بعبادتكم العجل، فإن الشرك ظلم، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على الشرك.
كما قال تعالى عن العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم).
وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بشرك، ثم تلا قول لقمان (إن الشرك لظلم عظيم).
وقال تعالى (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) أي: من المشركين.
ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي ولم تنقص.
• وقد يطلق الظلم على ظلم الإنسان نفسه ببعض المعاصي التي لا تبلغ الكفر، ومنه قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) بدليل قوله في الجميع (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)، لأن هذا أطاع الشيطان وعصى ربه فقد وضع الطاعة في غير موضعها.
• قوله: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة، لم يبين هل واعده إياها مجتمعة أو متفرقة، ولكنه بيّن في سورة الأعراف أنها متفرقة،
وأنه واعده أولاً ثلاثين ثم أتمها بعشر، وذلك في قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ) فالعفو: مَحْوُ الذنب؛ أي محوْنا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم.
(مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد عبادتكم العجل، والعجل ولد البقرة.
قال القرطبي: وسُمِّيَ العجل عجلاً لاستعجالهم عبادته.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: لأجل أن تقوموا بشكره.
• قال بعض العلماء: أن كل (لعل) في القرآن هي بمعنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون.
• والشكر: هو القيام بطاعة المنعم اعترافاً بالقلب، وثناء باللسان، وطاعة بالأركان.
وفي ذلك يقول الشاعر:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً
…
يدي ولساني والضمير المحجبا
فنعمة العين: أن لا ينظر بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة اليد أن لا يبطش بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة الرجِل أن لا يمشي بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة المال: أن لا يستعين به ويصرفه إلا فيما يرضي الله
•
كيف يتحقق الشكر؟
أولاً: سؤال الله ذلك.
كما قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا معاذ، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). رواه أبو داود
ثانياً: أن يعلم الإنسان أن النعم إذا شكرت قرت وزادت.
قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
ثالثاً: أن يعلم الإنسان أن الله سيسأله يوم القيامة عن شكر نعمه.
قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).
قال ابن كثير: أي ثم لتسألن عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما ذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة.
رابعاً: أن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا، فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم).
الشكر يكون من الله لعبده ومن العبد لربه.
فشكر العبد لربه كقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ). وقوله تعالى (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
وتعريفه كما سبق وهو أن يستعمل نعمه في طاعة الله.
وشكر الله لعبده كقوله تعالى (ومَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)
ومعنى شكر الله لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، وإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً ردّه عليه أضعافاً مضاعفة.
لما عقر سليمان الخيل غضباً له إذ شغلته عن ذكره، فأراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح.
ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم عنها أن ملّكهم الدنيا وفتحها عليهم.
ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
•
فضائل الشكر:
أولاً: الله أمر به.
قال تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
ثانياً: التوبيخ على عدم الشكر.
قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ).
ثالثاً: الثناء على الشاكرين وأنه سبل الرسل.
قال تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً).
رابعاً: الشكر نفع للشاكر نفسه.
قال تعالى: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).
خامساً: أن الشكر إذا صدر من المؤمنين فهو مانع من نزول العذاب.
قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).
سادساً: أن الشكر سبب لزيادة النعم.
قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
سابعاً: أن الصفوة من عباد الله يسألون الله أن يوزعهم شكر نعمته.
قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).
ثامناً: أن الشاكرين قليلون.
قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).
وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
وهذا يدل على أنهم هم خواص الله.
(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) أي وأعطينا موسى الكتاب وهو التوراة.
• قال ابن عاشور: هذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى تمام النعمة وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت كتاباً فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع.
• وموسى هو ابن عمران، أفضل أنبياء بني إسرائيل، وأحد أولي العزم من الرسل، وهو كليم الرحمن.
(وَالْفُرْقَانَ) أي وأعطيناه الفرقان، وقد اختلف العلماء في المراد فيه:
فقيل: الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقاً فعبروا، وهذا بعيد.
وقيل: إن الواو زائدة، والمعنى: آتينا موسى الكتاب الفرقان.
وقيل: الفرقان هو الكتاب (التوراة)، عطف عليه وإن كان المعنى واحداً، ويكون ذلك من قبيل عطف الأوصاف والموصوف واحداً، كما في قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).
وقيل: إن الفرقان الذي آتاه موسى هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها، فيكون تأويل
الآية حينئذ: وإذا آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل، ورجحه الطبري.
وقيل: في الآية مضمر، ومعناه: وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة، وأعطينا محمداً الفرقان، فكأنه خاطبهم فقال: قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد صلى الله عليه وسلم وعلم سائر الأنبياء.
(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا بالتدبر فيها والعمل بما فيها من أحكام.
الفوائد:
1 -
حكمة الله في تقديره، حيث واعد موسى أربعين ليلة لينزّل عليه فيها التوراة.
2 -
عظمة الله لقوله (آتينا).
3 -
سفه هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً، حيث هم الذي صنعوه.
4 -
أن الشرك أعظم الظلم.
5 -
أن المستحق للعبادة هو الله عز وجل الخالق.
6 -
سعة رحمة الله بعفوه عمن ظلم.
7 -
وجوب شكر الله، لأنه عفا وصفح.
8 -
نعمة الله العظيمة بإنزال الكتب.
9 -
إثبات رسالة موسى.
10 -
أن الكتب التي ينزلها تكون فرقاناً بين الحق والباطل.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)).
[البقرة: 54].
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي واذكروا إذ قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد اتخذوا العجل.
(يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) وأي ظلم أعظم وأشد من أن يتخذ الإنسان مع بارئه وخالقه إلهاً يعبده، فإن هذا أظلم الظلم كما قال تعالى (نَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
قوله تعالى (بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ): أي إلهاً.
(فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) أي خالقكم، والتوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة، مع الإقلاع والندم.
• قوله تعالى (إِلَى بَارِئِكُمْ) قال ابن كثير: في هذا تنبيه على عظم جرمهم، أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.
والله عز وجل ينبه كثيراً على هذا المعنى، ويذكر المشركين بذلك، وأن الخالق هو المستحق للعبادة:
قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
وقال تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
وقال تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).
وقال تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وكما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ولم يقل إلا الله لفائدتين:
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه متفرد بالخلق، فيجب أن ينفرد بالعبادة.
والثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، ولأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات.
قال بعض العلماء: إنما نص الله تعالى على صفة الخلق دون غيرها من الصفات، لأن المشركين كانوا يعترفون أن الله خالقهم، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).
وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم.
(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ليقتل بعضكم بعضاً، وإنما عبر بقتل النفس، لأن المؤمن أخو المؤمن فكأنه هو نفسه، فالأمة الواحدة المجتمعة على شيء ينزلون منزلة النفس الواحدة.
كقوله تعالى (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: على من في البيت.
وقوله تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.
وقوله تعالى (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي: ظنوا بإخوانهِم خيراً.
وقوله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي: إخوانكم.
عن ابن عباس (
…
فقال الله تبارك وتعالى إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد أو ولدٍ فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كان قد خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول.
قيل: فاجتلد القوم فكان من قتل من الفريقين سبعون ألفاً، حتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يضعوا السلاح فتاب عليهم، وقيل: أصابتهم ظلمة فأصبح بعضهم يقتل بعض، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، وقيل: بل إن القتل وقع جهراً بلا ظلمة، وهذا أصح، لأنه أبلغ في الدلالة على صدق توبتهم.
(ذَلِكُمْ) أي القتل.
(خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) أي رضاكم بحكم الله ونزولكم عند أمره خير لكم عند الخالق العظيم.
قال الشنقيطي: أن هذا القتل بهذه التوبة يقطع حياتهم الدنيوية، ولكنه يكسبهم حياة أخروية، وهذه الحياة الأخروية خير من الحياة الدنيوية.
(فَتَابَ عَلَيْكُمْ) في الكلام حذف تقديره: ففعلتم فتاب عليكم، أي فقبل توبتكم وتجاوز عنكم.
(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الذي يتوب على التائبين، فمن رحمته أنه يقبل توبة التائبين مهما عظمت ذنوبهم.
الفوائد:
1 -
أن الشرك من أعظم الظلم، لأنه وضع للعبادة في غير موضعها.
2 -
خطورة الشرك.
3 -
تذكير العاصي بمن يستحق الطاعة والعبادة لقوله (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) فالذي خلقكم هو من يستحق العبادة.
4 -
أن الذي لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
5 -
أن العاجز لا يستحق أن يكون إلهاً.
6 -
وجوب التوبة.
7 -
الإخلاص في التوبة.
8 -
ما وضع الله على بني إسرائيل من الأغلال والآصار، حيث كانت توبتهم من عبادة العجل أن يقتل بعضهم بعضاً.
9 -
أن الأمة كنفس واحدة.
10 -
رحمة الله بهذه الأمة ورفع الآصار عنها.
11 -
تفاضل الأعمال.
12 -
إثبات اسمين من أسماء الله: التواب والرحيم.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)).
[البقرة: 55 - 56].
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) أي واذكروا يا بني إسرائيل حين خرجتم مع موسى لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل.
(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله، وبأن الله أمرك ونهاك.
(حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) علانية (رؤية بصرية)، وقيل المعنى (جهرة) أنه صفة لقولهم، أي: جهروا بذلك القول.
قال ابن كثير: والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه.
في القائلين لموسى ذلك قولان:
القول الأول: أنهم السبعون المختارون، فلما صار يكلم موسى ربه ويكلمه الله، قالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً).
القول الثاني: أنه لما رجع موسى من ميقات الله، وأنزل عليه التوراة، وجاء بها قالوا: ليست من عند الله (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً).
• قال ابن عطية: واختلف في وقت اختيارهم، فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل، وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد، والأول أصح.
(فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي فأهلكهم الله بالصاعقة، عقاباً لمقالتهم هذه الشنعاء.
• قال ابن جرير: الصاعقة كل أمرٍ هائل رآه المرء أو عاينه أو أصابه حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب، وإلى ذهاب عقل وغمور فهم أو فقد بعض آلات الجسم صوتاً كان ذلك أو زلزلة أو رجفاً.
الصاعقة: بمعنى الشيء الهائل العظيم إذا عاينه الإنسان فإنه يموت لهوله أو يحترق أو يفقد شيئاً من حواسه.
وصعق هؤلاء بالموت فماتوا وهذا هو ظاهر القرآن، وأما صعق موسى في قوله تعالى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) فهو إغماء.
(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قيل: ينظر بعضهم إلى بعض يقع ميتاً حتى ماتوا عن آخرهم، وهذا اختيار ابن جرير، وقيل: صعق بعضهم والبعض الآخر ينظر، ثم بعث الذين صعقوا، وصعق الآخرون.
(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي أحييناكم، وفي هذا دليل على أن صعقهم كان موتاً حقيقياً.
• قال ابن الجوزي: ومن الدليل على أنهم ماتوا قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ) هذا قول الأكثرين، وزعم قوم أنهم لم يموتوا، واحتجوا بقوله تعالى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً) وهذا قول ضعيف، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين، فقال هناك (فلما أفاق) وقال هاهنا (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ) والإفاقة للمغشي عليه، والبعث للميت.
• وفي هذا إثبات البعث. (وسأذكر مباحث البعث في قصة القتيل إن شاء الله).
• وهذه قصة من خمس قصص مذكورة في سورة البقرة في إثبات البعث.
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: لتشكروا الله على إنعامه عليكم بالبعث بعد الموت. (وسبقت مباحث الشكر).
الفوائد:
1 -
إثبات البعث، وهذه إحدى القصص الخمس التي تدل على البعث في سورة البقرة.
2 -
قدرة الله عز وجل.
3 -
تذكير الله بني إسرائيل بنعمته عليهم، حيث بعثهم من بعد موتهم.
4 -
أن ألم العقوبة ووقعها إذا كان الإنسان ينظر إليها تكون أشد.
5 -
وجوب شكر الله على نعمه.
6 -
أن من شكر فإنما يشكر لنفسه.
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)).
[البقرة 57].
(وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكرهم - أيضاً - بما أسبغ عليهم من النعم فقال (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغُم السماء، أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض، ظللوا به في التِّيهِ ليقيَهم حر الشمس.
• وكان ذلك لما كانوا في التيه، واشتكوا الحر، دعا نبي الله موسى لهم، فظلل الله عليهم الغمام، وهو غمام أبيض رقيق يُظلهم من الشمس.
• قال الشيخ السبت (الغمام) إن ما ورد من تحديده أنه سحاب أبيض فهو مما أخِذ من بني إسرائيل، وإلا فإن كل ما سترك فإنه يقال له غَمام، وجاء في الحديث (كأنهما غمامتان).
• قال الشوكاني: وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر، والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين.
• قال الرازي: قال المفسرون (وَظَلَّلْنَا) وجعلنا الغمام تظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس.
• قال ابن الجوزي: (الغمام) السحاب، سمي غماماً، لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل شيء غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه.
• وصيغة الجمع في قوله (وَظَلَّلْنَا) للتعظيم.
(وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) اختلفت عبارات المفسرين فيه، فقيل: صمغة حلوة، وهذا قول مجاهد. وقيل: أنه كان ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاء، كأنه العسل، قاله الشيخ ابن عثيمين.
وقيل: هو العسل، وهذا قول الشعبي.
قال الماوردي: قوله عز وجل (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ .... ) فيه سبعة أقاويل:
أحدها: أن المنَّ ما سقط على الشجر فيأكله الناس، وهو قول ابن عباس.
والثاني: أن المنَّ صمغة، وهو قول مجاهد.
والثالث: أن المنَّ شرابٌ، كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجِهِ بالماء، وهو قول الربيع بن أنس.
والرابع: أن المنَّ عسل، كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيدٍ.
والخامس: أن المن الخبز الرقاق، وهو قول وهب.
والسادس: أنه الزنجبيل، وهو قول السدي.
والسابع: أنه الترنجين.
قال ابن كثير: والله أعلم أنه أكل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس فيه عمل ولا كد، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (الكمأة من المن) أي: من جنس ما منّ الله به على بني إسرائيل، حيث إنه يوجد - فضلاً من الله - من غير تعب.
(وَالسَّلْوَى) عامة المفسرين على أن السلوى طائر حلو اللحم، وهو السُّمَانَى.
قال ابن عطية: السلوى طائر بإجماع المفسرين.
(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي: وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم كهذا المنّ والسلوى.
وهما طيبان حساً ومعنى، للذاذة طعمهما وحلِّيتهما شرعاً، لأنهما منّ وفضل من الله جل وعلا.
فالطيّبْ هنا شامل لطيب الإباحة وطيب اللذاذة، لأن الطيبْ يطلق إطلاقين: يطلق طيباً من جهة الإباحة وعدم الشبهة، ويطلق طيباً من جهة اللذاذة وحسن المأكل، وهو جامع لهما هنا.
(وَمَا ظَلَمُونَا) أي: ما نقصونا شيئاً، لأن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين.
(وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدونا فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، فظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ومقابلة النعم بالمعاصي.
كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
وفي الحديث القدسي (
…
يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني
…
).
• قال ابن كثير: ومن هنا يتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، ولم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم.
الفوائد:
1 -
بيان شيء من نعم الله على بني إسرائيل.
2 -
أن الغمام يسير بأمر الله تعالى.
3 -
أن لحوم الطيور من أفضل اللحوم.
4 -
الأكل من الطيبات.
5 -
تحريم الأكل من الخبائث، والخبيث نوعان: خبيث لذاته، وخبيث لكسبه.
فالخبيث لذاته: كالميتة، والخنزير، والخبيث لكسبه: كالغش والربا.
6 -
أن الله لا تضره معصية العاصين.
7 -
أن الذنوب والمعاصي ظلم للنفس.
8 -
أن بني إسرائيل كفروا هذه النعمة.
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)).
[البقرة: 58 - 59].
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) أي: واذكروا يا بني إسرائيل إذا قلنا ادخلوا هذه القرية.
والقرية: المدينة، وسميت بذلك لأنها تقرت أي: اجتمعت، واختلف في تعيين هذه القرية:
فقال الجمهور: هي بيت المقدس، قال ابن كثير مرجحاً هذا القول: ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا).
وقال آخرون: هي أريحاء، قال ابن كثير: وهذا بعيد، لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء.
• قال القرطبي: واختلف في تعيينها؛ فقال الجمهور: هي بيت المقدس، وهذه نعمة أخرى، وهي أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التِّيه.
وكان هذا بعد خروجهم من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام، وفتحها الله عليهم، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب سجداً.
• قال الشنقيطي: ولما زال عنهم التيه، ومات موسى وهارون، وكان الخليفة بعدهما يوشع بن نون، وجاءوا وجاهدوهم الجهاد المعروف الذي ردّ الله فيه الشمس ليوشع بن نون، وفتحوا البلد، أمرهم الله أن يشكروا هذه النعمة بقولٍ يقولونه، وفعلٍ يفعلونه، فبدلوا القول الذي قيل لهم بقول غيره، وبدلوا _ أيضاً - الفعل الذي قيل لهم بفعل غيره.
(فَكُلُوا مِنْهَا) أمر إباحة.
(حَيْثُ شِئْتُمْ) أي: في أي مكان كنتم في البلد.
(رَغَداً) أي: أكلاً رغداً أي: واسعاً لذيذاً لا عناء فيه ولا تعب.
ثم أمرهم الله بقول وفعل شكراً لنعمة الفتح وهو قوله:
(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً) أي: أن يدخلوا باب القرية سجداً شكراً لله على النعمة.
قيل: المراد بالسجود هنا الركوع تواضعاً وانحناء وتعظيماً لله.
وقيل: هو السجود على الجبهة.
وقيل: المراد مطلق التواضع لكنه قول ضعيف.
•
والحكمة من أمرهم بذلك:
لعله ابتلاء من الله تعالى لهم، وقيل: شكراً لله على هذه النعمة، فلما أنعم الله بدخول الأرض المقدسة بعد التيه الذي ضربه الله عليهم أربعين سنة، لزمهم شكر هذه النعمة بأن يدخلوا الباب (باب القرية) سجداً.
وسجود الشكر مشروع في شريعتنا، وقد سجده النبي صلى الله عليه وسلم وسجد أصحابه، وعند الفتح أيضاً صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثمان ركعات.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) هذا القول الذي أُمروا به، أي: مسألتنا حطة، والحطة فعلة من الحط الذي هو الوضع، والمعنى: مسألتنا
لربنا هي حطة لذنوبنا وأوزارنا، فهي كلمة استغفار تؤذن بحط الذنوب ووضع الأوزار.
(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) المغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، والخطيئة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه التنكيل، والمعنى: نتجاوز ونستر لكم ذنوبكم العظيمة.
(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عبادة ربهم، ويحسنون إلى المخلوقين طلباً لمرضاة الله.
وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال، ويدخل فيه الإحسان بالجاه، وبالشفاعة ونحو ذلك، وتعليم العلم النافع، وقضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم، وإزالة شدائدهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم.
ويدخل في ذلك الإحسان في عبادة الله، إخلاصاً لله تعالى، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وقال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ).
فالإحسان في عبادة الله: أن تقوم بالعمل متقناً فيه إخلاصاً ومتابعة.
والإحسان إلى المخلوق: بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك.
•
قال السعدي: والإحسان نوعان:
الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوق.
فالإحسان في عبادة الخالق: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وأما الإحسان إلى المخلوق: فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده. (تفسير السعدي)
• وأعظم دافع للإحسان مراقبة الله تعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك).
وسؤال جبريل هذا ليعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان، وأن إحسان العمل إنما يكون لمن راقب الله وعلم يقينياً أن الله مطلع عليه.
لأن الإحسان هو الغاية التي من أجلها خلق الخلق، وأنه سبحانه يختبر عباده في إحسانهم للعمل.
كما قال تعالى في أول سورة هود (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ولم يقل أيكم أكثر عملاً.
وقال تعالى في أول سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) ثم بيّن الحكمة بقوله (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
وقال تعالى في أول سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
فالإحسان: أن يأتي بالعمل حسناً متقناً لا نقص فيه ولا وصم، وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون
•
فضائل الإحسان:
أولاً: أن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه.
كما قال تعالى (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).
وقال تعالى (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وقال تعالى (ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
ثانياً: لهم في الدنيا حسنة.
قال تعالى (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ).
ثالثاً: رحمة الله قريبة من المحسنين.
قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
رابعاً: لهم الجنة ونعيمها.
قال تعالى (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
خامساً: تبشير المحسنين.
قال تعالى (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
سادساً: أن الله معهم.
قال تعالى (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
سابعاً: إن الله يحب المحسنين.
قال تعالى (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
ثامناً: إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
قال تعالى (إِنَّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
تاسعاً: الإحسان سبب في دخول الجنة.
قال تعالى ( .. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ).
عاشراً: الكافر إذا رأى العذاب تمنى أن لو أحسن في الدنيا.
قال تعالى (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِين).
• قال ابن رجب: قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وقد ثبت في " صحيح مسلم " عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الزِّيادةِ بالنّظرِ إلى وجهِ الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسّانِ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمنُ ربّه في الدُّنيا على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنّه يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حال عبادتِهِ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى الله عياناً في الآخرة، وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)، وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوبِهم، حتّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة.
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقال: حبة في شعير).
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بقول غيره، فالقول الذي قيل لهم هو (حطة) فبدلوه بقول غيره وقالوا (حبة في شعير).
وبدلوا الفعل بفعل غيره، فالفعل الذي أمروا به أن يدخلوا سجداً، فبدلوه فدخلوا يزحفون على أستاههم أي: على ألياتهم وعجائزهم، وهذا من كفرهم وعنادهم.
• قوله تعالى (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم وعصوا أمر ربهم، وأصل الظلم - كما سبق - وضع الشيء في غير موضعه، فهؤلاء وضعوا الأمر في غير موضعه، حيث قابلوا نعم الله بالعصيان، وعصوا الله.
(فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ) أي: أنزل الله عليهم رجزاً من السماء، والرجز العذاب، قال العلماء: وهذا العذاب طاعون أنزله الله عليهم، قال بعض العلماء: أهلك الله به منهم سبعين ألفاً.
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم (الطاعون رجس أُرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه).
(بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(الباء) سببية، أي: بسبب كونهم فاسقين.
• والفسق في لغة العرب الخروج، ومنه قوله جل وعلا (إلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي: فخرج عن طاعة ربه، والعرب تقول (فسقت الفأرة) إذا خرجت من جحرها للإفساد.
ويطلق في القرآن ويراد به الكفر كقوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) وقال تعالى (ومَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، ويطلق ويراد به ما دونه من المعاصي كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ).
• فالمعاصي سبب لنزول المصائب وزوال النعم.
قال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وقال تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).
وقال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً).
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وقال تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
وقال تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).
وقال تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
الفوائد:
1 -
إثبات القول لله.
2 -
مشروعية لسجود لله عند تجدد النعم واندفاع النقم.
3 -
أن النعم تستوجب الخضوع والذل لله، ولذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً دخل وهو متواضع خاضع لله.
4 -
عناد بني إسرائيل حيث بدلوا وغيروا.
5 -
فضل الإحسان وأنه سبب للمزيد.
6 -
مراقبة الله.
7 -
أن الجزاء من جنس العمل، فمن أحسن أحسن الله إليه.
8 -
أن الظلم سبب للعقوبة.
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60))
[البقرة: 60].
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) أي واذكروا يا بني إسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه.
• قال الرازي: جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر.
• قال ابن عاشور: تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي:
أ-الري من العطش، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب.
ب-وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلاً لهم.
ج-وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا.
(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) أي: اضرب أي حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه.
• قوله تعالى (بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) قيل (أل) للعهد، أي اضرب عصاً معهوداً معيناً معروفاً عندهم، لكن الصحيح أنه حجر غير معين، والمراد أن يضرب أي حجر من غير تحديد.
• قال في التسهيل: قيل هو جنس غير معين، وذلك أبلغ في الإعجاز.
• وقال الشيخ ابن عثيمين: و (الحجر) المراد به الجنس، فيشمل أيّ حجر يكون، وهذا أبلغ من القول بأنه حجر معين.
وقال ابن الجوزي: واختلفوا في صفة الحجر على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان حجراً مربعاً، والثاني: كان مثل رأس الثور، والثالث: مثل رأس الشاة.
• قال الرازي رحمه الله بعد ذكر بعض هذه الأقوال في صفة الحجر: واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب، لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع، ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها.
• وقال الآلوسي: بعد أن ذكر أكثر هذه الروايات في صفة الحجر: وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبئ على تعيين هذا الحجر أمر ديني والأسلم تفويض علمه إلى الله.
• قوله تعالى (بعصاك) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
•
وهذه العصا كان فيها أربع آيات:
أولاً: أنه يلقيها فتكون حية تسعى، ثم يأخذها فتعود عصا.
ثانياً: أنه يضرب بها الحجر فينفجر عيوناً.
ثالثاً: أنه ضرب بها البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
رابعاً: أنه ألقاها حين اجتمع إليه السحرة، وألقوا حبالهم وعصيهم، فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون.
(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم.
• في سورة الأعراف قال تعالى (فانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) وهنا قال (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) قال ابن كثير قوله (فانْبَجَسَتْ مِنْهُ) هذا أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار.
وقال بعض العلماء: بل هما بمعنى واحد، فكل من الأنبجاس والانفجار انشقاق واسع ينحدر منه الماء بقوة ورجحه الشنقيطي.
• هذه معجزة وآية عظيمة لموسى، قال بعض العلماء: إنه ما من معجزة أوتيها نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم من جنسها.
فنبينا صلى الله عليه وسلم أوتي معجزة تفجر الماء من بين أصابعه، وهذه المعجزة لا شك أقوى من معجزة موسى عليه السلام، وذلك لأن الحجارة أصلاً ما يتفجر منه الأنهار، لكن ليس من الأصابع ما يتفجر من بينها الماء.
ومن ذلك: سليمان عليه السلام، سخّرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ونبينا صلى الله عليه وسلم سخّر له البراق فانطلق به من مكة إلى بيت المقدس، وكذلك عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات، ولم يحدث هذا لسليمان عليه السلام.
(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا.
• وهذه من نعمة الله على بني إسرائيل، وهي من نعمة الله على موسى، أما كونها نعمة على موسى فلأنها آية دالة على رسالته، وأما كونها نعمة على بني إسرائيل فلأنه مزيلة لعطشهم ولظمئهم.
(كُلُوا) من المن والسلوى.
(وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) أي من هذا الماء من غير كدٍ منكم ولا تعب، بل هو رزق ونعمة من الله.
(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد.
• قال ابن عاشور: وقوله (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
الفوائد:
1 -
افتقار الخلق إلى الله ولو كان أعلى أصناف الخلق وهم الرسل.
2 -
مشروعية الاستسقاء وطلب المطر من الله.
3 -
بيان ما حصل من عصا موسى من الآيات حيث ضرب بها الحجر فانفجر عيوناً.
4 -
إثبات وجود الله عز وجل.
5 -
أن الله يجيب دعاء من سأله.
6 -
أن رزق الله واسع وكثير لكل الخلق.
7 -
أن كل ما في الأرض من خيرات فهو من رزق الله.
8 -
تحريم طلب الرزق من غير الله، لأن الرزق رزق الله وهو الذي يرزق ويمنع.
9 -
ينبغي قسم الماء عند الكثرة وتوزيعه بالتساوي حتى لا يحصل الازدحام والاقتتال.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)).
[البقرة: 61]
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) أي واذكروا يا بني إسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المنّ والسلوى، لن نصبر على طعام واحد، أي على نوع واحد من الطعام.
• قال القرطبي: كان هذا القول منهم في الِّتيه حين مَلُّوا المنّ والسَّلْوَى، وتذكّروا عيشهم الأوّل بمصر.
• قوله تعالى (على طعام واحد) مع أن المن والسلوى طعام متعدد، والجواب من وجهين:
الأول: أن الشيء الذي يتكرر دائماً - وإن كان متنوعاً - ولا يتغير يقال له طعام واحد.
الثاني: أن المجعول على مائدة واحدة يصح أن يقال له طعام واحد ورجحه الشنقيطي وقال:
إن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاماً واحداً وإن اختلفت أنواعه، ومنه قولهم: أكلنا طعام فلان، وإن كان أنواعاً مختلفة.
(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام، فقد سئمنا المن والسلوى وكرهناه، ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول.
• قال ابن كثير: وكانوا قوماً أهل عدس وبصل وبقول وفوم.
(مِنْ بَقْلِهَا) البقل: كل نبات ليس له ساق، كالكراث والجرجير.
(وَقِثَّائِهَا) القثاء نوع من الخيار طويل.
(وَفُومِهَا) قيل: هو الثوم، وقيل: هو الحنطة، قال القرطبي: روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين.
(وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) أي العدس والبصل المعروفان.
(قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع.
• قال القرطبي: ومعنى الآية: أتستبدلون البَقْل والقِثّاء والفُومَ والعَدَس والبَصل الذي هو أدنى بالمنّ والسَّلْوَى الذي هو خير.
• قال ابن عاشور: وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم.
• إنما فضل المن والسلوى على هذه البقول من وجوه:
أولاً: أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المنّ والسلوى كانا أفضل؛ قاله الزجاج.
الثاني: لمّا كان المنّ والسلوى طعاماً منّ الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذُخْرٌ في الآخرة، والذي طلبوه عارٍ من هذه الخصائل، كان أدنى في هذا الوجه.
الثالث: لمّا كان ما منّ الله به عليهم أطيب وألذّ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.
الرابع: لمّا كان ما أُعْطُوا لا كُلْفةَ فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، كان أدنى.
الخامس: لمّا كان ما ينزل عليهم لا مِرْيةَ في حِلّه وخُلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغصوب وتدخلها الشُّبه، كانت أدنى من هذا الوجه. [تفسير القرطبي].
(اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أي مصراً من الأمصار، كما قال ابن عباس، ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون.
قال ابن كثير: والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره، والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه، ولهذا قال (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) أي ما طلبتم، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه.
ظاهر هذا أن موسى لم يسأل الله لهم، لأن هذه التي طلبوها متوفرة موجودة في كل مكان.
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي وضعت عليهم وأُلْزِموا بها شرعاً وقدراً أي: لا يزالون مستذلين، من وَجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون.
• قيل: الذلة: الصغار، والمسكنة: الفقر والخضوع.
• قال الرازي (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة) فالمعنى جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه.
• وقال القرطبي: أي أُلزِموهما وقُضِيَ عليهم بهما. والذَّلّة: الذُّلّ والصَّغار، والمسكنة: الفقر، فلا يوجد يهوديّ وإن كان غَنِياً خالياً من زِي الفقر وخضوعه ومهانته.
(وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي: رجعوا وانقلبوا متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق.
• وقال القرطبي: قوله تعالى (بِغَيْرِ الحق) تعظيم للشُّنْعة والذّنب الذي أتوه.
فإن قيل: هذا دليل على أنه قد يصح أن يُقتلوا بالحق؛ ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يُقتلون به، قيل له: ليس كذلك؛ وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظُلم وليس بحق؛ فكان هذا تعظيماً للشُّنعة عليهم؛ ومعلوم أنه لا يُقتل نبيّ بحق، ولكن يُقتل على الحق؛ فصرّح قوله (بِغَيْرِ الحق) عن شُنعة الذنب ووضوحه؛ ولم يأت نبيّ قط بشيء يوجب قتله.
• وقال السعدي (بغير الحق) زيادة شناعة، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.
• عن ابن مسعود. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين) رواه أحمد.
• قال القرطبي: فإن قيل: كيف جاز أن يخلّى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟
قيل: ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم؛ كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بُخذلان لهم.
وقال ابن عباس والحسن: لم يُقتل نبيّ قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلُّ مَن أمر بقتال نُصِر.
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به، والله أعلم.
• قال السعدي: واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم، ونسبت لهم لفوائد عديدة:
منها: أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم، ما يبين به لكل أحد منهم أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق، ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟
ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم، نعمة واصلة إلى المتأخرين، والنعمة على الآباء، نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها، لأنها نعم تشملهم وتعمهم.
ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم، مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها، حتى كان
متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد، وكان الحادث من بعضهم حادثاً من الجميع.
لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع.
ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها، والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.
الفوائد:
1 -
فضل الله على بني إسرائيل حيث أعطاهم الطعام من غير تعب ولا كد.
2 -
بيان سفه هؤلاء حيث لم يصبروا على هذا الطعام الطيب الذي أنزله الله من السماء تكريماً لهم.
3 -
جواز التوسل بدعاء من ترجى إجابته.
4 -
ذم من يطلب الأدنى بدلاً من الأعلى.
5 -
أن الذي ينبت الزرع ويأتي بالأرزاق هو الله.
6 -
جواز تفضيل الأطعمة بعضها على بعض.
7 -
أن الله كتب على بني إسرائيل الذلة والمسكنة، وما قوتهم الآن إلا بسبب ضعف المسلمين.
8 -
حلول غضب الله على بني إسرائيل.
9 -
إثبات الغضب لله.
10 -
أن سبب ذلك: هو قتلهم للأنبياء وبسبب عصيانهم وطغيانهم.
11 -
أن المعاصي والذنوب سبب لغضب الله.
12 -
أن الله لا يظلم أحداً، قال تعالى (فكلاً أخذنا بذنبه).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
[البقرة: 62].
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(وَالَّذِينَ هَادُوا) وهم اليهود، سموا بذلك، قيل: من التوبة كقول موسى (إنا هدنا إليك) أي تبنا إليك، وقيل: نسبة إلى يهود أكبر أولاد يعقوب، وقيل: لأنهم يتهودون، أي يتحركون عند القراءة.
(وَالنَّصَارَى) هم أتباع عيسى، سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقيل: سموا بذلك لأنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة.
(وَالصَّابِئِينَ) اختلف العلماء فيهم، فقيل: هم قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، وهذا قول مجاهد، وقيل: هم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، وقيل: هم قوم يعبدون الملائكة.
• قال ابن كثير: وأظهر الأقوال والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم.
(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) الإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده والإيمان بربوبيته والإيمان بألوهيته والإيمان بأسمائه وصفاته.
(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيشمل ما يكون في القبر
من سؤال الملكين، وعذاب القبر ونعيمه، والبعث، والحشر، والصراط، والجزاء، والجنة والنار، سمي بذلك لأنه لا يوم بعده.
• وكثيراً ما يقرن الله عز وجل بين الإيمان به وبين الإيمان باليوم الآخر.
كما في قوله تعالى (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ).
وقوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر).
وقوله تعالى (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه.
وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم الحوافز التي تدفع الإنسان للعمل الصالح، حيث الجزاء على الأعمال في ذلك اليوم، فهو أعظم دافع إلى العمل الصالح، وهو أعظم رادع عن التمادي في الباطل لمن وفقه الله.
