المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ - تفسير القرآن الكريم - اللهيميد - من الفاتحة إلى النساء - جـ ٢

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)).

[سورة البقرة: 142].

(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا) أي: سيقول ضعفاء العقول من الناس.

(مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا) ما صرفهم وحولهم عن القبلة التي كانوا عليها وهي بيت المقدس، قبلة المرسلين قبلهم؟

• اختلف العلماء بالمراد بالسفهاء هنا:

فقيل: مشركوا العرب، وقيل: أحبار اليهود، وقيل: المنافقون، قال ابن كثير: والآية عامة في هؤلاء كلهم.

• قال السعدي: دلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل فيتلقى أحكام ربه بالقبول والانقياد والتسليم.

• قال ابن القيم: وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس؛ ثم تحويلها إلى الكعبة حِكَم عظيمة، ومحنةٌ للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين.

فأما المسلمون، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا (آمنا به كل من عند ربنا) وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم.

وأما المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق.

وأما اليهود، فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبياً لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء.

وأما المنافقون، فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقاً فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان

على باطل، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس.

• قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ

) فيه قولان.

القول الأول: أن هذا إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

وفائدة ذلك:

أولاً: أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً.

وثانيها: أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم.

وثالثها: أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه السلام منهم يكون الجواب حاضراً، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً. [مفاتيح الغيب: 4/ 83].

ص: 1

القول الثاني: أن (سيقول) بمعنى قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته واستمراره عليه.

• قال الشوكاني: قوله (سَيَقُولُ) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، بأن السفهاء من اليهود، والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

وقيل: إن (سَيَقُولُ) بمعنى: قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته، والاستمرار عليه، وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوين لصدمته، وتخفيف لروعته، وكسراً لسَوْرته.

• قوله تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ

) فائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوماً هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافاً كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة.

• سميت القبلة قبلة لأن المصلي يستقبلها.

• النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يستقبل بيت المقدس هل كان ذلك بوحي من الله أو باجتهاد منه؟ اختلف العلماء في ذلك:

فقيل: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقيل: أنه كان مخيراً بين بيت المقدس والكعبة فاختار القدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم، وقيل: أن ذلك كان بأمر الله ووحيه ثم نسخ بعد ذلك وأمره أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم

) وهي واضحة الدلالة، وهذا القول هو الصحيح.

• قال القرطبي: دلت الآية على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون (كنت عليها) بمعنى أنت عليها.

(قُلْ) أي: أنزل الله جواباً لهم.

(لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) و (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده وفي تصرفه، وخدامه حيثما وجهنا توجهنا، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض، إذ هي بناء الخليل عليه السلام.

ص: 2

• وقال القرطبي: أي: له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء.

(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي لأهل ملته إلى الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.

• قوله تعالى (مَنْ يَشَاءُ) فيه إثبات المشيئة لله، وليعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، هي مشيئة مقرونه بالحكمة، والدليل على ذلك، قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله، بيّن أن ذلك مبني عن علم وحكمة. (الشيخ ابن عثيمين)

ص: 3

‌الفوائد:

1 -

سفه من يعترض على أقدار الله.

2 -

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

3 -

الرد على المعترضين، ومن الرد العام الذي يرد به: أن الله رب العالمين مالك الملك، وأن الخلق كلهم ملكه وعبيده، فله أن يشرع لهم ما يشاء، لأنه يعلم ما صلح لهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

4 -

وجوب الانقياد لله والسمع والطاعة، لأن هذا هو مقتضى العبودية الحق.

5 -

عموم ملك الله تعالى.

6 -

الرد على من يقول: لماذا الله أعطى فلاناً ولم يعط فلاناً.

7 -

أن الهداية بيد الله.

8 -

استحباب طلب الهداية من الله، وفي الحديث القدسي (فاستهدوني أهدكم).

9 -

إثبات مشيئة الله.

ص: 4

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)).

[البقرة: 143].

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي: كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطاً.

• قال ابن كثير: يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، والوسط ههنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي: خيرها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي: أشرفهم نسباً، ومنه الصلات الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر، وفي القرآن (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي: أعدلهم وخيرهم.

وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري. عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال: عدلاً).

• وقال السعدي: وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة، وسطاً في كل أمور الدين.

وسطاً في الأنبياء: بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك.

ووسطاً في الشريعة: لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.

وفي باب الطهارة والمطاعم: لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات، عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئا، بل أباحوا ما دب ودرج.

بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها.

ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا (أُمَّةً وَسَطًا).

• وهذا يدل على فضيلة هذه الأمة، ومن فضائلها:

قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

وقوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

ص: 5

وقال صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله

) متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل

الحديث وفيه: ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (وجعلت أمتي خير الأمم) رواه أحمد.

(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) أي: لتشهدوا على الأمم والناس كافة يوم القيامة أن رسلهم بلّغتهم، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال: لأمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) والوسط: العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم) رواه البخاري.

• ووصفت أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالوسط، لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذي غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها. [تفسير الطبري: 2/ 11]

(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي: يشهد عليكم بالتبليغ أنه قد بلغ.

ص: 6

• قال الشنقيطي: لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو الآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر أنه شهيد عليهم في الآخرة، وذلك في قوله (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول

).

(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا) وهي بيت المقدس، كما روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلاَّهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ

اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).

ويدل له أيضاً قوله (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا).

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتداً عن دينه.

قوله تعالى (إلا لنعلم

) المراد علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس.

• قال القرطبي: هذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم.

• قال الشنقيطي: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا (وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور) فقوله (والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور) بعد قوله (وَلِيَبْتَلِيَ) دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به،

ومعنى (إِلاَّ لِنَعْلَمَ) أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.

ص: 7

• وقال الشيخ ابن عثيمين: المراد علم ظهور أو علم يترتب عليه الجزاء، لأن علم الله الكائن في الأزل لا يترب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد ويُنظر.

• ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) وقوله تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) وقوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

(وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس.

(إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، كما قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله.

كما جاء في الحديث السابق عن البراء قال (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلاَّهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فجمهور المفسرين فسروا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي

: صلاتكم.

ص: 8

• قال السعدي: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى، بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه، ومستحيل، أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم، فلا يضيعه

، وفي هذه الآية، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.

(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ) قال الطبري: إن الله بجميع عباده ذو رأفة، والرأفة أعلى معاني الرحمة.

وقال الخطابي: الرؤوف هو الرحيم العاطف برأفته على عباده.

وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها.

• ومن رأفته سبحانه وتعالى: أنه لا يضيع لعباده طاعة أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، فمن مات قبل تحويل القبلة لهم ثوابهم وأجرهم.

ومن رأفته سبحانه وتعالى بنا: أنه خوفنا من عقوبته وعذابه، ونهانا عن معصيته، قبل أن يلقاه العبد يوم القيامة ليستعد للقائه، ويتجنب سخطه وغضبه ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).

ومن رأفته: أنه أرسل رسله وأنزل كتبه التي تبين شرعه، لينقذ الناس من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والهداية (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ومن رأفته: أنه يقبل توبة التائبين، ولا يُرد عن بابه العاصين المنيبين، مهما كثرت سيئاتهم، وتعاظمت خطيئاتهم (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ومن رأفته: تسخيره لما في السماوات وما في الأرض لمصلحة الإنسان ومنفعته، وخلقه الأنعام ليركب على ظهرها فتحمله المسافات الشاسعة، هو ومتاعه وزاده (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

(رَحِيمٌ) الرحيم اسم من أسماء الله، فيجب إثبات ذلك، وهو متضمن لصفة الرحمة الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).

وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). (وقد تقدمت مباحث الرحمة).

ص: 9

‌الفوائد:

1 -

أن هذه الأمة هي خير الأمم وأفضلها.

2 -

إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم وشهادته على أمته وتشريفه وتكريمه صلى الله عليه وسلم.

3 -

تشريف هذه الأمة وتكريمها بحيث تشهد على جميع الأمم، ولا يشهد عليها إلا رسولها.

4 -

اشتراط العدالة في الشهود.

5 -

أن في أمره صلى الله عليه وسلم بالتوجه في الصلاة إلى بيت المقدس ثم تحويله إلى الكعبة ابتلاءً وامتحاناً للناس، ليظهر من يتبع الرسول ويطيعه، وحال من يرجع على عقبيه ويرتد.

6 -

وجوب اتباع الرسول وتأكيد ذلك.

7 -

إثبات علم الله.

8 -

أن صرف القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام أمر كبير وحدث عظيم، ليس من السهل التسليم به وقبوله إلا على من هداهم الله من أهل الإيمان واليقين.

ص: 10

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)).

[سورة البقرة: 144].

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)(قد) إذا دخلت على المضارع منسوباً إلى الله، فإن ذلك يعني المبالغة في التحقيق. أي: قد رأينا ذلك (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي: توجهك بوجهك وبصرك إلى السماء حال الدعاء، تنظر إليها، وتنتظر أمر الله لك ووحيه إليك، بتحويل القبلة إلى الكعبة.

قال ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله (قد نرى

إلى قوله: فولوا وجوهكم شطره). (تفسير ابن كثير).

• قال ابن عطية: المقصد تقلب البصر، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب، تقول: بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) أي: فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وقيل: هو من الولاية، أي: فلنعطينك ذلك، والأول أولى.

(قِبْلَةً تَرْضَاهَا) وهي المسجد الحرام، كما في حديث البراء بن عازب وفيه (

وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْراً، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلاَّهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ

).

• قوله تعالى (تَرْضَاهَا) المراد بهذا الرضا رضا المحبة بالطبع، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله.

(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) المراد بالشطر هنا: الناحية والجهة، والمراد بشطر المسجد: الكعبة.

(وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي: وحيثما كنتم أيها المؤمنون فتوجهوا في صلاتكم نحو الكعبة.

• بهذا الخطاب والأمر له صلى الله عليه وسلم ولأمته، حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، ونسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة.

• وكان أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة العصر، كما في حديث البراء، وروي أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة الظهر، وكان ذلك في منتصف رجب، وقيل في منتصف شعبان.

ص: 11

• قال ابن كثير: أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.

• قال الرازي: قوله تعالى (وجوهكم) المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه.

• قوله تعالى (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أي: جهته، دون عين الكعبة، لأنه عليه السلام كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين. وقيل: إن جبريل عليه السلام عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي.

• فإن قيل: هل في الآية الكريمة تكرار؟

هذا ليس بتكرار، وبيانه من وجهين.

أحدهما: أن قوله تعالى (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام) خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة، وقوله (حيثمَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خطاب مع الكل.

وثانيهما: أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة، فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: وإن اليهود يعلمون أن تحويل القبلة من بيت المقدس هو الحق من ربهم.

• فإن قيل: كيف يعلمون أنه حق وليس ذلك من دينهم ولا في كتابهم؟

قيل: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق.

وقيل: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ.

وقيل: أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها.

ص: 12

وقيل: أنهم يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم. [زاد المسير: 1/ 157]. [تفسير القرطبي: 2/ 109]

• قال ابن كثير: أي: وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس - يعلمون أن الله تعالى - سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وما خصه الله تعالى به وشرفه، من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً.

(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) لكمال علمه سبحانه وتعالى.

‌الفوائد:

1 -

إثبات علو الله.

2 -

إثبات عظمة الله لقوله (فلنولينك) فإن ضمير الجمع للتعظيم.

3 -

وجوب الاتجاه إلى المسجد الحرام في الصلاة.

4 -

عظمة هذا المسجد لوصفه بالحرام.

5 -

بيان عناد اليهود والنصارى.

6 -

انتفاء الغفلة عن الله تعالى لكمال علمه وإحاطته بهم.

7 -

تهديد هؤلاء المعاندين.

ص: 13

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)).

[سورة البقرة: 145].

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو قام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).

• وفائدة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: إراحة قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإبعاد الشغل والفكر في هؤلاء عنه، أي: لا تشتغل بهم ولا تفكر فيهم.

(وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) هذا الإخبار يمكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، أي: لا تتبع يا محمد قبلتهم، ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها. (قاله الشوكاني).

والثاني أولى، ولهذا قال ابن كثير: هو إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله.

(وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) أي: إن النصارى لا يتبعون قبلة اليهود، كما أن اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، لما بينهم من العداوة والخلاف الشديد.

كما قال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ).

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) أي: ما يهوونه ويريدونه.

والهوى: هو الميل عن الحق والمخالفة له بلا دليل من شرع أو عقل، وهو ضد الهدى كما قال تعالى (إنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).

• قال السعدي: إنما قال: (أهواءهم) ولم يقل دينهم، لأن ما هم عليه مجرد أهوية نفس، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين، اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).

ص: 14

(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي: من بعد ما وصل إليك من العلم بإبلاغي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحق ومعرفة منهم أن القبلة التي وجهتك إليها هي القبلة التي فرضت على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل التوجه نحوها.

(إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) يعني: إنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم المخالفين أمري والتاركين طاعتي.

وأي ظلم أعظم، من ظلم، من علم الحق والباطل، فآثر الباطل على الحق، وهذا وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضاً، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالماً مع علو مرتبته، وكثرة حسناته، فغيره من باب أولى وأحرى. (تفسير السعدي).

• هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

• وفي الآية تهديد ووعيد للعالم عن مخالفة الحق الذي يعلمه، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره.

كما قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً).

وقال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ

).

وفي الحديث (

يؤتى بالرجل فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه

الحديث وفيه: أنه يقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) متفق عليه.

وحديث (أول من تسعر بهم النار ثلاثة،

ومنهم: عالم تعلم العلم ليقال: عالم) رواه مسلم.

• قال الشوكاني: وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى

حق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة.

‌الفوائد:

1 -

أن رد الحق بعد معرفته وقيام الأدلة عليه من صفات أهل الكتاب وبخاصة اليهود.

2 -

اختلاف قبلة اليهود والنصارى، فاليهود قبلتهم إلى بيت المقدس، والنصارى قبلتهم إلى المشرق.

3 -

ذم أهل الكتاب باتباعهم أهواءهم.

4 -

وجوب اتباع الحق إذا ظهرت آياته.

5 -

تحذير الأمة من اتباع أهواء غير المؤمنين.

ص: 15

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)).

[سورة البقرة: 146 - 147].

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) من علماء أهل الكتاب.

(يَعْرِفُونَهُ) اختلف في مرجع الضمير:

فقيل: إنه عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يعرفونه معرفة جلية، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم.

وقيل: إن الضمير في قوله (يَعْرِفُونَهُ) راجع إلى أمر القبلة: أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.

ورجح هذا القول الطبري والشوكاني، لأن السياق في أمر القبلة.

ورجح الرازي القول الأول، وقال: واعلم أن القول الأول أولى من وجوه:

أحدها: أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله (مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم) والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.

وثانيها: أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل، وأخبر فيه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

وثالثها: أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.

(كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) أي: كما يعرف أحدهم ابنه لا امتراء ولا شك.

• قال في التسهيل (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام معرفتي بالنبي صلى الله عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني؛ لأن ابني قد يمكن فيه الشك.

• وإنما كانوا يعرفونه كمعرفتهم أبناءهم، لما جاء في كتبهم من البشارة به صلى الله عليه وسلم وذكر صفاته، وكمال دينه، وفضيلة أمته، قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).

ص: 16

عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أنا أعلم به مني بابني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك

في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه).

وقيل: كما يعرفون أبناءهم من بين أبناء الناس كلهم، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم.

• فإن قيل: لم خص الأبناء الذكور؟

الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: ومع هذا التحقق والإتقان العلمي ليكتمون الحق وما في كتبهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى القول الثاني يكتمون الحق في أمر القبلة.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن محمد على الحق ومع هذا كتموه.

• فيه تحريم كتم العلم والحق، وأن من فعل ذلك ففيه شبه من اليهود.

• قال السعدي: فالعالم عليه إظهار الحق، وتبيينه وتزيينه، بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال، وغير ذلك، وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق، وتشيينه، وتقبيحه للنفوس، بكل طريق مؤد لذلك، فهؤلاء الكاتمون، عكسوا الأمر، فانعكست أحوالهم.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: ما أوحاه الله إليك يا محمد من أمر القبلة هو الحق الثابت.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي: فلا تكونين من الشاكين.

ص: 17

• والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

• قال الطبري: فإن قال قائل: أو كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً في أن الحق من ربه، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله حتى نهي عن الشك؟ قيل: ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به والمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ).

‌الفوائد:

1 -

معرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته، وأن ما جاء به حق، كما يعرفون أبناءهم.

2 -

أن من صفات أهل الكتاب كتم العلم.

3 -

أن من كتم العلم من هذه الأمة ففيه شبه من اليهود.

4 -

أن من رد الحق وخالفه عن علم ومعرفة أعظم جرماً وأشد ذماً ممن رده وخالفه عن جهل.

5 -

إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة لرسله وأوليائه.

ص: 18

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)).

[سورة البقرة: 148].

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي: لكل أمة من الأمم قبلة هو موليها ومتوجه لها، يعني بذلك أهل الأديان، لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة.

• قال ابن كثير: وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً).

وقيل: المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها: جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية، لكن هذا فيه ضعف والأول أصح.

• قوله تعالى (هو موليها) الضمير راجع إلى لفظ (كل) أي: لكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، وقيل:

إن الضمير في قوله (هو موليها) إلى الله، والمعنى: ولكلٍّ وجهة الله عز وجل موليه إياها، والأول أصح.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق، وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات.

• قال السعدي: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها.

• فينبغي للمسلم أن يبادر للخيرات والأعمال الصالحات الواجبات والمستحبات كما أمر الله بذلك.

كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

وقال تعالى (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

وقال تعالى (وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

وامتدح أولياءه بأنهم (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) و (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).

ص: 19

وقال صلى الله عليه وسلم (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) رواه مسلم.

• وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يبادرون للخيرات.

فقد ثبت في البخاري عن عقبة بن الحارث قال (صليتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته)[التبر: قطع ذهب أو فضة].

وعن ربيعة بن كعب قال (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - وَهَذَا حَدِيثُ قُتَيْبَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ» . قَالُوا يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونُ وَلَا نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ» . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً» . قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) رواه مسلم.

قال ابن القيم:

كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً، وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى:(سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض).

وعن عبد الله بن عمرو (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط) رواه أبو داود.

ص: 20

•‌

‌ ومن المسارعة إلى الخيرات التأسف على فواتها، ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً: ما جاء في الحديث السابق: حيث كان الفقراء يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم.

ثانياً: الحزن على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته.

كما قال تعالى (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).

ثالثاً: التأسف على فعل الطاعة.

فإن ابن عمر لما بلغه حديث (من شهد الجنازة حتى تدفن فله قيراط، ومن شهدها حتى يصلى عليها فله قيراطان) قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.

ص: 21

•‌

‌ لماذا ينبغي أن نبادر ونسارع إلى الخيرات؟

‌أولاً: استجابة لأمر الله ورسوله.

كما في الآيات والأحاديث التي سبقت، وقد تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ

).

‌ثانياً: قبل حدوث الشواغل من فقر أو موت أو هرم

أو ....

كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلى فقْراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً

) رواه الترمذي وفيه ضعف.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك،

) رواه الحاكم.

فالإنسان إذا انشغل بفقره لا يستطيع أن يؤدي ويسارع للأعمال الصالحات، وكذا إذا مرض، فإنه ينشغل بمرضه، وكذا لا يدري متى يأتيه الموت، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.

‌ثالثاً: قبل الفتن المانعة من العمل.

كما قال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً). رواه مسلم

فالإنسان ينبغي أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن فينشغل بها، فتشغله عن التفرغ للعمل الصالح، كما هو حال كثير من الناس الآن، وأيضاً الأعمال الصالحة سبب للنجاة من الفتن، ولهذا قال (بادروا بالأعمال - أي الصالحة - فتناً، أي، قبل وقوع الفتن، فالعمل الصالح من إخلاص لله ومتابعة للرسول وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وصلاة وخاصة بالليل وغيره سبب للنجاة من الفتن إذا حدثت وانتشرت، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليل فزعاً وهو يقول: (من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين، ما أنزل الليلة من الفتن).

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.

وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي وهو يذهب عمره ولا يقول: ذهب عمري وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات.

وقال سعيد بن المسيب: ما تركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة.

وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين.

وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا ما تخطئ الأصابع.

ص: 22

وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها وكان الليل كله يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلاً فيقول: أنا أعلم بما صنعت نفسي.

قال الجماني: لما حضرت أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال: لا تبك وأشار إلى زاوية في البيت: إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.

من قدم اليوم شيئاً قدم عليه غداً، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء، قيل لبعضهم جمع فلان مالاً؟ قال: هل جمع عمراً ينفقه فيه، قالوا: لا، قال: ما جمع شيئاً.

وقال بعض السلف: اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة على قدر مكثك فيها.

• قال السعدي: ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها، ما رتب الله عليها من الثواب قال:

(أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً) أي: في موضع تكونوا من أعماق الأرض أو قمم الجبال يجمعكم الله للحساب فيفصل بين المحق والمبطل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته سبحانه وتعالى جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.

‌الفوائد:

1 -

أن الإنسان يجب عليه أن يتبع الحق أينما كان ولا ينظر إلى كثرة المخالف.

2 -

الحث على المسابقة إلى الخير.

3 -

إحاطة الله بالخلق أينما كانوا.

4 -

إثبات البعث والجزاء.

5 -

عموم قدرة الله لكل شيء.

ص: 23

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)).

[سورة البقرة: 149 - 150].

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض، وقد اختلفوا في حكمة التكرار ثلاث مرات:

أحدها: أن الأحوال ثلاثة، أولها: أن يكون الإنسان في المسجد الحرام، وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد، وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.

والجواب الثاني: أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة.

أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حق، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً،

وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى (فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أيديهم وويل لهم مما يكسبون).

ص: 24

والجواب الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى (فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد صلى الله عليه وسلم ـ لأنه قال (فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ) أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل، ثم أنه تعالى قال ثالثاً (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.

والجواب الرابع: أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام، والثاني مقرون بقوله تعالى (وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ للْحَقُّ مِن رَّبّكَ) والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمر القبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً، قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة، نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ) ثم يقال: الزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى (فَبِأَيّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ) وكذلك ما كرر في قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ).

ص: 25

والجواب الخامس: أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات. (تفسير الرازي).

ورجح القرطبي القول الأول.

‌والخلاصة:

أن الأمر الأول: لتقرير حكم النسخ واستجابة لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم.

والأمر الثاني: لبيان أن الحق من ربك، وأن لكل ملة وجهة وهذا وجهتكم.

والأمر الثالث: حيثما توجهتم فهذه قبلتكم، ولقطع حجج المعاندين.

(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) المراد بالناس هنا أهل الكتاب، وهذا قول جمهور المفسرين، ووجه حجتهم: أنهم يقولون يجحد ديننا ويتبع قبلتنا.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) المراد بهم: مشركي قريش.

ذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء هنا منقطع - على القول الراجح - ويكون بمعنى (لكن) الذين ظلموا منهم (وهم مشركوا العرب) لا حجة لهم فلا يلتفت إليهم.

• قال الشيخ ابن عثيمين: والأقرب عندي -والله أعلم - أنه استثناء منقطع والمعنى: لئلا يكون للناس عليكم حجة، لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم ومخاصمتهم.

وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء متصل، أي: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا سيحتجون ولن تنقطع دعواهم الباطلة. (يقولون رجع محمد إلى قبلتنا فسيرجع إلى ديننا).

ص: 26

•‌

‌ فإن قيل: لماذا سميت حجة؟

فالجواب: الحجة تأتي بالقرآن بمعنى ما يحتج وبه ويتمسك به سواء كان صحيحاً أو باطلاً كما قال الله تعالى (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِم) فسماها حجة مع أنها باطلة، وقال تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة، وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة، ولأن الحجة اشتقاقها من حجه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة، وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجة الطريق، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً.

وممن رجح أن الاستثناء متصلاً ابن جرير الطبري ورجحه ابن تيمية وابن القيم.

• قال السعدى: وكان صرف المسلمين إلى الكعبة، مما حصلت فيه فتنة كبيرة، أشاعها أهل الكتاب، والمنافقون، والمشركون، وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى، وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات، التي تضمنتها هذه الآيات.

منها: الأمر بها، ثلاث مرات، مع كفاية المرة الواحدة.

ومنها: أن المعهود أن الأمر، إما أن يكون للرسول، فتدخل فيه الأمة تبعاً، أو للأمة عموماً، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخصوص في قوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ) والأمة عموماً في قوله (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ).

ومنها: أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة، كما تقدم توضيحها.

ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب.

ومنها: قوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف، ولكن مع هذا قال (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

ومنها: أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم، صحة هذا الأمر، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي: فلا تخشوا هؤلاء الظلمة المعاندين المخالفين للحق من اليهود والمشركين والمنافقين مهما قالوا، ومهما أرادوا بكم من أذى.

(وَاخْشَوْنِي) أي: وخافوني وأفردوني بالخشية، فأنا القادر على نصركم، وحفظكم منهم.

ص: 27

•‌

‌ والخشية أخص من الخوف، والفرق بينهما من وجوه:

أولاً: الخشية مع العلم، والخوف قد لا يكون.

ثانياً: الخشية تكون لعظمة المخشي، وأما الخوف لضعف الخائف أو يكون المخوف منه قوياً، قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

• قال الرازي: فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم، واخشوني، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم، وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه: خشية عقاب الله، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم.

• وقال القرطبي: ومعنى الآية التّحقير لكل مَن سوى الله تعالى، والأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.

•‌

‌ في الآية الأمر بخشية الله وخوفه، وللخوف من الله فضائل:

أولاً: أنه من علامات الإيمان.

قال تعالى (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ثانياً: مدح الله أنبياءه بالخوف منه.

كما قال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

ثالثاً: الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة.

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة (ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فالخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.

رابعاً: الخوف سبب للنجاة من كل سوء

قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث منجيات: وذكر منها: خشية الله تعالى في السر والعلانية).

خامساً: أثنى الله على ملائكته بشدة خوفهم منه.

كما قال تعالى (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).

سادساً: من صفات الرجال العظماء.

قال تعالى (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).

سابعاً: من صفات الأبرار خوفهم من عدم القبول.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أي: والذين يعطون ويعملون ويخافون أن لا يتقبل منهم.

ص: 28

ثامناً: وعد الله الخائفين الجنة.

كما قال تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).

تاسعاً: أنه من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قال صلى الله عليه وسلم (إني أخشاكم لله وأتقاكم له) رواه مسلم.

وعن أنس قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين) متفق عليه.

عاشراً: من أسباب النجاة من النار.

قال صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله) رواه الترمذي.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

الحادي عشر: الخوف سبب للبعد عن المعاصي.

قال تعالى (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

قال بعض السلف: إذا سكن الخوف في القلب أحرق موضع الشهوات منه.

الثاني عشر: سبب في إخلاص العمل لله.

قال تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

الثالث عشر: سبب لعلو الهمة في العبادة.

قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

الرابع عشر: الخوف يجعل العبد سائراً على طريق الهداية.

قال ذو النون المصري: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.

الخامس عشر: الخوف يضفي المهابة على صاحبه.

قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء.

وقال يحيى بن معاذ الرازي: على قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق.

السادس عشر: الخوف من أسباب قبول الدعاء:

قال تعالى (وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين).

السابع عشر: الخوف من أسباب الانتفاع بكلام الله تعالى.

قال تعالى (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).

ص: 29

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب.

وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله.

وقال عامر بن قيس: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.

وحين سئل عطاء السليمي: ما هذا الحزن؟ قال ويحك؟ الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، لا أدري ما يصنع بي؟

وقال الفضيل: من خاف الله دله الخوف على كل خير.

وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبدالعزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.

وقال السبكي رحمه الله: ما خفت الله يوما، إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط.

وقال حكيم: الحزن يمنع الطعام، والخوف يمنع الذنوب، والرجاء يقوي على الطاعة، وذكر الموت يزهد في الفضول.

وقال الحسن: الرجا والخوف مطيتا المؤمن.

وقال إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).

(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها.

• فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين:

إحداهما: لانقطاع حجتهم عنه.

والثانية: لتمام النعمة.

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي: إلى ما ضلت عنه الأمم وهديناكم إليه وخصصناكم به.

• قال الشنقيطي: (لعل) تأتي في القرآن بمعنيين، قال بعض العلماء: هي على الترجي، ولكن الترجي بحسب ما يظهر للناس، أما الله فهو عالم بما كان فلا يصدق عليه الترجي كقوله لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي: على رجائِكما وعلم بني آدم القاصر، أما الله فهو عالم أنه لا يذكر ولا يخشى.

ص: 30

الثاني: ما قاله بعض العلماء: إن كل (لعل) في القرآن مشتملة معنى التعليل بمعنى (لأجل) وعليه فـ (لعلكم تذكرون)، لأجل أن تتذكروا وتتعظوا بآياتنا وغرائب صنعنا وعجائبنا.

‌الفوائد:

1 -

تكرار الأمر الهام.

2 -

أن أهل الباطل يحاجون في الحق لإبطاله.

3 -

وجوب تنفيذ شرع الله، وألا يخشى الإنسان لومة لائم.

4 -

أن خشية الناس من أسباب كتم العلم وتبديله.

5 -

أن تنفيذ أوامر الله وخشيته سبب للهداية.

ص: 31

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)).

[سورة البقرة: 151].

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) الكلام متعلق بما سبق في قوله (ولأتم نعمتي) والمعنى: كما أتممت عليكم نعمتي كذلك أرسلت فيكم رسولاً منكم.

• قال ابن كثير: يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم محمد إليهم.

والمخاطب بذلك هم العرب، قال الطبري:(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العرب طاعتي وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها لتنقطع حجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم وتهتدوا كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت فيكم رسولاً إليكم منكم، وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم محمد صلى الله عليه وسلم. [تفسير الطبري: 2/ 46].

(يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) أي: يقرأ عليكم آياتنا، والمراد بالآيات هنا الشرعية، وهي الوحي.

•‌

‌ لأن آيات الله تنقسم إلى قسمين:

الآيات الكونية القدرية. (فهي مما نشاهده مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها).

وهي ما نصبه الله (جل وعلا) ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد المستحق للعبادة، كالشمس والسماء والأرض ونحوها، وكل ما في الكون من مخلوقات الله شاهد بكمال الله وقدرته وعزته وأنه المستحق للعبادة.

قال تعالى (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لعلامات واضحة جازمة قاطعة بأن من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده.

الآيات الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم. (لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله).

ومنه قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).

وسميت آيات، جمع آية، لأنها علامة على صدق من جاء بها.

(وَيُزَكِّيكُمْ) أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

ص: 32

• قال السعدي: أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية. [تفسير السعدي: 74].

• ينبغي للمسلم أن يسعى في تزكية نفسه، كما قال تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا).

فقد أقسم الله ثمان أقسام (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا. وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا. وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا. وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا. وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا).

فينبغي على المسلم أن يحمل نفسه ويجاهدها على تزكية نفسه، لأن من زكى نفسه فقد أفلح، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(اللهم آتي نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها).

‌من تزكية النفس غض البصر:

كما قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ).

ومن تزكية النفس رجوع الإنسان إذا قيل له ارجع.

كما قال تعالى (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ).

أن تزكية الله من فضل الله.

كما قال تعالى (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ) وهو القرآن، وسبق لماذا سمي القرآن كتاباً.

ص: 33

(وَالْحِكْمَةَ) تقدم الخلاف في المراد بها.

(وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي: يعلمكم من أخبار الأنبياء وقصص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم. [تفسير الطبري: 462].

‌الفوائد:

1 -

بيان نعمة الله بإرسال الرسل.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أوحي إليه.

3 -

أن من مهمات الرسول تزكية النفوس وتطهيرها.

4 -

أن الأصل في الإنسان الجهل.

5 -

فضل الله علينا حيث علمنا ما لم نكن نعلم.

ص: 34

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152))

[البقرة: 152].

(فَاذْكُرُونِي) بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم

(أَذْكُرْكُمْ) أي: أثيبكم بالثواب والأجر العظيم، كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) متفق عليه.

قال سعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي.

• قال الطبري: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم.

• وهذه الآية من أعظم الآيات في فضل ذكر الله تعالى، وللذكر فضائل عظيمة:

منها: أنه يورث العبد ذكر الله له.

كما في هذه الآية (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

قال ابن القيم: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً.

وقال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم) متفق عليه.

ومنها: أنه سبب لنزول السكينة وغشيان الرحمن.

كما في حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.

ومنها: أنه غرس الجنة.

كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لقيت ليلة اسري بي إبراهيم الخليل فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي.

ومنها: أن دوام ذكر الرب يوجب الأمان من نسيانه وهو سبب شقاء العبد.

فإن نسيان الرب سبحانه يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ص: 35

ومنها: أن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال.

كما قال صلى الله عليه وسلم (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي .. ) متفق عليه.

ومنها: أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله.

كما في الحديث (

وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك رجل خرج العدو في أثرهِ سراعاً، حتى أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله

) رواه الترمذي.

قال ابن القيم: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى.

وكما في الحديث السابق (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده

، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك).

ومنها: أن سيد المرسلين كان كثير الذكر.

كما في حديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم.

ومنها: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله فيه.

كما سبق في حديث (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.

وكما في حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة فُضُلاً سيارة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادّوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا

) رواه مسلم.

ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته.

كما في حديث معاوية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تُهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني: أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) رواه مسلم.

ص: 36

ومنها: أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.

كما في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة وعلياً أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، فعلمها صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: إنه خير لك من خادم) متفق عليه.

قال ابن القيم: قيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم.

ومنها: أن كثرة ذكر الله أمان من النفاق.

قال تعالى في المنافقين وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال كعب: من أكثر ذكر الله برئ من النفاق.

ومنها: أن العبادات إنما شرعت لذكر الله.

ومنها: أنه من أحب الأعمال إلى الله.

كما أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً بقوله (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي.

ومنها: أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل.

فإن العبد لابد أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذكر أوامره، تكلم بهذه المحرمات أو بعضها.

•‌

‌ من أقوال السلف في ذكر الله تعالى:

قال أبو الدراء: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله.

وقال معاذ: ما عمل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.

وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس.

وقال كعب: من أكثر من ذكر الله برأ من النفاق.

وقال ابن تيمية: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.

وقال ابن القيم: الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم.

ص: 37

وقال: من أراد أن ينال محبة الله فليلهج بذكره.

وقال: وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة.

وعن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ويقول: أسبح بقدر ذنوبي.

وقال ابن السماك: رأيت مسعراً في النوم، فقلت: أي العمل وجدت أنفع؟ قال: ذكر الله.

وقال أحمد بن حنبل: صحبت هشيْماً أربع سنين أو خمس، ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له، وكان كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته.

وقال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت لكل ذنب مأئة ألف مرة.

وقالت رابعة العدوية لصالح المري: يا صالح، من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

وعن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.

وعن ميمون بن سياه قال: إذا أراد الله بعبده خيراً: حبب إليه ذكره.

وعن ذي النون المصري: ما طابت الدنيا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته.

(وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) أي: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي (ولا تكفرون) أي: ولا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي

عليها، أزيدكم فأتمم نعمتي عليكم.

• والشكر: هو القيام بطاعة المنعم اعترافاً بالقلب، وثناء باللسان، وطاعة بالأركان.

وفي ذلك يقول الشاعر: أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً

يدي ولساني والضمير المحجبا

فنعمة العين: أن لا ينظر بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة اليد أن لا يبطش بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة الرجِل أن لا يمشي بها إلا فيما يرضي الله، وشكر نعمة المال: أن لا يستعين به ويصرفه إلا فيما يرضي الله.

ص: 38

•‌

‌ كيف يتحقق الشكر؟

‌أولاً: سؤال الله ذلك.

كما قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).

وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا معاذ، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). رواه أبو داود

‌ثانياً: أن يعلم الإنسان أن النعم إذا شكرت قرت وزادت.

قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

‌ثالثاً: أن يعلم الإنسان أن الله سيسأله يوم القيامة عن شكر نعمه.

قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).

قال ابن كثير: أي ثم لتسألن عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ما ذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة.

‌رابعاً: أن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا، فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله.

قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم).

الشكر يكون من الله لعبده ومن العبد لربه.

فشكر العبد لربه كقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ). وقوله تعالى (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).

وتعريفه كما سبق وهو أن يستعمل نعمه في طاعة الله.

‌وشكر الله لعبده:

كقوله تعالى (ومَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).

وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)

ومعنى شكر الله لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، وإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً ردّه عليه أضعافاً مضاعفة.

لما عقر سليمان الخيل غضباً له إذ شغلته عن ذكره، فأراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح.

ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم عنها أن ملّكهم الدنيا وفتحها عليهم.

ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.

ص: 39

•‌

‌ فضائل الشكر:

أولاً: الله أمر به.

قال تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

ثانياً: التوبيخ على عدم الشكر.

قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ).

ثالثاً: الثناء على الشاكرين وأنه سبل الرسل.

قال تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً).

رابعاً: الشكر نفع للشاكر نفسه.

قال تعالى: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).

خامساً: أن الشكر إذا صدر من المؤمنين فهو مانع من نزول العذاب.

قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).

سادساً: أن الشكر سبب لزيادة النعم.

قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

سابعاً: أن الصفوة من عباد الله يسألون الله أن يوزعهم شكر نعمته.

قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).

ص: 40

ثامناً: أن الشاكرين قليلون.

قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

وهذا يدل على أنهم هم خواص الله.

‌الفوائد:

1 -

الأمر بذكر الله.

2 -

أن من ذكر الله ذكره الله.

3 -

فضيلة ذكر الله.

4 -

وجوب الشكر.

5 -

تحريم كفر النعمة.

ص: 41

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)).

[البقرة: 153].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان. (ابن عثيمين).

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وانقادوا وعملوا بجوارحهم.

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم

وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به. (الشنقيطي).

(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) تقدم شرحها عند آية [45].

الاستعانة بالصبر يكون:

في المصائب: بأن يحبس نفسه عن الجزع والتسخط.

وفي النّعم: بأن يحبس نفسه عن البطر، وكذلك يحبسها على فعل طاعة الله شكراً على هذا الإنعام والإفضال.

فالصبر يكون: صبر على طاعة الله، وصبر عن المعاصي، وصبر على الأقدار المؤلفة، وأفضلها الأول لأنه هو المقصود.

والاستعانة بالصلاة: فهي من أعظم من يعين على طاعة الله، وتحمل الأكدار والآلام والمصائب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.

(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الذين يصبرون على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى اقدار الله المؤلمة.

الفوائد:

1 -

الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة.

2 -

فضل الصلاة وأنها سبب لمعونة العبد في أموره.

3 -

أن الاستعانة بالصلاة من آثار الإيمان.

4 -

فضيلة الصبر، لأنه يعين على الأمور.

5 -

إثبات معية الله.

ص: 42

(ولا تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154)).

[البقرة: 154].

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا؛ بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عِمْرَان (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

• قال ابن كثير: يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم (أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة، فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة، فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.

•‌

‌ قال الماوردي: قوله تعالى (بَلْ أَحْيَاءٌ) في الآية تأويلان:

أحدهما: أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام.

والثاني: أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً

يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فجعل الضالَّ ميتاً، والمُهْتَدي حياً.

ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.

وقد رجح القول الأول الإمام فخر الدين الرازي فقال: اعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول.

• قال الشيخ ابن عثيمين: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ) المراد لا تقولوا أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد - فهذا موجود، ولولا أن أرواحهم فارقت أجسادهم لما دفناهم، ولكن الموت المطلق لم يقع منهم بدليل الإضراب الإبطالي في قوله تعالى (بل أحياء) يعني: بل هم أحياء، والمراد أنهم أحياء عند ربهم، كما في آية آل عمران، وهي حياة برزخية لا نعلم كيفيتها ولهذا قال:

(وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي: لا تشعرون بحياتهم، لأنها حياة برزخية، ولولا أن الله عز وجل أخبرنا بها ما كنا نعلم بها

ص: 43

•‌

‌ هذه الآية فيها دلالة واضحة على فضل الشهادة، وللشهادة فضائل كثيرة:

أولاً: من أسباب دخول الجنة.

كما في حديث الباب.

وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وعن جابر. قال (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل) متفق عليه.

ثانياً: الحياة بعد الاستشهاد مباشرة.

قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون).

وقال تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

ثالثاً: مغفرة الذنوب وتكفير السيئات.

قال تعالى (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن للشهيد عند الله ست خصال يغفر له عند أول دفعة من دمه

) رواه الترمذي.

رابعاً: تمني الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشر مرات.

عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرهُ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وفي رواية: لما يرى من الكرامة) متفق عليه.

صحيح مسلم (3/ 1498)

ص: 44

وعَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، غَيْرُ الشَّهِيدِ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» . رواه مسلم

خامساً: الشهيد في الفردوس الأعلى.

وعن أنس (أن أم حارثة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء، فقال رسول الله: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك

أصاب الفردوس الأعلى) متفق عليه.

سادساً: الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها.

عن جابر قال (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثّل به ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو -أو أخت عمرو- فقال: لم تبكي أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها). متفق عليه

سابعاً: الشهداء لا يفتنون في قبورهم:

عن المقداد بن معد يكرب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل لماذا الشهداء لا يسألون في قبورهم؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي.

قال ابن النحاس: ولا شك بأن من وقف للقتال ورأى السيوف تلمع وتقطع، والأسنة تبرق وتخرق، والسهام ترشق وتمرق، والرؤوس تندر، والدماء تثعب، والأعضاء تتطاير، وجاد بنفسه لله تعالى إيماناً به وتصديقاً بوعده ووعيده، فيكفيه هذا امتحاناً لإيمانه واختباراً له وفتنة، إذ لو كان عنده شك أو ارتياب لولى الدبر، وذهل عما هو واجب عليه من الثبات، وداخله الشك والارتياب.

ص: 45

ثامناً: الشهيد لا يشعر بألم القتل.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) رواه الترمذي.

قال علي: إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش.

تاسعاً: دم الشهيد أحب شيء إلى الله.

عن أبي أمامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهرق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله) رواه الترمذي.

عاشراً: الشهيد يشفع في أهل بيته.

عن أم الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته) رواه الترمذي.

الحادي عشر: لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة.

عن البراء بن عازب قال (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليل وأجر كثير) رواه البخاري.

فائدة: سمي الشهيد بذلك:

قال النووي: " قال النضر بن شميل: لأنه حي، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار الإسلام وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة ".

وقال ابن الأنباري: " إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة ".

ص: 46

وقيل: لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة.

وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه.

وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله.

وقيل: لأن عليه شاهداً بكونه شهيداً وهو الدم.

‌الفوائد:

1 -

النهي عن القول بأن الذين قتلوا في سبيل الله أموات.

2 -

التنبيه على الإخلاص في القتال.

3 -

إثبات حياة الشهداء، لكنها حياة برزخية، لا تماثل حياة الدنيا، بل هي أجل وأعظم.

4 -

إثبات نعيم القبر.

ص: 47

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)).

[البقرة: 155 - 157].

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده، أي: يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع

وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه.

(بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي: بقليلٍ من ذلك.

• المراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدو أو غيره، وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب والقحط.

• قال الخازن: قوله تعالى (بشيء .. ) وإنما قلله لأن ما واقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة.

• قال ابن عاشور: وجيءَ بكلمة (شيءٍ) تهويناً للخبر المفجع.

(وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ) أي: ذهاب بعضِها.

(وَالْأَنْفُسِ) كموت الأصحاب والأقارب والأحباب.

(وَالثَّمَرَاتِ) أي: لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، أو ما يصيبها من الآفات.

•‌

‌ وقد أخبر الله في آيات كثيرة أنه يبتلي عباده في هذه الدار الدنيا:

قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

وقال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

وقال تعالى عن سليمان لما رأى عرش ملكة سبأ مستقراً عنده (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

•‌

‌ وقد ذكر بعض العلماء فوائد الابتلاء:

• قال القاسمي: وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام، رحمه الله تعالى، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. . .

ص: 48

قال عليه الرحمة: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس:

أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.

والثانية: معرفة ذلة العبودية وكسرها، وإليه الإشارة بقوله تعالى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.

والثالثة: الإخلاص لله تعالى؛ إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه، ولا معتمد في كشفها إلا عليه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ).

الخامسة: التضرع والدعاء (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا)(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ).

السادسة: الصبر عليها، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه.

قال تعالى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وقال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

السابعة: تمحيصها للذنوب والخطايا.

قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير).

الثامنة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها.

فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.

التاسعة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.

ص: 49

العاشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية.

قال تعالى (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

وقال تعالى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر. فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية.

الحادية عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر.

فإن نمرود، لو كان فقيراً سقيماً، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطرُ الملك على ذلك، وقد علل الله سبحانه وتعالى مُحاجّته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) وقال تعالى (وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال تعالى (إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) وقال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).

الثانية عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى، فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا والرضا أفضل من الجنة وما فيها؛ لقوله تعالى (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي: من جنات عدن ومساكنها الطيبة.

•‌

‌ وقال ابن القيم:

منها: معرفة عز الربوبية وقهرها.

ومنها: معرفة ذل العبودية وكسرها، وإليه الإشارة بقوله (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.

ومنها: الإخلاص لله تعالى، إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ولا معتمد في كشفها إلا عليه.

ومنها: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه.

ومنها: التضرع والدعاء.

ص: 50

•‌

‌ وقال ابن رجب: في فوائد البلاء:

تذكير العبد بذنوبه فربما تاب ورجع.

زوال قسوة القلوب وحدوث رقتها.

انكساره لله وذلهِ وذلك أحب إلى الله من كثير من طاعات الطائعين.

انها توجب للعبد الرجوع بقلبه إلى الله والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة.

أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوق

أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به.

‌قال بعض السلف:

إن العبد ليُمرَض فيذكر ذنوبه فيخرج منه مثل رأس الذباب من خشية الله فيغفر له.

