المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ - تفسير القرآن الكريم - اللهيميد - من الفاتحة إلى النساء - جـ ٣

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)).

[البقرة: 253].

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً).

وقد أجمع العلماء على أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض، وأجمعوا على تفضيل الرسل منهم على الأنبياء، لتميزهم بالرسالة التي هي أفضل من النبوة، وأجمعوا على تفضيل أولي العزم منهم على بقيتهم، وعلى تفضيل نبينا على الجميع.

• فإن قيل: ما الجمع بين هذه الآية وبين الأحاديث الواردة في النهي عن التفضيل:

كحديث أبي هريرة. قَالَ (اسْتَبَّ رَجُلَانِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالَ الْمُسْلِمُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّداً عَلَى الْعَالَمِينَ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِى أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ) متفق عليه.

وفي رواية (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ

).

‌الجمع من وجوه:

الأول: أن النهي في الحديث محمول على ما إذا كان التفضيل يؤدي إلى توهم النقص في المفضول أو الغض منه، أو كان على وجه الازدراء به.

واختاره الخطابي، والبغوي، وابن تيمية، وابن أبي العز، وحافظ حكمي.

الثاني: أن النهي محمول على ما إذا كان التفضيل يؤدي إلى المجادلة والمخاصمة والتشاجر والتنازع.

ويؤيد هذا القول سبب ورود الحديث كما تقدم في حديث أبي هريرة.

الثالث: أن النهي محمول على ما إذا كان التفضيل بمجرد الرأي والهوى، لا بمقتضى الدليل.

الرابع: أن نهيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع منه صلى الله عليه وسلم.

الخامس: أن النهي الوارد في الأحاديث كان قبل نزول الآيات، وقبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم.

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) يعني موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، وكذلك آدم.

قال تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً).

وقال تعالى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

ص: 1

(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) كما ثبت في حديث الإسراء، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله.

يحتمل: أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة، وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة،

وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح، ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام، ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع.

ويحتمل: أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات) على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به.

(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) أي: الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به، من أنه عبد الله ورسوله إليهم.

كما قال تعالى (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

ص: 2

• قوله تعالى (عيسى ابن مريم) قال ابن تيمية: لما ذكر الله المسيح في القرآن قال (ابن مريم) بخلاف سائر الأنبياء وفي ذلك فائدتان: إحداهما: بيان أنه مولود، والله لم يولد، والثانية: نسبته إلى مريم، بأنه ابنها ليس هو ابن الله.

(وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني: أن الله أيده بجبريل عليه السلام.

• فإن قيل: لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما؟

والجواب: سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما، كأنه قيل: هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما، بل نازعوا وخالفوا، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا.

(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: لو أراد الله ما اقتتل الأمم الذين جاءوا بعد الرسل من بعد الحجج الباهرة والبراهين الساطعة التي جاءتهم بها الرسل، فلو شاء الله ما تنازعوا ولا اختلفوا ولا تقاتلوا، ولجعلهم متفقين على اتباع الرسل.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: من بعد الرسل.

قيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع، وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ.

وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبيّ، وهذا كما تقول: اشتريت خيلاً ثم بعتها، فجاز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبيّ فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بِسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد.

(وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا) أي: ولكن الله لم يشأ هدايتهم بسبب اختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم وأهوائهم.

ص: 3

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) أي: فمنهم من ثبت على الإيمان.

(وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) أي: ومنهم من حاد وكفر.

(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي: لو شاء الله لجعل البشر على طبيعة الملائكة لا يتنازعون ولا يقتتلون.

(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) كل ذلك عن قضاء الله وقدره.

‌الفوائد:

1 -

أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون.

2 -

أن فضل الله يؤتيه من يشاء.

3 -

إثبات الكلام لله تعالى.

4 -

أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة.

5 -

إثبات نبوة عيسى.

6 -

أن عيسى مولود.

7 -

الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله.

8 -

إثبات المشيئة لله تعالى.

9 -

بيان حكمة الله في انقسام الناس إلى مؤمن وكافر.

ص: 4

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)).

[البقرة: 254].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان.

(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) أي: أنفقوا في سبيل الله من مال الله الذي منحكم إياه، ادفعوا الزكاة وأنفقوا في وجوه الخير والبر والصالحات.

قيل: هذا الأمر مختص بالزكاة، لأن قوله (مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ) كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب.

وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب، وليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة.

والقول الثالث: أن المراد منه الإنفاق في الجهاد؛ والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد، وهذا قول الأصم.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) يعني يوم القيامة.

(لا بَيْعٌ فِيهِ) أي: لا تستطيعون أن تفتدوا نفوسكم بمال تقدمونه، ولو جاء بملء الأرض ذهباً، فلا تنفعه صداقة أحد بل ولا نسابته.

كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

وقال تعالى (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ).

فالبيع ههنا بمعنى الفدية، كما قال تعالى (فاليوم لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ).

وقال تعالى (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ).

ص: 5

وقال تعالى (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا). فكأنه قال: من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب.

والثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.

• وإنما قال سبحانه وتعالى (ولا بيع) لأن عادة الإنسان أن ينتفع بالشيء عن طريق البيع والشراء، فيشتري ما ينفعه، ويبيع ما يضره، لكن يوم القيامة ليس فيه بيع.

(وَلا خُلَّةٌ) أي: ولا صديق يدفع عنكم العذاب.

كما قال تعالى (الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين) وقال (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب) وقال: (وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

(وَلا شَفَاعَةٌ) أي: ولا شفيعاً يشفع لكم ليحط عنكم من سيئاتكم إلا أن يأذن الله تعالى.

• قال الرازي: المقصود من الآية أن الإنسان يجيء وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) وقال (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً).

• وينبغي على الإنسان أن ينفق قبل هجوم الموت عليه، قال تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقال تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وقال تعالى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).

• واعلم أن‌

‌ السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور:

أحدها: أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه، على ما قال تعالى (لِكُلّ امرئٍ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْن).

والثاني: أن الخوف الشديد غالب على كل أحد، على ما قال (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى).

ص: 6

• قال السعدي: وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخراً وأجراً موفراً في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهباً ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين.

(وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال

إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى (والكافرون هم الظالمون) وهذا من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى (إن الشرك لظلم عظيم)(تفسير السعدي).

‌الفوائد:

1 -

الأمر بالإنفاق في سبيل الله ومرضاته.

2 -

فضيلة الإنفاق مما أعطانا الله.

3 -

بيان منّة الله علينا في الرزق.

4 -

أن الإنسان إذا مات انقطع عمله.

5 -

ينبغي على الإنسان الإنفاق في حياته قبل موته.

6 -

أن القيامة دار جزاء لا دار عمل.

7 -

أن الدنيا هي دار العمل، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.

8 -

أن يوم القيامة لا ينفع إلا العمل الصالح من إنفاق وغيره.

9 -

أن الكفر أعظم الظلم.

ص: 7

(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)).

[البقرة: 255].

هذه الآية أعظم آية في القرآن الكريم كما جاء في صحيح مسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟. قَالَ قُلْتُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. قَالَ فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ «وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِر) رواه مسلم.

(وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِر) أي: ليكن العلم هنيئاً لك.

• هنأه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البصر والفقه والفهم في كتاب الله تبارك وتعالى الذي أهّله ليتعرف على هذا المعنى من بين آلاف الآيات القرآنية، فحكم بأن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل.

•‌

‌ لماذا هي أعظم آية؟

لأن شرف العلم بشرف المعلوم

وشرف الذكر بشرف المذكور.

فهذه الآية تتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته بل تتعلق بأعظم الأسماء والصفات، بل تتعلق بأسماء ترجع إليها سائر الأسماء الحسنى التي تدل على أوصاف الكمال، ولذلك كانت هذه الآية أعظم من غيرها.

• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر الله في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة.

• عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (َكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ. قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَا أَبَا

هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ» قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ» فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ سَيَعُودُ. فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ» فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ. قَالَ دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا. قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ. قَالَ «مَا هِيَ» قُلْتُ قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» قَالَ لَا. قَالَ «ذَاكَ شَيْطَانٌ) رواه البخاري.

ص: 8

(اللهُ) اسم من أسماء الله، متضمن للألوهية لله تعالى.

ومعناه: المألوه المعبود الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة وتعظيماً وخضوعاً له، وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، لما له من صفات الألوهية، وهي صفات الكمال.

• لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو مختص بالله لفظاً ومعنى.

لفظاً: أي أن هذا اللفظ لا يصح أن يسمى به أحد.

ومعنى: أي أن الصفة التي تضمنها هذا الاسم وهي الإلهية لا يصلح شيء منها للمخلوق.

• جميع الأسماء ترجع إليه لفظاً ومعنى: أي أن أسماء الله تأتي بعده ولا يأتي بعد شيء منها.

ومعنى ترجع إليه معنى: أي أن هذا الاسم يتضمن صفة الإلهية وهي أوسع الصفات، وهذه الصفة ترجع إليها جميع الصفات.

• الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا:

أولاً: محبة الله محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس والأهل والولد والدنيا جميعاً، لأنه المألوه المعبود وحده وهو المنعم المتفضل وحده.

ثانياً: تعظيمه سبحانه وإجلاله وإخلاص العبودية له وحده من توكل وخوف ورجاء ورغبة ورهبة وغير ذلك من أنواع العبادات.

ثالثاً: الشعور بالعزة به سبحانه والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم.

رابعاً: طمأنينة القلب وسعادته وأنسه بالله.

خامساً: إرادة الله تعالى بالمحبة والولاء، وإفراده تعالى بالحكم والتحاكم.

(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا معبود بحق سواه.

فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبداً لربه، ممتثلاً أوامره مجتنباً نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقاً ناقصاً مدبراً فقيراً من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئاً من أنواع العبادة.

• في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله (لا إله إلا هو) هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.

ففيها نفي استحقاق غير الله العبادة، وإثبات استحقاق الألوهية والعبودية لله تعالى.

ص: 9

• قال ابن كثير: إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق.

• وقال السعدي: فأخبر أنه الله، الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، وعبودية غيره باطلة.

• قال ابن رجب: قَوْل: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، تَقْتَضِي أَلَّا يُحِبَّ سِوَاهُ، فَإِنَّ اَلْإِلَهَ هُوَ اَلَّذِي يُطَاعُ، مَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً. وَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِمَّا يَكْرَهُ اَللَّهُ، أَوْ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ لَمْ يَكْمُلْ تَوْحِيدُهُ وَلَا صِدْقُهُ فِي قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ اَلشِّرْكِ اَلْخَفِيِّ بِحَسْبِ مَا كَرِهَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ، وَمَا أَحَبَّهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ. قَالَ تَعَالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم).

•‌

‌ فضائل كلمة التوحيد:

‌أولاً: وَهِيَ كَلِمَةُ اَلْإِخْلَاصِ،

وَشَهَادَةُ اَلْحَقِّ وَدَعْوَةُ اَلْحَقِّ، وَبَرَاءةٌ مِنْ اَلشِّرْكِ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَ اَلْخَلْقُ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون).

‌ثانياً: وَلِأَجْلِهَا أُرْسِلَتْ اَلرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ اَلْكُتُبُ.

قَالَ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون).

وقال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

وَهَذِهِ اَلْآيَةُ أَوَّلُ مَا عَدَّدَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ اَلنَّعَمِ فِي سُورَةِ اَلنِّعَمِ اَلَّتِي تُسَمَّى سُورَة اَلنَّحْلِ، وَلِهَذَا قَالَ اِبْنُ عُيَيْنَةَ: مَا أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعِبَادِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَإِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ لِأَهْلِ اَلْجَنَّةِ كَالْمَاءِ اَلْبَارِدِ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا; وَلِأَجْلِهَا أُعِدَّتْ دَارُ اَلثَّوَابِ وَدَارُ اَلْعِقَابِ، فِي اَلْآخِرَةِ، فَمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ اَلثَّوَابِ، وَمَنْ رَدَّهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اَلْعِقَاب، وَمِنْ أَجْلِهَا أُمِرَتْ اَلرُّسُلُ بِالْجِهَادِ، فَمَنْ قَالَهَا عُصِمَ مَالُهُ وَدَمُهُ.

‌ثالثاً: هي ثَمَنُ اَلْجَنَّةِ.

قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ اَلْجَنَّة) رواه أبو داود.

‌رابعاً: وهي نَجَاةٌ مِنْ اَلنَّارِ.

وَسَمِعَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، فَقَالَ خَرَجَ مِنْ اَلنَّارِ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

ص: 10

‌خامساً: وهي أَحْسَنُ اَلْحَسَنَاتِ.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلِّمْنِي عَمَلاً يُقَرِّبُنِي مِنَ اَلْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنْ اَلنَّارِ، قَالَ: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ مِنَ اَلْحَسَنَاتِ؟ قَالَ هِيَ أَحْسَنُ اَلْحَسَنَات).

‌سادساً: وَهِيَ: تُجَدِّدُ مَا دُرِسَ مِنَ اَلْإِيمَانِ فِي اَلْقَلْبِ.

كما في اَلْمُسْنَدِ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ قَالُوا كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

‌سابعاً: وَهِيَ اَلَّتِي لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ فِي اَلْوَزْنِ،

فَلَوْ وُزِنَتْ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ رَجَحَتْ بِهِنَّ.

كَمَا فِي اَلْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهِ إِلَّا اَللَّهُ، فَإِنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ كُنَّ فِي حَلْقَةٍ مُبْهَمَةٍ قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبُّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا. قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ

شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى! لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

‌ثامناً: وَهِيَ أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ اَلْمَرْفُوع (أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه) رواه الترمذي.

‌تاسعاً: ومن أعظم فضائلها:

ما جاء فِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ وَلَهُ اَلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ اَلشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك).

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيل).

‌عاشراً: وَمِنْ فَضَائِلِهَا أَنَّهَا تَفْتَحُ لِقَائِلِهَا أَبْوَابَ اَلْجَنَّةِ اَلثَّمَانِيَةِ.

يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.

كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَر. قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ اَلْجَنَّةِ") أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

وَفِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اَللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ اَلْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ اَلنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاء).

ص: 11

(الْحَيُّ) الذي له الحياة الكاملة.

ومعناه: أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.

• قال ابن كثير: أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً.

• وقال البغوي: الباقي الدائم على الأبد.

• وقال الطبري: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخره له أمد، إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حياً فلحياته أول محدود، وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بقضاء غايتها.

• وقد ورد اسم الحي لله تعالى في عدة آيات:

قال تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

وقال تعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

وقال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

وقال تعالى (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

• واسم الحي من أعظم الأسماء، لأنه يستلزم جميع صفات الكمال لله تعالى.

• كل ما سوى الله ميت.

قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

وقال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ).

وقد جاء في الحديث (أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنه مفارقه،

واعمل

).

• وفي ذكر صفة (الحي) بعد قوله عز وجل (الله لا إله إلا هو) استدلال على إثبات تفرّده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه، وذلك لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حيّ بهذه الحياة إلا الله الأحد فلا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال ابن عاشور: والمقصود إثبات الحياة وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).

ص: 12

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

‌أولاً: محبة الله تعالى وإجلاله.

‌ثانياً: التوكل الصادق على الله،

كما قال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

ومن أعظم ما يتوكل على الله فيه طلب الهداية والثبات على الإيمان وعدم الزيغ عنه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه (اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تُضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) رواه مسلم.

‌ثالثاً: الزهد في الدنيا الفانية وعدم الاغترار بها،

لأنه مهما أعطي العبد من العمر فلابد من الموت

(الْقَيُّومُ) أي: القائم بنفسه القائم على غيره، المتضمن لصفة القيومية.

• قال ابن كثير: هو القيّم لغيره، فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره.

• وقال ابن القيم: هو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد، وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات.