وقد روي عن عمر أنه قال (لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيت من الناس غير ما ترى) أي: لتنكّر الناس بعضهم لبعض وتهالكوا في الشرور، واعتدى بعضهم على بعض ونحو ذلك.
(وَعَمِلَ صَالِحاً) العمل الصالح ما اجتمع فيه شرطان: الإخلاص لله، المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
ودائماً يقرن الله العمل بالصالح، لأنه ليس كل عمل يقبل إلا إذا كان صالحاً.
قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
…
).
وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
…
).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً).
وقال تعالى (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى).
قال السعدي: ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: ثوابهم عند ربهم.
• وفي تسمية ثوابهم أجراً تأكيد لتكفله عز وجل لهم بذلك، وفي كونه عند ربهم تعظيم له، لأنه الكريم الجواد.
(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة.
(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: على ما فاتهم من أمور الدنيا.
• هذه الآية هي قطعاً في الأمم التي كانت قبل مبعث النبي، فإن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب، فمن تبع الأنبياء وقبِل دعوتههم واستجاب لهم فإن الله وعده بالرحمة والجنة، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يقبل من أحد سوى الإسلام.
كما قال (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.
• فقد جاءت الآيات القرآنية في كفر اليهود والنصارى، وكونهم مشركين لا يقبل الله منهم إيماناً ولا عملاً قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وقال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).
• فالمراد إذاً من الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ
…
) الإخبار عمن مضى ممن كان متمسكاً بدين حقٍّ من اليهود والنصارى والصابئين، ومن المؤمنين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: فتناولت هذه الآية من كان من أهل هذه الملل الأربع متمسكاً بها قبل النسخ بغير تبديل.
وقال السعدي: والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف من حيث هم، لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مضمون أحوالهم.
ويستدل لهذا:
ما جاء عن سلمان أنه قال (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ .. ).
ولحديث عِياض بن حمار. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثه عن قبل البعثة (وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب) رواه مسلم.
• وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ
…
) منسوخة بقوله تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين) ونسبه ابن الجوزي لجماعة من المفسرين.
الفوائد:
1 -
فضل من آمن بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح، وأنه لا خوف عليه ولا حزن وله أجر كبير عند الله.
2 -
بيان عدل الله.
3 -
أن العبرة عند الله بالإيمان والعمل الصالح.
4 -
وجوب الإيمان باليوم الآخر.
5 -
أن الإيمان بالله والعمل الصالح يطرد الخوف والقلق.
6 -
أن عدم الإيمان بالله وعدم العمل الصالح سبب للقلق والاضطراب والخوف.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
[البقرة: 63 - 64]
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) يقول تعالى مذكراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم.
• قال الآلوسي: تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره فكان ميثاقاً واحداً ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام.
• فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف في قوله تعالى (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). نتقنا: أي رفعنا.
• قال الشوكاني: والطور: اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة فيه.
• قال أبو حيان: سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة، أو من السجود، أو من أخذ التوراة والتزامها.
• قال ابن الجوزي: وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة.
(خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) أي التوراة.
(بِقُوَّةٍ) أي: أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل.
• في هذا أنه ينبغي على الإنسان أن يأخذ أوامر الله بنشاط وقوة وعزيمة.
ومما يؤدي ويحفز إلى النشاط في الطاعات ما يلي:
أولاً: أن يعلم أنه سيأتي يوم ينمو يتمنى أن لو عمل.
قال تعالى (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
وقال تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وقال تعالى (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).
(يَا لَيْتَنِي) متحسراً متندماً.
وفي الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها وكمالها هي الحياة في دار القرار.
وقال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً .. ).
ثانياً: أن النشاط في الطاعات دليل القوة.
عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
ثالثاً: أن النشاط في العبادة دليل الإيمان.
فإن المنافق لا يأتي للطاعة إلا بكسل وتثاقل.
قال تعالى (إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً).
وقال تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ).
وقال صلى الله عليه وسلم (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً).
رابعاً: أن النشاط في الطاعة من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ضدها من كسل وعجز.
عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) متفق عليه.
خامساً: أن ذلك من صفات الأنبياء.
قال تعالى (يا يحيي خذ الكتاب بقوة).
وقال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
سادساً: ذكر نعم الله.
قال تعالى (اذكروا نعمة الله عليكم).
فإن ذكر النعم داع إلى محبة الله، منشط في العبادة.
• وإذا استمر الإنسان بالكسل والتخلف والتباطئ قد يعاقب بعدم التوفيق للطاعة مرة أخرى.
قال تعالى (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِين).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّراً فَقَالَ لَهُمْ: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ).
قال الشيخ ابن عثيمين: وعلى هذا فيخشى على الإنسان إذا عود نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير.
(وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) يقول: اقرؤوا ما في التوراة واعملوا به.
• قال القرطبي: (واذكروا مَا فِيهِ) أي: تدبّروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيّعوه.
قلت: هذا هو المقصود من الكُتب، العملُ بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها؛ فإن ذلك نَبْذٌ لها؛ على ما قاله الشعبي وابن عُيَيْنة.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(لعل) للتعليل، أي: لأجل أن تتقوا الهلاك في الدنيا والآخرة.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه.
• قال أبو حيان: أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه.
(فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم.
(لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
• ونقض العهد ضرره عظيم من اللعنة وقسوة القلب كما قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة).
الفوائد:
1 -
أن الله أخذ العهود والمواثيق على بني آدم أن يوحدوه ويؤمنوا به.
2 -
بيان قدرة الله، حيث رفع فوقهم هذا الجبل العظيم.
3 -
وجوب أخذ الإنسان شريعة الله بقوة.
4 -
الحذر من الكسل والتواني في الأعمال الصالحات وهذا ينقسم إلى قسمين:
أولاً: التواني في فعل المأمورات: بأن نتكاسل في فعل الواجبات ونتراخى في فعل المندوبات.
ثانياً: الضعف في ترك المنهيات، بحيث يضعف الإنسان أمام الشهوة الدافعة إلى فعل المعصية.
5 -
وجوب ذكر ما في الكتب السابقة، من وعد ووعيد، وترغيب وتهديد، وهذا الذكر يكون باللسان وبالعمل والتطبيق.
6 -
إثبات فضل الله على بني إسرائيل.
7 -
أن أخذ الشرائع بقوة وذكر ما فيها يكون سبباً للتقوى.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
[البقرة: 65 - 66].
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) يقول تعالى (ولقد علمتم) يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعاً لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم.
قال الرازي:
المقصود من ذكر هذه القصة أمران:
الأول: إظهار معجزة محمد عليه السلام فإن قوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي.
الثاني: أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت فكأنه يقول: لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم.
• وقد جاءت القصة مبسوطة في سورة الأعراف، قال تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) أي واسأل يا محمد اليهود عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية.
(الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) مبنية على شاطئه بحضرته قريباً منه.
• اختلف العلماء في هذه القرية، فقيل: هي أيلة وهذا قول الأكثر، وقيل: مدين، وقيل غير ذلك، ولا يهم معرفة القرية، وإنما المهم معرفة ما حدث لهم والاعتبار به والاتعاظ.
وملخص قصتهم: كانت هذه القرية محرم عليهم الاصطياد يوم السبت - ابتلاء واختباراً من الله - وكان يشتد قرمهم إلى لحم السمك - القَرَم بفتحتين: شهوة اللحم - وكان الله افتتنهم فتنة، كان إذا كان يوم السبت جاءهم السمك على وجه البحر أفواجاً أفواجاً، فإذا غربت الشمس يوم السبت تمنّع في البحر فلا يقدرون على شيء منه، وهذا ابتلاء وامتحان لهم، فمكثوا من الزمن بهذا ما شاء الله، ثم بعد ذلك اشتدت شهوتهم إلى اللحم، فصاروا يحتلون على السمك يوم الجمعة - مثلاً - فيحفرون فيُجرُون في الماء أخاديد يسيل فيها الماء، فإذا انتهت حفروا حُفراً عميقة، فإذا جاء الحوت مع تلك الأخاديد المائية نزل في الحفر فلا يقدر على الرجوع فأخذوه يوم الأحد، وكان بعضهم - فيما يقولون - يجعل في ذنب الحوت خيطاً ويدق وتداً على الشاطئ، ويمسك رأس الخيط فيه، فيبقى الحوت في الماء ممسكاً بالخيط، فإذا غربت شمس يوم السبت جاء وأخذه، فلما فعلوا هذه الحيل ولم يعاجلهم العذاب كأنهم تجرؤا وتشجعوا وقالوا: لعل حرمة صيد السمك رفعها الله، لأنه لم يفعل بنا بأساً، فلم يزالوا يتدرجون في الحيل حتى صار بعضهم يصطاده علناً ويملحونه ويبيعونه في الأسواق، وكانوا ثلاث طوائف: طائفة باشرت العدوان يوم السبت واصطياد السمك، وطائفة نهتهم عنه، وطائفة سكتت، وقد بيّن الله أن الذين اعتدوا في السبت عذبهم عذاباً بئيساً وهو مسخهم قردة، والطائفة التي نهتهم أنجاهم، وسكت تعالى عن الطائفة الساكتة.
(فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) أي: فأصبحوا قردة خاسئين. والخاسئ: هو الحقير الذليل الخسيس.
• قال الشنقيطي: القردة: جمع قرد، وهو الحيوان المعروف، وهو من أخس الحيوانات، والدليل على أنه من أخس الحيوانات أن الله مسخ في صورته من أراد إذلالهم وإهانتهم وصغارهم، وهذا معروف أن القرد من أخس الحيوانات.
• اختلف العلماء هل هذا المسخ كان حقيقة أم كان معنوياً، والصحيح أنه كان حسياً فصاروا قردة، وهذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: مسخت قلوبهم ولم تمسخ صورهم، قال القرطبي: ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم.
(فَجَعَلْنَاهَا) اختلف في مرجع الضمير على أقوال:
قيل: العقوبة.
وقيل: القردة.
وقيل: القرية، وهذا الصحيح.
ورجحه ابن كثير، وقال: والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم.
(نَكَالاً) أي عاقبناها عقوبة فجعلناها عبرة.
• قال القرطبي: والنّكال: الزجر والعقاب، والنِّكْل والأنكال: القيود، وسُمِّيت القيود أنكالاً لأنها يُنْكل بها، أي يمنع، والتّنكيل: إصابة الأعداء بعقوبة تُنَكِّل مَن وراءهم؛ أي تُجَبِّنهم.
(لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) اختلف العلماء في المراد في قوله: بين يديها وما خلفها.
والصحيح: (بين يديها) أي من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم.
(وما خلفها) من يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم.
(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المراد بالموعظة هنا الزاجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم.
• قال الرازي: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أن: من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، وإن لم ينزل عاجلاً فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم.
• وقال الآلوسي: (وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ) الموعظة ما يذكر مما يلين القلب ثواباً كان أو عقاباً.
الفوائد:
1 -
تحريم الحيل المحرمة وأن ذلك من صفات اليهود.
والحيلة: التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة، والحيل حرام لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) ولأن المتحيل فيه نوع استهزاء بالله تعالى.
كل من تحيل لارتكاب محرم [إما بإسقاط واجب أو فعل محرم] فقد ارتكب مفسدتين:
الأولى: مفسدة التحايل. الثانية: مفسدة فعل المحرم.
إسقاط واجب: سافر من أجل أن يفطر، [فعل محرم] قلب الدين كما سبق.
وقد دل على التحريم أدلة كثيرة:
منها: الآية التي معنا حيث عاقبهم الله ومسخهم قردة.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن أبي بطة.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في سورة (القلم) وأنه عاقبهم بأنه أرسل على جنتهم طائفاً وهو نائمون فأصبحت كالصريم، وذلك لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، بأن يصرموها مصبحين، قبل مجيء المساكين، فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده.
2 -
أن إقامة شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة.
لقوله تعالى في سورة الأعراف في هذه القصة (وأَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ).
وعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً). رواه البخاري
3 -
تذكير الأمة بما فعل أسلافها ليتخذوا من ذلك عبرة.
4 -
وجوب الاعتبار بقصص من مضى (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
5 -
أن الحيل من صفات اليهود.
6 -
أن العقوبة تكون مجانسة للعمل، فهؤلاء القوم لما تحيلوا على فعل المحرم بما ظاهره الإباحة، قلبهم الله إلى أقرب الحيوانات شبهاً بالإنسان وهي القردة.
7 -
بيان قدرة الله حيث قلب هؤلاء البشر من الإنسانية إلى الحيوانية البهيمية.
8 -
إثبات العقوبة وأن العقوبة لابد أن لها تأثيراً.
9 -
أن الموعظة إنما ينتفع بها المتقون، فمن ليس بمتقٍ لا ينتفع بالموعظة، فكلما كان الإنسان أتقى لله كان أوعى للموعظة وأكثر انتفاعاً بها.
10 -
أن من فوائد التقوى أن صاحبها يتعظ ويعتبر بما يحصل.
11 -
فضل التقوى.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)).
[البقرة: 67 - 73].
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) أي واذكروا يا بني إسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) أي: وتضربوا القتيل ببعضها فيحيا، فيخبركم عن قاتله.
• قال ابن عاشور: تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال، وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه.
وسبب ذلك: أنه وجد قتيل في بني إسرائيل ولا يعرف قاتله، فأتوا موسى وطلبوا منه أن يسأل ربه عن قاتله، فأمرهم بذبح بقرة فقال (أن تذبحوا بقرة).
وظاهر هذه الآية يدل على أنهم لو ذبحوا أيّ بقرة لأجزأت، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم.
(قالُو اْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) هذا جواب منهم لموسى لما قال لهم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً).
والهزء: اللعب والسخرية.
(قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه الصلاة والسلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء.
قال أبو حيان (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه، أن يكون من الجاهلين بالله، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى.
• وفي الآية دليل على أن الذي يستهزئ بالناس جاهل سفيه.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ) أي ما سنها.
• قال الشنقيطي: لم يبين هنا مقصودهم بقولهم (ما هي) إلا أن جواب سؤالهم دل على أن مرادهم بقولهم في الموضع الأول (ما هي) أي ما سنها.
• قال القرطبي: هذا تعنيت منهم وقلّة طواعية؛ ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أيّ بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ) أي: لا كبيرة هرِمَة، ولا صغيرة لم يلْقَحْها الفحل.
(عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي وسط بين الكبيرة والصغيرة.
(فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ) أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشددوا فيشدد الله عليكم.
• قال القرطبي: (فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ) تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت فما تركوه.
وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقوله الفقهاء؛ وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ) أي إنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، ولذلك أكد صفرتها بقوله:
(فَاقِعٌ لَّوْنُهَا) شديدة الصفرة.
• قال ابن عاشور: سألوا بـ (ما) عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان.
وما ذهب إليه بعض العلماء من أن المراد بالصفرة (السواد) مردود من وجهين:
أحدهما: أنه أكّد الصفرة بقوله (فاقع لونها) والفقوع لا يوصف به إلا الصفرة الخالصة تماماً.
ثانيهما: أن العرب لا تُطلق الصفرة وتريد السواد إلا في الإبل خاصة دون غيرها.
• قال الماوردي: حُكِيَ عن الحسن البصري، أن المراد بقوله صفراء، أي سوداء شديدة السواد، وقال سائر المفسرين: إنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة، وهو أصح، لأنه الظاهر، ولأنه قال (فَاقِعٌ لَّوْنُهَا) والفاقع من صفات الصفرة، وليس يوصف السواد بذلك، وإنما يقال: أسود حالكٌ، وأحمر قانٍ، وأبيضُ ناصعٌ، وأخضرُ ناضرٌ، وأصفرُ فاقعٌ.
(تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) تعجب الناظرين.
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) أي لكثرتها، فميّز لنا هذه البقرة ووصفها وجلِّها لنا.
• قال الآلوسي: (إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا) تعليل لقوله تعالى (ادع) كما في قوله تعالى (صَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ) وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا، والتشابه مشهور في البقر، وفي الحديث (فتن كوجوه البقر) أي يشبه بعضها بعضاً.
(وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إذا بينتها لنا، وقد جاء في حديث مرفوع (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون، لما أعطوا، ولكن استثنوا).
• قال ابن عاشور: وقولهم (وإنا إن شاء الله لمهتدون) تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله (فافعلوا ما تؤمرون) ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات، تفادياً من غضب موسى عليهم، والتعليق بـ (إن شاء الله) للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير.
(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة حسنة.
(مُسَلَّمَةٌ) أي لا عيب فيها، ليس فيها عرج ولا عور ولا كسر قرن.
(لاَّ شِيَةَ فِيهَا) أي ليس فيها لون غير لونها.
• قال ابن كثير: وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى (إنها بقرة لا ذلول) ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال (تثير الأرض) أي يعمل عليها بالحراثة، لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي.
(قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي: الآن بينت لنا.
• قال ابن القيم: من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم (قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك ردةٌ وكفر ظاهر، وإن أرادوا: إنك الآن بيّنت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة).
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) عن ابن عباس: كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها.
• قال ابن كثير: يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها.
وقيل: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر.
وقيل: أنهم كادوا ألا يذبحوها خوفاً من الفضيحة التي ستحل بالقاتل وقومه.
ورجح ذلك ابن جرير؛ فقال: والصواب من التأويل عندنا أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة للخلتين كلتيهما، إحداهما: غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها، والأخرى: خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم بإظهار نبي الله موسى على قاتله.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي وإذ قتلتم نفساً محرمة فاختلفتم فيها، فبين الله ما حصل بواسطة هذه البقرة التي ذبحت.
• هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى.
• قال القرطبي: قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا) هذا الكلام مقدّم على أوّل القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفساً
فادارأتم فيها: فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا، وهذا كقوله (الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً) أي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّماً وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً؛ ومثله كثير.
• قوله (نفساً) لم يصرح هل هذه النفس ذكر أم أنثى، وقد أشار إلى أنها ذكر بقوله تعالى (فقلنا اضربوه .. ).
(وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهر ما تخفونه.
والآية تدل على أن من فعل سوءاً وكتمه أن الله يظهره، فلا يسر الإنسان سريرة - غالباً - إلا ألبسه الله رداءها.
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ) أي: اضربوا القتيل، وصيغة الجمع للتعظيم.
(بِبَعْضِهَا) أي ببعض البقرة، وهذا البعض لم يحدد، فأي شيء ضرب به حصلت المعجزة.
قال الرازي: في الكلام محذوف والتقدير، فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيى إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله تعالى (كذلك يُحْيِ الله الموتى).
قال ابن كثير: هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجي من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله.
قال الشوكاني: واختلف في تعيين البعض الذي أمروا أن يضربوا القتيل به، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم، ويكفينا أن نقول: أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها، فأيّ: بعض ضربوا به، فقد فعلوا ما أمروا به، وما زاد على هذا، فهو من فضول العلم، إذ لم يرد به برهان.
فلما ضربوه ببعضها قام فقالوا من قتلك؟ قال: قتلني فلان.
(كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) أي: كما أحيا الله هذا القتيل، وهذا الجم الغفير من الناس ينظرون، كذلك الإحياء المشاهد يحيي الله الموتى يوم القيامة.
فهو دليل قرآني على البعث، لأن من أحيا نفساً واحدة فهو قادر على إحياء جميع النفوس، وقد قال تعالى (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: يجعلكم ترونها واضحة.
قال القاسمي: (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) أي: دلائله الدالة على أنه تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء. والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت. وإخباره بقاتله، وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة.
وسبق أن آيات الله تنقسم إلى قسمين كونية، كالشمس والقمر والليل والنهار، ومعنى أنها آية: أي علامة على كمال قدرة الله.
وآيات شرعية: كالوحي المنزل كقوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) أي: آياته الدينية الشرعية، سميت [الآية الشرعية] آية لأنها علامة على صدق من جاء بها لما فيها من الإعجاز.
(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: لأجل أن تدركوا بعقولكم أنه - جل وعلا - يحيي الناس بعد الموت، ويبعثهم من قبورهم، وأنه قادر على كل شيء.
• قال الشنقيطي: أشار في هذه الآية إلى أن إحياء قتيل بني إسرائيل دليل على بعث الناس بعد الموت، لأن من أحيا نفساً واحدة بعد موتها، قادر على إحياء جميع النفوس، وقد صرح بهذا في قوله تعالى (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
•
والله تعالى قد ذكر في هذه السورة خمس قصص تدل على البعث:
الموضع الأول: قصة بني إسرائيل التي سبقت (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
الموضع الثاني: هذا الموضع (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
الموضع الثالث: قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ).
الموضع الرابع: قوله تعالى في عزير وحماره (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الموضع الخامس: قوله تعالى في طيور إبراهيم (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
في هذه الآية ذكر الله تعالى طريقة من
طرق إثبات البعث،
وقد تنوعت طرق إثبات البعث في القرآن، وجاءت على سبع طرق:
الطريقة الأولى:
آيات صريحة في إثبات ذلك:
قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ). وقال تعالى: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ). وقال تعالى: (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ). وقال تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ). وقال تعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد:
فقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ).
وقال تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).
وقال تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وذم الله المكذبين بالمعاد:
فقال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
وقال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً).
الطريقة الثانية:
التذكير بنشأة الإنسان الأولى:
قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ).
وقال تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
الطريقة الثالثة:
الاستدلال بإنبات النبات على إحياء الأموات:
قال تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وقال تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)
وقال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الطريقة الرابعة:
الإشارة ولفت الانتباه إلى خلق السماوات:
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الطريقة الخامسة:
تنزيه الله سبحانه عن العبث.
فلو فرضنا أنه لا جزاء ولا حساب ولا بعث، فما فائدة الأوامر والنواهي.
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ).
وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً). أي: لا يؤمر ولا ينهى، وقيل لا يبعث.
الطريقة السادسة:
تنزيه الله عن الظلم:
فلو لم يكن هناك بعث لا استوى الناس، فاستوى المؤمن الذي ترك كثيراً من الشبهات مخافة ربه، والكافر لا يعرف ربه أصلاً.
قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).
الطريقة السابعة:
ذكر وقائع وأحداث يستدل بها على البعث.
كما في قصة قتيل بني إسرائيل.
وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها.
وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة.
وقصة أصحاب الكهف، فقد أماتهم الله في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، قال تعالى في قصتهم: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ
…
).
الفوائد:
1 -
أن الإخبار بها من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين.
3 -
الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.
4 -
إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عدلٌ لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم لا يجوز عليه العبث.
5 -
إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق والمتنوعات، زيادته في هداية المهتدي، وإعذاراً وإنذاراً للضال.
6 -
أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله بالتعنت وكثرة الأسئلة بل يبادر إلى الامتثال.
7 -
أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور وجه الحكمة فيه بالإنكار، وذلك نوع من الكفر.
8 -
الإخبار عن قساوة قلوب هذه الأمة وغلظها وعدم تمكن الإيمان فيها.
9 -
مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعاً وقدراً، فإن القاتل قصده ميراث المقتول ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول.
7 -
الرجوع إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمور الهامة التي طريقها الشرع.
8 -
بيان ما عليه بنو إسرائيل من سوء الظن بموسى.
9 -
تحريم الاستهزاء والسخرية.
10 -
أن الأنبياء لا يلجئون إلا إلى الله.
11 -
أن الله مجيب الدعاء.
12 -
أن القاتل لابد أن يخرجه الله.
13 -
أن الله أرى عباده من آياته ما يكون به العقل والرشد.
14 -
أن تدبر الأسباب سبب للعقل.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)).
[البقرة: 74].
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه القتيل (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: أصبحت قاسية غليظة لا تتأثر بمواعظ ولا يدخلها خير.
(مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد ذلك الأمر الذي عاينتموه، وهو إحياء القتيل، الذي هو أعظم سبب للين القلب.
• قال في التسهيل (مِن بَعْدِ ذلك) أي بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات.
• قال ابن عاشور: قوله تعالى (من بعد ذلك) زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك.
• معنى قسوة القلب: غلظتها وشدتها بحيث لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير.
• قال القرطبي: القسوة: الصلابة والشدّة واليُبْس، وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى.
• وقد بين تعالى سبب قسوة القلب في آيات أخرى ومنها: نقض العهد، وطول الأمل.
قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً).
وقال تعالى في طول الأمل (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).
• وقد نهانا الله تعالى أن نتشبه بأهل الكتاب في قسوة قلوبهم كما في الآية السابقة، فوصف أهل الكتاب بالقسوة ونهانا عن التشبه بهم.
•
أسباب قسوة القلب:
أولاً: نقض العهد مع الله.
قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً).
قال ابن عقيل يوماً في موعظته: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً، فإن الله يقول (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ
…
).
الثاني: طول الأمل.
قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
ولذلك طول الأمل ينسي الآخرة، كما قال علي: أخوف ما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فطول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق.
فليس هناك أنفع للقلب من قصر الأمل (وهو العلم بقرب الرحيل).
الثالث: كثرة الأكل، لا سيما إن كان من الشبهات أو الشهوات.
قال بشر: خصلتان تقسّيان القلب: كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
الرابع: كثرة الذنوب.
قال تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وفي المسند قال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فلذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قال بعض السلف: البدن إذا عري رقّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته.
قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب
…
ويورث الذل إدمانها.
وترْك الذنوب حياة القلوب
…
وخيرٌ لنفسِك عصيانها.
•
علامات رقة ولين القلب:
أولاً: الإكثار من ذكر الله.
قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
قال رجل للحسن، يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بذكر الله.
قال بعض السلف: دواء القلب من خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
ثانياً: العطف على المسكين.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين) رواه أحمد.
ثالثاً: زيارة المقابر.
قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة، وترق القلب) رواه أحمد.
إذا قسا القلب قحطت العين.
رابعاً: كثرة ذكر الموت.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) رواه الترمذي.
لما في ذلك من رقة القلب، ونشاط العبادة، وتعجيل التوبة، والإقلاع عن المعاصي.
قال سعيد بن جبير: لو فارق الموت ذكر قلبي لفسد.
خامساً: أكل الحلال.
قال الفضيل: من عرف ما يدخل جوفه كتب عند الله صديقاً.
وقال سهل التستري: من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى.
وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله: بِمَ تلين القلوب؟ قال: بأكل الحلال.
سادساً: الدعاء بسلامة القلب.
كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد.
سابعاً: الاستجابة لأمر الله ورسوله.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).
• قال ابن القيم: ما ضربَ عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
…
خلقت النار لإذابة القلوب القاسية.
أبعد القلوب من الله القلب القاسي.
إذا قسا القلب قحطت العين.
قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة.
كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
(فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) أي: فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً، فلا علاج للينها.
• قال البغوي: وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام، والحجارة لا تلين قط.
• وقال ابن عاشور: وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها.
(أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أجمع العلماء على أن (أو) ليست للشك لاستحالة ذلك في حق الله، واختلف في معناها.
فقيل: هي بمعنى (بل) والتقدير فهي كالحجارة بل أشد قسوة.
كقوله تعالى (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) أي: بل يزيدون.
وقيل: هي بمعنى (الواو) والتقدير: فهي كالحجارة وأشد قسوة.
كقوله تعالى (ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي: وكفوراً.
وكقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لبعولتهن أو آبائهن) والمعنى وآبائهن.
وكقوله (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) يعني وبيوت آبائكم.
وقيل: معنى ذلك قلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها في القسوة.
قال ابن جرير: ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة، ورجحه ابن جرير.
(وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) أي: تتدفق منها الأنهار الغزيرة.
(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) أي: ومن الحجارة ما يتصدع إشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.
(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي: ومنها ما يتفتت ويتردى من رؤوس الجبال من خشية الله.
• قال بعض العلماء في قوله (مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) هو سقوط البرد من السحاب، لكن هذا تأويل بعيد، وخروج عن اللفظ عن ظاهره بلا دليل، وزعم بعضهم أن إسناد الخشوع إلى الحجارة من باب المجاز، ولكن هذا قول ضعيف، قال القرطبي: ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة.
كما في قوله تعالى (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وقوله تعالى (وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
وقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
وقوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
وقال صلى الله عليه وسلم (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (أحد جبل يحبنا ونحبه) متفق عليه.
وقد حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبح الحصى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي: أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا يخفي عليه خافية، وسيجازيهم عليها، وفي هذا وعيد وتهديد.
• قال القاسمي: وقوله تعالى (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى. فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه، مطلعاً عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد.
• والغفلة صفة منفية فيجب نفيها عن الله مع إثبات ضدها، فالله لا يغفل لكمال علمه.
الفوائد:
1 -
التحذير من قسوة القلب.
2 -
أن قسوة القلب من صفات اليهود، فيجب الحذر منها.
3 -
يجب الابتعاد عن كل سبب يؤدي إلى قسوة القلب.
4 -
التحذير من قسوة القلب بعد ظهور الآيات، لأنه أعظم شراً وأكبر إثماً.
5 -
أن قلوب بني إسرائيل التي قست كالحجارة أو أشد.
6 -
عموم رقابة الله عز وجل على كل شيء، ولا يفوته شيء ولا يخفى عليه شيء.
7 -
أن الغفلة من الصفات المنفية عن الله وذلك لكمال علمه سبحانه.
8 -
تهديد العصاة، بأن الله لا يغفل عنهم.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)).
[البقرة: 75 - 77].
(أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المؤمنون.
(أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي: ينقاد لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهدوا من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك.
• قال القاسمي (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي: هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم.
• قال القرطبي: قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ) هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود؛ أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك.
والخطاب لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجِوار الذي كان بينهم.
وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة.
أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا.
• قال الرازي: المراد بقوله (أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ) هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع.
• قال ابن عاشور: فإن قلت، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائماً؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه؟
قلت: إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفساً نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم.
(وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) اختلف العلماء في المراد بكلام الله هنا:
فقيل: المراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقولهم.
وضعف هذا القول بعض العلماء، لأن فيها (إذهابا) لفضيلة موسى في اختصاصه (بالتّكليم).
وقيل: المراد بكلام الله التوراة، حرفوا ما فيها من الأحكام ونعت محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحيح، ورجحه القرطبي، وابن كثير، وابن الجوزي.
قال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه.
• قال الماوردي: قوله تعالى (
…
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُم يَسْمَعُون كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) في ذلك قولان:
أحدهما: أنهم علماء اليهود والذين يحرفونه التوراة فيجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً ابتاعاً لأهوائهم وإعانة لراشيهم وهذا قول مجاهد والسدي.
والثاني: أنهم الذين اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم، وهذا قول الربيع بن أنس وابن إسحاق.
• وقال ابن الجوزي: وفي سماعهم لكلام الله قولان:
أحدهما: أنهم قرؤوا التوراة فحرّفوها، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم، وتحريفهم: تغيير ما فيها.
والثاني: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام الله كفاحاً عند الجبل، فلما جاؤوا إلى قومهم قالوا: قال لنا: كذا وكذا، وقال في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه؛ فافعلوا ما تستطيعون. هذا قول مقاتل، والأول أصح. وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إِنكاراً شديداً، وقال: إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة؟! وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبي وكان كذاباً.
• قوله تعالى (ثم يحرفونه) فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف. (قاله ابن عاشور).
(مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) أي: من بعد ما فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة.
(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله؟ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ).
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) تقدم، قيل: المراد بهم المنافقين من اليهود، وقيل: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، قاله بعض السلف.
والمعنى: أن هذه الطائفة من المنافقين إذا اجتمعوا بالمؤمنين - النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - (قَالُوا آمَنَّا) وذكروا لهم أنهم آمنوا، وبيّنوا لهم أن النبي المنتظر المبشر به، أن صفاته الموجودة في كتبهم منطبقة على هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أي: وإذا انفرد واختلى بعضهم ببعض، ورجعوا إلى أصحابهم، وكان الموضع خالياً من المؤمنين.
(قَالُوا) يعني: أصحابهم الذين لم ينافقوا، قالوا منكرين على الذين نافقوا وموبخين لهم:
(أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي: أتحدِّثون المؤمنين وأصحابه.
(بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي: بما بيّن الله لكم في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه صفاته، وأنها منطبقة عليه، وأنه لا شك فيه.
(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) بهذا الإقرار.
(عِنْدَ رَبِّكُمْ) أنكم أقررتم بأنكم تعرفون أنه الحق، يوم القيامة.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذا من بقية مقولهم لقومهم.
والمعنى أي: أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.
• قال الرازي: قوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ففيه وجوه:
أحدها: أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال: أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم، وهو قول الحسن.
وثانيها: أنه راجع إليهم فكأن عند ما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه، وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم.
• وهذا يدل على أنهم في غاية الجهل، لأنهم لو كتموه، أليس الله عالماً بما في ضمائرهم؟ ولذلك وبخهم الله بقوله:
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) أي: أولا يعلمون هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفونه وما يظهرونه، والمعنى: أن إسرارهم وإعلانهم عند الله سواء، لأن الله يعلم السر وأخفى، السر عنده علانية.
• فالله تعالى يعلم ما يسرونه ويبطنونه وما يعلنونه.
• قال ابن عطية: والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره الأحبار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة به، والذي أعلنوه الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع.
قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم.
وقال الحسن: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد بما فتح الله عليهم بما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم (وما يعلنون) أي: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمنا.
الفوائد:
1 -
تأييس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إيمان هؤلاء المعاندين المنحرفين.
2 -
إثبات كلام الله، وأن الله يتكلم.
3 -
ذم تحريف الكلم عن مواضعه.
4 -
أن تحريف الشيء بعد فهمه من نقصان العقل وأشد إثماً من تحريفه إذا لم يفهمه.
5 -
أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت معروفة عند اليهود وكتموها.
6 -
أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولقاء الله.
7 -
إثبات عموم علم الله لكل شيء.
8 -
وجوب الحذر من معصية الله، لأن الله يعلم كل شيء حتى ما في الصدور.
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79)).
[البقرة: 78 - 79].
ثم ذكر الله تعالى طائفة ثالثة، وهي الطائفة الجاهلة التي لا تدري، وإنما تسمع كلاماً فتقلد فيه تقليداً أعمى: فقال:
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) أي: ومن أهل الكتاب أميون.
• والأميون: جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة.
• قال ابن الجوزي: وفي تسميته بالأمي قولان:
أحدهما: لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب، فهو على جبلته، قاله الزجاج.
والثاني: أنه ينسب إلى أمه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء. وقيل: لأنه على ما ولدته أمه.
(لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) أي: لا يدرون ما فيه.
(إِلَّا أَمَانِيَّ) اختلف العلماء في المراد بالأماني هنا على قولين:
أحدهما: أن المراد بالأمنية القراءة، أي: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ دون إدراك معانيها.