‌وقال بعض العلماء:

في بعض الكتب السابقة إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الصابرين على المصائب بالثواب، و التبشير: الإخبار بما يسر، وهذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يقدر على التبشير.

•‌

‌ ثم بيّن من هم فقال:

(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) من موت قريب أو هلاك مال أو غيرها من المصائب.

(قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي: تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة.

• قال الطبري: يعني تعالى: وبشر يا محمد الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرون بعبوديتي، ويوحدوني بالربوبية، ويصدقون بالمعاد والرجوع إلي، فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي، ويخافون عقابي، ويقولون - عند امتحاني إياهم ببعض محني - إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون، تسليماً لقضائي ورضاً بأحكامي.

ص: 51

• وقال القرطبي: جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتَحنين؛ لما جمعت من المعاني المباركة؛ فإن قوله:"إنَّا لِلَّهِ" توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله (وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ) إقرار بالهلْك على أنفسنا والبعث من قبورنا؛ واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيًّا قبل نبيّنا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسَفي على يوسف.

• وقد جاء في صحيح مسلم عن أُم سَلَمَة. قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا». قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِى سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبَ بْنَ أَبِى بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ

).

(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ثناء عليهم من ربهم في الملأ الأعلى.

(وَرَحْمَةٌ) عطفها على الصلوات من باب عطف العام على الخاص، لأن الثناء عليهم في الملأ الأعلى من الرحمة.

(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي: الذين اهتدوا إلى طريق الحق، فإن هذا الكلام الذي يقولونه مع الصبر هو الهداية.

• قال ابن القيم: الصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق فلا بد منها.

الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر.

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه.

السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.

السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع، ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم له.

ص: 52

الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لا تحصل بدونه.

التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه.

العاشر: أن يعلم أن الله سبحانه يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء. [طريق الهجرتين: 283].

‌الفوائد:

1 -

ابتلاء العباد بما ذكر اختباراً وامتحاناً.

2 -

أن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: صابر، وساخط.

3 -

البشرى للصابرين.

4 -

أن من سمة الصابرين تفويض أمورهم إلى الله.

5 -

مشروعية هذا القول عند المصيبة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا

).

ص: 53

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)).

[سورة البقرة: 158].

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) جبلان معروفان بمكة، يسعى بينهما الحاج أو المعتمر.

(مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي: من أعلام دينه ومناسكه التي تعبّدنا الله بها.

• قال الشيخ ابن عثيمين: (من شعائر الله) من: للتبعيض، يعني بعض شعائر الله، والشعائر جمع شعيرة، وهي التي تكون عَلَماً في الدين، يعني من معالم الدين الظاهرة، وليس المراد أن نفس الجبل من الشعائر، بل المراد الطواف بهما من الشعائر.

قال تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

• وفي هذا مشروعية السعي بين الصفا والمروة.

(فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) أي: قصد البيت الحرام لأداء مناسك الحج.

(أَوِ اعْتَمَرَ)(أو) للتنويع، لأن قاصد البيت إما أن يكون حاجاً، وإما أن يكون معتمراً.

والعمرة لغة: الزيارة، والمراد بها: زيارة البيت لأداء مناسك العمرة.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي: لا حرج ولا إثم عليه أن يسعى بينهما.

وهذه الآية يوضح معناها سبب النزول، كما قال ابن تيمية: إن سبب النزول يوضح معنى الآية.

عن عُرْوَةُ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا) متفق عليه.

ص: 54

وعَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَقَالَ كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) إِلَى قَوْلِهِ (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).

• قال البغوي: سبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان إساف ونائلة، وكان إساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله.

فكان الناس يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، لأن الناس كانوا في الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة لصنمين كانا عليهما، فلما جاء الإسلام وتركوا الأوثان والأصنام تحرجوا من الطواف بهما، فنزلت هذه الآية.

وعلى هذا يكون النفي هنا لدفع ما وقع في نفوسهم من التحرج، وليس لبيان أصل الحكم.

وقال بعض العلماء: أنهم كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله (إن الصفا والمروة من شعائر الله).

(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قيل: يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع، وقيل: المراد تطوع خيراً في سائر العبادات.

• قول من قال (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي: زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب فهو ضعيف.

(فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ) هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، وإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً ردّه عليه أضعافاً مضاعفة.

لما عقر سليمان الخيل غضباً له إذ شغلته عن ذكره، فأراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح.

ص: 55

ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم عنها أن ملّكهم الدنيا وفتحها عليهم.

ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.

(عَلِيمٌ) أي: ذو علم واسع محيط بكل شيء، فهو سبحانه عليم بجميع أعمال عباده وما يستحقونه من الجزاء.

‌الفوائد:

1 -

أن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الدين.

2 -

أن من حج أو اعتمر فلا بد أن يسعى بينهما.

3 -

أهمية معرفة سبب النزول، لأنه يوضح المعنى ويزيل الإشكال.

4 -

فضل التطوع بالخير والإكثار منه.

5 -

أن شاكر، يثيب على القليل الكثير، فضلاً منه ونعمة.

6 -

رحمة الله بعباده.

7 -

إثبات علم الله الكامل.

ص: 56

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)).

[البقرة: 159 - 160]

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة، والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه أنزلها على رسله.

• واختلف في المراد من ذلك: فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق.

[فتح القدير: 1/ 177].

• قال الطبري: وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معنيّ بها كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس.

• وقد رجح الإمام فخر الدين الرازي أيضاً: أن الآية تتناول كل من كتم شيئاً من الدين واستدل له بوجوه:

أحدها: أن اللفظ عام والعارض الموجود، وهو نزوله عند سبب معين لا يقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وثانيها: أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف.

وثالثها: أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله، والله تعالى يقول (إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى) فحملت الآية على العموم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس: أكثر أبو هريرة. وتلا (إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى). [مفاتيح الغيب: 148].

ص: 57

(مِنَ الْبَيِّنَاتِ) أي: من الآيات البينات (وَالْهُدَى) وهو العلم النافع الذي يهتدي به الخلق (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ) أي: أظهرناه، والضمير راجع إلى قوله: ما أنزلنا (لِلنَّاسِ) عموماً (فِي الْكِتَابِ) المراد جميع الكتب.

(أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) أي: يطردهم ويبعدهم عن رحمته.

(وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي: يطلبون من الله أن يلعنهم، ولم يبين هنا ما اللاعنون، ولكنه أشار إلى ذلك في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

وقيل: المراد باللاعنين هنا دواب الأرض وهوامها كالعقارب والخنافس وغير ذلك.

وقيل: كل من يتأتى منه اللعن فيدخل في ذلك الجن،

وقيل: المراد باللاعنين الملائكة والمؤمنون، ورجحه ابن عطية. [فتح القدير: 1/ 177].

• في الآية وعيد شديد وتحريك كبير لمن يكتمون العلم.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وقال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة) رواه أبو داود.

• قال ابن تيمية: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لما في ذلك من عموم النفع لكل شيء، وعكسه كاتموا العلم، فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

وقال: فَتَرْكُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِتَبْلِيغِ الدِّينِ كَتَرْكِ أَهْلِ الْقِتَالِ لِلْجِهَادِ وَتَرْكِ أَهْلِ الْقِتَالِ لِلْقِتَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ كَتَرْكِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلتَّبْلِيغِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ كِلَاهُمَا ذَنْبٌ عَظِيم.

ص: 58

• قال ابن رجب: وأيضًا فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درّت البركات ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم، حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته، ويستبشر أهل السماء بما يرتفع لأهل الأرض من الطاعات والأعمال الصالحات فيستغفرون لمن كان السبب في ذلك.

وعكس هذا أن من كتم العلم الذي أمر الله بإظهاره لعنه الله وملائكته وأهل السماء والأرض، حيث سعى في إطفاء نور الله في الأرض، الذي بسبب إخفائه تظهر المعاصي والظلم والعداوة والبغي.

قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

وقد قيل أنها نزلت في أهل الكتاب، الذين كتموا ما عندهم في كتابهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان أبو هريرة يقول: "لَوْلَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا أَبَدًا. وَيَتْلُو هَذِه الآيَةَ".

وفي سنن ابن ماجه عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) قَالَ:"دَوَابّ الأَرْضِ".

وقد روي هذا موقوفًا على البراء.

• قال ابن المبارك رحمه الله:

وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ

وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا

وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا

ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا

لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ

يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا

وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته (يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية؟).

قال عبد الله بن المبارك: إذا كتم العالم علمه، ابتلي: إما بموت القلب، أو ينسى، أو يتبع السلطان

(إلَّا الَّذِينَ تَابُوا) هذا استثناء من الله من هؤلاء من تاب إليه فقال (إلَّا الَّذِينَ تَابُوا) أي: رجعوا عما كانوا فيه، والتوبة الرجوع من معصية الله إلى طاعته، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن كتمان ما أنزل الله إلى بيانه ونشره.

(وَأَصْلَحُوا) أي: أصلحوا نياتهم وأحوالهم وأعمالهم، وأصلحوا ما بينهم وبين الله.

• قال ابن عاشور: وشُرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم.

ص: 59

(وَبَيَّنُوا) أي: الذي كتموه.

(فَأُولَئِكَ) الذين تابوا وأصلحوا وبينوا.

(أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي: أقبل منهم التوبة، لأن توبة الله على العبد نوعان:

أحدهما: توفيق الله للعبد للتوبة، كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) بمعنى وفقهم للتوبة ليتوبوا.

الثاني: قبولها من العبد إذا تاب، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). [قاله الشيخ ابن عثيمين].

(وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تقدم تفسيرها عند آية: 128.

‌الفوائد:

1 -

اليهود والنصارى كتموا صفات النبي لصدّ الناس عن الإيمان به.

2 -

كتم العلم خيانة للأمانة التي جعلها الله في أعناق العلماء.

3 -

يجب نشر العلم وتبليغه إلى الناس لتعمّ الهداية جميع البشر.

4 -

من كتم شيئاً من أحكام الشرع الحنيف استحق اللعنة المؤبدة.

ص: 60

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162))

[البقرة: 161 - 162].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي: من كفر واستمر كفره حتى الممات.

(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ) أي: أبعدهم من رحمته وطردهم.

(وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي: يطلبون من الله أن يلعنهم.

واختلف العلماء بالمراد في الناس هنا، فقيل: المؤمنون فقط، وقيل: المراد أغلب الناس، لكن هذا ضعيف، لأن أغلب الناس كفار كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ولذلك الصحيح أن الكافر يلعن الكافر، ويكون لذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فكوْن الكافر يلعن الكافر في الدنيا بأن يدعو الكافر مثلاً على الظالم، فإذا قال الكافر - مثلاً - اللعن الظالم، دخل هو نفسه في اللعنة، وأما كون الكفار يلعن بعضهم بعضاً في الآخرة فهذا واضح من قوله تعالى (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وكذلك من قوله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).

•‌

‌ استدل بهذه الآية من قال بجواز لعن الكافر، ولعن الكافر على أنواع:

‌أولاً: لعن الكفار جملة فهذا جائز

كما في هذه الآية.

وقوله تعالى (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

‌ثانياً: الكافر المعين، فهذا فيه خلاف:

فقيل: لا يجوز.

وممن ذهب إلى هذا الغزالي، وذكره الإمام النووي.

قالوا: ربما يسلم.

وقيل: يجوز.

ص: 61

لحديث عمر بن الخطاب (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله) رواه البخاري.

قالوا: فدل على من لا يحب الله ورسوله يلعن.

والذي يظهر الجواز خاصة إذا كان ممن يؤذي المسلمين.

•‌

‌ وأما العصاة لمسلمين:

فلعنهم جملة جائز ولا بأس.

قال تعالى (لعنة الله على الظالمين).

وقال تعالى (لعنة الله على الكاذبين).

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق

) وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكل الربا

).

• وأما العاصي المعين: فلا يجوز لعنه اتفاقاً.

للحديث السابق (حيث كان يؤتى به ويجلد في شرب الخمر، قال صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، وفي رواية: لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم).

(خَالِدِينَ فِيهَا) قيل: في اللعنة، وقيل: في النار، ورجح الرازي الأول وقال: والأول أولى لوجوه.

الأول: أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر.

الثاني: أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى.

الثالث: أن قوله (خالدين فِيهَا) إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال، بل لا بد من التأويل؛ فكان ذلك أولى.

ص: 62

(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) أي: لا يخفف عنهم طرفة عين. بل هو دائم متواصل.

كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).

وقال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون).

وقال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي: ولا يُمهلون أو يؤجلون، بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى، وفي الآخرة لا مهلة ألبتة فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم (اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ).

وقيل: هومن النظر أي: لا ينظر الله إليهم فيرحمهم.

• قال الماوردي: (وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.

والثاني: لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم.

‌الفوائد:

1 -

أن من مات على الكفر فهو ملعون.

2 -

أن من مات على الكفر فإن مأواه النار خالداً فيها.

3 -

من أنواع عذاب الكفار في النار، أنهم لا يخفف عنهم ولا يمهلون.

ص: 63

(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)).

[البقرة: 163].

(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يخبر تعالى عن تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له ولا عديل، هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد.

كما قال تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

وقال تعالى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).

وقال تعالى (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ).

وقال تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).

معنى (الأحد) المتوحد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك.

ومعنى (الواحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده بلا شريك.

ففي هذه الآية: إثبات وحدانية الله تعالى، الذي لا إله إلا هو، وحده لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو الواحد الذي ليس له ند ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل قال تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وقال (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

وقد بيّن سبحانه بأنه لم يأمر إلا بأن يعبد وحده ويفرد بالعبادة فقال (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).

وكفّر وضل من اتخذ إلهاً سواه أو معه، قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وقال سبحانه (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ).

• وكيف يعبد غيره، والله سبحانه قد تفرد بالخلق والإيجاد والرزق والإمداد والبسط والقبض، والرفع والخفض، قال تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).

• وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم رسوله إلى اليمن أن يبدأ أولاً بدعوتهم إلى توحيد الله، كما في حديث ابن عباس قال (بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن

قاله له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم أن يوحدوا الله) متفق عليه.

(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله بحق إلا هو سبحانه.

ص: 64

كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

• فالله هو المنفرد باستحقاق العبودية، فلا يُعبد أحد سواه كائناً من كان، بأي نوع من أنواع العبادات، فلا قيام ولا ركوع ولا سجود ولا ذبح ولا نذر إلا له وحده تعالى، ولا يدعى في السر والضراء واليسر والعسر والفرح والغم إلا هو سبحانه وتعالى.

• وهذا الذي بُدء به آية الكرسي هو أصل دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، ما بعث الله تعالى من نبي إلا وأوحي إليه أنه لا إله إلا هو.

قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) وهذه عقيدة لم تختلف فيها النبوات.

وبيّن تعالى أن دعوة الرسل عليهم السلام كانت لدعوة الناس إلى هذا الأساس، فقال سبحانه (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ

اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

• قال ابن كثير: وبعث في كل أمة، أي في كل قرن وطائفة رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه.

وهكذا الأنبياء كانت دعوة كل واحد منهم (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

والله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ).

وقد طبق صلى الله عليه وسلم ذلك ونشره ودعا غليه.

كان يأتي سوق المجاز ويقول: (يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) رواه أحمد.

وأمر معاذاً حينما أرسله لليمن بأن يكون أول ما يدعوهم إليه توحيد الله فقال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله .. ) متفق عليه.

•‌

‌ وقد وردت أحاديث في فضل: لا إله إلا الله:

منها: قوله صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء الله ختم له بها دخل الجنة) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) متفق عليه.

ص: 65

•‌

‌ فضائل كلمة التوحيد:

أولاً: هِيَ كَلِمَةُ اَلْإِخْلَاصِ، وَشَهَادَةُ اَلْحَقِّ وَدَعْوَةُ اَلْحَقِّ، وَبَرَاءةٌ مِنْ اَلشِّرْكِ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَ اَلْخَلْقُ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون).

ثانياً: وَلِأَجْلِهَا أُرْسِلَتْ اَلرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ اَلْكُتُبُ.

قَالَ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون).

وقال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

ثالثاً: هي ثَمَنُ اَلْجَنَّةِ.

قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ اَلْجَنَّة) رواه أبو داود.

رابعاً: وهي نَجَاةٌ مِنْ اَلنَّارِ.

وَسَمِعَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، فَقَالَ خَرَجَ مِنْ اَلنَّارِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

خامساً: وهي أَحْسَنُ اَلْحَسَنَاتِ:

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلِّمْنِي عَمَلاً يُقَرِّبُنِي مِنَ اَلْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنْ اَلنَّارِ، قَالَ: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ مِنَ اَلْحَسَنَاتِ؟ قَالَ هِيَ أَحْسَنُ اَلْحَسَنَات).

سادساً: وَهِيَ: تُجَدِّدُ مَا دُرِسَ مِنَ اَلْإِيمَانِ فِي اَلْقَلْبِ.

كما في اَلْمُسْنَدِ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ قَالُوا كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

سابعاً: وَهِيَ اَلَّتِي لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ فِي اَلْوَزْنِ، فَلَوْ وُزِنَتْ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ رَجَحَتْ بِهِنَّ.

كَمَا فِي اَلْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهِ إِلَّا اَللَّهُ، فَإِنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ كُنَّ فِي حَلْقَةٍ مُبْهَمَةٍ قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

ص: 66

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبُّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا. قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ

شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى! لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

ثامناً: وَهِيَ أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ اَلْمَرْفُوع (أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه) رواه الترمذي.

تاسعاً: ومن أعظم فضائلها:

ما جاء فِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ وَلَهُ اَلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ اَلشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك).

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيل).

عاشراً: وَمِنْ فَضَائِلِهَا أَنَّهَا تَفْتَحُ لِقَائِلِهَا أَبْوَابَ اَلْجَنَّةِ اَلثَّمَانِيَةِ. يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.

كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَر. قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ اَلْجَنَّةِ") أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

ص: 67

وَفِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اَللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ اَلْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ اَلنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا.

الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم.

•‌

‌ لكن ما الفرق بينهما؟

قيل: الرحمن: ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة الخاصة للمؤمنين يوم القيامة

واستدلوا بقوله تعالى (وكان بالمؤمنين رحيماً).

وقيل: الرحمن يدل على الصفة العائدة على الله من الرحمة، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، فالرحمن دال على أن الرحمة صفته، والرحيم دال على أنه يرحم خلقه برحمته. وهذا أصح وهو اختيار ابن القيم

إذن: الرحمن تدل على الوصف، والرحيم تدل على الفعل، أي: على أنه يرحم.

ومما يضعف القول الأول قوله تعالى (إن الله بالناس لرؤوف رحيم).

(الرحمن) على وزن فعلان، وهو ذو الرحمة الواسعة. (والرحيم) الموصل رحمته لمن يشاء من عباده.

(الرحمن) مختص بالله لا يسمى به غيره ولا يعرف أحد تسمى به، قال ابن كثير: ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب.

• والفرق بين الرحمن والله: الله مختص بالله لفظاً ومعنى، وأما الرحمن مختص بالله لفظاً لا معنى، فإن المخلوق يوصف بالرحمة.

ص: 68

•‌

‌ وقد قسّم العلماء رحمهم الله الرحمة إلى قسمين:

عامة - وخاصة.

فأما العامة: فهي الشاملة لجميع الخلق (المؤمن والكافر والبر والفاجر)، فكل الخلق تحت رحمة الله عز وجل.

وأما الرحمة الخاصة: فهي التي تختص بالمؤمنين.

والفرق بينهما: أن الرحمة الخاصة تتصل برحمة الآخرة، فيكون لله على المؤمنين رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة.

وأما الرحمة العامة: فلا أثر لها إلا في الدنيا، ولذلك الكفار في الآخرة يعاملون بالعدل ولا يعاملون بالرحمة

(وقد تقدم الكلام على صفة الرحمة).

‌الفوائد:

1 -

وحدانية الله تعالى.

2 -

تحريم اتخاذ ند وشريك مع الله.

3 -

وجوب عبادة الله وحده لا شريك له.

4 -

أنه لا إله حق إلا الله.

5 -

أن كل آلهة غير الله فهي باطلة.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الرحمن والرحيم.

7 -

إثبات صفة الرحمة لله تعالى.

ص: 69

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)).

[البقرة: 164]

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع.

وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر في السماوات والأرض الدالة على توحيده وعظمته وجلاله في آيات كثيرة:

فقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).

وقال تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ).

وقال تعالى (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).

وقال تعالى (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

وقال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

• وهما من أعظم المخلوقات، بل جعلها الله من أدلة البعث، حيث أن من قدر على خلق الأعظم فهو على غيره من باب أحرى.

قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

قَدِيرٌ).

ص: 70

وقال تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا).

• وخلقهما سبحانه بالحق كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

وقال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ).

فمن الحق الذي كان خلقهما من أجله: إقامة البرهان على أنه الواحد المعبود وحده جل وعلا.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ولما بين تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق، قال في صفات من يستحق العبادة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).

والآيات في مثل ذلك كثيرة تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.

ومن الحق الذي من أجله خلق السموات والأرض، تعليمه لخلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

ومن الحق الذي من أجله خلق السماوات والأرض وما بينهما: هو تكليف الخلق، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ).

• قال السعدي: قوله تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض، من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير، وتسخير، تنبهر له العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها، وعلمه وحكمته، ورحمته الواسعة، ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره، الذي تفرد به، وعظمته، وعظمة ملكه وسلطانه، مما يوجب أن يؤله ويعبد، ويفرد بالمحبة والتعظيم، والخوف والرجاء، وبذل الجهد في محابه ومراضيه.

ص: 71

•‌

‌ وهذا البرهان ذكره الله تعالى في عدة مواضع:

قال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

وقال تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).

وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) أي: والسفن الضخمة الكبيرة التي تسير في البحر على وجه الماء، بما فيه

مصالح الناس من أنواع المتاجر والبضائع.

فمن الذي ألهمهم صنعتها، وأقدرهم عليها، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر، تجري فيه بإذنه وتسخيره، والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية، النار والمعادن المعينة على حملها، وحمل ما فيها من الأموال؟

فهل هذه الأمور، حصلت اتفاقاً، أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز، الذي خرج من بطن أمه، لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة، وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد، حكيم عليم، لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته، واستكانت لعظمته، وخضعت لجبروته.

وغاية العبد الضعيف، أن جعله الله جزءاً من أجزاء الأسباب، التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، والخوف والرجاء، وجميع الطاعة، والذل والتعظيم. (تفسير السعدي).

(وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) أي: وما أنزل الله من السحاب المطر به حياة البلاد والعباد. كمال تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ).

• أليس ذلك دليلاً على قدرة من أنزله، وأخرج به ما أخرج ورحمته، ولطفه بعباده، وقيامه بمصالحهم، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلاً على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟

(تفسير السعدي).

ص: 72

•‌

‌ وهذا البرهان ذكره الله تعالى في عدة مواضع:

قال تعالى (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).

وقال تعالى (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).

•‌

‌ المراد بالسماء هنا العلو، وذلك أن السماء يُطلق على معنيين:

المعنى الأول: العلو، كقوله تعالى هنا (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ) المراد بالسماء هنا العلو، لأن المطر ليس ينزل من السماء السقف، بل ينزل من العلو.

المعنى الثاني: المراد بالسماء السقف، كما في قوله تعالى (والسَّمَاءَ بِنَاءً).

(وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي: نشر وفرّق في الأرض من كل ما يدب عليها من أنواع الدواب، على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

كما قال تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

• قوله تعالى (من كل دابة) قال القرطبي: ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير وهو مردود، قال الله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته.

• فمن الدواب: ما يأكلون من لحمه، ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم، ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها. (تفسير السعدي).

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي: تقليب الرياح في هبوبها جنوباً وشمالاً، حارة وباردة، وليّنة وعاصفة.

• قال ابن كثير: فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوقه، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن.

ص: 73

• وقال الطبري وتصريف الله إياها: أن يرسلها مرة لواقح، ومرة يجعلها عقيماً، ويبعثها عذاباً تدمر كل شيء بأمر ربها. (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي: سائر بين السماء والأرض، مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى.

• قال الشنقيطي: لم يبين هنا كيفية تسخيره، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله (وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)، وقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ).

(لَآياتٍ) أي: لعلامات ودلالات وبراهين.

• قال القاسمي: عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كَمّاً وكيفاً.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه.

• قال السعدي: والحاصل، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك، أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب دلالات، على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر، وأنها مسخرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.

فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.

• يختم الله كثيرًا من الآيات عندما يبين للعباد الأصول و الأحكام النافعة بقوله: لعلكم تعقلون وهذا يدل على أمور:

منها: أن الله يحب منا أن نعقل أحكامه و إرشاداته و تعليماته، فنحفظها و نفهمها و نعقلها بقلوبنا، ونؤيد هذا العقل ونثبته بالعمل بها.

ومنها: أنه كما يحب منا أن نعقل هذا الحكم الذي بينه بيانًا خاصًا، فإنه يحب أن نعقل بقية ما أنزل من الكتاب و الحكمة، وأن نعقل آياته المسموعة و آياته المشهودة.

ص: 74

و منها: أن هذا أكبر دليل على أن معرفة ما أنزل الله إلينا من أعظم ما يربي عقولنا ويجعلها عقولاً تفهم الحقائق النافعة والضارة، وترجح هذه على هذه، ولا تميل بها الأهواء و الأعراض و الخيالات و الخرافات المفسدة للعقول.

• قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوتة.

•‌

‌ قال ابن القيم: الرب تبارك وتعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:

أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة.

فالنوع الأول كقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

).

وقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) وهو كثير في القرآن

والثاني كقوله (أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقوله (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) وقوله (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ).

•‌

‌ قال ابن القيم مبيناً من يعتبر بآيات الله الكونية والشرعية:

قال تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) وقال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) فأخبر عن آياته المشهودة العيانية أنها إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر، كما أخبر عن آياته الإيمانية القرآنية أنها إنما ينتفع بها أهل التقوى والخشية والإنابة ومَن

كان قصده اتباع رضوانه، وأنها إنما يتذكر بها من يخشاه سبحانه كما قال (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) وقال في الساعة (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا).

وأما من لا يؤمن بها ولا يرجوها ولا يخشاها فلا تنفعه الآيات العيانية ولا القرآنية، ولهذا لما ذكر سبحانه في سورة هود عقوبات الأمم المكذبين للرسل وما حل بهم في الدنيا من الخزي، قال بعد ذلك (إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة) فأخبر أن في عقوباته للمكذبين عبرة لمن خاف عذاب الآخرة.

ص: 75

•‌

‌ وآيات الله تنقسم إلى قسمين:

الآيات الكونية القدرية. (فهي مما نشاهده مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها).

وهي ما نصبه الله (جل وعلا) ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد المستحق للعبادة، كالشمس والسماء والأرض ونحوها، وكل ما في الكون من مخلوقات الله شاهد بكمال الله وقدرته وعزته وأنه المستحق للعبادة.

قال تعالى (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لعلامات واضحة جازمة قاطعة بأن من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده.

الآيات الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم. (لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله).

ومنه قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).

وسميت آيات، جمع آية، لأنها علامة على صدق من جاء بها.

الكفر بالآيات الكونية يكون بأمور: أن يجحد أن الخالق سبحانه خلقها فيدعي أن الذي خلقها غير الله، أو أن يعتقد أن له شريكاً في خلقه، أو أن له معيناً في خلقه.

والكفر بالآيات الشرعية إما بجحودها، أو بتكذيبها، أو بالاستكبار والعناد.

‌الفوائد:

1 -

عظم خلق السماوات والأرض.

2 -

أن السموات متعددة.

3 -

أنه ينبغي للإنسان أن يتأمل في هذه المخلوقات وعظم خلقتها، ليزداد إيمانه.

4 -

أن من أعظم الآيات اختلاف الليل والنهار وما يحدث بسبب ذلك.

5 -

أن اختلاف الليل والنهار من رحمة الله وحكمته.

6 -

عظم نعمة الله بالفلك التي تجري بالبحر.

7 -

من رحمة الله إنزال المطر.

8 -

قدرة الله العظيمة.

9 -

وجوب تعظيم الله.

10 -

أن الله يدعو للنظر والتفكر في آياته الكونية والشرعية.

ص: 76

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)).

[البقرة: 165 - 167].

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) يخبر تعالى عن حال المشركين حيث جعلوا له نداً يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، والند: النظير والمماثل المناوئ، والمراد به هنا الأوثان.

• وقد اختلف العلماء في معنى (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) على قولين:

أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أنداداً.

ورجح هذا القول ابن تيمية وقال: إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة، ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له.

والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله.

• قال ابن القيم: فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى، وأن المؤمن أشد حبا لله من كل شيء وقال أهل النار في النار (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) ومن المعلوم أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة، وإلا فلم يقل أحد قط أن الصنم أو غيره من الأنداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي أفعاله، وفي خلق السماوات والأرض، وفي خلق عباده أيضاً، وإنما كانت السوية في المحبة والعبادة.

• وعقوبة جعل لله نداً النار، لأنه ارتكب أعظم ذنب.

قال صلى الله عليه وسلم (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) متفق عليه.

وحينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) متفق عليه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه) أي: أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه، والمشركون إذا اتخذوا صنماً ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني.

قال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء.

• قال ابن كثير: ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئاً بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: الذين جعلوا مع الله أنداداً وأشركوا به.

• فإن الشرك ظلم، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير، أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على الشرك.

ص: 77

كما قال تعالى عن العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال: بشرك، ثم تلا قول لقمان (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقال تعالى (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي: من المشركين.

ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى (كلنا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً) أي ولم تنقص.

•‌

‌ الظلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الشرك.

وهو أعظم الظلم وأشده.

كما قال تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقال تعالى (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي: من المشركين.

قال ابن رجب: فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فوضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين، إنما أريد به المشركون كما قال الله تعالى (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

والثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي.

كما قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ).

والثالث: ظلم العبد لغيره.

ص: 78

كما في الحديث (قال الله: إني حرمت الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.

وعن ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الظلم ظلمات يوم القيامة) متفق عليه.

(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أي: حين يرون العذاب.

• والرؤية هنا بصرية (على قراءة فتح الياء: يَرون)، أي: بأبصارهم.

والمعنى: لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة لله جميعاً.

(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي: أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه.

(وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) أي: قوي العقوبة.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) تبرأ الذين عُبدوا من دون الله كالأوثان والملائكة والجن والشيطان والرؤساء وعيسى عليه السلام، فكل من عُبِد من دون الله يتبرأ من عابديه (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي: من أتباعهم.

فالملائكة تتبرأ: كما قال تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

وكذلك الشيطان يتبرأ من تابعيه: كما قال تعالى عنه (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وكذلك الأوثان تتبرأ من عابديها: قال تعالى (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

والجن تتبرأ منهم وينتصلون من عبادتهم لهم: كما قال تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ). [بعض العلماء حمل هذه الآية على أن المعبودين من دون الله هم الجن].

ص: 79

وقال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) أي: سيخونونهم أحوج ما

يكونون إليهم.

وقال الخليل لقومه (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

وكذلك الجبابرة والرؤساء والظلمة يتبرأون: قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ).

(وَرَأَوُا الْعَذَابَ) أي: عاينوا عذاب الله.

(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب) أي: تقطعت بهم الحيَل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً.

(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا) أي: لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة، وهم كاذبون في هذا كما قال تعالى (ولَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون).

(كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) أي: أنه تعالى كما أراهم شدة عذابه، كذلك يريهم أعمالهم حسرات عليهم، أي: كذلك يري الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لِمَ عملوا بها؟ وهلاّ عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندماً عليهم. [تفسير الطبري: 2/ 91]

فأعمالهم تذهب وتضمحل.

ص: 80

كما قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً).

وقال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

قال تعالى عن يوم القيامة (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

• قال ابن عاشور: سؤال: لم أضيفت الأعمال إليهم؟

الجواب: وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها.

• قوله تعالى (حسرات .. ) الحسرة شدة الأسف.

(وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) أي: ليس لهم سبيل إلى الخروج من النار، بل هم في عذاب سرمدي وشقاء أبدي.

كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)

وقال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون).

وقال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).

‌الفوائد:

1 -

تحريم اتخاذ الند لله.

2 -

وجوب إخلاص العبادة لله في المحبة.

3 -

أن المحبة من العبادة.

4 -

أن من جعل لله نداً في المحبة فهو ظالم.

5 -

تحريم الظلم، وأشده الشرك بالله تعالى.

6 -

أن المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم.

7 -

ثبوت العقاب.

8 -

ثبوت العذاب.

9 -

تحسر هؤلاء وأمثالهم تحسراً عظيماً.

10 -

إثبات نكال الله بهم.

11 -

أن المشركين مخلدون في النار.

12 -

إثبات النار.

ص: 81

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)).

[البقرة: 168 - 169].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) الخطاب لجميع البشر، أي: كلوا مما أحله الله لكم من الطيبات.

• قوله تعالى (حلالاً) أي: ما كان حلالاً في كسبه. (طيباً) أي: طيباً في ذاته. نافعاً لآكله في دينه.

وهذا القول أولى من قول إن (طيباً) تأكيد، لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد.

• قوله تعالى (حلالاً طيباً) فلا يجوز أكل الخبيث والمحرّم.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) نهي من الله عن اتباع خطوات الشيطان وهي: طرائقُه ومسالكه.

والخطوات جمع خُطْوة، ويقال بالفتح خَطوة، وهي ما بين القدمين حال الخَطُو.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي: ظاهر العداوة، وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله) وثلاثة منها في قوله تعالى (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك. [تفسير الرازي].

• وقد حذرنا الله في آيات كثيرة عن اتباع خطواته:

كما قال تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (ومِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

وقال تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

وقال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

ص: 82

•‌

‌ فيجب الحذر من خطوات الشيطان لأنه عدو ظاهر مبين لنا:

• فهو يحب أن يحزن المؤمن.

كما قال تعالى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وأحب شيء إلى الشيطان: أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه.

• وهو يخوف المؤمنين بالأعداء.

كما قال تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: يخوفكم بأوليائه.

• ويخوف بالفقر.

كما قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) فيخوف المسلم من الفقر وذلك لأمور:

أولاً: ليُمسك عن الصدقة فيحرمه أجرها وثوابها العظيم.

ثانياً: ليصيبه بالقلق والحزن.

ثالثاً: ليشك بوعد الله (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه).

رابعاً: ليقدم على أكل الحرام خوفاً من الفقر كما قال تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين).

• ويحث على الرياء في الإنفاق والتبذير.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً).

وكما قال تعالى (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).

• ومن أعماله: الدعوة إلى الكفر والارتداد عن الدين.

كما قال تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

وقال تعالى عن الهدهد (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).

وقال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).

• ومن أعماله: زرع العداوة والبغضاء بين الناس.

كما قال تعالى (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

وقال تعالى عن يعقوب (قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً).

ص: 83

• ومن تزيينه تسمية المعاصي بأسماء محببة لكي يخفي خبثها.

كما قال لآدم (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى).

قال ابن القيم: وقد ورّث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تُحِبُ النفوسُ مسمياتها، فسموا الخمر بأم الأفراح.

وفي عصرنا يسمون الربا بالفائدة، والتبرج الفاضح بحرية المرأة، والمغنية الفاسقة بالفنانة.

•‌

‌ عقبات الشيطان:

العقبة الأولى: عقبة الكفر بالله تعالى.

فإنه إن ظفر في هذه به بردت نار عداوته واستراح.

العقبة الثانية: عقبة البدعة.

إما باعتقاد خلاف حق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله.

فإن نجا منها بنور السنة:

العقبة الثالثة: عقبة الكبائر.

فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوّف به.

فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله أو بتوبة نصوح طلبه على:

العقبة الرابعة: عقبة الصغائر.

فكان له منها بالقُفز، وقال: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أوَما علمت بأنها تكفّر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه.

ص: 84

العقبة الخامسة: عقبة المباحات التي لا حرج على فعلها.

فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية.

العقبة السادسة: عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات.

فأمره بها وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسباً وربحاً؟ [مدارج السالكين: 1/ 237].

(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) فهذا كالتفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثة: أولها: السوء، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب، أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة.

وثانيها: الفحشاء: وهي نوع من السوء، لأنها أقبح أنواعه، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي.

وثالثها: (أَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ) وكأنه أقبح أنواع الفحشاء، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى (وَلَا تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان) فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله.

• قوله تعالى (والسوء) أي الأعمال السيئة، وسميت سيئة، لأنها تسوء صاحبها في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا بظهور آثارها عليه من الهمّ والضيق في الصدر والخلق والرزق، فيفقد من السعادة في الحياة بقدر ما عمل من السوء، قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وقال تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). وتسوؤه آجلاً بعد موته لمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه، وربما تسوء غيره بأن يتعدى ضررها إلى الغير مباشرة، أو بأن يكون لها أثرها السيئ على البلاد والعباد عامة بمحق البركات وقلة الخيرات، كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم (ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء). رواه ابن ماجه

ص: 85

• قوله تعالى (والفحشاء

) أي: الزنا واللواط هذه نوع من السوء، فيكون من باب عطف الخاص على العام، فالفحشاء: ما قبح من الأعمال الشنيعة.

‌الفوائد:

1 -

منّة الله على عباده، حيث أباح لهم جميع ما في الأرض.

2 -

أن الأصل في الأشياء الطهارة.

3 -

تحريم اتباع خطوات الشيطان.

4 -

ينبغي على المسلم معرفة عدوه الشيطان ليتجنبه.

5 -

تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم.

6 -

أن الشيطان لا يأمر بالخير.

7 -

أن الإنسان إذا وقع في قلبه همّ بالسيئة أو بالفاحشة فليعلم أنها من الشيطان.

8 -

تحريم القول على الله بلا علم.

9 -

أن القول على الله بلا علم من أوامر الشيطان.

ص: 86

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)).

[البقرة: 170 - 171].

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ) قيل: المراد بهؤلاء: متخذي الأنداد، ويكون المعنى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، واختاره ابن كثير حيث لم يذكر في تفسيره غيره.

[تفسير ابن كثير: 1/ 190].

وقيل: أن المراد (وإذا قيل لهم) أي الناس الذين خوطبوا بقوله (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) والمعنى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان

وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، وهذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله. [تفسير الطبري: 2/ 94].

(اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلالة والجهل.

•‌

‌ فيه وجوب اتباع ما أنزل الله:

كما قال تعالى (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ).

وقال تعالى (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

(قَالُوا) في جواب ذلك:

(بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، أي: من عبادة الأصنام والأنداد، كما في الآية الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

قال الرازي: (أَلْفَيْنَا) بمعنى وجدنا، بدليل قوله تعالى في آية أخرى (بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى (إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءهُمْ ضَالّينَ).

ص: 87

‌قال تعالى منكراً عليهم:

(أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ) الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم.

(لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) أي: ليس لهم فهم ولا هداية.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل.

(كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) أي: كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.

هذا التأويل الأول للآية: أي: مثل واعظ الذين كفروا الذي يعظهم مع هؤلاء الكفار كمثل صاحب بقر أو غنم أو بهيمة يناديها وينعق بها فتسمع ما يقول لكنها لا تفقه منه شيئاً، واختار هذا ابن كثير.

• قال السعدي:

أخبر تعالى أن مثلهم - عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان - كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها.

وعلى هذا القول يكون المثل قد ضُرب بالمدعو الذي لا يستجيب لا الداعي.

والتأويل الثاني: أن هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً، ورجح هذا ابن جرير.

وعلى هذا القول يكون هذا المثل في حال المشركين مع معبوداتهم، والأول أصح.

ص: 88

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي: صم عن سماع الحق، بكم لا يتفوهون به، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه.

(فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي: لا يعلمون شيئاً ولا يفهمونه.

‌الفوائد:

1 -

ذم التعصب بغير هدى.

2 -

أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء.

3 -

وجوب اتباع ما أنزل الله.

4 -

أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدى، وقد قال تعالى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

5 -

ذم من يسمع ولا يستجيب.

6 -

أن من يسمع الحق ولا يستجيب له فيه شبه من هؤلاء الذين ذكرهم الله.

7 -

فضل من سمع الحق واستجاب له وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وقال تعالى (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وقال تعالى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى).

8 -

أن من طبع الله على قلبه فإنه يكون كالبهيمة، فلا يسمعون الحق ولا يقولون به.

ص: 89

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)).

[البقرة: 172 - 173].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم تعالى.

والآيات الدالة على إباحة الطيبات وتحريم الخبائث كثيرة:

قال تعالى (ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).

وقال تعالى (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ).

وقال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ).

والله أمر المرسلين بذلك فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .. ).

•‌

‌ واختلف بالمراد بالطيب الذي أباحه الله:

فقيل: الطيبات هي المحللات، وقيل: المراد بالطيبات ما تستطبه العرب، وقيل: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعاً لآكلهِ في دينه، وهذا اختيار ابن تيمية.

• هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة.

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) أي: قوموا بشكره على نعمه عليكم، بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم. [وقد تقدم مباحث الشكر]

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي: اشكروا لله تعالى إن كنتم فعلاً تعبدونه وتخضعونه له.

والعبادة: هي التذلل لله بالطاعة، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

•‌

‌ إن رزق الله للعبد يستلزم شكره:

فسليمان عندما رأى عرش بلقيس عنده مستقراً (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

ص: 90

ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقول: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.

(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي: ما حرم عليكم ربكم إلا الخبائث كالميتة وهي: التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة.

• والميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل.

• يستثنى من ذلك: ميتة البحر لقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)، قال ابن عباس: صيد البحر ما أخذ حي، وطعامه ما أخذ ميتاً.

وعن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبو داود.

ويستثنى كذلك الجراد.

(وَالدَّمَ) أي: وحرم عليكم الدم، والمراد هنا الدم المسفوح كما قال تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ).

(وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) أي: وحرم عليكم لحم الخنزير.

قال القرطبي: لا خلاف في تحريم خنزير البر.

‌وقد ذكر الله تحريمه في عدة آيات:

فقال تعالى كما في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ).

وقال تعالى في سورة الأنعام (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ).

• وهو حيوان سمج والعين تكرهه، له نابان كنابي الفيل، ورأسه كرأس الجاموس، وهو حرام لحمه وشحمه وجميع أجزائه.

•‌

‌ الحكمة من تحريمه:

كثرة الديدان في لحم الخنزير، ولأن أشهى غذائه القاذورات والنجاسات، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القاتلة، ويقال: إن له تأثيراً سيئاً في العفة والغيرة.

(وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) الإهلال المراد به رفع الصوت، والمعنى: وما ذبح وذكر عليه اسم غير الله تبارك وتعالى، وكانوا يذكرون اسم آلهتهم على الذبيحة ويرفعون أصواتهم بذلك.

ص: 91

(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي: ألجأته الضرورة إلى الأكل من المحرمات.

لكن بشرط:

(غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) لا يكون باغياً ولا عادياً [وسيأتي المراد بهما]

(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: فلا عقوبة عليه في الأكل.

•‌

‌ في هذه الآية جواز الأكل من الميتة عند الضرورة، وهنا مباحث:

‌أولاً: تعريف الضرورة لغة وشرعاً:

قال ابن منظور: الاضطرار الاحتياج إلى الشيء وقد اضطره إليه أمر.

وشرعاً: للضرورة تعاريف متقاربة في المعنى عند الفقهاء، ومن ذلك ما يأتي:

قيل: إنها بلوغه حداً إن لم يتناول الممنوع هلك إذا قارب وهذا يبيح تناول الحرام.

وقيل: ومعنى الضرورة هاهنا خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل، والمعنى متقارب.

‌ثانياً: بيان حد الاضطرار الذي يبيح تناول المحرم:

حد الاضطرار هنا يتبين من مجموع الآيات الواردة في الموضوع، وهي:

قوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).

فأطلق في هذه الآية الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها.

قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

فقيد الإباحة في هذه الآية بأن يكون المضطر غير باغ ولا عاد لكنه لم يبين سبب الاضطرار ولم يبين المراد بالباغي والعادي.

قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فبين سبحانه سبب الاضطرار وهو المخمصة.

وإذاً: يمكننا أن نقول: إن حد الاضطرار المبيح لتناول المحرم هو أن يخاف على نفسه التلف بسبب الجوع ولم يجد ما يتغذى به من الحلال، بشرط أن يكون غير متجانف لإثم، وهو الباغي والعادي.

•‌

‌ وقد اختلف العلماء في المراد بالباغي والعادي على قولين:

القول الأول: أن المراد بالباغي هو الخروج على إمام المسلمين، والإثم الذي يتجانف إليه العادي هو إخافة الطريق وقطعها على المسلمين، ويلحق بذلك كل سفر معصية لله، لأن في ذلك إباحة على المعصية وذلك لا يجوز.

فعلى هذا القول: الباغي: الخارج على الإمام، والعادي: قاطع الطريق، وكل مسافر سفر معصية.

ص: 92

القول الثاني: أن المراد بالباغي: الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه.

ورجح هذا التفسير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: وأما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب، وهو قول أكثر السلف

وليس في الشرع ما يدل على أن العاصي بسفره لا يأكل الميتة ولا يقصر، بل نصوص الكتاب والسنة عامة مطلقة.

ورجح هذا القول القرطبي والإمام ابن جرير.

ثالثاً: بيان حكم تناول الطعام المحرم في حال الضرورة.

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يجب على المضطر الأكل من الميتة ونحوها.

وهذا قول الحنفية والصحيح من مذهب المالكية وأحد الوجهين في مذهب الحنابلة، وأصح الوجهين عند الشافعية.

لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

ولقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وترك الأكل مع إمكانه في هذه الحال؛ إلقاء بيده إلى التهلكة، ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحل الله له فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال.

القول الثاني: أنه لا يلزمه في هذه الحال الأكل من المحرم.

لأن له غرضاً في تركه وهو أن يتجنب ما حرم عليه، ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص.

والراجح القول الأول أنه يجب عليه أن يأكل في هذه الحال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قال: ويجب على المضطر أن يأكل ويشرب ما يقيم به نفسه، فمن اضطر إلى الميتة أو الماء النجس فلم يشرب ولم يأكل حتى مات دخل النار.