• وقال السعدي: القيوم: القائم بنفسه، القيوم لأهل السماوات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وجميع أحوالهم.

وهذا الاسم له شأن عظيم، قال ابن أبي العز: وأما القيوم، فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.

• وقد وردت عدة نصوص في القرآن الكريم تدل على أن قيام الموجودات وبقاءها وحفظها بأمر الله ولا قوام لها بدونه.

قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ).

وقال تعالى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ).

ص: 13

•‌

‌ آثار الإيمان المترتب على الإيمان بهذا:

‌أولاً: محبته سبحانه وحمده وإجلاله وتعظيمه.

‌ثانياً: التبرؤ من الحول والقوة والافتقار التام لله،

وإنزال جميع الحوائج بالله.

‌ثالثاً: إخلاص الاستعانة والاستغاثة والاعتصام لله عز وجل،

وقطع التعلق بالمخلوق الضعيف المربوب لله تعالى المفتقر إلى ربه.

‌رابعاً: قال ابن القيم: وهو سبحانه (القيوم) المقيم لكل شيء من المخلوقات

- طائعها وعاصيها - فكيف تكون قيوميته بمن أحبَّه وتولاه، وآثره على ما سواه، ورضي به دون الناس حبيباً، ورباً ووكيلاً، وناصراً ومعيناً وهادياً.

‌خامساً: الخوف منه سبحانه ومراقبته،

لأنه القائم على كل نفس، المتولي أمرها، الحافظ لأعمالها الذي لا يخفى عليه شيء من أمرها.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) السنة: النعاس، والنوم هو النوم، وهذه الجملة تأكيد للقيومية.

• قال ابن كثير: ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم.

• فالله عز وجل لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه، فلا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته.

• قال ابن عاشور: ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير، وإثبات لكمال العلم؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.

• فالله لا ينام لكمال حياته وقيوميته، وهذه قاعدة: كل صفة نفي يستلزم نفيها وإثبات كمال ضدها.

ص: 14

فكل صفة نفاها الله عن نفسه فإننا ننفيها عن الله مع إثبات كمال ضدها، وذلك: لأن النفي لا يدل على الكمال حتى يكون متضمناً لصفة ثبوتية يحمد عليها، فإن مجرد النفي قد يكون سببه العجز فيكون نقصاً، وقد يكون سببه عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً، كما لو قلت: الجدار لا يظلم.

فقوله تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لكمال عدله.

وقوله تعالى (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) لكمال قدرته.

وقوله تعالى (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) لكمال علمه.

وقوله تعالى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لكمال حياته وقيوميته.

وقوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً).

فالله لا يعجزه شيء لكمال علمه وقدرته.

قال الشيخ ابن عثيمين: فنفي العجز عنه يتضمن كمال علمه وقدرته، ولهذا قال بعده (إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) لأن العجز سببه: إما الجهل بأسباب الإيجاد، وإما قصور القدرة عنه، فلكمال علم الله تعالى وقدرته لم يكن ليعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض.

• فالنوم من صفات النقص التي يُنزه الله عنها لكمال حياته، قال صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام). رواه مسلم

فالنوم يحتاجه المخلوق لنقصه وعجزه، فهو يحتاج للنوم للاستراحة، ولذلك لما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون.

• ما الحكمة من ذكر النوم بعد نفي السنة، لأنه إذا قال (لا تأخذه سنة) فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى.

قيل: لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم.

وقيل: إنما جمع بين نفييهما لأنه لا يلزم من نفي أحدهما نفي الآخر، إذ يتصور مجيء النوم دفعة من غير مبادئ الوسن، ومجيء الوسن دون النوم فلذلك نفي كل واحد منهما على حدته بدليل تكرير (لا).

ولذلك قال ابن عاشور: ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه، لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقاً، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر.

ص: 15

• موعظة بليغة: تعلق قلب رجل بامرأة بدوية وقد ذهبت ذات ليلة إلى حاجة لها فتبعها الرجل فلما خلا بها في البادية والناس نيام راودها عن نفسها، فقالت له: انظر أنام الناس جميعاً ففرح الرجل وظن أنها قد أجابته إلى ما ابتغاه فقام وطاف حول مضارب الحي فإذا الناس نيام فرجع مسروراً وأخبرها بخلو المكان إلا من النيام، فقالت: ما تقول في الله تبارك وتعالى؟ أنائم هو في هذه الساعة؟ قال الرجل: إن الله لا ينام ولا تأخذه سنة، فقالت المرأة: إن الذي لم ينم ولا ينام ويرانا وإن كان الخلق لا يرون

فذلك أولى أن نخشاه، فاتعظ الرجل وتركها وتاب خوفاً من الله تعالى، ولما مات رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي لخوفي منه وتوبتي إليه.

وصدق من قال:

وإذا خلوت بريبة في ظلمة

والنفس داعية إلا العصيانِ

فاستحي من نظر الإله وقل لها

إن الذي خلق الظلام يراني

(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: كل ما في السماوات والأرض له سبحانه وتعالى خلقاً وملكاً وتدبيراً.

• قال ابن جرير: أي أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون آلهة ومعبود.

• وقال ابن كثير: إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه.

• وقال أبو بكر الجزائري: خلقاً وملكاً وتصرفاً.

ص: 16

• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض) تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة، لأنّ من كانت جميع الموجودات مِلكاً له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها.

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على هذا العموم:

قال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وقال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).

وقال تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

• وهذه الجملة تؤيد تفرده سبحانه بالألوهية، وذلك من جانبين:

الأول: حيث إن الجميع عبيد له جل جلاله، وليس للعبد أن يعبد غير مالكه، أو يُشرِك غيره معه في العبادة، وقد نهاه عن ذلك.

الثاني: وحيث إن الجميع عبيد له، فكيف يُعبد مملوك - كائناً من كان - ويُترك المالك، أو يُشرَك مملوك في العبادة مع المالك، وقد نهى عن ذلك.

• والفائدة من إيماننا بأن لله ملك السموات والأرض:

أولاً: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء ..

يدل لذلك ما أمرنا الله به أن نقول عند المصيبة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

ويدل لذلك أيضاً ما بينّه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته التي أشرف ابنها على الموت، حينما أرسلت إليه ليأتي، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

ثانياً: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه.

ثالثاً: أن كل ما في الكون ملك لله الأحد سبحانه وتعالى من غير شريك، فما لدينا من مال ومتاع وجاه ليس ملكاً لنا بل هو ملك لله، وإنما نحن مستخلفون فيه للابتلاء والاختبار، كما قال تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

ص: 17

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون .. ) رواه مسلم.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي: لا أحد يشفع عنده سبحانه إلا بإذنه، وذلك لكمال سلطانه.

• قال الرازي: استفهام معناه الإنكار والنفي، أي: لا أحد يشفع عنده أحد إلا بأمره، وذلك لأن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم، وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقولهم (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ثم بين تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب فقال (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ).

• وهذا - كما تقدم - يدل على كمال ملك الله عز وجل، لأن المخلوق إذا كان موصوفاً بالملك، فإن الناس قد يتقدمون بين يديه بالشفاعة من غير استئذان، وقد يشفع هو من غير رغبة في هذه الشفاعة التي قدمت بين يديه، لكنه قد يُحرج أو يستحي أو قد يقبل هذه الشفاعة خوفاً من غائلة الشافع، لأن ملكه لا يقوم إلا به، لأنه قد يكون من أعوانه الذين لا يقوم ملكه إلا بهم فيقبل الشفاعة خوفاً من غائلة هذا الشافع، وقد يقبلها حياء منه وخجلاً وإحراجاً، وقد يقبلها رداً لجميله السابق عليه وإفضاله (الشيخ خالد السبت).

ص: 18

وأما الله عز وجل فهو لا يخاف من أحد، ولا يقبل الشفاعة إحراجاً من أحد، وليس لأحد فضل على الله عز وجل حتى يكون ذلك القبول على سبيل المقايضة.

كما قال تعالى (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

وقال تعالى (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).

وقال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى).

بل بيّن سبحانه وتعالى أن الملائكة ومنهم الروح الأمين عليهم لن يتجرأ أحد منهم الكلام إلا من بعدما أن يأذن له الرحمن كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً).

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يتقدم يوم القيامة أحد من الأنبياء والمرسلين للشفاعة لدى الرب إلا هو صلى الله عليه وسلم، وحتى هو لن يبدأ في الشفاعة إلا بعدما يأذن الله له، وفي الحديث (

بعد أن يتأخر عنها آدم وموسى وإبراهيم ونوح وعيسى، يشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعْطَه، وقل يُسمع، واشفع تشفّع).

• والشفاعة في اللغة: جعل الشيء شفيعاً، وهي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) اختلف في معناها:

فقيل: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني الآخرة لأنهم يُقدِمون عليها (وَمَا خَلْفَهُمْ) من الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.

وقيل: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) بعد انقضاء آجالهم (وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: ما كان من قبل أن يخلقهم، وقيل: ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك.

والمراد من الآية: أن الله يعلم كل شيء من ماض ومستقبل، وأن علمه شامل لكل شيء سبحانه وتعالى.

• قال ابن كثير: دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها.

• وقال أبو حيان: والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات.

ص: 19

• وقال الشيخ صديق حسن خان: والمقصود أنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه، حتى يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء تحت الأرض الغبراء، وحركة الذرة في جو السماء، والطير في الهواء، والسمك في الماء.

• وقال السعدي: (يعلم ما بين أيديهم) أي: ما مضى من جميع الأمور (وما خلفهم) أي: ما يستقبل منها، فعلمه تعالى

محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى.

•‌

‌ مباحث علم الله تعالى:

أولاً: فالله تعالى يعلم كل شيء، يشمل الجزئيات والكليات.

قال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

وقال تعالى (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

ثانياً: يعلم سبحانه الماضي والمستقبل.

قال تعالى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).

ما بين أيديهم] الحاضر والمستقبل [وما خلفهم] الماضي.

ثالثاً: الله يعلم الخفايا وما في الصدور.

كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).

رابعاً: وليس شيء يصل إلى الأرض أو يصعد من الأرض إلى السماء إلا قد أحاط الله به علماً.

ص: 20

قال تعالى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

خامساً: ويعلم الأمور التي لن تكون كيف تكون لو كانت.

كما قال تعالى عن الكفار حين يكونون في النار (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

وقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً، لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بحكمته بقوله (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) وهذا الخروج الذي لا يكون قد علم جل وعلا أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).

سادساً: ويستوي في علم الله السر والعلانية، والصغير والكبير والغيب والشهادة.

قال تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

وقال تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وقال تعالى (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

سابعاً: وعلم الله لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان.

قال تعالى (

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى).

وقال تعالى (

وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً).

أما علم ابن آدم فمسبوق بجهل ويلحقه نسيان كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

ثامناً: علمنا قليل بالنسبة لعلم الله.

ص: 21

قال تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

•‌

‌ الآثار المترتبة من علمنا بهذه الصفة:

أ- الخوف من الله وخشيته، ومراقبته في السر والعلن، لأن العبد إذا أيقن أن الله تعالى عالم بحاله مطلع على باطنه وظاهره، فإن ذلك يدفعه إلى الاستقامة على أمر الله ظاهراً وباطناً.

ب-اليقين بشمول علم الله تعالى لكل شيء في السماوات والأرض، وللبواطن والظواهر، يثمر في قلب العبد تعظيم الله تعالى وإجلاله والحياء منه، كما يعين على التخلص من الآفات القلبية التي تخفى على الناس ولكنها لا تخفى على الله كآفة الرياء والحسد والغل والعجب والكبر.

قال ابن القيم: فإن قلت: فما السبيل إلى حفظ الخواطر، قلت: أسباب عدة، أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك، والثاني: حياؤك منه، الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.

ج- إن يقين العبد بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه بحال عبده المصاب وما يقاسيه من الآلام، إن ذلك يثمر في القلب الرجاء والأنس بالله ويدفع اليأس والقنوط من القلب.

د-ونستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: وجوب مراقبة الله، لأن العاقل إذا علم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، فسوف يراقب ربه، بلسانه وجنانه وأركانه، فبلسانه: لا ينطق بما حرم الله، وبجنانه: لا يعتقد بقلبه خلاف الحق، وبجوارحه: لا يستعملها في المحرمات، فيستعمل العين في النظر إلى الحرام، ويستعمل اليد في البطش الحرام، ويستعمل الآذان في السماع الحرام.

وأيضاً نستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: الرغبة والنشاط والرجاء، لأن الإنسان يعلم أن الله يعلم بكل أعماله الصالحة، وأنه لن يضيع منها شيء.

ص: 22

•‌

‌ صلة هذه الجملة بما قبلها:

في هذه الجملة - والله أعلم - بيان لسبب حرمان الخلق من الشفاعة إلا بإذنه تعالى، لأنه وحده تعالى عالم بأحوال الشافع والمشفوع له، وهو سبحانه وتعالى وحده يعلم من له أن يشفع ومن يستحق أن يُشفع له.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) قوله (من علمه) ذكر المفسرون قولان:

الأول: العلم هنا بمعنى المعلوم.

والثاني: العلم هنا علم ذاته وصفاته.

فعلى القول الأول: قال الطبري: لا يعلم أحد سواه شيئاً إلا بما شاء هو أن يُعلمه، فأراد فعلّمه.

وقال ابن عطية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يُعلمه.

وعلى القول الثاني: لا يحيط أحد علماً بذاته جل جلاله وصفاته إلا ما أطلعه تعالى عليه كقوله (ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

• قال الشيخ ابن عثيمين: وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته، وعن أحكامه الكونية وأحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل كما قال تعالى (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) وسع بمعنى شمل وأحاط كرسيه السماوات والأرض، والكرسي:

قيل: هو العرش، وقيل: وسع كرسيه علمه، والصحيح أن الكرسي غير العرش، وأن الكرسي هو موضع قدميّ الله تعالى.

ص: 23

• قول: وسع كرسيه: أي وسع علمه هذا ضعيف ولا يصح ولا يثبت عن ابن عباس.

• وهذا يدل على عظمة الكرسي، وقد جاء في الحديث (والذي نفسي بيده، ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحَلْقَةٍ ملقاةٍ في فلاةٍ من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلْقة).

وهذا على عظم هذه المخلوقات، وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.

وقد جاء في الحديث (أُذِن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة

).

(وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي: لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض لكمال علمه وقدرته وإحاطته.

• قال ابن كثير: أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء.

• وهذه من الصفات المنفية، فالله لا يثقله حفظ السماوات والأرض لكمال قدرته وعلمه وقوته.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ) فالله له العلو المطلق، علو الذات، وعلو الصفات.

أولاً: علو الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قدر.

القسم الثاني: علو شرف.

وهذان القسمان لم يخالف فيهما أحد ممن ينتسب إلى الإسلام.

وهو سبحانه عالي الصفات والقدر، منزه عن النقائص والعيوب.

القسم الثالث: علو ذات: وهذا وقع فيه خلاف بين أهل السنة وأهل البدع.

فمذهب أهل السنة والسلف: أن الله تعالى عال بذاته فوق جميع خلقه، بائن من خلقه مستو على عرشه.

ولهم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة.

ص: 24

أما‌

‌ أدلة الكتاب والسنة

فقد تنوعت دلالتهما بطرق كثيرة:

أحدها: التصريح بالفوقية.

كقوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

وكقوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).

الثاني: التصريح بالعروج إليه.

كقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ).

وقوله صلى الله عليه وسلم (يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم.).

الثالث: التصريح بالصعود إليه.

كقوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).

الرابع: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه.

كقوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ).

وقوله تعالى (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).

الخامس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو.

كقوله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

وقوله تعالى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).

السادس: التصريح بتنزيل الكتاب منه.

كقوله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم).

وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

وقوله تعالى (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

وقوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ).

وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ).

ص: 25

السابع: التصريح بأن الله تعالى في السماء.

كقوله تعالى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.

الثامن: التصريح بالاستواء على العرش.

كقوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

التاسع: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى.

كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً).

والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع.

العاشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم، إنما يكون من علو إلى أسفل.

الحادي عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له، لما كان بالجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم:(أنتم مسؤولون عني، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم اشهد).

الثاني عشر: التصريح بلفظ (الأين) كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه:(أين الله).

الثالث عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه بالسماء بالإيمان.

الرابع عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السموات، فقال:(يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً) فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبتها فهو موسوي محمدي.

الخامس عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة.

ص: 26

‌من العقل:

أن العلو صفة كمال والسفل صفة نقص، فوجب لله تعالى صفة العلو وتنزيهه عن ضده.

‌وأما الفطرة:

قال شارح الطحاوية: وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله.

‌وأما الإجماع:

فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة على أن الله فوق سمواته مستو على عرشه.

• قوله (أأمنتم من في السماء).

قد يتوهم واهم أن الله تعالى داخل السماء، وأن السماء تحيط به، كما لو قلنا: فلان في الحجرة، فإن الحجرة تحيط به.

ومنشأ الوهم: ظنه أن (في) التي للظرفية تكون بمعنى واحد في جميع مواردها، وهذا ظن فاسد، فإن (في) يختلف معناها بحسب متعلقها.

فقوله (أأمنتم من في السماء) هذا عند أهل التفسير من أهل السنة على أحد وجهين:

الوجه الأول: أن تكون السماء بمعنى العلو، فإن السماء يراد بها العلو، كما في قوله تعالى (وأنزل لكم من السماء ماء) والمطر ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض لا من السماء نفسها.

الوجه الثاني: أن تكون (في) بمعنى (على)، كما جاءت بمعناها في مثل قوله تعالى (فسيروا في الأرض) أي على الأرض وقوله عن فرعون (ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل.

• فإن قيل ما الجواب عن قوله تعالى (وهو في السماء إله وفي الأرض إله)؟

وكذلك قوله تعالى (وهو الله في السموات وفي الأرض)؟

ص: 27

قال ابن تيمية: ليس معناهما أن الله في الأرض كما أنه في السماء، ومن توهم هذا، أو نقله عن أحد من السلف فهو مخطئ في وهمه، وكاذب في نقله.

وإنما معنى الآية الأولى: أن الله مألوه في السماوات وفي الأرض، كل من فيهما فإنه يتأله ويعبده.

وأما الآية الثانية فمعناها: أن الله إله في السماء، وإله في الأرض، فألوهيته ثابتة فيهما.

(الْعَظِيمُ) قال الطبري: ذو العظمة الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه.

وقال الجزائري: العظيم: الذي كل شيء أمام عظمته صغير وحقير.

فالله عظيم في ذاته، عظيم في أسمائه كلها، عظيم في صفاته كلها.

قال السعدي: العظيم الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء وإن جلت في الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.

•‌

‌ واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان:

أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه وأوسعه.

والثاني: أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله، فيستحق من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم.

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا:

أولاً: الخشوع والخضوع لله تعالى والاستكانة والتذلل لعظمته وجبروته ومحبته.

ثانياً: ومن تعظيمه سبحانه نفي الشركاء والأنداد عنه، قال تعالى (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً).

ثالثاً: ومن تعظيمه سبحانه: تعظيم أمره ونهيه، وتعظيم نصوص الكتاب والسنة والاستسلام لها.

رابعاً: ومن تعظيمه سبحانه: تعظيم شعائره، قال تعالى (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

خامساً: الاستعانة بالله وحده وصدق التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه.

سادساً: الخوف منه سبحانه وحده، وعدم الخوف من المخلوق الضعيف.

ص: 28

‌الفوائد:

1 -

أنه لا إله بحق إلا الله تعالى.

2 -

أن هذه الآية أعظم آية في كتاب الله تعالى.

وقد اختلف العلماء هل كلام الله يتفاضل أم لا على قولين:

القول الأول: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهِ.

لِأَنَّهُ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَالُوا: وَصِفَةُ اللَّهِ لَا تَتَفَاضَلُ.

كَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) قَالُوا فَخَيْرٍ إنَّمَا يَعُودُ إلَى غَيْرِ الْآيَةِ مِثْلَ نَفْعِ الْعِبَادِ وَثَوَابِهِمْ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.

وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ.

أ-قوله صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْفَاتِحَةِ (أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا) فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ؟

ب- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ (أَنَّهُ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؛ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ (اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ لَهُ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ) فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ.

ج-وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْكَلَامُ يَشْرُفُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا، فَالْخَبَرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْمُخْبِرِ وَبِشَرَفِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْآمِرُ وَبِشَرَفِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ مُشْتَرِكًا فَإِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّ مِنْهُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ فِيهِ بِالْإِيمَانِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ، وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الرِّبَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ:(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أَعْظَمُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) وَمَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِيمَانِ وَمَا نَهَى فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا أَمَرَ فِيهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَى فِيهِ عَنْ الرِّبَا. مجموع الفتاوى (17/ 211)

ص: 29

3 -

إثبات اسم الله المتضمن للألوهية الحق.

4 -

إثبات اسم الحي لله تعالى المتضمن الحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال.

5 -

أن كل مخلوق يموت حتى الملائكة.

6 -

أنه يجب الاعتماد على الله، لأنه هو الحي الذي لا يموت، فأما من يموت ويمرض فلا يعتمد عليه.

7 -

إثبات اسم القيوم لله تعالى المتضمن لصفة القيومة.

8 -

غنى الله عن كل أحد، وكل أحد محتاج لله تعالى كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

9 -

امتناع السنة والنوم عن الله تعالى لكمال حياته وقيوميته.

10 -

أن الله منزه عن كل نقص وعيب.

11 -

عموم ملك الله تعالى.

12 -

أن نطلب الملك ممن يملكه وهو الله سبحانه.

13 -

رضا الإنسان بقضاء الله، لأنه ملك له.

14 -

كمال سلطان الله تعالى.

15 -

إثبات الشفاعة بإذن الله.

16 -

إثبات علم الله الكامل.

17 -

وجوب الحذر من معصية الله الظاهرة والباطنة، لأن الله لا يخفى عليه شيء.

18 -

أننا لا نعلم شيئاً إلا ما علمنا الله.

19 -

من أراد العلم فليطلبه من العليم سبحانه.

20 -

إثبات الكرسي.

21 -

عظمة خلق الكرسي.

22 -

عظمة خالق الكرسي، لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.

23 -

إثبات قوة الله.

24 -

أن الله لا يعجزه شيء لكمال علمه وقدرته.

25 -

أن الله لا يثقل عليه حفظ السماوات والأرض.

26 -

أن السماوات والأرض تحتاج إلى حفظ، ولولا حفظ الله لفسدتا، كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً).

27 -

إثبات علو الله تعالى بأنواعه كلها.

28 -

إثبات العظمة لله تعالى.

ص: 30

(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)).

[البقرة: 256].

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ظاهر الآية على أنه لا يكره أحد على الدخول في دين الإسلام، لكن جاء في آيات أخر ظاهرها يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام كقوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

وقد اختلف العلماء في معنى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)؟

فقيل: أن هذا الدين لكماله، وظهور براهينه، واتضاح آياته، وقبول الفطرة له لا يحتاج إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق.

واختار هذا السعدي.

وقيل: إن المعنى: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، فمعناه: لا تنسبوهم إلى الإكراه.

وقيل: إن هذه الآية خبر في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين.

قال بهذا طائفة كثيرة من العلماء: كالطبري، وابن القيم، والشوكاني، والشنقيطي، وهو ظاهر اختيار ابن كثير.

وعلى هذا القول فكيف الجمع بين هذه الآية وبين الآيات الآمرة بالقتال والجهاد؟

ذهب بعض العلماء: إلى عمومها وأنه لا أحد يكره على اعتناق دين الإسلام، وأما الآيات الأخرى الموجبة للجهاد فلا تتنافى

مع هذه الآية، لأنها لم تأمر بإجبار أحد على اعتناق دين الإسلام، وإنما جاء فيها الأمر بالجهاد لإقامة النظام الإسلامي وتقريره وحمايته، ولدفع الأذى والفتنة عن المؤمنين.

ورجح هذا المسلك ابن القيم رحمه الله.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الآية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) في أهل الكتاب خاصة، فهم لا يكرهون على الإسلام إذا بذلوا الجزية لقوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وأما الذين يكرهون فهم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، وهم الذين نزل فيهم قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

وهذا احتيار ابن جرير ورجحه الشوكاني والشنقيطي.

والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمِي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا (لَا إكْرَاهَ في الدِّينِ).

وعن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مِقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده؛ فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي).

قال أبو داود: والمِقلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.

ص: 31

وقيل: إن آية (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) منسوخة بآيات القتال، لكنه قول ضعيف.

قال القرطبي: وروي هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين.

• قال ابن كثير: فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: أسلم، قال: إني أجدني كارها، قال: وإن كنت كارهاً، فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: أسلم وإن كنت كارهًا، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أي: تميز الحق من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة قال البيضاوي: قوله تعالى (قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي) تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله.

•‌

‌ قال الماوردي: قوله تعالى (فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ) فيه سبعة أقوال:

أحدها: أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب.

والثاني: أنه الساحر، وهو قول أبي العالية.

والثالث: الكاهن، وهو قول سعيد بن جبير.

والرابع: الأصنام.

والخامس: مَرَدَة الإنس والجن.

والسادس: أنه كل ذي طغيان طغى على الله، فيعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، أو بطاعة له، سواء كان المعبود

إنساناً أو صنماً، وهذا قول أبي جعفر الطبري.

ص: 32

(وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أي: وحد الله فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا الله.

• وفي هذا أن التوحيد لابد فيه من الكفر بالطاغوت وهذا معنى: لا إله إلا الله.

كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).

ففي هذه الآية معنى: لا إله إلا الله (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) لأن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تنطوي على نفي وإثبات، فعبر عن المنفي فيها بقوله (إنني براء مما تعبدون) وعبّر عن المثبت فيها بقوله (إلا الذي فطرني) ففيه تفسير التوحيد بإثبات العبادة لله وحده ونفيها عما سواه.

وقال تعالى (اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) هذه الآية هي معنى (لا إله إلا الله) لأن التوحيد نفي وإثبات، النفي في قوله (واجتنبوا الطاغوت) والإثبات في قوله (اعبدوا الله)، ففيه إثبات العبادة لله وحده وبنفي عبادة ما سواه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل.

فلم يكتفِ باللفظ المجرد عن المعنى في قول: لا إله إلا الله، بل لابد من قولها مع اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها وفي ضمن ذلك: الكفر بما سوى الله من المعبودات، وهذه هي حقيقة التوحيد.

• هذا الحديث من أعظم ما يبين لا إله إلا الله، وأنه الكفر بكل ما يعبد من دون الله.

• أن مجرد التلفظ بلا إله إلا الله مع عدم الكفر بما يعبد من دون الله لا يحرم الدم والمال ولو عرف معناها وعمل بها ما لم يضف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.

• أن البراءة من الكفر تكون بثلاثة أشياء: بالقلب، واللسان، والجوارح.

o براءة القلب: وهو كراهة الكفر وأهله، وبغضهم وتمني زوالهم واعتقاد بطلان الكفر وتركه.

وحكمه: فرض لازم، ولا يسقط بحال من الأحوال، لأنه لا يتصور فيه الإكراه، لأن عمل القلب خفي.

o براءة اللسان: وهو التصريح باللسان على أن عبادة غير الله باطلة.

وحكمه: واجب.

لقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).

ولقوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ

).

ص: 33

ولقوله تعالى عن إبراهيم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً).

o براءة الجوارح: وتكون بالجهاد وإزالة الكفر والكافرين وقتالهم، وهي مرتبطة بالقدرة والمصلحة.

ويسقط مع الإكراه وعدم الاستطاعة، لقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).

(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.

وقيل: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم، فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد.

وقيل: يعني الإيمان، وقيل: الإسلام، وقيل: لا إله إلا الله.

• قال ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيح ولا تنافي بينها.

• قال أبو حيان: قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت.

(لا انْفِصَامَ لَهَا) أي: لا انقطاع لها ولا زوال.

• عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ (كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فِي نَاسٍ فِيهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وَجْهِهِ أَثَرٌ مِنْ خُشُوعٍ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَدَخَلْتُ فَتَحَدَّثْنَا فَلَمَّا اسْتَأْنَسَ قُلْتُ لَهُ إِنَّكَ لَمَّا دَخَلْتَ قَبْلُ قَالَ رَجُلٌ كَذَا وَكَذَا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ رَأَيْتُنِي فِي رَوْضَةٍ - ذَكَرَ سَعَتَهَا وَعُشْبَهَا وَخُضْرَتَهَا - وَوَسْطَ الرَّوْضَةِ عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ. فَقِيلَ لِي ارْقَهْ. فَقُلْتُ لَهُ لَا أَسْتَطِيعُ. فَجَاءَنِي مِنْصَفٌ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ وَالْمِنْصَفُ الْخَادِمُ - فَقَالَ بِثِيَابِي مِنْ خَلْفِي - وَصَفَ أَنَّهُ رَفَعَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِيَدِهِ - فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى الْعَمُودِ فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ فَقِيلَ لِيَ اسْتَمْسِكْ. فَلَقَدِ اسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «تِلْكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلَامُ وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الإِسْلَامِ وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى وَأَنْتَ عَلَى الإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ) قَالَ وَالرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، متفق عليه.

ص: 34

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد، يسمع جميع الأصوات ويسمع السر والنجوى.

•‌

‌ وسمع الله ينقسم إلى قسمين:

أولاً: سمع إدراك: أي أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظاهر.

قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي

).

هذا السمع قد يراد به الإحاطة، كالآية السابقة.

وقد يراد به التهديد، كقوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء).

وقد يراد به التأييد، ومنه قوله تعالى لموسى:(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أسمعك وأؤيدك.

ثانياً: سمع إجابة: أي أن الله يستجيب لمن دعاه.

ومنه قول إبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) أي مجيب الدعاء.

ومنه قول المصلي (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده.

(عَلِيمٌ) بأفعالهم، يعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة.

‌الفوائد:

1 -

أنه لا أحد يكره على الدين.

2 -

أنه ليس هناك إلا رشد أو غي.

3 -

أنه لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك.

4 -

أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.

5 -

أنه لا نجاة إلا بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله.

6 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع والعليم.

ص: 35

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)).

[البقرة: 257].

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: حافظ المؤمنين ومتولي أمورهم وناصرهم، والمراد بالولاية هنا الولاية الخاصة.

لأن الولاية تنقسم إلى قسمين:

ولاية عامة: مقتضاها أن يرزقهم ويعطيهم وأيضاً القهر والسلطان والملك، وهذه للمؤمنين والكفار.

ودليلها هذه الآية (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ).

وقوله تعالى (ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

ولاية خاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين مقتضاها النصر والتأييد والتسديد والتوفيق والإخراج من الظلمات إلى النور.

كما قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ).

وقال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فالله ولي المؤمنين: لأنه يواليهم بالنصر والثواب الجزيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) رواه البخاري.

والمؤمنون أولياء الله كقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأنهم يوالونه بالطاعة.

• قال ابن القيم: فالولاية عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، وليست بكثرة صوم ولا صلاة.

(يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي: يخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الهداية والإيمان.

• قال الرازي: أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور: الكفر والإيمان.

• قال الشنقيطي: هذه ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى (الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور).

ص: 36

وبين في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبين أن ولايتهم له تعالى بإيمانهم وتقواهم وذلك في قوله تعالى (ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ).

وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولي نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه أيضاً يتولى الصالحين وهو قوله تعالى (إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي: وأما الكافرون فأولياؤهم الشياطين.

• قال الشيخ ابن عثيمين: وإذا تأملت هذه الجملة، والتي قبلها تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب، ففي الجملة الأولى قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) لأمور ثلاثة:

أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به.

ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل.

ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور.

وأما الجملة الثانية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) ولو كانت على سياق الأولى لقال: والطاغوت أولياء الذين كفروا، ومن الحكمة في ذلك:

أولاً: ألا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله.

ثانياً: أن الطاغوت أهون وأحقر من أن يُبدأ به ويقدّم.

ثالثاً: إن البداءة بقوله (والذين كفروا) أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره.

• قال الشنقيطي: قال بعض العلماء: الطاغوت الشيطان ويدل لهذا:

قوله تعالى (إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم من أوليائه.

وقوله تعالى (الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً).

وقوله (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية.

وقوله (إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ) الآية.

والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان كما قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان) الآية.

وقال (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً).

وقال عن خليله إبراهيم (يا أبت لَا تَعْبُدِ الشيطان) الآية.

وقال (وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) إلى غير ذلك من الآيات.

(يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) أي: يخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الشك والضلالة.

• قال الخازن: إنما سمي الكفر ظلمة لالتباس طريقه، ولأن الظلمة تحجب الأبصار عن إدراك الحقائق فكذلك الكفر يحجب القلوب عن إدراك حقائق الإيمان وسمي الإسلام نوراً لوضوح طريقه وبيان أدلته.

ص: 37

• فإن قيل: فكيف يخرجونهم من النور، وهم لم يدخلوا فيه؟

قيل: إن الآية مخصوصة بأهل الكتاب الذين كانوا مقرين بنبوة موسى وكذلك المقرين بنبوة عيسى، وكانوا متبعين لملتهم، فهؤلاء كانوا على نور، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به فدخلوا في ظلمات الكفر بعد أن خرجوا من نور الإيمان.

وقيل: إن المراد بإخراجهم من الظلمات إلى النور الحيلولة بينهم وبين الإيمان حتى يضلونهم عن طريق الإيمان، فيكون التضليل إخراج من النور إلى الظلمات.

وقيل: إنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم.

• قال الشنقيطي: المراد بالظلمات الضلالة، وبالنور الهدى، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة لإفراده النور، وهذا المعنى المشار إليه هنا بينه تعالى في مواضع أخر كقوله (وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلَا تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه).

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات، لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال (وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلَا تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال تعالى (وَجَعَلَ الظلمات والنور).

• وقال ابن القيم: والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق وطرق الباطل متشعبة متعددة فإنها لا ترجع إلى شيء موجود ولا غاية لها يوصل إليها بل هي بمنزلة بنيات الطريق وطريق الحق بمنزلة الطريق الموصل إلى المقصود فهي وإن تنوعت فأصلها طريق واحد، ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل والنور بمنزلة طريق الحق فقد أفرد النور وجمعت الظلمات وعلى هذا جاء قوله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).

فوحد ولي الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد، وجمع الذين كفروا لتعددهم وكثرتهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه.

(أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.

• والنار هي الدار التي أعدها الله للكافرين.

ص: 38

قوله تعالى (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذا الأسلوب يطلق على الذين يخلدون فيها، فالمؤمن العاصي - وإن كان يستحق العذاب بالنار - فإنه لا يسمى من أصحاب النار، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.

(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.

وقد ذكر الله تأبيده في ثلاث آيات من القرآن الكريم.

في سورة النساء: قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً).

وفي سورة الأحزاب: قال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).

وفي سورة الجن: قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

‌الفوائد:

1 -

فضيلة الإيمان.

2 -

إثبات الولاية لله تعالى.

3 -

أن من ثمرات الإيمان هداية الله للمؤمن.

4 -

الحذر من دعاة الضلال الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.

5 -

إثبات النار.

6 -

أن الكافرين مخلدون في النار.

ص: 39

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)).

[البقرة: 258].

(أَلَمْ تَرَ) أي: بقلبك يا محمد.

(إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ) هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان.

قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمروذ بن كنعان وبختنصر. فالله أعلم (تفسير ابن كثير).

• قال القرطبي: هو النُّمْروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح مِلك زمانه وصاحبُ النار والبَعُوضَة! هذا قول ابن عباس ومجاهد وقَتادة والرّبيع والسُّدِّي وابن إسحاق وزيد بن أسلم وغيرهم.

وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه باباً من البَعُوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة؛ فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عَتيدَة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوماً.

• وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى: لما أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه، وأنه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه، إذ كان الله وليه، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت (ألا إن حزب الله هم الغالبون)(ألا إن حزب الله هم المفلحون) فصارت هذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر اللذين تقدّم ذكرهما.

(فِي رَبِّهِ) أي: في وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يقال: إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه.

• قال أبو حيان: قوله تعالى (في ربه) يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم، وأن يعود على النمروذ، والظاهر الأول.

(أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) أي: لأن آتاه الله تعالى ذلك، (فتكون [أن] هنا تعليلية، وعلى هذا المعنى: أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك.

كما قال تعالى (وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

وقال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).

وقال تعالى (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ).

ص: 40

وقال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ)، فهذا دأب الإنسان، يبدأ في الطغيان إذا رأى نفسه مستغنياً عن الناس.

وقال تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).

وقال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقال تعالى (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقال تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

وفرعون لما أغناه الله وملّكه مصر قال (يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ).

وقارون لما أنعم الله عليه قال (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).

وقال صلى الله عليه وسلم (لكل أمة فتنة وفتنة أمتي بالمال) رواه الترمذي.

والأبرص والأقرع لما آتاهما الله مالاً جحدا نعم الله عليهما.

وعن عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَقَدِمَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ وَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ فَتَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ «أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ». قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).

قال ابن رجب: هذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، قد غاب عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان

فيها.

ص: 41

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم.

فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.

إذا أكرمت الكريم ملكته وإذا أكرمت اللئيم تمرداً.

(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) وكأنه طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة، لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج -وهو النمروذ:

(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة.

• قال ابن كثير: والظاهر -والله أعلم-أنه ما أراد هذا، لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي).

(قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) أي: إذا كنت كما تدعي من أنك أنت الذي تحيي وتميت، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب.

• وقد قال كثير من العلماء أن هذا من إبراهيم انتقال من دليل إلى دليل أو ضح وأكبر لا يستطيع المكابرة معه.

وقال بعض العلماء: إن هذا ليس من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح، وإنما هو من باب طرد الدليل، فكأنه قال له: ما دام أنك أنت تحيي وتميت، وأنت تملك هذه القدرة الهائلة، فأنت الذي تتصرف في هذا الكون فأت بالشمس من المشرق.

واختار هذا الحافظ ابن القيم حيث قال:

فإن إبراهيم لما أجاب المحاج له في الله بأنه الذي يحيي ويميت، أخذ عدو الله معارضته بضرب من المغالطة، وهو أنه يقتل من يريد ويستبقي من يريد فقد أحيا هذا وأمات هذا، فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها إذا كان بزعمه قد ساوى الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقاً فليتصرف في الشمس تصرفاً تصح به دعواه، وليس هذا انتقالاً من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار، وإنما هو إلزام للمدعي بطرد حجته إن كانت صحيحة.

ص: 42

واختاره ابن كثير حيث قال: وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية، وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي: فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة.

• قال ابن عاشور: وإنّما انتفى هدي الله للقوم الظالمين، لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج

وإعمال النظر فيما فيه النفع؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره.

‌الفوائد:

1 -

أن المجادلة لإبطال الباطل، وإحقاق الحق من مقام الرسل.

2 -

فضل إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قام بالدعوة إلى التوحيد.

قال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).

وقال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

3 -

الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة والمحاجة، لأنها وسيلة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل.

4 -

أن النعمة والترف قد تكون سبباً للطغيان.

5 -

أن الإحياء والإماتة بيد الله.

6 -

إثبات أن من جحد الله فهو كافر.

7 -

التحذير من الظلم بجميع أنواعه.

8 -

فضل العدل.

ص: 43

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)).

[البقرة: 259].

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) هذه هي القصة الثانية.

• اختلف في المار:

فقيل: عزير، وهذا هو المشهور.

وقيل: هو رجل من بني إسرائيل.

وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها.

(وَهِيَ خَاوِيَةٌ) أي: ليس فيها أحد، من قولهم: خوت الدار تخوي خواءً وخُوياً.

(عَلَى عُرُوشِهَا) أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، ولهذا قال:

(قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها.

• قال ابن الجوزي (قال أنى يحيي هذه الله) أي: كيف يحييها. فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة، أو يستهولها، فيعظم قدرة الله، وإن قلنا: إنه كان رجلاً كافراً، فهو كلام شاك، والأول أصح.

• قال في التسهيل: (أنى يُحْيِي هذه الله) ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى إحياء أهلها بعد موتهم، لأنّ هذا الذي يمكن فيه الشك والإنكار، ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما أخربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف.

(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أي: أمات الله ذلك السائل واستمر ميتاً مائة سنة ثم بعثه.

• قال ابن كثير: قالوا: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجعت بنو إسرائيل إليها.

(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ) أي: قال له ربه بواسطة الملك كم لبثت في هذه الحالة.

• قال القرطبي: اختُلف في القائل له (كم لبثت) فقيل: الله جل وعز، وقيل: سمع هاتفاً من السماء يقول له ذلك، وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيّ، وقيل: رجل مؤمن ممن شاهده من قومه عند موته وعمر إلى حين إحيائه فقال له: كم لبثت.

ويقال: كان هذا السؤال بواسطة الملك على جهة التقرير.

ص: 44

ثم قال رحمه الله: قلت: والأظهر أن القائل هو الله تعالى؛ لقوله (وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً).

(قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا: وذلك أنه أماته أول النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

• قال في التسهيل: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام؛ فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله: يوماً فقال: أو بعض يوم.

• قال القرطبي: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) إنما قال هذا على ما عنده وفي ظنه، وعلى هذا لا يكون كاذباً فيما أخبر به؛ ومثله قول أصحاب الكهف (قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وإنما لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين على ما يأتي ولم يكونوا كاذبين لأنهم أخبروا عما عندهم، كأنهم قالوا: الذي عندنا وفي ظنوننا أننا لبثنا يوماً أو بعض يوم.

ونظيره قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليَدَين: " لم أقصر ولم أَنْس" " ومن الناس من يقول: إنه كذبٌ على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ولكنه لا مؤاخذة به، وإلا فالكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه وذلك لا يختلف بالعلم والجهل.

(قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) أي: بل مكثت ميتاً مائة سنة كاملة.

(فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي: فإن شككت فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير بمرور الزمان، وكان معه عنب وتين وعصير فوجدها على حالها لم تفسد.

(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ) أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر.

(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي: دليلاً على المعاد.

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) أي: نرفعها فتركب بعضها على بعض.

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (كيف ننشزها) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو (ننشرها) بضم النون الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها، يقال: أنشر الله الميت، فنشرهم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ننشزها، بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع. والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء.

• قال الرازي: قوله تعالى (وانظر إِلَى العظام) فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره، فإن اللام فيه بدل الكناية، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه.

ص: 45

(ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً) أي: ثم نكسوها لحماً وأنت تنظر.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) بأن له إحياء الموتى.

(قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(قَالَ أَعْلَمُ) بهمزة قطع وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافاً، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر أي قال له الملك ذلك.

‌الفوائد:

1 -

بلاغة القرآن حيث ينوع الأدلة والبراهين على الأمور العظيمة.

2 -

أن العبرة بالمعاني والمقاصد دون الأشخاص.

3 -

أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء ولكنه لم يشك في قدرة الله لا يكفر بهذا.

4 -

إثبات البعث.

5 -

أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله وأحدثه في الكون.

6 -

بيان عموم قدرة الله تعالى.

7 -

ثبوت كرامات الله.

ص: 46

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)).

[البقرة: 260].

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) أي: واذكر حين طلب ابراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى.

• سأل الخليل عليه السلام عن الكيفية مع إيمانه الجازم بقدرة الله تعالى، فالسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان.

(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) هذا الاستفهام للتقرير، وليس للإنكار ولا للنفي، فهو كقوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك) أي: قد شرحنا لك صدرك.

• قال الرازي: قوله تعالى (أَوَلَمْ تُؤْمِن) ففيه وجهان أحدهما: أنه استفهام بمعنى التقرير، قال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا .. وأندى العالمين بطون راح

والثاني: المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر.

(قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي: ليزداد طمأنينة.

• فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين.

فالدرجات ثلاث:

علم اليقين: كما قال تعالى (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)، وهو العلم الثابت الراسخ الذي لا يداخله شك.

عين اليقين: قال تعالى (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)، وهذا لا يُتوصل إليه إلا بالمشاهدة.

حق اليقين: قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)، وهذا لا يتحقق إلا بملابسة شيء.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (ليس الخبر كالمعاينة) ولهذا لما اخبر الله موسى: أنه قد فتن قومه، وأن السامري أضلهم، لم يحصل له من الغضب والكيفية والقاء الألواح، ما حصل له عند مشاهدة ذلك.

مثال يوضح ذلك: قلت إن معي تفاحة - وأنا عندك ثقة - فهذا علم اليقين.

فإن أخرجتها من جيبي، فهذا عين اليقين.

فإن أعطيتك لتأكلها فهذا حق اليقين.

قال القرطبي: اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شكّ أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال عليه السلام (ليس الخبر كالمعانية).

قال الأخفش: لم يُرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين.

وقال الحسن وقَتادة وسعيد ابن جُبير والربيع: سأل ليزداد يقيناً إلى يقينه.

ص: 47

• فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؟

الجواب: قيل: معنى الحديث أن الشك يستحيل في حق إبراهيم، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، وإنما خص إبراهيم لكون الآية قد يسبق منها إلى بعض الأذهان الفاسدة احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم على نفسه تواضعاً وأدباً، أو قبل أن يعلم أنه خير ولد آدم.

بهذا التأويل قال الخطابي، والطحاوي، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن عطية، وابن الجوزي، والنووي، وابن حجر، وابن عثيمين.

وقيل: إن الحديث كان رداً على قوم أثبتوا الشك لإبراهيم.

وقيل: أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن) أمته الذين يجوز عليهم الشك. والأول أصح. نقل

(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) أي: فخذ أربعة طيور.

• قال ابن كثير: اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال: هي الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة. وعنه أيضًا: أنه أخذ وزًّا، ورألاً -وهو فرخ النعام -وديكاً، وطاووسًا. وقال مجاهد وعكرمة: كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا.

(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد أي: أمِلْهُنّ إليك، وقيل: ضُمّهُنّ إليك.

وفي قراءة (فصِرهن) تكون بمعنى قَطّعْهُنّ.

أي: ضُمّهُنّ إليك ثم اقطعهن ثم اخلط بعضهن ببعض حتى يصبحن كتلة واحدة.

(ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي: فرّق أجزاءهن على رؤوس الجبال.

(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) أي: بسرعة.

• قال ابن كثير: فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعياً، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته.

وقال أبو حيان: أمره بدعائهنّ وهنّ أموات، ليكون أعظم له في الآية، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه، ولذلك رتب على دعائه إياهنّ إتيانهنّ إليه.

ص: 48

• وقال السعدي: فعل ذلك، وفرق أجزاءهن على الجبال، التي حوله، ودعاهن بأسمائهن، فأقبلن إليه، أي: سريعات، لأن

السعي: السرعة، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن، وإنما جئن طائرات، على أكمل ما يكون من الحياة، وخص الطيور بذلك، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن.

وأيضاً أزال في هذا كل وهم، ربما يعرض للنفوس المبطلة، فجعلهن متعددات أربعة، ومزقهن جميعاً، وجعلهن على رؤوس الجبال، ليكون ذلك ظاهراً علناً، يشاهد من قرب ومن بعد، وأنه نحاهن عنه كثيراً، لئلا يظن أن يكون عاملاً حيلة من الحيل، وأيضاً أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات.

فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.

وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه، وتمام عدله وفضله.

(وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) اسم من أسماء الله متضمن لصفة العزة وهي ثلاثة أنواع: عزة القدْر: بمعنى أن الله ذو قدْر شريف عظيم، وعزة القهر: بمعنى أن الله القاهر لكل شيء، لا يُغلب، وعزة الامتناع: بمعنى أنه يمتنع أن يناله أحد بسوء أو نقص.

(حَكِيمٌ) اسم من أسماء الله متضمن لصفة الحكمة البالغة، فأوامره وأحكامه وأفعاله كلها لحكمة.

فهو سبحانه حكيم في صنعه، وحكيم في شرعه، فجميع مصنوعاته كلها محكمة، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وأما في الشرع فيقول سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فلا يمكن أن يوجد تناقض في القرآن أبداً.

قال بعض العلماء: الحكمة تكون في صورة الشيء: أي أن خلق الإنسان على هذه الصورة لحكمة، وكذلك خلق الحيوان على هذه الصورة لحكمة.

ص: 49

وتكون في غايته: أي: أن الغاية من خلق الإنسان لحكمة، وكذلك الحيوانات، وكذلك جميع المخلوقات، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

‌الفوائد:

1 -

أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه.

2 -

أن عين اليقين أقوى من خبر اليقين.

3 -

تمام قدرة الله بإحياء الموتى.

4 -

إثبات زيادة الإيمان.

قال تعالى (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).

وقال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

وقال تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً).

وقال تعالى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

وقال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن

) متفق عليه.

وجه الدلالة: أنه إذا ثبت النقص ثبتت الزيادة.

وقال صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أبو داود.

وعن ابن مسعود أنه قال (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً). رواه ابن بطة بإسناد صحيح.

وعن أبي الدرداء أنه كان يقول (الإيمان يزداد وينقص) رواه ابن ماجه.

وكان معاذ يقول لرجل: اجلس بما نؤمن ساعة.

وقال عمار: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم.

فأهل الإيمان يتفاضلون كما قال سبحانه (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات).

ص: 50

(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)).

[البقرة: 261].

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ).

• قوله تعالى (في سبيل الله) يعني في دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصة، وقيل: جميع أبواب البر، ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير، ومن صرف المال إلى الصدقات، ومن إنفاقها في المصالح، لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله.

•‌

‌ قوله (في سبيل الله) أضيف إلى الله لسببين:

الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده وشرعه لهم.

والثاني: أنه موصل إليه.

(كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) كحبة بذرها إنسان، فأنبتت سبع سنابل (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فتكون الجميع سبعمائة، فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة.

• قال أبو حيان: وشبه الإنفاق بالزرع، لأن الزرع لا ينقطع.

• وقال ابن كثير: وهذا المثل أبلغ في النفوس، من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل، لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.

• في هذه الآية فضل الإنفاق في وجوه الخير والطاعة،‌

‌ وللإنفاق فضائل عظيمة:

‌أولاً: أن الإنفاق استجابة لأمر ربنا تعالى.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ).

وقال تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

‌ثانياً: مضاعفة الحسنات.

قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

‌ثالثاً: أن درجة البر تنال بالإنفاق.

قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

‌رابعاً: أنها من صفات المتقين.

ص: 51

كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقوله تعالى (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) دليل على أن الإنفاق ملازم لهم في جميع أحوالهم.

‌خامساً: الأمان من الخوف يوم الفزع الأكبر.

قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

‌سادساً: أن صاحب الإنفاق موعود بالخير الجزيل.

قال تعالى (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

‌سابعاً: أن الله يخلف الصدقة.

قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

‌ثامناً: أن الإنفاق دليل على صحة الإيمان.

قال صلى الله عليه وسلم (والصدقة برهان) رواه مسلم، فالصدقة برهان على صحة الإيمان.

‌تاسعاً: ينال دعاء الملائكة.

كما قال صلى الله عليه وسلم (ما من صباح إلا وينزل ملكان: يقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

‌عاشراً: فضل من سبق بالإنفاق والجهاد.

قال تعالى (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى).

‌الحادي عشر: أنها إرغام للشيطان وحسن ظن بالله.

قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

‌الثاني عشر: لا حسد إلا لمن أنفق في وجوه الخير.

قال صلى الله عليه وسلم (لَا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).

ص: 52

(وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) أي: بحسب إخلاصه في عمله.

وقال صلى الله عليه وسلم قال (والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف

) رواه البخاري.

قال ابن رجب: ومضاعفة الأجر بحسب كمال الإسلام، وبكمال وقوة الإخلاص في ذلك العمل.

وقال صلى الله عليه وسلم (الرجل تطوعاَ حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس بخمس وعشرين درجه) رواه ابن ماجة وصححه الألباني

• وقال السعدي: وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان، والإخلاص التام، وفي ثمرات نفقته ونفعها، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة، ومصالح متنوعة، فكان الجزاء من جنس العمل.

قال القرطبي: اختلف العلماء في معنى قوله (والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ) فقالت طائفة: هي مبيِّنة مؤكدة لما تقدّم من ذكر السبعمائة، وليس ثمَّ تضعيف فوق السبعمائة.

وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.

قلت: وهذا القول أصحُّ لحديث ابن عمر المذكور أوّل الآية.

• وقال ابن عاشور: ومعنى قوله (والله يضاعف لمن يشاء) أنّ المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلاّ الله تعالى؛ لأنّها تترتّب على أحوال المتصدّق وأحوال المتصدّق عليه وأوقات ذلك وأماكنه.

وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحفّ بالصدقة والإنفاق، تأثير في تضعيف الأجر، والله واسع عليم.

(وَاللَّهُ وَاسِعٌ) الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته.

• قال ابن القيم (واسع) فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة، فإن المضاعِف واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل.

(عليم) بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته.

‌الفوائد:

1 -

ضرب الأمثال، وهو تشبيه المعقول بالمحسوس، لأنه أقرب إلى الفهم.

2 -

فضيلة الإنفاق في سبيل الله.

3 -

الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل.

4 -

أن ثواب الله وفضله أكثر من عمل العامل.

5 -

حرص الشريعة على نفع الآخرين.

6 -

فضل الكرم والجود.

7 -

ذم البخل.

8 -

إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: الواسع، العليم.

ص: 53

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)).

[البقرة: 262 - 263].

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً) يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مناً على من أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل (وَلا أَذىً) أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان.

• في هذه الآية أن من محبطات الصدقة والإنفاق المن والأذى.

• قال القرطبي: المَنُّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها؛ مثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونَعْشْتُك وشبهه.

وقال بعضهم: المنّ: التحدّث بما أَعطى حتى يبلغ ذلك المعطَى فيؤذيه.

• والمنّ من الكبائر، ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ وروى النسائيّ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاقّ لوالديه والمرأة المترجِّلة تتشبّه بالرجال والديُّوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة العاقّ لوالديه والمدمِن الخمر والمنّان بما أعطى) وفي بعض طرق مسلم (المنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا مِنّة) والأذى: السب والتشكّي، وهو أعمّ من المنّ؛ لأن المنّ جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة

وُقُوعِه.

• قال ابن الجوزي: ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ولا يتعرف إليهم ولا يخبرهم من هو.

• قال القرطبي: لما تقدّم في الآية التي قبلُ ذِكرُ الإنفاق في سبيل الله على العموم بَيَّن في هذه الآية أن ذلك الحكم والثواب إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه مَنّا ولا أذًى؛ لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدّقة كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابَه بإنفاقه على المنَفق عليه، ولا يرجو منه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حالٍ سوى أن يراعي استحقاقه؛ قال الله تعالى (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُوراً)، ومتى أنفق ليريد من المنفَق عليه جزاء بوجهٍ من الوجوه فهذا لم يُرد وجهَ الله.

• قال أبو السعود: وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه، وتوسيطُ كلمة (لا) للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما و (ثُمَّ) لإظهار علوِّ رتبة المعطوف.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: ثوابهم عند ربهم.

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من أمور الدنيا.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) المراد به الإحسان القولي بجميع وجوهه، الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئاً، وغير ذلك من أقوال المعروف.

(وَمَغْفِرَةٌ) لمن أساء إليك، بقول أو فعل.

ص: 54

• قال ابن الجوزي: (قول معروف) أي: قول جميل للفقير، مثل أن يقول له: يوسع الله عليك (ومغفرة) أي: يستر على المسلم خلته وفاقته.

وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده.

(خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً) للمعطِي، لأنه كدر إحسانه وفعل خيراً وشراً.

(وَاللَّهُ غَنِيٌّ) عن صدقاتهم، وعن جميع عباده، فالله غني عن كل ما سواه، غني في نفسه لكثرة ما عنده، غني عن خلقه، كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) له ملك السموات والأرض، وخزائن السموات والأرض كلها بيده، كما قال تعالى (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فخزائنه عز وجل ملأ، لا يغيضها كثرة الإنفاق، وليس بحاجة إلى خلقه، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وكل شيء فقير إليه.

قال ابن القيم: هو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه، وليس به حاجة إلى أحد.

وقال السعدي: هو الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً، لأن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقاً قادراً رازقاً محسناً فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه، فهو الغني الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة، المغني جميع خلقه غنى عاماً.

قال: ومن كمال غناه: أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً في الملك، ولا ولياً من الذل.

وقال الخطابي: الغني: هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لمُلكه، فليست به حاجة إليهم، وهم إليه فقراء محتاجون.

• الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: إفراد الله تعالى بالعبادة، لأنه سبحانه هو الغني الغنى المطلق المطلق، والغنى وصف له سبحانه ذاتي وما سواه من الخلائق مفتقر إليه، فالأمر كله له والملك كله له، وجميع الخلق مربوبون مملوكون، فكيف يتخذ منهم معبوداً مع الله تعالى؟

ثانياً: الافتقار التام إلى الله عز وجل، لأن الفقر صفة ذاتية ملازمة للعبد في جميع أحيانه ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، ولا يستغني عن ربه سبحانه طرفة عين، لأنه سبحانه الغني ذو الغنى المطلق الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد محتاج إليه.

ثالثاً: أن هذا الاسم يثمر في قلب المؤمن الغنى القلبي كما في الحديث (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى القلب) وهذا يثمر الاستغناء بالله تعالى وحده عن الناس وعزة النفس، والتعفف والزهد بما في أيدي الناس، وعدم التذلل لهم وعدم التعلق بأعطياتهم وإعانتهم، بل يجرد العبد تعلقه وقضاء حوائجه وطلب رزقه بالله الغني الحميد الكريم الوهاب الذي لا تفنى خزائنه.

ص: 55

رابعاً: أن الله غني عن عباده، ومع ذلك فهو محسن إليهم، رحيم بهم، وهذا من كمال غناه وكرمه ورحمته.

أما العباد فإنهم يحسنون إلى بعضهم البعض لتعلق مصالحهم بذلك إما عاجلاً وإما آجلاً.

• فغنى الله يتضمن شيئين: الأول: الغنى الذاتي، لكثرة ما يملكه، إذ كل شيء ملكه، والثاني: الغنى عن الغير، فلا يحتاج إلى أحد وغيره محتاج إليه.

(حَلِيمٌ) مع كمال غناه، وسعة عطاياه، يحلم عن العاصين، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يعافيهم ويرزقهم، ويدر عليهم خيره، وهم مبارزون له بالمعاصي.

‌الفوائد:

1 -

الحث على الإنفاق في سبيل الله.

2 -

خطر من أتبع نفقته بالمنّ والأذى.

3 -

أن المن والأذى يبطل الصدقة.

4 -

على المسلم أن يعرف مبطلات الأعمال.

5 -

فضيلة القول المعروف.

6 -

الحث على المغفرة لمن أساء إليك.

7 -

أن الأعمال الصالحة تتفاضل.

8 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغني والحليم.

ص: 56

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)).

[البقرة: 264].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) أخبر تعالى أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى.

• قال أبو حيان: ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام، فأثنى على تاركه أولاً وفضل المنع على عطية يتبعها

المن ثانياً، وصرح بالنهي عنها ثالثاً، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع.

(كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ) أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه.

(وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: لا يصدق بلقاء الله ليرجو ثواباً أو يخشى عقاباً.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ) وهو الحجر الأملس.

(عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) وهو المطر الشديد.

(فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي: فترك الوابل ذلك الصفوان صلداً، أي: أملس يابساً، أي: لاشيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب.

(لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي: لا يجدون له ثواباً في الآخرة فلا ينتفع بشيء منها أصلاً.

• قال ابن الجوزي: وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق.

ص: 57

• قال ابن القيم: وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به، وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلداً فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله، وفيه معنى آخر وهو: أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجراً يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئاً.

(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) أي: لا يهديهم إلى طريق الخير والرشاد في نفقاتهم وفي غيرها.

فلا يوفقهم الله ويتخلى عنهم، وهكذا اذا خذل الله العبد، يتركه فتكون أعماله وبالاً عليه، فيعمل ما فيه عطبه وخسارته وهلاكه.

• في هذه الآية خطر الرياء وأنه محبط للعمل.

وقال ابن حجر: الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من سمع والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع

• والتحذير من الرياء وصية ربانية: إن الله حذرنا من الرياء في الأقوال والأفعال وذلك في كثير من آيات القرآن الكريم، وبين لنا سبحانه أن الرياء يحبط الأعمال الصالحة.

قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الْآخِرِ

).

ص: 58

وقال سبحانه (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).

قال ابن كثير: لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرًا عن الصلاة

التي لا يُرون فيها غالبًا كصلاة العشاء في وقت العتمة وصلاة الصبح في وقت الغلس.

وهو من صفات المنافقين.

قال تعالى في المنافقين (يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال سبحانه وتعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً).

قال ابن كثير في قوله تعالى (فليعمل عملاً صالحاً) أي: ما كان موافقًا لشرع الله، وقوله (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) وهو الذي يُراد به وجه الله تعالى وحده لا شريك له.

وقال جل شأنه (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

قال مجاهد في معنى هذه الآية: عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات.

وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم.

ص: 59

وقال سبحانه موضحًا عقوبة المرائين يوم القيامة (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ).

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِي النَّارِ) رواه مسلم.

عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب). رواه احمد وابن حبان

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة). رواه أبو داود

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك). رواه الترمذي وابن ماجه

وعن أبي سعيد مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل). رواه أحمد.

ص: 60

• قال ابن قدامة:‌

‌ اعلم أن أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، وإذا فُصل رجع إلى ثلاثة أصول:

أولاً: حب لذة الحمد.

ثانياً: الفرار من ألم الذم.

ثالثاً: الطمع فيما في أيدي الناس.

•‌

‌ من أقوال السلف:

عن شداد بن أوس قال عند موته: إن أخوف ما أخاف عليكم: الرياء، الشهوة الخفية.

قال سهل: لا يعرف الرياء إلا مخلص.

وقال ابن القيم: وكل مالم يكن لله فبركته منزوعة.

وكان عكرمة يقول: أكثروا من النية الصالحة فإن الرياء لا يدخل النية.

وكان الثوري يقول: كل شيء أظهرته من عملي فلا أعده شيئاً.

وعن عبدة قال: إن أقرب الناس من الرياء آمنهم منه.

وقال الربيع بن خثيم: كل ما لا يراد به وجه يضمحل.

وقال بشر بن الحارث: قد يكون الرجل مرائياً بعد موته، يحب أن يكثر الخلق بعد موته.

قال ابن رجب: ما ينظر المرائي إلى الخلق في عمله إلا لجهله بعظمة الخالق .. المرائي يزور التواقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه ويوهم أنه من خاصة الملك وهو ما يعرفه بالكليه

نقش المرائي على الدرهم الزائد اسم الملك ليروج والبهرج ما يجوز إلا على غير الناقد.

قال ابن القيم: أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص.