واستشهد على ذلك بقوله تعالى (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: تلا (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .. ).
ويكون الأماني هنا جمع أمنِيّة.
• قال الشنقيطي: وهذا القول لا يتناسب مع قوله (ومنهم أميون) لأن الأمي لا يقرأ.
والثاني: أن الاستثناء منقطع، والمعنى: لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أماني باطلة، لأن الأماني ليست من الكتابة، وهذا قول جمهور العلماء.
ويكون الأماني - على هذا القول- جمع أُمْنِيَة، والأمنيَة هي: أن يود الإنسان ويطلب ما لا يمكن وقوعه أو ما يبعد وقوعه جداً، كقول الشاعر:
ألا ليت الشبابَ يعود يوماً
…
فأخبره بما فعل المشيبُ.
فهم يتمنون أماني فقط:
كقوله تعالى عنهم (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ).
وقوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).
وقوله تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).
وهذا القول هو الراجح، وفي الآية قرينة تدل على هذا القول وهي قوله (ومنهم أميون) والأمي هو الذي لا يقرأ، فلو فسرتْ (إلا أماني) بمعنى إلا قراءة لصار في ذلك تعارض
(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي: ما هم على يقين من أمرهم بل هم مقلدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.
• قال الشنقيطي: والظن يطلق إطلاقين، يطلق على الشك، وهو المراد هنا، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن
…
) وهناك إطلاق آخر.
• ثم ذكر تعالى صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب وأكل أموال الناس بالباطل فقال:
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) أي: هلاك وعذاب لأولئك الذين حرفوا التوراة، وكتبوا تلك الآيات المحرفة بأيديهم.
• فمعنى (يكتبونه) أي: يكتبونه كتابة محرفة.
• الويل: قيل: واد في جهنم، وقيل: جبل من نار، وقيل: كلمة تهديد ووعيد.
• قوله تعالى (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد، فإنه قد علم أن الكتْب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله تعالى (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ).
وقيل فائدة (بِأَيْدِيهِمْ) بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتولى وإن كان رأياً له.
• قال في التسهيل: (بِأَيْدِيهِمْ) تحقيق لافترائهم.
• قال الشوكاني: وقوله (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد؛ لأن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقوله (يَقُولُونَ بأفواههم).
(ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: ثم يقولون لأتباعهم الأميين هذا الذي تجدونه هو من نصوص التوراة التي أنزلها الله على
موسى، مع أنهم كتبوها بأيديهم ونسبوها إلى الله كذباً وزوراً.
(لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي: لينالوا به عرض الدنيا وحطامها الفاني.
• والاشتراء في لغة العرب: الاستبدال، فكل شيء استبدلته بشيء فقد اشتريته.
• قال السعدي: فجعلوا باطلهم شركاً يصطادون به ما في أيدي الناس، فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق، بل بأبطل الباطل، وذلك أعظم ممن يأخذها غصباً وسرقة ونحوهما.
• فاليهود حرفوا وكتموا حرصاً على الدنيا وحطامها من المال والرئاسة والمنصب وغيرها.
قال الحسن: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.
• وفي هذا أن الدنيا كلها ثمن قليل حقير.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي.
ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
• وقد ذكر بعض العلماء أن من موانع الهداية أن يكون للإنسان جولة ومنصب في الباطل.
(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي: العذاب حاصل على أمرين:
الأول: ما كتبوه. الثاني: ما كسبوه من المال الحرام من هذه الكتابة.
ولهذا قال ابن كثير: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت.
• وقال أبو حيان: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل مما يكسبون) كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط.
فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك.
وظاهر الكسب هو ما أخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية.
• وقال السعدي: (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) أي: من التحريف والباطل (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال، والويل: شدة العذاب والحسرة، وفي ضمنها الوعيد الشديد.
الفوائد:
1 -
ذم من لا يفهم معنى كتاب الله
2 -
الحث على تدبر وفهم كلام الله.
3 -
تحريم القول على الله بغير علم.
4 -
التهديد الشديد لمن يحرف دين الله وشرعه من أجل حطام الدنيا.
5 -
أن من فعل ذلك من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
6 -
أن متاع الدنيا متاع قليل، لأن صاحبه يموت، وهو متاع يزول.
7 -
الحث على طلب الآخرة لأنها هي الباقية.
8 -
التحذير من التشبه بصفات اليهود من كتم العلم، وطلب الدنيا بالآخرة.
(وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)).
[البقرة: 80].
(وَقَالُوا) أي: اليهود، يخبر تعالى عن اليهود فيما نقلوه وادعوا لأنفسهم.
(لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) أي: أنه لن تمسهم النار ويدخلونها إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها.
• يقصدون أن الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنهم يعذبون بكل ألف سنة يوماً في النار، وقيل: يعنون الأيام التي عبدنا فيها العجل.
• قال ابن الجوزي: (وقالوا لن تمسنا النار إِلا أياماً معدودة) وهم: اليهود. وفيما عنوا بهذه الأيام قولان.
أحدهما: أنهم أرادوا أربعين يوماً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، والسدي.
ولماذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أنهم قالوا: بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس، والثاني: أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية، والثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل.
والقول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس.
• فرد الله عليهم وأكذبهم فقال.
(قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً) أي: قل لهم يا محمد على سبيل الإنكار والتوبيخ، هل أعطاكم الله العهد والميثاق بذلك؟
قال ابن الجوزي: أي عهد إِليكم أنه لا يعذبكم إِلا هذا المقدار؟
(فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) أي: فإنْ كان قد وقع عهد فهو لا يخلف الميعاد، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا قال:
(أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(أم) بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ» . فَجُمِعُوا لَهُ فَقَالَ «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ» . فَقَالُوا نَعَمْ. قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَبُوكُمْ» . قَالُوا فُلَانٌ. فَقَالَ «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» . قَالُوا صَدَقْتَ. قَالَ «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ» فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ لَهُمْ «مَنْ أَهْلُ النَّارِ» . قَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ» . فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. قَالَ «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا» .
قَالُوا نَعَمْ. قَالَ «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ» . قَالُوا أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ) رواه البخاري.
الفوائد:
1 -
بيان كذب اليهود فيما ادعوا.
2 -
من أسلوب القرآن الرد على الشبه وتوضيح الحق كما قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فكذبهم الله بقولهم (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) فإن الله لا يأمر بالفحشاء.
3 -
أن اليهود لا يبالون بالافتراء على الله لينالوا مآربهم.
(بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)).
[البقرة: 81 - 82].
(بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يقول تعالى رداً على دعوى اليهود: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من كسب سيئة، والسيئة: العمل السيء، سميت سيئة لأنها تسوء صاحبها في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا بظهور آثارها عليه من الهمّ والضيق في الصدر والخلق والرزق، فيفقد من السعادة في الحياة بقدر ما عمل من السوء، قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وقال تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). وتسوؤه آجلاً بعد موته لمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه.
(وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي: أحاط به شركه، وغمرته ذنوبه من جميع جوانبه، وسدت عليه جميع مسالك النجاة، بأن فعل مثل فعلكم أيها اليهود.
• فالمراد بالخطيئة هنا الشرك، لأنه الذنب الذي يخلد صاحبه في النار، لأن الله أخبر أنه من أصحاب النار المخلدين، ولا يخلد في النار إلا المشرك.
(فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: أصحابها الملازمين لها، أبد الآبدين ودهرين الداهرين، لا يخرجون منها (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم.
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بجوارحهم. [سبق شرح الآية].
وتقدم شروط العمل الصالح: أن يكون خالصاً لله، متابعاً للشريعة.
(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: أصحابها الملازمون لها، لا يخرجون منها (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)[وقد سبق شرح الخلود].
• قال الرازي: اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد:
أحدها: ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان.
وثانيها: أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه.
وثالثها: أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان.
الفوائد:
1 -
أن من كذب الله وأشرك به فمأواه جهنم.
2 -
أن العبرة بالشريعة بالعمل لا بالدعوى والتمني.
3 -
أن من آمن وعمل صالحاً فله الجنة.
4 -
الحث على العمل الصالح وهو ما كان خالصاً لله موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
5 -
أنه لا يستحق الخلود في النار إلا من أحاطت به خطيئته وهو من أشرك بالله تعالى.
6 -
أن من طريقة القرآن أنه إذا ذكر أهل النار وعقوبتهم، ذكر أهل الجنة ومالهم من النعيم.
7 -
إثبات الجنة والنار.
8 -
أن أهل الجنة مخلدون فيها.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83)).
[البقرة: 83].
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) أي: واذكر حين أخذنا على أسلافكم يا معشر اليهود الميثاق.
• والميثاق هو: العهد المؤكد.
• اختلف في الميثاق، فقيل: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر، وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم أحياء على السنة رسلهم.
• قال السعدي: قوله (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به، استعصوا؛ فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة، والعهود الموثقة
(لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي: أن يخلصوا في عبادة الله، فلا يعبدون ملكاً ولا رسولاً ولا حجراً.
• ففيه النهي عن الشرك، فلا تقبل الأعمال كلها مع الشرك.
• والله أمر بهذا جميع خلقه:
كما قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
وقال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال (قلت يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) متفق عليه.
• وقد نقدم تعريف العبادة عند آية [20].
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ذكر تعالى بعد حق الله حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن الله بين حقه وحق الوالدين.
كما قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وقال تعالى (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وقال تعالى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً).
وأوصى تعالى بالوالدين إحساناً:
قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً).
وقال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ).
وعن ابن مسعود قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ (الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا). قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ (ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ). قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ (ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وعن عبد الله بن عمرو قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) متفق عليه.
ولمسلم (فارجع إلى والديك فأحسن صحبتَهما).
ولحديث أبي هريرة. (أن رجلاً قال يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك).
كيفية الإحسان لهما: بالقول والفعل:
في حياتهما: بالبر والطاعة والإكرام والتوقير والتواضع لهما.
بعد موتهما: الدعاء لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما.
• وللإحسان ضدان: الإساءة وهي أعظم جرماً، وترك الإحسان بدون إساءة، وهذا محرم، لكن لا يجب أن يلحق بالأول. (قاله السعدي).
• هذا البر لا يختص بالأبوين المسلمين، بل ولو كانا على الشرك.
قال تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وقال تعالى (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)
وعن أسماء قالت (قدمت أمي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم).
راغبة: أي بالعطاء.
ومن الإحسان ألا يجاهد إلا بإذنهما.
للحديث السابق.
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يزور قبر أمه:
قال صلى الله عليه وسلم (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة). رواه مسلم
وهذا إبراهيم خليل الرحمن يخاطب أباه بلطف وإشفاق:
قال تعالى (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً).
وهذا يحي يثني عليه الله بوصفه براً بوالديه:
قال تعالى (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً).
وكذلك عيسى عليه السلام فيذكر الله في كتابه قوله:
قال تعالى (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).
نماذج من سلف الأمة:
عن محمد بن المنكدر أنه كان يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه: قومي ضعي قدمك على خدي.
وعن ابن عون المزني: أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
قال ابن الجوزي: بلغنا عن عمر بن ذر، أنه لما مات ابنه قيل له: كيف كان بره بك؟ قال: ما مشى معي نهاراً إلا كان خلفي، ولا ليلاً إلا كان أمامي، ولا رقد على سطح أنا تحته.
كان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمِّه فقال: السلام عليك - يا أماه - ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام - يا ولدي - ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحِمَك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.
وعن الزهري قال: كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبرَّ الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري فآكله، فأكون قد عققتها.
(وَذِي الْقُرْبَى) أي: وأحسنوا إلى ذي القرابة، سواء من قبل الأم أو من قبل الأب، والإحسان إليهم يكون بالقول والفعل، لكن الإحسان إلى الوالدين أعظم، لأنهم أقرب القربى إليك.
(وَالْيَتَامَى) أي: وأحسنوا إلى اليتامى.
• واليتيم: هو من مات أبوه وهو لم يبلغ.
• قال في التسهيل: جمع يتيم: وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه.
• وقد أوصت الشريعة بالعناية باليتيم وبماله وحذرت من أكل ماله.
فقد أوصى الله باليتيم في آيات كثيرة:
كقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).
وقال تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ).
وحذر الله من أكل مال اليتامى.
فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كافل اليتيم في الجنة:
فقال صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أحرّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه النسائي، أي: ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما، وأحذّر من ذلك تحذيراً بليغاً.
(وَالْمَسَاكِينِ) أي: وأحسنوا إلى المساكين، والمساكين جمع مسكين، وهو من لا يجد تمام كفايته، سموا بذلك، لأن الفقر أذله وأسكنه، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر والجوع، فعن أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع) رواه أبو داود.
وفي حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر). رواه النسائي ويدخل في المساكين هنا: الفقراء، لأن كلاً منهما يطلق على الآخر إذا انفرد كل واحد منهما، لكن إذا ذكرا معاً كما في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) كان لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
• وسمي المعدم مسكيناً، لأن الفقر أسكنه وأذله، فلا يطمع أن يصل إلى مرتبة الأغنياء.
• قال في التسهيل: وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم، فقدم الوالدين لحقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثم المساكين.
• قال الرازي: إنما تأخرت درجتهم عن اليتامى لأن المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى، ولأن المسكين أيضاً يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك
فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين.
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي: كلموهم كلاماً طيباً ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
•
فضائل الكلمة الطيبة:
الكلمة الطيبة سبب لصلاح الأحوال وغفران الذنوب.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
وأمر الله بالكلمة الطيبة.
فقال تعالى (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ).
وقال سبحانه (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن).
وقال سبحانه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
الكلمة الطيبة سبب لرضوان الله.
عن بِلالِ بن الحارِثِ المُزَنِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال (إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى مَا كَانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَومِ يَلْقَاه) رواه الترمذي.
والكلمة الطيبة سبب دخول الجنة.
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَام) رواه الترمذي.
وعن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قلت يا رسول الله حدثني بشيء يوجب لي الجنة. قال: «موجب الجنة: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الكلام» رواه الطبراني
الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ» ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» رواه البخاري ومسلم
الكلمة الطيبة شعبة من شعب الإيمان.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» متفق عليه.
الكلمة الطيبة صدقة.
قال صلى الله عليه وسلم (وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَة) متفق عليه.
والكلمة الطيبة انتصار على الشيطان.
قال تعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً).
• قال السعدي: ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب.
ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله، أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق، وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن).
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالا لأمر الله، ورجاء لثوابه.
قال الحسن البصري فالحُسْن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.
• وفي هذا حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً ووجهه منبسطاً طلقاً، لأن الله يقول لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
وقال تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
وقال تعالى (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
• قال ابن كثير: وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تقدم عند آية [43].
(وَآتُوا الزَّكَاةَ) تقدم عند آية [43].
• قال السعدي: ثم أمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد.
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ كلهم بتلك السبل في إعراضهم عن الحق مثلهم.
(إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) كعبد الله بن سلام وأصحابه.
• قال أبو حيان: والمعنيُّ بالقليل القليل في عدد الأشخاص، فقيل: هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: من آمن قديماً من أسلافهم، وحديثاً كعبد الله بن سلام وغيره.
قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى، وضعفه أبو حيان.
(وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن الميثاق الذي أخذ عليكم.
• فسر بعض العلماء التولي بالإعراض، ومن ثَمّ قال: الفائدة من ذلك التكرار التأكيد كما قال تعالى (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) ومن من العلماء من قال: إن التولي يكون بالجسم، والإعراض يكون بالقلب، ومنهم من قال (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) خطاب لهم والمراد أسلافهم من آبائهم وأجدادهم الذين تولوا، وقوله (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) انتقل الخطاب إلى المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، والمعنى على ذلك: ثم تولى آباؤكم، وأنتم كذلك معرضون.
• قال ابن كثير: وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها.
الفوائد:
1 -
وجوب عبادة الله تعالى.
2 -
تحريم الشرك.
3 -
أهمية حق الوالدين وأنه أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى.
4 -
بيان عظمة الله لقوله (وإذ أخذنا .. ) لأن الضمير هنا للتعظيم.
5 -
وجوب الإحسان إلى ذي القربى، وهم من يجتمعون به بالأب الرابع فما دون.
6 -
وجوب الإحسان إلى اليتامى.
7 -
اهتمام الشريعة بحقوق الضعفاء وجاءت بالأجر الكبير بالإحسان إليهم.
8 -
وجوب الإحسان إلى المساكين وذلك بإعطائهم ما يستحقون من الزكاة.
9 -
وجوب القول الحسن.
10 -
تحريم القول السوء.
11 -
أهمية الصلاة وأنها مشروعة في جميع الأمم.
12 -
أهمية الزكاة وأنها من أعظم الأركان بعد الصلاة.
13 -
أن بني إسرائيل مع هذا الميثاق الذي أخذه الله عليهم لم يقوموا به إلا القليل منهم.
14 -
سنة الله في أن أهل الطاعة أقل من أهل الشر كما قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقال تعالى (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال صلى الله عليه وسلم (
…
يأتي والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد).
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86)).
[البقرة: 84 - 86].
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) بين تعالى أنه أخذ ميثاقاً على بني إسرائيل وهو عدم العدوان من بعضهم على بعض.
(لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، لأن أهل الملة الواحدة كالنفس الواحدة كما قال تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: لا يلمز بعضكم بعضاً، وقوله تعالى (فسلموا على أنفسكم) أي: على إخوانكم، وقوله تعالى (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي: بإخوانهم.
• قال القرطبي: فإن قيل: وهل يَسفِك أحد دمه ويُخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملّتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضاً وإخراج بعضهم بعضاً قتلاً لأنفسهم ونَفياً لها.
• قال ابن عاشور: وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم) أي فليسلم بعضكم على بعض.
(وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) أي: ولا يعتدي بعضكم على بعض بالإخراج من الديار، والإجلاء عن الأوطان.
• قال الماوردي: قوله (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُ مِّن دِيَارِكُمْ) أما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة، فنفس الإنسان أنفس ما فيه، وأما الديار فالمنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال.
(ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يعني إخوانكم.
• قال ابن كثير: ينكر الله تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسرى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة، ولهذا قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
(وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) أي: وطردتموهم من ديارهم من غير التفات إلى العهد الوثيق.
(تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) أي: تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم.
(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) أي: وإذا وقعوا في الأسر فاديتموهم، ودفعتم المال لتخليصهم من الأسر.
(وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟. (قاله ابن عاشور).
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ) أي: أفتؤمنون ببعض أحكام التوراة، وهذا يتبين مما قبله: وهو فداء الأسارى منهم.
(وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم.
• قال في التسهيل: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب) فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم.
• وإن كان وقع منهم كفر بأشياء أخرى ككتم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
• والآية توبيخ لهم، لأنهم جمعوا بين الكفر والإيمان.
(فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ) أي: ما عقوبة من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
(إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إلا ذل ومهانة وصغار.
• الحياة الدنيا سميت بذلك: لأنها قبل الآخرة في الزمن، ولدناءتها وحقارتها بالنسبة للآخرة. كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء). رواه الترمذي
وقال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيدهم.
•
ويوم القيامة سمي بذلك:
أولاً: لقيام الناس من قبورهم.
كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثانياً: لقيام الأشهاد.
كما قال تعالى (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
ثالثاً: لقيام الروح والملائكة.
كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً).
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد شديد لمن عصى أوامر الله، فإن الله لا يغفل عنه شيئاً وذلك لكمال علمه سبحانه وتعالى.
(أُولَئِكَ) الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة.
(الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) أي: استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة، أي: اختاروها وآثروها على الآخرة.
(فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) أي: لا يُفتر عنهم العذاب ساعة واحدة.
(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي: ليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي.
الفوائد:
1 -
أن بني إسرائيل أُخِذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً.
2 -
بيان تمرد بني إسرائيل، حيث إنهم نقضوا العهد الذي أخذه الله عليهم.
3 -
تناقض بني إسرائيل في دينهم.
4 -
أن الكفر ببعض الشريعة كفر بجميعها.
5 -
إثبات الجزاء يوم القيامة.
6 -
إثبات يوم القيامة.
7 -
أن عذاب الآخرة أشد وأبقى.
8 -
التحذير لهذه الأمة من التشبه باليهود في أعمالهم المنكرة.
9 -
أن الله لا يغفل عن شيء لكمال علمه، وهذه قاعدة: كل صفة نفي: فإننا ننفيها ونثبت كمال ضدها، فالله لا ينام لكمال حياته، ولا يجهل لكمال علمه، ولا يظلم لكمال عدله.
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)).
[البقرة: 87].
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) أي: ولقد أعطينا موسى بن عمران الكتاب وهو التوراة.
• وموسى هو ابن عمران أفضل أنبياء بني إسرائيل، وأحد أولي العزم من الرسل الخمسة.
(وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أي: وأتبعنا وأردفنا من بعده بالرسل كما قال تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم.
• قال ابن الجوزي: وقفَّينا: أتبعنا. قال ابن قتيبة: وهو مأخوذ من القفا. يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره.
• قال الشوكاني: والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلاً جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده.
(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي: وأعطينا من الآيات البينات والمعجزات الظاهرات الواضحات الدالة على نبوته.
• قال الرازي: السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له، وليس كذلك عيسى، لأن شرعه نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام.
• ولم يبيّن هنا ما هذه البينات لكنه بينها في آية أخرى كقوله تعالى (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
• قوله تعالى (ابن مريم) قال ابن تيمية: ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال (ابن مريم) بخلاف سائر الأنبياء وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: بيان أنه مولود، والله لم يولد.
والثانية: نسبته إلى مريم، بأنه ابنها ليس هو ابن الله.
(وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) اختلف ما هو روح القدس هنا والصحيح أنه جبريل ورجحه ابن جرير وابن كثير والشنقيطي وابن جزي ويدل لهذا:
قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ).
وقوله تعالى (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) أي جبريل.
وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم لحسان (اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك) رواه البخاري وفي رواية (أهجهم وجبريل معك).
• قال الطبري: وإنما سمى الله تعالى جبريل (روحاً) وأضافه إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله له روحاً من عنده من غير ولادة والد ولده فسماه بذلك (روحاً) وأضافه إلى (القدس) والقدس هو الطهر، كما سمى عيسى ابن مريم روحاً من أجل تكوينه له روحاً من عنده من غير ولادة والد له.
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ) أي: أفكلما جاءكم نبي يا بني إسرائيل بما لا يوافق أنفسكم ولا يلائمها.
• قال ابن عاشور: و (تهوى) مضارع هوى بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.
(اسْتَكْبَرْتُمْ) عن إجابته، احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة.
قال ابن عاشور: والاستكبار: الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعاً لهم.
(فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام.
(وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وكان من قتلوه يحيي وزكريا عليهما السلام.
قال ابن كثير: كانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة، ففريقاً يكذبونه، وفريقاً يقتلونه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها، فلهذا كان يشق ذلك عليهم، فيكذبونهم، وربما قتلوا بعضهم.
وقال: قال الزمخشري في قوله (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وإنما لم يقل: وفريقاً قتلتم، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً، لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري.
• قال الرازي: قوله تعالى (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ استكبرتم فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) فهو نهاية الذم
لهم، لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم.
• قال الشنقيطي: قوله تعالى (أفكُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)، وكقوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون)، وقوله تعالى (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وبيّن تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة وكما في قوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية.
والذي يظهر في الجواب عن هذا أن الرسل قسمان: قسم أمروا بالقتال في سبيل الله، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة.
الفوائد:
1 -
بيان ما منّ الله به على موسى من إعطائه الكتاب.
2 -
عظمة الله حيث وصف نفسه بقوله (ولقد آتينا).
3 -
إثبات نبوة موسى عليه السلام.
4 -
أن الله لم يهمل الخلق بل أرسل إليهم رسلاً.
5 -
أن الله أعطى عيسى الآيات البينات الواضحات التي تدل على صدقه.
6 -
رحمة الله بخلقه وحكمته حيث أيد الرسل بالآيات، من أجل يؤمنوا به ويصدقوه.
7 -
بطلان دعوى النصارى بألوهية عيسى.
8 -
إثبات الملك الكريم جبريل.
9 -
أن بني إسرائيل قتلة الأنبياء.
10 -
شدة تكذيب بني إسرائيل للرسل.
(وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88)).
[البقرة: 88].
(وَقَالُوا) أي: اليهود، إذا دعوا إلى الحق.
(قُلُوبُنَا غُلْفٌ) اختلف العلماء في معنى ذلك على قولين:
القول الأول: أي: في أكنّة لا تفقه.
قال ابن القيم: وهذا قول أكثر المفسرين.
والقول الثاني: أي: قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم محمد، وهذا على القراءة الشاذة (قلوبنا غُلُف).
والأول أصح لتكرر نظائره في القرآن كقولهم (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) وقوله تعالى (الَذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ
عَنْ ذِكْرِي).
• قال ابن الجوزي: (وقالوا قلوبنا غلف) قرأ الجمهور بإسكان اللام، وقرأ قوم، منهم الحسن وابن محيصن بضمها. قال الزجاج. من قرأ (غلف) بتسكين اللام، فمعناه: ذوات غلف، فكأنهم قالوا: قلوبنا في أوعية. ومن قرأ (غلُف) بضم اللام، فهو جمع (غلاف) فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم؟! فعلى الأول؛ يقصدون إعراضه عنهم، كأنهم يقولون ما نفهم شيئاً. وعلى الثاني يقولون: لو كان قولك حقاً لقبلته قلوبنا.
• قال الطبري: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد، فقال الله: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله.
(بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بكفرهم) هذا رد من الله عليهم، أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة. بل لعنهم الله (بِـ) بسبب (كُفْرِهِمْ) بالله تعالى، وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
• بل هنا للإضراب الإبطالي، يعني: بل ليس في قلوبهم غلاف، ولكن لعنهم الله بكفرهم.
• قال الآلوسي: (بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بكفرهم) هذا رد لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقاً وصدقاً بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.
• قال ابن عاشور: فاللعنة حصلت لهم عقاباً على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.
• قال ابن القيم: وجه الإضراب أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة؟ وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف فهم معذورون في عدم الإيمان فأكذبهم الله وقال (قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً). فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة، والمعنى لم نخلق قلوبهم غلفاً لا تعي ولا تفقه، ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالاً عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
(فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) اختُلف في معناها:
فقيل: فقليل من يؤمن منهم، وهذا أمر مشاهد، فاليهود قليل منهم من يسلم.
وقيل: فقليل إيمانهم، بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لا يؤمنون أبداً، وأن مثل هذا التعبير جار في لسان العرب، فهو نفي للكل، قال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، يريدون ولا تنبت شيئاً.
والآية تعم الجميع، لأننا القاعدة في التفسير: أنه متى احتملت الآية أكثر من معنى بدون أن يكون هناك تناقض فإنها تحمل على كل المعاني.
الفوائد:
1 -
أن اليهود يدعون ما ليس بحق، حينما يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون إن قلوبنا غلف.
2 -
أن اليهود ملعونون.
3 -
أن الكفر سبب للعنة.
4 -
خطر المعاصي على القلب من كفر ومعصية، ولذلك أصاب بني إسرائيل قسوة القلب بسبب نقضهم الميثاق وطول الأمل كما سبق.
5 -
من أراد صفاء قلبه وطهارته فليبتعد عن المعاصي.
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90)).
[البقرة: 89 - 90].
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ) أي: اليهود.
(كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو القرآن الكريم، وسبق لماذا سمي القرآن كتاباً.
• قال الرازي: قد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى (مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ) يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن.
(مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) أي: أن هذا القرآن مصدق لما معهم من التوراة، قال قتادة: وهو القرآن الذي أنزل على محمد مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.
• وسبق معنى تصديق القرآن للكتب السابقة عند الآية [41].
(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) أي: وكان هؤلاء اليهود قبل مجيء هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
(يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين، والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون.
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا) أي: من الحق وصفة محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا ينتظرونه.
(كَفَرُوا بِهِ) ولم يؤمنوا به، ولم يؤمنوا بما جاء به.
عن قتادة قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يُعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بُعث من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة.
(فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) اللعن: هو الطرد من رحمة الله، وهؤلاء لعنوا وطردوا من رحمة الله لأنهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) أي: أن اليهود باعوا الحق بالباطل، وكتموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.
(بَغْياً) أي: وإنما حملهم على ذلك البغي، والأكثر على أن المراد بالبغي هنا الحسد، والظاهر أنه أخص من الحسد.
(أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي: لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صلى الله عليه وسلم.
• والمراد بالفضل هنا النبوة والقرآن.
• قال الطبري: بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتباعه، من أجل أن أنزل الله من فضله - وفضله حكمته وآياته ونبوته - على من يشاء من عباده، يعني به على محمد صلى الله عليه وسلم، بغياً وحسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان من ولد إسماعيل ولم يكن من بني إسرائيل.
• قوله تعالى (على من يشاء من عباده) هذه المشيئة لحكمة.
• قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.
(فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) باءوا: أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر.
واختلف العلماء في معنى (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أما الغضب الثاني فسببه هو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا صفته وأنه النبي المبعوث.
وأما الغضب الأول فسببه كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك أيضاً عبادتهم العجل، وتضييعهم التوراة، وقولهم عزير ابن الله، وقولهم يد الله مغلولة، وقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء.
• قال ابن الجوزي: في قوله تعالى (بغضب على غضب) خمسة أقوال:
أحدها: أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل، والثاني: لكفرهم بمحمد، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس.
والثاني: أن الأول لتكذيبهم رسول الله، والثاني: لعداوتهم لجبريل.
والثالث: أن الأول حين قالوا (يد الله مغلولة) والثاني: حين كذّبوا نبي الله، واختاره الفراء.
والرابع: أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل، والثاني: لتكذيبهم بمحمد والقرآن.
والخامس: أن الأول لتبديلهم التوراة، والثاني: لتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم قاله مجاهد.
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ) أي: عقوبة.
(مُهِينٌ) أي: ذو إهانة وإذلال، لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي: ذليلين حقيرين، ومن إهانتهم أن يقال لهم (قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ).
الفوائد:
1 -
أن القرآن من عند الله.
2 -
أن من أسماء القرآن الكتاب.
3 -
أن القرآن مصدق للكتب السابقة.
4 -
إقامة الحجة على اليهود بمعرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وببعثته.
5 -
شدة عناد واستكبار اليهود.
6 -
خطر الحسد وأنه سبب للصد عن الحق.
7 -
أن من رد الحق حسداً ففيه شبه من اليهود.
8 -
وجوب قبول الحق من أي شخص كان.
9 -
أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء تبعاً لحكمته.
10 -
أن العقوبات سببها المعاصي والذنوب.
11 -
أن المستكبر يعاقب بنقيض قصده.
12 -
إثبات الغضب لله إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92)).
[البقرة: 91 - 92].
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب.
(آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه.
(قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل.
(وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) أي: بما سواه.
• قوله تعالى (وراءه) من كلمة الأضداد، تأتي لمعنىً ولضده، فهي تستمعل بمعنى خلف وبمعنى أمام، فقوله تعالى (وراءهم ملك يأخذ .. ) أي: أمامَهم.
(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) تقدم معنى تصديق القرآن للكتب السابقة.
(قُلْ) رد عليهم من الله في قولهم أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ.
(فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم، قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله.
• والخطاب لمن حضر محمداً صلى الله عليه وسلم، والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم، لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، وقيل: لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم.
• قال ابن عطية: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ) وجاء (تقتلون) بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله (من قبل) وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي.
• وقال ابن الجوزي: وتقتلون بمعنى: قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره.
• قال السمرقندي: وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها، لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء، فسماهم الله تعالى قاتلين.
وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن، ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله، لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم.
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالآيات الواضحات، والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله.
والبينات هي الموضحة في قوله تعالى (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) والعصا واليد، وفلق البحر، وتظليلهم الغمام، والمنّ والسلوى وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) معبوداً من دون الله في زمان موسى.
(مِنْ بَعْدِهِ) قيل: من بعد موسى، وذلك أنهم عبدوا العجل بعد أن فارقهم موسى ماضياً إلى ميقات ربه، وقيل: من بعده، أي من بعد مجيء موسى عليه السلام إليكم بالبينات، والأول أقوى.
(وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) لأنفسكم، لأنكم أشركتم بالله تعالى، لأن الشرك أعظم الظلم، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على الشرك، كما قال تعالى عن العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم)، وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بشرك، ثم تلا قول لقمان (إن الشرك لظلم عظيم)، وقال تعالى (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين) أي: من المشركين.
ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى (كلنا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً) أي ولم تنقص.
الفوائد:
1 -
بيان تعصب اليهود لما هم عليه من الطريق ولو كانت خاطئة.
2 -
التحذير من التشبه باليهود في التعصب للآراء.
3 -
تكذيب الله لليهود بقوله (نؤمن بما أنزل علينا) لأنهم لو آمنوا به، لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
4 -
بيان عتو وعناد اليهود لأنهم قالوا (لا نؤمن إلا بما أنزل علينا.
5 -
أن اليهود قتلة الأنبياء، وهذا من أعظم المنكرات.
6 -
أن القرآن منزل غير مخلوق.
7 -
إفحام الخصم بإقامة الحجة عليه من فعله، وذلك أن الله أقام الحجة على اليهود الحجة على فعلهم، وهم قد قتلوا أنبياء الله الذين جاءوا بالكتاب إليهم.
8 -
إقامة الحجة على اليهود حيث جاءهم موسى بالبينات الواضحات ومع ذلك اتخذوا العجل إلهاً.
9 -
سفاهة اليهود لاتخاذهم العجل إلهاً مع أنهم هم الذين صنعوه.
10 -
أن المشرك ظالم.
11 -
أن الظلم درجات، أعظمه الشرك بالله.
ومن الظلم: ظلم العبد نفسه بالمعاصي كما قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ).
ومن الظلم: ظلم العباد بعضهم بعضاً: كما في الحديث (قال الله: إني حرمت الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). رواه مسلم
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)).
[البقرة: 93].
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) تقدم شرحها عند آية [63].
- قال الرازي: اعلم أن في الإعادة وجوهاً:
أحدها: أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب.
وثانيها: أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وذلك يدل على نهاية لجاجهم.
وقال أبو حيان: وإنما كررت لدعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، وهم كاذبون في ذلك.
ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد الله بالعبادة، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرر عبادة العجل تنبيهاً على عظيم جرمهم.
وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
(بِقُوَّةٍ) تقدم شرحها، ومعناه: أي: أُمروا أن يأخذوا الكتاب الذي أنزله عليهم وهو التوراة بقوة في تصديق أخباره والعمل بأحكامه.