رابعاً: بيان مقدار ما يباح للمضطر تناوله من المحرم.

يباح له أكل ما يسد به الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع، ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع.

‌واختُلف في حكم الشبع على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يباح له الشبع.

وهو قول أبي حنيفة وأحد الروايتين عن أحمد وأحد القولين للشافعي.

وهو قول ابن الماجشون من المالكية.

قالوا: لأن الآية دلت على تحريم ما ذكر فيها، واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحال الابتداء.

ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية، يحققه أن حاله بعد سد رمقه كحاله قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا هاهنا.

القول الثاني: أن له الشبع.

وهذا قول مالك وأحد القولين في مذهب الشافعي.

ص: 93

لحديث جابر بن سمرة (أن رجلاً نزل الحرة فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته: اسلخها حتى نقدر شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: (هل عندك غنى يغنيك؟) قال: لا، قال: فكلوها) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بأكل ولم يحدد.

القول الثالث: التفصيل بين من يخشى استمرار الضرورة فيحل له الشبع، ومن ضرورته مرجوة الزوال فلا يحل له إلا سد الرمق، لأن من ضرورته مستمرة إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد من الميتة مخافة الضرورة، ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف من ليست ضرورته مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له.

وهذا احتمال في مذهب الحنابلة، ذكره صاحب المغني، وقول في مذهب الشافعي.

وهذا القول هو الراجح.

خامساً: هل يجوز للمضطر أن يتزود من الطعام المحرم؟

الصحيح أنه يجوز له ذلك، وهذا قول مالك ورواية عن أحمد وهو قول الشافعية.

لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته، ولا يأكل منها إلا عند ضرورته.

سادساً: إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير.

سابعاً: كل المحرمات إذا اضطر إليها، وزالت بها الضرورة كانت مباحة، قلنا (وزالت بها الضرورة) احترازاً مما لا تزول به الضرورة، كما إذا ما اضطر الإنسان إلى أكل سم، فلا يجوز أن يأكل، لأنه لا تزول بها ضرورته، بل يموت به، ولو اضطر إلى شرب خمر لعطش لم يحل له، لأنه لا تزول به ضرورته، ولذلك لو احتاج إلى شربه لدفع لقمة غص بها حل له، لأنه تزول به ضرورته.

ص: 94

ثامناً: لو اضطر لميتة آدمي، فالمشهور عند الحنابلة أنه لا يجوز أن يأكلها، وقالت الشافعية: إنه يجوز أكلها عند الضرورة، وهو الصحيح. (الشيخ ابن عثيمين).

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا تعليل للحكم، فالحكم انتفاء الإثم، والعلة (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(غَفُورٌ) سبق شرحها.

• قال السعدي: ولما كان الحل مشروطاً بهذين الشرطين، وكان الإنسان في هذه الحالة، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها، أخبر تعالى أنه غفور، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال، خصوصاً وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة.

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة (الضرورات تبيح المحظورات) فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن، فله الحمد والشكر، أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.

(رَحِيمٌ) ومن رحمته أنه أباح المحرمات حال الضرورة، ومن رحمته يغفر الزلات والخطيئات.

‌الفوائد:

1 -

فضيلة الإيمان.

2 -

الأمر بالأكل من طيبات ما رزق الله.

3 -

أن الخبائث لا يؤكل منها.

4 -

أن ما يحصل للإنسان من مأكول فإنه من رزق الله.

5 -

وجوب شكر الله.

6 -

وجوب الإخلاص لله تعالى.

7 -

أن الشكر من تحقيق العبادة.

8 -

تحريم أكل الميتة.

9 -

نجاسة الميتة والدم ولحم الخنزير وكل ما أهل لغير الله.

10 -

أن التحريم والتحليل إلى الله.

11 -

أن الضرورة تبيح المحظور، لكن هذه الضرورة تبيح المحرم بشرطين:

الأول: صدق الضرورة، بحيث لا يندفع الضرر إلا بتناول المحرّم.

والثاني: زوال الضرورة به حيث يندفع الضرر، كما تقدم.

12 -

أن تناول المحرم بدون عذر إثم ومعصية.

13 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغفور، والرحيم.

ص: 95

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)).

[البقرة: 174 - 176].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ) يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة.

ولهذا قال تعالى:

(وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) الضمير في قوله (به) يرجع إلى الشيء المكتوم، أي: أنهم يشترون بالشيء الذي كتموه ثمناً قليلاً من متاع الدنيا، كالرشا أو المناصب أو الجاه عند أتباعهم.

• معنى اشتروا: أي استعاضوا عنه بثمن قليل من المنافع الدنيوية.

• وسماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته.

• وفي الآية أن من موانع الهداية أن يكون للإنسان في الباطل شهرة ومكانة.

• وهذه الآية وإن كانت في اليهود لكنها لا تختص بهم، فكل من كتم علماً فهو داخل في هذه الآية.

•‌

‌ قال الشيخ ابن عثيمين: المنحرف عن الدين وعن نشر العلم ينحرف لأحد سببين:

السبب الأول: خشية الناس.

السبب الثاني: الطمع في الدنيا.

قال تعالى في سورة المائدة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قليلاً).

(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم). [تفسير ابن كثير: 1/ 92]

ص: 96

وقيل: معنى (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي: أنه يوجب عليهم عذاب النار، فسمى ما أكلوه (من الرشا وغيرها) ناراً لأنه يؤول بهم إليها، وما ذكره ابن كثير أقرب وأصح.

• وهذا الحكم وإن كان خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ، فهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: لا يكلمهم تكليم رضا، فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام، وإلا فالله عز وجل يكلم الكفار ويوبخهم كما قال تعالى (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ. قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ).

•‌

‌ يوم القيامة، سمي بذلك:

أولاً: لأن الناس يقومون من قبورهم، قال تعالى (يوم يقوم الناس لرب العالمين).

ثانياً: ولقيام الأشهاد، لقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).

ثالثاً: ولقيام الملائكة، لقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً

).

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي: لا يثني عليهم بخير.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: موجع، والعذاب هو: النكال والعقوبة.

(أُولَئِكَ) المشار إليهم (الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب).

(الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي: (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أي: اختاروا واعتاضوا (الضَّلالَةَ) وهي هنا كتمان العلم، وهو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وكتم صفته التي في كتبهم (بِالْهُدَى) وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به واتباعه وتصديقه.

• قال أبو حيان: وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة، واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة، وعدم النظر في العواقب.

• قال الشيخ ابن عثيمين: (اشتروا) بمعنى اختاروا، ولكنه عبر بهذا، لأن المشتري طالب راغب في السلعة، فكان هؤلاء - والعياذ بالله - طالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري.

ص: 97

(وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي: واختاروا العذاب بالمغفرة، وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة وهو كتم العلم.

(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) هذه الآية للتعجب، قال الطبري: أي: ما أجرأهم على النار، أي: ما أجرأهم على عذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها.

• وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذاً بالله من ذلك. [تفسير ابن كثير: 1/ 192].

وقيل: إن (ما) استفهامية، والمعنى: ما الذي أصبرهم على النار؟ والقول الأول هو الصحيح وهو مذهب الجمهور كما ذكر ذلك الشوكاني.

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي: ذلك العذاب الذي يجازون به بسبب كتمهم للكتاب، بسبب أن الله أنزل الكتاب -التوراة - بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.

وقيل: المراد ب (الكتاب) جنس الكتب ويشمل التوراة والإنجيل والقرآن.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) قيل: المراد بالكتاب التوراة، والذين اختلفوا فيه هم اليهود والنصارى، وقيل: المراد بالكتاب القرآن، والذين اختلفوا فيه هم اليهود والنصارى والمشركين، فبعضهم يقول: هو سحر، وبعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: كهانة.

(لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد) أي: في خلاف بعيد عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب.

‌الفوائد:

1 -

تحريم كتم العلم.

2 -

أن كتم العلم من صفات اليهود.

3 -

عظم جرم كتم العلم.

4 -

وجوب نشر العلم.

5 -

أن الكتب منزلة من عند الله.

6 -

علو الله عز وجل.

7 -

أن متاع الدنيا قليل ولو كثر.

8 -

خطر فتنة الدنيا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الدنيا .. ).

9 -

إقامة العدل في الجزاء.

10 -

إثبات الكلام لله تعالى.

ص: 98

(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)).

[البقرة: 177].

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) لما أمر الله تعالى المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

) وقال الثوري: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ

) قال: هذه أنواع البر كلها. قال ابن كثير: وصدق رحمه الله، فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخذ بمجامع الخير كله.

• البر اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى.

(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجود الله تعالى.

وقد دل على وجوده: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.

أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه.

وأما دلالة العقل على وجوده تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها، لا بد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.

وأما دلالة الحس على وجود الله: فإننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، قال تعالى:(وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ).

الثاني: الإيمان بربوبيته.

أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.

الثالث: الإيمان بألوهيته.

أي بأنه وحده الإله لا شريك له.

الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.

أي إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ويشمل الإيمان بجميع ما يكون بعد الموت.

(وَالْمَلائِكَةِ) الملائكة: عالم غيبي مخلوقون، عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الروبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه.

ص: 99

‌والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بوجودهم.

الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، كجبريل، ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالاً.

الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة جبريل، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على صفته التي خلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق.

الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة.

(وَالْكِتَابِ) اسم جنس يشمل جميع الكتب المنزلة على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله.

•‌

‌ والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقاً.

الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه من عند الله باسمه.

الثالث: تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.

الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ منها، والرضا والتسليم به.

(وَالنَّبِيِّينَ) أي: وآمن برسل الله كلهم من أولهم إلى آخرهم.

‌والإيمان بالرسل والأنبياء يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى.

الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم، مثل: محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، وأما من لم نعلم اسمه منهم فنؤمن به إجمالاً.

الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.

الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.

(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي أخرجه وهو محب له راغب فيه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر).

• وهذه الآية مثل: قوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً).

وقوله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

وقوله (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).

ص: 100

• فقوله تعالى (على حبه) على حب المال، هذا القول هو الصحيح، وهو قول الأكثر، خلافاً لمن قال إن الضمير في قوله (على حبه) يرجع إلى الله، أو من قال يرجع إلى الإيتاء، أي على حب الإيتاء.

• فإنفاق المال على حبه من أفضل القربات وأعظمها، لأن المال محبوب للنفس.

• واختلف العلماء في هذه الآية (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) فقيل: يَحْتَمِلُ بِهِ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ ويحتمل: أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّطَوُّعَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا الْوَاجِبَةُ، وَإِنَّمَا فِيهَا حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَوَعْدٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهَا أَنَّهَا مِنْ الْبِرِّ، وَهَذَا لَفْظٌ يَنْطَوِي عَلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، إلَّا أَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ، وَنَسَقِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الزَّكَاةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) فَلَمَّا عَطَفَ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّكَاةَ بِالصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهَا.

• قال الرازي: وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت، والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه:

أحدها: أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال (لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ).

وثانيها: أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت.

وثالثها: أن إعطاءه حال الصحة أشق، فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني.

ورابعها: أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه لأحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا ههنا.

وخامسها: أنه متأيد بقوله تعالى (لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) وقوله (وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ) أي على حب الطعام.

• وقال السعدي: بيَّن به أن المال محبوب للنفوس، فلا يكاد يخرجه العبد، فمن أخرجه مع حبه له تقرباً إلى الله تعالى، كان هذا برهاناً لإيمانه.

ص: 101

ومن إيتاء المال على حبه: أن يتصدق وهو صحيح شحيح، يأمل الغنى، ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة، كانت أفضل، لأنه في هذه الحال، يحب إمساكه، لما يتوهمه من العدم والفقر.

وكذلك إخراج النفيس من المال، وما يحبه من ماله كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه. (تفسير السعدي).

(ذَوِي الْقُرْبَى) وهم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث (الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرجم ثنتان: صدقة وصلة) رواه الترمذي، فهم أولى الناس بك وببرِك وإحسانِك، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز.

(وَالْيَتَامَى) هم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب.

(وَالْمَسَاكِينَ) وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم.

• قيل: سمي المسكين بذلك لأن الفقر أسكنه، وقيل: سمي بذلك لأنه ساكن إلى الناس من أجل أن يجد كفايته.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة الله، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه.

ص: 102

• والسبيل الطريق، وسمي بابن السبيل لأنه ملازم لها.

(وَالسَّائِلِينَ) وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات.

(وَفِي الرِّقَابِ) وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم (والمكاتب: العبد إذا اشترى نفسه من سيده بمبلغ من المال على أقساط معلومة)، ويدخل في الرقاب إعتاق العبيد ابتداء، وكذلك يدخل فيه فك الأسارى.

(وَأَقَامَ الصَّلاةَ) أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.

(وَآتَى الزَّكَاةَ) أي: وأعطى الزكاة الواجبة.

والزكاة: هي قدر واجب في مال مخصوص لطائفة أو جهة مخصوصة بشروط مخصوصة، وسميت بذلك لأنها تزكي المال وصاحب المال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ).

ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين قبل ذلك، إنما هو التطوع والصلة.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) أي: ويوفون بالعهود ولا يخلفون الوعود.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وقال تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ).

وقال تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ).

وعكس هذه الصفة النفاق كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) متفق عليه.

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ) أي في حال الفقر.

• قال السعدي: لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.

ص: 103

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاماً غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم، فكل هذه ونحوها، مصائب، يؤمر بالصبر عليها، والاحتساب، ورجاء الثواب من الله عليها.

(وَالضَّرَّاءِ) وفي حال المرض والأسقام، وخصوصاً مع تطاول ذلك، لأن النفس تضعف، والبدن يألم، وذلك في غاية المشقة على النفوس، فإنه يؤمر بالصبر، احتساباً لثواب الله.

(وَحِينَ الْبَأْسِ) أي: في حال القتال والتقاء الأعداء.

قال السعدي: لأن الجلاد، يشق غاية المشقة على النفس، ويجزع الإنسان من القتل، أو الجراح أو الأسر، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتساباً، ورجاء لثواب الله الذي منه النصر والمعونة، التي وعدها الصابرين.

• ونص على هذا الصبر في هذه المواضع لصعوبته وشدته.

• والبأس يطلق في القرآن على (3) إطلاقات:

بمعنى العذاب: كقوله تعالى (لينذر بأساً شديداً من لدنه) وقوله (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا).

وبمعنى القتال والمعركة: كقوله تعالى (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

وبمعنى: الفقر والضيق: كقوله تعالى (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ).

ص: 104

(أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات، هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا.

(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.

• قال القرطبيُّ: تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام:

الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو: المسافر المنقطع، وقيل: الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.

• وقال ابن عاشور: فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم. وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.

فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة، وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.

والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيراً من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا.

وفيها أيضاً تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر، والنبيين، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة.

ص: 105

‌الفوائد:

1 -

أن البر حقيقة هو الإيمان بالله وما ذكره تعالى في هذه الآية.

2 -

أن الإيمان باليوم بالآخر من أكبر الحوافز على الإيمان بالله، ولذلك دائماً يقرن الله بينه وبين الإيمان به.

3 -

وجوب الإيمان بالملائكة.

4 -

وجوب الإيمان بالكتب.

5 -

وجوب الإيمان بالرسل جميعهم وأنهم بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة.

6 -

فضل ومنزلة إعطاء المال على حبه وفي الحديث (والصدقة برهان).

7 -

أن المال محبوب للنفوس.

8 -

أن إعطاء القريب من الصدقة وغيرها أفضل وأولى.

9 -

فضل الصدقة على المسكين واليتيم وابن السبيل والسائلين.

10 -

أن إقامة الصلاة من البر.

11 -

أن المعتبر إقامتها بخشوعها وأركانها ليس فقط فعلها جسدياً من غير خشوع.

12 -

الحرص والاجتهاد في إقامة الصلاة على أكمل الوجوه.

13 -

عظم منزلة الزكاة وأنها بعد الصلاة.

14 -

الثناء على الموفين بالعهد سواء مع الله أو مع الخلق.

15 -

فضل الصبر وأنه من أعلى المنازل.

16 -

أن من حقق هذه الصفات فقد صدق مع الله.

17 -

أن الصدق ليس بالدعاوى ولكن بالعمل والفعل.

18 -

أن القيام بالبر من التقوى.

ص: 106

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)).

[سورة البقرة: 178]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وانقادوا وعملوا بجوارحهم.

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به.

• والإيمان شرعاً: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.

•‌

‌ تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان. (الشيخ ابن عثيمين).

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) أي: فرض عليكم المماثلة والعدل في القصاص حركم بحركم، وعبدِكم بعبدِكم وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزا وتعتدوا فتقتلوا غير الجاني، فإن أخْذ غير الجاني ليس بقصاص بل هو ظلم واعتداء.

• قال السعدي: يمتن تعالى على عباده المؤمنين، بأنه فرض عليهم (الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل على الصفة، التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل والقسط بين العباد.

وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول، إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص، كما عليه عادة الجاهلية، ومن أشبههم من إيواء المحدثين.

• كتب عليكم: أي فرض عليكم.

• قال الرازي: قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) فمعناه: فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين:

أحدهما: أن قوله تعالى (كتب) يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام).

والثاني: لفظة (عَلَيْكُمْ) مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى (وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت).

والقصاص: لغة تتبع الأثر كالقصص، واصطلاحاً: هو أن يفعل بالجاني كما فَعل، إن قَتَل قُتِل، وإن قطع طرفاً قُطِع طرفه،

وهكذا.

ص: 107

• قال الرازي: أما القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، من قولك: اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله، قال تعالى (فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا) وقال تعالى (وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصّيهِ) أي اتبعي أثره، وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي، وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس، ويسمى المقص مقصاً لتعادل جانبيه.

• ففي هذه الآية وجوب القصاص، لكن إذا عفا أولياء المقتول أو قبلوا الهدية سقط القصاص لقوله تعالى بعد ذلك (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) ولقوله صلى الله عليه وسلم (ومن قتُل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُودي وإما أن يُقاد) متفق عليه.

• قوله تعالى (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ

) أي: فإذا قتل الحرُّ الحرَّ فاقتلوه به، وإذا قتل العبدُ العبدَ فاقتلوه به، وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوا الأنثى، وهذا لا إشكال فيه.

• وظاهر الآية أن الرجل لا يقتل بالمرأة لقوله (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) مع أن جماهير العلماء على أن الرجل يقتل بالمرأة بل نقل بعضهم الإجماع كالقرطبي، ويدل لذلك حديث أنس (أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق، فقال: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين) متفق عليه.

‌والجواب عن ظاهر الآية:

أولاً: قال بعض العلماء: إن الآية نزلت في قوم لا يرضون إذا قُتل العبد منهم أن يقتل قاتله العبد من القبيلة التي تركته ويقولون لا نرضى مقابله إلا رجلاً حراً أفضل من قاتله، وإذا قتلت امرأة من غيرهم امرأة منهم لا يرضون بقتل المرأة القاتلة فقط ولكنهم يقولون نقتل مكانها رجلاً، وإذا قُتل منهم حر قالوا لا نرض بأن نقتل قاتله فقط بل لا بد أن نقتل أكثر من قاتله فنزلت الآية فيهم.

ثانياً: أنها منسوخة بقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي: إذا عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية، أو عفا بعض الأولياء، فإنه يسقط القصاص وتجب الدية.

ص: 108

• قال الشيخ ابن عثيمين (فمن عفي له) المعفو عنه القاتل (من أخيه) المراد به المقتول - أي من دم أخيه - فأيّ قاتل عفي له من دم أخيه شيء سقط القصاص.

• قال السعدي (فمن عفي له من أخيه) ترقيق وحث على العفو إلى الدية، وأحسن من ذلك العفو مجاناً.

• وقال الخازن: (فمن عفي له من أخيه شيء) أي: ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد، ورضي بالدية أو العفو عنها، أو قبول الدية في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه وأراد بالأخ ولي المقتول، وإنما قيل له أخ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم والمطالب به. وقيل: إنما ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بما هو ثابت بينهما من الجنسية وأخوة الإسلام.

• وقال ابن عاشور (فمن عفي له) هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفاً بأنه أخ تذكيراً بأخوة الإسلام وترقيقاً لنفس ولي المقتول؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخاً له كان من المروءة ألا يرضى بالقَوَد منه؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه.

وقال: في قوله (وأخيه) دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى سائر المعاصي التي هي دون الكفر، ولا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه.

(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي: فإذا عفى عنه، وجب على الولي (أي ولي المقتول) أن يتبع القاتل ويطالبه (بالمعروف) من غير أن يشق عليه ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب ولا يحرجه.

• قال الخازن (فاتباع بالمعروف) أي: فليتبع الولي القاتل بالمعروف فلا يأخذ أكثر من حقه ولا يعنفه.

• قال الرازي: الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسراً فالنظرة، وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجداً لغير المال الواجب، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات.

(وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) وعلى القاتل [أداء إليه بإحسان] من غير مطل ولا نقص ولا إساءة فِعْليّة أو قولية، فهل جزاء الإحسان بالعفو، إلا الإحسان بحسن القضاء، فكما أنه عفَى عنه فينبغي أن يحسن إليه بحسن القضاء. فالضمير في قوله (إليه) يعود على العافي بإحسان، والمُؤدَّى: ما وقع الاتفاق عليه.

• قال الرازي: فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل.

• قال الخازن (وأداء إليه بإحسان) أي: على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير مماطلة، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه.

ص: 109

• وحسن القضاء هذا مأمور به في كل ما يثبت في ذمم الناس للإنسان، مأمور من له حق بالاتباع بالمعروف، ومن عليه الحق بالأداء بالإحسان.

(ذَلِكَ) المشار إليه كل ما سبق من جواز العفو إلى الدية.

(تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَط.

(وَرَحْمَةٌ) بالجميع، بالقاتل، حيث سقط عنه القتل، وبأولياء المقتول حيث أبيح لهم أن يأخذوا العوض.

(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي: فمن اعتدى بعد أخذ الدية وقبولها.

• قال الرازي: المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه، فنهى الله عن ذلك.

وقيل المراد: أن يقتل غير قاتله، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ.

(فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) عذاب أليم موجع شديد يوم القيامة وقد جاء في الحديث (من أصيب بقتل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص منه، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها) رواه أحمد.

وقيل: العذاب في الدنيا: القتل في الدنيا، لأنه قتله بعد عفوه وأخذ الدية منه، فلما قتله بعد ذلك صار معتدياً قاتلاً فوجب قتله.

ورجح الرازي الأول وقال المراد العذاب الأليم في الآخرة، وضعف القول الثاني وأن المراد به العذاب في الدنيا، لأن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة.

ص: 110

‌الفوائد:

1 -

وجوب إقامة القصاص.

2 -

أن تنفيذ القصاص من مقتضى الإيمان، لأن الخطاب موجه للمؤمنين.

3 -

أن ترك تنفيذه نقص في الإيمان.

4 -

أن الذكر يقتل بالذكر، وهذا بالإجماع، لقوله (الحر بالحر) لكن يشترط أن يكون القاتل مكلفاً، فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما بلا خلاف. قاله في الشرح.

ويشترط أن يكون المقتول معصوماً، فلا يجب القصاص بقتل حربي.

والمعصوم هو المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن.

5 -

أن العبد يقتل بالعبد، لقوله (والعبد بالعبد).

• واختلف العلماء: هل يقتل الحر بالعبد؟

القول الأول: أن الحر يقتل بالعبد.

وهذا مذهب الجمهور. الأدلة:

قوله تعالى: (الحر بالحر

).

ولحديث ابن عباس: (لا يقتل حر بعبد) رواه الدار قطني وفيه ضعف.

القول الثاني: أن الحر يقتل بالعبد.

وهذا مذهب الأحناف، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، لقوله تعالى:(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

قال ابن كثير: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد، لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود، وهو مروي عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم.

ص: 111

• وأما قوله: (الحر بالحر) فقد اختلف في تأويلها:

فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حراً، والعبد إذا قتل عبداً، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال بينه قوله تعالى:(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة. قاله مجاهد.

وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بآية المائدة.

6 -

أن الأنثى تقتل بالأنثى.

لقوله تعالى: (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى).

وتقتل المرأة بالرجل والرجل بالمرأة.

قال القرطبي: وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل.

وقال في المغني: وهذا قول أكثر أهل العلم.

لقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولما رواه أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها. رواه البخاري

• هل يقتل أحد الأبوين بالولد؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يقتل الوالد بولده.

لحديث عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا يقاد الوالد بولده) رواه أحمد

قال الترمذي بعد إخراجه: والعمل على هذا عند أهل العلم، أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل بولده.

ولأن الأب هو سبب لوجود الابن.

وقال بعض العلماء: إن الوالد يقتل بالولد.

وهذا قول ابن نافع وابن الحكم وابن المنذر، لعموم قوله تعالى:(النفس بالنفس) ورجحه الشيخ محمد رحمه الله.

• لا يقتل مسلم بكافر.

ص: 112

قال في الشرح: هذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية، وهو قول جمهور العلماء.

لحديث: (لا يقتل مؤمن بكافر) رواه أبو داود

وأما الكافر فيقتل بالمسلم بإجماع العلماء، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً رضخ رأس جارية من الأنصار.

ولأن المسلم أعلى مرتبة بإسلامه من الكافر.

7 -

فضيلة العفو في القصاص.

قال في الشرح: وهو أفضل بالإجماع.

لقوله تعالى: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

واختار شيخ الإسلام أنه إذا كان القاتل معروفاً بالشر والفساد، فإن القصاص منه أفضل

8 -

في قوله (أخيه) قال الشيخ السعدي: دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر؛ لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه.

9 -

أن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان.

10 -

الرد على الخوارج والمعتزلة.

11 -

وجوب الأداء على القاتل بالإحسان بلا مماطلة ولا تأخير.

12 -

أن المعتدي بعد انتهاء القصاص أو أخذ الدية متوعد بالعذاب الأليم.

ص: 113

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)).

[سورة البقرة: 179]

(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم، وهو قتل القاتل، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل. (ابن كثير).

• قال البقاعي (ولكم) أي يا أيها الذين آمنوا (في القصاص) أي: هذا الجنس وهو قتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة من غير مجاوزة ولا عدوان (حياة) أي: عظيمة بديعة لأن من علم أنه يُقتل لا يَقْتُل.

• قال الرازي: اعلم أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة، لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً، وفي حق من يراد جعله مقتولاً، وفي حق غيرهما أيضاً، أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قَتل قُتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً، وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هَمّ بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس، وفي تصور كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.

• وقال الرازي: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل، وأجود.

ص: 114

الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه:

أحدها: أن قوله (وَلَكُمْ فِي القصاص حياة) أخصر من الكل، لأن قوله (وَلَكُمْ) لا يدخل في هذا الباب، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، لأن قول القائل: قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم: القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله (فِي القصاص حياة) أشد اختصاراً من قولهم: القتل أنفى للقتل.

وثانيها: أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال، وقوله (فِي القصاص حياة) ليس كذلك، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سبباً لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سبباً لنوع من أنواع الحياة.

وثالثها: أن قولهم القتل أنفى للقتل، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله (فِي القصاص حياة) كذلك.

ورابعها: أن قول القائل: القتل أنفى للقتل لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله (فِي القصاص حياة) يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد.

وخامسها: أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى.

• وقال الإمام السيوطي: وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) فإن معناه كثير، ولفظه قليل، لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتل قُتل كان ذلك داعياً إلى أن لا يقدم على القتل، فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياة لهم.

وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل بعشرين وجهاً أو أكثر.

(يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) يقول: يا أولي العقول والأفهام والنهى.

• قيل: إنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس.

قال ابن عاشور: (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم، لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه، فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.

ص: 115

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه، لأن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة، والحكم البديعة، والآيات الرفيعة، أوجب ذلك أن ينقاد لأمر الله، ويعظم معاصيه فيتركها، فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.

• والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

‌الفوائد:

1 -

الحكمة العظمى في القصاص وهي الحياة الكاملة.

2 -

أن أحكام الله كلها غاية في الحكمة والعلم.

3 -

فضل معرفة حكم الله في تشريعاته وأحكامه.

4 -

أن يُفعل بالجاني كما فَعل، لأن بذلك يتم القصاص.

5 -

أن من فوائد القصاص أن يتقي الجناة القتل، واتقاهم للقتل من تقوى الله.

ص: 116

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)).

[سورة البقرة: 180 - 182]

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي فرض عليكم يا معشر المؤمنين.

(إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه، كالمرض المشرف على الهلاك، وحضور أسباب المهالك.

(إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو المال الكثير عرفاً، فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف، على قدر حاله من غير سرف، ولا اقتصار على الأبعد دون الأقرب.

• قال القرطبي: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي " النساء"(مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ) وفي " المائدة"(حِينَ الوصية) والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث.

• قوله تعالى (إن ترك خيراً) قال الرازي: فلا خلاف أنه المال ههنا، والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله (وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ)(وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير)، والمراد بالمال هنا الكثير: ويدل لهذا وجوه:

أولاً: أن من ترك درهماً لا يقال: إنه ترك خيراً، كما يقال: فلان ذو مال، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير، وكذلك إذا قيل: فلان في نعمة، وفي رفاهية من العيش، فإنما يراد به تكثير النعمة، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله.

ثانياً: لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك، سواء كان قليلاً، أو كثيراً، لما كان التقييد بقوله (إِن تَرَكَ خَيْرًا) كلاماً مفيداً، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئاً ما، قليلاً كان أو كثيراً، أما الذي يموت عرياناً ولا يبقى معه كسرة خبز، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته، فذاك في غاية الندرة.

ص: 117

• قال الخازن (إن ترك خيراً) يعني مالاً، قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري، فتجب الوصية في الكل، وقيل: إن لفظة الخير لا تطلق إلاّ على المال الكثير وهو قول الأكثرين.

• والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وصيةً لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير، كما ثبت في الصحيحين أن سعداً قال (يا رسول الله! إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنةٌ لي، أفأوصي بثلثيْ مالي؟ قال: لا، قال: فبالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) متفق عليه.

•‌

‌ اختلف العلماء في هذه الآية التي تدل على وجوب الوصية، هل هي منسوخة أم لا؟

القول الأول: أنها منسوخة.

ومن المفسرين الذين قالوا بالنسخ: الزمخشري، وابن عطية، والرازي، والألوسي، وابن عاشور.

فذهب جمهور أهل التفسير والفقه: إلى أنها منسوخة بآية المواريث (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ

).

وبعضهم يرى أنها منسوخة بحديث (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث). رواه الترمذي

ورجح هذا القول ابن كثير.

وذهب بعضهم إلى عدم النسخ، وأنه يمكن الجمع، فقالوا: وهنا يمكن الجمع عن طريق التخصيص، بأن يخرج من الآية الوارث منهما فلا وصية له بمقتضى الحديث، فتكون الآية في حق غير الوارث، ويكون الحديث في حق الوارث.

ورجح عدم النسخ السعدي وقال بالجمع حيث قال: واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة، ردها الله تعالى إلى العرف الجاري.

ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث، بعد أن كان مجملاً وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين، لأن كلاً من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظاً، واختلف المورد.

ص: 118

فبهذا الجمع، يحصل الاتفاق، والجمع بين الآيات، لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

• قوله تعالى (إن تَرَكَ خَيْراً) لم يبين الله عز وجل في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، لكن بينت السنة على أنه يجوز الوصية بالثلث، لحديث سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:(الثلث والثلث كثير) متفق عليه.

والأفضل أن يوصي بالخمس، اقتداء بأبي بكر فإنه أوصى بالخمس وقال (رضيت بما رضي الله به لنفسه) يعني قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ).

(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال ابن عاشور: لم خص هذا الحق بالمتقين؟

وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية، وقال ابن عطية: خص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبارى الناس إليها.

ص: 119

•‌

‌ بعض أحكام الوصية:

o < رمز> تعريفها:

الوصية: هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعد الموت.

مثال تبرع بالمال: أوصيت لفلان بعد موتي بـ (100) درهم.

مثال تصرف: وَصِيٍّ على أولادي الصغار فلان من الناس.

o < رمز> تجري الوصية في الأحكام التكليفية الخمسة:

1.

الاستحباب: تستحب الوصية لمن ترك خيراً، وهو المال الكثير.

2.

لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لغير الوارث، لحديث سعد:(الثلث والثلث كثير).

ولا تجوز الوصية لوارث بشيء، وهذا بالإجماع.

3.

تكره وصية فقير محتاج، لأن هذا يضر بالوارث.

4.

تجوز بالمال كله لكن لا وارث له.

5.

تجب الوصية على من عليه دين لا بينة به. مثال: إنسان في ذمته دين لشخص، وليس لصاحب الحق بينة، فهنا يجب أن يوصي حتى لا يضيع الحق.

o < رمز>يجوز الرجوع في الوصية من الموصي وتغييرها، لأن الوصية لا تثبت إلا بعد الموت، أما قبل الموت فهو حر.

(فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ) يقول تعالى: فمن بدل الوصية وحرفها، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى.

كمن أوصى لفلان من الناس، فجاء أحد الورثة وكتم هذه الوصية لئلا يذهب شيء من الميراث.

• قال القرطبيُّ: لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز؛ مثل: أن يوصي بخمرٍ، أو خنزير، أو شيءٍ من المعاصي، فإنه لا يجوز إمضاؤه، ويجوز تبديله.

ص: 120

• قوله تعالى (فمن بدله) عائد إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة، وذكروا فيه وجوهاً:

أحدها: أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه، كقوله تعالى (فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ) أي وعظ، والتقدير: فمن بدل ما قاله الميت، أو ما أوصى به أو سمعه عنه.

وثانيها: قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره.

وثالثها: أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره، وإن كانت الوصية مؤنثة.

ورابعها: أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل.

(فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) قال ابن عباس وغير واحد: وقد وقع أجر الميت على الله، وتعلق الإثم بالذين بدّلوا ذلك.

(إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم) تهديد ووعيد، أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك وبما بدّله الموصَى إليهم.

قال ابن عاشور: (إن الله سميع عليم) وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل، وجارُوا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعاً عليماً وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل.

• والسميع: اسم من أسماء الله متضمن لصفة السمع لله تعالى، فهو سبحانه يسمع جميع الأقوال والأصوات، السر والجهر عنده سواء.

كما قال تعالى (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

وقال تعالى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ).

ص: 121

•‌

‌ وسمع الله ينقسم إلى قسمين:

أولاً: سمع إدراك: أي أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظهر.

قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي

).

هذا السمع قد يراد به الإحاطة، كالآية السابقة.

وقد يراد به التهديد، كقوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء).

وقد يراد به التأييد، ومنه قوله تعالى لموسى:(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أسمعك وأؤيدك.

ثانياً: سمع إجابة: أي أن الله يستجيب لمن دعاه.

ومنه قول إبراهيم: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) أي مجيب الدعاء.

ومنه قول المصلي: (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده.

• وسمع الله ليس كسمع أحد من خلقه، فإن الخلق وإن وصفوا بالسمع والبصر كما في قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)، لكن هيهات أن يكون سمعهم وبصرهم كسمع وبصر خالقهم جل شأنه، قد نفى الرب سبحانه المشابهة عن نفسه بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لأن سمع الله وبصره مستغرق لجميع المسموعات والمرئيات، لا يعزب عن سمعه مسموع وإن دق وخفي سراً كان أو جهراً.

• والله هو السميع الذي يسمع المناجاة ويجيب الدعاء عند الاضطرار، ويكشف السوء ويقبل الطاعة، وقد دعا الأنبياء والصالحون ربهم سبحانه بهذا الاسم ليقبل منهم طاعتهم أو ليستجيب لدعائهم، فإبراهيم وإسماعيل قالا (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وامرأة عمران عندما نذرت ما في بطنها خالصاً لله لعبادته ولخدمة بيت المقدس قالت (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ودعا زكريا ربه أن يرزقه ذرية صالحة ثم قال (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).

ودعا يوسف عليه السلام ربه أن يصرف عنه كيد النسوة (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وأمر بالالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الإنس والجن قال تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ).

ص: 122

(عَلِيمٌ) أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، وبما بدّله الموصي إليهم.

• وفي الآية وعيد شديد.

(فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً) الخطاب لجميع المسلمين، قيل لهم: إن خفتم من موص ميلاً في الوصية، وعدولاً عن الحق.

• الجنف، الميل، وذلك بأن يقع منه بغير قصد لجهله.

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن، وهو المراد من قوله (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) لأن الإصلاح يقتضي ضرباً من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول، بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب.

• قوله تعالى (فمن خاف) بعض العلماء فسره بالعلم فقال (فمن خاف) أي: من علِم، وبعضهم فسرها على بابها.

(أَوْ إِثْماً) أي: ووقوعاً في إثم - عن عمد - ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته، لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب.

(فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: أصلح الوصية وبدل فيها وغيرها إلى الوجه الصحيح الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل بشيء.

وقيل: أصلح بينهم: بين الموصِي والموصَىَ له وبين الورثة، وهذا اختيار ابن جرير.

قال ابن جرير: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً، وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثماً في وصيته بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغيّر ما أذن الله له به مما جاوز الثلث، أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الورثة كثرة، فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يوصَى لهم وبين ورثة الميت وبين الميت، بأن يأمر الميت في ذلك بالمعروف، ويعرّفه ما أباح الله له في ذلك، وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك هو الإصلاح الذي قال الله تعالى (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) وكذلك إذا كان في المال فضل وكثرة، وفي الورثة قلة، فأراد أن يقصّر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حضره بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصي لهم بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رخص الله فيه من الثلث، فلذلك أيضاً هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.

ص: 123

• والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.

(إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ) الغفور اسم من أسماء الله متضمن للمغفرة الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه - أي ستره ورحمته - فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) رواه البخاري ومسلم.

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام.

• فمهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم كما قال تعالى (إن ربك وسع المغفرة).

وقد تكفل الله بالمغفرة لمن تاب (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

بل من فضله وجوده وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات قال تعالى عن التائبين (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ص: 124

(رَحِيمٌ) اسم من أسماء الله، متضمن لصفة الرحمة لله الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

‌الفوائد:

1 -

مشروعية الوصية.

2 -

أن الوصية تكون مستحبة لمن ترك مالاً كثيراً.

3 -

تأكيد الوصية على من ترك مالاً كثيراً.

4 -

أن المتقين هم الذين يراعون فرائض الله.

5 -

أن من فعل الخير ثم غُيّر بعده كتِبَ له ما أراد.

6 -

أن من بدل الوصية جهلاً فلا إثم عليه.

7 -

تحريم تغيير الوصية.

8 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع - العليم.

9 -

أن من خاف جوراً أو معصية من موص فإنه يصلح.

10 -

رفع الإثم عن الوصي إذا أصلح لخوفه جنفاً أو إثماً.

11 -

فضيلة الإصلاح.

ص: 125

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)).

[سورة البقرة: 183 - 184].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر كما أنه أوجبه عليهم فقد أوجبهم على من كان قبلهم فلهم فيهم أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء الفرض أكمل مما فعله أولئك، كما قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ

أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) ولهذا قال هاهنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

• قال الرازي: قوله تعالى (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) في هذا التشبيه قولان:

أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم.

والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (كما كتب على الذين من قبلكم) تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيهُ يكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه:

أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.

ص: 126

والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده (أياماً معدودات).

والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.

• قال القفال رحمه الله: انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فقد نبّه إلى ما يلي:

أولاً: أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة.

ثانياً: أن الصوم سبب لحصول التقوى، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف.

ثالثاً: أنه مختص بأيام معدودات، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة.

رابعاً: أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أُنزل فيه القرآن، لكونه أشرف الشهور.

خامساً: إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عليه من المسافرين والمرضى - فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع.

فالصيام فيه تقوى لله، لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).

• قال القاسمي (لعلكم تتقون) تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين به، فإن الشاق إذا عمّ سهل عمله. والمماثلة إنما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار، وفيه دليل على أن الصوم عبادة قديمة.

• فالصوم شرع من أجل حصول التقوى.

• قال ابن رجب الحنبلى: الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا كما قال عز وجل (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فإذا كان له جنة من المعاصي كان له في الآخرة جنة من النار ومن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي لم يكن له جنة في الآخرة من النار.

ص: 127

•‌

‌ الصيام من أسباب تقوى الله عز وجل، لماذا؟

أ- لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.

ب- أن الصائم يترك ما أحل الله له من الأكل والشرب والجماع ونحوها مما تميل إليه نفسه متقرباً بذلك إلى الله.

ج- أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.

د- أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم.

هـ- أن الصائم في الغالب تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.

و- أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.

ولهذا قال ابن رجب: في التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها: كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشَر والبطر والغفلة.

ومنها: تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب وتُعميه.

ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيراً من الفقراء.

ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان.

• قوله تعالى (كتب عليكم الصيام) الصيام لغة: الإمساك، يقال: صامت الخيل، إذا أمسكت عن العلف والسير، ومنه قوله تعالى:(إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) أي صمتاً، والصمت إمساك عن الكلام.

وأما في الشرع: إمساك بنية عن جميع المفطرات، كالأكل والشرب وغيرهما مما يفطر الصوم، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أي فرض، كان فرض صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعاً.

(كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اختلفوا في هذا التشبيه: قال سعيد بن جبير: كان الصوم في ابتداء الإسلام واجباً من العتمة إلى الليلة القابلة، وكذا كان واجباً على من قبلنا.

ص: 128

وقيل: أراد صوم رمضان كتب على المسلمين كما كتب على الذين من قبلهم، يعني: النصارى.

(أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) أي: والصيام أيامه معدودات، وهي أيام قلائل، فلم يفرض عليكم الدهر كله تخفيفاً ورحمة بكم.

• اختلف في المراد بها: فقال بعض العلماء: ثلاثة أيام من كل شهر، وقال بعضهم: هي رمضان، وهذا هو الراجح، ورجحه الطبري.

• قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب عندي قول من قال: عنى جل ثناؤه بقوله (أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ) أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ثم نسخ بصوم رمضان، لأن الله تعالى قد بيّن في سياق الآية أن الصوم الذي أوجبه علينا هو صوم شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته عن الأيام التي كتب علينا صومها بقوله (شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن) فتأويل الآية كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام، كما كتب على من قبلكم لعلكم تتقون، أياماً معدودات هي شهر رمضان.

قال ابن عاشور: المراد بالأيام من قوله (أياماً معدودات) شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضاً؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عداً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر.

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي: كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو تزيُّده فإنه يفطر.

(أَوْ عَلَى سَفَرٍ) أي: كان صحيحاً لبس مرض لكنه على سفر.

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي: فعليه عدة الأيام التي أفطرها مرضه أو في سفره.

قال ابن كثير: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) كان ذلك في ابتداء الإسلام: من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فقد روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وبالنسخ قال أكثر المفسرين.

• فالمراد بقوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين هذين، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً، وهذا قول أكثر المفسرين.

ص: 129

وقيل: وعلى الذين يطيقونه في حال الشباب، وعجزوا عنه في الكبر، الفدية إذا أفطروا، وهو مروي عن علي، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) قال ابن عباس: أراد به من أطعم مسكينين وعليه طعام مسكين واحد، أو أطعم صاعاً وعليه مد، فهو خير له.

قال الرازي: أما قوله تعالى (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يطعم مسكيناً أو أكثر.

والثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.

والثالث: قال الزهري: من صام مع الفدية فهو خير له.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما كتب عليكم من شهر رمضان، فهو خير لكم من أن تفطروا أو تفتدوا. (وسبق أن الآية منسوخة).

‌الفوائد:

1 -

أهمية الصيام، حيث فرضه الله عز وجل على الأمم من قبلنا، وهذا يدل على محبة الله عز وجل له وأنه لازم لكل أمة.

2 -

التخفيف على هذه الأمة، حيث أنها لم تكلف وحدها بالصيام الذي قد يكون فيه مشقة على النفوس والأبدان.

3 -

الإشارة إلى أن الله تعالى أكمل لهذه الأمة دينها، حيث أكمل لها الفضائل التي سبقت لغيرها.

4 -

أن الصيام من أسباب تقوى الله عز وجل.

5 -

كان فرض رمضان على التدرج، على ثلاث مراحل:

أ-فرض صيام عاشوراء، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه.

ب-فرض صوم رمضان على التخيير بين الصيام وبين الفدية، قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ

).

ج-التأكد على فرض الصوم بدون تخيير، قال تعالى:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ص: 130

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)).

[سورة البقرة: 185]

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه.

سمي الشهر بذلك لشهرته، وأما رمضان فقيل: سمي بذلك لأنهم كانوا يصومون في الحر الشديد، ومنه الرمضاء للرمل الذي حمي بالشمس.

• أن إنزال القرآن كان في رمضان.

فإن قال قائل: إنما أنزل القرآن في ثلاث وعشرين سنة، فكيف أنزل فيه القرآن؟

فالجواب: قال ابن عباس: أنزل الله تعالى القرآن جملة في رمضان إلى بيت في السماء يسمى (بيت العز) ثم منه أنزله إلى الأرض أرسالاً.

(هُدىً لِلنَّاسِ) أي: هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه.

• في هذه الآية أن القرآن هدى لجميع الناس، وجاء في آية أخرى أنه هدى للمتقين؟

والجمع: أن الهدى يستعمل في القرآن استعمالين: أحدهما عام، والثاني خاص.

أما الهدى العام فمعناه: إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة، سواء سلكها المبيَّن له أم لا.

ومنه بهذا المعنى قوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) أي: بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه السلام مع أنهم لم يسلكوها، ومنه قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) أي: بينا له طريق الخير والشر.

وأما الهدى الخاص: فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد حتى يهتدي إلى ما يرضي ربه، ويكون سبب دخوله الجنة.

ومنه بهذا المعنى قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) وقوله (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)

فإذا علمت ذلك فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص، وهو التفضل بالتوفيق عليهم.

(وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) أي: دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد، المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل والحلال والحرام.

• قال ابن عاشور: المراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية.

ص: 131

•‌

‌ وقد وصف الله القرآن بأوصاف منها:

أ-أنه (نور)، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).