وقال ابن القيم: كل نفس يخرج في غير ما يقرب إلى الله، فهو حسرة على العبد في معاده، ووقفة له في طريق سيره، أو نكسة إن استمر، أو حجاب إن انقطع به.

ص: 61

• قال ابن القيم: قال يحيى بن معاذ عجبت من ثلاث:

رجل يرائي بعمله مخلوقاً مثله ويترك أن يعمله لله.

ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه منه شيئاً.

ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم والله يدعوه إلى صحبته ومودته.

قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة؛ لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب إما ليأخذ قضاء مكان، أو ليصير قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه، ثم يكتفي.

وكان من دعاء عمر: اللهم اجعل عملي كله صالحاً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

وقال ابن القيم: العمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجائهم للضر والنفع منهم: لا يكون من عارف بهم البتة، بل جاهل بشأنهم، وجاهل بربه، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله.

وقال: إن كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده، وقع في باطل مُقابل لما أعرض عنه من الحق وجحده، حتى في الأعمال، من رغب عن العمل لوجه الله وحده ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن العمل لمن ضَره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتليَ بالعمل لمن لا يملك له شيئاً من ذلك.

وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتُليَ بإنفاقه لغير الله وهو راغم.

ص: 62

وقال: الوقوف عند مدح الناس وذمهم: علامة انقطاع القلب وخلوه من الله وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه.

‌الفوائد:

1 -

أن المن والأذى يبطل الصدقة.

2 -

تحريم المن والأذى في الصدقة.

3 -

تحريم الرياء.

4 -

أن الرياء مبطل للعمل.

5 -

أن من يرائي بعمله فذلك لضعف إيمانه بالله واليوم الآخر. [السبت: 19/ 3/ 1433 هـ].

ص: 63

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)).

[البقرة: 265].

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ) هذا مثل المؤمنين المنفقين.

(ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أي: طلباً لمرضات الله لا لغرض من أغراض الدنيا.

فهذا فيه الإخلاص في الإنفاق لا لأي غرض من أغراض الدنيا.

كما قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً. وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

• فقوله (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) أي: رجاء ثواب الله ورضاه لا رياء ولا سمعة (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) أي: لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.

• قال القرطبي (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً) أي مكافأة (وَلَا شُكُوراً) أي: ولا أن تثنوا علينا بذلك؛ قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا.

• فالجزاء: المكافأة والعوض المجازاة بالمال وغيره، والشكور: الثناء بالقول.

قال سعيد بن جبير: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليه به ليرغب في ذلك راغب.

قال ابن عاشور: والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيساً لهم ودفعاً لانكسار النفس الحاصل عند الإِطعام، أي ما نطعمكم إلاّ استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله، فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلاّ وهو مضمر في نفوسهم.

• وفي كونهم يخصون بالإطعام هذه الأصناف الثلاثة المحتاجة دليل على أنهم لا يريدون بذلك مكافأة كما يفعل بعض من يعاوضون بإطعامهم وإنفاقهم، بل ويعاوضون بإنصافهم وقولهم كلمة الحق أو سكوتهم عن الباطل.

قال ابن تيمية: من طلب من العباد العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يكن محسناً إليهم لله.

وهكذا في جميع الطاعات والعبادات تنبغي أن تكون لله تعالى وحده.

قال تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) وقال تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

ص: 64

وقال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

وقال صلى الله عليه وسلم (من بنى مسجداً لله بنى الله

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيماناً واحتساباً

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ الرَّجُلِ في جماعةٍ تزيدُ عَلَى صَلَاتِهِ في سُوقِهِ وَبَيْتِهِ بضْعاً وعِشْرينَ دَرَجَةً، وذلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِد لا يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلَاةَ، لا يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلَاةُ، لَمْ يَخطُ خُطوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِها دَرجةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطيئَةٌ

حتَّى يَدْخلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دخل الْمَسْجِدَ كانَ في الصَّلَاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ التي تحبِسُهُ، وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدكُمْ ما دام في مَجْلِسهِ الَّذي صَلَّى فِيهِ، يقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، ما لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» متفقٌ عليه، وهَذَا لَفْظُ مُسْلمٍ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«ينْهَزُهُ» هُوَ بِفتحِ الْياءِ وَالْهاءِ وَبالزَّاي: أَي يُخْرِجُهُ ويُنْهِضُهُ.

وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ) متفقٌ عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (الحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من تواضع لله رفعه الله) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ) متفق عليه.

ص: 65

(وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي: وهم متحققون مُثبَتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء.

وقيل: تصديقاً ويقيناً.

وقيل: التثبيت لارتياد محل الإنفاق، فهم ينظرون أين يضعونها.

وقيل: أي لأجل التثبيت.

وقيل: إنهم بهذا الإنفاق يروضون النفس ويثبتونها ويدربونها ويخطمونها بتقويتها على البذل والإنفاق لئلا تضعف، وهذا اختيار ابن القيم.

وقيل: أن أنفسهم كانت موقنة مصدّقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصحح عزمهم وآراءهم يقيناً منها بذلك، وتصديقاً بوعد الله إياها ما وعدها.

قال ابن القيم: هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية:

إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضاً من أغراضه الدنيوية وهذا حال أكثر المنفقين.

والآفة الثانية: ضعف نفسه وتقاعسها وترددها هل يفعل أم لا.

فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك

ألخ.

(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي: كمثل بستان بربوة.

والربوة عند الجمهور: المكان المرتفع المستوى من الأرض.

(أَصَابَهَا وَابِلٌ) وهم المطر الشديد.

(فآتَتْ أُكُلَهَا) أي: ثمرتها.

(ضِعْفَيْنِ) أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان.

ص: 66

(فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) أي: فإن لم ينزل عليها المطر الغزير فيكفيها المطر الخفيف، فهي تنتج على كل حال.

• قال ابن كثير: أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً، لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه.

• وقال ابن الجوزي: ومعنى هذا المثل: أن صاحب هذه الجنة لا يخيب، فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.

قال أبو حيان: والمعنى: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص، وفيه وعد ووعيد.

‌الفوائد:

1 -

فضل الإنفاق من المال ابتغاء مرضات الله.

2 -

تحريم الإنفاق لغير الله من أغراض الدنيا.

3 -

اشتراط الإخلاص لقبول الأعمال.

4 -

بيان أن تثبت الإنسان لعمله واطمئنانه به من أسباب قبوله.

5 -

ضرب الأمثال.

6 -

إثبات علم الله وعمومه.

7 -

التحذير من مخالفة الله، لكونه عالماً بما نعمل. [الأحد: 20/ 3/ 1433 هـ].

ص: 67

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)).

[البقرة: 266].

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) روى البخاري عند تفسير هذه الآية: عن عبد الله بن أبي مُلَيكة، يحدث عن ابن عباس، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال: قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (فيمن ترون هذه الآية نزلت: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أيُّ عملٍ؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاص حتى أغرق أعماله.

وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه.

(وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ) وهو الريح الشديد.

• قال الحسن: هذا مثل قل والله من يعقله: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

واختار الطبري أن هذا مثل آخر في المنفق المرائي، واختار ما قال السدي.

قال السدي: (أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله

ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. فكذلك المنفق رياء.

(فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي: أحرق ثمارها وأباد أشجارها، فأي حال يكون حاله.

• قال ابن الجوزي: وإنما ذكر النخيل والأعناب، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين، وخصّ ذلك بالكبير، لأنه قد يئس من سعي الشباب في إكسابهم.

• قال ابن القيم: قال الحسن هذا مثل قل والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

ص: 68

(أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاء والدواء والشراب والفاكهة والحلو والحامض ويؤكلان رطباً يابساً منافعهما كثيرة جداً.

(وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته وتعلق قلبه بها من وجوه:

أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.

الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.

الثالث: أن له ذرية فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.

الرابع: أنهم ضعفاء فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم.

الخامس: أن نفقتهم عليه لضعفهم وعجزهم. [انتهى كلام ابن القيم]

وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة لخطرها في نفسها وشدة حاجته وذريته إليها، فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود، وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رماداً، فصدق - والله الحسن - هذا مثل قلّ من يعقله من الناس.

• قال الماوردي: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ) لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعي الشباب في كسبه، فكان أضعف أملاً وأعظم حسرة

(وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ) لأنه على الضعفاء أحَنّ، وإشفاقه عليهم أكثر.

وقد قيل: إن هذا المثل للمنفق المانّ بنفقته.

• قال ابن الجوزي: وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب النعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت، قاله مجاهد.

والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه، قاله السدي.

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ).

ص: 69

والتفكر: إعمال الفكر فيما يراد.

قال ابن القيم: ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون، فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح، ولولا

أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده من ذكر مجرد الطبقات لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم والله المستعان الموفق لمرضاته، فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره، وتأمله كما ينبغي، لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فهو جاهل.

‌الفوائد:

1 -

يجب على الإنسان أن يحرص على إخلاص نيته وأن يجاهد ويحاسب نفسه دائماً وأبداً.

2 -

الحذر من كل سبب يكون سبباً في انتكاسة القلب ورجوعه عن الحق.

3 -

على الإنسان أن يعرف أسباب الثبات على الدين وأن يحافظ عليها.

ص: 70

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)).

[البقرة: 267].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) أي: أنفقوا من الحلال الطيب من المال الذي كسبتموه.

قال القرطبي: قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ) هذا خطاب لجميع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم.

• واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا:

فقيل: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرّديء فيها بدل الجيّد.

قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوّع، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بمختار جيّد.

والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلّق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوّع فكما للمرء أن يتطوّع بالقليل فكذلك له أن يتطوّع بنازل في القدر، ودرهمٌ خير من تمرة.

• قال ابن الجوزي: وفي المراد بهذه النفقة قولان:

أحدهما: أنها الصدقة المفروضة، قاله عبيدة السلماني في آخرين.

والثاني: أنها التطوع.

• قال الرازي: اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:

القول الأول: أنه الجيد من المال دون الرديء، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.

والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام.

• حجة الأول وجوه:

الحجة الأولى: إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.

الحجة الثانية: أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض.

قال القفال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال، أمن حلاله أو من حرامه.

ص: 71

• وقال ابن عاشور: المراد بالطيّبات خيار الأموال، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه. والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد.

ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم (من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّباً تلقّاها الرحمن بيمينه) الحديث.

وفي الحديث الآخر (إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً).

(وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي: ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار.

• ويشمل النبات والمعادن والركاز.

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي: ولا تقصدوا الرديء الخسيس فتتصدقوا منه.

• قال ابن الجوزي: وفي الخبيث قولان:

أحدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون، وسبب الآية يدل عليه.

والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد.

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي: لستم تقبلونه لو أعطيتموه.

(إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي: إلا إذا تساهلتم وأغمضتم البصر.

• الإغماض أخذ الشيء على كراهة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ) عن كل ما سواه، غني في نفسه لكثرة ما عنده، غني عن خلقه، كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) له ملك السموات والأرض، وخزائن السموات والأرض كلها بيده، كما قال تعالى (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)، فخزائنه عز وجل ملأ، لا يغيضها كثرة الإنفاق، وليس بحاجة إلى خلقه، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وكل شيء فقير إليه. (وقد تقدم مباحث الغنى).

(حَمِيدٌ) اسم من أسماء الله، قال ابن جرير: أي محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله.

ص: 72

وقال الخطابي: الحميد: هو المحمود الذي استحق الحمد بأفعاله.

وقال ابن كثير: أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الصحيح أنها بمعنى المحمود والحامد، فالله سبحانه حامدٌ من يستحق الحمد، وما أكثر الثناء على من يستحقون الثناء في كتاب الله، وهو كذلك محمود على كمال صفاته، وتمام إنعامه.

• وغنى الله مقرون بحمده ولهذا قال (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فهو غني يحمد على غناه، لأنه يجود به على غيره.

فالله ذو الغنى الواسع. كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وقال تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وقال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

‌الفوائد:

1 -

فضيلة الإيمان.

2 -

الحث على الإنفاق من طيبات ما كسبنا.

3 -

فضل الكرم والإنفاق.

4 -

ذم البخل.

5 -

وجوب الزكاة في عروض التجارة.

6 -

الحذر من أكل الحرام.

7 -

وجوب الزكاة من الخارج من الأرض.

8 -

تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة.

9 -

أنه غني عن عباده وعن صدقاتهم.

10 -

أن من أراد الغنى فليطلبه مما يملكه وهو الله.

11 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغني، الحميد.

ص: 73

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)).

[البقرة: 268].

(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله.

يقول: إنك إن أنفقت افتقرت، ووراءك ذرية، إلى غير ذلك ممن يفعله ويخوف به الإنسان.

(وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق.

وقد قيل إن المراد بالفحشاء هنا البخل، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك.

والفحشاء تطلق على ما فحش من المعاصي كالزنا واللواط ونكاح المحارم.

قال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) يراد بالفاحشة هنا الزنا.

وقال تعالى (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) المراد بها هنا اللواط.

وقال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً).

• قال ابن القيم: هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني، فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل وما يدعو إليه داعي الإنفاق وبيان ما يدعو به داعي الأمرين فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان، وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم، وهذا هو الداعي الغالب على الخلق، فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعياً يقول له متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه، فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل، فهذا وعده وهذا أمره وهو الكاذب في وعده الغار الفاجر في أمره، فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون، فإنه يدلي من يدعوه بغروره ثم يورده شر.

هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنياً بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته، وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان، وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، فهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم.

ص: 74

• روى الترمذِيّ عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن للشيطان لَمّةً بابن آدم وللمَلك لَمَّةً، فأما لمّة الشيطان فإيعادٌ بالشّر وتكذيبٌ بالحق، وأما لَمّة المَلَك؛ فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومَن وجد الأُخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاء) قال: هذا حديث حسن صحيح.

•‌

‌ الشيطان يخوف بالفقر لأمور:

أولاً: ليمنعه من التصدق حتى لا ينال الاجر في ذلك.

ثانياً: ليسيء الظن بربه، فالله تعالى يقول (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين).

ثالثاً: ليبخل، وهي من أقبح الصفات.

رابعاً: ليصاب بالقلق والخوف (ليحزن الذين آمنوا

) فان من يخشى الفقر يعيش في هم وقلق وخوف وغم.

خامساً: أنه إذا خاف الفقر وقع في الحرام.

سادساً: ينشغل بجمع المال عن الطاعات والأعمال الصالحات.

قال الثوري: ليس للشيطان سلاح على الإنسان مثل خوف الفقر، فإنه إذا وقع في قلبه الفقر منع الحق، وتكلم بالهوى، وظن بربه ظن السوء.

قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء:

مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر.

(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ) إن تصدقتم وأنفقتم.

(مَغْفِرَةً مِنْهُ) في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء.

ص: 75

(وَفَضْلاً) أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر، كما قال تعالى (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) والنبي صلى الله عليه وسلم قال (ما نقصت صدقة من مال).

قال ابن عباس: في هذه الآية اثنتان من الله تعالى واثنتان من الشيطان.

(وَاللَّهُ وَاسِعٌ) الفضل والعطاء.

(عَلِيمٌ) بمن يستحق الثناء.

‌الفوائد:

1 -

إثبات إغواء الشيطان لبني آدم.

2 -

أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً أو إحجاماً.

3 -

عداوة الشيطان للإنسان.

4 -

ذم البخل وأنه من الفواحش.

5 -

أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع فهو شبيه بالشيطان.

6 -

البشرى للمنفق.

7 -

ينبغي على المنفق أن يتفاءل بما وعد الله.

8 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: واسع، وعليم.

ص: 76

(يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269)).

[البقرة: 269].

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) اختلف في معنى الحكمة:

فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه،

وأمثاله.

وقيل: الإصابة في القول والفعل.

وقيل: معرفة الحق والعمل به.

وقيل: العلم النافع والعمل الصالح.