(وَاسْمَعُوا) المراد بالسمع هنا الإجابة، ومنه قولهم (سمعاً وطاعة) أي: إجابة، ومنه (سمع الله لمن حمده) في الصلاة، أي: أجاب دعاء من حمده، ويشهد له قوله تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) وهذا قول الجمهور.
وقيل: المراد (وَاسْمَعُوا) بآذانكم ولا تمتنعوا من أصل الاستماع.
- قال ابن عاشور: قوله: (واسمعوا) مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله (خذوا ما آتيناكم بقوة) يتضمنه ابتداء.
(قَالُوا سَمِعْنَا) بآذاننا.
(وَعَصَيْنَا) بأفعالنا، والعصيان مخالفة الأمر، إن كان أمراً فبتركه، وإن كان نهياً فبارتكابه، وقولهم هذا: غاية ما يكون من المحادة لله عز وجل ورسله.
(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي: حب العجل، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن العجل في قلوبهم.
- قال القرطبي: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها.
- وقال ابن عطية: قوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) التقدير حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم.
- وقال ابن عاشور: وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف.
فائدة: قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: مَا بَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لَهُمْ مَحَبَّةٌ شَدِيدَةٌ لِأَهْوَائِهِمْ؟، فَقَالَ: أَنَسِيتَ قَوْله تَعَالَى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهم).
(بِكُفْرِهِمْ) أي: بسبب كفرهم.
(قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) أي: قل لهم على سبيل التهكم بهم، بئس هذا الإيمان الذي يأمركم بعبادة العجل.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: إن كنتم تزعمون الإيمان فبئس هذا العمل والصنيع، والمعنى: لستم بمؤمنين، لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل.
الفوائد:
1 -
أن الله أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان.
2 -
بيان قدرة الله تعالى.
3 -
وجوب تلقي الشريعة بالقوة والنشاط دون الكسل.
4 -
بيان عتو بني إسرائيل.
5 -
أن الله تعالى قد يبتلي العبد، فيملأ قلبه حباً لما يكرهه لقوله (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ).
(قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)).
[البقرة: 94 - 96].
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء اليهود.
(إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يعني الجنة.
(عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) كما تزعمون أن لكم الجنة دون الناس، فإن اليهود ادعوا دعاوى باطلة:
كقولهم (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).
وقولهم (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى).
وقولهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)
• قال ابن عاشور: قوله تعالى (من دون الناس) والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً).
فأكذبهم الله بقوله:
(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وقد اختلف العلماء في معنى (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) على قولين:
القول الأول: دعاهم لتمني الموت إن كانوا من أهل الجنة كما يزعمون.
لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة، لما يصير إليه من نعيم الجنة ويزول عنه أذى الدنيا، فأحجموا عن تمي ذلك فرقاً من الله لقبح أعمالهم، وحرصهم على الدنيا.
وهذا القول رجحه ابن جرير.
القول الثاني: المراد المباهلة، أي: ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم فما دعوا لعلمهم بكذبهم.
ورجح هذا القول ابن كثير وقال: هذا هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس، ونظير هذه الآية قوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فهم عليهم لعائن الله لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، دعُوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك، علم كل أحد أنهم ظالمون، لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علِم كذبهم.
• قال ابن كثير: وسميت هذه المباهلة تمنياً، لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له.
(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي: ولن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام.
• والذي قدمته أيديهم: تكذيبهم الأنبياء، وقتلهم إياهم، وقولهم (أرنا الله جهرة)، وقولهم (اجعل لنا إلهاً) وقولهم (فاذهب أنت وربك) واعتداؤهم في السبت، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمة قبلهم ولا بعدهم.
• قال أبو حيان: (ولن يتمنوه أبداً بما قدّمت أيديهم) هذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب.
• وأضيفت الأعمال إلى اليد، لأن أكثر الجنايات التي يرتكبها الإنسان تكون بيده فأضيفت سائر أعمال الجوارح إلى اليد تغليباً، فتحريف التوراة كان باليد، وقتل الأنبياء كان باليد.
• قال الرازي: قوله تعالى (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) فبيان للعلة التي لها لا يتمنون (الموت) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تهديد لكل ظالم، أن الله عليم بهم وبأعمالهم وسيجازيهم عليها، وأعظم الظلم الشرك بالله كما تقدم.
• قال الرازي: قوله تعالى (والله عليم بالظالمين) فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر.
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ) أي: اليهود.
(أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي: على طول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة.
• قال ابن عاشور: والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسباباً.
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي: وأحرص من الذين أشركوا الذين لا كتاب لهم، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة، ولا علم لهم من الآخرة، وقيل: إن الكلام تم في (حياة) ثم استأنف الإخبار عن طائفة من المشركين، والأول أصح.
• قال في التسهيل: (وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ) فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون عطفاً على ما قبله فيوصل به، ولمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة فإفراط حبهم للحياة الدنيا.
والآخر: أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) فحذف الموصوف.
وقيل: أراد به المجوس، لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة، والأول أظهر؛ لأن الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم.
• قال السعدي: هم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس، حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.
(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) أي: يتمنى أحدهم.
(لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي: أن يعيش ألف سنة، وهذا أبلغ ما يكون من الحرص، تمنوا حالة هي من المحالات.
• وعبر بالألف لأن العرب كانت تعبر به عند إرادة المبالغة.
• قال الرازي: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) فالمراد أنه تعالى بيّن بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد، ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت.
(وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي: وما طول العمر - مهما عمّر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله.
• قال الشنقيطي: إذا عرفت معنى الآية فاعلم أن الله قد أوضح هذا المعنى مبيناً أن الإنسان لو متع ما متع من السنين ثم انقضى ذلك المتاع وجاءه العذاب، أن ذلك المتاع الفائت لا ينفعه، ولا يغني عنه شيئاً بعد انقضائه وحلول العذاب محله. وذلك في قوله (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ)، وهذه هي أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل. كفانا الله والمؤمنين شره.
(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم، فالله بصير بالذي يعملونه من ظاهر وباطن، وخير وشر.
• وبصير يجوز أن يكون من الإبصار بالعين، ويجوز أن يكون من الإبصار بالعلم
الفوائد:
1 -
تكذيب اليهود الذين قالوا لنا الآخرة دون الناس.
2 -
أن الكافر يكره الموت لما يعلم من سوء العاقبة.
3 -
إثبات علم الله للمستقبل.
4 -
أن اليهود أحرص الناس على حياة.
5 -
ذم الحرص على الحياة، وأن ذلك من صفات اليهود.
6 -
أن كل من كان مذنباً عاصياً لله فإنه يكره الموت.
7 -
أن الإنسان مهما طال عمره فإنه لابد أن يموت.
8 -
أن طول العمر لا ينفع الإنسان شيئاً إذا كان في معصية، بل يكون وبالاً وعذاباً عليه.
9 -
إثبات البصر لله تعالى.
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98)).
[البقرة 97 - 98]
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ) قال الطبري: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل؛ إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم.
عن ابن عباس قال (أقبلت يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم؛ أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت. قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النساء، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا - قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل - فحرم لحومها. قالوا: صدقت. قالوا: فأخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى. قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته. قالوا: صدقت. قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخير، فأخبرنا من صاحبك؟ قال:
جبريل عليه السلام. قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله (قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ
…
).
• قال ابن عاشور: ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من الله ويبغضونه، وهذا من أحط دركات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تظاهر آرائهم على الخطأ والأوهام.
(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ) أي من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
…
) فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله، لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ).
• فقوله (فإنه) أي: جبريل، (نزّله) أي: نزّل القرآن، مع أن القرآن لم يسبق له ذكر، لكن عاد الضمير للقرآن، لأنه مفهوم من السياق كما في قوله تعالى (ما ترك على ظهرها من دابة) فحذفت الأرض لدلالة السياق عليها.
• قال الرازي: قوله تعالى (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ) الهاء في قوله تعالى (فإنه) وفي قوله (نزله) إلى ماذا يعود؟
الجواب فيه قولان: أحدهما: أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية: على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله (مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم، أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله.
• قال القرطبي رحمه الله: وخص القلب بالذكر؛ لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف.
• قال الشنقيطي في قوله (فإنه نزله على قلبك): ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة، ونظيرها في ذلك قوله تعالى:(نزل به الروح الأمين على قلبك) ولكنه بين في مواضع أخر أن معنى ذلك: أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه، وذلك هو معنى تنزيله على قلبه، وذلك كما في قوله تعالى:(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) وقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً).
• قوله تعالى (بِإِذْنِ اللّهِ) فيه أن جبريل لا ينزل من عند نفسه بل ينزل بإذن الله.
(مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) سبق الكلام عن معناه.
(وَهُدًى) أي: هدى لقلوبهم.
(وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين، كما قال تعالى:(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ) وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
• قال ابن عاشور: والبشرى الإخبار بحصول أمر سار أو بترقب حصوله، فالقرآن بشر المؤمنين بأنهم على هدى وكمال ورضى من الله تعالى وبشرهم بأن الله سيؤتيهم خير الدنيا وخير الآخرة.
• وقال رحمه الله: فقد حصل من الأوصاف الخمسة للقرآن وهي أنه منزل من عند الله بإذن الله، وأنه منزل على قلب الرسول، وأنه مصدق لما سبقه من الكتب، وأنه هاد أبلغ هدى، وأنه بشرى للمؤمنين، الثناء على القرآن بكرم الأصل وكرم المقر وكرم الفئة ومفيض الخير على أتباعه الأخيار خيراً عاجلاً وواعد لهم بعاقبة الخير.
(مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ
…
) يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي؛ ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ).
• قوله تعالى (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) هذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل، ثم خُصِّصَا بالذكر، لأن السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وبين أنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً.
وقيل: خُصا بالذكر تشريفاً لهما وبياناً لفضلهما.
• قال الماوردى: فإن قيل: فلم قال (مَن كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ) وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الملائكة فلِمَ خصهما بالذكر؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهما خُصَّا بالذكر تشريفاً لهما وتمييزاً.
والثاني: أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا، وميكائيل ولينا، خُصَّا بالذكر، لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته، لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة، فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص.
وقال ابن عاشور: وخُص جبريل بالذكر هنا لزيادة الاهتمام بعقاب معاديه
(فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) أظهر في موضع الإضمار فإنه قال (عدو للكافرين) ولم يقل: عدو لهم، لثلاثة أمور:
أولاً: الحكم على أن من كان عدواً لله ومن ذُكر، بأنه يكون كافراً.
الثاني: أن كل كافر سواء كان سبب كفره معاداة الله أولا، فالله عدو له.
الثالث: بيان العلة - وهي في هذه الآية - الكفر. [قاله الشيخ ابن عثيمين].
قال الشيخ السبت: أظهر هنا في موضع الإضمار، من أجل أن يبين أن عداوة جبريل كفر بالله.
الفوائد:
1 -
شرف جبريل عليه السلام حيث كان موكلاً بتنزيل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
ذم من عادى جبريل.
3 -
شرف جبريل وميكائيل، وجاء في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول:(اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
4 -
أن القلب هو محل الوعي والفهم.
5 -
أن نزول جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإذن الله.
6 -
بيان أن لجبريل عليه السلام وإن كان من الملائكة، أعداء من البشر من بني آدم ومن أولهم اليهود.
7 -
أن هذا القرآن لا يهتدي به وينتفع به ويكون بشرى إلا للمؤمنين، أما غير المؤمنين فإنه لا ينتفع بهذا القرآن.
8 -
أن كل من كان عدواً لله أو ملائكته أو لرسله أو لجبريل وميكال، فإنه كافر.
9 -
أن كل كافر هو عدو لله، ويشهد لهذا قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ).
10 -
أن كل من كان عدواً لله، فإنه يجب أن يكون عدواً للمؤمنين، لأن من أحب أحداً كان ولياً لمن والاه وعدواً لمن عاداه.
(وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ (99)).
[البقرة: 99]
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) قال ابن جرير في هذه الآية: أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هو ما حواه كتاب الله من خفايا علم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان من ذلك في أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة؛ تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات. (تفسير الطبري).
قال الرازي: الأظهر أن المراد من الآيات البينات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وقال بعضهم: لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ونبوع الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.
(وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) أي: وما يجحد بهذه الآيات ويكذب بها إلا الجاحدون عن الطاعة الماردون عن الكفر.
قال أبو حيان (وما يكفر بها إلا الفاسقون) المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آيات الله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال.
سبق أن الفسق يطلق على الفسق المخرج عن الملة، وعلى الفسق ما دون ذلك.
الفوائد:
1 -
أن القرآن آيات بينات ليس فيها غموض ولا إشكال.
2 -
الرد على من قال: إن آيات القرآن مشتبهات لا يعلم معناها الناس، فإن جميع آيات القرآن الكريم معلومة المعنى وليس فيها شيء مجهول المعنى لجميع الأمة، لو كان فيها شيء مجهول المعنى لجميع الأمة لم يكن القرآن بياناً، بل كان بعضه بياناً وبعضه غير بيان.
3 -
أنه لا يكفر بهذه الآيات التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم إلا الفاسق الخارج عن طاعة الله.
4 -
أن كل من كان أطوع لله عز وجل وأقوم لطاعته، كان ظهور الآيات الكريمة في القرآن أبين عنده وأوضح.
5 -
يجب العناية بهذا القرآن.
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)).
[البقرة: 100]
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يقول تعالى في هذه الآية موبخاً هؤلاء القوم بنبذ فريق منهم لما عاهدوا عليه، يقول (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ثم يبين أن هذا النبذ بالعهد لكون أكثرهم لا يؤمنون.
• قال الرازي: أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك
• والنبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً.
• قيل إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بُعِثَ كفروا به، وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها، كفعل قريظة والنظير.
• قال الشنقيطي عند هذه الآية، قال: ذكر في هذه الآية أن اليهود كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم، وصرح في موضع آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعاهد لهم وأنهم ينقضون عهدهم في كل مرة، وذلك في قوله تعالى:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ).
وصرح في آية أخرى بأنهم أهل خيانة إلا القليل منهم، وذلك في قوله:(وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).
• يجب الحذر من اليهود، فإن من دأبهم الغدر ونقض العهود، كما قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وقال تعالى (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي: بل أكثر اليهود لا يؤمن بالتوراة الإيمان الصادق لذلك ينقضون العهود والمواثيق.
• قال ابن عاشور: وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه أكثرهم بقوله (بل أكثرهم لا يؤمنون).
• قال أبو حيان: ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير، وأسند النبذ إليه، كان فيما يتبادر إليه الذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلاً، فبين أن النابذين هم الأكثر، وصار ذكر الأكثر دليلاً على أن الفريق هنا لا يراد به اليسير منهم، فكان هذا إضراباً عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل.
الفوائد:
1 -
توبيخ من عاهد عهداً فنبذه.
2 -
أنه إذا وقع الخطاب من بعض قوم فإنه لا ينسب إلى الجميع، بل العدل أن يشار إلى أن هذا - الذي حصل - إنما كان من فريق منهم لئلا يلحق العار جميع القوم مع براءة بعضهم منه.
3 -
أن نقض العهد علامة على نقض الإيمان، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن من خصال النفاق الغدر بالعهد.
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)).
[سورة البقرة: 101]
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: ولما أتاهم رسول، مرسل من عند الله وهو محمد.
• وقوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ) الضمير يعود إلى اليهود وأحبارهم، لأن الآيات في الكلام عنهم.
• هذه الآية كسابقتها، فيها التوبيخ لهؤلاء القوم الذين عرفوا الحق لكن فريقاً منهم نبذه وكأنهم لا يعلمون.
• قوله تعالى (رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أخذ الله الميثاق على الرسل لئن بعث وهم أحياء ليؤمنن به، وهم أيضاً أخذوا الميثاق على أقوامهم بذلك.
• قوله تعالى (رَسُولٌ) نكّر رسول للتعظيم، فهو أفضل الرسل، وسيد ولد آدم كما قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وفي حديث أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
(مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)(ما) موصولة، أي: مصدق للذي معهم من التوراة والإنجيل.
•
وتصديق من وجهين:
الأول: أنه كان معترفاً بنبوة موسى وبصحة التوراة.
الثاني: أنه مصدقاً لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة، فهو مصدق لما جاء فيها من البشارة به صلى الله عليه وسلم.
(نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) أي: طرح وترك فريق من الذين أنزل عليهم وهم اليهود والنصارى كتاب الله (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) أي خلف ظهورهم، وهو مثل يُضرب لمن يستخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبر أذنك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه.
•
وقد اختلف العلماء في المراد بكتاب الله هنا على قولين:
قيل: أنهم نبذوا التوراة وأعرضوا عنها.
وقيل: أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن.
ورجح كثير من العلماء القول الأول.
• قال الرازي مرجحاً القول الأول: وهذا هو الأقرب، لوجهين:
الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه.
الثاني: أنه قال (نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب) ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن.
•
قال الشوكاني: قوله تعالى (كتاب الله وراء ظهورهم):
قيل: التوراة، لأنهم لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة والإيمان به واتباعه، وبين لهم صفته، كأن ذلك منهم نبذاً للتوراة ونقضاً لها ورفضاً لما فيها.
ويجوز أن يراد بالكتاب هنا القرآن، أي جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول، وهذا أظهر.
• قال أبو حيان: ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع.
• قوله تعالى (فريق
…
) مفهومه أن فريقاً منهم آمن كالنجاشي من النصارى، وعبد الله بن سلام من اليهود).
• قال الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيراً من اليهود نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به، وبين في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر، وذلك في قوله تعالى:(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
• قوله تعالى (نَبَذَ فَرِيقٌ) النبذ: الطرح والإلقاء والترك والاستغناء.
(كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئاً مع كونهم يعلمون علماً يقيناً من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لما لم يعملوا بالعلم، بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم، كانوا بمنزلة من لا يعلم.
وهذا من أخص صفات اليهود، ترك الحق وكتمانه وتكذيبه وجحده بعد معرفته قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).
ولهذا وصفهم الله عز وجل بالمغضوب عليهم لأنهم عرفوا الحق وتركوه، ومثلهم من سلك طريقهم في ترك الحق بعد معرفته، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى.
ولمّا لم ينتفعوا بعلمهم صاروا كمن لا يعلم، بل أقل وأسوأ حالاً منه، كما قال تعالى فيهم (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
الفوائد:
1 -
صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
2 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إلى بني إسرائيل، كما أنه مرسل إلى الأميين وهم العرب، بل وإلى الناس أجمعين، قال تعالى:(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
3 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصدقاً لما جاءت به الرسل السابقة، أي مقراً بأنها صدق وشاهد بصدق.
4 -
قيام الحجة على بني إسرائيل، حيث كان محمداً صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
5 -
أن الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم من بني إسرائيل، نبذوه عن علم، لأنهم أوتوا الكتاب وعرفوا الحق.
6 -
أن نبذ هؤلاء الفريق من الذين أتوا الكتاب نبذ لا يرجى معه إقبال، لقوله:(وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) والذي ينبذ كتاب الله وراء ظهره في الدنيا، يؤتى كتابه يوم القيامة من وراء ظهره جزاءً وفاقاً.
7 -
أن من نبذ عن علم؛ أشد قبحاً ولوماً ممن نبذ عن جهل، ولهذا قال:(كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).
8 -
التحذير من رد الحق بعد العلم.
9 -
أن من رد الحق بعد العلم به ففيه شبه من بني إسرائيل من اليهود والنصارى.
(وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103))
[البقرة: 102 - 103].
(وَاتَّبَعُوا): أي اليهود، قيل: من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: من كان في زمن سليمان، وابن جرير جمع بين المعنيين.
• ومعنى اتبعوا: قيل: فعلوا واختاره ابن جرير، وقيل: من الاتباع المعروف.
(مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ)(ما) هنا موصولة، أي: الذي تتلوه الشياطين، وفي معنى (تتلوا) قولان: قيل: من التلاوة، أي تحدّث وتخبر به وتقصه، وقيل: تتّبع وتعمل به. (هذا يتلوا هذا أي يتبعه).
• فابتلي هؤلاء اليهود عقوبة لهم على نبذ كتاب الله، باتباع ما تتلوا الشياطين، وهكذا من ترك الحق مع علمه به، ابتلي وعوقب باتباع الباطل، كما قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وقال تعالى (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقال تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قوله تعالى (الشَّيَاطِينُ) المراد بالشياطين هنا شياطين الجن، وهذا هو المفهوم من هذه الآية.
(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي: على عهد ملك سليمان، وقيل (على) بمعنى (في) أي: في ملك سليمان أي: في قصصه وصفاته وأخباره.
• وهو سليمان بن داود عليهما السلام، وإنما قال الله (على ملك سليمان) لأن الله قد جمع له بين النبوة والملك العظيم خلاف ما يزعمه اليهود فقط أنه ملك فقط.
• والسحر موجود قبل زمان سليمان عليه السلام، فهو موجود في زمن موسى كما ذكر الله عن سحرة فرعون، وموسى قبل سليمان بمدد طويلة، بل إن السحر كان موجوداً ومعروفاً في زمن نبي الله صالح وهو قبل إبراهيم الخليل عليه السلام فقد قال قوم صالح له (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي: من المسحورين.
فالشياطين كانت تأتي بالسحر وتعلمه قبل سليمان عليه السلام، وتعلّمه الناس، وإنما أخبر عز وجل عن اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان عليه السلام لأن الشياطين وأتباعهم من اليهود نسبوا ذلك إلى سليمان كذباً منهم وزوراً.
(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) أي: وما كفر سليمان بتعلم السحر وتعليمه كما يزعمه الشياطين وأتباعهم من اليهود، لأنه رسول من عند الله معصوم من الكفر وأسبابه.
• وهذه الآية تبرئة لسليمان من الكفر، لأن اليهود نسبوه إلى السحر، ولما كان السحر كفراً كان بمنزلة من نسبه إلى الكفر. (فليس هناك أحد قال إن سليمان كافر لكن نسبوه للسحر والسحر كفر).
• قال الرازي: قوله تعالى (وَمَا كَفَرَ سليمان) فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر، وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر: قيل فيه أشياء:
أحدها: ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله هذه الآية.
وثانيها: أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه.
وثالثها: أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً،
• وأخذ العلماء من هذه الآية كفر الساحر.
ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال:
(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) هذا دليل آخر على كفر من تعلم السحر.
(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) تفسير لقوله (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا).
• والسحر لغة: ما خفي ولطف سببه، وفي الشرع: عزائم ورقى وعقد ينفث فيها فتؤثر في العقول والأبدان بإذن الله الكوني، ولا يحصل إلا بالشعوذة ودعاء الشياطين والاستعانة بهم والكفر بالله.
(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)(ما) موصولة بمعنى (الذي) والمعنى: اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، واتبعوا الذي أنزل على الملَكين أحدهما هاروت والآخر ماروت.
والمراد بالإنزال هنا بمعنى الخلق كما قال صلى الله عليه وسلم (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله) رواه أحمد.
وكما في حديث أم سلمة (أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ما أنزل من الخزائن
…
) رواه البخاري.
• والمراد بالملكين هؤلاء: ملكان أنزلا إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر، وأنه جائز في حقهما، ابتلاء وامتحاناً للناس، بعدما بيّن لهم على ألسنة الرسل أن ذلك لا يجوز، فأكثر المفسرين على أن هاروت وماروت ملكان أُنزِلا إلى الأرض يعلمان السحر ابتلاء واختباراً للناس.
• وقد روي في سبب نزول هاروت وماروت إلى الأرض وما كان من أمرهما آثار غريبة جداً عن جمع من السلف، بل روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
…
وكل ذلك لا يصح وباطل، وكيف تصح والله يقول (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وقال (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
• قوله تعالى (ببابل) اسم بلد في العراق.
• وقد جاءت روايات كثيرة إسرائيلية لا تصح فيما يتعلق بهذه الآية لا يصح منها شيء.
(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ) أي: هؤلاء الملكين: هاروت وماروت.
(حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي: يقولا له ناصحين ومحذرين (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي: إنما نحن في تعليمنا السحر ابتلاء وامتحان للناس، ليظهر مدى تمسكهم في دينهم (فَلا تَكْفُرْ) أي: فلا تكفر بتعلم السحر.
قال الحسن في تفسير الآية: نعَم، أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).
وقال قتادة: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحداً حتى يقولا (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي: بلاء ابتلينا به (فلا تكفر).
• والفتنة الاختبار والابتلاء كما قال تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي: ابتلاؤك واختبارك، وتكون في الخير والشر كما قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)
• والله عز وجل يبتلي عباده بما شاء ومن ذلك ابتلاء العباد بهذا السحر.
• فإن قيل: كيف ينزل السحر على الملكين ويعلمانه الناس والله يقول في شأن الملائكة (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
الجواب الأول: أن هذا من قبيل الاختبار والابتلاء، فهؤلاء الملائكة كانوا يعلمون السحر ولم يكونوا يشتغلون به.
الجواب الثاني: أن هذا من العام المخصوص بمعنى أن عموم الملائكة صالحون مطيعون لله إلا أنه قد يكون فيهم من عصى.
قال ابن كثير: وذهب كثيرون من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان أمرهما ما كان، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد ففي مسنده، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق.
(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا) أي: فيتعلم الذين يجترئون على تعلم السحر بعد تحذيرهم منه (مِنْهُمَا) أي: من هاروت وماروت.
(مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(ما) موصولة بمعنى (الذي) أي: السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، وهذا من أشد أنواع السحر وأخبثها وأعظمها ضرراً، يخيل فيه لكل واحد من الزوجين المسحورين صاحبه بأقبح صورة، حتى يكرهه وينصرف عنه ويفارقه، وهذا ما يسمى بالصرف.
وهذا من صنيع الشياطين كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة .... ) رواه مسلم.
• وفي هذا دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد.
(وَمَا هُمْ) إشارة إلى السحرة، وقيل: إلى اليهود، وقيل: إلى الشياطين
(بِضَارِّينَ بِهِ) أي: بالسحر، لأن الحديث عنه.
(مِنْ أَحَدٍ) أي: أحداً.
(إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: إلا بإرادته وقضائه وقدره وعلمه سبحانه وتعالى، فلا تأثير للسحر بذاته، فمن قضى الله كوناً وقدراً أن يضره السحر ضره، ومن قضى أن لا يضره السحر فلا يمكن أن يضره أبداً.
• واختار ابن جرير في قوله (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: لمن سبق في علم الله أن يحصل له ذلك:
فقال رحمه الله (وما هم بضارين) بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله، يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضره.
قال الحسن: (وما هم بضارين به
…
) قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله.
• فعلى العبد إخلاص العبادة لله تعالى والتحصن والأذكار والأوراد الشرعية مع صدق التوكل على الله، وتمام الثقة به، فهو الحافظ الكافي والواقي من جميع الشرور قبل وقوعها والرافع لها بعد وقوعها، فمن توكل عليه حفظه ووقاه وكفاه (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
• قال السعدي: وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير تابعة للقضاء والقدر، ليست مستقلة في التأثير.
(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ) أي: الذي يضرهم في دينهم ودنياهم وأخراهم ضرراً محضاً ولهذا قال:
(وَلا يَنْفَعُهُمْ) فأثبت ضرره ونفى نفعه.
واختار ابن جرير (مَا يَضُرُّهُمْ) في دينهم (وَلا يَنْفَعُهُمْ) في معادهم، فقال رحمه الله:
(وَيَتَعَلَّمُونَ) أَيْ النَّاسُ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ، مَا أَنْزَلَ إلَيْهِمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا السِّحْرَ الَّذِي يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ (وَلَا يَنْفَعُهُمْ) فِي مَعَادِهِمْ. فَأَمَّا فِي الْعَاجِلِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَكْسِبُونَ بِهِ وَيُصِيبُونَ بِهِ مَعَاشاً.
•
فهم يتعلمون ما يضرهم ضرراً محضاً لا فائدة فيه بوجه من الوجوه وذلك لأمور:
أولاً: أن تعلم السحر كفر، والكفر ضد الإيمان، وإذا فقد الإنسان الإيمان فقد خسر خسراناً كبيراً.
ثانياً: أن ما يأخذه الساحر من أموال الناس بالباطل مقابل عمله الباطل، يذهب سحتاً لا بركة فيه.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا) أي: اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، النابذون لكتاب الله وراء ظهورهم.
(لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي: لمن اختاره واعتاض به عن الإيمان.
(مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ) أي: في الدار الآخرة، وسميت آخرة لأنها متأخرة زمناً بعد الدنيا، وإلا فهي الدار الحقيقية كما قال تعالى (وإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
(مِنْ خَلاقٍ) أي: من نصيب من خير.
• قال ابن القيم: أي علموا من أخذ السحر وقَبِلَه لا نصيب له في الآخرة، ومع هذا العلم والمعرفة فهم يشترون به ويقبلونه ويتعلمونه.
• وهذا ديدن اليهود، ترك الحق بعد معرفته كما قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، ولهذا وصفوا بالمغضوب عليهم في القرآن الكريم في مواضع عديدة كما قال تعالى (غير المغضوب عليهم).
(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) قال ابن كثير: أي: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان لهم علم بما وعظوا به.
وقيل: ولبئس ما شروا: أي بايعوا أنفسهم واختاره ابن جرير حيث قال: معنى (شروا) باعوا، فمعنى الكلام إذاً: ولبئس ما باع به نفسه من تعلّم السحر لو كان يعلم سوء عاقبتهِ.
• والضمير في قوله (به) يعود إلى السحر.
فباعوا أنفسهم بثمن حقير قبيح زهيد وهو السحر، فخسروا أنفسهم وخسروا دينهم ودنياهم وأخراهم.
• قوله تعالى (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي: علماً ينفعهم، فهم لم ينتفعوا بالعلم فلذلك نفيَ عنهم العلم، والإنسان إذا لم ينتفع بعلمه فكأنه ما علِمَه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي: هؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر واعتاضوا به عن الإيمان من اليهود وغيرهم.
(آمَنُوا) فصدقوا بقلوبهم وألسنتهم وانقادوا بجوارحهم لفعل ما أمرهم الله به.
(وَاتَّقَوْا) ربهم فخافوه، واجتنبوا نواهيه من السحر وغيره، وخافوا عقابه.
(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: لأثابهم الله ثواباً أفضل مما شغلوا به أنفسهم من السحر.
• المثوبة: الأجر والجزاء، وسمي أجرهم وجزاؤهم بالمثوبة أخذاً من ثاب يثوب إذا رجع، لأن ثمرة عملهم رجعت إليهم.
• وفي وصف المثوبة بأنها من عند الله تعظيم وتفخيم لها، لأنها من عند الجواد الكريم، فلا يدرك قدر عظمتها إلا العظيم سبحانه، وأيضاً في ذلك تأكيد ضمانها، لأنها من عند الله، وهو الذي لا يخلف الميعاد.
(خَيْرٌ) أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوه به، (خير) من كل شيء، خيرية مطلقة، خير مما باعوا به أنفسهم من تعلم السحر وتعليمه، ومما يحصلون عليه من متاع الدنيا، والثمن القليل وغير ذلك.
(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي: لو كانوا من ذوي العلم النافع الذين ينتفعون بعلمهم.
وهذه الآية كقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).
وقوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. والآخرة خير وأبقى).
وقال تعالى (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وقال تعالى (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
وفي قوله (لو كانوا يعلمون) تأكيد لشدة جهلهم وعدم علمهم، وأن العلم الحقيقي الممدوح ما انتفع به صاحبه، وأن من أعظم الجهل ترك الحق بعد معرفته والعلم به، وهذا من أخص أوصاف اليهود، ولهذا استحقوا غضب الله ومقته.
فالمعنى الإجمالي: أن الشياطين في ذلك الزمن كانوا يسترقون السمع من السماء، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها، ويلقونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم، وقد دونها هؤلاء في كتب يقرؤونها، ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه يسخر الإنسان والجن والريح التي تجري بأمره، وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء، فأكذبهم الله بقوله (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ثم عطف عليه: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
…
) فالمراد بما أنزل هو: علم السحر الذي نزلا ليعلماه الناس، حتى يحذروا منه، فالسبب في نزولهما هو: تعليم الناس أبواباً من السحر، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة، وأن سليمان لم يكن ساحراً، وإنما كان نبياً مرسلاً من ربه، وقد احتاط الملكان عليهما السلام غاية الاحتياط، فما كانا يعلمان أحداً شيئاً من السحر حتى يحذراه، ويقولا له:(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي بلاء واختبار، (فَلا تَكْفُرْ) بتعلمه والعمل به، وأما من تعلمه للحذر منه، وليعلم الفرق بينه وبين النبوة والمعجزة؛ فهذا لا شيء فيه، بل هو أمر مطلوب مرغوب فيه إذا دعت الضرورة إليه، ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة، بل كانوا يفرقون بين المرء وزوجه، وذلك بإذن الله ومشيئته.
الفوائد:
1 -
أن الله سبحانه وتعالى سخر الشياطين لسليمان، وامتحن الناس بهم، لقوله تعالى:(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ).
2 -
أن سليمان عليه السلام لم يكفر بكفر هؤلاء الشياطين الذين تعلموا السحر وصاروا يتلونه ويلقونه على الناس، وذلك لأن الأنبياء معصومون من الكفر والشرك.
3 -
أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين.
4 -
أن العمل بالسحر كفر، لقوله تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا
…
).
5 -
أن تعليم الناس السحر من الكفر، لقوله تعالى:(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).
6 -
أن الحق ما أذن الله فيه وأمر به ولو كان في نفسه باطلاً، فهذان الملكان نزلا إلى الأرض ليعلما الناس السحر، وتعليم السحر كما سبق كفر، لكن الله عز وجل أباح لهذين الملكين أن يعلما الناس من أجل هذا الامتحان الذي حصل بتعليمهما.
الشيء قد يكون كفراً، وقد يكون طاعة ولو كان واحداً من نوعه، وأضرب لهذا مثلين:
أحدهما: السجود لغير الله، كفر وشرك، وإذا سجد الإنسان لغير الله بأمر الله كان عبادة، ألم تر قوله تعالى:(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فهنا نجد أن السجود لغير الله كان طاعة وعبادة، لأن الله أمر به، ويكون شركاً في الحالة التي لم يأمر الله به فيها.
الثاني: قتل النفس، فإنه من كبائر الذنوب، ولا سيما إذا كان المقتول من أقارب القاتل، ومع ذلك كان طاعة يمدح عليه، وذلك في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام.
فالملكان اللذان نزلا يعلمان الناس السحر نزلا بأمر الله وبإذن الله، فكان تعليمهما للسحر طاعة لله، لكنه باعتبار المعلَّم كفر، ولهذا قال:(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).