ب- (هدىً) و (شفاء) و (رحمة) و (موعظة)، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

ج- (مبارك)، قال تعالى (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

د- (مبين)، قال تعالى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ).

هـ- (بشرى)، قال تعالى (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).

و- (عزيز)، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ).

ز- (مجيد)، قال تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ).

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ

) هذا إيجاب حكم على من شهد استهلال الشهر، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم، ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء، فقال:

(وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معناه: ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه، أو يؤذيه، أو كان على سفر، أي في حالة سفر، فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام، ولهذا قال:

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً عليكم ورحمة بكم.

• وفي هذا دليل على أن الدين يسر.

ص: 132

عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره). رواه أحمد

وعن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تفرقوا). متفق عليه

(وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وهو ضد اليسر.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي عدة ما أفطرتم من أيام أخر.

(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم.

كما قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).

وقال (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ).

وقال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجود).

ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق وتيسير ما لو شاء عسر عليكم. (وقد تقدمت مباحث الشكر).

‌الفوائد:

1 -

فضيلة هذا الشهر.

2 -

أن الله أنزل القرآن في هذا الشهر.

3 -

أن القرآن منزل.

4 -

القرآن هداية لجميع الناس.

5 -

وجوب الصوم إذا ثبت الشهر.

6 -

يسر الشريعة الإسلامية.

7 -

انتفاء الحرج والمشقة.

8 -

مشروعية التكبير عند اكتمال العدة.

9 -

أن الله يشرع الشرائع لحكم عظيمة.

10 -

فضل شكر الله.

11 -

الإشارة إلى أن القيام بطاعة الله من شكر الله.

12 -

أن من عصى الله فإنه لم يقم بالشكر.

ص: 133

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186))

[سورة البقرة: 186]

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) روي أن سبب نزول هذه الآية: أن أعرابياً قال: يا رسول الله؛ أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

)، لأنه تعالى، الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو قريب أيضاً من داعيه، بالإجابة، ولهذا قال:

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.

فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصاً إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال:(فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.

•‌

‌ وقُرب الله تعالى هل هو مختص بالمؤمنين أو يعم غيرهم؟

بعض أهل السنة - وهو جمهورهم - من يجعل القُرب نوعان:

القرب الأول: قرب عام.

وهو قرب الله من جميع الخلائق جميعاً.

كما قال تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).

والثاني: القرب الخاص.

وهو قربه تعالى من المؤمنين بالإجابة والرعاية.

كما قال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).

وحديث (

اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً وإن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).

قال السعدي في تفسير (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤاله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب.

ص: 134

‌واعلم أن قربه تعالى نوعان:

عام، وخاص. فالقرب العام، قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).

والقرب الخاص، قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى (واسجد واقترب).

وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، وهذا النوع، قرب يقتضي

إلطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن باسمه (القريب).

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن القرب خاص بالمؤمنين وهذا القول أصح.

لأن الآيات التي استدل بها من عمم القرب وأن له قرباً عاماً إنما المذكور فيها قرب الملائكة.

فقوله تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال ابن القيم:

أنه قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فيكون أقرب إليه من ذلك العرق، اختاره شيخنا.

وقال أيضاً ابن القيم: المراد بقوله (نحن) أي: ملائكتنا كما قال (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي: إذا قرأه عليك رسولنا جبريل، قال: ويدل عليه قوله (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين، فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطل.

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.

• قال القرطبي: قوله تعالى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ) أي: أقبل عبادة من عبدني؛ فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول، دليله ما رواه أبو داود عن النُّعمان بن بَشير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) فسُمِّيَ الدعاء عبادة؛ ومنه قوله تعالى (إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسمّاه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فليدعو لي، وقيل: فليطلبوا أن أجيبهم.

ص: 135

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) الإيمان الحق، وليثقوا بوعدي.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً). (تفسير السعدي).

• قوله تعالى (عبادي) تأمل في هذا اللفظ من الرأفة بالعباد، حيث أضافهم إلى نفسه العليّة سبحانه وبحمده، فأين الداعون؟ وأين الطارقون لأبواب فضله.

‌الفوائد:

1 -

الحث على الدعاء، وأنه لا يضيع تعالى لديه شيء، ولا يشغله عنه شيء.

عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين). رواه أبو داود

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو الله تعالى بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر، قال: الله أكثر). رواه أحمد

2 -

أن الدعاء عبادة (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ولولا ذلك ما صح أن يقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي).

وإذا ثبت أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر.

3 -

إن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟

قال بعض العلماء: إن قوله (أجيب) إن شئت، كما قال:(فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) فيكون هذا من باب المطلق المقيد.

وقال بعضهم: إنما مقصود هذا الإخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعوة الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره.

وقال بعضهم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه، لما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها).

ص: 136

•‌

‌ آداب الدعاء:

‌أولاً: أن لا يستعجل الإجابة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي). متفق عليه

‌ثانياً: أن يرفع يديه.

لحديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين). رواه أحمد وأبو داود

‌ثالثاً: الإلحاح بالدعاء موقناً بالإجابة.

قال صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ). رواه الترمذي وحسنه

‌رابعاً: أن يتحرى الأوقات الفاضلة:

(الثلث الأخير) عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الليلة ساعة لا يسأل فيها عبد سؤالاً إلا أعطاه الله وذلك كل ليلة). رواه مسلم

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا الثلث الآخر يقول: من ذا الذي يدعوني فأستجب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه

). متفق عليه

(بين الأذان والإقامة) قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة). رواه الترمذي

(وفي يوم الجمعة ويوم عرفة) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيراً إلا أعطاه).

ص: 137

•‌

‌ موانع إجابة الدعاء.

‌أولاً: أن يكون في كسب الرجل حرام.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس؛ إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين

ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك). رواه مسلم

وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: يا رسول الله؛ ادعو الله أن يجعلني مستجاب الدعوة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سعد؛ أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عملاً أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به). رواه الطبراني

‌ثانياً: أن يكون الدعاء في إثم أو ظلم.

لحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) فقال رجل من القوم: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر) رواه الترمذي وحسنه

‌ثالثاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده؛ لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم). رواه أحمد والترمذي

‌رابعاً: أن يعتدي في دعائه، كأن يرفع صوته، أو يحدث فيه بدعة.

قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء). رواه أحمد

4 -

أن الله قريب من عباده.

5 -

الحذر من الله، لأنه سميع وقريب وبصير.

ص: 138

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)).

[البقرة: 187].

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) هذه رخصة من الله للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا في ذلك مشقة عظيمة.

وكأن السبب في نزول هذه الآية حديث البراء قال (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن بفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فاطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فقالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ، ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) والرفث هنا: الجماع.

• قال الرازي: ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية.

(أُحِلَّ لَكُمْ) أي أبيح لكم.

(لَيْلَةَ الصِّيَامِ) في ليلة الصيام.

(الرَّفَثُ) الرفث هنا: الجماع.

(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) يعني تعالى بذلك نساؤكم لباس لكم وأنتم لباس لهن.

• قال أبو السعود (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن.

• قال ابن كثير: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.

• قال بعض العلماء: سكون لكم، كما قال تعالى:(جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً) يعني بذلك تسكنون فيه، وكذلك زوجة

الرجل سكنه يسكن إليها، فيكون كل واحد منهما (لباساً) لصاحبه، بمعنى سكون إليه.

وقيل: أن يكون كل واحد منهما جعل لصاحبه لباساً، لتجردهما عند النوم، واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه، بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما هو لباس.

ص: 139

• سؤال: لم قدَّم قوله (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) على (وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)؟

الجواب: قدَّم قوله (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) على (وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هو البادئُ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة.

(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) إن قال قائل: ما هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم التي تاب الله فيها عليهم فعفا عنهم؟

قيل: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين: الجماع، والمطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراماً ذلك عليهم.

• قال بعضهم: (تختانون) من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بمخالفة الأمر وترك الوقاية.

(فَتَابَ عَلَيْكُمْ

) أي: تاب عليكم مما وقع منكم من الخيانة لأنفسكم، وتاب عليكم أيضاً بالتوسعة لكم، والتخفيف عنكم بنسخ المنع من الجماع والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء ليالي الصيام بإباحة ذلك.

والنسخ إلى أخف توبة من الله على عباده، كما قال تعالى في نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ).

وكما قال تعالى في نسخ وجوب قيام الليل إلى استحبابه كما قال تعالى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

(وَعَفَا عَنْكُمْ) أي: تجاوز عن عقوبتكم.

(فَالْآنَ) فالآن بعد هذه الرخصة والسعة من الله

(بَاشِرُوهُنَّ) وطئاً وقبلة ولمساً وغير ذلك.

• وسمي الجماع مباشرة لالتقاء البشرتين فيه، بشرة المرأة وبشرة الرجل.

(وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا.

(مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: واطلبوا ما كتب الله لكم.

اختلف العلماء في المراد من ذلك:

قال بعضهم: الولد.

قاله أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح والقاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم.

وقال بعضهم: ليلة القدر.

وقال بعضهم: الجماع.

ص: 140

ورجح ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله، حيث قال: ..... غير أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال: معناه: وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عقيب قوله (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) بمعنى جامعوهن، فلأن يكون قوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبه بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

• قد أبحنا لكم الإفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرما عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم اللّه من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام.

وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغى به النسل حتى يتحقق ما يريده اللّه تعالى من بقاء النوع الإنساني، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ

) أباح الله تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصبح من سواد الليل، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللبس بقوله (مِنَ الْفَجْرِ).

والمقصود من الخيط الأبيض: أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره.

والمقصود من الخيط الأسود: ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل.

كما جاء في الحديث عند البخاري عن سهل بن سعد قال (أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل بعد (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار). رواه البخاري

وعن عدي بن حاتم قال (لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن وسادتك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل). متفق عليه

ص: 141

وعليه فمعنى الآية: وكلوا بالليل في شهر صومكم واشربوا وباشروا نساءكم مبتغين ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.

(مِنَ الْفَجْرِ) أي: حتى طلوع الفجر.

(ثُمَّ) أي: إذا طلع الفجر

(أَتِمُّوا الصِّيَامَ) أي: أكملوا الصيام، وهو الإمساك عن المفطرات.

(إِلَى اللَّيْلِ) وهو غروب الشمس.

عن عمر بن الخطاب قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم). متفق عليه

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أي ولا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره.

فلا يجوز للمعتكف في المسجد في رمضان ولا في غيره جماع زوجته، ولا فعل مقدمات الجماع، لا ليلاً ولا نهاراً، ولو خرج لحاجة فليس له فعل شيء من ذلك.

وأما المباشرة بمعنى لمس البشرة لمعاطاة شيء ونحو ذلك فلا حرج فيها، لما روته عائشة قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وهو معتكف، فأرجله وأنا حائض) متفق عليه.

• الاعتكاف لغة: لزوم الشيء والمداومة عليه، كما قال تعالى (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ).

وشرعاً: لزوم مسجد لطاعة الله والتعبد له والانقطاع إليه.

‌وفي الآية مشروعية الاعتكاف، ومن أدلة مشروعيته:

أ- قوله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

ب- حديث الباب.

ج- قوله صلى الله عليه وسلم (

فمن أحب أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر) رواه مسلم.

• والحكمة منه: التفرغ للعبادة، والانقطاع عن العوائق والشواغل.

قال ابن تيمية: ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبُّه ويعظِّمه، كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم، ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم شرع الله لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.

• ويجب بالنذر.

قال الحافظ: وليس واجباً إجماعاً إلا على من نذره.

لحديث عمر أنه قال (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك). متفق عليه

ولحديث عائشة (من نذر أن يطيع الله فليطعه). رواه البخاري

• وآكد الاعتكاف في رمضان، وأفضله العشر الأواخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل.

ففي حديث الباب (كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ).

ص: 142

•‌

‌ مبطلات الاعتكاف؟

‌أولاً: الجماع.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه.

وقال ابن حجر: واتفقوا على فساده بالجماع.

قال تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.

‌ثانياً: الخروج بجميع بدنه بلا عذر.

فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة.

لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له). رواه أبو داود

• هل يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في مسجد؟

نعم، يشترط أن يكون في مسجد.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد.

وقال في المغني: لا نعلم فيه خلافاً.

• اذكر الخلاف في ضابط المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف:

‌اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

‌القول الأول: أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.

لحديث حذيفة مرفوعاً (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) رواه سعيد بن منصور

‌القول الثاني: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة.

وهذا مذهب الحنفية والحنابلة.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).

ص: 143

وجه الدلالة: أن الآية تعم كل مسجد، وخص منها ما تقام فيه الجماعة لأدلة وجوب الجماعة.

قال ابن قدامة في المغني: وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ، وَاعْتِكَافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يُفْضِي إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا تَرْكُ الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ، وَإِمَّا خُرُوجُهُ إلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثِيرًا مَعَ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ، إذْ هُوَ لُزُومُ الْمُعْتَكَفِ وَالْإِقَامَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِيهِ.

‌القول الثالث: أنه في كل مسجد سواء تقام فيه الجماعة أم لا.

وهذا مذهب الشافعية.

لقوله تعالى (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). قالوا: وهذا عام يشمل كل المساجد ولا يقبل تخصيصها ببعض المساجد إلا بدليل.

‌القول الرابع: أنه لا بد في مسجد جامع.

وهذا اختيار الصنعاني.

لقول عائشة (لا اعتكاف إلا في مسجد جامع) أخرجه ابن أبي شيبة.

والراجح القول الأول وأنه يصح في كل مسجد جماعة.

(تِلْكَ) الإشارة إلى ما سبق في الآية من إحلال الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود بطلوع الفجر الثاني، ومن ثم إتمام الصيام إلى الليل بغروب الشمس، والنهي عن المباشرة حال الاعتكاف في المساجد.

(حُدُودُ اللَّهِ) حدود الله تنقسم إلى قسمين: حدود أوامر وواجبات يجب فعلها، وعدم تركها وتعديها كما قال تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا).

والقسم الثاني: حدود نواه ومحرمات وممنوعات يجب تركها والبعد عنها وعدم قربها كما قال تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا).

(فَلا تَقْرَبُوهَا) أي: فلا تقربوا حدود الله ومحرماته، بل ابتعدوا عنها واجتنبوها كما قال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).

وذلك لأن الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد، فالوسيلة المؤدية إلى المحرّم محرمة.

ص: 144

• قال السعدي: قوله تعالى (فَلا تَقْرَبُوهَا) أبلغ من قوله (فلا تفعلوها) لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه، والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد عنها، غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليه.

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) أي كما بين الصيام وأحكامه، وبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي أبيّن لهم ذلك ليتقوا محارمي ومعاصيّ، ويتجنبوا سخطي وغضبي.

• قال السعدي: قوله تعالى (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سبباً للتقوى.

قال ابن عاشور: (لعلهم يتقون) أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذين بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى، أي كمال مصادفة مراد الله تعالى، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل (هل يستوي الذين يعلمون)، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.

ص: 145

‌الفوائد:

1 -

رحمة الله بعباده لنسخ الحكم الأول.

2 -

جواز الجماع ليالي رمضان.

3 -

أن الزوجة ستر للزوج، وهو ستر لها.

4 -

علم الله بما في النفوس.

5 -

إثبات العفو لله.

6 -

أن النسخ إلى الأخف نوع من النوبة.

7 -

جواز مباشرة الزوجة على الإطلاق بدون تقييد، ويستثنى من ذلك الوطء في الدبر وحال الحيض أو النفاس.

8 -

جواز الأكل والشرب والجماع ليالي رمضان.

9 -

جواز أن يصبح الصائم جنباً.

10 -

أن الأفضل المبادرة بالفطر.

11 -

أن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

12 -

مشروعية الاعتكاف.

13 -

أن الجماع مبطل للاعتكاف.

14 -

أن الله يبين للناس الآيات الكونية والشرعية.

15 -

أن العلم سبب للتقوى.

16 -

علو مرتبة التقوى.

ص: 146

(وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)).

[سورة البقرة: 188]

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) يعني تبارك وتعالى بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل سبحانه بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل.

ونظير ذلك قوله تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضاً ولا يقتل بعضكم بعضاً، لأن الله جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزه كلامز نفسه.

فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل.

• قال السعدي: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.

• قوله تعالى (ولا تأكلوا .. ) المراد الأكل وسائر الانتفاعات، وإنما خص الأكل، لأنه الأهم في جمع المال، وأقوى وجوه الانتفاع.

• قال البقاعي: (ولا تأكلوا) أي: يتناول بعضكم مال بعض، ولكنه عبر بالأكل لأنه المقصد الأعظم من المال.

• قوله (بِالْبَاطِلِ) الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، وآكل المال بالباطل: آكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.

قال السعدي: ويدخل بذلك أكلها على وجه الغصب، والسرقة، والخيانة في وديعة أو عارية أو نحو ذلك، ويدخل في ذلك

أيضاً أخذها على وجه المعاوضة بمعاوضة محرمة؛ كعقود الربا، والقمار كلها فإنها من أكل المال بالباطل، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل بذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حق منها أو فوق حقه، فكل هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه.

(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) قال الطبري: فإنه يعني: وتخاصموا بها، يعني بأموالكم إلى الحكام.

فالضمير في (بها) يعود على الأموال، أي: تتوصلوا وتتقدموا بها إلى الحكام والقضاة احتيالاً منكم، لتجعلوها وسيلة لأكلها، وذلك بالتلبيس عليهم، والأيْمان الفاجرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا) متفق عليه.

ص: 147

قال ابن كثير: فدلت هذه الآية، وهذا الحديث، على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً وهو حرام، ولا يحرم حلالاً وهو حلال، وإنما هو ملزم في الظاهر، فإن طابقه في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره.

• قال ابن عاشور: (وتدلوا بها إلى الحكام) عطف على (تأكلوا) أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل، وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره.

قوله تعالى (تدلوا) من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة.

(لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً) طائفة، واللام للعاقبة: أي: لتكون العاقبة والنهاية أن تأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، ويحتمل أن تكون اللام للتعليل، أي: لأجل أن تأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم.

(مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ) وهي أموال المدلى بأموالهم إلى الحكام أو بعضها.

(بِالْإِثْمِ) أي: بالذنب، لأنه أكل بغير حق.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الواو حالية، أي: والحال أنكم تعلمون أن أكلكم لها باطل وإثم، وأنها حرام عليكم.

• قال القرطبي: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.

وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا) متفق عليه.

ص: 148

‌الفوائد:

1 -

تحريم أكل أموال الناس بالباطل، من أي طريق كان.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعرضاكم حرام عليكم

).

2 -

وجوب حفظ المال، لأن به قوام الحياة والمعاش، وهو أحد الضروريات التي جاء الدين بحفظها.

3 -

تحريم الرشوة، وهي محرمة لما يلي:

أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الراشي والمرتشي) واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.

ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا

كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.

ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عز وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله عز وجل.

رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً، لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.

خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل.

سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.

4 -

الوعيد والتهديد لمن يُقدمون على أكل أموال الناس بالباطل.

5 -

وجوب الحذر من فتنة الدنيا والمال.

ص: 149

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)).

[سورة البقرة: 189].

(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) قيل في سبب نزولها: أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كون الهلال يبدو ضعيفاً ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم، ثم يأخذ في النقص، فأجيبوا عن الحكمة في ذلك، لأنها الأهم، وهي التي يحتاجون لبيانها.

(الْأَهِلَّةِ) جمع هلال، وهو اسم للقمر أول ما يبدو دقيقاً، وإنما سمي الهلال هلالاً، لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته، يقال: استهل الصبي إذا صاح بالبكاء.

‌سؤال: لم جمع الأهلة؟

الجواب: جمع الأهلة إما لتعددها بتعدد الأشهر أو لاختلاف أحواله وإن كان واحداً فهو كالمتعدد.

(قُلْ) الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم.

(هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) أي جعلها الله بلطفه ورحمته على هذا التدبير - يبدو الهلال ضعيفاً، ثم يشرع في النقص إلى كماله، وهكذا - ليعرف الناس بذلك مواقيت عباداتهم من الصيام وأوقات الزكاة والكفارات وأوقات الحج، وكذلك تعرف أوقات الديون المؤجلات، ومدة الإجارات، ومدة التعدد والحمل، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق.

وخص الحج بالذكر لكثرة أشهره، ولأن هذه الآيات توطئة وتمهيد لذكر أشهر الحج وأحكامه.

وقال ابن عاشور: وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم، ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) روى البخاري عن البراء قال (كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها، فأنزل الله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا).

فالأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها تعبداً بذلك وظناً أنه بر، فأخبر تعالى أنه ليس من البر، لأن الله تعالى لم

يشرعه لهم، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم، ثم بين تعالى أن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا بر لله فيه.

ص: 150

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) لم يصرح بالمراد بمن اتقى، ولكنه بينه بقوله (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ

).

والبر يفسر بالتقوى، كما تفسر التقوى بالبر في حال انفراد كل منهما عن الآخر، لكن في حال اجتماعهما يفسر كل منهما بمعنى كما في قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) فالبر هنا يراد به فعل المأمورات، والتقوى ترك المنهيات.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، إذ إن هذا هو حقيقة البر.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: لأجل أن تفلحوا، وتفوزوا وتحصلوا على المطلوب، وهي الجنة غاية المطالب، وتنجو من المرهوب وهي النار.

‌الفوائد:

1 -

حرص الصحابة على العلم ومعرفة أمور دينهم ودنياهم.

2 -

أن معرفة الحكمة من جعل الأهلة أهم من معرفة ماهيتها.

3 -

تولي الله الإجابة عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

4 -

رحمة الله تعالى بعباده، حيث جعل لهم ما يعرفون به عباداتهم ومعاملاتهم.

5 -

أن ما لا يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة يتقرب به متقرب.

6 -

أن حقيقة البر: تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

7 -

وجوب تقوى الله.

8 -

أن تقوى الله سبب للفلاح والسعادة في الدنيا.

ص: 151

(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ (190)).

[البقرة: 190].

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) هذا أمر من الله بقتال الكفار الذين يقاتلوننا.

وهذا الأمر قد يكون واجباً عينياً وقد يكون واجباً كفائياً.

• قال الشنقيطي: هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا؛ قاتلوا أم لا، كقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، وقوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد) والجواب عن هذه بأمور:

الأول: وهو من أحسنها وأقربها - أنّ المراد بقوله (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) تهييج المسلمين، وتحريضهم على قتال الكفار، فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

الوجه الثاني: أنها منسوخة، بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا، وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته

بالتدريج.

الوجه الثالث: وهو اختيار بن جرير، ويظهر لي أنه الصواب: أن الآية محكمة، وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم أي من شأنهم أن يقاتلوكم، أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء، والذراري، والشيوخ الفانية، والرهبان، وأصحاب الصوامع، ومن ألقى إليكم السلم، فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي، وأصحاب الصوامع، والمرأة، والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه، أما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري.

ص: 152

• قوله تعالى (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) حث على الإخلاص، أي: لأجل دين الله ورفعته.

عن عبد الله بن قيس قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). متفق عليه

لا يذكر في القرآن الكريم لفظ (القتال) أو (الجهاد) إلا وهو مقرون بعبارة (سبيل الله) وذلك يدل على أن الغاية من القتال غاية مقدسة نبيلة، هي (إعلاء كلمة الله) لا السيطرة أو المغنم، أو إظهار الشجاعة، أو الاستغلال في الأرض، وقد وضح هذه الغاية النبيلة قوله صلى الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

(الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) ليصدوكم عن دين الله.

وفي هذا أن الذين يقاتَل هو من يقاتل المسلمين حقيقة أو حكماً، ممن يساعدون على ذلك بالمال والرأي ونحو ذلك، وأما من لا يقاتل فإنهم لا يقتلون كالنساء والصبيان والشيوخ والرهبان.

عن بريدة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول (اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد). رواه مسلم

وعن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه، فأنكر قتل النساء والصبيان). متفق عليه

(وَلا تَعْتَدُوا) الاعتداء: مجاوزة الحد المباح، أي قاتلوا في سبيل الله، ولا تعتدوا في ذلك.

ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول كما سبق في الحديث (

ولا تغدروا، ولا تغُلّوا، ولا تُمثّلوا

).

ومن الاعتداء أيضاً: ابتداء القتال في الأشهر الحرام، وفي الحرم.

لقوله تعالى (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ).

وقال تعالى (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).

(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تعليل للنهي عن الاعتداء.

ص: 153

‌الفوائد:

‌1 - وجوب القتال في سبيل الله.

‌2 - فضيلة الجهاد في سبيل الله.

عن عبد الرحمن بن جبر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار). رواه البخاري

‌3 - الحكمة من الجهاد في سبيل الله:

‌أولاً: إعلاء كلمة الله.

قال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

‌ثانياً: تمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين.

قال تعالى (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).

‌4 - أن ترك الجهاد له عواقب:

‌أولاً: ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.

فأما في الدنيا، فإن الجبان يكون ذليلاً مستعبداً تابعاً غير متبوع.

وأما في الآخرة، فهو يهلك إن لم يتغمده الله برحمته بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه، بها عز الإسلام والمسلمين.

‌ثانياً: ترك الجهاد سبب للذل والهوان.

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). رواه البخاري

ثالثاً: وترك الجهاد سبب للبلاء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم). رواه أبو داود

وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة). رواه أبو داود

ص: 154

رابعاً: ترك الجهاد سبب لعذاب الله وبطشه.

قال تعالى (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً).

خامساً: وترك الجهاد سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم.

قال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

سادساً: وترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين، منها: الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد، ودفع شر الكفار وإذلالهم.

5 -

تحريم الاعتداء.

6 -

إثبات محبة الله.

ص: 155

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلَا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)).

[البقرة: 190 - 193].

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أمر الله بقتال الكفار أينما وجدوا في كل وقت وفي كل زمان، قتال مدافعة، وقتال مهاجمة.

(وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) قال الطبري: يعني بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها.

• قال ابن عاشور: قوله (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ).

ولما كان الجهاد فيها إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله، والشرك بالله، والصد عن سبيله، أبلغ وأشد وأعظم من القتل، فقال:

(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة.

• قال الطبري: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله بعد إسلامه، أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيماً على دينه، متمسكاً عليه محقاً فيه.

(وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي لا تبدءوا - أيها المؤمنون - المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدأوكم به هناك عند المسجد الحرام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة القتل في الدنيا والخزي الطويل في الآخرة.

ص: 156

وقد جاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة).

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها منسوخة، ورجحه الطبري.

نسخها قوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

وحكى ابن عطية في المحرر على أن الجمهور على القول بالنسخ.

• قال القرطبي: ومما احتجوا به أن (براءة) نزلت بعد سورة البقرة بسنتين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر، فقيل: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال:(اقتلوه).

وقال مكي في الإيضاح: والبين الظاهر في الآية أنها منسوخة، وهو قول أكثر العلماء، لأن قتال المشركين فرض لازم في كل موضع كانوا فيه.

والراجح الأول وأنها غير منسوخة.

• قال مجاهد: الآية محكمة، ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل، وبه قال طاووس.

• قال القرطبي: وهو الذي يقتضيه نص الآية، وهو الصحيح من القولين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شوكاً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها كحرمتها بالأمس). متفق عليه

فبين صلى الله عليه وسلم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ.

وكذلك آية السيف عامة وهذه الآية خاصة، والعام لا ينسخ الخاص، بل يعمل العام فيما عدا الخاص.

• قال القرطبي: وأما ما استدلوا به من قتل ابن خطل فلا حجة فيه، فإن ذلك كان في الوقت الذي أحلت له مكة وهي دار حرب وكفر، وكان له أن يريق دماء من شاء من أهلها في الساعة التي أحل له فيها القتال.

(فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي: فإن قاتلوكم في الحرم، ولم يراعوا حرمة الحرم فاقتلوهم فيه معاملة لهم بالمثل، ودفاعاً عن دينكم ودمائكم وأعراضكم وأوطانكم وأموالكم وحرمات المسلمين.

ص: 157

(كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) أي: ذلك عقوبة الكافرين بالله، المكذبين لرسله وشرعه، وهي قتلهم في الدنيا، مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب الأليم كما قال تعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

(فَإِنِ انْتَهَوْا) أي: فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا.

(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه.

ومثل هذه الآية: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)

(رَحِيمٌ) بعباده.

(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أمر الله بقتال المشركين حتى لا تكون فتنة، يعني: لا يكون شرك بالله حتى لا يعبد دونه أحد.

قال أكثر العلماء: المراد بالفتنة هنا: الشرك، أي: حتى لا يَبْقَى شِرْكٌ على وَجْهِ الأرض، ويدل لهذا المعنى قوله بعده -يليه- (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) لأن الدين لا يكون كله لله إلا إذا لم يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ شِرْكٌ، فعندئذٍ يكون الدين كله لله. ويؤيد هذا المعنى وهذا التفسير الذي دلت عليه القرينة القرآنية قوله صلى الله عليه وسلم (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا منعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ).

• قال ابن تيمية: والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله تعالى.

• قال السعدي: يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما.

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي: يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى).

ص: 158

فالحكمة من قتال الكفار: حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله تعالى.

قال تعالى في سورة الأنفال (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

• وسمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك.

(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودخلوا في ملتكم، وأقروا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداء عليهم وقتالهم وجهادهم، فإنه لا ينبغي أن يعتدي إلا على الظالمين، وهم المشركون بالله.

وسمي ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدواناً، كقوله:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

قال الرازي: فإن قيل: لم سمي ذلك القتل عدواناً مع أنه حق وصواب؟

قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان، فصح إطلاق اسم العدوان عليه، كقوله تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي جازيته بظلمه.

‌الفوائد:

1 -

وجوب القتال في سبيل الله.

2 -

فضيلة الجهاد في سبيل الله.

عن عبد الرحمن بن جبر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار). رواه البخاري

3 -

الحكمة من الجهاد في سبيل الله:

أولاً: إعلاء كلمة الله.

قال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

ثانياً: تمحيص المؤمنين، ومحق الكافرين.

قال تعالى (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).

4 -

أن ترك الجهاد له عواقب:

أولاً: ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة.

فأما في الدنيا، فإن الجبان يكون ذليلاً مستعبداً تابعاً غير متبوع.

وأما في الآخرة، فهو يهلك إن لم يتغمده الله برحمته بترك فريضة محكمة أنزلها الله في كتابه، بها عز الإسلام والمسلمين.

ص: 159

ثانياً: ترك الجهاد سبب للذل والهوان.

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). رواه البخاري

ثالثاً: وترك الجهاد سبب للبلاء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم). رواه أبو داود

وقال صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة). رواه أبو داود

رابعاً: ترك الجهاد سبب لعذاب الله وبطشه.

قال تعالى (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً).

خامساً: وترك الجهاد سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم.

قال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).

سادساً: وترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين، منها: الأجر والثواب والشهادة والمغنم والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد، ودفع شر الكفار وإذلالهم.

5 -

تحريم الاعتداء.

6 -

إثبات محبة الله.

7 -

الإشارة إلى أن المسلمين أحق الناس بأرض الله.

8 -

أن الفتنة بالكفر والصد عن سبيل الله أعظم من القتل.

9 -

تعظيم حرمة المسجد الحرام.

10 -

جواز القتال عند المسجد الحرام إذا بدأنا بذلك أهله.

ص: 160

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)).

[البقرة: 194].

(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ)(ال) في الشهر للجنس، لأن الشهر الحرام ليس شهراً واحداً وإنما هي أربعة أشهر، كما قال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.

و كما في حديث أبي بكرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ) متفق عليه.

وسميت هذه الأشهر بالأشهر الحرم، لأن الله حرم فيها القتال، والاعتداء والظلم، كما قال تعالى (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ).

ومعنى الآية: لما منعكم المشركون من دخول مكة في الشهر الحرام (ذي القعدة) سنة ست من الهجرة، قاضاكم الله بالدخول من قابل، سنة سبع في (ذي القعدة) أي: هذا بهذا.

• قال الرازي: روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العام القابل، حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وفي هذا تطييب لقلوب الصحابة بتمام نسكهم.

ص: 161

وقيل: فإن بدأوكم في القتال في الشهر الحرام، فانتهكوا حرمته، فقاتلوهم فيه ولا تبالوا بحرمته، فإنه قصاص بما فعلوا.

والراجح القول الأول ولذلك قال القرطبي في تفسيره: والقول الأول أشهر وعليه الأكثر.

(وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) الحرمات: جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، والحجرات جمع حجرة.

قال الشوكاني: وإنما جمعت الحرمات؛ لأنه أراد حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الإحرام.

والحرمة: ما منعْت من انتهاكه (يعني كل ما حرّم الشارع انتهاكه)، والقصاص: المساواة.

والمعنى: أن هذه الحرمات إذا انتهك شيء منها أو اعتدي عليه يقتص من المعتدي بمثله، فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل في الشهر الحرام، ومن اعتدى في الحرم اقتص منه في الحرم.

• قال ابن عاشور: ومعنى كونها قصاصاً أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن، فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به، فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه)، والإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة.

(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) أي: فمن اعتدى عليكم من الكفار بقتال أو قتل أو انتهاك عرض أو سلب مال، فخذوا حقكم منه بمثل اعتدائه عليكم، في هيئته، وفي كيفيته، وفي زمانه، وفي مكانه.

• قال القرطبي: (فَمَنِ اعتدى) الاعتداء هو التجاوز؛ قال الله تعالى (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله) أي يتجاوزها؛ فمن ظلمك فخذ حقّك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فردّ عليه مثلَ قوله، ومن أخذ عِرْضَك فخذ عِرضه؛ لا تتعدّى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تَكذِب عليه وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تُقابل بالمعصية.

• روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أن قوله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ

) نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد، ثم نسخ بآية القتال بالمدينة.

ص: 162

وقد رد هذا القول ابن جرير وقال: بل الآية مدنية بعد عمر القضية.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (بمثل ما اعتدى عليكم) يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.

• قوله (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ

) سمى أخذهم بحقهم اعتداء، لأن سببه الاعتداء عليهم.

وأيضاً من باب المجانسة والمشاكلة، كما قال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

• أمر الله بالعدل حتى في المشركين.

كما قال تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

وقال تعالى (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

• والأمر في قوله تعالى (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ

) للإباحة بدليل قوله تعالى في آخر سورة النحل (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

وقوله تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

وقوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الآية.

هذه الآية تدل على طلب الانتقام، وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة:

كقوله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) الآية.

وكقوله (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ).

وكقوله (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ) الآية.

وقوله (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ).

وقوله (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).

ص: 163

‌وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام:

كقوله (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) وقوله (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) وقوله (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وقوله (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وكقوله:(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) والجواب عن هذا بأمرين:

أحدهما: أن الله بيّن مشروعية الانتقام ثم أرشد إلى أفضلية العفو.

ويدل لهذا قوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين).

وقوله (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ)، أذن في الانتقام بقوله (إِلا مَنْ ظُلِمَ)، ثم أرشد إلى العفو بقوله (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً).

الوجه الثاني: أنّ الانتقام له موضع يحسن فيه، والعفو له موضع كذلك.

وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله، ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته مثلاً إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور، تنتهك به حرمات الله، فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب، وعليه يحمل الأمر (فَاعْتَدُوا) الآية، أي كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح، ونحو ذلك فعفوه أحسن وأفضل.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه، أي: اتقوا الله إذا انتصرتم ممن ظلمكم فلا تظلموهم بأخذ أكثر من حقكم ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم.

• قال ابن عاشور: أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.

• قال السعدي: ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي، أمر تعالى بلزوم تقواه، التي هي الوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها.

ص: 164

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) معية خاصة بنصره وعونه وتوفيقه.

• قال السعدي: ومن كان الله معه، حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه، وخذله، فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.

• وفي هذا فضل عظيم للمتقين، (وقد تقدمت فضائل التقوى في أول السورة).

‌الفوائد:

1 -

أن الحرمات قصاص.

2 -

أن المعتدي لا يجازى بأكثر من عدوانه.

3 -

وجوب تقوى الله في معاملة الآخرين.

4 -

فضل التقوى.

5 -

إثبات معية الله تعالى.

ص: 165

(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)).

[البقرة: 195].

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال حذيفة وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى؛ لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة.

• قال ابن عاشور: هذه الجملة معطوفة على جملة (وقاتلوا في سبيل الله) الخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم، وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.

ووجه الحاجة إلى هذا الأمر مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع: تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيماناً بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيراً بقوله (واعلموا أن الله مع المتقين) نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب أناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون).

روى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة.

وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان عن أبي أيوب الأنصار قال (نزلت الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منا، فأنزل الله يرد علينا

).

فكانت التهلكة الإقامة على أموالنا وصلاحها وتركنا الغزو.

وقال بعضهم: أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر لي، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي يستكثر من الذنوب فيهلك.

فالتهلكة والهلاك نوعان: حسي بالموت، وهلاك معنوي: بالكفر والمعاصي، وترك الجهاد والإنفاق في سبيل الله والعمل للآخرة، والتعرض لعذاب الله، والحرمان من ثوابه، وهذا أشد وأعظم، وهذا هو المراد بالتهلكة في الآية، كما قال أبو أيوب في سبب

نزول الآية (فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد).

ص: 166

وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.

ولا يمتنع أن يشمل النهي في الآية أيضاً المعنى الأول وهو التسبب لإهلاك النفس بالموت، بقتل الإنسان نفسه بأي سبب من الأسباب.

عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً .. ) متفق عليه.

ومع ذلك، فإن العلماء - من المتقدمين والمتأخرين - يستدلون بهذه الآية أيضاً على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلكة بأي طريقة من طرق التهلكة، آخذين بعموم لفظ الآية، وبالقياس

الجلي، مقررين بذلك القاعدة الأصولية القائلة (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب).

• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وأما قصرها عليه -يعني قصر الآية على موضوع ترك النفقة في سبيل الله- ففيه نظر، لأن العبرة بعموم اللفظ.

• وقال الشوكاني: أي: لا تأخذوا فيما يهلككم، وللسلف في معنى الآية أقوال. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جرير الطبري.

ويدل على ذلك أيضاً تنوع تفسيرات السلف لهذه الآية، فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اعتبر من يذنب الذنب ثم ييأس من رحمة الله: أنه ألقى بيده إلى التهلكة، قال ابن حجر: أخرجه ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح.

(وَأَحْسِنُوا) يأمر الله تعالى بالإحسان، وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال، ويدخل فيه الإحسان بالجاه، وبالشفاعة ونحو ذلك، وتعليم العلم النافع، وقضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم، وإزالة شدائدهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم.

ص: 167

ويدخل في ذلك الإحسان في عبادة الله، إخلاصاً لله تعالى، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وقال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ).

فالإحسان في عبادة الله: أن تقوم بالعمل متقناً فيه إخلاصاً ومتابعة.

والإحسان إلى المخلوق: بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك.

وأعظم دافع للإحسان مراقبة الله تعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك).

وسؤال جبريل هذا ليعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان، وأن إحسان العمل إنما يكون لمن راقب الله وعلم يقينياً أن الله مطلع عليه.

لأن الإحسان هو الغاية التي من أجلها خلق الخلق، وأنه سبحانه يختبر عباده في إحسانهم للعمل.

كما قال تعالى في أول سورة هود (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ولم يقل أيكم أكثر عملاً.

وقال تعالى في أول سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) ثم بيّن الحكمة بقوله (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وقال تعالى في أول سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

فالإحسان: أن يأتي بالعمل حسناً متقناً لا نقص فيه ولا وصم، وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون

ص: 168

• قال ابن رجب: قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الزِّيادةِ بالنّظرِ إلى وجهِ الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسّانِ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمنُ ربّه في الدُّنيا على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنّه يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حال عبادتِهِ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى الله عياناً في الآخرة، وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)، وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوبِهم، حتّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذا تعليل للأمر بالإحسان، أي: إن الله يحب المحسنين بنوعي الإحسان، الإحسان في عبادته، والإحسان إلى عباده. (وقد تقدمت فضائل الإحسان).

• وفي هذا إثبات المحبة لله تعالى.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الإنفاق في سبيل الله.

2 -

الإشارة إلى الإخلاص في الإنفاق.

3 -

تحريم إلقاء النفس بالتهلكة، ومن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله.

4 -

الأمر بالإحسان.

5 -

فضل الإحسان والحث عليه.

6 -

إثبات المحبة لله.

ص: 169

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)).

[سورة البقرة: 196]

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) لمَا ذكر تعالى أحكام الصيام، وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك، فأمر بإتمام الحج والعمرة.

والمعنى: أي وأكملوا الحج والعمرة لله بأركانهما وواجباتهما وسننهما بعد الإحرام بهما، على الصفة التي شرع الله.

فمن أحرم بنسك حج أو عمرة وجب عليه إتمام ذلك النسك حتى ولو كان نفلاً.

• قوله (لله) أي: مخلصين لله عز وجل، وهكذا في جميع الطاعات والعبادات تنبغي أن تكون لله تعالى وحده.

قال تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).

وقال تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

وقال تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).

وقال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

وقال صلى الله عليه وسلم (من بنى مسجداً لله بنى الله

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ الرَّجُلِ في جماعةٍ تزيدُ عَلَى صَلَاتِهِ في سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بضْعاً وعِشْرينَ دَرَجَةً، وذلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِد لا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلَاةَ، لا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ، لَمْ يَخطُ خُطوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِها دَرجةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطيئَةٌ حتَّى يَدْخلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دخل الْمَسْجِدَ كانَ في الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ التي تحبِسُهُ، وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدكُمْ ما دام في مَجْلِسهِ الَّذي صَلَّى فِيهِ، يقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، ما لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» متفقٌ عليه، وهَذَا لَفْظُ مُسْلمٍ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«ينْهَزُهُ» هُوَ بِفتحِ الْياءِ وَالْهاءِ وَبالزَّاي: أَي يُخْرِجُهُ ويُنْهِضُهُ.

ص: 170

وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ) متفقٌ عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من تواضع لله رفعه الله) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ) متفق عليه.

•‌

‌ قال السعدي: يستدل بقوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) على أمور:

أحدها: وجوب الحج والعمرة، وفرضيتهما ..

الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما، وواجباتهما، التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:(خذوا عني مناسككم).

الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة ..

الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما، ولو كانا نفلاً ..

الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما ..

السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.

السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله، وهو الحصر ..

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الإحصار في اللغة: المنع والحبس، يقال: حصره عن السفر وأحصره عنه إذا حبسه ومنعه.

والمعنى: أي: منعتم من إتمام الحج أو العمرة أو أحدهما.

ص: 171

واختلف العلماء هل المراد بالإحصار فقط بالعدو أو هو عام بالعدو وغيره كمرض أو ضياع نفقة أو غير ذلك على قولين:

القول الأول: أن المراد به حصر العدو دون المرض ونحوه.

وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير، وهو قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير.

وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي.

وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى.

‌وحجة هذا القول متركبة من أمرين:

الأمر الأول: أن الآية الكريمة التي هي (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء، قاله الشنقيطي.

الأمر الثاني: ما ورد من الآثار من أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي.

عن ابن عباس أنه قال (لا حصر إلا حصر العدو) رواه البيهقي.

قال النووي في شرح المهذب: إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه أيضاً ابن حجر.

القول الثاني: أن الإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه، وما كان من مرض ونحوه من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم.

ص: 172

وممن قال بهذا القول: ابن مسعود، ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعلقمة والثوري والحسن وأبو ثور وداود، وهو مذهب أبي حنيفة، ورجحه الطبري.

وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدم في حجة الذي قبله.

ومن جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى) فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق.

قال النووي في شرح المهذب بعد أن ساق حديث عكرمة هذا: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة.

وهذا القول هو الصحيح.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي: فاذبحوا ما تيسر من الهدي، أي: فعليكم للخروج من النسك والتحلل من الإحرام ذبح أو نحر الذي تيسر من الهدي.

•‌

‌ فالذي يجب على المحصر:

‌أولاً: أن يذبح هدي.

لظاهر القرآن (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) والجمهور على أن مكان ذبح الهدي هو مكان الإحصار، سواء كان حلاً أو حرماً، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية ونحر بها، وهي ليست من الحرم.

‌ثانياً: الحلق أو التقصير.

قال بعض العلماء: إنه يلزمه أيضاً الحلق أو التقصير، وهو مذهب مالك وأصحابه.

لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم، وأمر أصحابه أن يحلقوا.

وهذا أمر والأمر للوجوب.

ص: 173

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزمه حلق، وهذا قول مذهب الحنفية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي.

واحتج أهل هذا القول بأن الله تعالى قال (فما استيسر من الهدي) ولم يذكر الحلق، ولو كان لازماً لبينه.

والراجح القول الأول، ورجحه الشنقيطي.

• الصحيح أن المحصر إذا لم يستطع على الهدي فلا شيء عليه لا صيام ولا غيره، خلافاً للمذهب.

(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) قوله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) معطوف على قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وليس معطوفاً على قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما أحصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان مفرداً أو متمتعاً.

ومعنى الآية: لا تزيلوا شعر رؤوسكم، لأن ذلك من محظورات الإحرام، إلى غاية وصول الهدي محله، ومحله: أي زمان حلوله وهو يوم العيد، ومكان حلوله وهو الحرم، والمعنى: حتى يذبح الهدي يوم العيد.

ص: 174

• في هذا أن حلق الرأس من محظورات الإحرام، وقاس جمهور العلماء بقية شعور البدن، كالشارب والإبط والعانة وغير ذلك.

(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي: به مرض يحتاج بسببه إلى حلق رأسه.

(أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) بسبب القمل ونحو ذلك، واحتاج إلى حلقه.

(فَفِدْيَةٌ) أي: فليحلق رأسه وعليه فدية.

(مِنْ صِيَامٍ) أي: تكون هذه الفدية من صيام، وهو ثلاثة أيام.

(أَوْ صَدَقَةٍ) وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.

(أَوْ نُسُكٍ) وهو ذبح شاة.

وقد جاء ذلك مبيناً في حديث كعب بن عجرة:

عن كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ يَتَهَافَتُ قَمْلاً فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ. قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوِ انْسُكْ مَا تَيَسَّر) متفق عليه.