7 -
أن الله تعالى قد ييسر للإنسان أسباب المعصية ليبلوه هل يعصي الله أم لا، فالله يسّر تعلم السحر بما أنزل على الملكين وبما بذلاه من أنفسهما لتعليم الناس، وكما في قصة أصحاب السبت حين حرّم عليهم صيد البحر يوم السبت، فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت فقال الله تعالى (كونوا قردة خاسئين).
8 -
أنه يجب على الإنسان أن ينصح للناس. وإن أوجب ذلك إعراضهم عنه؛ لقوله تعالى (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما فتنة فلا تكفر) فإذا كانت عندك سلعة رديئة، وأراد أحد شراءها يجب عليك أن تُحذِّره.
9 -
أن من أعظم أنواع السحر: التفريق بين الرجل وزوجته، لقوله:(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وهذا يسمى بالعطف والصرف.
10 -
أن ما يقع من تأثير السحر، إنما يقع بأمر الله وإرادته، لقوله تعالى:(وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
11 -
أن الأسباب وإن عظمت لا تأثير لها إلا بإذن الله.
12 -
الإشارة إلى أنه ينبغي للمسحور أن يلجأ إلى الله، وأن يسأله رفع ما نزل به بصدق وإخلاص وضرورة.
13 -
أن السحر ضرر على الساحر كما هو ضرر على غيره، وإن ظن الساحر أنه ينتفع بذلك، وأنه يكسب من ورائه، فإن هذا الكسب خبيث، ولهذا قال:(وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).
14 -
تقبيح ما حصل من هؤلاء من تعلم السحر، حيث قال:(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ).
15 -
أن هؤلاء الذين اختاروا تعلم السحر وأهلكوا أنفسهم به، كانوا من أجهل الناس.
16 -
سعة فضل الله وإحسانه وكرمه، فهؤلاء الذين عتوا وبغوا على الخلق بما يتعلمونه من السحر، بعْرض الله عليهم أن يؤمنوا ويتقوا حتى يكون لهم المثوبة، وهذا أنموذج من نماذج سعة الله وفضله.
17 -
أن ما عند الله من الثواب خير مما يحصل في الدنيا من المكاسب، وهذا ظاهر بالأثر والنظر، أما الأثر فقد بين الله في غير آية أن الآخرة خير من الدنيا، فقال تعالى:(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري
18 -
أن هؤلاء الذين تعلموا السحر - مع علمهم بأن من اشتراه لا خلاق له في الآخرة - من ذوي الجهالة وكأنهم لا يعلمون، لذا قال:(لو كانوا يعلمون).
19 -
الحث على العلم والعمل به، وإن لم يعمل بعلمه فهو كالجاهل بل أشد قبحاً من الجاهل.
قال ابن القيم: لو نفع العلم بلا عمل لما ذم اليهود.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)).
[سورة البقرة: 104]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:
الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.
الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.
الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان.
(لا تَقُولُوا رَاعِنَا) قال ابن كثير: يخاطب الله المؤمنين بصفة الإيمان لينهاهم أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص.
قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سباً، أي: اسمعْ لا سمعتَ، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سراً، فالآن نسبه جهراً، فكانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه.
والأصل أن (راعنا) في اللغة أي: أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا.
واليهود لا يقصدون هذا المعنى؛ وإنما يقصدون بها من الرعونة، فتكون (راعنا) أي: إنك ذليل.
قال الشوكاني: وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً، قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت؛ وقيل غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم راعنا؛ طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة، اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو: معنى هذا اللفظ في لغتهم.
وقيل: إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير.
(لا تَقُولُوا رَاعِنَا) النهي للتحريم.
جمهور العلماء أن النهي كان بسبب أن اليهود كانت تستخدم تلك الكلمة للاستهزاء برسول صلى الله عليه وسلم وسبه والسخرية والنيْل منه، وذهب ابن جرير إلى أنها كلمة كرهها الله أن تقال لنبيه صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا للعنب الكرم، وذكر رحمه الله كلاماً طويلاً. [1، 542].
هذه الآية أصل في قاعدة: سد الذرائع.
قال القرطبي: والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع.
قال ابن القيم: وإذا تأملت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات.
فنهى الله عن سب آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله تعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة.
وأمسك صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور، ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق.
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها، حتى كأنه ينظر إليها.
ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن فاعله.
ونهى عن تعليه القبور وتشريفها وأمر بتسويتها.
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لكون هاتين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس، ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر.
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة، لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة.
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم.
وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية، وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح، لكون ذلك ذريعة ظاهرة إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم.
ومنع من تجاوز أربع زوجات، لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور، وعدم العدل بينهن.
ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو، لما في ذلك ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله.
ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم (راعنا) مع قصدهم المعنى الصحيح، وهو المراعاة، لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب، ولئلا يتشبهوا بهم.
ومن ذلك أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وإفراد يوم الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين، وتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا، ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن.
(وَقُولُوا انْظُرْنَا) أي: إذا أردتم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يراعيكم ويرفق بكم فلا تقولوا (راعنا) ولكن قولوا (انظرنا) أي: ارفق بنا، وارقبنا وانتظرنا.
(وَاسْمَعُوا) فعل أمر من السمع بمعنى الاستجابة، أي: اسمعوا سمع استجابة وقبول كما قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).
• (واسمعوا) لم يذكر المسموع، ليعم كل ما أمر الشرع باستماعه من سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم سماع تدبر، وطاعة وانقياد، واستجابة وانتفاع.
• قال الطبري: أي: واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم وعوه وافهموه.
(وَلِلْكَافِرِينَ) عامة، وبخاصة اليهود.
(عَذَابٌ) أي: عقاب.
(أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع حسياً للأبدان، ومؤلم معنوياً للقلوب.
الفوائد:
1 -
أنه إذا ذكر باب ممنوع مسدود أمام الناس، فإن الحكمة تقتضي أن يذكر لهم ما يستغنون به عنه من الأشياء المباحة، لهذا قال:(وَقُولُوا انْظُرْنَا) فهو لم ينههم ويجعلهم عائمين لا يدرون ما يقولون، بل أرشدهم إلى القولة المباحة النافعة، وهي:(انظرنا).
2 -
تصدير الخطاب بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام.
3 -
النهي عن مشابهة المشركين، عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). رواه أبو داود
قال ابن كثير: ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم عن حديث (ومن تشبه بقوم فهو منهم) قال: وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم.
4 -
تحريم الخطاب بالكلمات المحتملة للحق والباطل بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم.
5 -
تجني اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه، وجرأتهم على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمعاني السيئة القبيحة.
6 -
وجوب الاحتراز من التعابير التي قد توهم معاني سيئة، والحرص على الأدب في الألفاظ فذلك أسلم وأكمل.
7 -
سد الذرائع الموصلة إلى أمر محظور شرعاً.
8 -
وجوب السمع والطاعة لأوامر الله، لقوله تعالى:(واسمعوا).
9 -
ثبوت الجزاء على العمل لقوله (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)).
[البقرة: 105]
(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: ما يحب الكافرون من اليهود والنصارى ولا المشركون أن ينزّل عليكم شيئاً من الخير، بغضاً فيكم وحسداً، مهما قلّ، لا في الدين ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ).
• قال ابن كثير: يبين الله عز وجل بهذه الآية شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، والذين حذر الله من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودة بينهم وبينه.
• وقال الشيخ ابن عثيمين: والخير هنا يشمل خير الدنيا والآخر، والقليل والكثير، لو حصل للكافرين من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن المشركين أن يمنعوا القطر عن المسلمين لفعلوا، وليس هذا خاصاً بأهل الكتاب والمشركين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عام.
قال الشوكاني: فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه.
وقال رحمه الله: والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان.
(مَا يَوَدُّ) قال القرطبي: ما يتمنى.
(وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: والله يخص برحمته من يشاء من عباده، كما قال تعالى (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ).
واختلف في المراد بالرحمة هنا:
فقيل: بالنبوة، خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل: القرآن.
وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاً. [تفسير القرطبي].
وهذا القول هو الصحيح: أن الرحمة عامة وما ذكر من الأقوال السابقة هو تفسير بالمثال فليس بينها تضاد.
وأعظم هذه الرحمة ما خص به نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعثته فيهم، وإنزال القرآن عليه.
كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
وقال تعالى (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
وقال تعالى (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
قال الطبري: قوله تعالى (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ .. ) تعريض من الله تعالى بأهل الكتاب، أن الذي آتى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضلاً منه، وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.
قوله تعالى (من يشاء) قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ) أي: ذو العطاء الزائد عما تتعلق به الضرورة، ومعنى (ذو) صاحب.
(الْعَظِيمِ) أي: الواسع الكثير، فالعِظم هنا يعود إلى الكمية وإلى الكيفية.
• فالله هو صاحب الإحسان والفضل على عباده كما قال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
• قال الطبري: وأما قوله (والله ذو الفضل العظيم) فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلاً منه عليهم من غير استحقاق منهم ذلك عليه.
• قال السعدي: ومن فضله عليكم إنزال الكتاب على رسولكم، ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، فلله الحمد والمنة.
كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
الفوائد:
1 -
أن اليهود والنصارى والمشركين لا يودون الخير للمسلمين، وهذا ليس خاص بزمن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عام إلى يوم القيامة.
2 -
أن من كره الخير للمؤمنين عموماً أو البعض منهم على سبيل الخصوص، فإن فيه شبهاً من اليهود والنصارى والمشركين.
3 -
تحريم كراهة نزول الخير للمؤمنين، وكراهة نزول الخير هو الحسد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التفسير الصحيح للحسد: هو أن يكره الإنسان ما أنزل الله على غيره من الخير، سواء تمنى زواله أو لم يتمنّ.
4 -
بيان ما منح الله هذه الأمة من الربوبية الخاصة، ولهذا قال (من خير من ربكم).
5 -
وجوب الحذر من الكفار.
6 -
أن القرآن منزل من عند الله.
7 -
إثبات صفة العلو لله تعالى.
8 -
أن الخلق والملك والتدبير كله بيد الله.
9 -
أن فضل الله قد يختص لأناس دون آخرين (والله يختص برحمته من يشاء).
10 -
إثبات أن الله موصوف بالفضل العظيم، حيث قال تعالى (والله ذو الفضل العظيم).
11 -
أنه لا يليق بالإنسان أن يطلب الفضل من غير الله، بل يطلب الفضل من الله وحده.
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107))
[البقرة: 106 - 107]
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي: ما نرفع حكم آية - سواء مع بقاء تلاوتها أو نسخ تلاوتها - لأن النسخ يكون على أنواع كما سيأتي إن شاء الله.
•
النسخ يأتي في لغة العرب بمعنيين:
الأول: بمعنى: النقل، وذلك إما ببقاء الأصل المنقول كما تقول: نسخت الكتاب، وإما أن يكون مع انتقال أصله، كما لو أنقل الشيء من مكانه إلى مكان آخر.
الثاني: ويكون بمعنى الإزالة والرفع، ويكون بإزالة المنسوخ وإحلال مكانه شيء آخر كما تقول: نسخت الشمس الظل - فحل محل الظل الشمس -، ونسْخ بإذهاب المنسوخ من غير أن يحل مكانه غيره، كما لو تقول: نسخت الريح الأثر، أي: أذهبته ومحته. (وهذا المشهور عند العلماء بتفسير النسخ).
• فالنسخ رفع حكم شرعي بخطاب شرعي بحكم آخر متراخٍ عنه.
قال الطبري: يعني جل ثناؤه: ما ننقل من حكم آية إلى غيرها فنبدِّله ونغيره، وذلك أن يُحول الحلال حراماً والحرام حلالاً والمباح محظوراً والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ومنسوخ.
(أَوْ نُنسِهَا) قيل: من النسيان الذي هو بمعنى الترك، فيكون المعنى: ما ننسخ من آية أو نتركها بلا نسخ نأت بخير منها أو مثلها [أي: يثبت لفظها ونترك حكمها] وقد جاءت قراءة أخرى تؤيد ذلك وهي بفتح النون والهمزة بعد السين (نَنْسَأها) أي: نؤخرها فلا ننسخها، ورجحه الطبري وقال: ومعنى ذلك: ما نبدل من حكم آية فتغيره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله.
وقيل: أن المراد النسيان المعروف والمعنى: نرفع لفظها فلا يستقر منها في القلوب والأذهان شيء
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) مطلقاً في الدين والدنيا والآخرة، ومن حيث العمل ومن حيث الثواب والأجر وغير ذلك.
قال الطبري: نأت بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخناها فغيرنا حكمها، إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وإما في الآجل لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. [وسيأتي أمثلة للنسخ إن شاء الله].
• فإن كان النسخ إلى أثقل، كما في نسخ التخيير بين الصيام والإطعام بإيجاب الصيام، فالخيرية فيه بمضاعفة الأجر والثواب، لأن الأجر على قدر المشقة.
وإن كان النسخ إلى أخف، كما في نسخ مصابرة الواحد للعشرة في القتال، بمصابرته الاثنين فقط، وكما في نسخ وجوب قيام الليل إلى الندب، فالخيرية في هذا بالتخفيف على الأمة مع تمام الأجر.
وإن كان النسخ إلى مساوٍ ومماثل، كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، فالخيرية في هذا الاستسلام لأمر الله وتمام الانقياد له.
(أَوْ مِثْلِهَا) في الخيرية، من حيث العمل والأجر وغير ذلك، أو مثلها في العمل، وإن كان خير منها في العاقبة والأجر.
• اختلف العلماء هل يكون النسخ إلى غير بدل أم لابد من بدل؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن النسخ يكون إلى غير بدل، ومثلوه بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
…
).
وقد رد هذا القول الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان 3/ 362، وفي مذكرته على الروضة ص 79 وبين أن القول بالنسخ إلى غير بدل غير صحيح وإن قال به جمهور العلماء، لأنه مخالف لقوله تعالى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ثم أورد أمثلة الجمهور وأجاب عنها:
وأجاب الجمهور عن هذه الآية: أن النسخ إلى غير بدل لا يعارض الآية، لأن الله تعالى عليم حكيم، فقد يكون عدم الحكم خيراً من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس.
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: ألم تعلم أيها المخاطب، أن الله عليم حكيم قدير، لا يصدر منه إلا كل خير وإحسان للعباد.
• ومن قدرته أنه سبحانه: يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وينسخ من الأحكام ما يشاء ويبقي ما يشاء، كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
• ووجه ختم قوله تعالى (ما ننسخ
…
) بقوله تعالى (ألم تعلم أن الله على
…
)؟ بيان قدرة الله ونفي العجز عنه، فالله قادر على أن يأتي بالآية المحكمة قبل الآية المنسوخة، ولكن يؤخر هذه ويُبدل هذه بتلك، وهو عالم بالأول والآخر، ويعلم ما يصلح الناس في وقت وما يصلحهم في الوقت الآخر.
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: خلقاً وملكاً وتدبيراً، فهو سبحانه مالك الأعيان، ومالك التصرف فيها.
• قال الشوكاني: أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد، والاختراع، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأشخاص، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره، ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول، والامتثال، والتعظيم، والإجلال.
•
والفائدة من إيماننا بأن لله ملك السموات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء ..
الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه.
قال ابن كثير: يرشد عباده تعالى بهذه الآية إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما يخلقهم كما يشاء ويسعد من يشاء، ويخذل من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا.
وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً.
(وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) أي: وما لكم من غير الله من ولي: يرعى شؤونكم، أو ناصر ينصركم، فالله نعم الولي ونعم النصير.
• قال الشيخ ابن عثيمين: اعلم أن الولي والنصير إذا اجتمعا صار الولي فيما ينفع، والنصير من يدافع عنك ممن يعتدي عليك، وأما إذا أفرد أحدهما شمل الآخر، فإذا قيل: ولي بدون نصير، فالمراد به من يجلب لك الخير ويدفع عنك الشر.
الفوائد:
1 -
أن الله قد يُنسي الرسول صلى الله عليه وسلم الآية من كتاب الله.
2 -
إثبات القدرة لله عز وجل في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأن القدرة متقررة عند الإنسان بفطرته.
3 -
عموم قدرة الله في كل شيء في قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على الموجود أن يعدمه، وعلى المعدوم أن يوجده.
4 -
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الآية عامة، فهو قدير على كل شيء، على ما شاءه وما لم يشأه، وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ، لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء، وأما قوله تعالى (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع، يعني: إذا أراد جمعهم وشاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجزه شيء.
5 -
تقرير ملك الله عز وجل للسماوات والأرض، لقوله:(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
6 -
اختصاص ملك السماوات والأرض لله عز وجل لا يملكهما أحد سواه، قال تعالى:(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
7 -
أن ولاية الله عامة وخاصة، فالعامة هي تولي أمور الخلق، وهذه عامة لكل أحد حتى الكفار.
وخاصة وهي الولاية التي تتضمن العناية والتوفيق والسداد، وهذه خاصة بالمؤمنين.
فائدة: النسخ:
•
تعريفه: لغة الإزالة والنقل.
مثال الإزالة تقول: نسخت الشمس الظل، أي أزالته.
وأما النقل فتقول: نسخت الكتاب أي نقلته.
وشرعاً: هو رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل شرعي.
قولنا (رفع حكم) أي تغييره من إيجاب إلى إباحة، مثل: صيام عاشوراء، أو من إباحة إلى تحريم، مثل: شرب الخمر.
وقولنا (أو لفظه) لفظ الدليل الشرعي، لأن النسخ: إما أن يكون للحكم دون الفظ، أو بالعكس، أو لهما جميعاً كما سيأتي.
وخرج بقولنا (بدليل من الكتاب والسنة) ما عداهما من الأدلة، كالإجماع والقياس، فلا ينسخ بهما.
فالقياس لا ينسخ لأننا لو نسخنا بالقياس، لصادمنا النصوص بالقياس، ولأنه أصلاً لا يوجد قياس صحيح مخالف للنص أبداً.
وأما الإجماع فلا ينسخ لأنه لا يمكن أن يوجد إجماع من الأمة على خلاف النص.
•
النسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً.
أما جوازه عقلاً، فلأن الله بيده الأمر وله الحكم، لأنه الرب المالك، فله أن يشرع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته، وهل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد؟ ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعباده أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم، والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان، فقد يكون الحكم في وقت أو حال، أصلح للعباد، ويكون غيره في وقت أو حال أخرى أصلح، والله عليم حكيم.
وأما وقوعه شرعاً فلأدلة منها:
قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثم قال سبحانه: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) وهذا نص صريح في النسخ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عز زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم
فهذا نص صريح في نسخ النهي عن زيارة القبور.
الآراء في النسخ:
1 -
اليهود: وهؤلاء ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البداء وهو الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك أن النسخ: إما أن يكون لغير حكمة، وهذا أعبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت، ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البداء وسبق الجهل، وهو محال على الله.
واليهود أنفسهم يعترفون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها، وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حله، قال تعالى في إخباره عنهم:(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ).
2 -
الروافض: وهؤلاء غالوا في إثبات النسخ وتوسعوا فيه وأجازوا البداء على الله، واستدلوا على ذلك بأقوال نسبوها إلى علي رضي الله عنه زوراً وبهتاناً، وبقوله تعالى:(يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
3 -
أبو مسلم الأصفهاني: قال: يجوز النسخ عقلاً ويمنع وقوعه شرعاً، وقيل: يمنعه في القرآن خاصة محتجاً بقوله تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ويحمل آيات النسخ على التخصيص.
4 -
جمهور العلماء على جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعاً، وسبقت أدلتهم.
•
النسخ باعتبار المنسوخ: فهو قسمان:
أ- إلى بدل.
ب- وإلى غير بدل.
أما النسخ إلى غير بدل، فهو مذهب جمهور العلماء، ومثلوه بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي نجوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
…
).
وقد رد هذا القول الشنقيطي رحمه الله كما تقدم.
وأما النسخ إلى بدل، فهو ثلاثة أقسام:
إلى بدل أخف. مثاله: قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فقد دلت الآية على وجوب مصابرة العشرين من المسلمين المائتين من الكفار، ومصابرة المائة الألف، فنسخ هذا الحكم بقوله:(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).
إلى بدل أثقل. وهذا محل خلاف، والصحيح الجواز لوقوعه، ومثاله: نسخ التخيير بين صيام رمضان والإطعام، في قوله تعالى:(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسخ بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الدالة على وجوب الصيام في حق المقيم الصحيح، وإيجاب الصيام أثقل من التخيير بينه وبين الإطعام.
ولا دليل لمن منع هذا القسم محتجاً بآيات التيسير والتخفيف ورفع الحرج عن هذه الأمة، كقوله تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) وذلك أن الحكم الجديد يكون ميسراً على المكلفين لا مشقة فيه، مع ما فيه من زيادة النفع وعظم الثواب، وثقله وصف له بالنسبة إلى ما قبله.
إلى بدل مساوٍ. ومثاله: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة كما في الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة بضعة عشر شهراً). متفق عليه
نسخ هذا باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فاستقبال الكعبة مساوٍ لاستقبال بيت المقدس بالنسبة لفعل المكلف.
• فإن قيل: ما الحكمة في نقل الحكم من الأخف إلى الأثقل؟
ابتلاء الناس بالامتثال وعدمه.
بيان حكمة الله تعالى في التدرج في التشريع، حيث أنه يقابل الناس بالأهون حتى تستقبل نفوسهم الحكم الثاني بسهولة.
النسخ في القرآن:
ينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام:
نسخ التلاوة والحكم معاً. مثاله: ما رواه مسلم وغيره عن عائشة قالت: (كان فيما أنزل عشر رضعات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن).
فآية التحريم بعشر رضعات منسوخ لفظها وحكمها.
وقولها (وهن مما يقرأ من القرآن) ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك، فإنه غير موجود في المصحف العثماني.
والجواب: قيل أن المراد: قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
نسخ الحكم وبقاء التلاوة. وهذا أكثر أنواع النسخ في القرآن، وتقدم له أمثلة.
مثال: آية المصابرة، ومثاله أيضاً قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) نسخت بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).
فإن قيل: ما الحكمة من رفع الحكم وبقاء التلاوة؟
أ- أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه القارئ فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
ب- أن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة.
• نسخ التلاوة وبقاء الحكم.
ومثاله آية الرجم، ففي الصحيحين عن عمر أنه قال (كان فيما أنزل فيما أنزل آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله
…
).
فإن قيل: ما الحكمة من رفع التلاوة وبقاء الحكم؟
فالجواب ما نقله الزركشي في البرهان 2/ 37 عن ابن الجوزي أنه قال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي.
•
أقسام النسخ باعتبار الناسخ:
هي أربعة أقسام:
نسخ القرآن بالقرآن. أمثلة:
o آية المصابرة (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثم نسخت بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).
o آية الاعتداد بالحول، نسخت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً.
نسخ السنة بالقرآن. مثال:
o نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
…
).
نسخ القرآن بالسنة.
وهذا فيه خلاف، والصحيح الجواز سواء الحديث متواتراً أو أحاداً، لأن محل النسخ هو الحكم، وليس اللفظ، والحكم لا يشترط في ثبوته التواتر.
وقد رجح جماعة من أهل العلم أن الحديث ولو كان آحاداً ينسخ القرآن، منهم: المحلى في شرحه على جمع الجوامع 2/ 78، وابن حزم في الأحكام 1/ 477، ورجحه الشنقيطي في أضواء البيان 3/ 367، وفي مذكرته على الروضة/ 86.
مثال: قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: ولم أجد له مثالاً سليماً، ومثل بعضهم بقوله تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) مع حديث: (لا وصية لوارث) رواه الترمذي والنسائي. فقالوا: إن الحديث ناسخ للوصية للوالدين والأقربين، ولكن هذا فيه نظر، فإن من شروط النسخ تعذر الجمع بين الدليلين، وهنا يمكن الجمع عن طريق التخصص، بأن يخرج من الآية الوارث منهما فلا وصية له بمقتضى الحديث، فتكون الآية في حق غير الوارث، ويكون الحديث في حق الوارث.
نسخ السنة بالسنة.
مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم.
فلما قال (كنت نهيتكم) علم أن النهي من السنة.
•
ما يمتنع نسخه:
أولاً: الأخبار، لأن النسخ محله الحكم، ولأن نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذباً، والكذب مستحيل في إخبار الله ورسوله.
ثانياً: الأحكام التي فيها مصلحة في كل زمان ومكان، كالتوحيد وأصول الإيمان، وأصول العبادات، ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك، فلا يمكن نسخ الأمر بها، وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان، كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن.
•
كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ:
النقل الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي، كحديث:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها). رواه مسلم
ومثال: ما علم بخبر صحابي، كقول عائشة:(كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات). رواه مسلم
معرفة المتقدم من المتأخر في التاريخ. مثاله: قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) فقوله (الآن) يدل على تأخر هذا الحكم.
•
شروط النسخ:
1 -
تعذر الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع فلا نسخ، لإمكان العمل بكل منهما.
2 -
العلم بتأخر الناسخ، وَيُعْلَمُ ذلك: إما بالنص أو بخبر صحابي أو بالتاريخ، وقد سبق ذلك قبل قليل.
مثال الجمع بين الدليلين إن أمكن:
ذهب كثير من أهل العلم أن الإمام إذا صلى قاعداً وجب على المأمومين القادرين على القيام أن يصلوا قياماً، واستدلوا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم في مرض موته والناس يصلون خلف أبي بكر، فتقدم حتى جلس عن يسار أبي بكر فجعل يصلي بهم صلى الله عليه وسلم قاعداً وهم قيام هم يقتدون بأبي بكر وأبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم
قالوا: وهذا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخاً لحديث: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً). رواه مسلم
وذهب بعض العلماء إلى الجمع بين الدليلين، فقالوا:
إذا صلى الإمام بالمأمومين قاعداً من أول الصلاة، فليصلوا قعوداً، لحديث (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً) وإن صلى بهم قائماً، ثم أصابته علة فجلس، فإنهم يصلون قياماً.
قال الشيخ محمد حفظه الله: وبهذا يحصل الجمع بين الدليلين، والجمع بين الدليلين إعمال لهما جميعاً.
(أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)).
[سورة البقرة: 108].
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبيّن لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يحرم من أجل المسألة.
• قال في التسهيل: (تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ) أي: تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأوّل أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم لهم (أَرِنَا الله جَهْرَةً).
ولهذا جاء في الصحيح (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).
وعن المغيرة بن شعبة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال).
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
• قوله تعالى (أَمْ تُرِيدُونَ) وهذا استفهام إنكاري عليهم، وقيل: إنها بمعنى (بل) أي: بل تريدون.
•
ويدخل في الآية صوراً كثيرة:
أ-كالسؤال عن الأشياء النادرة.
ب- وكالسؤال عن الأمور التي لا يترب عليها عمل وإنما تثير الشبه والنزاعات.
ج-وكالسؤال عن أمور سكت عنها الشارع، كما سأل بنو إسرائيل عن صفات البقرة حينما طلب منهم موسى أن يذبحوا بقرة، فتشددوا بالسؤال عنها وعن لونها فشُدد عليهم.
د-ويدخل في الآية: النهي عن اقتراح الآيات كقولهم (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) وطلبهم نزول الملائكة، أو يكون له بيت من زخرف وغيرها.
واختلف العلماء لمن الخطاب هنا.
فقيل: للمؤمنين.
لأنه قال في آخر الآية (ومن يتبدل الكفر بالإيمان
…
) وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين.
وقيل: لكفار مكة.
كم قال تعالى عنهم (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).
وقد سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً.
وقيل: المراد اليهود.
لأن هذه السورة من أول قوله (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي .. ) حكاية عنهم ومحاجة معهم.
وقيل: يعم المؤمنين والكفار.
• قال ابن كثير: وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الخلق.
• قال الشنقيطي في قوله (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل
…
) لم يبين هنا هذا الذي سأل موسى من قبل من هو؟ ولكنه بينه في مواضع أخرى، وذلك في قوله تعالى:(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً).
قال ابن كثير: والمراد أن الله ذم من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنتاً وتكذيباً وعناداً.
(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) أي: ومن يشتر الكفر بالإيمان.
(فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء وأتباعهم، والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم، والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار).
الفوائد:
1 -
توبيخ الأمة لو سألت كما سئل موسى.
2 -
بيان حال قوم موسى من التعنت والتشدد.
3 -
إثبات أن موسى عليه السلام رسول.
4 -
بيان أن موسى قد أوذي من قبل.
5 -
أن من أخذ الكفر بديلاً عن الإيمان فإنه ضال مخطئ مهما ازدهرت له الدنيا.
(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110))
[البقرة: 109 - 110]
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: تمنى وحب كثير من اليهود والنصارى.
وسموا أهل الكتاب، لأن الله أنزل عليهم الكتاب، فأنزل على اليهود التوراة، وعلى النصارى الإنجيل.
(لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أي: لو يصيرونكم كفاراً بعد أن آمنتم.
(مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً) الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة، أي: ودوا وتمنوا وأحبوا لو يرجعونكم من بعد إيمانكم بالله ورسوله وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي والشرع المطهر.
(كُفَّاراً) مرتدين عن دينكم، متبعين لهم في دينهم، كما قال تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
(حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي: حسداً منهم لكم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة، فقوله (من عند أنفسهم) أي: هذا الحسد ناشئ من نفوسهم.
قال الضحاك عن ابن عباس: إن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم في الكتاب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً.
قوله تعالى (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في الكتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) تأكيداً وإلزاماً، كما قال تعالى (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) وقوله (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).
والحسد: تمني زوال نعمة الله عن الغير، سواء تمنى كونها له أو لغيره، أو مجرد زوالها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحسد كراهة نعمة الله على الغير.
قال ابن القيم: الحسد ثلاث مراتب:
أحدها: أن يحسد ويقوم بمقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم.
والثاني: تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسد على شيء مقدر، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبداً إلا قهراً.
والثالث: حسد الغبطة، وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها الناس) فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) قال أبو العالية: من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً إذ كان من غيرهم.
في هذه الآية أن الكفار يتمنون أن يردوا أهل الإيمان إلى كفر، وهذا جاء ذلك في آيات أخرى:
قال تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).
وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).
وقال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
مباحث الحسد:
أولاً: تعريف الحسد:
هو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يحصل للحاسد مثلها، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود.
ثانياً: خطر الحسد:
أولاً: أنه من صفات اليهود.
كما في هذا الآية (
…
حسداً من عند أنفسهم).
وكما في قوله تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
ثانياً: أنه من الإيذاء وتعد على المسلم.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
قال صلى الله عليه وسلم (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا) متفق عليه.
رابعاً: أنه اعتراض على قضاء الله وقدره.
فضل السلامة من الحسد:
أولاً: أن تركه من علامة كمال الإيمان.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل؟ قال (المؤمن النقي القلب، ليس فيه غل ولا حسد) رواه ابن ماجه.
ثانياً: أن الله أثنى على الأنصار بذلك.
قال تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أوتوا).
من أقوال السلف في الحسد:
قال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك. فقال: تركتُ الحسد فبقيت.
وقال معاوية: كل إنسان أقدر على أن أرضيه، إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة. وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع. وقيل رأى موسى عليه السلام، رجلاً عند العرش فغبطه، فقال: ما صفته؟ فقيل: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْحَسَدُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي حَسَدَ إبْلِيسَ لِآدَمَ عليه السلام وَأَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي حَسَدَ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ حَتَّى قَتَلَهُ.
وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي خِصَالِ الشَّرِّ أَعْدَلُ مِنْ الْحَسَدِ، يَقْتُلُ الْحَاسِدَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَحْسُودِ.
وقال لابنه: يا بني! إياك والحسد، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً، قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.
وقيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: لا أم لك، أنسيت إخوة يوسف، لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه.
وقال ابن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار.
قال الشاعر:
كل العداواة قد تُرجَى إماتتها
…
إلا عداوةَ من عاداك من حسدِ.
وقال الخليل بن أحمد: لا شيء أشبه بالمظلوم من الحاسد.
وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً، يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي.
وقال عون بن عبد الله: إياك والكبْر، فإن أول ذنب عصيَ الله به ثم قرأ (وإذ قلنا للملائكة
…
)، وإياك والحرص، فإنه أخرج آدم من الجنة ثم قرأ (اهبطوا منها)، وإياك والحسد، فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق).
قال بعض العلماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه:
أولها: قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره، والثاني: سخط لقسمته كأنه يقول لربه: لم قسمت هكذا؟، والثالث: أنه ضن بفضله، يعني أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله، والرابع: خذل ولي الله، لأنه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه، والخامس: أعان عدوه يعني إبليس لعنه الله.
قال بعض العلماء: ليس شيء من الشر أضر من الحسد، لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه:
أولها: غم لا ينقطع.
والثاني: مصيبة لا يؤجر عليها.
والثالث: مذمة لا يحمد عليها.
والرابع: يسخط عليه الرب.
والخامس: تغلق عليه أبواب التوفيق.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) العفو: ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: إزالة أثره من النفس وترك اللوم والتثريب.
قال الآلوسي (فاعفوا واصفحوا) العفو: ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيب وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح.
(حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي: حتى يأتي الله بأمره بقتالهم.
قال الرازي: (حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ) وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن.
وثانيها: أنه قوة الرسول وكثرة أمته.
وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين، إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين: إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار.
وفي هذا دلالة على مراعاة التشريع الإسلامي للظروف والأحوال والتدريج في التشريع.
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة.
والناسخ لها قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ).
وقوله (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وكذا قال ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي.
والصحيح أن هذا ليس من قبيل النسخ، لأمور:
أولاً: لأن هذه الآية وأشباهها مما أمر الله بالإعراض عن المشركين محمولة على وقت الضعف، والآيات الأمر بقتالهم محمولة على وقت القوة، وليست منسوخة.
ثانياً: أن الآية (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حتى يأتي الله بأمره) مغياة بغاية ينتهي حكمها عند حلول تلك الغاية ولا يعد نسخاً.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: ذو قدرة تامة، لا يعجزه شيء كما قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)، وقال تعالى (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).
فهو سبحانه ذو قدرة تامة على كل شيء، يبدل الأحوال، ويأتي بأمره، ويعفو مع القدرة.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تقدم، ومعناه: أدوا الصلاة فرضها ونفلها تامة كاملة قائمة، بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها.
وَآتُوا الزَّكَاةَ) تقدم. ومعناه: أعطوا الزكاة المفروضة طيبة بها نفوسكم لمستحقيها.
والزكاة شرعاً: دفع مال مخصوص لطائفة مخصوصة تعبداً لله تعالى.
قال الشيخ ابن عثمين رحمه الله: إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أسباب النصر، لأن الله ذكرها بعد قوله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي: وما تقدموا لأنفسكم في حياتكم من خير أيا كان ومهما كان، قل أو كثُر.
(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) أي: تلقوه عند الله يوم القيامة، مدخراً لكم ثوابه مضاعفاً لكم أجره.
كما قال تعالى (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً).
وقال تعالى (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).
وفي قوله (لِأَنْفُسِكُمْ) استجاشة للضمائر، وتحريك للهمم، بأن الإنسان إذا عمل، إنما يعمل لنفسه، كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (كل الناس يغدوا، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم.
قال الشوكاني: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
…
) حثّ من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم، وينصرهم على المخالفين لهم.
جاء في الحديث (إن العبد إذا مات قال له الناس ما خلف، وقالت له الملائكة ما قدم).
وخرج البخاري عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟) قالوا: يَا رسول اللهِ، مَا مِنَّا أحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ:(فإنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أخَّر).
وقال صلى الله عليه وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم.
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم (مَا بَقِىَ مِنْهَا، قَالَتْ مَا بَقِىَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُها، قَالَ: بَقِىَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا). رواه الترمذي.
كان أبو هريرة يبكي ويقول: سفري بعيد، وزادي قليل.
وكان أبو الدرداء يقول: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.
وقال ابن السماك: إن الموتى لم يبكوا من الموت، ولكنهم يبكون من حسرة الفوْت، فاتَتْهم والله دار لم يتزودوا منها، ودخلوا داراً لم يتزودوا لها.
قال أحد السلف: إذا أردت اللحاق بالمجدين وأنت صادق، فاجعل نصب عينيك قول الله جل وعلا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً). وقوله تعالى (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ).
وقال القعقاع بن حكيم: قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة، فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء
ويروى عن ابن المبارك أنه لما احتضر نظر إلى السماء، فضحك ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون.
واحتضر بعض الصالحين فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: عليك أبكي، قال: إن كنتِ باكية فابك على نفسك، فأما أنا فقد بكيت على هذا اليوم منذ أربعين سنة.
وقيل لبعض السلف لما حضرته الوفاة: ما كان عملك؟ فقال: لو لم يقرب أجلي ما أخبرتكم به، وقفت على باب قلبي أربعين سنة فكلما مر فيه غير الله حجبته عنه.
وعن أنس بن عياض، رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة.
وهذا بلال - مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قالت امرأته، واحزناه، فقال: بل واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبَه.
قال أبو حازم سلمة بن دينار: كل عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى متّ.
قال النووي: عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس بْن يَزِيد الْأَوْدِيّ الْكُوفِيّ أَبُو مُحَمَّد الْمُتَّفَق عَلَى إِمَامَته وَجَلَالَته وَإِتْقَانه وَفَضِيلَته، وَوَرَعِهِ وَعِبَادَته، رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِبِنْتِهِ حِين بَكَتْ عِنْد حُضُور مَوْته: لَا تَبْكِي فَقَدْ خَتَمْت الْقُرْآن فِي هَذَا الْبَيْت أَرْبَعَة آلَاف خَتْمَة قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل: كَانَ اِبْن إِدْرِيس نَسِيجًا وَحْده.
(إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
قال الشيخ ابن عثيمين: بصير، ليس من البصر الذي هو الرؤية، لكن من البصر الذي بمعنى العلم، لأنه أشمل حيث يعم العمل القلبي والبدني.
الفوائد:
1 -
بيان ما عليه أهل الكتاب من الحسد العظيم لهذه الأمة.
2 -
شدة عداوة كثير من أهل الكتاب وحسدهم لهذه الأمة.
3 -
الإشارة لعظم نعمة الله على هذه الأمة بالإسلام والإيمان وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
4 -
أن من كان فيه حسد للناس على ما أتاهم الله من فضله، فإن فيه شبه باليهود.
5 -
أن هذا الحسد من أهل الكتاب نابع من عند أنفسهم لم يؤذن لهم فيه، ولم يكن عن رؤية وتعقل.
6 -
وجوب الحذر من الحسد فإنه داء وبيل، ومرض خطير، من أعظم أسباب الاعتداء على الغير ورد الحق.
7 -
أن هؤلاء الذين يودون هذا لهذه الأمة يؤدونه عن عمد وعناد من بعد ما تبين لهم الحق.
8 -
التدرج في معاملة الكفار، حيث أمر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن نعفو ونصفح حتى يأتي الله بأمره.
9 -
أن الإنسان يعذر بجهله إذا خالف الأمر والنهي، لقوله تعالى:(مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
وهذا الأصل دلّ عليه الكتاب والسنة:
قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ).
وأما السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسيء في صلاته أن يقضي ما فعله، وكان المسيء في صلاته لا يطمئن لا في ركوع ولا في سجود.
10 -
عموم قدرة الله، لقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
11 -
وجوب إقامة الصلاة.
12 -
وجوب إيتاء الزكاة لمستحقيها.
13 -
أن الصلاة أوكد من الزكاة.
14 -
الحث على تقديم الخير.
15 -
الترغيب في الخير قولاً وعملاً.
16 -
أن ما تقدمه من الخير لن يضيع، بل ستجده عند الله.
(وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112))
[البقرة: 111 - 112]
(وَقَالُوا) أي: اليهود والنصارى.
(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً) هذا قول اليهود.
(أَوْ نَصَارَى) هذا قول النصارى.
• قال القرطبي: المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا.
• وقال ابن كثير: يبين الله تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً.
ومن الدعاوى الكاذبة التي ادعوها:
قولهم (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).
وقولهم (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).
وقولهم (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا).
وقولهم في هذه الآية (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى).
فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد الله تعالى عليهم في ذلك، وهكذا قال في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال:
(تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) قال أبو العالية: أماني تمنوها على الله بغير حق.
والأماني جمع أمنية، وهي: ما يتمناه الإنسان بدون سبب يصل به إليه.
قال في التسهيل: (أَمَانِيُّهُمْ) أكاذيبهم أو ما يتمنونه.
ثم قال تعالى:
(قُلْ) يا محمد.
(هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم. وقال قتادة: بينتكم على ذلك.
(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي فيما تدعونه، ثم قال تعالى:
(بَلَى) أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم، ولكن:
(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، وقوله (وجهه) أي دينه، وهذا الشرط الأول من شروط قبول العمل، وهو الإخلاص لله تعالى.
قال الطبري: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده.
فإن قال قائل: هل هذا من التأويل لصفة الوجه؟
الجواب: لا، لأن الوجه يطلق ويراد به الوِجْهة والقصد.
فإن قيل: لم خص الوجه بالذكر؟
فالجواب: وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه:
أحدها: لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى.
وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس.
وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة، وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خصه بالذكر.
• وقال القرطبي: وخص الوجه بالذكر، لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل، والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد.
• وقال البغوي: وخص الوجه بالذكر، لأنه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه.
(وَهُوَ) مع إخلاصه.
(مُحْسِنٌ) أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشرط الثاني من شروط قبول العمل وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن العمل المتقبل لا يقبل إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده، لحديث (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.
والآخر: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، لحديث (من عمل عملاً
…
) متفق عليه.
فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يتقبل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رواه مسلم عن عائشة
وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضاً مردود على فاعله.
قال ابن كثير: فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا).
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال
المنافقين والمرائين:
كما قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا).
وقال تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).
ولهذا قال تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
وقال في هذه الآية الكريمة (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).
كيف يكون العلم مخلصاً؟
قال مالك بن دينار: إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمُهُ، وإذا طلبه لغير ذلك ازداد به فجوراً أو فخراً.
قال الذهبي: فَمَن طلبَ العلمَ للآخرة كَسَرَه العلمُ وخشع لله.
قال بعض السلف: من ازداد علماً ولم يزدد خشية فليتّهِم علمه.
سُئِلَ الحافظ عبد الغني المقدسي: لِمَ لا تقرأ من غير كتاب؟ قال: أخاف العجب. [السير 21/ 449].
وقد قيل لذي النون المصري رحمه الله تعالى: متى يعلم العبد أنه من المخلصين؟ فقال: إذا بذل المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة عند الناس.
وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: متى يكون العبد مخلصاً؟ فقال: إذا صار خلقه كخلق الرضيع، لا يبالي من مدحه أو ذمه.
قال النووي: من علامة المخلص أن يتكدر إذا اطلع الناس على محاسن عمله كما يتكدر إذا اطلعوا على مساويه فإن فرح النفس بذلك معصية وربما كان الرياء أشد من كثير من المعاصي.
(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي: ثوابه، والأجر في الأصل ما يؤخذ مقابل العمل، وإنما سماه الله أجراً لبيان أنه متكفل به وأنه لا يضيع عنده.
قال الشيخ ابن عثيمين: وسمى الله (الثواب) أجراً، لأنه سبحانه وتعالى التزم على نفسه أن يجزي به كالتزام المستأجر بدفع الأجرة للأجير.
(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي (فلا خوف عليهم) فيما يستقبلونه (ولا هم يحزنون) على ما مضى مما يتركونه.
فالخوف: الغم من أمر مستقبل، والحزن: الغم من أمر فائت، وقد يستعمل الحزن بمعنى الخوف ويمكن يفسر به قوله تعالى عن أهل الجنة حين دخلوها (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) أي: أذهب عنهم الخوف.
وقال السعدي: ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب، ويفهم منها أن من ليس كذلك، فهو من أهل النار الهالكين، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
…
الفوائد:
1 -
بيان دعوى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مثلهم يهودياً أو نصرانياً.
2 -
أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث والجزاء، لأن الجنة إنما يدخلها أهلها بعد البعث يوم القيامة.
3 -
أن الثواب لا يحصل إلا بأمرين:
o إسلام الوجه لله.
o الإحسان، وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 -
قوة المحاجة في كتاب الله التي تدحض الخصم وتفحمه.
5 -
أنه لا تقبل الدعوى إلا ببينة، فمن ادعى حكماً من أحكام الله الأخروية أو الدنيوية، فإن عليه أن يبرهن فيما قال.
6 -
أن اليهود والنصارى لا حجة لهم إطلاقاً فيما ادعوه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وما أكثر دعاوي اليهود والنصارى بأنهم أهل الجنة.
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)).
[سورة البقرة: 113].
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) يبين الله تعالى تناقض اليهود والنصارى وتباغضهم وتعاندهم.
قال الطبري: قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب.
كما قال ابن عباس لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى والإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحدوا نبوة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك من قولهما (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ
…
).
قوله تعالى (على شيء) المراد: على شيء معتبر.
قال أبو حيان: قيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة، وتكون أل للجنس، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفريقين، وتسلية له صلى الله عليه وسلم، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله.
وقيل: المراد يهود المدينة ونصارى نجران، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوّة عيسى، وأنكرت النصارى التوراة ونبوّة موسى.
قال ابن عاشور: لزيادة بيان أن المجازفة دأبهم وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم فهم يرمون المخالفين بالضلال لمجرد المخالفة، فقديماً ما رمت اليهود النصارى بالضلال ورمت النصارى اليهود بمثله فلا تعجبوا من حكم كل فريق منهم بأن المسلمين لا يدخلون الجنة، وفي ذلك إنحاء على أهل الكتاب وتطمين لخواطر المسلمين ودفع الشبهة عن المشركين بأنهم يتخذون من طعن أهل الكتاب في الإسلام حجة لأنفسهم على مناوأته وثباتاً على شركهم.
(وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي: والحال أنهم يتلون ويقرؤون التوراة والإنجيل.
وفي هذه الآية توبيخ لهم، حيث تعمدوا الكذب والافتراء كل فريق على الآخر مع كونهم يعلمون بكذب ما ذهبوا إليه.
قال في التسهيل: (وَهُمْ يَتْلُونَ) تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب.
وقال الشوكاني: وفي هذا أعظم توبيخ، وأشدّ تقريع؛ لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة، والتكلم بما ليس عليه برهان هو: وإن كان قبيحاً على الإطلاق لكنه من أهل العلم، والدراسة لكتب الله أشدّ قبحاً، وأفظع جرماً، وأعظم ذنباً.
(كَذَلِكَ) أي مثل ذلك القول.
(قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي: قال مشركوا العرب: ليس محمد على شيء.
• وقد اختلف فيمن عني بقوله تعالى (قال الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)؟
قيل: كفار العرب، قال القرطبي: وهو قول الجمهور، لأنهم لا كتاب لهم.
وقيل: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى.
قال ابن كثير: واختار أبو جعفر بن جرير: أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثَمّ دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال، والحمل على الجميع أولى.
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي أنه يجمع بينهم يوم القيامة، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه كقوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
قوله تعالى (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سمي بذلك:
أولاً: لأن الناس يقومون من قبورهم.
قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
ثانياً: ولقيام الأشهاد.
لقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).
ثالثاً: ولقيام الملائكة.
لقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً).
الفوائد:
1 -
بيان عداوة اليهود والنصارى بعضهم لبعض.
2 -
أن هذه المقالة التي قالتها اليهود وقالتها النصارى، يقولها أيضاً كل من كان جاهلاً، أي كل من كان ذا جهالة.
3 -
إثبات الجزاء يوم القيامة، لقوله تعالى:(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
4 -
أن الذين اختلفوا في الكتاب وفي الرسل سوف يقضي تعالى بينهم يوم القيامة ويبين من هو على الحق.
5 -
إثبات يوم القيامة، وهو اليوم الآخر.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)).
[سورة البقرة: 114].
(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أظلم.
(مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله: منع من يأتي إليها للصلاة، والتلاوة، والذكر، وتعليمه.
قال الشوكاني: هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه، وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم،
أي: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله.
وقد اختلف المفسرون في المراد في الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين:
القول الأول: هم النصارى.
قال مجاهد: النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال قتادة في قوله (وسعى في خرابها) قال: هو بخْتَنصَّر، خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البالي المجوسي على تخريب المقدس.
وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على تخريب بيت المقدس، حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحي بن زكريا.
وروي نحوه عن الحسن البصري، وعلى هذا القول فإن الخراب هنا خراب حسي.
القول الثاني: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام 6 هـ.
واختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
واختار ابن كثير القول الثاني، حيث قال رحمه الله: والذي يظهر والله أعلم القول الثاني.
ثم قال ابن كثير رداً على ابن جرير:
…
وأيضاً فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذي أخرجوا الرسول وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده في أن قريشاً لم تسعَ في خراب الكعبة؛ فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم.
ورجح القرطبي رحمه الله العموم، فقال: وقيل المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجميع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف.
قال البيضاوي: قوله تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله
…
) عام لكل من خرب مسجداً، أو سعى في تعطيل مكان مرشح للصلاة، وإن نزل في الروم لما غزوا بيت المقدس وخربوه وقتلوا أهله، أو في المشركين لما منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.
(وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) أي: وسعى، أي: اجتهد وبذل وسعه (في خرابها) الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي هدمها وتخريبها وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها.
قال الرازي: السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين.
أحدهما: منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريباً.
والثاني: بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول: كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه
التخريب، لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريباً له، وقيل: إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر.
(أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) قيل: هذا خبر معناه الطلب، أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة أو الجزية، ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: ألا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
وقيل: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على وجه التهديد وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها.
والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم، حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم.
قال القرطبي: ومن جعل الآية في النصارى روي أنه مرَّ زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضرباً بعد أن كان متعبدهم.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) من جعل الآية في قريش، جعل الخزي في الدنيا: الفتح، وأن لا يدخل أحدهم المسجد الحرام إلا خائفاً
، لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صَدوا المسلمين عن المسجد الحرام؛ صُدوا عنه.
(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) على ما انتهكوا من حرمة البيت وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده، والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.
وأما من جعل الآية في النصارى فقال كعب الأحبار: أن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ
…
) فليس في الأرض نصرانياً يدخل المسجد إلا خائفاً.
وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها.
الفوائد:
1 -
تحريم منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه.
2 -
الإشارة إلى أن ما يتعلق بأمور الدنيا من بيع وشراء وأجارة ونحوها، لا يحل إيقاعه في المسجد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك).
3 -
الإشارة إلى أن المساجد إنما بنيت لذكر الله.
4 -
أن ذكر الله يكون بذكر اسمه، وذلك يقتضي أن يكون باللسان، وذكر الله يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح.
أما ذكر الله بالقلب: بأن يكون الإنسان متفكراً متأملاً في آيات الله.
وأما الذكر باللسان: فهو يتناول كل قول يقرب إلى الله، من قراءة أو تسبيح.
وأما الذكر بالجوارح: فيشمل كل فعل يتقرب به الإنسان إلى ربه، كالوضوء والصلاة وغيرها.
5 -
أن السعي في خراب المساجد يشمل منع ذكر الله تعالى، ويشمل الخراب الحسي وذلك بهدمها.
6 -
أن هؤلاء المتسلطين على عباد الله، بمنعهم من مساجد الله أن يذكروا اسم الله، لهم عقوبتان:
عقوبة في الدنيا: وهي الخزي والذل.
وعقوبة في الآخرة: وهي العذاب العظيم.
(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)).
[سورة البقرة: 115].
(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي هما له ملك، وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، وخصهما بالذكر والإضافة له تشريفاً، نحو: بيت الله، وناقة الله.
قال السعدي: خصهما بالذكر، لأنهما محل الآيات العظيمة، فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكاً لها، كان مالكاً لكل الجهات.
في هذا الآية قال تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وجاء في آية أخرى بلفظ التثنية كقوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وجاء في آية أخرى بلفظ الجمع كقوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ)؟ فاختلف العلماء في الجمع بينها؟
القول الأول: أن المراد بالمشرق والمغرب - بلفظ الإفراد - الجهة التي تشرق منها الشمس، والجهة المقابلة التي تغيب فيها الشمس، فالمشرق هو موضع الشروق، والمغرب: هو موضع الغروب.
والمراد بهما - بلفظ التثنية - فهو مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما، وأما المراد بهما - بلفظ الجمع - فهو مشارق السنة ومغاربها، فللشمس مشرق كل يوم يختلف عن مشرقها في اليوم الآخر على مدار السنة، وكذلك مغربها وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً،
وكذلك المغارب بعدد أيام السنة.
ذهب إلى هذا المسلك ابن عباس وتابعه مجاهد وقتادة ورجحه الطبري والبغوي وابن القيم والسمرقندي وابن كثير والسيوطي والشنقيطي.
القول الثاني: أن المراد بالمشرق والمغرب - بلفظ الإفراد - اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، والمراد بهما - بلفظ التثنية: أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة، وأما المراد بهما - بلفظ الجمع - مشارق السنة ومغاربها. (آيات العقيدة التي قد يوهم ظاهرها التعارض).
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) أي: تتجهوا.
(فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي: هنالك وجه الله.
اختلف العلماء هل هذه الآية من آيات الصفات أم لا على قولين:
القول الأول: ذهبت طائفة إلى أنها من آيات الصفات، وأن المراد بالآية وجه الله الذي هو صفة من صفاته سبحانه.
وقال بذلك: ابن خزيمة، والبيهقي، وابن القيم، وعبد الرحمن السعدي، وابن عثيمين.
قال ابن القيم: الصحيح في قوله تعالى (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه، فإنه قد اطرد مجيئه في القرآن والسنة مضافاً إلى الرب تعالى، على طريقة واحدة، ومعنى واحد، فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذكر في سورة البقرة، وهو قوله (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، وهذا لا يتعين حمله على القبلة والجهة، ولا يمتنع أن يراد به وجه الرب حقيقة، فحمله على غير القبلة كنظائره كلها أولى.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لكن الراجح أن المراد به الوجه الحقيقي، لأن ذلك هو الأصل، وليس هناك ما يمنعه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَلَ وجه المصلي. ولهذا نهى أن يبصق أمام وجهه؛ لأن الله قِبَل وجهه فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة واجتهدت وتحريت وصليت وصارت القبلة في الواقع خلفك فالله يكون قبل وجهه حتى في هذه الحالة. وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
القول الثاني: ذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ليس من باب الصفات في شيء.
قال ابن تيمية: ليست هذه الآية من آيات الصفات ومن عدها في الصفات فقد غلط.
وقد اختلف هؤلاء في معناها على أقوال:
فقيل: أن معنى (فثم وجه الله) أي: فثم قبلة الله، قالوا: والوجه يأتي في اللغة بمعنى الجهة، يقال: وِجْهَة ووجه وَجِهَة. وممن روي عنه هذا القول: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والشافعي.
واختاره: الواحدي، والزمخشري، وابن عطية، والرازي، وابن تيمية.
قال ابن تيمية: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي: قبلة الله، ووجْهِة الله، هكذا قال جمهور السلف.
وقيل: (فثم وجه الله) أي: فثم رضا الله وثوابه.
والراجح - والله أعلم - القول الأول.
وقد اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه) على أقوال:
قيل: ما جاء عن ابن عباس قال (كان أول ما نسخ من القرآن: القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله (قد نرى تقلب وجهك في السماء
…
إلى قوله فولوا وجوهكم شطره) فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا:(ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) فأنزل الله (قل لله المشرق والمغرب) وقال (فأينما تولوا فثم وجه الله) رواه ابن جرير، وهذه الرواية ثابتة عن ابن عباس، وأيضاً من قبيل الصريح في سبب النزول.
قيل: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة. أخرجه الترمذي
عن عامر بن ربيعة قال (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أخرجه الترمذي وفيه ضعف.
وقيل: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته.
فعن ابن عمر قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيثما كان وجهه، قال: وفيه نزلت:
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)). رواه مسلم.
وقيل: إن الآية منسوخة بقوله: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي تلقاءه.
روي عن مجاهد والضحاك: أنها محكمة المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة.
وقيل: لما نزلت (ادعوني أستجب لكم) قالوا: إلى أين؟ فنزلت (فأينما تولوا فثم وجه الله) لكنه ضعيف.
(إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ) قال ابن جرير: واسع يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.
وقال الخطابي: الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه.
وقال السعدي: الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة، والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم.
فالله عز وجل واسع العطاء، كثير الإفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وفضله، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته.
والله واسع المغفرة.
ومن سعة مغفرته: أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه.
قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وقال حملة العرش عن ربهم تبارك وتعالى (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
والله واسع العلم:
كما قال تعالى (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).
والله واسع الرحمة:
كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).
(عَلِيمٌ) بكل شيء لا يخفى عليه شيء. [تقدمت مباحث العلم].
الفوائد:
1 -
عموم ملك الله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
2 -
أن هذا العموم لا يأتي لأحد سوى الله، لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).
3 -
أن الإنسان مهما تولى واتجه إلى شيء فثم وجه الله.
4 -
أن الإنسان إذا صلى إلى جهة مجتهداً حيث يحل له الاجتهاد، معتقداً أن هذه الجهة هي القبلة، فإن صلاته تصح.
5 -
إثبات الوجه لله، وعقيدة أهل السنة: إثبات الوجه لله إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، وهكذا بقية الصفات كاليدين والعينين.
6 -
إثبات سعة علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء، وذلك أن كل الأشياء بالنسبة إليه صغيرة، قال تعالى:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
7 -
الحذر من مخالفة الله عز وجل بترك أوامره أو فعل نواهيه، لأنه عالم سبحانه وتعالى بذلك، وعلمه بذلك يقتضي الحذر من مخالفته.
(وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)).
[البقرة: 116 - 117]
(وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً) هذا إخبار عن النصارى عليهم لعائن الله، وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله.
قال الشنقيطي: هذا الولد المزعوم على زاعمه لعائن الله، قد جاء مفصلاً في آيات أخر، كقوله تعالى:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقوله (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ).
• فادعاء لله الولد أمر خطير وكبير.
كما قال تعالى (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً).
وقال تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّاي فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا أحد أصبر على اذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً، وهو يرزقهم ويعافيهم) متفق عليه.
(سُبْحَانَهُ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة: من أنه لما ذكر وصف الكفار له بما لا يليق به، نزه نفسه عن ذلك، معلماً خلقه في كتابه أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به، جاء موضحاً في آيات كثيرة:
كقوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ).
وقوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ).
وقوله تعالى (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ).
وقوله تعالى (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ).
وقوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ).
وقوله تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً).
وقوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
وقوله تعالى (سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).
والله منزه عن الولد لأمور متعددة:
أولاً: لأنه مالك كل شيء، والمالك لا بد أن يكون المملوك مبايناً له في كل الأحوال.
ثانياً: أنه ليس له زوجة، والابن إنما يكون غالباً ممن له زوجة، كما ذكر الله ذلك في سورة الأنعام (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ).
ثالثاً: أن الولد إنما يكون لمن يحتاج للبقاء، أي: بقاء النوع باستمرار النسل، والرب عز وجل ليس بحاجة إلى ذلك، لأنه الحي الذي لا يموت.
رابعاً: أن الابن إنما يحتاج إليه والده ليساعده ويعينه على شؤونه وأموره، والله سبحانه وتعالى غني، وقد أشار إلى ذلك بقوله (سبحانه هو الغني).
…
[قاله الشيخ ابن عثيمين].
قال الرازي: إن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة، فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم، واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له، وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وقال في مريم (ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُون مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون) وقال أيضاً في آخر هذه السورة (وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً).
(بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم ومقدورهم ومسخرهم ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء، والجميع عبيد له، وملك له، فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له شبيه ولا مشارك في عظمته وكبريائه، ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد.
قال ابن عطية: وإنما خص السماوات والأرض بالذكر، لأنهما أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا.
(كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) أي: مطيعون.
قال مجاهد: (كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) مطيعون، قال: طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره.
قال ابن كثير: وهذا القول عن مجاهد هو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها، وهو أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، كما قال تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
فإن قيل: كيف عمَّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن يكون ظاهرها ظاهر العموم، ومعناها معنى الخصوص، والمعنى: كل أهل الطاعة له قانتون.
والثاني: أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات، فنسب القنوت إليهم بذلك.
والثالث: أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه، وجري أحكامه عليه، فذلك دليل على ذُلهِ للرب.
والرابع: كل له قائم يوم القيامة.
والخامس: مطيعون (في الأمر القدري الكوني) كن إنساناً فكان، كن حماراً فكان.
والصواب ما سبق وهو اختيار ابن جرير كما تقدم.
وقال السعدي: القنوت نوعان: قنوت عام وهو قنوت الخلق كلهم تحت تدبير الخالق، وخاص وهو قنوت العبادة، فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني، كما في قوله تعالى (وقوموا لله قانتين).
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي خالقها على غير مثال سابق.
قال القرطبي: فالله عز وجل بديع السماوات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: مبدع.
(وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيمِ سلطانهِ، وأنه إذا قدّر أمراً وأراد كونه؛ فإنما يقول له كن، أي مرة واحدة، فيكون، أي فيوجد على وفق ما أراد.
كما قال تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقال تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).
المراد بقوله (قضى أمراً) أي: إذا أحكم أمراً وحتمه. (قاله ابن جرير).
والمراد بأمر الله هنا بمعنى الشأن، (فإذا قضى أمراً) أي شيئاً مقضياً، وليس الأمر هنا بمعنى الطلب.
كما في قوله تعالى (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي: وما شأنه.
الفوائد:
1 -
تنزيه الله عن الولد، وقد نزه الله نفسه عن ذلك في آيات:
قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).
وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).
وقال تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ).
وأخرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي: فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي: فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً).
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم).
2 -
بيان تنزيه الله عز وجل عن كل عيب ونقص.
3 -
بيان غنى الله عن اتخاذ الولد، حيث أنه سبحانه وتعالى مالك السماوات والأرض وما فيهما.
4 -
أن جميع الخلق قانت لله، ومنهم: عزير والمسيح والملائكة، فلا يمكن أن يكون له ولد.
5 -
أن الله لا ينبغي أن يتخذ ولداً، لأنه خالق السماوات والأرض، فهو مستغن عن الولد.
6 -
بيان كمال قدرة الله عز وجل في قوله (وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
7 -
أن الأمر مهما كانت عظمته؛ فإن الله تعالى قادر عليه بكلمة واحدة، وهي (كن).
8 -
إثبات القول لله، وأن الله يقول، وأن قوله بحروف لقوله (كن).
9 -
القنوت له معاني كثيرة: منها: القيام والمداومة، ومنها: الصمت، ومنها: الوقوف، ومدارها على الدوام على الطاعة.
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)).
[سورة البقرة: 118].
(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) اختلف العلماء في قائل هذا:
فقيل: هم النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولاً.
وقيل: هم اليهود، لأنهم طلبوا من موسى الآيات وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
وقيل: هذا قول كفار العرب.
ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركي العرب:
قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ).
وقوله تعالى عنهم: (فلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).
وقوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).
وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا).
وقوله تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى:(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)
قوله تعالى (أو تأتينا آية) أي: يريدون معجزة - عناداً وعتواً - كسؤال رؤية الله، وكسؤالهم جعل الصفا ذهباً، وكسؤالهم الرقي في السماء ونحو ذلك.
(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) المراد بهم اليهود والنصارى.
قال ابن عاشور: وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله (إنا أرسلناك بالحق).
(تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أشبهت قلوب مشركي العرب، قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى:(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَل).
قال الرازي: (تشابهت قُلُوبُهُمْ) فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم، فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل، كقولهم (لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد) وقولهم (اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ) وقولهم (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) وقولهم (أَرِنَا الله جَهْرَةً) فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العناد واللجاج وطلب الباطل.
(قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة لمن أتقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى.
وأما من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله عنهم (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
قال الشنقيطي: هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وكقوله (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ووجه الجمع: أن البيان عام لجميع الخلق، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين خص في هذه الآية بهم، لأن ما لا نفع فيه كالعدم، ونظيرها قوله تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) وقوله (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر) الآية، مع أنه منذر للأسود والأحمر، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به.
الفوائد:
1 -
بيان عظم عناد الكفار المحادين لله ورسله.
2 -
أن القلوب إذا تشابهت، تشابهت الأقوال والأعمال.
3 -
الإشارة إلى أن القلوب هي الموجهة للبدن، لقوله تعالى:(تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).
4 -
تشابه أعمال الكفرة، أي مشابهة لاحقيهم لسابقيهم.
5 -
أن الله بين وأوضح الآيات التي تدل على صدق ما جاءت به رسله.
6 -
أن هذه الآيات البينات بنفسها لا تتبين إلا لموفق.
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)).
[سورة البقرة: 119].
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) المرسِل هو الله عز وجل، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
(بالْحَقِّ) يحتمل أن يكون تبياناً للرسالة، أي أن رسالتك حق، ليس فيها شيء من الباطل.
ويحتمل أن يكون تبياناً للمرسل به، والمعنيان صحيحان، فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق، وما أرسل به من العلم والإيمان والعمل الصالح حق.
قال السعدي: ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: في نفس إرساله، والثاني: في سيرته وهديه ودلهِ، والثالث: في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.
(بَشِيراً وَنَذِيراً) صفتان من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بشير ونذير، فهو بشير للمؤمنين، وهو نذير للكافرين، بشير للمؤمنين بالثواب العاجل والآجل، ونذير للكافرين بالعقاب العاجل والآجل.
كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).
وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).
(وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) أي: أي لا نسألك عن كفر من كفر بك، وعصيان من عصى، وتمرد من تمرد، لأنك قد بلغت، والحساب على الله.
كقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
وقال تعالى (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
وقال تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). وقال تعالى (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
الفوائد:
1 -
إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله (إنا أرسلناك).
2 -
أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق، لقوله (إنا أرسلناك بالحق).
3 -
وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لكونه رسول الله، ولكون ما جاء به حق وضد الحق الباطل.
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له حق من الربوبية والتصرف في الخلق، وإنما هو بشير ونذير.
5 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن ضلال الضالين، ومن كان من أصحاب الجحيم.
6 -
أن الإنسان إذا أدى ما عليه من إبلاغ الشرع والدعوة إليه، فإنه لا يناله من ضلال الضالين شيء، إنما يضلون على أنفسهم.
(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)).
[سورة البقرة: 120]
(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) قال ابن جرير: يعني جل ثناؤه (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.
قال القرطبي: والمعنى ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو آتيناهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم.
• وقال رحمه الله: (ولن ترضى عنك اليهود) يعني إلا باليهودية، (ولا النصارى) يعني إلا بالنصرانية وهذا شيء لا يتصور إذ لا يجتمع في رجل واحد شيئان في وقت واحد وهو قوله (حتى تتبع ملتهم) يعني دينهم وطريقتهم.
قال ابن عاشور: الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته، ولما كان اتباع النبي ملتهم مستحيلاً كان رضاهم عنه كذلك على حد (حتى يلج الجمل في سم الخياط) وقوله (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد).
(قُلْ) أي: قل يا محمد منكراً عليهم:
(إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) أي: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.
قال ابن كثير: أي قل يا محمد؛ إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.
(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة.
وفي هذا الخطاب وجهان:
أحدهما: أنه للرسول صلى الله عليه وسلم لتوجه الخطاب إليه.
والثاني: أنه للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، كقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).
وعلى الأول يكون فيه تأديب لأمته، إذ منزلتهم دون منزلته.
قوله تعالى (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) فإن الهوى رأي ناشئ عن شهوة لا عن دليل.
قوله تعالى (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الفرق بين الولي والنصير: أن النصير هو من يدافع عنك ممن يعتدي عليك، فهو ينصرك، وأما الولي فهو الذي يتولاك بالعناية، وبتحصيل مطلوبك ودفع مرهوبك، هذا إذا اجتمعا، أما إذا أفرد أحدهما شمل الآخر، فإذا قيل ولي بدون نصير، فالمراد من يجلب لك الخير ويدفع عنك الشر. [قاله الشيخ ابن عثيمين]
الفوائد:
1 -
أن اليهود والنصارى يرضون بمن يتبع ملتهم، بل يفرحون بذلك ويسرون به ويستبشرون به.
2 -
أن الهدى لا يختص بأمة أو طائفة معينة، فليس الهدى لليهود فقط، ولا للنصارى فقط، بل الهدى هدى الله، فمن اتبع هدى الله على يد أي رسول فقد اهتدى بهدى الله.
3 -
التحذير من اتباع اليهود والنصارى.
4 -
قوله (ملتهم) استدل بها كثير من الفقهاء على أن الكفر ملة واحدة، وعلى هذا القول يتوارث الكفار فيما بينهم.
اختلف العلماء في توارث الكفار بعضهم من بعض، كاليهود مع النصارى أو المجوس:
القول الأول: أن الكفر بجميع نحله ملة واحدة.
وهذا قول الحنفية والشافعية ورواية في مذهب أحمد، وهو قول الجمهور.
وعلى هذا القول يتوارث الكفار فيما بينهم دون نظر إلى اختلافهم في الديانة.
لقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
ولقوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
القول الثاني: أن الكفر ملل متعددة، لا يرث أهل كل ملة من أهل الملة الأخرى.
وهذا القول رواية عن أحمد، وهو القول الثاني للمالكية.