• ومثل حلق الرأس حلق الشارب والإبط والعانة ونحو ذلك.

•‌

‌ وفي الآية أنه يجوز فعل المحظور للضرورة وفيه الفدية، ففاعل المحظور له ثلاث حالات:

أولاً: أن يفعل المحظور عالماً متعمداً ذاكراً غير معذور.

فهذا آثم وعليه الفدية.

ثانياً: أن يفعله عالماً مختاراً ذاكراً معذوراً.

فهذا عليه الفدية ولا إثم عليه.

فلو احتاج الإنسان إلى تغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه، جاز له تغطيته وعليه الفدية.

ثالثاً: أن يفعله معذور بجهل أو نسيان.

فهذا لا شيء عليه لأنه جاهل أو ناسي.

ص: 175

• وفي التخيير في الفدية بين الصيام والصدقة والنسك تيسير على من احتاج إلى حلق الرأس ونحوه من المحظورات.

(فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره.

(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي: من اعتمر في أشهر الحج، واستمتع بما يستمتع به غير المحرم، من الطيب والنساء وغيرها.

(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي: فعليه ما تيسر من الهدي وهو شاة يذبحها شكراً لله تعالى على نعمة التحلل والتمتع بين النسكين.

• ففيه أن المتمتع يجب عليه هدي، وأما القارن، فذهب جمهور العلماء على وجوب الهدي عليه، وخالف داود الظاهري ولم يوجب على القارن دم، قال: لأن الله قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) فلا بد من تمتع فاصل بين العمرة والحج، وهذا قول قوي.

لكن قول الجمهور أحوط، وأما المفرد فليس عليه هدي، قال النووي: بالإجماع.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي الهدي، بأن عدمه، وله صورتان:

الأولى: ألا يوجد هدي، بحيث لا يجد في الأسواق شيئاً من بهيمة الأنعام.

الثانية: أن لا يوجد معه ثمن.

ص: 176

(فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي: فعليه صيام ثلاثة أيام.

(فِي الْحَجِّ) أي: في أثناء الحج.

• وأول وقتها منذ إحرامه إلى آخر أيام التشريق، عدا يوم العيد فيحرم صومه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد.

وقد ذكر بعض العلماء أن الأفضل أن تكون اليوم السابع والثامن والتاسع، لكون آخرها يوم عرفة، قالوا: وفي هذه الحال ينبغي أن يحرم بالحج في اليوم السابع.

وفي هذا نظر من جهتين:

من جهة تقديم الإحرام بالحج، ومن جهة كون آخرها يوم عرفة.

أما الأول: فإن تقديم إحرام الحج على اليوم الثامن خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الثاني: وهو كون آخرها يوم عرفة، ففيه نظر أيضاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة). رواه أبو داود، وأتي بقدح فشربه أمام الناس ضحى يوم عرفة. متفق عليه

والذي يظهر أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، لقول عائشة وابن عمر (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي). رواه البخاري

فظاهر هذا النص: أن الصحابة كانوا يصومونها أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج، لأن أيام التشريق أيام للحج، ففيها: الرمي.

ويجوز أن يبدأ بصيامها من حين أن يحرم بالعمرة.

• هل يشترط أن تكون متتابعة؟

إن ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق؛ لزم أن تكون متتابعة ضرورة، لأنه لم يبق من أيام التشريق إلا ثلاثة، ولا يجوز أن تؤخر عن أيام التشريق، وأما إذا صامها قبل أيام التشريق؛ فيجوز أن يصومها متفرقة ومتتابعة.

(وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) قيل: إلى رحالكم، وقيل: إلى أوطانكم، روي هذا عن سعيد بن جبير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس، وحكى على ذلك ابن جرير الإجماع.

• وإذا صامها في الطريق أجزأه ذلك، لأن المقصود من كونها رجع إلى أهله أن لا تكون في الحج.

(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) تأكيد لقوله تعالى (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) كما في قوله تعالى (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقوله تعالى (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ).

ص: 177

(ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: ذلك الهدي خاص بغير أهل الحرم.

• قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بعد إجماعه في أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا هدي لهم.

فقال بعضهم: هم من كان من دون المواقيت.

وقيل: هم أهل مكة فقط.

وقيل: هم أهل الحرم من أهل مكة وغيرهم.

وقيل: أهل الحرم ممن بينهم وبينه مسافة قصر، لأن من دون المسافة يعتبر من أهل البلد.

• قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: وأحسن ما يقال: إن حاضري المسجد الحرام هم: أهل مكة، أو أهل الحرم، أي من كان من أهل مكة ولو كان في الحل، أو من كان في الحرم ولو كان خارج مكة.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: واعلموا أن الله شديد العقوبة والمؤاخذة لمن خالف أمره وارتكب نهيه، لأن العلم بذلك مع توفيق الله، يحمل الإنسان على تقوى الله.

ص: 178

‌الفوائد:

1 -

وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما.

2 -

أن الحج والعمرة يخالفان غيرهما في وجوب إتمام نفلهما.

3 -

وجوب الهدي على من أحصر.

4 -

استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن وجوب الحج على التراخي ليس على الفورية.

قالوا: لأن فرض الحج كان بقوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ

) فهذه الآية نزلت في السنة السادسة، ولم يحج الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في العام العاشر من الهجرة.

وهذا قول ضعيف، والصحيح: أن وجوب الحج على الفور.

وهذا قول المالكية وبعض الشافعية، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة.

قالوا: لأن فرض كان في السنة التاسعة في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) وأما الآية السابقة فإنما فيها وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة الحديبية أنه قال لأصحابه (قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل

فغضب النبي صلى الله عليه وسلم

دخل على أم سلمة مغضباً) ولو لم يكن الأمر للفور ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغضباً.

5 -

استدل بعض العلماء في هذه الآية على وجوب العمرة، وهذا مذهب الحنابلة.

قال ابن قدامة: روي ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي.

واستدلوا أيضاً بما رواه أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت (قلت: يا رسول الله؛ على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: فقوله (عليهن) ظاهرة في الوجوب، لأن (على) من صيغ الوجوب.

وبما رواه الخمسة وصححه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل (حج عن أبيك واعتمر).

وذهب بعض العلماء إلى أنها غير واجبة، وهذا مذهب المالكية وأهل الرأي.

لحديث جابر قال (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله؛ أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: (لا، وأن تعتمر خير لك) رواه أحمد والترمذي وهو ضعيف.

ص: 179

وعن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع). رواه ابن ماجه وهو ضعيف.

ورجح هذا القول الشوكاني والصنعاني، حيث قال في سبل السلام: الأدلة لا تنهض عند التحقيق على الإيجاب الذي الأصل فيه عدمه.

5 -

تحريم حلق شعر الرأس، وأن حلقه من محظورات الإحرام.

قال العلماء: إن العلة هي الترفه، لأن حلق شعر الرأس تحصل به النظافة.

وأكثر العلماء أن ذلك يشمل شعر الرجل والساق والصدر والشارب قياساً على شعر الرأس لاتحاد العلة.

وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر، تقليم الأظافر بجامع الترفه.

6 -

أن من حلق رأسه لمرض أو قمل أو غيره؛ فعليه الفدية، لقوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

والفدية: ما يعطى فداء لشيء.

والفدية: هي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام متتابعة أو متفرقة، أو ذبح شاة.

الدليل قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

(صيام) مجمل لم يبينه الله عز وجل، لكن بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أو صدقة) مجملة أيضاً، لكن بينها الرسول صلى الله عليه وسلم.

(أو نسك) مبين، لأن النسك هو الذبيحة، كما مر في حديث كعب بن عجرة.

وقد اختلف العلماء في القدر الذي تجب فيه الفدية.

قال بعضهم: إذا حلق ثلاث شعرات، قال القاضي: هذا المذهب، وهو قول الحسن وعطاء والشافعي.

وقال بعضهم: إذا حلق أربع شعرات.

وقال بعضهم: إذا حلق ما به إماطة الأذى فعليه الفدية، وهذا مذهب مالك.

وهذا القول هو الراجح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حجم وهو محرم في رأسه، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتدى.

7 -

أن هذه الفدية على التخيير.

8 -

التيسير على العباد، وذلك بوقوع هذه الفدية على التخيير.

9 -

جواز التمتع.

10 -

أن من لم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع.

11 -

وجوب تقوى الله وتهديد من خالف ذلك.

ص: 180

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)).

[البقرة: 197].

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) أي: الحج وقته أشهر معلومات.

• قوله (مَعْلُومَاتٌ) أي: معروفات مشهورات، وهي ثلاثة أشهر: شول وذو القعدة وذو الحجة.

وقيل: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا المذهب والصحيح الأول، وأن أشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة كاملاً لأن الله يقول (الحج أشهر معلومات) وأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة في اللغة، وما يضعف القول الأول أن من أيام الحج (11، 12، 13) من ذي الحجة يفعل فيها الحج الرمي والمبيت، فكيف نخرجها من أشهر الحج؟

• فلا يصح الإحرام بالحج قبل أشهره كرمضان.

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي: فمن أحرم فيهن بالإحرام، لأن الإحرام والشروع به يصيره فرضاً حتى ولو كان حج نفل.

• قال ابن كثير: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي: أوجب بإحرامه حجاً، وفيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه.

• قال ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفرْض هاهنا الإيجاب والإلزام.

• قوله (فِيهِنَّ) أي: في أشهر الحج، والمراد بعضها، أي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لأن ما بعد طلوع الفجر يوم النحر ليس محلاً للإحرام لانتهاء وقت الوقوف بعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك) رواه أبو داود.

(فَلا رَفَثَ) الرفث: الجماع ومقدماته القولية والفعلية.

ص: 181

• قال ابن كثير: أي: من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث، وهو الجماع كما قال تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك.

(وَلا فُسُوقَ) الفسوق المعاصي جميعها، بترك المأمورات وارتكاب المحظورات.

فالواجب على الحاج اجتناب جميع المعاصي لقوله صلى الله عليه وسلم (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري، وقيل المراد بالفسوق هاهنا السباب، والأول أرجح ورجحه ابن كثير.

•‌

‌ قال ابن الجوزي: وفي الفسوق ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه السباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين.

والثاني: أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق، يا ظالم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية.

(وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) الجدال والخصام والمنازعة والمغاضبة، أي: ولا جدال ولا خصام في الحج، لا في أحكامه ومسائله، ولا في غير ذلك من المخاصمات والمنازعات في أمور الدين والدنيا وقت الحج.

• قال ابن عاشور: واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج، ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.

• وقال السعدي: والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج.

(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) قليلاً كان أو كثيراً، صغيراً كان أو كبيراً.

(يَعْلَمْهُ اللَّهُ) أي: يحيط به علماً ويحصيه عدداً ويجازيكم عليه.

ص: 182

• وفي هذا ترغيب وحث على الإكثار من أفعال الخير من أنواع القربات، وأنه لن يضيع عند الله.

كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).

وقال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ).

وقال تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين).

وقال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

(وَتَزَوَّدُوا) أي: تزودكم في سفركم إلى الحج بما تحتاجونه من مال ومأكل ومشرب وأثاث وغير ذلك، لأن الواجب على الإنسان أن يستغني بما آتاه الله عما في أيدي الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

عن عكرمة عن ابن عباس قال (كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) رواه البخاري.

• قال في التسهيل: (وَتَزَوَّدُواْ) قيل: احملوا زاداً في السفر، وقيل: تزوّدوا للآخرة بالتقوى، وهو الأرجح لما بعده.

• وقال الشوكاني: قوله (وَتَزَوَّدُواْ) فيه الأمر باتخاذ الزاد؛ لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحجّ بيت ربنا، ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن متوكلون على الله سبحانه، وقيل: المعنى تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة (فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى) والأوّل أرجح كما يدل على ذلك سبب نزول الآية.

ص: 183

(فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) أي: فإن خير الزاد وأنفعه للعباد في الحال والمآل والمعاد وأبلغه وأوصله إلى المقصود: تقوى الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فهي خير الزادين في الدنيا والآخرة، وهي الزاد الذي لا ينقطع نفعه، للدار التي لا تزول ولا تحول، في جنات الخلود.

• قال ابن كثير: لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى.

قال الشاعر:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

وشاهدتَ بعد الموت من قد تزودا

ندمتَ على ألا تكون كمثلهِ

وأنك لم ترصد لما كان أرصدا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.

قال ابن رجب: وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً، فيطمئنّ فيها، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر: يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل.

وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).

وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول (مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها).

ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها، ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً.

ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.

وكان عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.

ص: 184

قال بعضُ الحكماء: عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه، يشتغلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة.

وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَّعَن، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى.

وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين: إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة، بل هو ليله ونهارَه، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة، فلهذا وصّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين.

(وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) بعد الترعيب بالتقوى، أمر بها (يَا أُولِي الْأَلْبَاب) أي: يا أصحاب العقول والأفهام النيرة، التي تهدي أصحابها وترشدهم إلى ما ينفعهم، وتمنعهم عما يضرهم.

• قال ابن كثير: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) يقول: واتقوا عقابي، ونكالي، وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام.

• قال الشوكاني: وقوله (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب) فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حثّ جميع العباد على التقوى؛ لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها، ولبّ كل شيء خالصه.

• والألباب: جمع لُبٍ.

‌الفوائد:

1 -

أن للحج أشهر معلومات.

2 -

أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره.

3 -

أن الإحرام بالحج أو العمرة ينعقد بمجرد نية الدخول في النسك.

4 -

أن من أحرم بالحج وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً.

5 -

تحريم الجماع ومقدماته والفسوق والجدال والخصام والنزاع على المحرم.

6 -

الترغيب في فعل الخير.

7 -

علم الله بجميع الأشياء.

8 -

وجوب الاستعداد بالزاد لسفر الحج والعمرة والاستغناء عن الناس.

9 -

الحث على التزود بتقوى الله.

ص: 185

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)).

[البقرة: 198 - 199].

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عن ابن عباس، قال (كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج.

وروى أبو داود عن ابن عباس، قال: كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم، والحج، يقولون: أيام ذكر، فأنزل الله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ).

• والمعنى: ليس عليكم حرج ولا إثم أن تطلبوا زيادة الرزق من ربكم بالتجارة في موسم الحج، بالبيع والشراء وغير ذلك.

• لكن إن كان هو المقصود بالسفر للحج، فليس لصاحبه سواه، لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) الإفاضة من عرفات: الدفع والانصراف منها إلى مزدلفة.

وعرفات: علم على مكان وقوف الحجاج يوم التاسع من ذي لحجة.

•‌

‌ سميت بذلك:

قيل: لارتفاعها عما حولها.

وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم.

وقيل: لأن آدم لما أهبط هو وزوجته حواء تعارفا في هذا المكان، وقيل غير ذلك.

• قال الشوكاني: وسميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيه. وقيل: إن آدم التقى هو وحواء فيها، فتعارف. وقيل: غير ذلك، قال ابن عطية: والظاهر: أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع.

ص: 186

• والوقوف بعرفة هو أهم وأعظم أعمال الحج وأركانه قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة).

(فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) المشعر الحرام مكان أداء الشعيرة من شعائر الله، والمراد هنا المزدلفة كلها، أي: فاذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم بصلاة المغرب والعشاء والفجر ودعائه وتكبيره وتهليله وتوحيد.

وقيل: المشعر الحرام جبل هناك، لحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (

حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين وصلى الفجر حين تبين له الصبح

ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس

) رواه مسلم.

ففي قوله: حتى أتى المزدلفة

ثم قال: حتى أتى المشعر الحرام ما يدل على التغاير، ويفيد أن المشعر الحرام جزء من مزدلفة.

• وقوله (الحرام) أي: ذو الحرمة، لأنه داخل الحرم، فمزدلفة داخل الحرم.

(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أمر الله عز وجل بذكره عند المشعر الحرام، ثم أكد الأمر بذلك مقروناً بتنبيههم بما أنعم به عليهم من هدايتهم وتوفيقهم للطريق المستقيم، ولمعرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه خاصة.

• الكاف في قوله (كما هداكم) يحتمل أن تكون للتشبيه، أي: واذكروه على الصفة التي هداكم وأرشدكم إليها، أي: وفق شرعه.

ويحتمل أن تكون للتعليل، أي: واذكروه لهدايته لكم.

قال السعدي: قوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أي: اذكروا الله تعالى، كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعِم بالقلب واللسان.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي: قبل هداه لكم بما أنزل عليكم من القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.

(لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي: التائهين البعيدين عن طريق الحق، وعن معرفة مشاعر الحج ومناسكه وأحكامه.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) يحتمل: أن يكون المراد بالإفاضة هنا الدفع من المشعر الحرام، أي: من مزدلفة إلى منى لرمي جمرة العقبة وذبح الهدي.

ويحتمل أن يكون تأكيد لقوله تعالى قبل هذا (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) أي: ثم ادعوا (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ) من المكان الذي وقف فيه الناس ودفعوا منه وهو عرفات.

ص: 187

• قال الشوكاني: قيل: الخطاب في قوله (ثُمَّ أَفِيضُواْ) للحمس من قريش، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل

كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك، وعلى هذا تكون «ثم» لعطف جملة على جملة لا للترتيب.

وقيل: الخطاب لجميع الأمة، والمراد بالناس إبراهيم، أي: ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا تكون، «ثم» على بابها أي: للترتيب، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي: اطلبوا من الله مغفرة الذنوب.

• وكثيراً ما يأتي الأمر بالاستغفار بعد الانتهاء من الأعمال:

ففي هذه الآية أمر الله وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقال تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

وفي الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً

).

وأمره بالاستغفار بعد أداء الرسالة، واقتراب أجله، فقال في آخر سورة أنزلت عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).

ص: 188

• والحكمة من ذلك: قال ابن القيم: لشهودهم تقصيرهم فيها، وترْك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.

ولعل من الحِكم: دفع العجب ورؤية النفس.

• قال السعدي: ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومنّ بها على ربه، وجعلت له محلاً ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: ذو مغفرة واسعة كما قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) وقال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ).

• قال السعدي: الغفور: الذي لم يزل يغفر الذنوب ويتوب على كل من يتوب.

• قال ابن القيم:

وهو الغفور فلو أتى بقرابها

من غير شرك بل من العصيان

لأتاه بالغفران ملء قرابها

سبحانه هو واسع الغفران

والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه - أي ستره ورحمته - فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) رواه البخاري ومسلم.

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام.

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: محبة الله وحمده وشكره على رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.

ثانياً: فتح باب الرجاء والمغفرة للشاردين عن الله تعالى والمسرفين على أنفسهم، فمهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم كما قال تعالى (إن ربك واسع المغفرة)، وقد تكفل الله بالمغفرة لمن تاب (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)، بل من فضله وجود وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات قال تعالى عن التائبين (إِلَّا مَنْ تَابَ

وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ص: 189

ثالثاً: الإكثار من الأعمال الصالحة والحسنات لأنها من أسباب الحصول على مغفرة الله للسيئات السالفة، قال سبحانه (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

رابعاً: أن كونه سبحانه غفوراً وغفاراً للذنوب لا يعني أن يسرف المسلم في الخطايا والذنوب ويتجرأ على معصية الله تعالى بحجة أن الله غفور رحيم، لأن المغفرة لا تكون إلا بشروطها وانتفاء موانعها قال سبحانه (إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

خامساً: سؤال الله عز وجل بهذا الاسم الكريم مغفرة الذنوب ووقاية شرها، لأنه سبحانه وحده الذي يملك غفران الذنوب، ولا يملك ذلك أحد سواه.

سادساً: مجاهدة النفس على التخلق بخلق الصفح عن الناس وستر أخطائهم وعوراتهم والاهتداء بهدي القرآن الكريم الذي يأمر بالعفو عن الناس ومقابلة السيئة بالحسنة، قال سبحانه في وصف المتقين (والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

(رَحِيمٌ). اسم من أسماء الله، متضمن لصفة الرحمة لله الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

• من آثار رحمته:

من رحمته سبحانه وتعالى إرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للناس وإخراجاً لهم من الظلمات إلى النور، فالرسل رحمة من عند الله لعباده قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

ومن رحمته سبحانه وتعالى مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم، وتكفير سيئاتهم، وفتح باب التوبة لهم.

إلى غير ذلك.

‌الفوائد:

1 -

جواز الاتجار في الحج وطلب الرزق في البيع والشراء.

2 -

امتنان الله على عباده والتوسعة عليهم ودفع الحرج عنهم.

3 -

مشروعية الوقوف بعرفات.

4 -

وجوب المبيت بمزدلفة.

5 -

مشروعية ذكر الله عند المشعر الحرام.

6 -

وجوب ذكر الله وشكره على نعمه العظيمة ومنها هدايته لعباده.

7 -

فضل ذكر الله، وأن العبادات إنما شرعت لذكر الله.

8 -

تأكيد الوقوف بعرفة والإفاضة منها.

9 -

مشروعية الاستغفار بعد الاستفاضة من عرفات والانتهاء من أعمال الحج.

10 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغفور والرحيم.

ص: 190

(فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)).

[البقرة: 200 - 202].

(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها.

(كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحَمَالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).

وقيل: استغيثوا بالله والجئوا إليه كما يستغيث الصغير بأبيه إذا مسه سوء.

• قال ابن عاشور: والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به.

(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ليست (أو) هاهنا للشك قطعاً، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزيد منه.

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) هذا ذم لمن يسأل الله تعالى الدنيا وملذاتها دون الآخرة.

• قال الشوكاني: والخَلاق: النصيب، أي: وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها، ولا يطلب سواها، وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته، ومعظم مقصوده.

(وَمِنْهُمْ) أي: ومن الناس قسم موفقون يدعون ربهم ويسألونهم من خيري الدارين، في أمور دينهم ودنياهم فيقولون:

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) المراد بالحسنة في الدنيا، تشمل كل خير الدنيا من التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، ومن المتاع الحسن في هذه الحياة، من صحة في البدن، وفسحة في السكن، وسعة في الرزق.

(وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الحسنة في الآخرة الجنة وما فيها من ألوان وأنواع النعيم، وأعلاها النظر إلى وجه الله الكريم.

(وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي: اجعل لنا وقاية من عذاب النار، ولك بحفظنا من الذنوب الموجبة لها، وحفظنا أيضاً من دخولها.

ومن صفات عباد الله الخوف منها، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً).

• فإن قيل: لم زاد في الدعاء (وقنا عذاب النار)؟

الجواب: إنما زاد في الدعاء (وقنا عذاب النار) لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب منها فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار. (تفسير ابن عاشور).

• وهذا الدعاء من أعظم الأدعية وأجمعها وأكملها.

عن أنس. قال (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة

).

ص: 191

• قال ابن كثير: جمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا، وصرَفت كلّ شر، فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.

(أُولَئِكَ) فيه قولان:

أحدهما: أنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين سألوا الدنيا والآخرة، والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال

(وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خلاق).

والقول الثاني: أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه.

(لَهُمْ نَصِيبٌ) أي: لهم حظ.

(مِمَّا كَسَبُوا) أي: فكل من هؤلاء وهؤلاء نصيب من كسبهم وجزاء أعمالهم كما قال تعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يحتمل معنيان: يحتمل أن يوم الأخر - الذي يقع فيه الحساب - أن مجيئه قريب وسريع، وكل ما هو آت قريب والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب.

كما قال تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

ويحتمل - وهو المتبادر -: أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم، بخلاف حال المخلوقين فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن ذلك يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة.

ص: 192

كما قال تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).

• ووصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.

‌الفوائد:

1 -

فضل ذكر الله.

2 -

ينبغي أن يكون ذكر الله أكثر من كل شيء.

3 -

انقسام الناس فيما يطلبون.

4 -

إثبات الآخرة.

5 -

فضل هذا الدعاء: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

6 -

عدل الله.

7 -

إثبات الحساب.

8 -

تمام قدرة الله تعالى.

9 -

إثبات علم الله

ص: 193

(وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)).

[البقرة: 203].

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ) بألسنتكم وقلوبكم وجوارحكم، بتكبيره وتهليله وتحميده وغير ذلك من أنواع الذكر.

(فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) وهي أيام التشريق، الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) أي: خرج من منى ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني.

(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه.

(وَمَنْ تَأَخَّرَ) بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد.

(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي: فلا حرج عليه أيضاً.

فكل ذلك، التعجل في يومين والتأخر، وهذا من التخفيف والتيسير على الأمة، لكن لمن تأخر زيادة أجر عمله في اليوم الثالث.

(لِمَنِ اتَّقَى) للذي اتقى الله في أعمال الحج ومناسكه وغيرها، فعلاً لما أمر الله به، وانتهاء عما نهى الله عنه.

كما قال صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق

).

وقال صلى الله عليه وسلم (الحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة).

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

• قال ابن عاشور: (واتقوا الله) وصية جامعة للراجعين من الحج أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم، ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغيرون ويفسدون، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي: واعلموا أنكم إليه ترجعون، ولديه تجمعون، وعليه تعرضون يوم القيامة وتحاسبون.

قال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

ص: 194

وقال تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).

وأمر الله بأن نعلم بأننا إليه راجعون، لأن العلم بذلك أعظم واعظ يحمل على تقوى الله.

• قال السمرقندي: وإنما حذرهم الله تعالى، لأنهم إذا رجعوا من حجهم، يجترئون على الله تعالى بالمعاصي، فحذرهم عن ذلك فقال (واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم بأعمالكم.

‌الفوائد:

1 -

ذكر الله في هذه الأيام المعدودات.

2 -

جواز التعجل والتأخر في الحج.

3 -

سعة فضل الله وتيسيره على عباده.

4 -

وجوب تقوى الله.

5 -

قرن المواعظ بالتخويف.

ص: 195

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)).

[البقرة: 204 - 206].

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: ومن الناس فريق يروقك كلامه يا محمد ويثير إعجابك بخلابة لسانه وقوة بيانه.

• و (من) بمعنى بعض كما في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ).

• قال ابن عاشور: والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير

والإعراض عن الكفار.

ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، تحذيراً للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين، وتنبيهه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه.

• قال بعض العلماء: إنها نزلت في الأخنس بن شَرِيق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.

وقال بعضهم: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خُبَيب وأصحابه الذين قتلوا بالرّجيع وعابُوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خُبَيب وأصحابه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه).

قال ابن كثير: وقيل بل ذلك عام في المنافقين كلهم وهذا قول قتادة، ومجاهد، والرّبيع ابن أنس، وغير واحد، وهو الصحيح.

• قال الرازي: اختيار أكثر المحققين من المفسرين، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة.

• قال ابن عاشور: والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا، لأن المقصود ما يضاد قوله: وهو ألد الخصام إلى آخره.

ص: 196

• قوله تعالى (في الحياة الدنيا) قيل: أي في هذه الحيا الدنيا فقط، وأما في الآخرة فالحاكم فيها علام الغيوب الذي يطلع على القلوب والسرائر.

(وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) قيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حَلَف وأشهد الله لهم: أن الذي في قلبه موافق للسانه. وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.

• قال ابن عاشور: ومعنى (يشهد الله على ما في قلبه) أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق.

قال تعالى (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).

وقال تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ).

(وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) الألد في اللغة هو الأعوج، وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب، ويَزْوَرَّ عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما قال صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) متفق عليه.

وفي البخاري عن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).

(وَإِذَا تَوَلَّى) أي: أدبر، وذهب عنك يا محمد، وقيل: إنه بمعنى الولاية: أي: إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض، قال الرازي: والقول الأول أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاقه، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.

(سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) السعي هنا القصد، كما قال تعالى إخباراً عن فرعون (ثم أدبر يسعى

) وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي منهي عنه بالسنة النبوية (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار).

ص: 197

• قال الشوكاني: والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به: السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض، كقطع الطريق،

وحرب المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه، أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية.

• قال ابن كثير: فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو مَحل نماء الزروع والثمار، والنسل، وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوَام للناس إلا بهما.

• والحرث هنا مراد منه الزرع، والنسل أطفال الحيوان.

• وقال مجاهد: إذا سُعي في الأرض فسادًا، منع الله القَطْرَ، فهلك الحرث والنسل.

• قال الشوكاني: قال الزجاج: وذلك، لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة، ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه: أن الظالم يفسد في الأرض، فيمسك الله المطر، فيهلك الحرث والنسل.

• فالمعاصي سبب لنزول المصائب وزوال النعم.

قال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

وقال تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).

وقال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً).

ص: 198

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وقال تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).

وقال تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).

وقال تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله، لأن الله لا يحب الفساد، وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به، ولهذا جاء في آية أخرى (واللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي: إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق امتنع وأبى، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام.

وقيل المعنى: حملته العزة على الإثم، من قولك أخذته بكذا: إذا حملته عليه، وألزمته إياه.

وقيل: الباء في قوله (بالإثم) بمعنى اللام، أي: أخذته العزّة، والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو: النفاق.

وقيل: الباء بمعنى: مع، أي: أخذته العزّة مع الإثم.

(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي: هي كافيته عقوبة في ذلك، فتكون له جهنم مهاداً وفرشاً.

(وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي: ولبئس هذا الفراش والمهاد.

• والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهاداً لأنها مستقرّ الكفار.

ص: 199

‌الفوائد:

1 -

عدم الاغترار بظواهر الحال.

2 -

وجود النفاق والمنافقين في كل زمان ومكان.

3 -

من أعظم صفات المنافقين الكذب، فهم يحلفون على صدقهم وهم كاذبون.

4 -

الإشارة إلى ذم الجدل والخصام.

5 -

أن المعاصي سبب لهلاك الحرث والنسل.

6 -

إثبات محبة الله للصلاح.

7 -

الحرص على السعي للصلاح.

8 -

التحذير من الفساد في الأرض.

9 -

الحذر من رد النصيحة.

10 -

أن رد النصيحة من علامات المنافقين.

11 -

أن الأنفة تحمل صاحبها على الإثم.

12 -

الحذر من الكبر.

ص: 200

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)).

[البقرة: 207].

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) لما أخبر تعالى عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) أي: ومن الناس فريق من أهل الخير باع نفسه.

• قال ابن كثير: قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النّهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر، فَعَل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة، فقالوا: رَبح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (ربِح البيع صهيب، ربح البيع صهيب).

وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليه بعضُ الناس، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد).

(ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أي: طلباً لمرضات الله ورغبة في ثوابه لا يتحرى بعمله إلا وجه الله.

• قال الرازي: أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء: البيع، قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) أي باعوه، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة، وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله، من الصلاة والصيام والحج والجهاد، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة، وصار الباذل كالبائع، والله كالمشتري، كما قال (إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة) وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة، فقال (ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ).

ص: 201

(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) أي: ذو رأفة، وهي أشد الرحمة.

• قال الرازي: فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس، ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط

كل ذلك العقاب وأعطاه الثواب الدائم، ومن رأفته أن النفس له والمال، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.

‌الفوائد:

1 -

فضل من باع نفسه لله.

2 -

الإشارة إلى الإخلاص في سبيل الله.

3 -

تقديم مرضات الله على النفس.

4 -

رأفة الله بعباده.

ص: 202

(يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)).

[البقرة: 208 - 209].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك.

وذهب بعض العلماء إلى أن المعنى: ادخلوا في الإسلام كلكم.

وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه.

وقيل: (السلم) بفتح السين المسالمة، والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة.

• قال ابن كثير: والصحيح الأول، وأنهم أمروا أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام.

• قال ابن تيمية: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي: الإسلام كافة، أي في جميع شرائع الإسلام.

ورجحه الشيخ ابن عثيمين، فقال: هل المراد ادخلوا في السلم جميعه، فتكون (كافة) حالاً من (السلم) أو ادخلوا أنتم جميعاً في السلم وتكون (كافة) حالاً من الواو في قوله (ادخلوا)؟ الأقرب المعنى الأول، لأننا لو قلنا بالمعنى الثاني: ادخلوا جميعاً في السلم صار معنى ذلك أن بعض المؤمنين لم يدخل في الإسلام وحينئذ فلا يصح أن يوجه إليه النداء بوصف الإيمان، فالمعنى الأول هو الصواب أن (كافة) حال من (السلم) يعني ادخلوا في الإسلام كله، ولا تدعوا شيئاً من شعائره.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تقدم شرحها.

ومناسبتها هنا، لأن الشيطان يريد منكم عدم الدخول في الإسلام، ويريد أيضاً عدم العمل بجميع شرائع الإسلام.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) جملة تعليلية أي: لا تتبعوا خطوات ومسالك الشيطان، لأنه ظاهر العداوة لكم، وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى (وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله) وثلاثة منها في قوله تعالى (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين) فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك. [مفاتيح الغيب: 5/ 4]

ص: 203

•‌

‌ وقد حذرنا الله في آيات كثيرة عن اتباع خطواته:

كما قال تعالى (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

وقال تعالى (ومِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) أي: عدلتم عن الحق.

(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ.

• قال الشوكاني: (مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات) أي: الحجج الواضحة، والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق.

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) فاعلموا أن الله عزيز في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يَغلبه غالب.

(حَكِيمٌ) حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه.

قال في التسهيل: (فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تهديد لمن زل بعد البيان.

‌الفوائد:

1 -

فضل الإيمان.

2 -

أن الإيمان مقتض لامتثال الأوامر.

3 -

وجوب العمل بالشرع جملة وتفصيلاً.

4 -

تحريم اتباع خطوات الشيطان.

5 -

أن من أعظم خطوات الشيطان الصد عن الدخول في الإسلام.

6 -

عداوة الشيطان.

7 -

شدة عداوة الشيطان للإنسان كما قال تعالى عنه (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).

8 -

قرن الحكم بعلته.

9 -

الوعيد لمن زل بعد قيام الحجة عليه.

10 -

أن الله تعالى أقام البينات على العباد.

11 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم.

12 -

إثبات الحكمة الكاملة لله تعالى.

13 -

إثبات العزة - بجميع أنواعها - لله تعالى.

ص: 204

(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ (210)).

[البقرة: 210].

(هَلْ يَنْظُرُونَ) يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون الذين زلوا بعدما جاءتهم البينات.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ) أي: لفصل القضاء.

• وفيه إثبات إتيان الله تعالى إتياناً يليق بجلاله.

(فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)(في) بمعنى (مع) يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل، وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية، لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عز وجل، والله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.

• والغمام قيل إنه السحاب الأبيض الرقيق، وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجئ الله تعالى كما قال تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).

(وَالْمَلائِكَةُ) أي: وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم.

قال ابن كثير: يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) يعني: يوم القيامة، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كُلّ عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

كما قال (كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفاً. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى).

وقال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ).

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي: فرغ منه، وصار أهل النار إلى النار وأهل الجنة إلى الجنة.

ص: 205

(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي: إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور، أمور الدنيا والآخرة كما قال تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم فيحاسبهم.

‌الفوائد:

1 -

وعيد هؤلاء بيوم القيامة.

2 -

إثبات إتيان الله يوم القيامة للفصل بين عباده.

3 -

إثبات الملائكة.

4 -

إثبات عظمة الله تعالى.

5 -

أن الملائكة أجسام.

6 -

أن يوم القيامة به ينقضي كل شيء، فليس بعده شيء، إما إلى الجنة وإما إلى النار.

7 -

عظمة الله وتمام سلطانه.

8 -

إثبات البعث والجزاء. [الاثنين 18/ 12/ 1432 هـ].

ص: 206

(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)).

[البقرة: 211 - 212].

(سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، سل - أيها الرسول - بني إسرائيل المعاندين لك.

• وفي المراد بالسؤال: التقرير والإذكار بالنعم، والتوبيخ على ترك الشكر.

• قال الشوكاني: وهو سؤال تقريع وتوبيخ.

(كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي: كم شاهدوا مع موسى (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي: حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به، كيده

وعصاه وفَلقِهِ البحر وضربهِ الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة الله كفراً، أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها.

كما قال تعالى عن كفار قريش (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ).

• قال السعدي: وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلاً لها، لأن من أنعم الله بنعمةٍ دينية أو دنيوية فلم يشكرها ولم يقم بواجبها اضمحلت عنه وذهبت، وتبدلت بالكفر والمعاصي، فصار الكفر بدل النعمة.

(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: قوي الجزاء بالعقوبة.

• وسمي الجزاء عقوبة وعقاباً، لأنه يقع عقب الذنب مؤاخذة به.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي: زين وحسّن للذين كفروا بالله وبرسله الحياة الدنيا وشهواتها وما فيها من المتاع الزائل ونسوا الآخرة، فجمعوا الأموال من غير حلها، وصرفوها في غير مصرفها، وعظموا الدنيا وأهلها وعملوا من أجلها، فرضوا بها، واطمأنوا لها، وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها، فأقبلوا عليها، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها وعظموا من شاركهم في صنيعهم.

• والتزيين جعل الشيء بهياً في عين الإنسان أو في سمعه أو في مذاقه أو في فكره.

ص: 207

• والمزَيِّن إما أن يكون الله، كما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) وإما أن يكون الشيطان، كما قال تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ولا منافاة بين الأمرين، فإن الله زين لهم سوء أعمالهم، لأنهم أساءوا كما يفيده قوله تعالى (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، والتزيين من الله باعتبار التقدير، أما الذي باشر التزيين ووسوس لهم بذلك فهو الشيطان. (ابن عثيمين).

• فعلى المسلم أن يحذر من الحياة الدنيا وشهواتها، ولهذا نهانا الله عن الاغترار بالكفار وما عليهم من الشهوات والملذات.

قال تعالى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وقال تعالى (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

(وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ويستهزؤن بأهل الإيمان ويرمونهم بقلة العقل لتركهم الدنيا والتقلل منها.

• فيسخرون من أهل الإيمان: لفقرهم، ولتصديقهم بالبعث، ولإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

والسخرية والاستهزاء سنة ماضية من قِبل أعداء الإسلام لأهله، فقد سخر واستهزأ بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قال تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

وقال تعالى (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ اسْتَهْزَءُوا بِرُسُلٍ قَبْلَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُمْ حَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَصِّلْ هُنَا كَيْفِيَّةَ اسْتِهْزَائِهِمْ، وَلَا كَيْفِيَّةَ الْعَذَابِ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، فِي ذِكْرِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ، وَهُودٍ وَقَوْمِهِ، وَصَالِحٍ وَقَوْمِهِ، وَلُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِنُوحٍ قَوْلُهُمْ لَهُ (بَعْدَ أَنْ كُنْتَ نَبِيًّا صِرْتَ نَجَّارًا).

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ).

وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)، وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْآيَاتِ.

ص: 208

وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِهُودٍ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ).

وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ أَيْضًا (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ الْآيَةَ).

وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ (أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ .. )، وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِصَالِحٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ (يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وَقَوْلُهُمْ (يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا .. ) وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِلُوطٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ

) وَقَوْلُهُمْ لَهُ أَيْضًا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِشُعَيْبٍ قَوْلُهُمْ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) وَذَكَرَ مَا حَاقَ بِهِمْ بِقَوْلِهِ (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.

ص: 209

قال تعالى (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).

(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيكون المتقون في أعلى الدرجات، متمتعين بأنواع النعيم والسرور والبهجة والحبور، والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب والإهانة والشقاء السرمدي الذي لا منتهى له

• قال الشوكاني: والمراد بالفوقية هنا: العلوّ في الدرجة؛ لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق: المكان؛ لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام، وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم، وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة.

•‌

‌ ويوم القيامة سمي بذلك لأمور ثلاثة:

أولاً: لقيام الناس من قبورهم.

قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

ثانياً: ولقيام الأشهاد.

كما قال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).

ثالثاً: ولقيام الملائكة.

لقوله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً).

• وفي الآية فضل التقوى.

(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة.

كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وينزل فيه ملكان: يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

ص: 210

ومن أسماء الله: الرزاق، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) المتضمن لصفة الرَّزْق (بالتشديد وفتح الراء).

وأما الرِّزق بالكسر فهو العين المرزوقة، فإذا أتاك طعام فهو رِزق، وإذا أتاك مال فهو رِزق.

• قال السعدي: (الرزاق) لجميع عباده فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ورزقه لعباده نوعان:

الأول: رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان.

والثاني: رزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين، وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته.

• وقد جاء في السنة اسم (الرازق):

عن أنس، قال: قد غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، قد غلا السعر فسعر لنا، فقال:(إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال). رواه أبو داود

ص: 211

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا:

أولاً: محبة الله، وإفراده سبحانه بالعبادة والانخلاع من الشرك بجميع أنواعه وأشكاله، لأن الخالق لعباده والرازق لهم هو وحده المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

وهذا ما احتج به سبحانه على المشركين حيث قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ).

وقال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثانياً: إن اليقين بأنه سبحانه المتفرد برزق عباده، يثمر التوكل الصادق على الله، والتعلق به وحده مع فعل الأسباب الشرعية في طلب الرزق (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).

ثالثاً: كما أن اليقين بذلك يثمر ترك الأسباب المحرمة في طلب الرزق، وعدم الخوف من المخلوق في قطع الرزق.

رابعاً: قدرة الله، حيث إن المتكفل بأرزاق جميع خلقه لا يمكن أن يكون إلا قادراً مقتدراً على فعل كل ما يشاء.

خامساً: إن أعظم ما استجلب به رزق الله والبركة فيه تقوى الله وطاعته، كما قال تعالى (ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

سادساً: إيمان العبد باسمه سبحانه (الرزاق) يبعد عن القلب الشح والبخل.

سابعاً: وجوب طلب الرزق من الله لا من غيره.

قال تعالى عن الخليل (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله، لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله. (قاله ابن تيمية).

ص: 212

‌الفوائد:

1 -

بيان كثرة ما أعطاه الله بني إسرائيل من الآيات البينات.

2 -

تقريع وتوبيخ بني إسرائيل.

3 -

التحذير من تبديل نعمة الله.

4 -

تهديد ووعيد من يبدل نعمة الله كفراً.

5 -

انخداع الكافرين بالحياة الدنيا.

6 -

أن المؤمن الحق ليست الدنيا في عينه شيئاً.

7 -

حقارة الدنيا.

8 -

أن الاستهزاء بالمؤمنين سنة ماضية من أعداء الإسلام.

9 -

أن العبرة بكمال النهاية.

10 -

البشرى للمؤمنين.

11 -

كثرة رزق الله.

[الثلاثاء 19/ 12/ 1432 هـ].

ص: 213

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)).

[البقرة: 213].

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: كان الناس على الإيمان والفطرة، وهذا بين آدم ونوح.

• فالمراد بالناس هنا: الذين هم بين آدم ونوح، فسار هؤلاء على التوحيد من عهد آدم إلى أن انتشر الشرك في عهد نوح، وهذا قول أكثر المحققين.

قال ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (كان الناس أمةً واحدةً) في المراد بـ (الناس) ها هنا ثلاثة أقوال:

أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور.

والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد.

والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ. ذكره ابن الأنباري. والأمَّة هاهنا: الصنف الواحد على مقصد واحد.

• قال ابن عاشور: والأمة بضم الهمزة: اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.

(فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي: فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

• قال ابن عاشور: ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله (أُمَّةً وَاحِدَةً) لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله

)، ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة.

والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ).

ص: 214

•‌

‌ فيه أن مهمة الرسل والنبيين التبشير والإنذار، وإرسال الرسل له حكم:

‌أولاً: التبشير للمؤمن والإنذار للكافر.

قال تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

وقال تعالى (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وقال تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

‌ثانياً: رحمة للناس.

قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).

‌ثالثاً: البلاغ المبين.

قال تعالى (وإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

وقال تعالى (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).

وقال تعالى (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).

ص: 215

‌رابعاً: الدعوة إلى الله.

قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

‌خامساً: إقامة الحجة.

وقال تعالى (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى).

وعندما يصيحون بالنار بعد أن يحيط بهم العذاب من كل جانب وينادون ويصرخون تقول لهم خزنة جهنم: كما قال تعالى (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ).

• قوله (النَّبِيِّينَ) النبي مشتق من النبأ، وهو الخبر، قال تعالى (عم يتساءلون عن النبأ العظيم)، وإنما سمي النبي نبياً لأنه مخبرٌ مخبَر، أي: أن الله أخبره وأوحى إليه.

وقيل: مشتق من النبْوة، وهي ما ارتفع من الأرض.

• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والتحقيق أن هذا المعنى - أي العلو والارتفاع - داخل في الأول، فمن أنبأه الله فلا يكون إلا رفيع القدر علياً.

•‌

‌ واختلف العلماء في الفرق بين الرسول والنبي:

فجماهير العلماء يرون أن الرسول: من أوحي إليه بشرع وأمِر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.

والدليل على التفريق قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ).

وشيخ الإسلام يرى: أن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، أو من أوحي إليه بشرع من قبله ولكنه بعث إلى قوم مخالفين يدعوهم إلى هذا الشرع الذي معه، وأما النبي فهو المبعوث لتقرير شرع من قبله، فالنبي مأمور بالبلاغ، لكنه يبلغه لقوم مؤمنين كأكثر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يعملون بالتوراة من بعد موسى.

(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ) أي: وأنزل مع كل نبي كتاب، فالكتاب هنا جنس يشمل جميع الكتب.

وقد قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ).

ص: 216

• قال ابن الجوزي: والكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة.

(بِالْحَقِّ) الباء للملابسة وللتعدية: أي أن القرآن نفسه نزل حقاً من عند الله لا من عند غيره، وتكون للتعدية: بمعنى أن

الكتاب نزل بالحق أي: أن ما اشتمل عليه القرآن فهو حق، فعلى الوجه يكون المراد بقوله: بالحق تأكيد أنه نزل من عند الله، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أن كل ما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواهي وأخبار فهو حق.

وكلا المعنيين صحيح، فهي حق من عند الله، وما جاءت به من الشرائع والأخبار فهو حق.

(لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الله تعالى.

والثاني: أنه النبي الذي أنزل عليه الكتاب.

والثالث: الكتاب، كقوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق).

والمعنى ليحكم النبي بالكتاب كما قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا).

(فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فكل شيء اختلفوا فيه فالكتاب يحكم بينهم.

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي: في الكتاب المذكور، وقيل: يعود في الحق.

(إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي: أوتوا وأعطوا الكتاب.

ص: 217

(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: الآيات الواضحات، والحجج الساطعات.

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي: أن ذلك بسبب الحسد والتعدي والبغي من بعضهم على بعض.

قال الشوكاني: أي لم يختلفوا إلا للبغي: أي الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي وقعوا فيه، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الخلاف.

• قال ابن عاشور: والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد، وقصد كل فريق تغليط الآخر، فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.

وقوله (بَيْنَهُمْ) متعلق بقوله (بَغْياً) للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلما على عدوها.

(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ) في جميع الأبواب، فهداهم للدين الحق وهو الإسلام، وهداهم إلى الحق فيما اختلفوا فيه في أنبيائهم كعيسى، وهداهم إلى الحق.

عن أبي هريرة في قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أوّلُ الناس دخولا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا له فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى) متفق عليه.

قال ابن كثير: قال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة.

واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة.

واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.

ص: 218

واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.

واختلفوا في إبراهيم، عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديًا، وقالت النصارى: كان نصرانيًا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.

واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذّبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته،

فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.

•‌

‌ قال ابن الجوزي: وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال:

أحدها: أنه الجمعة، جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد، وسبق الحديث في ذلك.

والثاني: أنه الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب.

والثالث: أنه إبراهيم. قالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً.

والرابع: أنه عيسى، جعلته اليهود لِفرية، وجعلته النصارى إلهاً.

والخامس: أنه الكتب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها.

والسادس: أنه الدين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك.

• في الآية أنه كلما قوي إيمان العبد كان أقرب إلى إصابة الحق لقوله تعالى (فهدى الله الذين آمنوا) لأن الله علق الهداية على وصف الإيمان، وما علق على وصف يقوى بقوته ويضعف بضعفه.

(بِإِذْنِهِ) أي: بعلمه، بما هداهم له، وقيل: بأمره.

(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي: من خلقه، أي ممن يستحق الهداية، لأن كل شيء علق بمشيئة الله فإنه تابع لحكمته، كما أنه سبحانه يجعل الرسالة في أهلها كما قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فكذلك هو أعلم حيث يجعل هدايته.

(إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الذي يجمع بين العلم والعمل، كما قال تعالى (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).

ص: 219

عن عَائِشَةَ. قَالَتْ كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ (اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) رواه مسلم.

وفي الدعاء المأثور (اللهم، أرنا الحق حَقّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا ووفّقنا لاجتنابه، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً).

فالإنسان قد يعرف الحق ولا يعمل به ولا يوفق لاتباعه، وقد لا يعرف الحق.

‌الفوائد:

1 -

أن دين الإسلام هو الفطرة.

2 -

الحكمة في إرسال الرسل وهي التبشير والإنذار.

3 -

أن الشرائع التي جاءت بها الرسل تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواهي.

4 -

الترغيب والترهيب في الدعوة.

5 -

إثبات علو الله تعالى بأنواعه.

6 -

أن الكتب منزلة من عند الله.

7 -

أن الواجب الرجوع إلى الكتاب عند النزاع.

8 -

أن الناس لو رجعوا إلى الكتاب المنزل لحصل بينهم الائتلاف.

9 -

أن كل مخالف للحق بعدما تبين فهو باغ ضال.

10 -

رحمة الله بالمؤمنين.

11 -

أن الإيمان سبب للهداية للحق.

12 -

ينبغي على العبد أن يسأل ربه الهداية.

13 -

أن كل ما سوى دين الله فهو معوج.

ص: 220

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)).

[البقرة: 214].

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ

) أي: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة.

(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي: والحال أنه لم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار.

(مثل) أي: صفة ما وقع لهم، و المثل يكون بمعنى الصفة مثل قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي: صفتها كذا وكذا.

ويكون بمعنى الشبه، كقوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) أي: شبههم كشبه الذي استوقد ناراً.

(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ) أي: الفقر.

(وَالضَّرَّاءُ) أي: الأمراض في أبدانهم.

(وَزُلْزِلُوا) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال وآل بهم الزلزال إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.

فتكون الإصابات هنا في ثلاثة مواضع: في المال، والبدن، والنفس.

• قال ابن عاشور: إن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداءُ في المحامد، فكان في قوله تعالى (كان الناس أمة واحدة) الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أُوقِظوا أنْ لا يُزْهَوْا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضَوْا حق شكر النعمة، فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم، حرضهم هنا على الاقتداء بهدي المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك.

كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال (قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).

ص: 221

وقال الله تعالى (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنه في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ

وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا).

ولما سأل هرقلُ أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان الحرب بينكم؟ قال: سِجَالاً يدال علينا ونُدَال عليه. قال: كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة.

• قال السعدي: من سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها، ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.

• وقال ابن تيمية في الحكمة من هذا الابتلاء: فإن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها، قال تعالى (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).

ص: 222

‌قال ابن القيم مبيناً الحكمة مما أصاب النبي وأصحابه يوم أحد:

فمنها: تعريفُهم سوءَ عاقبة المعصية، والفَشَل، والتنازُعِ، وأن الذي أصابَهم إنما هو بِشُؤمِ ذلِكَ، كما قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ، حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ، مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ

ومنها: أن حِكمة الله وسُنَّته في رُسله، وأتباعِهم، جرت بأن يُدَالوا مَرَّةً، ويُدَالَ عليهم أُخرى، لكن تكونُ لهم العاقبةُ، فإنهم لو انتصرُوا دائماً، دخلَ معهم المؤمنون وغيرُهم، ولم يتميَّز الصَّادِقُ مِن غيره، ولو انتُصِرَ عليهم دائماً، لم يحصل المقصودُ من البعثة والرسالة، فاقتضت حِكمة الله أن جمع لهم بينَ الأمرين ليتميز مَن يتبعُهم ويُطيعهُم للحق، وما جاؤوا به ممن يتبعُهم على الظهور والغلبة خاصة.

ومنها: أن هذا مِن أعلام الرسل، كما قال هِرَقْلُ لأبى سفيان: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قال: نعم. قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُم وبَيْنَه؟ قالَ: سِجَال، يُدالُ علينا المرة، ونُدالُ عليه الأخرى. قال: كَذلِكَ الرُّسُل تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَة.

ومنها: أن يتميَّز المؤمنُ الصَّادِقُ مِن المنافقِ الكاذب.

ومنها: استخراجُ عبوديةِ أوليائه وحزبِه في السَّراء والضرَّاء، وفيما يُحبُّون وما يكرهون، وفى حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتُوا على الطاعة والعبودية فيما يُحبون وما يكرهون، فهم عبيدهُ حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد مِن السَّراء والنعمة والعافية.

ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوِّهم في كُلِّ موطن، وجعل لهم التَّمْكِينَ والقهرَ لأعدائهم أبداً، لطغتْ نفوسُهم، وشمخت وارتفعت.

ومنها: أن النفوسَ تكتسِبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً ورُكوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يَعُوقُها عن جِدِّها فى سيرها إلى الله والدارِ الآخرة، فإذا أراد بها ربُّهَا ومالِكُهَا وراحِمُهَا كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليلَ الدواءَ الكريه، ويقطع منه العروقَ المؤلمةَ لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لَغَلَبَتْهُ الأدواءُ حتى يكون فيها هلاكه.

(حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) من شدة الكرب والبلاء، قالوا ذلك: استعجالاً للنصر وليس للشك.

(أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم، إذ قالوا (متى نَصْرُ الله) فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله (متى نَصْرُ الله) ثم قال الله عند ذلك (أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ).

ص: 223

ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم، كأنهم لما قالوا (متى نَصْرُ الله) رجعوا إلى أنفسهم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم، فقالوا (أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ) فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك، وكلاهما صحيح.

• في هذه الآية البشارة العظيمة بأن نصر الله وتفريج الكربات مقرون بالكرب.

كما قال صلى الله عليه وسلم (وَأَنْ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ويشهد لهذا:

قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا). وقوله تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا). وقوله تعالى (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

قال ابن رجب رحمه الله: وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب، كإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وإغراق عدوهم.

قال رحمه الله: ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر: أن الكربَ إذا اشتد وعظُمَ وتناهي، حصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلبُ بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

قال الفضيل: لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً، لأعطاك مولاك كل ما تريد.

‌الفوائد:

1 -

إثبات الجنة.

2 -

أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي.

3 -

حكمة الله في الابتلاء بهذه المصائب.

4 -

حكمة الله حيث يمنع النصر لفترة معينة من الزمن.

5 -

أن الصبر على البلاء من أسباب دخول الجنة.

6 -

تبشير المؤمنين بالنصر ليتقووا على الاستمرار في الجهاد.

7 -

أنه لا وصول إلى الكمال إلا بعد تجرع الصبر.

ص: 224

(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)).

[البقرة: 215].

(يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) أي: الصحابة يسألونك ماذا ينفقون، والسؤال هنا عن المنفَق، لا على المنفق عليه، أي: يسألونك ماذا ينفقون من أموالهم جنساً وقدراً وكيفاً.

والعلة من سؤال الصحابة: حرصهم على تعلم دينهم وتطبيقه.

وقد تكرر سؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن.

والنفقة: هي بذل المال في وجوه الخير.

(قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي: مال قليل أو كثير.

(فَلِلْوَالِدَيْنِ) فهما أعظم الناس به وأحقهم بالتقديم، وأعظمهم حقاً عليه.

• قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن الله إنما أجابهم عن محل الإنفاق؛ لا عن (ماذا ينفقون) لكن من تأمل الآية تبين له أن الله أجابهم عما ينفقون، وعما ينفقون فيه، لقوله (ما أنفقتم من خير) ففي هذا بيان ما ينفقون، وفي قوله (فللوالدين

) بيان ما ينفقون فيه.

ففي قوله (من خير) جواب سؤالهم، وهو أن الإنفاق يكون من أي أنواع الخير والمال، من غير تحديد جنس المال، ولا قدر المنفق منه وكيفيته.

وأما الزيادة في الإجابة على سؤالهم فهي قوله (فللوالدين .... ) وهو بيان محل ومصرف النفقة.

وفي هذا التنبيه إلى أن معرفة محل النفقة ومصرفها أهم من معرفة المنفَق، وذلك لعظم حق من ذكروا وفضل النفقة عليهم من بين سائر وجوه النفقة التي لا تحصى.

(وَالْأَقْرَبِينَ) على اختلاف طبقاتهم، الأقرب فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليه صدقة وصلة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ قَالَ: أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ). رواه مسلم

وأبا طلحة لما أراد أن يتصدق ببيرحاء قال له رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ». فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) متفق عليه.

ص: 225

(وَالْيَتَامَى) واليتيم: هو من مات أبوه وهو لم يبلغ.

• قال في التسهيل: جمع يتيم: وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه.

• وقد أوصت الشريعة بالعناية باليتيم وبماله وحذرت من أكل ماله.

‌فقد أوصى الله باليتيم في آيات كثيرة:

كقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

وقال تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ).

‌وحذر الله من أكل مال اليتامى:

فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كافل اليتيم في الجنة:

فقال صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أحرّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه النسائي، أي: ألحق الحرج وهو الإثم بمن ضيع حقهما، وأحذّر من ذلك تحذيراً بليغاً.

(وَالْمَسَاكِينِ) والمساكين جمع مسكين، وهو من لا يجد تمام كفايته، سموا بذلك، لأن الفقر أذله وأسكنه، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر والجوع، فعن أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع). رواه أبو داود

وفي حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر). رواه النسائي

• ويدخل في المساكين هنا: الفقراء، لأن كلاً منهما يطلق على الآخر إذا انفرد كل واحد منهما، لكن إذا ذكرا معاً كما في قوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) كان لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.

• وسمي المعدم مسكيناً، لأن الفقر أسكنه وأذله، فلا يطمع أن يصل إلى مرتبة الأغنياء.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به.

ص: 226

• ولم يتعرض سبحانه هنا لبقية المحتاجين كالسائلين والغارمين إما اكتفاء بذكرهم في مواضع أخرى، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: في آخر الآية وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فإنه شامل لكل خير واقع في أي مصرف كان.

(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من صدقة على هؤلاء وعلى غيرهم، بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات.

(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم به ويحفظه لكم، كل حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها وموقعها، فإنه سبحانه لا يَظلم أحداً مثقال ذرة.

كما قال تعالى (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى).

وقال (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).

‌الفوائد:

1 -

حرص الصحابة على السؤال عن العلم.

2 -

فضل الإنفاق على الوالدين والأقربين.

3 -

اهتمام الشريعة باليتامى والمساكين.

4 -

فضل الإنفاق والصدقة.

5 -

الحث على فعل الخير ولو كان قليلاً.

6 -

عموم علم الله تعالى.

7 -

في الآية وعد من الله بالإثابة على العمل الصالح.

ص: 227

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)).

[البقرة: 216].

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين.

والجهاد في الأصل فرض كفاية. والدليل على ذلك:

قول الله تعالى (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم.

وقال الله تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا).

ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه.

‌قال ابن قدامة: ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:

أحدها: إذا التقا الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام.

لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

الثاني: إذا نزل الكفر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم.

الثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفي معه.

لقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) متفق عليه.

ص: 228

• والجهاد في سبيل الله فضله عظيم، وقد تقدمت فضائله.

(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي: شديد عليكم ومشقة، وهو كذلك، فإنه إما أن يُقتلَ أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء.

• قال الرازي: أن المراد من الكره، كونه شاقاً على النفس، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلاً شاقاً على النفس، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة، فلذلك أشق الأشياء على النفس القتال.

(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لما فيه من الثواب العظيم، والتحرز من العقاب الأليم، والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم، والأمن والاطمئنان، ورد العدو عن التفكير في غزو المسلمين.

• قال ابن تيمية: فَأَمَرَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنُّفُوسِ لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَا يَحْصُلُ لِلنُّفُوسِ مِنْ أَلَمِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْرَبُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْعَافِيَةُ، فَإِنَّ مَصْلَحَةَ حُصُولِ الْعَافِيَةِ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى أَلَمِ شُرْبِ الدَّوَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ الَّذِي يَتَغَرَّبُ عَنْ وَطَنِهِ وَيَسْهَرُ وَيَخَافُ وَيَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ، مَصْلَحَةُ الرِّبْحِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمَكَارِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ).

• وقال الرازي: معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد، ولأجله حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل، وصون المال عن الإنفاق، ولكن فيه أنواع من المضار:

منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم فإما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت.

ومنها: وجدان الغنيمة.

ومنها: السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.

ص: 229

أما ما يتعلق بالدين فكثيرة: منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم، فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله، ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله، وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.

• وقال القرطبي: ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصدٍ وحِجامةٍ ابتغاء العافية

ودوام الصحة، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدقٍ.

• وقال ابن القيم:

الإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يصره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار علي ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه، فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له، فكل ما يجرى عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته، علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب، فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها.

• وقال رحمه الله: في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد:

فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها مالا يعلمه العبد وأوجب له ذلك أمورا:

منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع، وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى وان هويته نفسه ومالت إليه وإن عواقبه كلها آلام وأحزان وشرور ومصائب.

ص: 230

ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له لما يرجو فيه من حسن العاقبة.

ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم فلا يختار على ربه شيئاً بل يسأله حسن الاختيار له وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك.

ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضى بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.

ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضى باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه.

(وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة، فإنه شر، لأنه يعقب الخذلان، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذل والهوان، وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب.

وهذه الآيات عامة مطردة، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم.

ص: 231

• قال الرازي: (والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه، وكمال علم الله تعالى، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته، علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله، سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال: يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة (إِنّي أَعْلَمُ مَا لَا

تَعْلَمُونَ).

‌الفوائد:

1 -

فرضية الجهاد.

2 -

فضل الجهاد.

3 -

الحث على الجهاد.

4 -

أن النفس قد تكره الشيء لمشقته، لكن قد يكون فيه خيراً عظيماً كالجهاد.

5 -

أن البشر لا يعلمون الغيب.

6 -

ينبغي على المسلم أن يثق بأن أوامر الله كلها خير ومصالح ولو كانت بظاهرها مشقة.

7 -

عموم علم الله تعالى.

ص: 232

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217))

[البقرة: 217].

(يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) أي: يسألك يا محمد الناس عن القتال في الشهر الحرام.

• قال ابن الجوزي: وفي السائلين النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قولان:

أحدهما: أنهم المسلمون سألوه: هل أخطؤوا أم أصابوا، قاله ابن عباس، وعكرمة ومقاتل.

والثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن وعروة، ومجاهد.

• وقد روي عن جمع من المفسرين أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه لترصد قريش بنخلة بين مكة والطائف، فمرت بهم عير لقريش فيهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان، فأغاروا عليهم، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل فهرب، وذلك في آخر يوم من رجب، فقالت قريش: استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فأنزل الله (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ

).

• والمراد بالشهر الحرام، الجنس، أي: أن المراد الأشهر كلها وهي ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب.

‌وقد اختلف العلماء هل القتال في الأشهر الحرم منسوخ أم لا على قولين:

القول الأول: أنه منسوخ.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

القول الثاني: أنه محكم ليس بمنسوخ.

(قِتَالٍ فِيهِ) أي: أيحل القتال فيه.

(قُلْ) لهم مجيباً.

(قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي: القتال فيه عظيم عند الله، لكن هناك ما هو أعظم خطراً.

• وأما قتال الدفاع فهو جائز جماعاً.

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي: ومنع الناس عن دين الله.

(وَكُفْرٌ بِهِ) أي: والكفر بالله.

ص: 233

(وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: وصدهم عن المسجد الحرام كما قال تعالى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

• فقوله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قيل معطوف على الضمير في قوله (وكفر به) أي: وكفر بالمسجد الحرام، بانتهاك حرمته وعم احترامه وتعظيمه.

ويحتمل عطفه على (عن سبيل الله) وهو أظهر، أي: وص عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

(وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي: أهل المسجد الحرام، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم أحق به من المشركين، وهم عماره على الحقيقة فأخرجوهم منه ولم يمكنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد.

(أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) أي: أعظم إثماً وجرماً عند الله من القتال في الشهر الحرام.

أي: إن صدكم بأنفسكم وللناس عن دين الله وصراطه المستقيم وكفركم بالله والمسجد الحرام، وصد الناس عنه وإخراج أهله منه أكبر عن الله وأعظم إثماً وجرماً عند الله من القتال في الشهر الحرام.

(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي: فتنة المسلم وصده عن دين الله أكبر عند الله من القتل.

قال ابن القيم: والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبرئ أولياءَه من ارتكاب الإثم بالقتالِ في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ مِن مجردِ القتالِ في الشهر الحرام، فهم أحقُّ بالذمِّ والعيبِ والعُقوبَةِ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأوِّلين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفِره الله لهم في جنب ما فعلوه مِن التوحيد والطاعات، والهِجرة مع رسوله، وإيثارِ ما عند الله، فهم كما قيل:

وإذَا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ

جَاءَتْ مَحَاسِنُه بِأَلْفِ شَفِيع

فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكُلِّ قبيح، ولم يأت بشفيع واحد مِن المحاسن.

ص: 234

• فالفتنة في الدين بالكفر والشرك والصد عن ين الله، أعظم وأشد من القتل، لأن غاية القتل أن يموت الإنسان فيخسر الحياة الدنيا، أما الشرك والصد عن ين الله ففيه خسارة الدارين، الدنيا والآخرة - ولهذا توعد الله الذين يفتنون الناس ويصدونهم عن دينهم بعذاب جهنم وعذاب الحريق.

(وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين من شرّ الكفرة، أي: ولا يزال هؤلاء الكفار جاهدين في قتالكم حتى يرجعوكم إلى الكفر والضلال.

• قال أبو حيان: وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار، ومباينتهم لهم، ودوام تلك العداوة، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم، وقدرتهم على ذلك.

كما قال تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).

وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ).

وقال تعالى (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)

وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).

وقال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ

).

• قال ابن عاشور: قوله (إن استطاعوا) تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم.

(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي: ومن يرجع منكم عن دينه إلى الكفر.

(فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) ثم يستمر حتى الموت.

(فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: بطلت واضمحلت أعمالهم الصالحة في الدنيا والآخرة.

• قال ابن عاشور: وحَبَطُ الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله (في الدنيا والآخرة).

ص: 235

فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حُرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين، وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخُوَّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة).

وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.

• اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ؟

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا، وهذا هو الصحيح.

وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ.

وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاق.

قال الإمام النووي: ومن حج ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه الحج بل يجزئه حجته السابقة عندنا، وقال أبو حنيفة وآخرون يلزمه الحج، ومبنى الخلاف على أن الردة متى تحبط العمل؟ فعندهم تحبطه في الحال سواء أسلم بعدها أم لا فيصير كمن لم يحج. وعندنا لا تحبطه إلا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).

وقال أيضاً:

وهو أنه عندنا لا تبطل الأعمال بالردة إلا أن تتصل بالموت وعندهم يبطل بنفس الارتداد احتجوا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) فعلق الحبوط بشرطين الردة والموت عليها والمعلق بشرطين لا يثبت بأحدهما والآية التي احتجوا بها مطلقة وهذه مقيدة فيحمل المطلق على المقيد.

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) هذه الآية الكريمة تدل على أن الرّدة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر بدليل قوله (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقاً ولو رجع إلى الإسلام؛ فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة كقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الآية، وقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

والجواب عن هذا: أن هذه من مسائل التعارض المطلق والمقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فتقيد الآيات المطلقة بالموت على الكفر، وهذا مقتضى الأصول، وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه، وخالف مالك في هذه المسألة، وقدم آيات الإطلاق، وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول، والعلم عند الله تعالى.

ص: 236

(وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها.

(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها أبداً.

‌الفوائد:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع للصحابة في الفتوى.

2 -

تحريم القتال في الأشهر الحرم.

3 -

أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر.

4 -

أن الصد عن سبيل الله أعظم من القتال في الأشهر الحرم.

5 -

عظم الصد عن الحق.

6 -

عِظم الصد عن المسجد الحرام.

7 -

تفاوت الذنوب.

8 -

أن الفتنة - وهي صد الناس عن دينهم - أكبر من قتلهم.

9 -

حرص الكفار على ارتداد المشركين.

10 -

الحذر من الكافرين.

11 -

أن الردة مبطلة للإعمال إذا مات عليها.

12 -

أن المرتد مخلد في النار.

ص: 237

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)).

[البقرة: 218].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: الذين صدقوا بالله ورسوله وعملوا بشرعه.

(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا) أي: تركوا ديارهم وهاجروا إلى الله ورسوله.

• قال ابن عاشور: هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم.

(وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لإعلاء كلمة الله تعالى.

والجهاد: بذل الوسع في قتال الكفار.

(أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) أي: أولئك يطمعون في فضل الله وثوابه.

• قال ابن عاشور: الرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلاً منه وصدقاً، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.

• وقال رحمه الله: والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد، وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.

• قال السعدي: وفي قوله (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ) إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه.

• هذه الأعمال الثلاثة (الإيمان والهجرة والجهاد) من أفضل الأعمال.

• قال السعدي: هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان، من الربح والخسران، فأما الإيمان، فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد، قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل، ولا فرض، ولا نفل.

وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف، لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله، وخلانه، تقرباً إلى الله ونصرة لدينه.

ص: 238

وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر، لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.

فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياماً به وتكميلاً.

فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.

• فضل الإيمان بالله:

مِنْهَا: الْأَجْرُ الْعَظِيمُ (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).

وَمِنْهَا: الدَّفْعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).

وَمِنْهَا: اسْتِغْفَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لَهُمُ.

قال تعالى (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).

وَمِنْهَا: مُوَالَاةُ اللَّهِ لَهُمْ، وَلَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ اللَّهُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا).

وَمِنْهَا: أَمْرُهُ مَلَائِكَتَهُ بِتَثْبِيتِهِمْ.

قال تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

وَمِنْهَا: الْعِزَّةُ.

قال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

وَمِنْهَا: مَعِيَّةُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ.

قال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

وَمِنْهَا: الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).

وَمِنْهَا: أَمَانُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ يَوْمَ يَشْتَدُّ الْخَوْفُ.

قال تعالى (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ص: 239

وَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ هُدًى لَهُمْ وَشِفَاء.

قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ جَالِبٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ الْإِيمَانُ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ عَدَمُ الْإِيمَانِ.

• في الآية فضل الهجرة لله تعالى.

فمن فضائلها: أن الله يعوضه خيراً مما ترك.

كما قال تعالى (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً. وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً).

ومن فضائلها: يجد مراغماً وسعة.

كما قال تعالى (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً).

ففي هذه الآية وعد الله تعالى أن من هاجر في سبيله سيجد أمرين: أولهما: مراغماً كثيراً، وثانيهما: سعة

والمراد بالأمر الأول كما يقول الرازي: (مراغماً) ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية.

والمراد بالأمر الثاني (سعة) السعة في الرزق.

وفي الآية فضل الجهاد، وقد سبقت فضائله.

وفي هذه الآية أن هؤلاء جمعوا بين فعل السبب بحسن العمل بالإيمان والهجرة والجهاد وبين حسن الظن بالله تعالى.

قال ابن القيم: فتأمل كيف جعل رجاءهم بإتيانهم بهذه الطاعات، وقال المغترون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين على عباده المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله.

وسر المسألة: أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته، فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ويرجوه أن لا يكله إليها، وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه، ويصرف ما يعرضها للحبوط ويبطل أثرها.

ص: 240

(وَاللَّهُ غَفُورٌ) أي: لمن تاب توبة نصوحاً.

(رَحِيمٌ) وسعت رحمته كل شيء، وعم جوده وإحسانه كل حي.

قال السعدي: وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة، حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.

وإذا حصلت له المغفرة، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب، التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها، ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولاً وآخراً، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.

‌الفوائد:

1 -

أن الإيمان أساس وشرط لصحة الأعمال.

2 -

فضل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.

3 -

أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني.

4 -

وجوب الإخلاص لله عز وجل في الهجرة والجهاد.

5 -

تعظيم الله عز وجل للمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيله، والتنويه بهم، وأنهم هم الراجون لرحمة الله.

6 -

فضل الرجاء.

7 -

إثبات صفة المغفرة لله تعالى.

8 -

إثبات صفة الرحمة الواسعة لله تعالى.

ص: 241

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)).

[البقرة: 219 - 220].

(يَسْأَلونَكَ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والسائلون هم الصحابة رضي الله عنهم.

• السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم. لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما.

(عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي: عن حكمهما.

والخمر: لغة مأخوذ من الستر والتغطية ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (خمروا آنيتكم .. ) أي: غطوا آنيتكم.

وفي الشرع: اسم لكل ما أسكر العقل، أي: خامره وستره وغطاه على سبيل اللذة والنشوة والطرب، قال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر).

والميسر: مأخوذ من اليسر وهو القمار، وكسب المال على وجه المخاطرة والمراهنة والمغالبة التي يكون فيها عوض من الطرفين، ويكون الطرفان فيها بين غانم وغارم.

• قال السعدي: وأما الميسر: فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين، من النرد، والشطرنج، وكل مغالبة قولية أو فعلية، بعوض سوى مسابقة الخيل، والإبل، والسهام، فإنها مباحة، لكونها معينة على الجهاد، فلهذا رخص فيها الشارع.

• وقدم الخمر على الميسر، لأنه أكثر انتشاراً، وأعم ضرراً، ولأنه يذهب العقل مع المال.

(قُلْ) أي: قل لهم محمد.

(فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي: ذنب عظيم في الدين، وكبيرة من كبائر الذنوب يستوجب العقوبة الشديدة، لأنهما رجس من عمل الشيطان يسبب العداوة والبغضاء.

فالخمر فيه إزالة العقل الذي هو من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان وميزه به.

وأما الميسر فلما فيه من المقامرة والمخاطرة، وأكل أموال الناس بالباطل، وتعريض النفس للإضطرابات النفسية.

(وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) أي: وفيهما منافع للناس دنيوية فقط.

فالمنافع في الخمر ما فيها من اللذة والنشوة والطرب، وكذا ما فيها من منافع ثمنها والاتجار بها.

وأما منافع الميسر فهي ما فيها من الترويح عن النفس، والكسب لمن حالفه الحظ في هذه المقامرة، وكون المال يجلب لبعضهم من غير تعب.

ص: 242

• قال ابن كثير: أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراجَ الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:

ونشربها فتتركنا ملوكًا

وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال:

(وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) فإثمهما كبير وكثير، لا تساويه تلك المنافع، وذلك لأن إثمهما وضررهما في الدين، ومنافعهما في

الدنيا فقط، ومنافع الدنيا كلها لا تساوي شيئاً بالنسبة للدين.

• أي أن المفاسد والاضرار التي تترتب على تعاطيهما، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما، إذ تعاطيهما يؤدى إلى منفعة بعض الناس، أما مضارهما فكثيرة، من ذلك أن تعاطى الخمر يضعف الضمير، ويفسد الأخلاق، ويميت الحياء، ويفقد الرشد ويتلف المال، ويغرى بالتنازع بين الناس، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب .. إلخ.

• أما تعاطى الميسر فمن مضاره -كما قال بعض العلماء- إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغنى وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة فأصبحت غنية وأمست فقيرة.

إذن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطى الخمر والميسر لا تساوي شيئاً.

ص: 243

•‌

‌ وهذه الآية نزلت تمهيداً وتعريضاً بتحريم الخمر، فإن الخمر نزل على مراحل حتى حرم بتاتاً:

ففي هذه الآية التعريض بتحريمها، فكان في هذه الآية تهيئة للنفوس لقبول تحريمه حيث إن العقل يقتضي أن لا يمارس شيئاً إثمه أكبر من نفعه.

ثم نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) فكان في هذه الآية تمرين على تركه في بعض الأوقات وهي أوقات الصلوات.

ثم نزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

عن عمر أنَّه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) فدُعي عمر فقرئتْ عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا) رواه أحمد.

• فيرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله تعالى في سورة النحل: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً.

ص: 244

وعلى هذا الرأي سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء، فقد قال: نزلت في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم. ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول اللّه، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت:(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون.

•‌

‌ وهذا من حكم نزول القرآن مفرقاً، فمن هذه الحكم:

أولاً: تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم.

لقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً).

ثانياً: أن يسهل على الناس حفظه وفهمه والعمل به، حيث يقرأ عليهم شيئا فشيئاً.

لقوله تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً).

ثالثاً: تنشيط الهمم لقبول ما نزل من القران وتنفيذه، حيث يتشوق الناس بلهف وشوق إلى نزول الآية، لا سيما عند اشتداد الحاجة إليها كما في آيات الإفك واللعان.

ص: 245

رابعاً: التدرج في التشريع حتى يصل إلى درجة الكمال، كما في آيات الخمر الذي نشأ الناس عليه، ألفوه، وكان من الصعب عليهم أن يجابهوا بالمنع منه منعا باتاً. [الأربعاء: 27/ 12/ 1432 هـ]

(وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) أي: ويسألك أصحابك يا محمد ما الذي ينفقون.

(قُلِ الْعَفْوَ) أي: الفضل، وما لا يبلغ الجهد واستفراغ الوسع.

والمعنى: أنفقوا ما يفضل عن حاجتكم ولا يشق عليكم.

عن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول). متفق عليه

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي: مثل ذلك البيان والإيضاح والتفصيل لحكم الخمر والميسر وبيان قدر المنفَق.

(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي: يوضح لكم الآيات ويفصلها في سائر الأحكام كما قال تعالى (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وقال تعالى (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(لعل) للتعليل، أي: لأجل أن تتفكروا، والتفكر: إعمال الفكر والعقل، والتأمل والنظر والتدبر.

(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: لعلكم تتفكرون فيما هو أنفع لكم في الدنيا والآخرة من البعد عن الخمر والميسر، ومن إنفاق العفو، وتتفكرون في الدنيا وأنها دار ابتلاء وعمل، دار حقيرة، نهايتها الزوال والفناء، وتتفكرون في الآخرة وقربها، وعظم مكانتها، وأنها دار ثواب وجزاء، وخلود وبقاء (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).

(وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) أي: ويسألك أصحابك يا محمد عن اليتامى، كيف يعاملونهم، إشفاقاً منهم وخوفاً من التقصير في حقوقهم.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ (لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وَ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا)، الآيَةَ انْطَلَقَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَعَزَلَ طَعَامَهُ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ، فَجَعَلَ يَفْضُلُ مِنْ طَعَامِهِ فَيُحْبَسُ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَهُ أَوْ يَفْسُدَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)، فَخَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِطَعَامِهِ وَشَرَابَهُمْ بِشَرَابِه) رواه أبو داود.

ص: 246

(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي: عمل الأصلح لهم، أو اعملوا الأصلح لهم في أنفسهم وأموالهم وغير ذلك، من تربيتهم وتعليمهم وتأديبهم وحفظ أموالهم وتنميتها.

(وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أي: وإن تخالطوهم في طعامهم وأموالهم، وتخلطوا أموالهم مع أموالكم فتتجروا فيها جميعاً فهم إخوانكم في الدين أو في النسب أو فيهما جميعاً.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي: والله تعالى أعلم وأدرى بمن يقصد بمخالطتهم الخيانة والإفساد لأموالهم، ويعلم كذلك من يقصد لهم الإصلاح فيجازي كلاً بعمله.

قال ابن كثير: أي: يعلم من قَصدُه ونيته الإفساد أو الإصلاح.

• قال ابن عاشور: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وعد ووعيد، لأن المقصود من الإخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه.

وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته، لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح.

وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم.

وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين، فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن، ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر.

ص: 247

(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ) أي: ولو شاء الله لشدد عليكم وشق عليكم وأحرجكم، فيما شرعه لكم من أمر اليتامى وغيره، ومن ذلك أن يحظر عليكم مخالطتهم في طعامهم وشرابهم وأموالهم ولكنه تعالى خفف عنكم، فطلب منكم الإصلاح لليتامى ما استطعتم.

(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) له معان العزة كاملة.

(حَكِيمٌ) في أقواله وأحكامه يضع الأمور مواضعها.

• قال أبو حيان: في وصفه تعالى بالعزة، وهو الغلبة والاستيلاء، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبههم على أنهم لا يقهرونهم، ولا يغالبونهم، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر، فإن هذا الوصف لا يكون إلاَّ لله.

وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدّى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم، فليس لكم نظر إلاَّ بما أذنت فيه لكم الشريعة، واقتضته الحكمة الإلهية. إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع، فالإصلاح لهم ليس راجعاً إلى نظركم، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم.

‌الفوائد:

1 -

حرص الصحابة على معرفة ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.

2 -

عظم إثم الخمر والميسر.

3 -

أن في الخمر بعض المنافع.

4 -

أن دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح.

5 -

أن الخمر أشد ضرراً على الميسر، لهذا قدم في الذكر.

6 -

أن الإنفاق إنما يكون مما فضل عن حاجة المنفق وأهله.

7 -

فضل الإنفاق.

8 -

أن الحكمة من إنزال الآيات وتبيينها وتفصيلها التفكر في آيات الله.

9 -

عناية الإسلام في اليتامى.

10 -

الحث على الإصلاح لليتامى في أنفسهم وأموالهم.

11 -

إثبات مبدأ الإخوة الدينية في الإسلام.

12 -

إثبات علم الله، وفي هذا وعيد للمفسد وتحذير من الإفساد، ووعد للمصلح وترغيب في الإصلاح.

ص: 248

(وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)).

[البقرة: 221].

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومُها مرادًا، وأنَّه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خَص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).

(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي: ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة خير وأفضل من مشركة ولو أعجبتكم هذه المشركة بجمالها وحسبها ومالها، فكل هذا لا قيمة له ولا يساوي شيئاً مع الإشراك بالله تعالى وفقدان الدين، فالمؤمنة طيبة والمشركة خبيثة وقد قال تعالى (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

• قال ابن الجوزي: وفي المراد بالأمة قولان:

أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون المعنى: ولَنكاح أمَة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة.

والثاني: أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، وهذا قول الضحاك، والأول أصح.

• قال الشوكاني مرجحاً أن المراد (الأمَة): لأنه الظاهر من اللفظ، ولأنه أبلغ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى.

• وقال ابن عاشور: ووقع في (الكشاف) حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله (ولا تنكحوا المشركات) إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرَّج القرآن عليه.

• قوله تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ

) الأمَة تطلق على المرأة كما في حديث ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) متفق عليه، وتطلق الأمة على المملوكة كما في قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها).

ص: 249

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).

وقال صلى الله عليه وسلم (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم.

(وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي: لا تُزَوّجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات، كما قال تعالى (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ

يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، والخطاب للمؤمنين، وبخاصة أولياء الأمور منهم.

لأن للزوج ولاية على الزوجة كما قال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فلا يجوز أن يكون لمشرك ولاية على مؤمنة، قال تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

• قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا.

• وقال الرازي: فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة على اختلاف أنواع الكفرة.

• وفي الآية دليل على اشتراط الولي في النكاح.

(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) أي: ولعبد مؤمن حراً كان أو مملوكاً خير وأفضل من مشرك خيرية مطلقة من جميع الوجوه.

(وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) الواو: حالية، أي: ولو أعجبكم وسركم المشرك بمظهره أو بماله، أو بمنصبه ونحو ذلك كما قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

(أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) هذه الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة.

ص: 250

• قال السعدي: ويستفاد من تعليل الآية، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع، لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى، وخصوصاً الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم، كالخدمة ونحوها.

(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ) أي: والله يدعو بما أرسل به الرسل من الوحي والشرع، والأمر والنهي إلى الجنة، دار السلام كما قال تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي: ويدعو إلى مغفرة الذنوب، كما قال تعالى (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).

(وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: ويوضح ويبين ويفصل آياته الشرعية والكونية (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: لأجل أن يتذكروا ويتعظوا بما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك، ويمتثلوا ما فيها من الأمر والنهي، فيثابوا بالجنة والمغفرة بإذنه عز وجل.

‌الفوائد:

1 -

تحريم نكاح المؤمنين للمشركات، وسبق أنه خص من ذلك الكتابيات.

2 -

إذا آمنت المشركة جاز نكاحها.

3 -

أن المؤمنة حرة كانت أو كتابية خير من المشركة خيرية مطلقة من جميع الوجوه.

4 -

تحريم تزويج المشركين بالمؤمنات.

5 -

يشترط لصحة النكاح الولي.

6 -

إذا آمن المشرك جاز تزويجه.

7 -

عدم الاغترار بمظاهر المشركين والمشركات.

8 -

أن الميزان المعتبر في تفاضل الناس هو الدين والإيمان.

9 -

التحذير من المشركين ومخالطتهم، لأنهم دعاة إلى النار.

10 -

إقامة الله الحجة على الناس. [السبت/ 1/ 1/ 1433 هـ]

ص: 251

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)).

[البقرة: 222 - 223].

(وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي: ويسألونك يا محمد عن إتيان النساء في حالة الحيض أيحل أم يحرم؟

• قال ابن عاشور: والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة.

(قُلْ هُوَ أَذىً) أي: قذر نتن نجس، قدره الله على النساء، ولهذا أوجب الشرع على الحائض الاغتسال بعد انقطاعه، ومنعت بسببه الحائض من الصلاة والصوم والطواف ومس المصحف.

(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) أي: فاجتنبوا جماع النساء الحائضات في مكان الحيض وهو الفرج، وقت الحيض.

• قال الشوكاني: والمراد من هذا الاعتزال: ترك المجامعة لا ترك المجالسة، أو الملامسة، فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج.

عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ) رواه مسلم (النكاح: الجماع).

وفي هذا إبطال لما عليه اليهود في معاملة الحائض، حيث إنهم لا يؤاكلونها ولا يجتمعون معها في البيوت، فلا يحرم من الحائض إلا جماعها في الفرج.

عن عائشة. قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري، وأنا حائض فيقرأ القرآن) متفق عليه.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي: حتى يطهرن من الدم، وفي قراءة (حتى يَطّهّرنَ) أي: حتى يغتسلن، أي: لا تجامعونهن حتى ينقطع الدم عنهن ويغتسلن.

وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز بمجرد انقطاع الدم.

• قال الشوكاني:

والأولى أن يقال: إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان: إحداهما: انقطاع الدم، والأخرى: التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها. وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة. قوله تعالى بعد ذلك (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم، وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين.

ص: 252

(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) أي: اغتسلن بالماء.

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أي: فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بإتيانهن فيه وأحله لكم وهو الفرج كما قال تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)، وقيل: طاهرات غير حيّض.

• قال ابن عاشور: وقوله (فأتوهن) الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل (وإذا حللتم فاصطادوا).

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) تعليل لما سبق من الأمر باعتزال النساء في المحيض وعدم جماعهن حتى يطهرن.

والتوابين جمع تواب على وزن (فعال) صيغة مبالغة تفيد الكثرة.

والتوبة هي الإنابة والرجوع إلى الله، من معصيته إلى طاعته.

• وفي الآية فضل عظيم للتوبة.

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول (والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّة). رواه البخاري

وعن الأَغَرِّ بنِ يسار المزنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّة). رواه مسلم

وعن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه خادِمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاة) مُتَّفَقٌ عليه.

وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ رضي الله عنه، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَال (إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها) رواه مسلم.

ص: 253

•‌

‌ فضائل التوبة:

أولاً: أن التوبة سبب الفلاح، والفوز بسعادة الدارين.

قال تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه.

ثانياً: بالتوبة تكفر السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).

ثالثاً: بالتوبة تبدل السيئات حسنات: فإذا حسنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات.

قال تعالى (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح.

رابعاً: التوبة سبب للمتاع الحسن، ونزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين.

قال تعالى (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه).

وقال تعالى على لسان هود عليه السلام (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).

وقال على لسان نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).

خامساً: أن الله يحب التوبة والتوابين، فعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها؛ كما أن للتائبين عنده عز وجل محبة خاصة.

ص: 254

قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

سادساً: أن الله يفرح بتوبة التائبين.

كما في حديث أنس السابق (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم .... ).

(وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي: ويحب المتطهرين من الأذى والنجاسات الحسية.

فجمعوا بين طهارة الباطن بالتطهر من النجاسات المعنوية ومن الشرك والمعاصي، وبين طهارة الظاهر بالتطهر من النجاسات الحسية باعتزال النساء في المحيض وفي أدبارهن.

(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أي: زوجاتكم أيها المؤمنون (حرث لكم) أي: موضع حرث وزرع وبذر لكم تضعون فيه هذا الماء الدافق فيخرج الولد بإذن الله.

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي: موضع حرثكم وهو الفرج.

(أَنَّى شِئْتُمْ) أي: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة ما دمت تأتي الحرث، والحرث موطن الزرع وهو الفرج.

عن جَابر قال (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِى قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

ص: 255

• قال الشنقيطي: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) لم يبين هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظه " حيث " ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.

إحداهما: هي قوله هنا (فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ) لأن قوله (فَأْتُواْ) أمر بالإتيان بمعنى الجماع، وقوله (حَرْثَكُمْ) يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث، يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.

الثانية: قوله تعالى (فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ) لأن المراد بما كتب الله لكم الولد، على قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير، وقد نقله عن ابن عباس، ومجاهد، والحكم، وعكرمة والحسن البصري، والسدي، والربيع، والضحاك بن مزاحم، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل، فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع، فيكون معنى الآية: فالآن باشروهن، ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد، الذي هو القبل دون غيره، بدليل قوله (وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ) يعني الولد.

• وفي الآية تحريم إتيان الزوجة في دبرها.

‌وقد جاءت أحاديث في ذلك يقوي بعضها بعضاً:

قال صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن) رواه الدارمي، والطحاوي، والخطابي وسنده صحيح

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى رجلٍ يأتي امرأته في دبرها) رواه النسائي والترمذي وابن حبان وسنده حسن، وحسنه الترمذي، وصححه ابن راهويه.

وقال صلى الله عليه وسلم (ملعون من يأتي النساء في محاشّهن. يعني: أدبارهن) رواه ابن عدي بسند حسن.

وقال صلى الله عليه وسلم (من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد) رواه الترمذي.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي: من التقرب إلى الله بفعل الخيرات، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ويجامعها على وجه القربة والاحتساب، وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) وذلك باجتناب نواهيه عموماً، وفي أمر النساء خصوصاً.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي: واعلموا أنكم ملاقوه يوم القيامة، فيحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ).

ص: 256

وقال تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: وبشر يا محمد المؤمنين بشارة مطلقة في الدنيا والآخرة بما يسرهم.

كما قال تعالى (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).

وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

• قال السعدي: قوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لم يذكر المبشر به ليدل على العموم، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة، وفيها محبة الله للمؤمنين، ومحبة ما يسرهم، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

‌الفوائد:

1 -

حرص الصحابة على العلم.

2 -

أن الحيض قذر وأذى.

3 -

تعليل الأحكام الشرعية.

4 -

تحريم جماع المرأة حال الحيض.

5 -

تحريم الوطء بعد الطهر قبل الغسل.

6 -

جواز وطء المرأة في فرجها من ورائها.

7 -

تحريم الوطء في الدبر.

8 -

إثبات المحبة لله تعالى.

9 -

محبة الله للمتطهرين.

10 -

فضل التوبة.

11 -

وجوب تقوى الله.

12 -

تهديد الإنسان من المخالفة.

13 -

البشارة للمؤمنين.

14 -

فضيلة الإيمان حيث علق البشارة عليه.

ص: 257

(وَلَا تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)).

[البقرة: 224].

(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فالاستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ) قال: لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.

وهكذا قال مسروق، والشعبي، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، والزهري، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والضحاك، وعطاء الخراساني، والسدي. ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني والله -إن شاء الله -لا أحلف على يمين فأرى

غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها).

وثبت فيهما أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة (يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك).

• قوله تعالى (أَنْ تَبَرُّوا) أي: أن تعملوا الخير (وَتَتَّقُوا) المراد بها هنا اجتناب النواهي لذكر البر قبلها وهو فعل الأمر (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي: التوفيق بين المتنازعين والمتخاصمين.

• والإصلاح بين الناس من أعمال البر، وخص بالذكر لفضله وعظيم أثره، لأنه من النفع المتعدي، ولأن فساد ذات البين من أعظم وأخطر ما يقع بين الناس، ولهذا قال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).