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يتوارث أهل ملتين شتى). رواه أحمد وأبو داود
وهذا القول هو الراجح.
5 -
أن العقوبات إنما تقع على العبد بعد أن يأتيه العلم، وأما الجاهل فلا عقوبة عليه، وهذا الأصل يشهد له آيات كثيرة متعددة، منها:
قوله تعالى (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا).
وقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
وقوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
وقوله تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ).
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)).
[سورة البقرة: 121].
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) اختلف العلماء في المراد بهم على قولين:
فقيل: هم علماء اليهود والنصارى، ورجحه ابن جرير.
والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم، أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم، بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الطبري: بل عني الله بذلك علماء بني إسرائيل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسلَه، فأقروا بحكم التوراة، فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، والتصديق بما جاء به من عند الله، وهذا القول أولى بالصواب.
وقيل: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن الآية عامة.
(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي: أنهم يعلمون بما فيه، فيحلُّون حلاله، ويحرّمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى (والقمر إِذَا تلاها) أي: اتبعها، كذا قيل، ويحتمل أن يكون من التلاوة: أي: يقرءونه حق قراءته لا يحرّفونه، ولا يبدّلونه. (فتح القدير).
•
والتلاوة يراد بها ثلاث أمور:
1 -
التلاوة اللفظية، بأن يقيم الإنسان حروف الكتاب الذي أنزل.
2 -
التلاوة المعنوية، بأن يقيم معناه، أي معنى الكتاب الذي أنزل، وذلك بأن يفسره بما أراد الله لا بهوى نفسه.
3 -
التلاوة الحكمية العملية، بأن يؤمن بأخباره، ويقوم بأوامره، ويجتنب نواهيه.
قوله تعالى (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي التلاوة الحق.
(أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني هؤلاء هم الذي يؤمنون به حقاً، وأما من لم يتله حق تلاوته: إما باللفظ أو في المعنى أو في الحكم والعمل، فإنه لم يؤمن به، وقد نقص من إيمانه بقدر ما نقص من تلاوته.
قال ابن كثير: وقوله (أولئك يؤمنون به) خبر عن الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، أي من أقام كتابه من أهل الكتاب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ).
صور من التطبيق والعمل بالقرآن:
عن عائشة قالت (لما أنزل الله في براءتي، قال أبو بكر - وكان ينفق على مسطح بن أُثاثة لقرابته وفقره - والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال أبو بكر: بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً) رواه البخاري.
وعن ابن عمر قال: حضرتني هذه الآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فذكرت ما أعطاني الله، فلم أجد شيئاً أحب إليّ من مرجانة - جارية رومية - فقلت: هي حرة لوجه الله.
ولما نزلت هذه الآية، قال زيد بن حارثة: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إليّ من فرسي هذه، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبِله الله منك.
عن أَنَس بْن مَالِك قال (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِىٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَى وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بَيْرَحَى وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ شِئْتَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ
رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّه) متفق عليه.
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي: بالكتاب المذكور وهو القرآن.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وخسارته ولوج النار، كما قال تعالى:(وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ).
الخاسرون جمع خاسر، وأصل الخسران: هو ذهاب مال التاجر، سواء كان ربحاً أو رأس مال، وكل من خسر شيئاً من ماله فقد خسر، وخسران الناس: المراد به غبنهم حظوظهم من ربهم جل وعلا، وقد أقسم الله تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه أحد إلا بتلك الصفات المقررة المعروفة في تلك السورة الكريمة وهي سورة العصر في قوله تعالى (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
الفوائد:
1 -
الثناء على من آتاه الله الكتاب فتلاه حق تلاوته.
2 -
أن من لم يقم حروف الكتاب، فإنه لم يؤمن به حق الإيمان، لأنه لم يتله حق تلاوته.
3 -
أن التلاوة تنقسم إلى قسمين:
تلاوة تامة: وهي حسن التلاوة.
وتلاوة ناقصة: وهي ما دون ذلك.
4 -
أن من لم يقم بالعمل الصالح الذي دل عليه الكتاب؛ فإنه لم يتله حق تلاوته، فيكون ناقص الإيمان.
5 -
الثناء على التالين لكتاب الله حق تلاوته، لقوله تعالى:(أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).
6 -
أن الكافر بالكتاب الذي أنزله الله على رسله، خاسر في الدنيا والآخرة.
7 -
قال ابن القيم في الفوائد: إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فأجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله.
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (123)).
[سورة البقرة: 122، 123]
قد تقدم تفسير هذه الآية في صدر السورة آية [47 - 48].
قال ابن كثير: وكررت هنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعتَه واسمَه وأمره وأمته، فحذرهم من كتمام هذا.
وقال الخازن: كررها في أول السورة وهنا للتوكيد وتذكير النعم.
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)).
[سورة البقرة: 124]
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) أي: واذكر يا محمد حين اختبر الله عبده إبراهيم الخليل.
(بِكَلِمَاتٍ) اختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال:
قيل: شرائع الإسلام.
وقيل: ابتلاه الله بالمناسك.
وقيل: ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد.
وقيل: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله.
وقيل: بذبح ابنه.
وقيل: بأداء الرسالة.
وقال مجاهد في قوله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) قال: ابتلي بالآيات الله بعدها (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
• قال ابن جرير: ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسلم إليه.
ثم قال رحمه الله: ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهباً، لأن قوله (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) وقوله (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
…
) وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
• وقال ابن كثير معقباً على قول ابن جرير: والذي قاله أولاً من الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله، لأن السياق يعطي غير ما قالوه، والله أعلم.
• فإبراهيم أخذ ولده إلى المذبح والاستعداد التام لذبحه، طاعة لأمر الله سبحانه.
وأسكن الزوج والولد في واد غير ذي زرع بمكة، حيث لم يسكن فيه إنسان.
ونهض بوجه عَبَدة الأصنام وتحطيم الأصنام، والوقوف ببطولة في تلك المحاكمة التاريخية، ثم إلقاؤه في وسط النيران، وثباته ورباطة جأشه في كل هذه المراحل.
وهاجر من أرض عبدة الأصنام والابتعاد عن الوطن، والاتجاه نحو أصقاع نائية لأداء رسالته.
(فَأَتَمَّهُنَّ) أي: قام بهن؛ أي قام بهن كلهن، وأداهن أحسن تأدية من غير تفريط ولا توان كما قال تعالى:(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي وفَّى جميع ما شرع له، فعمل به صلوات الله عليه.
• قوله تعالى (فَأَتَمَّهُنَّ) في هذا ثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد أثنى الله عليه في آيات كثيرة:
قال تعالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).
وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)
وقال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ .. ).
وقال تعالى (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ).
•
وثناء الله على شخص لفائدتين:
الأولى: لنقوم بالثناء عليه.
والثانية: لنقتدي به.
(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) الإمام القدوة، والمعنى: أي جاعلك إماماً يقتدي بك الناس ويأتمون بك، ويقتدي بك الصالحون.
• قال الفخر الرازي: إن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة، فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام، وقال الله تعالى في كتابه (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا).
وقال (مِنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ).
وقال في آخر سورة الحج (مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ).
وجميع أمة محمد عليه السلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
(قَالَ) إبراهيم عليه السلام.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي: ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمة يُقتدَى بهم.
• قال ابن عطية: هو على جهة الدعاء والرغباء إلى الله، أي: ومن ذريتي يا رب فاجعل.
• قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
• قال السعدي: فلما اغتبط إبراهيم عليه السلام بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته لتعلو درجته، ودرجة ذريته.
• هذا وقد جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب.
قال تعالى (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ).
• قال السعدي: فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بابنه محمداً صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وهذا من أعظم المناقب والمفاخر أن تكون مواد الهداية والرحمة، والسعادة والفلاح والفوز في ذريته، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، وصلح الصالحون. (السعدي).
• قوله تعالى (ومن ذريتي) يحتمل: أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي: واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل: أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته، أي: ومن ذريتي ماذا يكون يا رب، فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، ويحتمل: دعاء وطلب على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل، وهذا أصح.
• الذرية في الأصل تطلق على الأبناء ومن جاء منهم، كهذه الآية، وكقوله تعالى (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) وكقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، وقد تطلق على الآباء، ومنه قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ).
• قال ابن عاشور: وإنما قال إبراهيم (ومن ذريتي) ولم يقل وَذُريتي لأنه يعلَم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يُقتدَى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة، لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
(قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي: لا ينال هذا الفضل العظيم - وهو الإمامة في الدين - أحد من المشركين.
قال ابن جرير: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماماً يقتدي به أهل الخير.
• ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه.
• قوله تعالى (لا ينال عهدي
…
) واختلف في المراد بالعهد:
فقيل: النبوة، وقيل: الإمامة في الدين، وروي عن قتادة في قوله (لا ينال عهدي الظالمين) قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش وأبصر، قال الزجاج: وهذا قول حسن.
•
وقال ابن الجوزي: وفي العهد هاهنا سبعة أقوال:
أحدها: أنه الإمامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير.
والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة.
والرابع: الدين، قاله أبو العالية.
والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه.
والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة. والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة. والأول أصح.
• فإن قيل: أفما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟
فالجواب: بلى، ولكن لم يعلم حال ذرّيته، فبيّن الله تعالى أن فيهم من هذا حاله، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم.
•
صفات إبراهيم عليه السلام:
الصفة الأولى: أمة.
قال تعالى (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً .. ).
قيل معناها هنا: الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس، وهذا هو المقصود في حق إبراهيم، وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة وخلق.
وقيل أن المقصود بالأمة هنا: أي الإمام، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري وابن كثير.
الصفة الثانية: قانت.
قال تعالى (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً).
والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع.
الصفة الثالثة: حنيفاً.
والحَنَف: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل والجنف: ضده.
والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل لمجرد الميل.
قال ابن كثير: الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد.
وقد كان ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال تعالى:[ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ]، وقال:[ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ]، وهكذا فليكن أولياء الله.
الصفة الرابعة: شاكر.
قال تعالى (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ) أي قائماً بشكر نعم الله عليه.
نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة.
بالقلب، قال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).
وباللسان، قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
وبالجوارح، قال تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
الصفة الخامسة: الحلم.
قال تعالى (إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ).
والحلم: ضبط النفس والطبع عن الهيجان عند الاستثارة.
والحليم: الكثير الحلم وموقف إبراهيم من مقالة أبيه (لأَرْجُمَنَّكَ).
ومن العتاة قوم لوط حينما مرت به الملائكة وأخبرته بما أمرت بها قال (فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ).
ولم يكن حلم إبراهيم ذريعة يتذرع للسكوت عن المنكر بل كان يعلن الحق وينكر الباطل (وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).
الصفة السادسة: أوّاه.
قال تعالى (إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ).
والذي يتحقق من معنى الأوّاه أنه الخاشع الدعّاء المتضرع، وكثرة تأوّه إبراهيم وتضرعه بين يدي ربه قد ذكرت في آيات كثيرة تدل على تحقيق إبراهيم (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ) وجدير بمن سلك طريق الدعوة أن يجعل تعجيل الإنابة من أبرز سماته ليكسب عون ربه وتسديده ومحبته.
الصفة السابعة: السخاء.
قال تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ).
فذكر أن الضيف مكرمون لإكرام إبراهيم لهم، ولم يذكر استئذانهم ليدل على أنه قد عرف بإكرام الضيفان، مع أنهم قوم منكرون لا يعرفهم فقد ذبح لهم عجلاً واستسمنه، ولم يعلمهم بذلك بل راح: أي ذهب خفية حتى لا يُشعر به، تجاوباً لضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، وخدمهم بنفسه، فجاء به ومرّ به إليهم ولم يقربهم إليه، وتلطف مبالغة في الإكرام فقال (أَلا تَأْكُلُونَ).
الصفة الثامنة: الصبر.
كان إبراهيم مثلاً يحتذى في الصبر حتى استحق أن يكون من أولي العزم الذين أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يصبر كصبرهم (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
وكان صبر إبراهيم شاملاً لابتلاءات كثيرة، سيأتي بيان جملة منها بإذن الله.
الصفة التاسعة: شجاعته.
واجه إبراهيم قومه ولم يخش كيدهم وقال مقسماً (وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وقوله لهم (أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ .. ).
الصفة العاشرة: تحقيقه الكامل لعقيدة الولاء والبراء.
قال تعالى (وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ).
فكل عدو لله وإن قربه النسب تجب البراءة منه، وكل ولي لله وإن باعدت به الأوطان والأزمان تجب موالاته ومحبته وقد أمرنا أن
نتأسى بإبراهيم في ذلك (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ .. ).
الصفة الحادية عشرة: سلامة القلب.
قال تعالى (وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
وسلامة القلب نوعان: كلاهما داخل في مضمون الآية، أحدهما: في حق الله وهو سلامة قلبه من الشرك، وإخلاصه العبودية لله، وصدق التوكل عليه.
والثاني: في حق المخلوقين بالنصح لهم وإيصال الخير إليهم، وسلامة القلب من الحقد والحسد وسوء الظن والكبر وغير ذلك.
الفوائد:
1 -
فضيلة إبراهيم وأنه إمام يقتدى به.
2 -
شفقة إبراهيم على أمته حيث قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي).
3 -
أن الله أعطى إبراهيم ما سأل بأن يجعل من أمته أئمة، لكنه استثنى من ذلك الظالم فإنه لا يكون إماماً.
4 -
كراهية الله تعالى للظلم، ولذلك لا يكون للظالم إمامة.
(إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)).
[سورة البقرة: 125]
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ)(جَعَلْنَا) بمعنى صيرنا (الْبَيْتَ) يعني الكعبة.
(مَثَابَةً لِلنَّاسِ) أي مرجعاً، أي: يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، وقيل: المثابة من الثواب، أي: يثابون هنالك.
• قال في التسهيل: لأنّ الناس يرجعون إليه عاماً بعد عام.
• وقال الشيخ ابن عثيمين: أي يرجعون إليه من كل أقطار الدنيا سواء ثابوا إليه بأبدانهم أو بقلوبهم، فالذين يأتون إليه حجاجاً أو معتمرين يثوبون إليه بأبدانهم، والذين يتجهون إليه كل يوم بصلواتهم يثوبون إليه بقلوبهم.
(وَأَمْناً) أي: موضع أمن، فمن دخله كان آمناً، فيأمن الناس فيه على دمائهم وأموالهم حتى أشجار الحرم وحشيشه آمن من القطع.
• قال ابن كثير: في هذه الآية يذكر الله تعالى شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابة للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى، لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) إلى أن قال (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)، ويصفه تعالى أنه آمناً من دخله أمن.
•
خصائص حرم مكة:
أولاً: يجب السفر إليها (شد الرحال إليه فرض).
كما قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
ثانياً: قصْدُه مكفراً للذنوب.
قال صلى الله عليه وسلم (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (نابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.
ثالثاً: أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) متفق عليه.
رابعاً: أن مكة أفضل البلاد.
كما روى الترمذي عن عبد الله بن عدي. أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة من مكة يقول (والله إنكِ لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجتُ منك ما خرجت).
خامساً: أنها قبلة أهل الأرض كلهم.
قال تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ).
سادساً: أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض.
كما في الصحيحين عن أبي ذر قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض؟ فقال: المسجد الحرام
…
) متفق عليه.
سابعاً: أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة.
كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) متفق عليه.
(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) نبه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على مقام إبراهيم وأمر بالصلاة عنده، قال قتادة: أمروا أن يصلوا عنده.
والمقام في اللغة موضع القدمين، وقد اختلف في المراد بالمقام ما هو؟
فقيل: مقام إبراهيم الحج كله، روي هذا عن مجاهد وعكرمة وعطاء.
وقيل: الحرم كله مقام إبراهيم، روي هذا عن النخعي.
قال القرطبي: أصحها: أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم، وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم، وفي حديث مسلم من حديث جابر الطويل (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثاً، ومشى ثلاثاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فصلى ركعتين قرأ بهما بـ (قل هو الله أحد) و (قل يا أيها الكافرون).
ورجح هذا القول ابن كثير في تفسيره حيث قال بعد أن ذكر حديث جابر السابق: فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة.
ورجحه أيضاً ابن الجوزي في زاد المسير فقال: والقول الثالث: الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح.
قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت.
ورجحه أيضاً الشوكاني وقال: والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو: الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو: الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة، وأوّل من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي، بإسناد صحيح.
ورجح هذا القول أيضاً الرازي واحتج له بوجوه:
الأول: ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى (واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى) فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر.
وثانيها: أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع. ثم ذكر بقية الأوجه.
(وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم) قيل معناه: أمرنا، وقيل: أوحينا إلى إبراهيم.
(وَإِسْمَاعِيلَ) أي: وولده إسماعيل.
إسماعيل هو أكبر أولاد إبراهيم، وهو من سريته هاجر، وقد أبقاهما عليه السلام في هذا المكان (مكة) أي أبقى إسماعيل وأمه في هذا المكان حتى شب وكبر وأتاه الأولاد الذين هم العرب المستعربة، فكان إسماعيل مع أبيه في هذا المكان، فأمر الله عز وجل أن يطهر بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود.
• إسماعيل هو الذبيح، وقد ادعت اليهود أن الذبيح هو إسحاق، وقالوا: إنه مكتوب في التوراة أن الله قال لإبراهيم: اذبح ولدك وبكرك ووحيدك إسحاق، وقد رد ابن القيم هذه اللفظة (إسحاق) وبأنها من زيادة اليهود، وبين بطلانها من عشرة أوجه.
(أنْ طَهِّرَا بيتي) وتطهير البيت ينقسم إلى قسمين: تطهير معنوي، وتطهير حسي.
أما التطهير المعنوي: بأن يطهر من الشرك والمعاصي، وذلك لأن الشرك نجاسة.
والطهارة الحسية: أن يطهر من الأقذار، من البول والغائط والدم وما أشبه ذلك من الأشياء النجسة، فالواجب أن يطهر منها، فهذا الحكم - أعني التطهير من النجاسة - ثابت للمسجد الحرام ولغيره من المساجد، ولهذا لما بال الأعرابي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه.
فان قيل: لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فأمرا بإخراجها، قاله عكرمة.
والثاني: أن معناه: ابنياه مطهراً. (زاد المسير).
قال السعدي: وأضاف الباري البيتَ إليه لفوائد:
منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره، لكونه بيت الله، فيبذلان جهدهما، ويستفرغان وسعهما في ذلك.
ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام، ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه. [تفسير السعدي: 66].
فإن قيل: لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره؟
فعنه جوابان:
أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فأمرا بإخراجها، قاله عكرمة.
والثاني: أن معناه: ابنياه مطهراً. [زاد المسير: 1/ 421].
وقال الرازي: إن المفسرين ذكروا وجوهاً:
أحدها: أن معنى (طَهّرَا بَيْتِيَ) ابنياه وطهراه من الشرك وأسساه على التقوى، كقوله تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ).
وثانيها: عرفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا به، ومجازه: اجعلاه طاهراً عندهم، كما يقال: الشافعي رضي الله عنه يطهر هذا، وأبو حنيفة ينجسه.
وثالثها: ابنياه ولا تدعا أحداً من أهل الريب والشرك يزاحم الطائفين فيه، بل أقراه على طهارته من أهل الكفر والريب، كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنية على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك، وهو كقوله تعالى (وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ) فمعلوم أنهن لم يطهرن من نجس بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً.
ورابعها: معناه نظفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك.
وخامسها: قال بعضهم: إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار فأمر الله تعالى إبراهيم بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيراً للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً ولكنه مجاز.
(للطَّائِفِينَ) الذين يطوفون بالكعبة.
قال في التسهيل: (لِلطَّائِفِينَ) هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأول أظهر.
قال القرطبي عن القول الثاني: فيه بُعد.
لأن الأصل حمل الألفاظ الواردة في القرآن على المتبادر المشهور دون المعنى البعيد.
(وَالْعَاكِفِينَ) أي: للمعتكفين، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله.
والاعتكاف: لزوم مسجد لطاعة الله بنية.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالعاكفين المقيمين فيه.
(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي المصلون عند الكعبة.
قال القرطبي: وخص الركوع والسجود بالذكر؛ لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى.
وقال الشوكاني: وخص هذين الركنين بالذكر؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة.
• قال ابن جرير: فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهير الذي أمرهما به في البيت؛ هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك، ثم أورد سؤالاً، فقال: فإن قيل: فهل قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟
وأجاب بوجهين:
أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عند زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، قلت: وهذا الجواب مفرغ على أنه كان يعبد عنده أوثان قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهراً من الشرك والريب.
وملخص هذا الجواب: أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده، المصلين إليه من الركع السجود.
•
وقد وردت نصوص كثيرة تدل على فضل تطهير المساجد:
قال تعالى (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
وقال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن) رواه مسلم.
وكانت امرأة سوداء تقم المسجد وتنظفه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت، فقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها فقالوا: ماتت، فقال
(دلوني على قبرها، فصلى عليها) متفق عليه.
الفوائد:
1 -
فيه استحباب الصلاة خلف المقام، وفيه مباحث:
o يستحب إذا انتهى من الشوط السابع من الطواف؛ أن ينطلق إلى مقام إبراهيم ويقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً).
o أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة ويصلي ركعتين، قال جابر:(ثم أتى مقام إبراهيم فصلى). رواه مسلم
واتفق العلماء على مشروعيتها.
o أنه لا يشترط الدنو من المقام، وأن السنة تحصل بهما وإن كان مكانهما بعيداً من المقام.
o يقرأ في هاتين الركعتين (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
o حكمها سنة مؤكدة.
2 -
قوله (وأمناً) استدل به من قال بتحريم إقامة الحدود في الحرم، وهو قول جمهور التابعين والإمام أبو حنيفة وأصحابه من الفقهاء والإمام أحمد، وبعض المحدثين، واستدلوا به بقوله تعالى:(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً).
وذهب مالك والشافعي ومن تبعهم: إلى أنه يستوفى الحد في الحرم، واستدلوا بعمومات الأدلة الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل حينما قال رجل للرسول: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: (اقتلوه).
3 -
أن الله جعل البيت مثابة للناس وأمناً، أي مرجعاً لهم وأمناً، ومن ذلك أنهم يترددون إليه في كل موسم حج، وفي غير موسم حج.
4 -
أن مكة بلد آمن، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة). متفق عليه
فلا يحل القتال في مكة لأحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم حين الفتح فقط، فهي لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، ولهذا يحرم القتال في مكة المكرمة إلا على سبيل الدفاع عن النفس، فإن الله تعالى يقول:(وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).
5 -
الأمر باتخاذ مصلى من مقام إبراهيم،
6 -
تعلية شأن إبراهيم، حيث أمرنا الله أن نتخذ من مقامه مصلى، وهذا من جملة ما يترتب على الإمامة التي قال الله تعالى فيها:(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً).
7 -
وجوب تطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود.
8 -
فضيلة الطواف، لقوله (طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) ولا شك أن الطواف من الأعمال الجليلة الفاضلة، ولهذا كان ركناً من أركان الحج والعمرة.
الإشارة إلى أن المشروع للطائف أن يكون متطهراً، لأنه إذا أمر بتطهير البيت من أجله فتطهيره بنفسه وتطهير ملابسه من الثياب من باب أولى.
9 -
قوله (أن طهرا) قال القرطبي: دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه بالتطهير والنظافة، وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر.
وفي التنزيل (في بيوت أذن الله أن ترفع).
10 -
واختلف الفقهاء أيهما أفضل: الصلاة عند البيت أو الطواف فيه؟
فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
وذُكِر عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والجمهور: أن الصلاة أفضل، وفي الخبر: لولا رجال خشع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لصببنا عليكم العذاب صباً.
وفي حديث أبي ذكر: (الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل).
قال القرطبي: والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور.
11 -
فضيلة الاعتكاف، وهو كذلك، فهو سنة مؤكدة بالاتفاق، وهذه الآية تدل على أن الاعتكاف حتى في الأمم السابقة.
12 -
فضيلة الركوع والسجود حيث عبر بهما عن الصلاة الكاملة.
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)).
[البقرة: 126].
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً) يعني مكة.
(آمِناً) أي اجعل هذا المكان - والمراد مكة المكرمة - بلداً ذا أمن يكون أهله في أمنٍ واستقرار.
• قال ابن كثير: أي: من الخوف، أي: لا يرعب أهله، واجعل هذه البقعة بلداً آمناً.
وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً:
فقال تعالى (ومَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً).
وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).
وقال تعالى (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا).
إلى غير ذلك من الآيات، وفي صحيح مسلم عن جابر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح).
• قال الخازن: فإن قيل: لم دعا إبراهيم عليه السلام للبلد بالأمن؟
إنما دعا إبراهيم له بالأمن لأنه بلد ليس فيه زرع ولا ثمر فإذا لم يكن آمناً، لم يجلب إليه شيء من النواحي فيتعذر المقام به، فأجاب الله تعالى دعاء إبراهيم وجعله بلداً آمناً، فما قصده جبار إلا قصمه الله تعالى كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم من الجبابرة.
• قال ابن عاشور: ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوة، فإن أمن البلاد والسبُل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها، وهو يستتبع التعمير والإقبالَ على ما ينفع والثروةَ فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.
• سؤال: فإن قلت: قد غزا مكة الحجاج وخرب الكعبة؟
قلت لم يكن قصده بذلك مكة ولا أهلها ولا إخراب الكعبة، وإنما كان قصده خلع ابن الزبير من الخلافة ولم يتمكن من ذلك إلا بذلك فلما حصل قصده أعاد بناء الكعبة فبناها وشيدها وعظم حرمتها وأحسن إلى أهلها. (تفسير الخازن).
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) أي: وارزق يا رب المؤمنين من أهله وسكانه من أنواع الثمرات، ليقبلوا على طاعتك ويتفرغوا لعبادتك وخصَّ بدعوته المؤمنين فقط.
• قال ابن عاشور: والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عُرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء (مِن) التي للتبعيض، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.
• دعاء إبراهيم لهم بالثمرات ليقوموا بعبادة الله، كما قال تعالى عن إبراهيم (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
فلم يكن طلب الرزق مقصوداً لذاته بل صرح في دعائه أن يكون الرزق عوناً لهم على أداء العبادات والطاعات.
• قال الرازي: وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات، وإقامة الطاعات.
• وقال الخازن: وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا إنما ليُستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.
• وقال ابن عاشور: والمقصود توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة، وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب.
وقد قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ).
• فإن قيل: المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب، وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟!
والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين، كان ذلك من أعظم أركان الدين، فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى، وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.
وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة.
وثالثها: لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة.
(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ) الإيمان بالله يتضمن: الإيمان بوجوده وبربوبيته وبألوهيته وبأسمائه وصفاته.
(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هو يوم القيامة، وسمي آخراً، لأنه لا يوم بعده.
• خص بدعوته المؤمنين فقط.
قال الرازي عن هذا التخصيص (من آمن بالله واليوم الآخر) بقوله: وسبب هذا التخصيص النص والقياس، أما النص فقوله تعالى (فَلَا تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين) وأما القياس فمن وجهين:
الوجه الأول: أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته، قال الله تعالى (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين) فصار ذلك تأديباً في المسألة، فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله (فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً) الفرق بين النبوة ورزق الدنيا، لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين، لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار، أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق، فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه، ومن كفر فالنار مستقره ومأواه.
الوجه الثاني: يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج، فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.
• كثيراً ما يقرن الله بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم الحوافز التي تدفع الإنسان للعمل الصالح، حيث الجزاء على الأعمال في ذلك اليوم، فهو أعظم دافع إلى العمل الصالح، وهو أعظم رادع على التمادي في الباطل لمن وفقه الله تعالى.
(قَالَ) الله جواباً له.
(وَمَنْ كَفَرَ) أي: قال الله: وأرزق من كفر؛ لأن الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر.
• قال الشوكاني: وقوله (وَمَن كَفَرَ) الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّاً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، أي: وارزق من كفر، فأمتعه بالرزق قليلاً، ثم أضطره إلى عذاب النار.
(فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً): والمتاع: ما يتمتع به ثم يزول، وذلك بموت الإنسان.
• والقلة هنا: تتناول الزمان، وتتناول عين الممتّع، فالزمن قصير، فمهما طال بالإنسان العمر فهو قليل (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، وكذلك عين الممتع به قليل، فكل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة والمتاع قليل بالنسبة للآخرة كما في الحديث (لموضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها).
(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ) أي: ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار.
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي: وبئس النار المآل والمرجع للكافر.
• قال ابن كثير: ومعناه: أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
كقوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
• وقد أخبر تعالى أنه يمهل الكافرين ويمتعهم ثم يأخذهم.
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقال تعالى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
وقال تعالى (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ).
• فقوله تعالى (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
…
) هذا من قول الله تعالى، ورجحه ابن جرير، وقيل: هو من تمام دعاء إبراهيم عليه السلام، والأول أصح، فإن إبراهيم أراد أن يحجر الدعوة بالرزق للمؤمنين دون الكافرين، فأجابه الله عز وجل بقوله ( .. ومن كفر فأمتعه .. ) والمعنى: ومن كفر فإني أرزقه أيضاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير، وهي كقوله (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)، قال ابن جرير: فتأويل الآية على ذلك: قال الله: يا إبراهيم قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعاً لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.
الفوائد:
1 -
فضل الدعاء، وأنه سبب لحصول المقصود.
2 -
رأفة إبراهيم بمن يؤم هذا البيت.
3 -
أن رزق الله شامل للكافر والمؤمن (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).
4 -
أن متاع الدنيا قليل.
5 -
التزهيد في الدنيا.
6 -
الترغيب بالباقي وهو الآخرة.
7 -
الحذر من أن تكون نعم الله على العبد استدراجاً.
8 -
إثبات عذاب النار.
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)).
[البقرة: 127 - 128].
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) أي: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل البيت ورفعهِما القواعد منه.
• القواعد: جمع قاعدة وهي السارية والأساس، والمراد بالبيت هنا الكعبة، وقد نقل ابن عطية الإجماع على هذا.
• وكانا يقولان:
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي: اقبل منا عملنا هذا واجعله خالصاً لوجهك الكريم.
• قال ابن كثير: فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما جاء عن وهيب بن الورْد أنه قرأ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يُتقبل منك، وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين الخلّص في قوله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) أي: يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي: خائفة أن لا يتقبل منهم.
وهكذا أهل الصلاح يعملون أعمالاً صالحة ويخافون.
كما قال تعالى عن عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً ويقولون (ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً).
وقال تعالى (إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
وهذا الصديق أبو بكر يصدّق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهد معه وصحبه في هجرته ويتصدق بكل ماله في سبيل الله ويعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول في صلاته (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
وهذا عمر بن الخطاب يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وينفق نصف ماله في سبيل الله ويقول عند موته: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي.
وقال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) قالت عائشة: يا رسول الله! أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي.
• قال ابن القيم: والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن.
قال تعالى (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ).
ثم قال: ومن تأمل أحوال الصحابة وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير - بل التفريط - والأمن، فهذا الصديق يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.
وذكر عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.
وكان يبكي كثيراً ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا.
وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل.
وهذا عمر قرأ سورة الطور حتى بلغ (إن عذاب ربك لواقع) بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه.
وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته.
وهذا علي اشتد بكاؤه وخوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى.
وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد وددت أني لم أخلق.
وقال ابن أبي مليْكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم خاف على نفسه النفاق ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
وقال الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وأما أهل الفساد والريب فكما قال الله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا).
• من أسباب قبول العمل:
منها: الرجاء وكثرة والدعاء.
كما هنا (ربنا تقبل منا).
ومنها: الخوف من عدم قبول العمل.
كما قال تعالى في وصف الأبرار أنهم يعملون ويخافون (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ).
عن علي أنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين).
(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هذه الجملة تعليل لطلب القبول، يعني نسألك أن تقبل، لأنك أنت السميع لأقوالنا، العليم بأحوالنا ونياتنا لا تخفى عليك خافية.
• والسميع: اسم من أسماء الله تعالى، متضمن لصفة السمع لله تعالى، فهو سبحانه يسمع جميع الأقوال والأصوات، السر والجهر عنده سواء.
كما قال تعالى (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).
وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقال تعالى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وقال تعالى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ).
•
وسمع الله ينقسم إلى قسمين:
أولاً: سمع إدراك: أي أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظاهر.
قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي
…
).
هذا السمع قد يراد به الإحاطة، كالآية السابقة.
وقد يراد به التهديد، كقوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء).
وقد يراد به التأييد، ومنه قوله تعالى لموسى:(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أسمعك وأؤيدك.
ثانياً: سمع إجابة: أي أن الله يستجيب لمن دعاه.
ومنه قول إبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) أي مجيب الدعاء.
ومنه قول المصلي (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده.
ومنه كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع) أي: من دعاء لا يستجاب.
•
آثار الإيمان بهذا الاسم:
أولاً: مراقبة الله تعالى فيما يقوله اللسان، سواء أسر أو جهر به، وسواء كان ذلك في جماعة أو في خلوة.
ثانياً: اللجوء إلى الله وسؤاله سبحانه من حاجات الدنيا والآخرة، فهو السميع لدعاء عباده سرهم ونجواهم، وهذا المعنى من معاني السميع (المجيب) يسكب في القلب الطمأنينة والأنس بالله وحسن الظن به سبحانه، والرجاء فيما عنده، وعدم الملل من دعائه.
وقد دعا الأنبياء والصالحون ربهم سبحانه بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم أو ليستجيب لدعائهم:
فإبراهيم وإسماعيل قالا (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وامرأة عمران عندما نذرت ما في بطنها خالصاً لله لعبادته ولخدمة بيت المقدس قالت (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ودعا زكريا ربه أن يرزقه ذرية صالحة ثم قال (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).
ودعا يوسف عليه السلام ربه أن يصرف عنه كيد النسوة (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأمر بالالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الإنس والجن، قال تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
(العليم) اسم من أسماء الله، وقد تقدم مباحثه.
• قال السعدي: هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
ومن علم الله أنه يعلم الأمور التي لن تكون كيف تكون لو كانت.
كما قال تعالى عن الكفار حين يكونون في النار (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)، وقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).
والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً، لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بحكمته بقوله (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) وهذا الخروج الذي لا يكون قد علم جل وعلا أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلميْن لأمرك، خاضعيْن لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي: واجعل من ذريتنا من يسلم وجهه لك، ويخضع لعظمتك.
• وفي هذا أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته بالدعاء، لأن الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة، كما قال إبراهيم في آية أخرى (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). (ابن عثيمين).
• فائدة تكرير النداء بقوله (ربنا) إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هذه الدعوات مقصودة بالذات، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي (ربنا وابعث فيهم رسولاً).
• فإن قلت: لم خص ذريتهما بالدعاء، قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة، قال الله تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء: إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم. (تفسير الخازن).
• وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له.
•
سؤال: لم خصا بعض الذرية بالدعاء؟
الجواب: وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه (وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ) أو من قوله عز شأنه (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين) باعتبار السياق أن في ذريتهما ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء.
(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) اختلف في ذلك: قيل: مذابحنا، وقيل: مناسك حجنا.
• قال السعدي: أي علمناها على وجه الإرادة والمشاهدة، ليكون أبلغ.
ثم قال: يحتمل أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها، كما يدل عليه السياق والمقام، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعظم من ذلك: وهو الدين كله، والعبادات كلها، كما يدل عليه عموم اللفظ، لأن النسك التعبد، لكن غلب على متعبدات الحج تغليباً عرفياً، فيكون حاصل دعائهما: يرجع إلى التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.
• هذه من الرؤية البصرية، أي: أنهم يرونها ويشاهدونها، وقيل: من رؤية القلب.
(وَتُبْ عَلَيْنَا) أي: وفقنا للتوبة فنتوب، والتوبة: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة.
• واختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام (وتب علينا) وهم أنبياء معصومون:
فقيل: طلبا التثبيت والدوام.
وقيل: أرادا من بعدهما من الذرية.
وقيل: إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يبينا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة.
• وقال الطبري: إنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وبينه وبين الله تعالى معانٍ يحب أن تكون أحسن مما هي. (المحرر الوجيز)
(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ) اسم من أسماء الله تعالى.
معناه: التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه.
• وقال السعدي: هو التائب على التائبين أولاً: بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب على التائبين بعد
توبتهم قبولاً لها وعفواً عن خطاياهم.
• ووصف نفسه سبحانه بالتواب - وهي صيغة مبالغة - لكثرة من يتوب عليهم، ولكثرة توبته على العبد.
•
وتوبة الله على العبد نوعان:
أحدهما: توفيق الله للعبد للتوبة، كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) بمعنى وفقهم للتوبة ليتوبوا.
الثاني: قبولها من العبد إذا تاب، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). [قاله الشيخ ابن عثيمين].
•
أثر الإيمان بهذا الاسم:
أولاً: أن الله يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، مهما كثرت وعظمت.
قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).
ثانياً: إفراد الله بالتوبة وطلب العفو وغفران الذنوب، لأنه لا يغفر الذنوب ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا الله وحده كما قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).
ثالثاً: الحياء من الله، البر الرحيم التواب الغفور، الذي يفرح بتوبة عبده، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيماً لله وحياء منه، ومبادرة إلى طاعته وترك معاصيه قدر الجهد والاستطاعة.
رابعاً: عدم اليأس من رحمة الله، والقوة في رجائه.
(الرَّحِيمُ) اسم من أسماء الله دال على إثبات صفة الرحمة الواسعة لله تعالى، كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). (وقد تقدمت مباحث الرحمة عند آية:
•
من آثار رحمته:
من رحمته سبحانه وتعالى إرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للناس وإخراجاً لهم من الظلمات إلى النور، فالرسل رحمة من عند الله لعباده قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
ومن رحمته سبحانه وتعالى مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم، وتكفير سيئاتهم، وفتح لهم باب التوبة لهم
ومن رحمته إلى غير ذلك.
الفوائد:
1 -
فضل عمارة الكعبة.
2 -
فضل التعاون على الخير.
3 -
فضل بناء بيوت الله (المساجد).
4 -
أهمية اهتمام العبد بقبول عمله، فالمدار على القبول وليس على كثرة العمل، فكم من إنسان يعمل أعمالاً كثيرة ولا يقبل منه، فليس له من عمله إلا التعب، وكم من إنسان عمل أعمالاً قليلة قبلت منه وفي الحديث (رب صائم حظه من صيامه الجوع والظمأ، ورب قائم حظه من قيامه السهر) رواه أحمد.
5 -
الحذر كل الحذر من محبطات الأعمال التي تحبط العمل بعد القيام به، وهي كثيرة منها: المنّ بها والتحدث بها رياء، والعجب وغير ذلك.
6 -
إثبات اسم السميع من أسماء الله المتضمن لصفة السمع الكامل.
7 -
إثبات اسم العليم من أسماء الله، المتضمن لصفة العلم الكامل، فلا يخفى عليه شيء سبحانه.
8 -
افتقار العبد لربه.
9 -
كمال عبودية الأنبياء لربهم.
10 -
أن الإنسان - مهما كانت منزلته - محتاج إلى تثبيت الله له.
11 -
أهمية الإخلاص لله تعالى لقوله (واجعلنا مسلمين لك).
12 -
تحريم التعبد لله بما لم يشرعه.
13 -
إثبات اسم التواب من أسماء الله.
14 -
إثبات اسم الرحيم من أسماء الله.
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129)).
[البقرة: 129].
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ) الضمير راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً، ويحتمل: أن يكون راجعاً إلى الذرية، وقد استجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة.
• قال ابن عاشور: إن قيل لم قال (فيهم) ولم يقل لهم؟
فالجواب: إنما قال (فيهم) ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولاً إليهم فقط، ولذلك حذف متعلق (رسولاً) ليعم.
• وأجاب الآلوسي عن هذا السؤال بقوله: ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته.
(رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
• قال الرازي: وأما إن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فيدل عليه وجوه:
أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة.
وثانيها: ما روي عنه عليه السلام أنه قال (أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى) وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله (مُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ).
وثالثها: أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ..
• قال ابن كثير: يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله رسولاً منهم، أي: من ذرية إبراهيم.
• قوله تعالى (وابعث) أصل البعث الإنشاء، وسميت الرسالة بعثاً، لأنها إخراج للناس من حال إلى حال، فكأنهم بُعثوا خلقاً جديداً، وأُنْشِئوا خلقاً جديداً.
• قوله تعالى (منهم) كما في آية أخرى (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي: من جنسهم، وكونه من جنسهم أتم في النعمة، لأنه لو كان من الملائكة ما ألِفَه الناس ولا ركنوا إليه وربما لا يقبلون منه.
• قوله تعالى (رسولاً منهم) أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه:
أحدها: أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته.
وثانيها: أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.
• قال ابن كثير: وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجمين من الإنس والجن كما قال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
وقال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (سأنبئكم عني: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي) رواه أحمد.
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) التلاوة هنا تشمل التلاوة لفظاً، والتلاوة معنى، والتلاوة حكماً.
فالتلاوة لفظاً: أن يقرأ الكتاب بينهم.
والتلاوة معنى: أن يعلمهم معانيه.
والتلاوة حكماً: أن يعمل بأحكامه.
كما قال تعالى (وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
وقالت عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يتأول القرآن) يعني يعمل به.
• والمراد بالآيات هنا الآيات الشرعية وهي القرآن.
(ويعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) وهو القرآن، وليس هذا تكرار مع قوله (يتلو عليهم آياته) لأن الأول تلاوة والثاني تعليم، والتعليم أخص من التلاوة، والتعليم هنا شامل لتعليم اللفظ وتعليم المعنى وتعليم الحكم.
وذهب بعضهم إلى أن معنى (ويعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) هو الكتابة، ويدل عليه أن الله ذكر القرآن قبله، فلو قلنا إن المراد بالكتاب هو القرآن لصار تكراراً.
• وسبق لماذا سمي القرآن كتاباً.
(والْحِكْمَةَ) يعني السنة، قاله الحسن وقتادة ومقاتل كما قال تعالى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، وقيل: الفهم في الدين ولا منافاة.
(وَيُزَكِّيهِمْ) أي: يطهر قلوبهم من الشرك والنفاق وسوء الأخلاق، ويهذب أخلاقهم، فطهارة النفوس بطاعة الله وترك الشرك والذنوب.
قال ابن جرير: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله.
• وقد أقسم الله بفلاح من زكى نفسه فقال (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا .... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).
ومن أسباب تزكية النفس: الصدقة كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ومنها: غض البصر وحفظ الفرج كما قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ).
ومنها: الدعاء بذلك: كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) رواه مسلم.
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز) اسم من أسماء الله وهو: العزيز، وهو متضمن لصفة العزة الكاملة لله، وهي ثلاثة أنواع:
عزة القدْر: بمعنى أن الله ذو قدْر شريف عظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (السيد الله).
وعزة القهر: بمعنى أن الله القاهر لكل شيء، لا يُغلب، كما قال تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).
وعزة الامتناع: بمعنى أنه يمتنع أن يناله أحد بسوء أو نقص.
• قال السعدي: (العزيز) الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته.
•
الآثار المترتبة على معرفة هذا الاسم:
أولاً: أن اسمه سبحانه (العزيز) يستلزم توحيده وعبادته وحده لا شريك له، إذ الشركة تنافي كمال العزة.
ثانياً: ومن كمال العزة تبرئته سبحانه من كل سوء وتنزيهه من كل شر ونقص، قال ابن القيم: ومن تمام عزته: براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.
ثالثاً: من كمال عزته سبحانه نفاذ حكمه وأمره في عباده وتصريف قلوبهم على ما يشاء، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا يجعل العبد خائفاً من ربه سبحانه، لائذاً بجنابه معتصماً به متبرئاً من الحول والقوة ذليلاً حقيراً بين يدي ربه سبحانه.
رابعاً: أن الإيمان بهذا الاسم الكريم يثمر العزة في قلب المؤمن، ومهما ابتغى العبد العزة عند غير الله وفي غير دينه فلن يجدها ولن يجد إلا الذل والضعف والهوان كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). والشعور بهذه العزة تثمر التعالي على الباطل وأهله وعدم الاستكانة لهم مهما تسلطوا على العبد.
خامساً: أن الإيمان بهذا الاسم يثمر عدم الركون إلى شيء من هذه الدنيا الفانية وجعلها مصدر العزة والقوة، فكم رأينا وسمعنا من كثير من الناس اغتر بعضهم بماله أو جاهه أو ولده أو سلطانه ومنصبه فكانت كلها سبباً في إذلاله وشقائه.
سادساً: من أسباب العزة: العفو والتواضع والذلة للمؤمنين، قال تعالى في وصف عباده الذين يحبهم ويحبونه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) وقال صلى الله عليه وسلم (
…
وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) رواه مسلم.
(الْحَكِيمُ) في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله [وقد تقدم مباحثه].
الفوائد:
1 -
استجابة الله لدعاء إبراهيم عليه السلام.
2 -
ضرورة الناس إلى بعث الرسل.
3 -
أن كون الرسول منهم أقرب إلى قبول دعوته.
4 -
أن دعوة الرسول تتضمن تعليم الكتاب تلاوة ومعنى.
5 -
أهمية تزكية الأخلاق وتطهيرها، وأن ذلك من منهج الرسل.
6 -
على الداعية أن يحرص أن يزكي نفسه ويزكي غيره بتطهيرها من الأخلاق الرديئة وإلزامها بالأخلاق الرفيعة، وقد قال تعالى (قد أفلح من زكاه).
7 -
إثبات اسمين من أسماء الله: العزيز والحكيم.
8 -
إثبات الحكمة الكاملة لله تعالى.
9 -
أن الإنسان لا يعترض على قضاء الله، لأنه صادر عن حكمة.
10 -
إثبات العزة الله، فمن أراد العزة فليطلبها من الله، وذلك بطاعته.
(وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)).
[البقرة: 130 - 132].
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) أي: عن طريقته ومنهجه، فيخالفُها ويرغب عنها.
• وملة إبراهيم: هي الحنيفية السمحة، وهي الإسلام كما قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقال تعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
• والْحَنِيفِيَّةُ: دِينُ جَمِيعِ الأنْبِيَاءِ؛ ولكِن أُضِيفت إلى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام؛ لأنَّه أكْمَلُ الخلْقِ تحقِيقًا للتَّوحيدِ مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم؛ وإِبْرَاهِيمُ: الأبُ، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: الِابنُ؛ فاستَحَقَّ أن تُنْسَبَ إلى الأَبِ دُون الابْنِ؛ فيقال: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ على جهةِ التَّشْريفِ له؛ وإن كانَت هي ملَّةَ الأنبيَاء جَميعاً.
(إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي: فقد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، حيث خالف طريق من اصطُفيَ في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً، فمن ترك طريقة هذا ومسلكه وملته، واتبع طريق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟
• فمعنى (سَفِهَ نَفْسَهُ):
قيل: ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره.
وقيل: أي: جهل أمر نفسه فيما يصلحها ويُقَوِمُهَا.
وقيل: سفه نفسه أي: أهلكها.
وقيل: لم يفكر في نفسه.
• وقال ابن جرير: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها.
• قال قتادة: نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقاً ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
• فإن ملة إبراهيم هي عبادة الله مخلصين له الدين، فهي توحيد الله فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). وقال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).
وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا) أي: ولقد اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين لهم أعلى الدرجات.
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي استسلم لأمر ربك وأخلص لربك.
• قال بعض العلماء: الإسلام ورد في القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الإِخلاص.
قال تعالى (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي أَخْلِص.
الثاني: بمعنى الإِقرار.
قال تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) أي أَقرّ له العبوديّة.
الثالث: بمعنى الدّين.
قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ). وقال تعالى (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً).
(قَالَ) امتثالاً لأمر ربه مبادراً.
(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) إخلاصاً وتوحيداً ومحبة وإنابة.
قال بعض العلماء: إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله.
• من أسباب اصطفاء إبراهيم في الدنيا وعلو منزلته في الآخرة:
سرعة امتثاله لأمر الله عز وجل.
وصبره، فلما ابتلاه ربه بالكلمات أتمهن ووفى بهن.
وشكره لنعم الله كما قال تعالى (شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) اختلف في مرجع الضمير في قوله [بها]:
فقيل: هذه الملة.
وقيل: هذه الكلمة: (أسلمت لرب العالمين) ورجحه القرطبي وقال: هو أصوب لأنه أقرب مذكور، ورجح الشوكاني الأول وقال: لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع لا مجرد التكلم لكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم.
• قوله تعالى (وَوَصَّى بِهَا) الوصية: العهد المؤكد في الأمر الهام.
• قال ابن الجوزي: ووصى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة.
• وقال الماوردي: ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، وَوَصَّى لا يكون إلا مراراً.
• فإن قلت، لم قال: وصى بها إبراهيم بنيه ولم يقل أمرهم؟.
الجواب: قلت: لأن لفظ الوصية أوكد من لفظ الأمر لأن الوصية إنما تكون عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لولده أشد وأعظم، وكانوا هم إلى قبول وصيته أقرب وإنما خص بنيه بهذه الوصية لأن شفقة الرجل على بنيه أكثر من شفقته على غيرهم. وقيل: لأنهم كانوا أئمة يقتدى بهم فكان صلاحهم صلاحاً لغيرهم. [تفسير الخازن: 1/ 85].
(وَيَعْقُوبُ) معطوف على إبراهيم: أي وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه.
قال ابن كثير: لحرصهم عليها ومحبتهم لها، حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
• وقرأ بعض السلف (ويعقوبَ) بالنصب عطفاً على بنيه، وكأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب ابن إسحاق وكان حاضراً ذلك، ورجح هذا ابن كثير وقال: فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين.
• قال الشيخ ابن عثيمين: وسمي يعقوب، قيل: لأنه عقب إسحاق.
(يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) أي: اختار لكم دين الإسلام ديناً، وهذه حكاية لما قاله إبراهيم ويعقوب لأبنائهما.
• والدين هو الإسلام وذلك لقوله (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) كما قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ).
وقال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). [أضواء البيان: 1/ 102].
(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثُبّتَ عليه. [قاله ابن كثير: 1/ 174].
• وما ذكره ابن كثير هنا كلام رائع، لأن لقائل أن يقول في قوله تعالى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هل يملك الإنسان أن يحدد الأمر الذي يموت عليه؟ فالجواب ما ذكره ابن كثير، فالمراد: الإحسان في حال الحياة مع ملازمة هذا حتى يختم للإنسان خاتمة طيبة. [قاله الشيخ خالد السبت حفظه الله].
• ولهذا قال الطبري في معنى الآية: أي: فلا تفارقوا هذا الدين وهو الإسلام أيام حياتكم، وذلك أن أحداً لا يدري متى يأتيه منيته، فلذلك قالا لهم (فلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربكم ساخط عليكم فتهلكوا.
• وقال الخازن: أي مؤمنون مخلصون، فالمعنى دوموا على إسلامكم حتى يأتيكم الموت وأنتم مسلمون لأنه لا يعلم في أي وقت يأتي الموت على الإنسان.
•
الموت على الإسلام مطلب لأهل الصلاح:
كما قال تعالى عن يوسف أنه قال (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
وقول المؤمنين بموسى (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ).
وقول إبراهيم ويعقوب لأبنائهما (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
• ولذلك تمنى جماعة من السلف الموت خشية الفتنة.
لما حج عمر آخر حجة حجها رفع يديه وقال: اللهم إنه كبر سني ورق عظمي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مفتون، ثم رجع إلى المدينة، فما انسلخ حتى قتل.
ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب.
ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل العطاء الثاني.
ولما ضجر عمر بن عبد العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفاً بإجابة الدعوة أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا.
ودعي طائفة من السلف الصالح إلى ولاية القضاء فاستُهْمِلوا ثلاثة أيام، فدعوا الله لأنفسهم بالموت فماتوا.
واطلع على حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سراً بينه وبين ربه، فدعا الله أن يقبضه إليه خوفاً من فتنة الاشتهار، فمات، فإن الشهرة بالخير فتنة.
وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيراً فسئل عن ذلك فقال: ما يدريني لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة أكون قد مت فسبقت هذا.
وفي الحديث (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
جاء في الحديث في المسند قال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال
أقل للحساب).
ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع وقال: كانت زيادة في إيماني، فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحاً ومساء وخشي أن يكون نقصاً في دينه.
الفوائد:
1 -
أن الرشد في اتباع ملة إبراهيم.
2 -
أن مخالفة ملة إبراهيم سفه.
3 -
فضيلة إبراهيم حيث اصطفاه الله.
4 -
إثبات الآخرة.
5 -
أن الصلاح وصف للأنبياء.
6 -
فضل المبادرة للإسلام وعدم التردد.
7 -
إثبات ربوبية الله تعالى.
8 -
أهمية هذه الوصية، لأنه اعتنى بها إبراهيم ويعقوب.
9 -
ينبغي التواصي على الحق والثبات عليه.
10 -
على الإنسان أن يدعو ربه بالثبات والموت على الإسلام.
11 -
أن الأعمال بالخواتيم.
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)).
[البقرة: 133 - 134].
(أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) أم هنا منقطعة، وهي بمعنى بل والمعنى: بل أكنتم حضوراً.
• والخطاب قيل: إنه لليهود الذين ادعوا إنهم على حق، وأن هذه وصية أبيهم يعقوب.
ويحتمل أن يكون عائداً على جميع المخاطبين، ويكون المقصود الإعلام بما حصل من يعقوب حين حضره الموت.
• قال الشوكاني: قوله (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء) أم هذه قيل: هي المنقطعة. وقيل: هي المتصلة. وفي الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم، وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية، فردّ الله ذلك عليهم، وقال لهم: أشهدتم يعقوب، وعلمتم بما أوصى به بنيه، فتدّعون ذلك عن علم، أم لم تشهدوا بل أنتم مفترون.
(إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) أي حين احتضر وأشرف على الموت وجاءت مقدماته.
(إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ) على وجه الاختبار، ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به.
• وبنيه: يوسف وإخوته: أحد عشر رجلاً.
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) أي: من بعد موتي.
• إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير، ميت يحتضر، فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو
الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟.
إنها العقيدة .. هي التركة، وهي الذخر، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته (ما تعبدون من بعدي).
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث (قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. إلهاً واحداً. ونحن له مسلمون).
إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه، إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. [في ظلال القرآن: 1/ 90].
(قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) أي: لا نعبد إلا إلهاً واحداً هو اله رب العالمين.
• قال الطبري: تأويل الكلام: أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم الجاحدين نبوته حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت: أي: أنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل وتنحلوهم اليهودية والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصّوا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتموهم فسمعتم منهم علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم.
• وقال ابن عطية: هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية فرد الله عليهم وكذّبهم وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية والإسلام.
• قوله (وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) هذا من باب التغليب، لأن إسماعيل عمه، قال النحاس: والعرب تسمي العم أباً، وقيل: إن العم يقال له: أب.
(إِلَهاً وَاحِداً) نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً.
(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: مطيعون خاضعون كما قال تعالى (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون) والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
كما قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وقال تعالى (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
وقال تعالى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ).
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي: مضت، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ولهذا جاء في الحديث (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم. وقال تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) وقال تعالى (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا).
• الأمة في القرآن تطلق على معان:
منها: الجماعة من الناس.
كما في قوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). وقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ).
ومنها: الإمام في الدين المقتدى به.
كما في قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً).
ومنها: البرهة من الزمن.
كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: تذكر بعد بُرهة من الزمن.
وكقوله تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي: إلى قطعة من الزمن معينة.
ومنها: الشريعة والدين.
كقوله تعالى (إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي: على شريعة وملة ودين.
(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) أي إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.
(وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: لا تسألون يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا، بل كل نفس تتحمل وحدها تبعة ما اكتسبت من سوء.
• قال الشوكاني: وفيه الرد على من يتكل على عمل سلفه ويرّوح نفسه بالأماني الباطلة، والمعنى: أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ولا تؤاخذون بسيآتهم ولا تسألون عن أعمالهم كما لا يسألون عن أعمالكم.
كما قال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
وقال تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى).
وقال تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة. قال (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً) متفق عليه.
فائدة: حكي عن بعض العلماء أنه سئل عما وقع من الفتن بين علي ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة - رضوان الله عليهم - فقرأ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
الفوائد:
1 -
أن التوحيد وصية الأنبياء.
2 -
ينبغي الاقتداء بالأنبياء والوصية بالتوحيد.
3 -
أهمية التوحيد.
4 -
أن الموت حق على الأنبياء.
5 -
وجوب إخلاص الإسلام لله تعالى.
6 -
أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئاً.
7 -
أن الإنسان يجازى بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
(وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)).
[البقرة: 135].
(وَقَالُوا) أي: اليهود والنصارى الزاعمين أنهم على حق.
(كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) أي: قالت اليهود كونوا على ملتنا يهوداً تهتدوا، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا.
• والمراد بقولهم (تهتدوا) أي: إلى الحق وتدخلون الجنة كما قالوا (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى).
(قُلْ) أي: قل لهم يا محمد.
(بَلْ) نتبع.
(مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) مستقيماً مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.
(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه توكيد للتي قبلها.
• في هذا ثناء على إبراهيم من وجوه ثلاثة:
أولاً: إمامته، ووجهها: أننا أمرنا باتباعه، والمتبوع هو الإمام.
ثانياً: أنه حنيف، والحنيف هو المائل عن كل دين سوى الإسلام.
ثالثاً: أنه ليس فيه شرك في عمله لقوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
الفوائد:
1 -
أن أهل الباطل يدعون إلى باطلهم.
2 -
أن كل داع إلى ضلال ففيه شبه من اليهود والنصارى.
3 -
أن الشرك ممتنع في حق الأنبياء.
4 -
أن ملة إبراهيم أفضل الملل.
(قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)).
[البقرة: 136 - 137].
(قُولُوا) الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته، وهذا القول يشمل القول باللسان مع اعتقاد القلب.
• فالخطاب هنا للمؤمنين، ولهذا قال ابن كثير: أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلاً وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً، ونص على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء.
وقيل: الخطاب للكفار، أي: أمروا أن يقولوا: آمنا بالله، حتى يكون على الحق، ورجح الشوكاني الأول.
• قال السعدي: في قوله (قولوا) فيها إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها، إذ هي أصل الدين وأساسه.
(آمَنَّا بِاللَّهِ) والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
(وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أي القرآن العظيم، ويشمل السنة لقوله تعالى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
(وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) أي: وآمنا بما أنزل على إبراهيم.
• ولم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكن بيّن في سورة الأعلى أنه صحف، وأن من جملة ما في تلك الصحف (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وذلك في قوله (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). [أضواء البيان: 1/ 102].
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أي: آمنا بما أنزل على هؤلاء، ولم يذكر ما أنزل إليهم بالتحديد.
• والأسباط: هم بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الأسباط، وقال الخليل بن أحمد
وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل.
قال البخاري: الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، وهذا اختيار الطبري.
(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) أي من التوراة والإنجيل والآيات كاليد والعصا وكإخراج الموتى بإذن الله.
قال تعالى (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وهو التوراة بالإجماع، وذكر ما أوتيه عيسى وهو الإنجيل كما في قوله تعالى (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ).
• سؤال: لم أفرد موسى وعيسى بالذكر (وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى)؟
الجواب: لكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق.
(وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات.
• سؤال: فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟ قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يده، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق. (مفاتيح الغيب).
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي نؤمن على هذا الوجه، فلا نفرق بين أحد منهم في الإيمان بهم، لا في الاتباع، فلا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى.
(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون لأمر الله خاضعون لحكمه، ظاهراً وباطناً.
(فَإِنْ آمَنُوا) يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
(بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) أي: بمثل ما آمنتم به يا معشر المؤمنين من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، الذين أول من دخل فيهم وأولى: هو خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، من غير تحريف لهذه الكتب.
• قال ابن عاشور: والباء في قوله (بمثل ما آمنتم به) للملابسة وليست للتعدية أي إيماناً مماثلاً لإيمانكم.
(فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فقد أصابوا الحق وأُرشِدوا إليه، فلا سبيل للهداية إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم (كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا).
• والهدى: هو العلم بالحق والعمل به.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم.
• التولي هو الإعراض.
(فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) معنى الشقاق في الأصل الفراق، والمراد أن هؤلاء المعاندين أصبحوا في شق، والحق والحنيفية السمحة في شق آخر.
قال قتادة: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي: في فراق.
قال القرطبي:
…
وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي، وأصله من الشِّق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه، وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي: فسينصرك عليهم ويظفر بهم.
• وقد أتم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم هذا الوعد الذي وعده إياه فسلطه على بعضهم بالقتل والإجلاء من الديار وسبي بعضهم وضرب الجزية على آخرين منهم.
• قال ابن عاشور: وفرع قوله (فسيكفيكهم الله) على قوله (فإنما هم في شقاق) تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم لأن إعلامه بأن هؤلاء في شقاق مع ما هو معروف من كثرتهم وقوة أنصارهم مما قد يتحرج له السامع فوعده الله بأنه يكفيه شرهم الحاصل من توليهم.
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فالله سينصر نبيه لأنه هو السميع لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم، وبالغيب والشهادة، بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك كفاك الله شرهم.
الفوائد:
1 -
وجوب الإيمان بالله.
2 -
إثبات علو الله لقوله (وما أنزل إلينا).
3 -
وجوب الإيمان بالأنبياء.
4 -
أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل.
5 -
أن من خالف عليه النبي فهو ضلال.
6 -
الوعيد الشديد لمن تولى عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
7 -
إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع العليم.
8 -
الحذر من معصية الله، لأن الله يسمع ويعلم كل شيء.
(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138)).
[البقرة: 138].
(صِبْغَةَ اللَّهِ) أي الزموا صبغة الله، وهو دينه، وقوموا به قياماً تاماً بجميع أعماله الظاهرة والباطنة، وجميع عقائده في جميع الأوقات، حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم.
• والمراد بصبغة الله: دين الله، والصبغ مأخوذة من الصَّبغ وهو تغيير الشيء بلون من الألوان، وسمي الدين صبغة لظهور أثره على العامل به، وقيل: سمي صبغة كلزوم الصبغ للثوب.
قال قتادة: إن اليهود تصبغ أبناءها يهود، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً والأنبياء بعده.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) أي: لا أحسن صبغة من صبغته.
(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) أي: نحن نعبده جل وعلا ولا نعبد أحداً سواه.
• قال السعدي: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملازماً.
الفوائد:
1 -
وجوب الالتزام بدين الله.
2 -
أن دين الله أحسن الأديان.
3 -
وجوب إخلاص العبادة لله.
(قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141)).
[البقرة: 139 - 141].
(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) يقول تعالى مرشداً نبيه صلى الله عليه وسلم إلى درء مجادلة المشركين (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أي: تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد واتباع أوامره وترك زواجره.
• اختلف العلماء في هذه المحاجة كانت مع من؟ ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه خطاب لليهود والنصارى.
وثانيها: أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا (لَوْلا أُنزِلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ) والعرب كانوا مقرين بالخالق.
وثالثها: أنه خطاب مع الكل، والقول الأول أليق بنظم الآية. [مفاتيح الغيب: 4/ 80].
(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له.
(وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون وأنتم برآء منا.
كما في الآية الأخرى (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).
وقال تعالى (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ).
وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ).
(وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي: مخلصون له في العبادة والتوجه. وفيه توبيخ لليهود والنصارى، والمعنى وأنتم به مشركون.
• والإخلاص أن يخلص العبد دينه، وعمله لله تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله.
والأدلة على وجوب الإخلاص كثيرة.
قال تعالى (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
وقال تعالى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).
وقال تعالى (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي).
وقال تعالى (قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين).
وقال تعالى (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجه الله) رواه النسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم. قال تعالى (من عمِل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركَه) رواه مسلم.
وعن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أخوفَ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؟ قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء). رواه أحمد
•
وللإخلاص فضائل:
أولاً: أنه سبب لمغفرة الذنوب.
والدليل: قصة المرأة الزانية التي سقت الكلب فغفر الله لها "والقصة عند البخاري ومسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: فتأمل ما قام في قلبها من حقائق الإيمان والعبودية في هذه اللحظة فمنها: أنها لم تعمله ابتغاء الأجر من أحد لأنها تعطي كلباً فلا تنتظر منه جزاء أو شيئاً - وأنه لم يرها أحد إلا الله وهذا يدل عليه ظاهر الحديث - أنها أتعبت نفسها في سقايتها لهذا الكلب فنزلت في البئر مع أنها امرأة ثم ملئت خفها بالماء وحملته بفيها ثم سقت هذا الكلب الحقير، فتأمل ما قام في قلبها من أسرار الإخلاص فعندما تمت هذه الحقائق في قلبها، أحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء والزنا فغفر الله لها.
ثانياً: أنه يصرف الفتنه عن القلب.
قال الإمام ابن تيميه في الفتاوى (1/ 60): فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كلّه لله عز وجل.
ويوسف عليه السلام ما نجى من فتنة المرأة إلا بالإخلاص لله تعالى قال تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء اِنه من عبادنا المخلصين).
وقال أيضاً في الفتاوى (10/ 261): فإن قوة إخلاص يوسف عليه السلام وخشيته من الله عز وجل كان أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها.
ثالثاً: أنه به تكمل العبودية لله تعالى.
قال الإمام ابن تيمية في الفتاوى (10/ 198): وكلما قوي إخلاص العبد كملت عبوديته.
لأن بالإخلاص تقبل الأعمال وترفع إلى الله، وكلما قبل العمل ارتفعت المنزلة والدرجة عند الله تعالى لذلك العبد، ولهذا كان من أبرز صفات المقربين والسابقين عند الله هو "إخلاصهم لله"فبالإخلاص ارتفعوا عن الناس وأصبحوا في أعالي عليين.
رابعاً: أنه سبب لاستغناء القلب عن الناس.
قال الإمام ابن تيميه في الفتاوى: لا يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يحب إلا له ولا يبغض إلا له.
خامساً: أنه سبب لمضاعفة الحسنات.
قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ).
قال ابن كثير: وقوله ههنا (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) أي: بحسب إخلاصه في عمله.
وقال صلى الله عليه وسلم (والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
…
) رواه البخاري.
قال ابن رجب: ومضاعفة الأجر بحسب كمال الإسلام، وبكمال وقوة الإخلاص في ذلك العمل.
وقال صلى الله عليه وسلم (صلاة الرجل تطوعاً حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس بخمس وعشرين درجه) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
سادساً: أنه سبب لقبول الدعاء وتفريج الكرب.
والدليل على ذلك: قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار وفيها أنهم قالوا: (اللهم إن كنا فعلنا ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه ففرج الله عنهم) والقصة معروفه وهي عند البخاري ومسلم.
سابعاً: أنه سبب للنصر على الأعداء.
لحديث سعد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ثامناً: أنه ينجي العبد من النار يوم القيامة.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله) رواه البخاري.
قال ابن تيمية في الفتاوى (10/ 261): فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا الله، فإن ذلك دليل على أنه لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار.
وقال ابن القيم في عدة الصابرين: من عوّد نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره، ومن عوّد نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله، وهذا في جميع أبواب الأعمال، فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس.
وقال في المدارج: ومما يخلصه من طلب العوض: علمه بأنه عبد محض والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته.
قال الربيع بن خثيم: كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
وقال ابن المبارك: ما رأيت أحداً ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة.
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى) ينكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية، فقال:
(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) يعني بل الله أعلم، وقد أخبر تعالى أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى كما قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
• قال السعدي: رد الله عليهم بقوله (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) فالله يقول (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهم يقولون: بل كان يهوديا أو نصرانيا.
فإما أن يكونوا، هم الصادقين العالمين، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك، فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم، وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك، لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل: الليل أنور، أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) أي: لا أحد أظلم ممن أخفى وكتم ما اشتملت عليه آيات التوراة والإنجيل من البشارة برسول الله.
• وفي الذي كتموه قولان:
قيل: هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم.
وقيل: المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم شرحها.
وقد قيل في تكرارها أقوال:
قيل: أنه كررها للتهديد والتخويف، والمعنى: أنه إذا كان أولئك الأنبياء على طاعتهم لله وفضلهم يُجازون يوم القيامة بكسبهم فأنتم أحرى أن تجازون بكسبكم كذلك. [تفسير القرطبي: 2/ 47].
وقيل: أنه كررها لقطع التعلق بالمخلوقين وتنبيهاً لليهود ولمن يتكل على فضل آبائه وأجداده وشرفهم كي لا يتكلوا على فضل الآباء.
وقيل: كررها لشدة الحاجة إليها.
الفوائد:
1 -
وجوب البراءة من أعمال الكفار.
2 -
أنه لا يجوز التشبه بأعداء الله.
3 -
وجوب الإخلاص لله تعالى.
4 -
إبطال دعوى هؤلاء اليهود والنصارى أن إبراهيم وإسماعيل كانوا هوداً أو نصارى.
5 -
عظم كتم العلم.
6 -
كمال علم الله ومراقبته.
7 -
تخويف الإنسان وتحذيره من المخالفة.