ص: 258

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ) أي: لجميع الأصوات.

(عَلِيمٌ) بالمقاصد والنيات، ومنه سماعه لأقوال الحالفين، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر.

‌الفوائد:

1 -

نهي الإنسان أن يجعل اليمين مانعة له من فعل البر والتقوى والإصلاح.

2 -

الحث على البر والتقوى والإصلاح بين الناس.

3 -

فضيلة الإصلاح بين الناس، لأنه نص عليها بعد التعميم، والتنصيص على الشيء بعد التعميم يدل على العناية به والاهتمام به.

4 -

يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، أنه " إذا تزاحمت المصالح، قدم أهمها " فهنا تتميم اليمين مصلحة، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء، مصلحة أكبر من ذلك، فقدمت لذلك.

5 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع والعليم.

ص: 259

(لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)).

[البقرة: 225].

(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) أي: لا يعاقبكم الله بما صدر منكم من لغو الأيمان، أي: لا يلزمكم بها ولا بكفارتها.

ولغو اليمين: ما يجري على اللسان من غير قصد اليمين ولا توكيدها، كقول الرجل: لا والله، وبلى والله.

قالت عائشة في قوله تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) هي في قول الرجل: لا والله، وبلى والله) رواه البخاري.

(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي: ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان إذا حنثم، كما قال تعالى في المائدة (ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ).

كأن يحلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب، وهي اليمين الغموس، وهذا متوعد عليه بالنار.

وكأن يحلف على شيء أن يفعله أو لا يفعله ثم يحنث في يمينه فعليه الكفارة.

•‌

‌ واليمين الغموس من الكبائر:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ). رواه البخاري

عَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ). فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ) رواه مسلم.

وعن ابْن مَسْعُودٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ [وفي رواية هو فيها فاجر] لَقِىَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إِلَى آخِرِ الآيَةِ) متفق عليه.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لَا يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ) متفق عليه.

وهذا لا كفارة لها عند جماهير العلماء، قال ابن قدامة: وهو قول أكثر أهل العلم.

• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الأكثرون فقالوا: هذه أعظم من أن تكفر، وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، قالوا: والكبائر لا كفارة فيها كما لا كفارة في السرقة والزنا وشرب الخمر.

ص: 260

•‌

‌ اليمن المنعقدة، وهي التي تجب فيها الكفارة:

كأن يحلف على شيء أن يفعله أو لا يفعله، ثم يحنث في يمينه، فعليه الكفارة (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

•‌

‌ تجب الكفارة بشروط:

‌الشرط الأول: الحنث.

وهو: أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً.

مثال: لو أن رجلاً قال: والله لأصومن غداً، فلما جاء الغد صام، فإنه لا كفارة عليه لأنه لم يحنث.

‌الشرط الثاني: أن يحلف مختاراً.

فإن كان مكرهاً فلا تنعقد يمينه وهذا مذهب الجمهور.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

‌الشرط الثالث: القصد.

لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تبارك وتعالى الكفارة في لغو اليمين.

‌الشرط الرابع: أن تكون على مستقبل.

فلا كفارة على أمر ماض، لأنه إن كان صادقاً فالأمر ظاهر [قد برت يمينه] وإن كان كاذباً فهو آثم [وهي اليمين الغموس كما سبق].

‌الشرط الخامس: العقل.

فإن كان مجنوناً فلا يعتد بيمينه، لأنه لا قصد له، ولحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق).

‌الشرط السادس: البلوغ

الصبي لا يخلو من حالين:

أن كان غير مميز فلا عبرة بيمينه.

أن يكون مميزاً لكنه لم يبلغ، فالراجح لا تجب عليه الكفارة إذا حنث.

ص: 261

‌الشرط السابع: ذاكراً.

فلو حنث ناسياً فلا شيء عليه، كأن يقول: والله لا أسافر إلى مكة، ثم نسي فسافر إلى مكة، فإنه لا يحنث، لكن لا تنحل يمينه بل لا تزال باقية.

والكفارة: قال تعالى (فكفارتهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

• فالثلاثة الأولى على التخيير (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة).

فإن لم يجد فإنه ينتقل لصيام ثلاثة أيام، فلا يجوز أن يصوم وهو قادر على الإطعام أو الكسوة أو العتق.

(وَاللَّهُ غَفُورٌ) أي: ذو مغفرة واسعة لذنوب عباده.

(حَلِيمٌ) لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله لعله يتوب.

‌الفوائد:

1 -

عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده في لفظه.

2 -

أن اليمين تنقسم إلى قسمين منعقدة وغير منعقدة.

3 -

أن المدار على ما في القلوب.

4 -

إثبات هذين الاسمين: الغفور والحليم.

ص: 262

(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)).

[البقرة: 226 - 227].

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم.

• الإيلاء: هو الحلف على ترك جماع زوجته أكثر من أربعة أشهر.

• فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور.

(تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق.

• اختلف العلماء إن حلف أربعة أشهر فأقل هل يسمى إيلاء أم لا؟

رجح بعض العلماء أنه يسمى إيلاء، لأن الله يقول (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فأثبت الله الإيلاء لكن جعل المدة التي ينظرون فيها أربعة أشهر، فإذا حلف أن لا يطأ زوجته ثلاثة أشهر فهو إيلاء، فإذا انتهت المدة انحلت اليمين.

• واختلف العلماء متى تبدأ مدة الإيلاء، والصحيح أنها تبدأ من الإيلاء لا من المطالبة، لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل الله التربص مقروناً بالوصف وهو الإيلاء، ويثبت هذا الوصف من اليمين، لأنه من حين أن يحلف يصدق عليه بأنه مولٍ.

• قال القرطبي: وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدّم، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدّة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر؛ لقوله تعالى (واهجروهن فِي المضاجع) وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهراً تأديباً لهنّ. وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها؛ وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان

يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشِد:

ألا طال هذا اللّيْلُ واسود جانبُه

وأرّقَنِي أن لا حَبِيبَ ألَاعِبُهْ

فواللّهِ لولا اللَّهُ لا شيءَ غيره

لزُعْزِعَ من هذا السّريرِ جوانِبُهْ

مخافةَ ربّي والحَيَاءُ يكفّني

وإكرامَ بَعْلِي أن تُنال مراكِبُهْ

ص: 263

فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها: أين زوجك؟ فقالت: بعثتَ به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهنّ عن المرأة كم مقدار ما تصبِر عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويَقلّ صبرها في ثلاثة أشهر، وينفَدُ صبرُها في أربعة أشهر، فجعل عمر مدّة غزوِ الرجل أربعة أشهر؛ فإذا مضت أربعةُ أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين؛ وهذا والله أعلم يقوِّي اختصاص مدّة الإيلاء بأربعة أشهر.

(فَإِنْ فَاءُوا) أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع، قاله ابن عباس، ومسروق والشعبي، وسعيد بن جبير، وغير واحد، ومنهم ابن جرير رحمه الله.

(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.

وفي ختم الآية بقوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ترغيب بالفيء والعود إلى جماع الزوجة والإحسان إليها، لأنه أحب إلى الله.

(رَحِيمٌ) حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة، ولم يجعلها لازمة لهم، غير قابلة للانفكاك.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي: قصدوا الطلاق، أي: طلاق زوجاتهم اللاتي مضى على إيلائهم منهن أربعة أشهر.

• وفي هذا دلالة على أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي أربعة أشهر على الإيلاء، وهذا مذهب جماهير العلماء، فإذا انقضت المدة يخيّر الحالف إما أن يفيء (يرجع) وإما أن يطلق، فإن أبى أن يطلق أمره الحاكم بالطلاق إذا طلبت المرأة، لأن الحق لها.

(فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) ذو سمع تام يسمع جميع الأصوات.

(عَلِيمٌ) ذو علم واسع يعلم كل شيء، كما قال تعالى (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

• وفي ختم الآية بذلك ما يشبه التخويف والتحذير، وذلك لعظم أمر الطلاق وبغضه عند الله، ولوجوب مراعاة أحكامه، والإشارة إلى أنه خلاف الأولى.

ص: 264

• قال السعدي: قوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيه وعيد وتهديد، لمن يحلف هذا الحلف، ويقصد بذلك المضارة والمشاقة.

‌الفوائد:

1 -

ثبوت حكم الإيلاء.

2 -

وجوب معاشرة الزوجة بالمعروف.

3 -

أن للزوجة حقاً في الجماع.

4 -

أن الإيلاء خاص بالزوجة لقوله (من نسائهم).

5 -

أن المولي يضرب له مدة أربعة أشهر من إيلائه.

6 -

أن رجوع الإنسان عما هو عليه من المعصية سبب للمغفرة.

7 -

أن الله لا يحب الطلاق.

8 -

إثبات هذه الأسماء لله تعالى: وهي الغفور، والرحيم، والسميع، والعليم.

ص: 265

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (228)).

[البقرة: 228].

(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء، ثم تتزوج إن شاءت.

• قال ابن عاشور: وجملة (والمطلقات يتربصن) خبرية مراد بها الأمر.

• الطلاق حل قيد النكاح كله أو بعضه.

‌قوله تعالى (والمطلقات. . . ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ظاهره يشمل عموم المطلقات، لكن هذا العموم مخصوص:

أولاً: الحامل فعدتها الوضع.

قال تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

ثانياً: المطلقة قبل الدخول فليس لها عدة.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).

ثالثاً: الأمَة تعتد بقرءين (أي حيضتين).

وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

وأما اللواتي لا يحضن لكبر أو صغر فقد بيّن أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).

ص: 266

•‌

‌ الحكمة من العدة:

أولاً: تعظيم حق الزوج، وإتاحة الفرصة له لمراجعتها إذا كان الطلاق رجعياً.

ثانياً: التأكد من براءة الرحم وخلوه من الحمل.

ثالثاً: تعظيم أمر عقد النكاح.

كما قال تعالى (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً).

وقال صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فرجهن بكلمة الله).

•‌

‌ قوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) اختلف العلماء في المراد بالقروء هنا على قولين:

‌القول الأول: هو الحيض.

وهو مروي عن الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة والصحيح عند الإمام أحمد وهو مذهب الحنفية.

وتفسير القروء بالحيض مستقر معلوم مستفيض وأدلتهم في ذلك.

أ-أن الأصل الاعتداد بالحيض، فإن لم يكن فبالأشهر قال تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

والمبدل - الحيض - هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل - الأشهر - مقامه، والمبدل هو الحيض فكان هو المراد من القرء.

ب-ظاهر النص في قوله تعالى (والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ

).

أن العدة ثلاثة، فمن جعل معنى القروء الطهر لم يوجب ثلاثة لأنه يحسب لها الطهر الذي طلقت فيه ولو بقي منه جزء يسير،

وهذا يخالف ظاهر النص، ومن جعل معناه الحيض فاشترط له ثلاثة كاملة وهذا الموافق للنص.

ج-قوله صلى الله عليه وسلم (دعي الصلاة أيام أقرائك).

والصلاة لا تترك إلا في الحيض، لذلك استعمل لفظ القروء هنا بمعنى الحيض وهو أصل ما تنقضي به العدة، ولفظ القرء لم يستعمل في الشرع إلا للحيض، وحمله في الآية على ذلك متعين.

د-قوله صلى الله عليه وسلم (طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان) وفيه تصريح بأن القرؤ هو الحيض، وقد أمرت عائشة رضي الله عنها بريرة أن تعتد ثلاث حيض.

هـ-ما يدل على الاستبراء هو الحيض، والاستبراء من حكم العدة. والطهر بعد الطلاق لا يدل على براءة الرحم فلا يجوز إدخاله في العدة الدالة على البراءة.

ص: 267

‌القول الثاني: هو الطهر.

وذلك عند الشافعية والمالكية ورواية للحنابلة وهو مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.

أ-قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ

).

أي لوقت عدتهن كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي: في يوم القيامة، فدل على أنه وقت العدة.

ب-أمره صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يراجع ابن عمر زوجته والحديث الوارد في ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء).

وهنا قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القرء بالطهر بأن جعله زمان العدة والطلاق؛ لأن الطلاق المأمور به في الطهر فوجب أن يكون الطهر هو العدة دون الحيض.

وفي رواية أخرى (طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: مره فليراجعها، قلت: تحتسب؟ قال: أرأيته إن عجز واستحمق؟).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (حسبت على تطليقة).

الراجح: القول الأول القائل بأن معنى القروء الحيض لا الطهر لذهاب أكابر الصحابة رضوان الله عليهم إليه ومنهم الخلفاء الراشدون، وقد رجحه وصوبه جمع من العلماء.

(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) أي: حبَل أو حيض.

• قال الرازي: وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر.

أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات.

ص: 268

• وقال السعدي: وأما كتمان الحيض، فإن استعجلت فأخبرت به وهي كاذبة، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها وإباحتها لغيره، وما يتفرع عن ذلك من الشر، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض لتطول العدة، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه،

بل هي سحت عليها محرمة من وجهين:

من كونها لا تستحقه، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة، وربما راجعها بعد انقضاء العدة، فيكون ذلك سفاحاً لكونها أجنبية عنه.

(إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: إن كن يصدقن بالله واليوم الآخر، وفي هذا تخويف وتحذير لهن من الكتمان.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) شرط أريد به التهديد دون التقييد.

والإيمان بالله: هو الإيمان بوجوده وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وشرعه.

والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بالبعث والحساب والجزاء على الأعمال، وسمي يوم القيامة باليوم الآخر لأنه آخر الأيام.

• وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به واليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل الناس على مراقبة الله، ولهذا قال عمر: لولا الإيمان باليوم الآخر لرأيت من الناس غير ما ترى.

• قال ابن كثير: ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه لا يعلم إلا من جهتهن، وتتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك، فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه، لئلا تخبر بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك، من غير زيادة ولا نقصان.

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: وأزواجهن أحق وأولى برجعتهن منهن ومن أوليائهن وغيرهم، فكما أن الطلاق بأيدي الأزواج، فكذلك الرجعة بأيديهم.

• قال ابن كثير: أي وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها.

• قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ) جمع بعل، وهو الزوج كما قال تعالى (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً) أي: زوجي.

• قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ) يقتضي أنهن أزواج بعد الطلاق الرجعي.

• قوله تعالى (فِي ذَلِكَ) الإشارة إلى التربص المفهوم من قوله تعالى (يتربصن).

والمعنى: وأزواجهن أحق بإرجاعهن إذا رغبوا في ذلك مادمن في العدة.

ص: 269

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلَاحاً).

ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها.

ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).

وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن.

كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها، وذلك في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) لأن الإشارة بقوله (ذَلِكَ) راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بثلاثة قروء.

(إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً) في هذا الإرجاع، ويفهم من هذا أنهم إن لم يريدوا الإصلاح، بل أرادوا المضارة وتطويل العدة عليهن ونحو ذلك، فليسوا أحق بردهن ولا تجوز لهم مراجعتهن.

• قال الشنقيطي: واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة، في قوله (إِنْ أرادوا إِصْلَاحاً) ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا، ولكنه صرح في مواضع أخر: أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها لتخالعه أو نحو ذلك، أن رجعتها حرام عليه، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً

لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً).

فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعاً، كما دل عليه مفهوم الشرط المصرح به في قوله (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً).

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف.

• قال ابن عاشور: وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها.

ص: 270

• قال ابن القيم: فأخبر أن للمرأة من الحق مثل الذي عليها، فإذا كان الجماع حقاً للزوج عليها، فهو حق لها على الزوج، بنص القرآن، وأيضاً فإنه سبحانه أمر الأزواج أن يعاشروا الزوجات بالمعروف، ومن ضد المعروف أن يكون عنده شابة شهوتها تعدل شهوة الرجل أو تزيد عليها بأضعاف مضاعفة، ولا يذيقها لذة الوطء مرة واحدة.

كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة الوداع (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

وفي حديث بهز بن حكيم، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، عن أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود وقال معنى (لا تقبح) أي: لا تقل قبحكِ الله.

وقال صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي.

كما أن للزوج حقوقاً على زوجته:

قال صلى الله عليه وسلم (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح).

وقال صلى الله عليه وسلم (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لامرأة المرأة أن تسجد لزوجها) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) متفق عليه.

وهذه الحقوق على الزوجين لكل منهما على الآخر تشمل جميع حقوق المعاشرة بالمعروف قولاً وفعلاً وبذلاً وخلقاً وغير

ذلك.

قال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

• وقدم - في الذكر - حق النساء فقال (ولهن) - والله أعلم - تأكيداً لذلك، ولئلا يعتقد الرجال أن جعل القوامة فيهم يبرر لهم التساهل في حقوقهن عليهم، وقدم حقهن أيضاً، لأن المرأة أسيرة عند الرجل، فلا يجوز التهاون في حقها كما قال صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم).

(وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي: في الفضيلة في العقل والدين الخلُق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة.

ص: 271

• وذكر تعالى ذلك عقب قوله (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) احترازاً من أن يظن مساواة النساء للرجال مطلقاً.

قال تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).

قال صلى الله عليه وسلم (

وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أذهب لِذِى لُبٍّ مِنْكُنَّ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ قَالَ

«أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّى وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ).

ولهم فضل في خَلقهم وخلقهم، فهم أشد خَلقاً وأقوى أجساماً منهن، وهم أقدر منهن على الصبر والتحمل.

قال تعالى (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ).

وأيضاً لهم فضل في كون النبوة فيهم والقضاء والإمامة الصغرى والكبرى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). رواه البخاري

وقال القرطبي: ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء؛ ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه؛ فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) له العزة التامة بأنواعها الثلاثة: عزة القوة، وعزة القهر، وعزة الغلبة.

(حَكِيمٌ) له الحكمة البالغة الكاملة، فهو سبحانه حكيم في شرعه وخلقه وأمره، يضع الأمور مواضعها.

ص: 272

• وكثيراً ما يقرن الله بين هذين الوصفين، لأن باجتماعهما في حقه - تعالى - زيادة كماله إلى كمال، فعزته مقرونة بالحكمة، وحكمته مقرون بالعزة.

‌الفوائد:

1 -

إباحة الطلاق.

2 -

وجوب العدة على المطلقة.

3 -

تحريم كتمان المطلقات ما خلق الله في أرحامهن من الحمل و الحيض.

4 -

وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر.

5 -

أن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحمل على مراقبة الله.

6 -

أن للزوج الحق أن يرجع زوجته الرجعية ما دامت في زمن العدة.

7 -

يجب أن يكون قصد من يراجع مطلقته الإصلاح لا المضارة.

8 -

وجوب العناية بأداء حقوق الزوجات وعدم التهاون بها.

9 -

اهتمام الإسلام بحقوق النساء.

10 -

فضل الرجال وزيادة حقهم على النساء من حيث العموم.

11 -

إثبات صفة العزة التامة لله تعالى.

12 -

إثبات صفة الحكمة الكاملة البالغة لله تعالى.

[8/ 1/ 1432 هـ].

ص: 273

(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)).

[البقرة: 229 - 230].

(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) أي: الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة ما دامت المطلقة في العدة (مَرَّتَانِ) أي: طلقتان، بأن يطلق مرة ثم يراجع، ثم يطلق مرة ثم يراجع، وهو طلاق السنة.

• وقد كانوا في الجاهلية، بل وفي أول الإسلام يطلق الرجل امرأته ما شاء، وهو أحق برجعتها ما دامت في العدة، ولو طلقها مائة طلقة، فأبطل الله ذلك، لما فيه من الضرر على الزوجات، وبيّن أن الطلاق الذي تمكن فيه الرجعة الطلقة والطلقتان فقط.

(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) أي: إذا طلقها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير مادامت العدة باقية، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتَبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها، لا تظلمها من حقها شيئاً، ولا تضارّ بها.

إمساك بمعروف: بما عرف عند الله وعند الناس من حسن المعاشرة قولاً وفعلاً وبذلاً.

• قال الرازي: ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة، بل على قصد الإصلاح والإنفاع.

• وقدم الإمساك بمعروف لأنه أحب إلى الله، لما فيه من استمرار الحياة الزوجية، وذلك خير من الفراق.

• قال ابن عاشور: وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم، المرغب فيه في نظر الشرع.

(أو تسريح بإحسان) أي إطلاق لهن بإحسان، بتركهن حتى تنقضي عدتهن، وتخلية سبيلهن، وإعطائهن مالهن من حقوق، وتمتيعهن جبراً لخواطرهن، وتطييباً لقلوبهن، وتخفيفاً لمرارة الفراق عليهن كما قال تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

ص: 274

• قال الرازي: واعلم أن المراد من الإحسان، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) هذا من التسريح بإحسان، بأن لا يأخذوا مما أعطوهن شيئاً.

أي: لا يحل لكم أيها الأزواج أن تأخذوا من الذي أعطيتموهن من المهور والنفقات والهدايا وسائر الأعطيات (شيئاً) مهما كان صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً.

كما قال تعالى (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

• لكن لو أعطت المرأة زوجها شيئاً مما دفعه إليها عن طيب نفس منها حل له أخذه لقوله تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً).

(إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي: إلا أن يخافا الزوجان أن لا يقيما حدود الله فيما بينهما.

وقرئت بضم الياء (يُخافا) والمعنى: إلا أن يَخاف الحاكم أو القاضي أو أهل الزوجين أو من علم حالهما من المسلمين (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الخطاب لحكام المسلمين وقضاتهم وأهل الزوجين، ومن علم حالهما من المسلمين ممن يمكنه الإصلاح بينهما.

• قال الشوكاني: (فَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله) أي: إذا خاف الأئمة، والحكام، أو المتوسطون بين الزوجين، وإن لم يكونوا أئمة، وحكاماً عدم إقامة حدود الله من الزوجين، وهي: ما أوجبه عليهما كما سلف.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: فلا حرج ولا إثم عليهما.

• فإن قيل: لماذا جاءت الآية بنفي الجناح عليهما؟ فالجواب: أن طلب الفداء والطلاق حرام على الزوجة بدون سبب، وحرام على الزوج أيضاً أن يأخذ شياً مما آتاها بدون سبب.

(فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: في الذي افتدت به نفسها منه، برد بعض ما أعطاها إليه، أو كله أو أكثر منه، أي: فلا حرج عليها في طلب الطلاق والخلع وبذل الفداء في هذه الحالة.

ص: 275

• وأما من غير سبب فطلبها للطلاق حرام قال صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فالجنة عليها حرام). رواه الترمذي

• هذه الآية فيها جواز الخلع.

تعريف الخلع: وهو فراق الزوج زوجته بعوض منها أو من غيرها.

قوله (بعوض) يخرج ما إذا كان الفراق بغير عوض، كالفسخ لوجود عيب أو غيره.

• والحكمة منه: تخليص الزوجة من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها وعقد جديد، وسماه الله افتداء، لأن المرأة تفتدي نفسها من أسْر زوجها، كما يفتدي الأسير نفسه بما يبذله.

والأصل فيه قوله تعالى (وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً).

[أكره الكفر في الإسلام] هذه الجملة فيها قولان للعلماء: القول الأول: الأخذ بظاهرها، والمعنى أنها خشيت من شدة بغضها أن يحملها ذلك الكفر لأجل أن ينفسخ النكاح، القول الثاني: أن المراد بالكفر كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، وهذا أصح، وأما الذي قبله فما أبعده احتمالاً، في صحابيّة فاضلة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ويسكت عنها، إن هذا لشيء بعيد، قال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه، من نشوز وفرك وغيره، مما يقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر

فالحديث دليل على مشروعية الخلع إذا وجدت أسبابه ودواعيه.

وقد أجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر المزني فانه قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئاً.

ص: 276

•‌

‌ متى يشرع طلب الخلع؟

إذا كرهت المرأةُ خلُق زوجها أو خَلقَه، وخافت ألا تقيم حقوقه الواجبة بإقامتها معه، فلا بأس أن تبذل له عوضاً ليفارقها.

الخُلُق بالضم هو الصورة الباطنة، فإذا كرهت الزوجة أخلاقه كأن أخلاقه سيئة، أو خَلْقَه والخلقة هي الصورة الظاهرة، فإذا كرهت الزوجة خلقَه بأن تكون صورته دميمة، فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تخالع.

لحديث ابن عباس السابق، فإن امرأة ثابت بن قيس قالت (يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ) وجاء في رواية (ولكني لا أطيقه).

(وخافت ألا تقيم حقوقه الواجبة بإقامتها معه، فلا بأس أن تبذل له عوضاً ليفارقها) أي: وإذا خافت المرأة ألا تقوم بالحقوق الواجبة عليها وهي (حدود الله) أي: شرائعه التي أوجبها الله عليها لزوجها، بسبب بغضها له فله فداء نفسها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه، فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كل منهما مريداً لصاحبه فهذا الخلع محرم في الإسلام.

•‌

‌ اختلف العلماء في حكم الخلع إذا كانت الحالة مستقيمة؟ وإذا قيل بالخلع هل يقع أم لا؟

‌القول الأول: أن الخلع مكروه أو محرم ولكنه يقع.

وهذا قول الأكثر.

استدلوا على كراهته أو تحريمه:

مفهوم قوله تعالى (فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما) فان نفي الجناح وهو الإثم يدل على أنه يقع الإثم إذا

كانت الحالة مستقيمة.

ولحديث ثوبان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة سالت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة). رواه الترمذي

أن الخلع في حال الاستقامة إضرار بالزوجين وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة وهدم لبيت الزوجية وتشتيت الأسرة.

‌القول الثاني: أن الخلع في حال استقامة الحال محرم ولا يقع.

هذا القول اختاره بعض الحنابلة ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

لقوله تعالى (فإن خفتم .. ).

ولحديث ثوبان السابق.

والله أعلم.

ص: 277

•‌

‌ ويحرم بالنسبة للرجل إذا عضلها ظلماً لتفتدي.

لقوله تعالى (ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

مثال: رجل عنده زوجة وملّ منها أو رغب عنها، فقال: لو طلقتها ذهب مالي، فبدأ يعضلها، وأصبح يقصر في حقوقها ويسيء في عشرتها، حتى تفتدي ويأخذ المال، فهذا حرام.

• ويصح في كل قليل وكثير.

لقوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) قالوا: إن (ما) من صيغ العموم، لأنها اسم موصول تصدق على القليل والكثير.

واختلف العلماء في أخذ الزيادة على الصداق على أقوال:

القول الأول: يجوز للزوج أخذ الزيادة.

مثال: الصداق (10) آلاف، فخالعها على (20) ألفاً، فعلى هذا القول يجوز.

وهذا قول الجمهور.

واستدلوا بالآية (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) قالوا: إن (ما) من صيغ العموم، لأنها اسم موصول تصدق على القليل والكثير.

وعللوا: قالوا إن عوض الخلع كسائر الأعواض الأخرى بالمعاملات، فعلى أي شيء وقع الاتفاق جاز.

القول الثاني: أنه لا يجوز الخلع بأكثر مما أعطاها.

وهذا القول قال به عطاء والزهري، وعلى هذا القول يرد ما أخذ من غير زيادة.

واستدلوا برواية عند ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابتاً أن يأخذ حديقته ولا يزداد).

القول الثالث: أن أخذ الزيادة مكروه ويصح الخلع.

وهذا مذهب الحنابلة.

واستدلوا بنفس أدلة القول الأول، لكنهم يرون أن أخذ الزيادة ليس من المروءة.

ص: 278

ولهذا قال ميمون بن مهران: مَن أخذ أكثر مما أعطى لم يسرّح بإحسان.

والراجح أن الزوجة إن بذلت له الزيادة ابتداءً جاز له أخذها، مع أن هذا ليس من مكارم الأخلاق، وأما إذا طلب هو الزيادة فإنه يمنع لأمرين:

الأمر الأول: أن الزيادة ليس لها حد، والنفوس مجبولة على حب الطمع.

الأمر الثاني: أن إباحة الزيادة قد تغري الأزواج بالعضل.

(تِلْكَ) الإشارة إلى ما سبق من الأحكام الشرعية في الطلاق والخلع وغيرهما.

(حُدُودُ اللَّهِ) أي: أحكامه وشرائعه، وسميت حدوداً لأنه يجب القيام بها ولا يجوز تجاوزها ولا تعديها.

•‌

‌ وحدود الله تنقسم إلى قسمين:

حدود أوامر وواجبات، فلا يجوز تعديها.

قال تعالى هنا (فَلا تَعْتَدُوهَا) وقال سبحانه (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).

والقسم الثاني: حدود نواهٍ ومحرمات، فهذه يجب تركها وعدم قربها.

قال تعالى (تلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا)؟

(فَلا تَعْتَدُوهَا) أي: أقيموها ولا تتجاوزوها.

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) أي: ومن يتجاوز أوامر الله ويرتكب نواهيه.

(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم وزوجاتهم، واقتحموا الحرام ولم يسعهم الحلال.

• والظلم وضع الشيء في غير موضعه.

وأظلم الظلم الشرك، قال تعالى حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

• وقال السعدي: قوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال، وتعدى منه إلى الحرام، فلم يسعه ما أحل الله.

ص: 279

(فَإنْ طَلّقَهَا) أي: الطلقة الثالثة.

(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي: فإن زوجته تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي: حتى يطأها زوج آخر بنكاح صحيح.

• في هذا أن المطلقة ثلاثاً لا تعود لزوجها الأول إلا بشروط:

الشرط الأول: أن تنكح زوجاً غيره.

لقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا [يعني الثالثة] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه).

ولحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ». قَالَتْ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ وَخَالِدٌ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

[فبت طلاقي] البت بمعنى القطع، يحتمل أنه قال لها: أنت طالق البتة، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة، وهذا الراجح، فقد جاء عند البخاري:(طلقني آخر ثلاث تطليقات) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها.

[عبد الرحمن بن الزَّبير] الزَبِير: بفتح الزاي، بعدها باء مكسورة. [مثل هدبة الثوب] هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. [عسيلته] العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، قال الجمهور: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة.

الشرط الثاني: أن يجامعها في الفرج.

لقوله صلى الله عليه وسلم (حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحل على ذواق العسيلة منها، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج.

ولقوله (حتى تنكح زوجاً غيره) فالمراد بالنكاح هنا الوطء لدلالة حديث عائشة السابق.

وهذا مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب. يعني أنه قال: يكفي العقد.

• يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً، تغييب حشفة الرجل في الفرج، ولا بد من انتشار الذكر.

• لا يشترط الإنزال، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للحسن البصري.

الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.

فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار، فإنه لا يحلها وطئها.

ص: 280

ونكاح التحليل هو: أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول.

وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول.

لحديث ابن مسعود قال: (لعن رسول الله المحلل والمحلل له). رواه أحمد والترمذي

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم تيساً مستعاراً.

فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها، فإنه لا تحل للأول، والنكاح باطل.

فالملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو:

المحلل: هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه، وكان عالماً.

والمحلل له: هو الزوج الأول، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً.

• الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره:

أولاً: تعظيم أمر الطلاق، حتى لا يكثر وقوعه، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره، لم يستعجل بإيقاعه.

ثانياً: الرفق بالمرأة، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به.

(فَإِنْ طَلَّقَهَا) أي: الزوج الثاني بعد الدخول بها.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) أي: المرأة والزوج الأول.

(إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أي: يتعاشرا بالمعروف. (بأن يقوم كل شخص بحق صاحبه).

• قال الشوكاني: قوله تعالى (إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله) أي: حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما، أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله، أو تردداً، أو أحدهما، ولم يحصل لهما الظنّ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة للمعصية لله، والوقوع فيما حرّمه على الزوجين.

• قال السعدي: ومفهوم الآية الكريمة، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحاً، لأن جميع الأمور، إن لم يقم فيها أمر الله، ويسلك بها طاعته، لم يحل الإقدام عليها.

وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان، إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور، خصوصاً الولايات، الصغار، والكبار، نظر في نفسه، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك، ووثق بها، أقدم، وإلا أحجم.

ص: 281

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: شرائعه وأحكامه.

• قال ابن عاشور: هي أحكامه وشرائعه، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها.

(يُبَيِّنُهَا) أي: يوضحها.

(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأنهم هم المنتفعون بها، النافعون لغيرهم.

وفي هذا من فضيلة أهل العلم، ما لا يخفى، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده، خاصاً بهم، وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده؛ معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها. (تفسير السعدي).

‌الفوائد:

1 -

حكمة الله في حصر الطلاق بثلاث.

2 -

أن الواجب على المرء الذي طلق زوجته أحد أمرين: إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

3 -

جواز افتداء المرأة نفسها من زوجها بعوض.

4 -

أن ذلك يكون إذا خافا ألا يقيما حدود الله.

5 -

أن طلب الخلع من غير سبب حرام.

6 -

تحريم المطلقة ثلاثاً على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

7 -

عناية الله بعباده في بيان ما يجب عليهم.

8 -

فضل أهل العلم.

ص: 282

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)).

[البقرة: 231].

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح.

والمعنى: إما أن تراجعوهن ونيتكم القيام بحقوقهن وهذا أولى، ولهذا قدّم، وإما أن تتركوهن وتخلوا سبيلهن بلا مضارة.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بلوغ الأجل: الوصول إليه، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته، توسعاً

أي مجازاً بالأوْل.

• وقال أبو حيان: ولا يحمل: بلغن أجلهنّ على الحقيقة، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له، لأنها ليست بزوجة، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها.

• وقال ابن العربي (بَلَغْنَ) مَعْنَاهُ قَارَبْنَ الْبُلُوغَ؛ لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ أَجَلَهُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهُ؛ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جُعِلَ لَفْظُ بَلَغَ بِمَعْنَى قَارَبَ، كَمَا يُقَالُ: إذَا بَلَغْت مَكَّةَ فَاغْتَسِلْ.

• قال ابن الجوزي: والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق. والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدتها بالمراجعة.

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا) قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه.

ص: 283

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ) صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها، لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه ابتغاء السلامة من ضرره، وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدى منه وذلك في قوله تعالى (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.

فقال جماعة منهم هي: الزنا، وقال قوم هي: النشوز والعصيان وبذاء اللسان، والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.

• وقال ابن كثير: إنه جيد، فإذا زنت أو أساءت بلسانها، أو نشزت جازت مضاجرتها. لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بمخالفته أمر الله تعالى.

• قال ابن عاشور: جعل ظلمهم نساءهم ظلماً لأنفسهم، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات، وظلم نفسه أيضاً بتعريضها لعقاب الله في الآخرة.

• وقال الشيخ ابن عثيمين: وأضاف الظلم إلى نفسه - وإن كان ظلماً واقعاً على غيره - لأنه جلب على نفسه الإثم والعقوبة.

(وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً) أي: لا تجعلوها موضع استهزاء.

• قال ابن عاشور: عطف هذا النهي على النهي في قوله (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة، لقصد المضارة، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة، مريداً رحمة الناس، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزواً.

وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) إلى قوله (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون).

• وقال رحمه الله: ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف وعدم الرعاية، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب، وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله، ومقاصد شرعه، ومن هذا التوصل المنهي عنه، ما يسمى بالحيل الشرعية.

ص: 284

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) عموما باللسان ثناء وحمداً، وبالقلب اعترافاً وإقراراً، وبالأركان بصرفها في طاعة الله.

أي: اذكروا باللسان وبالقلب والجوارح، نعمة الله عليكم حتى تقوموا بشكرها، فإن الغفلة عن ذكر النعم سبب لعدم الشكر.

• قوله (نعمة الله) مفرد مضاف، والمفرد المضاف يدل على العموم. وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا، فقال:

(وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ) أي: القرآن.

(وَالْحِكْمَةِ) أي: السنة.

(يَعِظُكُمْ بِهِ) أي: يخوفكم به ترغيباً وترهيباً.

قال تعالى (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

• قال ابن عاشور: والموعظة والوعظ: النصح والتذكير بما يلين القلوب، ويحذر الموعوظ.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك.

‌الفوائد:

1 -

جواز الطلاق.

2 -

وجوب العدة على المطلقات، وأن لها أجلاً.

3 -

يجب على الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً، وقاربت انتهاء عدتها، إما مراجعتها ومعاشرتها بالمعروف، أو تخلية سبيلها بمعروف من غير تضييق عليها أو مضارة.

4 -

وجوب التعامل بين الزوجين بالمعروف.

5 -

تحريم المضارة.

6 -

أن من عمد إلى مراجعة مطلقته لأجل المضارة لها والاعتداء عليها وظلمها، فهو في الحقيقة إنما يظلم نفسه.

7 -

عناية الإسلام بحقوق المرأة.

8 -

التحذير من جعل آيات الله وأحكامه هزواً.

9 -

وجوب ذكر نعم الله.

10 -

أن أعظم النعم إنزال القرآن والسنة.

11 -

وجوب تقوى الله.

12 -

إثبات عموم علم الله تعالى. [16/ 1/ 1433 هـ].

ص: 285

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)).

[البقرة: 232].

(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) الخطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة.

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: فانقضت عدتهن.

(فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الخطاب للأولياء، أي: فلا تضيقوا عليهن وتمنعوهن أن ينكحن أزواجهن، ويرجعن إليهم بنكاح جديد، عقوبة لهم بسبب طلاقهم لهن.

• قال السعدي: الخطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة، وأراد زوجها أن ينكحها، ورضيت بذلك، فلا يجوز لوليها من أبٍ أو غيره، أن يعضلها، أي: يمنعها من التزويج به حنقاً عليه وغضباً، واشمئزازاً لما فعل من الطلاق الأول.

• فالأكثر على أن الخطاب في قوله (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) للأولياء.

عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها، وكذا روى العوفي، عنه، وكذا قال مسروق، وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية. (تفسير ابن كثير).

عَنِ الْحَسَنِ (أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَخَطَبَهَا فَأَبَى مَعْقِلٌ، فَنَزَلَتْ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ). رواه البخاري

وعنِ الْحَسَنِ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ قَالَ (زَوَّجْتُ أُخْتاً لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لَا وَاللَّهِ لَا تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَداً، وَكَانَ رَجُلاً لَا بَأْسَ بِهِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنَّ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ). رواه البخاري

وعند الترمذي: عن معقل بن يسار (أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا، آخر ما عليك قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلما سمعها معقل قال: سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك) زاد ابن مردويه: (وكفرت عن يميني).

• وفي الآية دليل على اشتراط الولي.

(إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي: إذا تراضى الزوج وزوجته، وحصل الرضا من كل منهم.

ص: 286

(ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ) أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له.

(مَنْ كَانَ مِنْكُمْ) أيها الناس.

(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: يؤمن بالله وبشرع الله، ويؤمن باليوم الآخر ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء.

(ذَلِكُمْ) أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك.

(أَزْكَى لَكُمْ) أي: أعظم وأكثر إيماناً.

(وَأَطْهَرُ) لقلوبكم، فهو أقطع لأسباب العداوات والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أي: المصالح فيما يأمر به وينهى عنه.

(وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.

‌الفوائد:

1 -

تحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة.

2 -

تحريم منع الولي موليته أن ينكح من رضيته.

3 -

أن من شروط النكاح الولي، وهذا مذهب جماهير العلماء، وأن المرأة لا تزوج نفسها.

4 -

اشتراط الرضا في النكاح.

5 -

إثبات اليوم الآخر.

6 -

أن الاتعاظ بأحكام الله تزكية للنفس.

7 -

أن تطبيق الأحكام أطهر للإنسان.

8 -

عموم علم الله. [17/ 1/ 1433 هـ].

ص: 287

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لَا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)).

[البقرة: 233].

(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) هذا انتقال من أحكام الطلاق والبينونة؛ فإنه لما نهى عن العضل، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد، ويقلل رغبة الأزواج فيهن، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك، فإن أمر الإرضاع مهم، لأن به حياة النسل، ولأن تنظيم أمره من أهم شؤون أحكام العائلة. (تفسير ابن عاشور)

• قال ابن كثير في تفسير الآية: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.

• قوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ .. ) اختلف في المراد:

فقيل: أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات، سواء كن مزوجات أو مطلقات، والدليل عليه أن اللفظ عام.

وقيل: المراد منه: الوالدات المطلقات، قالوا: والذي يدل على أن المراد ذلك، أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات.

• قال ابن عاشور: (والوالدات .. ) أي: المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلاّ بعد الفراق، ولا يقع في حالة العصمة؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلاّ لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي: وعلى أبي المولود، أي: والده.

• قال ابن عاشور: عبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجرة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها.

• وقال أبو حيان: ولطيفة أخرى في قوله (وعلى المولود له) وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق، والكسوة لمرضعته.

ص: 288

(رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً).

• قال ابن الجوزي: في قوله (بالمعروف) دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه، ولا الموسر النزر الطفيف.

• قال الرازي: إنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى (والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف.

• قال ابن العربي: قوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ .. ) في هذا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ؛ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ بِوَسَاطَتِهَا فِي الرَّضَاعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا بِوَسَاطَتِهِنَّ فِي الرَّضَاعَةِ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ.

(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) أي: لا تكلف نفس في الشرع إلا طاقتها وقدرتها، فلا يكلف الله نفساً إلا ما تقدر عليه.

كما قال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).

وعلى هذا فلا يكلف المولود له فوق طاقته وما لا يقدر عليه، وإنما عليه الإنفاق والكسوة حسب حاله.

(لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) أي: لا تضار والدة بسبب ولدها، فتمتنع مثلاً من إرضاعه لتضر أباه بتربيته، أو تطلب زيادة على الواجب لها، ونحو ذلك مضارة لوالده.

(وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) فلا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها، أو لا يعطيها ما يجب لها من النفقة والكسوة.

(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) أي: وعلى وارث المولود مثل ما على أبيه من النفقة والكسوة للمرضعة إذا فقد الأب، وكان الطفل ليس له مال.

• واختار ابن جرير أن المراد وارث الأب.

ص: 289

(فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: فإذا اتفق الوالدان على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له بعد التشاور فلا إثم عليهما.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً) الضمير للوالدين. والفصال: الفطام عن الرضاع. أي: التفريق بين الصبيّ، والثدي، ومنه سمي الفصيل؛ لأنه مفصول عن أمه.

• المراد بالفصال هنا الفطام، وهذا قول أكثر المفسرين.

• قال الرازي: وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات.

• قال ابن كثير: يؤخذ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر.

• وقال رحمه الله: وهذا فيه احتياط للطفل، والزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في

تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما.

• قال الشيخ ابن عثيمين: التشاور تبادل الرأي بين المتشاورين لاستخلاص الأنفع والأصوب.

•‌

‌ سؤال: لم عطف التشاور على التراضي؟

الجواب: عطف التشاور على التراضي تعليماً للزوجين شؤون تدبير العائلة، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي.

(التحرير والتنوير).

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. قاله غير واحد.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم .... ) انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غيرَ والدته إذا تعذر على الوالدة إرضاعه، لمرضها، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء، كما تقدم في الآية السابقة، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك.

ص: 290

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: في جميع أحوالكم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.

• وفي الأمر بالعلم بذلك تنبيه وترغيب بتقوى الله، ووعد لمن اتقاه، وتحذير ووعيد لمن خالف أمره وعصاه.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (واعلموا أن الله

) تذكير لهم بذلك، وإلاّ فقد علموه.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الإرضاع على الأم.

2 -

أن الله أرحم بخلقه من الوالدة بولدها.

3 -

أن الرضاع التام يكون في الحولين.

جمهور العلماء على أن الرضاع المحرّم ما كان في الحولين

لقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).

ولحديث عَائِشَةُ قالت (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَتْ فَقَالَ (انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ). متفق عليه

فهذا دليل على أن الرضاعة المعتبرة التي يثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته.

ومثله حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام) رواه الترمذي وصححه. قوله (الثدي) أي وقت الحاجة إلى الثدي، أي في الحولين.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم). رواه أبو داود

4 -

أنه يجوز النقص عن الحولين، لكن ذلك بالتشاور والتراضي.

5 -

أن الولد ينسب لأبيه.

6 -

اعتبار العرف بين الناس.

7 -

أن الله لا يكلف نفساً ما لا تطيق.

8 -

تحريم المضارة.

9 -

وجوب نفقة الابن على أبيه.

10 -

جواز استرضاع الإنسان لولده المرضع.

11 -

فضل التشاور.

12 -

وجوب تقوى الله.

13 -

إثبات بصر الله.

ص: 291

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)).

[البقرة: 234].

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي: والذين يتوفاهم الله منكم أيها المؤمنون، أي: يموتون.

(وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً) أي: ويتركون أزواجاً بعدهم.

(يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) أي: ينتظرن ويحبسن أنفسهن عن الزواج بعدهم.

(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي: أربعة أشهر هلالية وعشر ليال.

• قال ابن كثير: هذا أمر من الله للنساء اللاتي يُتَوّفى عنهن أزواجهن: أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟ فترددوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً، وفي لفظ: لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شَطَط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق، ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديداً.

• قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن عدة المرأة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول بها.

• ففي الآية وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً). متفق عليه

• يستثنى من ذلك الحامل فعدتها بالوضع عند الجمهور (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

• ويجب عليها في هذه العدة الإحداد، وهو أن تجتنب ما يدعو إلى نكاحها.

ص: 292

•‌

‌ الحكمة من الإحداد:

أولاً: تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره.

ثانياً: تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته.

ثالثاً: تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم.

رابعاً: سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح أو تطلع الرجال إليها.

خامساً: موافقة الطباعة البشرية.

• اختلف العلماء في المرأة يموت عنها زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب، من متى تعتد؟

فقيل: تعتد من يوم مات زوجها.

وهذا مذهب الجمهور.

لعموم الأدلة.

فلو فرض أنه طلقها، ولم تعلم، وحاضت حيضتين ثم علمت، فإنه يبقى عليها حيضة واحدة، وكذلك إذا مات عنها زوجها، ولم تعلم إلا بعد مضي شهرين، فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام.

وقيل: تعتد من يوم يأتيها الخبر.

وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز.

لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها.

والراجح الأول.

• ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل (والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ) فقد كانت العدة حولاً كاملاً، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في (التلاوة) على آية الاعتداد بالحول، إلاّ أنها متأخرة في (النزول).

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: فإذا انقضت عدتهن، وهي أربعة أشهر وعشراً.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) أي: فلا إثم ولا حرج - والخطاب للأولياء - في فعلهن من التزين والتحلي والتعرض للخطاب.

ص: 293

• قال السعدي: وفي هذا دليل على أن الولي ينظر على المرأة، ويمنعها مما لا يجوز فعله، ويجبرها على ما يحب، وأنه مخاطب بذلك، واجب عليه.

(بِالْمَعْرُوفِ) أي: بما هو معروف في الشرع وبين الناس مما لا يخالف الشرع.

• قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرُّج والتشوّف للزوج في زمان العِدّة.

• قال القاسمي: (بِالْمَعْرُوفِ) أي: بوجه لا ينكره الشرع، وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع، فعليهم أن يكفوهن عن ذلك، وإلا فعليهم الجناح.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مطلع على بواطن الأمور.

‌الفوائد:

1 -

وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها.

2 -

هذا الحكم يشمل الصغيرة والكبيرة لقوله (أزواجاً) وأطلق.

3 -

أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، ويستثنى من ذلك الحامل فعدتها بوضع حملها.

4 -

أن العدة إذا انتهت جاز للمرأة أن تفعل كل ما كان معروفاً من تجمل وغير ذلك.

5 -

أن الولي مسؤول عن موليته.

6 -

إثبات علم الله الكامل.

ص: 294

(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)).

[البقرة: 235].

(وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) أي: لا إثم عليكم - أيها الرجال - فيما تُلمّحون به من طلب الزواج بالنساء المتوفَّى عنهن أزواجهن، أو المطلقات طلاقاً بائناً في أثناء عدتهن.

• قال الرازي: التعريض في اللغة ضد التصريح، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح.

• في الآية أن التصريح حرام.

قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز.

(أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي: ولا ذنب عليكم أيضاً فيما أضمرتموه في أنفسكم من نية الزواج بهن بعد انتهاء عدتهن.

(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) أي: علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم ولا تصبرون عنهن، فرفع عنكم الحرج.

(وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً) اختلف العلماء في المراد بذلك:

فقيل: معناه نكاحاً، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوّجيني؛ بل يعرّض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية.

هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبيّ ومجاهد وعكرمة والسدّيّ وجمهور أهل العلم.

وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ثم التزوّج بعدها.

قال معناه جابر بن زيد وأبو مِجْلزَ لاحق بن حُميد، والحسن بن أبي الحسن وقتادة والنخعيّ والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهنّ زنا، واختاره الطبريّ. (تفسير القرطبي).

وقيل: السرّ: الجماع، أي: لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع ترغيباً لهنّ في النكاحّ، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية. (فتح القدير).

• قال أبو حيان: وأما تفسير (السر) هنا بالزنا فبعيد، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها.

ص: 295

(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ما تقدم من إباحة التعريض كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أي: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة.

• قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة.

واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين:

الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال (واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فاحذروه) وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد فقال:

(واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لمن صدرت من الذنوب فتاب منها ورجع إلى ربه.

(حَلِيمٌ) حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم، مع قدرته عليهم.

‌الفوائد:

1 -

جواز التعريض في خطبة المتوفى عنها زوجها.

2 -

تحريم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة.

3 -

جواز إضمار الإنسان في نفسه خطبة امرأة لا يجوز له التصريح بخطبتها.

4 -

لا يجوز للإنسان أن يواعد المعتدة من وفاة بالنكاح.

5 -

تحريم النكاح في أثناء العدة.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله: وهما الغفور والرحيم.

ص: 296

(لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)).

[البقرة: 236].

(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي: لا إثم عليكم أيها الرجال إن طلقتم النساء قبل المسيس (الجماع) وقبل أن تفرضوا لهن مهراً.

قوله تعالى (أو تفرضوا .. )(أو) حرف عطف بمعنى الواو، والجملة معطوفة على قوله (تمسوهن) أي: مالم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة.

• قال القرطبي: (أو) في (أَوْ تَفْرِضُوا) قيل هو بمعنى الواو؛ أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن؛ كقوله تعالى (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ) أي: وهم قائلون.

وقولِه (وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) أي: ويزيدون.

وقوله (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي: وكفوراً.

وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط) معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون.

•‌

‌ قال الرازي مبيناً أقسام المطلقات:

أحدها: المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر، وأن عدتهن ثلاثة قروء.

والقسم الثاني: من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وذكر أنه ليس لها مهر، وأن لها المتعة بالمعروف.

والقسم الثالث: من المطلقات: التي يكون مفروضاً لها، ولكن لا يكون مدخولاً بها.

وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).

واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها البتة، فقال (إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ).

ص: 297

(وَمَتِّعُوهُنَّ) أي: أعطوهن ما يتمتعن به من مال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، جبراً لخواطرهن، وتعويضاً لهن عما فاتهن من الزواج والمهر.

• المتعة: بضم الميم هي ما يعطيه الزوج لمن طلقها لجبر خاطرها المنكسر بألم الفراق.

• ففي هذه الآية دليل على وجوب المتعة على المطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها.

وجه الدلالة من الآية: ( .. ومتعوهن .. ) فأمر بالمتعة لا بغيرها، والأمر للوجوب، والأصل براءة ذمته من غيرها، والله عز وجل قسم المطلقات إلى قسمين: فأوجب المتعة لمن لم يسمِّ لها إذا طلقت قبل الدخول، ونصف المسمى لمن سميَ لها، وذلك يدل على اختصاص كل قسمٍ بحكمه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، وسواء فرض لها صداق أم لم يفرض.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم.

لقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولفظ المطلقات عام، وأكد ذلك بقوله (حقاً).

وذهب بعض العلماء إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة.

لقوله تعالى ( .... حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (

حقاً على المحسنين) قالوا: ولو كانت واجبة لما خُص بها المحسنون والمتقون، بل كانت حقاً على كل أحد.

والراجح - والله أعلم - ما تقدم أن المتعة واجبة لمن طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر، وأما غيرها من المطلقات فالمتعة في حقها مستحبة.

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) أي: على الغني الموسر في ماله قدر سعته وغناه ويسره، بحيث يزيد في المتعة.

(وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أي: وعلى المقتر الفقير المضيق عليه في ماله قدر استطاعته، فلا يكلف نفسه ما يضره أو ما لا يطيق.

(مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ) أي: بما هو معروف في الشرع وعرف المسلمين، مما يُتمتع به أمثالهن من المطلقات، وأن يعطى لهن من غير مماطلة أو أذى.

ص: 298

•‌

‌ يلحظ في هذا أمران:

الأول: حرص الشريعة على إزالة وتخفيف ما يؤثر على النفوس ويكسر القلوب، فإن في إيجاب المتعة للمطلقات قبل المسيس، وقبل فرض المهر جبراً لقلوبهن وتعويضاً لهن عما فاتهن من الزواج والمهر.

الثاني: مراعاة التشريع أحوال المكلفين، حيث جعل المتعة للمطلقات حسب حال الزوج يسراً وعسراً.

(حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي: فاعلي الإحسان.

•‌

‌ سؤال: لم خص المحسنين بالذكر؟

الجواب: في سبب تخصيصه بالذكر وجوه:

أحدها: أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان: كقوله (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها).

والثاني: قال أبو مسلم: المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه، والمحسن هو المؤمن، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين.

الثالث: (حَقّاً عَلَى المحسنين) إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.

• قال السعدي: فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن، وتعلق قلوبهن، ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه، فعليهم في مقابلة ذلك المتعة.

فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي، وأدله على حكمة شارعه ورحمته (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر.

‌الفوائد:

1 -

إباحة طلاق النساء بعد العقد عليهن وقبل الدخول وفرض المهر.

2 -

جواز عقد النكاح بدون تسمية المهر وتقديره.

3 -

وجوب المتعة للمطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر.

4 -

أن المتعة تكون بقدر حال الزوج.

5 -

حرص الشرع على تخفيف ما يؤثر في النفوس.

ص: 299

(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)).

[البقرة: 237].

(وإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي: وإن طلقتم النساء من قبل الدخول بهن وجماعهن.

(وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) أي: والحال أنكم قد فرضتم لهن فريضة، أي: قدرتم وحددتم لهن مهراً.

(فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي: فنصف الذي فرضتم لهن، أي: فالواجب لهن نصف المهر الذي قدرتموه.

• فمن طلقت قبل المسيس وقبل فرض المهر فلها المتعة كما سبق في الآية السابقة، ومن طلقت قبل المسيس وبعد فرض المهر فلها نصف المفروض من المهر.

• قال القرطبي: قوله تعالى (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي: فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع.

• قوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) مفهومه أن بعد المسيس - وكذلك بعد الخلوة بها - وجب لها المهر كاملاً، لأن الصحابة أعطوا الخلوة حكم الدخول والجماع.

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي: المطلقات، أي: إلا أن تعفو المطلقات قبل المسيس عما وجب لهن على أزواجهن من نصف المهر المفروض.

• قال الرازي: المعنى إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته، ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً.

• قال ابن عاشور: وتسمية هذا الإسقاط عفواً ظاهرة، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها، أو بما أوحشها، فهو حق وجب لغرم ضر، فإسقاطه عفو لا محالة، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح.

(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) وهو الزوج على القول الصحيح، فهو الذي بيده عقدة النكاح، والمعنى: أو يعفو الذي بيده النكاح - وهو الزوج - فيترك للزوجة المهر كاملاً ولا يطالبها برد نصف المهر.

• فالمراد بقوله (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الزوج، وهو قول علي بن أبي طالب، وسعيد بن المسيب، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.

ص: 300

ورجحه ابن جرير وابن الجوزي وقال: لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي، فصارت بيد الزوج، والعفو إنما يُطلق على ملك

الإِنسان، وعفو الولي عفو عما لا يملك، ولأنه قال (ولا تنسَوا الفضل بينكم) والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره.

(وَأَنْ تَعْفُوا) أيها الأزواج، أو أيها الأزواج والزوجات.

وقال بعض العلماء الخطاب للأزواج.

• قال أبو حيان: وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.

(أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي: إلى تقوى الله.

وفي هذا ترغيب بالعفو والتسامح، وبخاصة بين الزوجين، فمن عفا عن صاحبه فهو أقرب لتقوى الله عز وجل.

• قال الشوكاني: وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ لأن عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى، بل أقرب إلى الظلم والجور.

• قال ابن عاشور: ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه.

ص: 301

• قال الرازي: قوله تعالى (وأن تعفو أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وإنما كان لذلك لوجهين:

الأول: أن من سمح بترك حقه فهو محسن، ومن كان محسناً فقد استحق الثواب، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله.

والثاني: أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة، لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقرباً إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق.

• قال السعدي: رغب الله في العفو، وأن من عفا، كان أقرب لتقواه، لكونه إحساناً موجبا لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو: أخذ الواجب، وإعطاء الواجب، وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصاً لمن بينك وبينه معاملة، أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم.

•‌

‌ في الآية الترغيب في العفو:

قال تعالى (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

وقال تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما ازداد عبد بعفو إلا عزاً). رواه مسلم

(وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي: لا تتركوا الفضل والإحسان والتسامح بينكم وتهملوه وتغفلوا عنه.

• قال ابن عاشور: ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.

والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) وهو كثير في القرآن، وفي كلمة (بينكم) إشارة إلى هذا العفو.

ص: 302

• وقال الرازي: قوله تعالى (وَلَا تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ) وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك، فقال تعالى: ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم.

• قال سفيان، عن أبي هارون قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي، فكان عون يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا، حين رأيتهم أحسن ثيابًا، وأطيب ريحًا، وأحسن مركبًا مني، وجالست الفقراء فاسترحت بهم، وقال (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له. رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير).

(إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: مطلع عليه كله، وعالم به، ولا يخفى عليه شيء منه، وسيحاسبكم ويجازيكم عليه.

‌الفوائد:

1 -

أن الرجل إذا طلق زوجته قبل الدخول وقد سمى لها صداقاً وجب لها نصف المهر.

2 -

أن الصحابة قضوا أنه إذا خلا بها فهو كالمسيس.

3 -

جواز الطلاق قبل المسيس مع تعيين المهر.

4 -

جواز إسقاط المرأة ما وجب لها من المهر عن الزوج أو بعضه، وكذلك جواز عفو الزوج.

5 -

الترغيب في العفو.

6 -

أن الأعمال تتفاضل.

7 -

إحاطة علم الله تعالى وبصره بكل شيء.

ص: 303

(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239)).

[البقرة: 238 - 239].

(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها.

• قال أبو حيان: الألف واللام فيها للعهد، وهي: الصلوات الخمس. قالوا: وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة، فالمراد بها الصلوات الخمس.

وقد مدح الله المحافظين عليها بقوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (

من حافظ عليها، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة).

وقال صلى الله عليه وسلم (من حافظ عليهن كن له نوراً ونجاة وبرهاناً يوم القيامة).

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدتُه لزادني). متفق عليه

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) تخصيص بعد تعميم، فخص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد من بين الصلوات.

وقد اختلف العلماء في بالمراد بالصلاة الوسطى، والصحيح أنها صلاة العصر.

عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً). رواه مسلم

وعن سمرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الوسطى صلاة العصر) رواه الترمذي.

فهي الوسطى بين الصلوات وقتاً وفضلاً:

فهي من حيث الوقت وسط بين صلاة النهار وصلاة اليل.

ص: 304

وهي من حيث الفضل الفضلى بين الصلوات، أي: أفضل الصلوات.

•‌

‌ قال الماوردي: وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه:

أحدها: لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.

والثاني: لأنها أوسط الصلاة عدداً، لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان.

والثالث: لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله، وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى.

• فضل صلاة الفجر والعصر.

أولاً: أن المحافظة عليهما من أسباب دخول الجنة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.

ثانياً: سبب للنجاة من النار.

قال صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يعني الفجر والعصر.

ثالثاً: الملائكة يجتمعون في هاتين الصلاتين.

قال صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون). متفق عليه

رابعاً: سبب لرؤية الله في الآخرة.

قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). متفق عليه

• وقد جاء الترهيب في التهاون بصلاة العصر وتركها:

قال صلى الله عليه وسلم (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله) متفق عليه.

ص: 305

• قوله تعالى (حافظوا على الصلوات .. ) هناك‌

‌ أمور ينبغي المحافظة عليها:

‌أولاً: الصلاة.

كما في هذه الآية.

‌ثانياً: حفظ الله.

كما قال صلى الله عليه وسلم (احفظ الله يحفظك).

‌ثالثاً: الطهارة.

قال صلى الله عليه وسلم (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) رواه ابن ماجه.

‌رابعاً: الأيْمان.

قال تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ).

‌خامساً: اللسان والفرج

قال صلى الله عليه وسلم (من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة) رواه الحاكم.

وقال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ).

وقال تعالى (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

ص: 306

(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) أي: خاشعين ذليلين مستكنين بين يديه.

• قوله تعالى ( .. لِلَّهِ قَانِتِينَ) أي: مخلصين لله ذليلين له.

(فَإِنْ خِفْتُمْ) أي: فإذا كنتم في خوف من عدو أو غيره.

(فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) أي: فصلوا ماشين على الأقدام أو راكبين على الدواب.

• قال ابن كثير: أي فصلوا على أي حال كان - رجالاً أو ركباناً - يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.

• قال القرطبي: لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قُنوت وهو الوَقار والسّكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطُّمَأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً، وبيّن أن هذه العبادةَ لا تسقط عن العبد في حال، ورخّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام ورُكباناً على الخيل والإبل ونحوها، إيماءً وإشارة بالرأس حيثما توجّه؛ هذا قول العلماء، وهذه هي صلاة الفَذّ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المُسَايفة أو من سَبُع يطلبه أو من عدوّ يتبعه أو سَيْل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمّنته هذه الآية.

(فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أي: فإذا زال الخوف وجاء الأمن.

(فَاذْكُرُوا اللَّهَ) أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم، فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها، وهذه الآية كقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

(كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي: مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر.

‌الفوائد:

1 -

وجوب المحافظة على الصلاة.

2 -

فضيلة عظيمة لصلاة العصر.

3 -

وجوب القيام.

4 -

وجوب الإخلاص لله.

5 -

سعة رحمة الله.

6 -

جواز الصلاة على الراحلة حال الخوف.

7 -

يجب على المرء القيام بالعبادة على وجه التمام متى زال العذر.

ص: 307

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)).

[البقرة: 240 - 242].

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي: والذين يقبضون ويموتون منكم أيها المؤمنون.

(وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً) أي: ويتركون زوجات لهم.

(وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) من رفع (وصيةٌ) أي: عليهم وصية لأزواجهم.

ومن قرأ بالنصب (وصيةً) أي: يوصون وصية، أو نوصيهم وصية لأزواجهم.

• قال الرازي: القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا: الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمر بالوصية، فكيف يوصي المتوفى؟ وأجابوا عنه بأن المعنى: والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها، وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه، كأنه قيل: وصية من الله لأزواجهم، كقوله (يُوصِيكُمُ الله في أولادكم) وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع.

(مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ) أي: بأن تمتّع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً، يُنفق عليهن من تركته.

(غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ولا يُخرجن من مساكنهم.

(فَإِنْ خَرَجْنَ) أي: الزوجات باختيارهن قبل انقضاء السنة.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي: فلا إثم عليكم - أيها الورثة - في ذلك، ولا حرج على الزوجات فيما فعلن في أنفسهن من أمور مباحة.

ص: 308

•‌

‌ وفي رفع الجناح وجهان:

أحدهما: لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

والثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها.

• هذه الآية منسوخة عند أكثر العلماء.

قال ابن كثير: قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا).

روى البخاري عن ابن أبي مُلَيْكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها -أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه.

ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.

• قال القرطبي: ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أنّ المتوفّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفَّى عنها حولاً، ويُنفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها؛ ثم نُسخ الحولُ بالأربعة الأشهر والعشر، ونُسخت النفقةُ بالرُّبُع والثُّمن في سورة " النساء" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) له جميع أنواع العزة، عزة القوة، وعزة الامتناع، وعزة القهر.

وهذه العزة مستلزمة للوحدانية، إذا الشركة تنقص العزة، ومستلزمة لصفات الكمال، لأن الشركة تنافي كمال العزة، ومستلزمة لنفي أضدادها، ومستلزمة لنفي مماثلة أضدادها له في شيء منها.

(حَكِيمٌ) له الحكمة الكاملة البالغة.

(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) سبق في الآية (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ) أن فيها دليلاً على وجوب المتعة على المطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها.

ص: 309

وذهب بعض العلماء إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، وسواء فرض لها صداق أم لم يفرض.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم.

لقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولفظ المطلقات عام، وأكد ذلك بقوله (حقاً).

وذهب بعض العلماء إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة.

لقوله تعالى (

حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (

حقاً على المحسنين) قالوا: ولو كانت واجبة لما خُص بها المحسنون والمتقون، بل كانت حقاً على كل أحد.

والراجح - والله أعلم - ما تقدم أن المتعة واجبة لمن طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر، وأما غيرها من المطلقات فالمتعة في حقها مستحبة.

(حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، ولهذا خصهم بالذكر.

• قال الشنقيطي: واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال (حَقّاً عَلَى المحسنين)(حَقّاً عَلَى المتقين) قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقاً على كل أحد، وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب.

قال مقيده - عفا الله عنه - هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر، لأن قوله (عَلَى المحسنين) و (عَلَى المتقين) تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقياً مثلاً، لوجوب التقوى على جميع الناس، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى ومتعوهن الآية ما نصه: وقوله على المتقين تأكيد لإيجابها. لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالى في القرآن (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، وقولهم لو كانت واجبة لعين القدر الواجب فيها، ظاهر السقوط. فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعين فيها القدر اللازم، وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم.

ص: 310

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي: مثل ذلك البيان السابق يوضح ويفصل لكم آياته الشرعية والكونية.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(لعل) للتعليل، أي: لأجل أن تنتفعوا بعقولكم وتتدبروا وتتفهموا عن الله آياته، وما فيها من الأحكام والحكم، والأوامر والنواهي، والحلال والحرام.

‌الفوائد:

1 -

أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل، وقد تقدم أن هذا الحكم منسوخ عند أكثر العلماء.

2 -

أن المسؤولين عن النساء هم الرجال.

3 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم.

4 -

إثبات العزة والحكمة على سبيل الإطلاق.

5 -

إباحة الطلاق.

6 -

وجوب المتعة لكل مطلقة. (وقد تقدم الخلاف في ذلك).

7 -

أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها.

8 -

اعتبار العرف.

9 -

أن التقوى تحمل على طاعة الله.

10 -

منّة الله على عباده بتبيين الآيات.

ص: 311

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)).

[البقرة: 243].

(أَلَمْ تَرَ) أي: ألم يصل سمعك يا محمد، أو أيها المخاطب.

(إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) أي: حال أولئك القوم الذين خرجوا من وطنهم وهم ألوف مؤلفة.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وهم ألوف) قال الجمهور: هي جمع ألف، قال بعضهم: كانوا ستمائة ألف، وقيل: كانوا ثمانين ألفاً. ابن عباس: أربعين ألفاً. أبو مالك: ثلاثين ألفاً. السدّي: سبعة وثلاثين ألفاً. وقيل: سبعين ألفاً؛ قاله عطاء ابن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضاً أربعين ألفاً، وثمانية آلاف؛ رواه عنه ابن جُريج. وعنه أيضاً ثمانية آلاف، وعنه أيضاً أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى (وَهُمْ أُلُوفٌ) وهو جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها أُلوف.

وقيل (وهم ألوف) أي: مؤلفة قلوبهم، قال في التسهيل: وهو ضعيف.

(حَذَرَ الْمَوْتِ) أي: خوفاً من الموت وفراراً منه.

قيل: فراراً من الطاعون حين نزل بهم، وقيل: أمروا بالجهاد ففروا منه.

والغرض من الاستفهام التعجيب والتشويق إلى سماع قصتهم.

(فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) أي: أماتهم الله ثم أحياهم، وهم قوم من بني إسرائيل.

• قوله تعالى (فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ) ففي تفسير (قَالَ الله) وجهان:

الأول: أنه جار مجرى قوله (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة، ويدل عليه قوله (ثُمَّ أحياهم) فإذا صح الإحياء بالقول، فكذا القول في الإماتة.

والقول الثاني: أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم: موتوا، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي، ويحتمل أيضاً ما رويناه من أن الملك قال ذلك، والقول الأول أقرب إلى التحقيق.

ص: 312

(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجه إفضال الله على الناس في هذه القصة:

أولاً: أنه يريهم الآيات الباهرات والحجج القاطعات ما يبصرهم بما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

ثانياً: إثبات البعث والمعاد، فإذا علموا ذلك عملوا له، فكان في عملهم نجاة لهم من النار بإذن الله.

ثالثاً: تشجيع الناس على القتال في سبيل الله، وبيان أنه لن يقدم أجلاً ولن يؤخره، فإذا جاهدوا في سبيل الله نالوا جنة الله عز وجل.

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) كما قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

• قال ابن كثير: وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء فروا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.

• قال ابن عاشور: استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة.

• قال الشنقيطي: المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي،

فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران، والتقدم في الميدان، وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله) الآية وصرح بما أشار إليه هنا في قوله (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال، لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب.

ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها، وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجاً عنها.

• قال أبو حيان: قوله (وهم ألوف) في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية.

• في الآية أن الحذر لا ينجي من القدر.

ص: 313

كما قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

وكما قال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ).

وكما قال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ

).

وقال تعالى (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).

وقال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

• قال السعدي: وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله، تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.

وقوله تعالى (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) المراد بها الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، وهذا قول الأكثر. قاله القرطبي، وقيل: المراد بالبروج بروج مبنية في السماء، لكن هذا القول ضعيف، لأن الله قال (مشيّدة) وهذا الوصف لا يكون أبداً للبروج السماوية، وإنما يكون للقصور العالية. قاله الشيخ ابن عثيمين.

قال الحسن: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي عقل عقلاً.

قال بعض العلماء لأحد إخوانه: احذر الموت في هذه الدنيا قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.

قال أبو الدرداء: إذا ذكرت الموتى فعد نفسك أحدهم.

قالت عائشة لامرأة: أكثري ذكر الموت يرق قلبك.

وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله.

وقال الحسن: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وقال الحسن: ما ألزم عبد ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده.

وقال أبو الدرداء: من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده.

وقال سعيد بن جبير: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد عليّ قلبي.

وقال الأوزاعي: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير.

ص: 314

وقال الثوري: لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون ما أكلتم منها سميناً.

وقال الحسن بن عبد العزيز: من لم يردعه القرآن والموت، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.

وقال أبو نعيم: كان الثوري إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً، وفي الحديث:(أكثروا ذكر هاذم اللذات).

تزود من الدنيا فإنك لا تدري

إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة

وكم من سقيم عاش حينا من الدهر

وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا

وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدري

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم

وقد أدخلت أجسامهم ظلمة القبر

وكم من عروس زينوها لزوجها

وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

فمن عاش ألفا وألفين

فلا بد من يوم يسير إلى القبر

• فالقتال في سبيل الله لا يقرّب أجلاً ولا يباعده.

‌الفوائد:

1 -

أنه لا فرار من قدر الله.

2 -

قدرة الله تعالى بإماتة الحي، وإحياء الميت.

3 -

إثبات البعث.

4 -

إذا كان الموت لابد منه، فيجب الاستعداد له.

5 -

أن الشاكر من الناس قليل.

6 -

فضل شكر الله.

ص: 315

(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)).

[البقرة: 244].

(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: قاتلوا أيها المسلمون الكفار لنصرة دين الله.

قيل: إن هذا خطاب للذين أحيوا، قال الضحاك: أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد لأنه تعالى إنما أماتهم بسبب أن كرهوا الجهاد.

وقيل: - وهو اختيار جمهور المحققين - أن هذا استئناف خطاب للحاضرين، يتضمن الأمر بالجهاد إلا أنه سبحانه بلطفه ورحمته قدم على الأمر بالقتال ذكر الذين خرجوا من ديارهم لئلا ينكص عن أمر الله بحب الحياة بسبب خوف الموت، وليعلم كل أحد أنه يترك القتال لا يثق بالسلامة من الموت، كما قال في قوله (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) فشجعهم على القتال الذي به وعد إحدى الحسنيين، إما في العاجل الظهور على العدو، أو في الآجل الفوز بالخلود في النعيم، والوصول إلى ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذا خطاب لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله في قول الجمهور. وهو الذي يُنْوَى به أن تكون كلمة الله هي العليا.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم.

(عَلِيمٌ) بنياتكم وأعمالكم.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الجهاد في سبيل الله.

2 -

أن الحكمة من الجهاد هو إعلاء كلمة الله.

3 -

التنبيه على الإخلاص في الجهاد.

4 -

التحذير من إرادة غير الله في الجهاد.

5 -

تهديد من أراد غير سبيل الله في جهاده، لأن الله عز وجل مطلع عليه.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله، وهما: السميع والعليم.

ص: 316

(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)).

[البقرة: 245].

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) أي: من ذا الذي يقرض الله بالإنفاق في سبيله في وجوه البر كلها، من الزكوات والصدقات، والإنفاق على الأهل والأولاد، وعلى المحتاجين من الأقارب واليتامى والمساكين وغيرهم.

• قال ابن كثبر: فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا .. ) اعتراض بين جملة (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) إلى آخرها، وجملة (ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل) الآية، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر، لمناسبة الحث على القتال، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له، والإنفاق على المعسرين من الجيش، وفيها تبيين لمضمون جملة (واعلموا أن الله سميع عليم) فكانت ذات ثلاثة أغراض.

• قال أبو حيان: ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله، أثنى على من بذل شيئاً من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجاً على المؤمنين، إذ ليس فيه إلاَّ بذل المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة معنى الطلب.

• قال القرطبي: وسمّي قرضاً؛ لأن القرض أخْرج لاسترداد البدل، أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدِله الله بالأضعافِ الكثيرة.

• وقال بعض العلماء: وسمي الإنفاق قرضاً حسناً لله تعالى، مع أن المال ماله، والملك ملكه، والخلق عبيده، حثاً وترغيباً فيه.

• قال ابن القيم: سمى ذلك الإنفاق قرضاً حسناً، حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه بذله، وسهل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليّ وفيّ محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمره حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاء كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه

ص: 317

• قال ابن القيم: القرض الحسن يجمع أموراً ثلاثة:

أحدها: أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه.

الثاني: أن يخرجه طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاء مرضاة الله.

الثالث: أن لا يمن به ولا يؤذي.

(فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً) أي: خلفاً في الدنيا كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ويضاعفه له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

وقال تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ص: 318

وفي الآخرة كما في قوله تعالى في سورة الحديد (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم) أي: وله ثواب عظيم وهو الجنة وما فيها من ألوان النعيم، كما قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(وَاللَّهُ يَقْبِضُ) أي: يقتّر على من يشاء.

(وَيَبْسُطُ) أي: ويوسع على من يشاء ابتلاء وحكمة.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الموت، فيجازيكم على أعمالكم.

‌الفوائد:

1 -

الحث على الإنفاق في طاعة الله عز وجل.

2 -

أنه لا يضيع شيء عند الله عز وجل، وأن الله يعوض المنفق.

3 -

ينبغي الحرص على أن يكون الإنفاق والعطاء حسناً، فلا يمن به ولا يقصد به رياء ولا سمعة.

4 -

وعد من الله عز وجل أن من أنفق بطاعة الله عز وجل يريد ما عند الله أن الله يضاعف له ذلك ويخلفه وله الأجر الكبير يوم القيامة.

ص: 319

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)).

[البقرة: 246].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) أي: ألم يصل خبر القوم إليك؟ وهو تعجيب وتشويق للسامع، وكانوا من بني إسرائيل وبعد وفاة موسى عليه السلام.

(إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: حين قالوا لنبيهم (شمعون) وهو من نسل هارون، أقم لنا أميراً واجعله قائداً لنا لنقاتل معه الأعداء في سبيل الله.

(قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) أي: قال لهم نبيهم: أخشى أن يُفرض عليكم القتال ثم لا تقاتلوا عدوكم وتجبنوا عن لقائه.

(قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) قالوا مستنكرين توقع نبيهم: وأي مانع يمنعنا عن القتال

في سبيل الله، وقد أخرجنا عدونا من ديارنا، وأبعدنا عن أولادنا بالقتل والأسر.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ) أي: فلما فرض عليهم القتال.

(تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) نكل أكثرهم عن الجهاد إلا فئة قليلة منهم صبروا وثبتوا.

• قال القرطبي: وهذا شأن الأُمم المتنعِّمَة المائلة إلى الدَّعَة تتمنّى الحرب أوقات الأنفة فإذا حَضرتِ الحرب كَعَّت وانقادت لِطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله (لا تتمنوا لِقاء العدوّ وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا).

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه.

‌الفوائد:

1 -

الحث على النظر والاعتبار بما يحدث وما يذكر الله من القصص.

2 -

تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.

3 -

أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها.

4 -

الإشارة إلى الإخلاص.

5 -

الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتمنوا لقاء العدو).

6 -

أن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل شيئاً قبل وقوعه.

7 -

تحريم الظلم بأنواعه.

(الأحد 30/ 1/ 1433 هـ).

ص: 320

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248)).

[البقرة: 247 - 248].

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً) أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت، وكان رجلاً من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا:

(قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) أي: كيف يكون ملكًا علينا.

• قال القرطبي: جَروا على سنّتهم في تَعْنِيتهم الأنبياء وحَيْدهم عن أمر الله تعالى.

• وقال ابن عاشور: وأَنَّى في قوله (أنى يكون له الملك علينا) بمعنى كيف، وهو استفهام مستعمل في التعجب، تعجبوا من جعل مِثله ملكاً، وكان رجلاً فلاحاً من بيت حقير، إلاّ أنه كان شجاعاً، وكان أطول القوم.

(وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) أي: لأنا فينا من هو من أولاد الملوك.

(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي: ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل: دباغًا، وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف.

• قال أبو حيان: هذا كلام من تعنتَ وحادَ عن أمر الله، وهي عادة بني إسرائيل، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً) أن يسلموا لأمر الله، ولا تنكره قلوبهم، ولا يتعجبوا من ذلك، ففي المقادير أسرار لا تدرك، فقالوا: كيف يملك علينا من هو دوننا.

ص: 321

(قَالَ) أي: نبيهم مجيباً لهم:

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) أي: اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم. يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك.

(وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها، أي: أتم علمًا وقامة منكم.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (اصطفاه عَلَيْكُمْ) أي: اختاره، واختيار الله هو الحجة القاطعة، ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء: بأن الله زاده بسطة في العلم، الذي هو ملاك الإنسان، ورأس الفضائل، وأعظم وجوه الترجيح، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب، ونحوها، فكان قوياً في دينه، وبدنه، وذلك هو المعتبر، لا شرف النسب. فإن فضائل النفس مقدّمة عليه.

• وقال الرازي: قال بعضهم: المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبه، وإنما سمي طالوت لطوله.

وقيل: المراد من البسطة في الجسم الجمال، وكان أجمل بني إسرائيل.

وقيل: المراد القوة، وهذا القول عندي أصح لأن المنتفع به في دفع الأعداء هو القوة والشدة، لا الطول والجمال.

• قال الرازي: إنه تعالى قدم البسطة في العلم، على البسطة في الجسم، وهذا منه تعالى تنبيه على أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف وأكمل من الفضائل الجسمانية.

• وقال ابن عاشور: قدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم، قال أبو الطيب:

الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعان

هو أَوَّلٌ وهي المحل الثاني.

فالعلم المراد هنا، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة، وقيل: هو علم النبوة، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدوداً من أنبيائهم.

• قال أبو السعود: لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك:

أولاً: بأن مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم.

وثانياً: بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ، وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظٍّ وافرٍ.

ص: 322

• قال الرازي: واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكاً عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك.

• قال ابن كثير: ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه.

(وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه.

كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ).

• هذا جواب عن شبهتم، وتقريره أن الملك لله، والعبيد لله، فهو سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، لأن المالك إذا تصرف في ملكه فلا اعتراض لأحد عليه في فعله.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء) فالملك ملكه، والعبيد عبيده، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم، ولا أمره إليكم. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله (والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء) من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو من قول نبيهم، وهو الظاهر.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (والله يؤتي ملكه من يشاء) يحتمل أن يكون من كلام النبي، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله، بعد أن بين لهم شيئاً من حكمة الله في ذلك.

ويحتمل أن يكون تذييلاً للقصة من كلام الله تعالى.

ص: 323

• قوله تعالى (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.

(وَاللَّهُ وَاسِعٌ) قال ابن جرير: واسع يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.

• وقال الخطابي: الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه.

• وقال السعدي: الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة، والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم.

• فالله عز وجل واسع العطاء، كثير الإفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وفضله، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته.

(والله واسع المغفرة) ومن سعة مغفرته: أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه.

قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وقال حملة العرش عن ربهم تبارك وتعالى (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

• والله واسع العلم: كما قال تعالى (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

• والله واسع الرحمة: كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).

(عَلِيمٌ) بكل شيء لا تخفى عليه خافية، عَلِيمٌ بمن يستحق الملك، ويصلح له.

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم.

• قال الشوكاني: أي: علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم، أي: رجوعه إليكم، وهو صندوق التوراة.

• التابوت صندوق، لكن ما هي صفة التابوت الوارد في الآية، الله أعلم بذلك.

ص: 324

(فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) اختلف في المراد بالسكينة، ورجح الطبري أنها ما تسكن إليه النفوس من الآيات التي يعرفونها.

(وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) اختلف في المراد بالبقية، قيل: عصا موسى، وقيل: رضاض الألواح، وقيل: هي

بعض ما تركه آل موسى وآل هارون من ثياب.

• قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم الذي قال لأمته: " إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا، وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزاً فيه ما قلنا من القول.

• قال ابن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.

(تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون.

ص: 325

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لكم) أي: على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: بالله واليوم الآخر.

‌الفوائد:

1 -

تعظيم الأنبياء لله تعالى وحسن أدبهم.

2 -

وجوب الإيمان بالقدر.

3 -

فضل العلم.

4 -

أن الملك يقوى بالعلم وقوة البدن.

5 -

أنه كلما كان ولي الأمر ذا سلطة في العلم وتدبير الأمور والجسم والقوة كان أقوم لملكه.

6 -

إثبات المشيئة لله.

7 -

سعة رحمة الله وعلمه وملكه.

8 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الواسع والعليم.

9 -

ما في التابوت من الآيات العظيمة.

10 -

أن للسكينة تأثيراً على القلوب.

11 -

إثبات الملائكة.

12 -

أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمنون.

13 -

فضيلة الإيمان.

14 -

أن الملائكة أجسام.

ص: 326

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)).

[البقرة: 249].

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) أي: خرج بالجيش وانفصل عن بيت المقدس وجاوزه.

(قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي: مختبركم بنهر.

• قال ابن الجوزي: ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ومن ليس له نية.

• وقال الرازي: في حكمة هذا الابتلاء وجهان:

الأول: قال القاضي: كان مشهوراً من بني إسرائيل أنهم يخالفون الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة فأراد الله تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدو يتميز بها من يصبر على الحرب ممن لا يصبر، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو، فلما كان هذا هو الصلاح قبل مقاتلة العدو لا جرم قال (فَإِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ).

الثاني: أنه تعالى ابتلاهم ليتعودوا الصبر على الشدائد.

• وقال القرطبي: ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء عُلِم أنه مطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته (في الماء) وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى.

(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي: من شرب منه فلا يصحبني - وأراد بذلك أن يختبر إرادتهم وطاعتهم قبل أن يخوض غمار الحرب -.

• قال ابن عاشور: ومعنى قول طالوت (ليس مني) يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي.

ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش، فلا يكمل الجهاد معه.

والظاهر الأول لقوله (ومن لم يطعَمْه فإنه مني) لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله (فمن شرب منه فليس مني) غنية عن قوله: ومن لم يطعمه فإنه مني؛ لأنه إذا كان الشارب مبعداً من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش.

ص: 327

(ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي: ومن لم يشرب منه فإنه من جندي الذين يقاتلون معي.

• قال القرطبي: ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئاً أن يكرروه بلفظ آخر، ولغة القرآن أفصح اللغات، فلا عِبرة بقدح من يقول: لا يقال طعمت الماء.

(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أي: لكن من اغترف قليلاً من الماء ليبل عطشه وينقع غلته فلا بأس بذلك.

(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي: فلما وصلوا إلى النهر انكبوا على الماء وأفرطوا في الشرب منه إلا عدداً قليلاً منه صبروا على العطش والحر، واكتفوا بغُرفة اليد.

•‌

‌ قال ابن الجوزي: وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان:

أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسدي.

والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وهو الصحيح، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأصحابه يوم بدر (أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت) وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.

• في هذا أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله.

وقد روى أحمد والدارمي عن عبد الله بن سلام قال (قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى (سبح لله

) حتى ختمها، قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها).

والآية إنكار لمن يقول قولاً ولا يفعله، أو يعد وعداً لا يفي به.

قال القرطبي: قوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله، أما في الماضي فيكون كذباً، وأما في المستقبل فيكون خلفاً وكلاهما مذموم.

• وفي الآية تعريض بأن العافية لا يعدلها شيء، وأن السلامة غنيمة، وأن الأولى أن الإنسان لا يسأل أو يتمنى أمر قد لا يفي بفعله، أو يلزم نفسه بما لم يلزمه الله به.

ص: 328

•‌

‌ وقد جاءت آيات في معنى هذه الآية:

كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).

وقال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً).

وقال تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(فلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي: فلما عبر طالوت النهر هو والقلة المؤمنة معه - وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً - لملاقاة العدو، ورأوا كثرة عدوهم وعدتهم.

•‌

‌ فلم يعبر معه إلا المطيع ويدل لذلك أمور:

الحجة الأولى: أن الله تعالى قال (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) فالمراد بقوله (الذين ءامَنُواْ مَعَهُ) الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.

الحجة الثانية: الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت (فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي) أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: ومعنى (فَشَرِبُواْ مِنْهُ) أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.

الحجة الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء ليس إلا هذا المعنى كان الظاهر أنه صرفهم عن نفسه في ذلك الوقت وما أذن لهم في عبور النهر.

(قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده الأشداء.

ص: 329

•‌

‌ قال ابن الجوزي: واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا، ولم يشهدوا، وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.

والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج.

وقد رجح هذا القول ابن جرير وابن عاشور؛ وقال ابن عاشور: وقد دل قوله (فشربوا منه) على قِلة صبرهم، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعدَ مجاوزة النهر فقالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو، وكانوا يسرون الخوف، فلما اقترب الجيشان، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ) أي: قال الذين يوقنون بلقاء الله، مذكرين لإخوانهم بالله وقدرته.

• معنى الظن هنا اليقين. والظن يطلق على اليقين.

كما في قوله تعالى (وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) أي: فأيقنوا، وكقوله تعالى (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ).

(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) كم من جماعة قليلة مؤمنة صابرة، غلبت - بإذن الله - وأمره - جماعة كثيرة كافرة باغية.

• قال الرازي: المراد منه تقوية قلوب الذين قالوا (لَا طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) والمعنى أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة.

• قال القرطبي: هكذا يجب علينا نحن أن نفعل، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدّام اليسير من العدوّ كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاريّ: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.

وفي المُسْند أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم) فالأعمال فاسدة والضعفاء مُهْمَلون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة! قال الله تعالى (اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله) وقال (وَعَلَى الله فتوكلوا) وقال (إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ) وقال (وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ) وقال (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ).

ص: 330

فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحلَّ بنا! بل لم يبق من الإسلام إلى ذكره، ولا من الدِّين إلاّ رَسْمُه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدوّ شرقاً وغرباً براً وبحراً، وعَمّت الفتن وعظُمت المحَن ولا عاصم إلا من رحِم.

(وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين) بنصره وتوفيقه وتأييده.

قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا قولاً للذين قالوا (كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) ويحتمل أن يكون قولاً من الله تعالى، وإن كان الأول أظهر.

‌الفوائد:

1 -

يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب كالمخذل والمرجف.

2 -

أن من الحكمة اختبار الجند، ليظهر من أهل للقتال، ومن ليس بأهل.

3 -

أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله.

4 -

أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَالتَّصْدِيقَ بِلِقَائِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ فِي مَوَاقِفِ الْجِلَادِ; فَإِنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ إِلَهًا غَالِبًا عَلَى أَمْرِهِ يَمُدُّهُ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ.

5 -

أن القليل من الناس من يصبر عند البلوى.

6 -

أهمية اليقين وأنه يحمل الإنسان على الصبر والتحمل.

7 -

إثبات ملاقاة الله.

8 -

أنه قد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة.

9 -

فضيلة الصبر.

10 -

إثبات المعية لله تعالى.

ص: 331

(وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)).

[البقرة: 250 - 252].

(وَلَمَّا بَرَزُوا) أي: ولما واجه حزب الإيمان - وهم قليل - من أصحاب طالوت.

• قال الشوكاني: أي لما صاروا في البراز وهو المتسع من الأرض.

(لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غيرُ مطيقين لهم عادة.

• جالوت أمير العمالقة.

(قَالُوا) داعين ربهم.

كما قال تعالى عن أولئك (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين) وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواطن، وروي عنه في قصة بدر أنه عليه السلام لم يزل يصلي ويستنجز من الله وعده، وكان متى لقي عدواً قال (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم " وكان يقول (اللهم بك أصول وبك أجول).

(أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً) أي: أنزل علينا صبراً من عندك.

(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي: في لقاء الأعداء، وجنبنا الفرار والعجز.

(وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي: وانصرنا بعونك وتأييدك على القوم الكافرين.

وفي هذا تنبيه على أن قتالهم إياهم إنما هو لوصف كفرهم لا لغرض دنيوي.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم، بإذنه تعالى الكوني القدري.

وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ) أي: وقتل داود عليه السلام جالوت قائد الجبابرة.

(وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) مع النبوة.

قال ابن الجوزي: يعني آتى داود ملك طالوت.

(وَالْحِكْمَةَ) قيل النبوة، وقيل: الزبور.

(وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم.

من ذلك ما ذكره تعالى في قوله (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ).

ص: 332

وقال (وَأَلَنَّا لَهُ الحديد. أَنِ اعمل سابغات وَقَدّرْ فِي السرد).

قال تعالى حكاية عنه (عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير).

وقال تعالى (وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً) وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس، فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم.

(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي: لولا يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

• قال أبو حيان: والذي يظهر أن المدفوع بهم هم المؤمنون، ولولا ذلك لفسدت الأرض، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في

جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.

• وقال الزمخشري: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. انتهى.

(وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: منّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً، وله الحكم والحكمة، والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.

(تِلْكَ) أي: المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت وانهزام جالوت وقتل داود إياه وتملكه.

(آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ) أي: هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم (نتلوها عليك) أي: ننزل عليك جبريل بها.

(بِالْحَقِّ) أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق، الذي يعلمه علماء بني إسرائيل.

(وَإِنَّكَ) يا محمد.

ص: 333

(لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه وتثبيتاً لقلبه، وتعريضاً بالمنكرين رسالته، وتأكيد الجملة بأنَّ للاهتمام بهذا الخبر، وجيء بقوله (من المرسلين) دون أن يقول: وإنك لرسول الله، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدْعاً من الرسل، وأنه أرسله كما أرسل من قبله، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم.

(تفسير ابن عاشور).

وقال رحمه الله: تذكير بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته، إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه، وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

• قال القاسمي: وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين، فكأنه قيل: قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع، لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم. والوبال في ذلك يرجع عليهم.

‌الفوائد:

1 -

أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد.

2 -

أن التجاء الإنسان إلى الله عند الشدائد سبب لنجاته.

3 -

اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه.

4 -

أن من صدق اللجوء إلى الله وأحسن الظن به أجاب الله دعاءه.

5 -

شجاعة داود حيث قتل جالوت.

6 -

أن الأنبياء ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله.

7 -

أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض.

8 -

إثبات حكمة الله تعالى.

9 -

إثبات فضل الله على جميع الخلق.

10 -

أن القرآن كله حق من الله.

11 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

12 -

أن هناك رسلاً غير الرسول.

ص: 334