وقيل: الخشية للَّه.

وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين اللَّه.

وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما.

وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة.

وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب اللَّه حكمة، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح

وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم.

وجميع الأشياء لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. (تفسير السعدي).

ص: 77

•‌

‌ في هذه الآية فضل الحكمة: ومن فضائلها:

‌أولاً: حيث امتن الله على لقمان بالحكمة.

قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ).

ومن حكمه:

o لا تضحك من غير عجب، ولا تسأل عما لا يعنيك.

o زاحم العلماء بركبتيك، وأنصت لهم بأذنيك.

o اثنتان لا تذكرهما أبداً: إساءة الناس إليك، وإحسانك للناس.

o من صبر على مون الناس سادهم.

o لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ.

o إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

‌ثانياً: أن الله أمر بالحكمة.

قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ).

‌ثالثاً: أن الله أثنى على صاحب الحكمة.

قال تعالى (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا).

وامتن على لقمان حيث آتاه الحكمة: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ).

‌رابعاً: أن الله نسب الحكمة إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده.

فقال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ).

‌رابعاً: أن اسم (الحكيم) اسم من أسماء الله تعالى.

‌خامساً: أن من أعطي الحكمة فإنه يغبط.

كما قال صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين:

ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).

ص: 78

•‌

‌ وللحكمة أركان:

‌أولاً: العلم.

فالعلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).

‌ثانياً: وهو ضبط النفس عند هيجان الغضب.

وقد قال صلى الله عليه وسلم للأشج: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). رواه مسلم

‌ثالثاً: الأناة، وهي التثبت وعدم العجلة.

قال السعدي: وهذان الأمران، وهما بذل النفقات المالية، وبذل الحكمة العلمية، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، وأعلى ما وصلوا به إلى أجلّ الكرامات، وهما اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس.

(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.

‌الفوائد:

1 -

أن العلم والحكمة فضل من الله.

2 -

إثبات المشيئة لله.

3 -

أن مشيئة الله تابعة للحكمة، فالله أعلم حيث يضع العلم والحكمة.

4 -

الفخر الكبير لمن آتاه الله الحكمة.

5 -

وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة.

6 -

منّة الله على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة.

7 -

فضيلة العقل.

8 -

أن عدم التذكر نقص في العقل.

ص: 79

(وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)).

[البقرة: 271].

(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعالمين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده، وتوعد من لا يعمل بطاعته

، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره.

• قال الرازي: في قوله (فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ) على اختصاره، يفيد الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، وبيانه من وجوه:

أحدها: أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة.

وثانيها: أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات، كما قال (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين) وقوله (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ).

وثالثها: أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها، ولا يشتبه عليه شيء منها.

• وقال ابن الجوزي: (فإن الله يعلمه) قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه.

(وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي: إن أظهرتموها فنِعم شيء هي.

• قال السعدي: (إن تبدوا الصدقات) فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله (فنعما هي) أي: فنعم الشيء (هي) لحصول المقصود بها.

• قال ابن القيم: قوله تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) أي فنعم شيء هي، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاء فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر وهذه كانت حال الصحابة.

(وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: وإن تسروها وتدفعوها للفقراء فهو أفضل لكم لأنه أبعد عن الرياء.

•‌

‌ قال ابن الجوزي: وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين:

أحدهما: يرجع إلى المعطي وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية.

والثاني: يرجع إلى المعطَى، وهو دفع الذل عنه بإخفاء الحال، لأن في العلانية ينكر.

ص: 80

ثم قال: واتفق العلماء على إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها.

قال السعدي: وإن أخفاها وسلمها للفقير كان أفضل، لأن الإخفاء على الفقير إحسان آخر، وأيضاً فإنه يدل على قوة الإخلاص، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله (من تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

• قال ابن كثير: فيه دلالة على إن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.

فالأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وجاء في الحديث (صدقة السر تطفئ غضب الرب).

• قال القرطبي: قوله تعالى (فَنِعِمَّا هِيَ) ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك.

ولذلك قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطُنع إليك فانشره.

وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ؛ فإذا أعجلته هنيّته، وإذا صغّرته

عظّمته، وإذا سترته أتْمَمْته.

وقال بعض الشعراء فأحسن:

زاد معروفُك عندي عِظَماً

أنه عندك مستورٌ حقِيرْ

تَتَناساه كأَنْ لَمْ تأتِه

وهو عند الناس مشهور خطِيرْ

• وقال رحمه الله: ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها.

ص: 81

قال ابن عباس: جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفاً.

قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.

قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف؛ وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة) وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك، وروى النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة وفي الحديث: صدقة السرّ تُطْفِئ غضب الرب).

• قال ابن القيم: وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنه بما تعملون خبير.

(وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) أي: ويستر عنكم سيئاتكم وذنوبكم ويمحوها ويتجاوز عنها.

• قوله تعالى (وَيُكَفِّرُ) يستر، مأخوذة من (الكَفْر) بفتح الكاف وسكون الفاء، وهو الستر، ومنه سميت الكفارة، لأنها تستر الذنب، وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب في الأرض، وسمي الليل كافراً لأنه يستر الكون بظلامه، وسمي الشخص الكافر لأنه ستر نعمة الله عليه.

ص: 82

• قوله تعالى (سَيِّئاتِكُمْ) جمع سيئة، سميت بذلك لأنها سيئة بنفسها وقبيحة.

ولأنها أيضاً تسوء مرتكبها حالاً ومآلاً، وربما تسوء غيره بأن يتعدى ضررها إلى الغير مباشرة، أو بأن يكون لها أثرها السيء على البلاد والعباد عامة بمحق البركات وقلة الخيرات، كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم (ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء). رواه ابن ماجه

• والسيئات في الأصل تطلق على الكبائر والصغائر كما هنا، قد يراد بها الصغائر إذا قرنت مع الكبائر كما في قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

(واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه من ذلك شيء، وسيجزيكم عليه سبحانه وتعالى.

قال الرازي: إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب

مرضاته، فقد حصل مقصودكم في السر، فما معنى الإبداء، فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء.

‌الفوائد:

1 -

أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء.

2 -

أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله.

3 -

استدل بالآية من قال بجواز النذر.

4 -

عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان.

5 -

تحريم الظلم.

6 -

أن الله لا ينصر الظالم.

7 -

أن إخفاء الصدقة أفضل من إعلانها.

8 -

تفاضل الأعمال.

9 -

أن الصدقة سبب لتكفير السيئات.

10 -

بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد.

ص: 83

(ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)).

[البقرة: 272].

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أي: ليس عليك يا محمد أن تهدي الناس، فإنك لست بمؤاخذ بجريرة من لم يهتد، وإنما أنت ملزم بتبليغهم فحسب، والمراد بالهدى المنفي هنا هو هدى التوفيق، وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم.

عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) رواه النسائي.

والمعنى: أنهم كانوا لا يتصدقون على قراباتهم من المشركين طمعاً في إسلامهم، فبين الله عز وجل أن إعطاءهم أو عدم إعطائهم لا يؤثر في هدايتهم، إنما الذي يهدي هو الله سبحانه تعالى.

• قال القرطبي: قال علماؤنا: هذه الصدقة التي أُبيحت لهم حسب ما تضمنته هذه الآثار هي صدقة التطوّع، وأما المفروضة فلا يُجزئ دفعها لكافر، لقوله عليه السلام (أُمرتُ أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم).

• قال ابن المُنْذِر: أجمع كل من أحفظُ عنه من أهل العلم أن الذّميّ لا يُعْطَى من زكاة الأموال شيئاً؛ ثم ذكر جماعةً ممن نصّ على ذلك ولم يذكر خلافاً.

(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فضلاً منه ونعمة حسب ما تقتضيه حكمة الله تعالى.

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير فهو:

(فَلِأَنْفُسِكُمْ) لا ينتفع به غيركم، فإن كان طيباً فلأنفسكم، وإن كان خبيثاً فأجره لكم، وإن مننتم به أو آذيتم فقد ظلمتم أنفسكم، وإن أخلصتم فيه فلأنفسكم.

ص: 84

قال أبو السعود: أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم، فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث، أو فنفعُه

الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين.

قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِه).

وقال تعالى (ومَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

• قال القرطبي: وحُكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيراً من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي؛ ويتلو (وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ).

(وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) قيل في معناها أقوال:

الأول: أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.

قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن -إذا أنفق -إلا ابتغاء وجه الله.

ص: 85

وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عملُه، وهذا معنى حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: أبَر أو فاجر أو مستحق أو غيرهُ، هو مثاب على قصده.

والحديث المخرج في الصحيحين: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدقَ على زانية! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدق الليلة على غَني! فقال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته).

الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى (والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن)(والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ).

الثالث: أن قوله (وَمَا تُنفِقُونَ) أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله.

(ذكر هذه الأقوال الرازي رحمه الله.

وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاءَ وجهه؛ فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم. (ذكره القرطبي).

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي: وما تنفقون من الخيرات والصدقات فإن أجره وثوابه أضعافاً مضاعفة تنالونه أنتم ولا تنقصون شيئاً من حسناتكم.

ص: 86

‌الفوائد:

1 -

أن هداية الخلق لا تلزم الرسل.

2 -

أن الهداية بيد الله.

3 -

أن مهمة الرسل وأتباعهم البيان والتبليغ.

4 -

إثبات أن جميع الأمور دقيقها وجليلها بيد الله.

5 -

أن هداية الخلق بمشيئة الله، ولكنها لحكمة.

6 -

أن المستفيد من العمل الإنسان نفسه.

7 -

ينبغي على الإنسان الاجتهاد بالعمل الصالح لأنه هو المستفيد.

8 -

أن الإنفاق المتقبل ما ابتغي به وجه الله.

9 -

أن الإنسان لا يظلم شيئاً.

10 -

نفي الظلم عن الله لكمال عدله.

ص: 87

(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)).

[البقرة: 273].

(لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم.

• قال القرطبي: وإنما خصّ فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصُّفّة وكانوا نحواً من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يَقْدَمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبُنيت لهم صُفَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصُّفَّة.

قال أبو ذَرّ: كنت من أهل الصّفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كلَّ رجل فينصرف برجل ويبقى مَن بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتَى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشَّى معه.

• قال الرازي: قوله تعالى (

في سبيل الله) فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً:

أحدها: إزالة عيلتهم

والثاني: تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه.

وثالثها: تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين.

ورابعها: أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم، على ما قال تعالى (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف).

(لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض) يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش.

• والضرب في الأرض: هو السفر؛ قال الله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

ص: 88

وقال تعالى (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه).

(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم.

• قال الرازي: الحسبان هو الظن، وقوله (الجاهل) لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة.

وقال القرطبي: قوله تعالى (يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف) أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث

يظنهم الجاهل بهم أغنياء.

وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه، ولا يسأل الناس شيئاً).

(تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، وقال (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل) وفي الحديث الذي في السنن (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

(لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) أي: لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله- (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).

• وقد يفهم من مفهوم (لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً) أنهم يسألون من غير إلحاف، لكن ليس هذا مراد لقوله في أول الآية (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) ولأن الشيء قد يرد نفيه مقيداً والمراد نفيه أصلاً وذلك أبلغ في النفي، أي: لا يسألون الناس أصلاً لا بإلحاف ولا بغير إلحاف، (فمفهوم المخالفة هنا غير مراد).

ص: 89

• فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا) فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ الْمَسْأَلَةَ رَأْسًا؟ قِيلَ لَهُ: فِي فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الْمُخَاطَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ رَأْسًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ) فَلَوْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ إلْحَافًا لَمَا حَسِبَهُمْ أَحَدٌ أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى (مِنْ التَّعَفُّفِ) لِأَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ الْقَنَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ).

قال بعض العلماء: المعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا، وهو اختيار صاحب " الكشاف" وهو ضعيف، لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال قبل ذلك فقال (يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف) وذلك ينافي صدور السؤال عنهم.

• قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا) يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إلْحَاحًا وَإِدَامَةً لِلْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا وَإِدَامَتُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي: لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة، أحوج ما يكونون إليه.

قال الثعالبي: ينبغي للفقيرِ أنْ يتعفّف في فَقْره، ويكتفي بعلْمِ ربِّه، قال الشيخُ ابن أبي جَمْرة: وقد قال أهْلُ التوفيق: مَنْ لَمْ يَرْضَ باليسيرِ، فهو أسير.

‌الفوائد:

1 -

أنه لا يجوز إعطاء من يستطيع على التكسب.

2 -

فضيلة التعفف.

3 -

ذم الإلحاح في المسألة.

4 -

الإشارة إلى الفراسة.

5 -

الثناء على من لا يسأل الناس.

6 -

عموم علم الله تعالى.

ص: 90

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274))

[البقرة: 274].

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار، والأحوال من سر وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا.

كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص -حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع- (وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى ما تجعل في في امرأتك).

وعن أبي مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة). متفق عليه

(فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم) أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات.

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبل.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: فيما مضى.

‌الفوائد:

1 -

الثناء على الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سواء كان ليلاً أو نهاراً، سراً أو جهراً.

2 -

أن الإنفاق يكون سبباً لشرح الصدور.

3 -

كمال الأمن لمن أنفق في سبيل الله.

ص: 91

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)).

[البقرة: 275 - 276].

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي: يأخذونه وينتفعون به بأي وجه من أوجه الانتفاع من أكل أو شرب أو لباس أو سكن أو مركب أو غير ذلك.

• وخص الأكل لأنه معظم الأمر، كما قال (الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله (وَلَا تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل).

• قال ابن الجوزي: وهذا الوعيد يشمل الآكل والعامل به، وإنما خص الآكل بالذكر، لأنه معظم المقصود.

(لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياماً منكرًا.

قال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يُخْنَق. رواه ابن أبي حاتم.

روى الإمام الطبري رحمه الله عن سعيد بن جبير رحمه الله في تفسير هذه الآية قوله: بعث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يخنق.

ونقل عن قتادة قوله: وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا وبهم خبل من الشيطان.

• وذكره سبحانه لحالهم هذا وأنهم كما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة، بأنهم لا يقومون من قبورهم، أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون والصرع يدل على الترهيب من هذا العمل الذي يكون مصير فاعله في الآخرة هذا الحال.

• قال الرازي: التخبط معناه الضرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: إنه يخبط خبط عشواء.

• هذه الآية من أقوى الأدلة على تحريم الربا.

قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).

ص: 92

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلوا الِّربَا أَضْعَافَاً مَضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفلِحُون).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقآت وذكر منها:

أكل الربا .. ) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكل الربآ وموكله) رواه مسلم والترمذي وزاد (وشآهديه وكاتبه) وإسناده صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم (آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونونَ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما أكثر أحد من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) رواه أحمد.

قال ابن كثير: وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود.

وعن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَعَلَى وَسَطِ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا فَقَالَ الَّذِى رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا).

وعن أَبِى جُحَيْفَةَ قَالَ (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الْوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ الرِّبَا، وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّر) رواه البخاري.

• قال الشنقيطي: واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله (وَحَرَّمَ الربا) وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله (يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي: من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله (الذين يَأْكُلُونَ الربا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا) والأحاديث في ذلك كثيرة جداً.

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي: إنما جُوزُوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسًا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع، وإنما قالوا (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) أي: هو نظيره، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي: هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا!

ص: 93

• قال القرطبي: قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا) معناه عند جميع المتأوّلين في الكفار، ولهم قيل (فَلَهُ مَا سَلَفَ) ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلاً؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: مَن عمل عَملاً ليس عليه

أمرُنا فهو رَدٌّ " لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية.

(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي: وأحل الله البيع لما فيه من تبادل المنافع، وحرم الربا لما فيه من الضرر الفادح بالفرد والمجتمع.

• قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار، والمعنى أنهم قالوا: البيع مثل الربا، ثم إنكم تقولون (وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا) فكيف يعقل هذا؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله (أَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا) ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد.

وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله (إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا) وأما قوله (وأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا) فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا.

(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ) أي: من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه، فله ما سلف من المعاملة، لقوله (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم وكل ربًا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف.

ص: 94

• قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ) معنى هذه الآية الكريمة أن من جاءه موعظة من ربه يزجره بها عن أكل الربا فانتهى أي: ترك المعاملة بالربا. خوفاً من الله تعالى وامتثالاً لأمره (فَلَهُ مَا سَلَفَ) أي: ما مضى قبل نزول التحريم من أموال الربا ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله لا يؤاخذ الإنسان بفعل أمر إلا بعد أن يحرمه عليه، وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة فقد قال في الذين كانوا يشربون الخمر، ويأكلون مال الميسر قبل نزول التحريم (لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا) الآية.

قال في الذين كانوا يتزوجون أزواج آبائهم قبل التحريم (وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أي: لكن ما سلف قبل التحريم فلا جناح عليكم فيه ونظيره قوله تعالى (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) وقال في الصيد قبل التحريم (عَفَا الله عَمَّا سَلَف) الآية

وقال في الصلاة إلى بيت المقدس قبل نسخ استقباله (وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل النسخ.

ومن أصرح الأدلة في هذا المعنى أن النَّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما استغفروا لقربائهم الموتى من المشركين وأنزل الله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم).

وندموا على استغفارهم للمشركين أنزل الله في ذلك وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ).

فصرح بأنه لا يضلهم بفعل أمر إلا بعد بيان اتقائه.

(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) أي: أمره موكول إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.

(وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد تحريم الله له فهو من المخلدين في نار جهنم.

ص: 95

• قال أبو حيان: فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد.

• وقال ابن عاشور: وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله (إنما البيع مثل الربا)، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم، فالخلود على حقيقته.

وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا، وهو الظاهر من مقابلته بقوله (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى) والخلود طول المكث كقول لبيد:

فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا

صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها.

ومنه: خلَّد الله مُلك فلان.

ولما كان المرغب في الربا ما فيه من الربح الناجز المشاهد، والمفتر عن الصدقة كونها نقصاً محققاً بالحس بيّن أن الربا وإن كان بصورة الزيادة فهو نقص وأن الصدقة وإن كانت بصورة النقص فهي زيادة لأن ذلك إنما هو بيده سبحانه وتعالى فما شاء محقه وإن كان كثيراً أو ما أراد نماه وإن كان يسيراً فقال كالتعليل للأمر بالصدقة والنهي عن الربا ولكون فاعله من أهل النار:

(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) أي: يذهبه، إما بأن يذهب بالكلية من يد صاحبه، أو يُحْرمَ بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة. (المحق نقصان الشيء حالاً بعد حال).

كما قال تعالى (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ).

وقال تعالى (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ).

• قال السمرقندي: يقال: إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة، إما أن يذهب عنه أو عن ولده، أو ينفقه فيما لا يصلح.

(وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) أي: ويكثرها وينميها.

• قال القرطبي: (وَيُرْبِي الصدقات) أي يُنَمِّيها في الدنيا بالبركة ويُكثر ثوابَها بالتضعيف في الآخرة.

• قال ابن عطية: وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة.

عن أَبَي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) متفق عليه.

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل.

ص: 96

• قال ابن كثير: ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.

‌الفوائد:

1 -

تحريم الربا.

2 -

عظم جرم آكل الربا.

3 -

إثبات مس الجن وصرعهم للإنس.

4 -

جرأة أكلة الربا على الاعتراض على حكم الله الشرعي.

5 -

إثبات الفرق الشاسع بين البيع والربا.

6 -

أن من انتهى من الربا وتاب منه بعد أن بلغه النهي عنه فله ما أخذ قبل ذلك.

7 -

الوعيد الشديد لمن عاد إلى أكل الربا بعد أن بلغته الموعظة.

1 -

محق الربا إما حساً وإما معنى.

2 -

التحذير من الربا.

3 -

أن الله يربي الصدقات ويزيدها.

4 -

إثبات المحبة لله.

ص: 97

(إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)).

[البقرة: 277].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وعملوا الأعمال الصالحات، من الأفعال والأقوال، الواجبات والمستحبات، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

• والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص، لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرى ما نوى)، الشرط الثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.

ودائماً يقرن الله العمل بالصالح، لأنه ليس كل عمل يقبل إلا إذا كان صالحاً.

قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

).

وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً).

وقال تعالى (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى).

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به.

• قال السعدي: ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.

ص: 98

(وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي: وأقاموا الصلاة إقامة تامة بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها.

• قال الشيخ السعدي: عند قوله تعالى (ويقيمون الصلاة) لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون الصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقام الصلاة، إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناً بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها.

• لم يأمر الله بالصلاة إلا بلفظ الإقامة، كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة) وقوله تعالى (والمقيمين الصلاة).

• إقامة الصلاة ليس مجرد أداؤها، وإنما المراد إقامتها بإدائها بتدبر وحضور قلب وخشوع، وهذه هي الصلاة التي قال الله عنها (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

فإن الله في هذه الآية علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها وليس فقط أداؤها، (والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه) فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وبهذا يزول الإشكال الذي يورده البعض: وهو أن كثير من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر.

(وَآتَوُا الزَّكَاةَ) أي: وأعطوا الزكاة الواجبة عليكم لمستحقيها.

• الإيتاء: هو الإعطاء قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ).

• الزكاة: هي: قدر واجب في مال مخصوص، لطائفة أو جهة مخصوصة.

وسميت بذلك: لأنها تزكي المال، وتزكي صاحب المال، كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ)، بل وتزكي المجتمع كله، فتنتشر المحبة والوئام والإخاء.

• قوله تعالى (وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكاة) تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى: أعظم الأعمال البدنية والثانية: أفضل الأعمال المالية.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: لهم ثواب إيمانهم وأعمالهم الصالحات وصلاتهم وزكاتهم ..

• وفي تسمية ثوابهم أجراً تأكيد لتكفله عز وجل لهم بذلك، وفي كونه عند ربهم تعظيم له، لأنه الكريم الجواد.

• كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى بين الصلاة والزكاة؟

قيل: إن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وسعادة العبد دائرة بين الأمرين: إخلاصه لمعبوده، وسعيه في نفع الخلق.

وقيل: الصلاة رأس العبادات البدنية، والزكاة رأس العبادات المالية.

ص: 99

وقيل: الصلاة طهارة للنفس والبدن، والزكاة طهارة للمال.

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبل، ومما أمامهم من أهوال يوم القيامة.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: فيما مضى، وعلى ما فاتهم من الدنيا، وعلى ما خلفوا بعد موتهم من أهل وولد ومال وغير ذلك.

‌الفوائد:

1 -

أن الإيمان والعمل الصالح سبب لدخول الجنة، وقد ورد هذا في آيات كثيرة:

قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

وقال تعالى (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

2 -

أن العمل لا ينفع إلا إذا كان صالحاً.

3 -

الحذر من الرياء.

4 -

فضل إقامة الصلاة.

5 -

فضل إيتاء الزكاة.

ص: 100

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)).

[البقرة: 278 - 279].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) أي بجوارحكم، بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه.

(وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أي: اتركوا ما بقي من الربا، مما لم يقبض وإن كان معقوداً عليه.

وهذا في مقابل قوله تعالى (فله ما سلف) أي: فله ما سلف قبضه قبل نزول التحريم، دون ما لم يقبض قبل ذلك فيجب تركه.

• قال ابن عاشور: ومعنى (وذروا ما بقي من الربا) الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله (فله ما سلف) فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفواً عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه.

• وقال رحمه الله: وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها، فهو كالأمرِ بطريق برهاني.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: صادقين في إيمانكم فاتقوا الله وذروا ما بقي من الربا.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي: فإن لم تذروا ما بقي من الربا.

(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: فاعلموا بحرب من الله ورسوله.

وهذه الآية من أشد التهديد وأعظم الوعيد في تحريم الربا.

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).

ص: 101

• قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) لَا يُوجِبُ إكْفَارَهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الْمَعَاصِي؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ (إنَّ عُمَرَ رَأَى مُعَاذًا يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيَك؟ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (الْيَسِيرُ مِنْ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ) فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ.

• قال ابن عاشور: وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر.

• قال ابن القيم: ففي ضمن هذا الوعيد: أن المرابي محارب لله ورسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى: الربا، وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد؛ لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله، وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا: بحربه وحرب رسوله.

(وَإِنْ تُبْتُمْ) أي: رجعتم إلى الله بترك الربا.

(فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ) أي: فلكم أصول أموالكم كاملة دون الربا.

(لا تَظْلِمُونَ) أي: لا تظلمون غيركم بأخذ الزيادة منهم.

(وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم بنقص شيء من رؤوس أموالكم.

• قال ابن القيم: يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه، وقد عاقدتم عليه فإنما لكم رؤوس أموالكم، لا تزادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها.

ص: 102

• قال السعدي: فكل من تاب من الربا، فإن كانت معاملات سالفة، فله ما سلف، وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة، وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة، فقد تجرأ على الربا.

‌الفوائد:

1 -

وجوب تقوى الله.

2 -

وجوب ترك الربا، وإن كان تم عقده.

3 -

أن ممارسة الربا تنافي الإيمان.

4 -

أن المصر على الربا معلن الحرب على الله.

5 -

عظم الربا لعظم عقوبته.

6 -

أنه يجب على من تاب إلى الله من الربا ألا يأخذ شيئاً مما استفاده من الربا.

ص: 103

(وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)).

[البقرة: 280].

(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) أي: صاحب إعسار لا يملك وفاء (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) أي: فعليكم نظرة إلى ميسرة.

• قال ابن كثير: أي: لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.

• قال السعدي: أي وإن كان الذي عليه الدين معسراً، لا يقدر على الوفاء، وجب على غريمه أن ينظره إلى ميسرة، وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح، أن يوفي ما عليه.

•‌

‌ فالمدين له حالات:

‌الحالة الأولى: إذا كان المدين معسراً لا يستطيع ولا يملك السداد.

فإنه يجب على صاحب الحق أن ينظره ويحرم مطالبته.

لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ). أي وإن وُجِدَ ذو عسرة (فنظرة) أي فعليكم نظرة إلى ميسرة.

المعسر: هو الذي لا شيء عنده يسدد الدين. فهذا يجب انظاره ويحرم حبسه.

‌الحالة الثانية: أن يكون عنده ما يسدد به.

فهنا يجب عليه أن يسدده.

لقوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم) متفق عليه.

(المطل) المنع، يعني منع ما يجب على الإنسان دفعه من دين. (الغني) القادر على الوفاء.

فالحديث دليل على تحريم المماطلة بالحق، لقوله (ظلم)، فإذا كان ظلم وجب أن يزال، فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين لأن الحق له.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: وأن تصدقوا على المدين، فتضعوا عنه دينه أو بعضه خير لكم في دنياكم وأخراكم.

ففي الدنيا: سبب للبركة والزيادة في المال والألفة والأخوة.

وفي الآخرة: سبب لمضاعفة الأجر والثواب الجزيل من الله.

وقد جاءت الأدلة على استحباب التيسير على الموسر.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.

ص: 104

وعَنْ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: سمِعْتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّه مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواهُ مسلمٌ.

وعنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ رجلٌ يُدايِنُ النَّاسَ، وَكَان يَقُولُ لِفَتَاهُ: إذا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجاوزْ عَنْهُ، لَعلَّ اللَّه أنْ يَتجاوزَ عنَّا فَلقِي اللَّه فَتَجاوَزَ عنْهُ) متفقٌ عَليهِ.

وعنْ أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (من أَنْظَر مُعْسِراً أوْ وَضَعَ لَهُ، أظلَّهُ اللَّه يَوْمَ القِيامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ) رواهُ الترمذيُّ وقَال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

‌الفوائد:

1 -

وجوب إنظار المعسر.

2 -

أن القادر على الوفاء يجب أن يسدد ما عليه.

3 -

حكمة الله بانقسام الناس إلى معسر وموسر.

4 -

فضل الإبراء أو الوضع من الدين وأنه صدقة.

5 -

تفاضل الأعمال.

6 -

فضيلة العلم.

ص: 105

(وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)).

[البقرة: 281].

(وَاتَّقُوا يَوْماً) أي: يوم القيامة، ونكّر للتعظيم، أي: احذروا عذاب وأهوال يوم القيامة بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه.

وقد أمر الله باتقاء ذلك اليوم في آيات كثيرة:

فقال تعالى (واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).

وقال تعالى (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).

(تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) أي: تردون إلى الله للحساب والجزاء.

• فينبغي على المسلم أن يتذكر ذلك اليوم وأن يعمل الأسباب التي تنجيه من كربه وأهواله.

وأسباب النجاة من كرب يوم القيامة كثيرة:

منها: التنفيس عن المسلمين.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم.

ومنها: إنظار المعسر أو الوضع عنه.

قال صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينظر معسر أو يضع عنه) رواه مسلم

ومنها: الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لوجه الله.

قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً).

ص: 106

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: تعطى كل نفس جزاء الذي كسبت تاماً وافياً غير منقوص، خيراً كان أو شراً.

كما قال تعالى (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ).

وقال تعالى (إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله).

وقال تعالى (وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا

حاسبين).

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من ثوابهم شيئاً، ولا يزاد في عذابهم، ولا يعاقبون بجريرة غيرهم.

قال تعالى (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

• وقال القرطبي: قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء؛ قاله ابن جُريج.

‌الفوائد:

1 -

وجوب اتقاء يوم القيامة، واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه.

2 -

أن التقوى قد تضاف لغير الله، وهذا في القرآن والسنة كثير، قال تعالى (واتقوا النار

) لكن فرق بين التقويين، التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، والثانية تقوى وقاية فقط.

3 -

إثبات البعث.

4 -

أن مرجع الخلائق كلها إلى الله.

5 -

أن الإنسان لا يحاسب إلا على عمله.

6 -

ينبغي على الإنسان الحرص والجد بالأعمال الصالحة. [السبت: 3/ 4/ 1433 هـ].

ص: 107

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلَا تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)).

[البقرة: 282].

• هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم أن تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان.

(إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ) هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها،

ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال (ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا).

• قوله تعالى (فَاكْتُبُوهُ) أمر منه تعالى بالكتابة [والحالة هذه] للتوثقة والحفظ، وهل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ اختار ابن جرير الوجوب، والجمهور على الاستحباب.

• وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بعثت بالحنيفية السهلة السمحة.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي: بينكم أيها المتداينون، أي: بحضور الدائن والمدين، فلا تصح الكتابة بحضور أحد الطرفين دون الآخر، بالقسط والحق، ولا يَجُرْ في كتابته على أحد، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان.

(وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) أي: ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سُئِل أن يكتبَ للناس، ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم، فَلْيتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب، كما جاء في الحديث (إن من الصدقة أن تعين صانعًا أو تصنع لأخْرَق)، وفي الحديث الآخر (من كتم علمًا يَعْلَمه ألْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار).

وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب.

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ) أي: وليملل المدين (من عليه الحق) على الكاتب ما في ذمته من الدين، (نوعه، صفته، أجله وغير ذلك).

ص: 108

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الخطاب في هذه الجملة والتي بعدها للمملي، أي: وليتخذ وقاية من عذاب الله ربه، بأن لا يملي إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً.

• الإملاء ويقال الإملال.

(وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) أي: لا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً أيّاً كان، ومهما قل، لا في كميته، ولا في كيفيته، ولا في نوعه.

(فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي: لا يحسن التصرف في ماله.

(أَوْ ضَعِيفاً) أي: صغيرًا أو مجنوناً أو معتوهاَ.

(أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو لا يقدر أن يملي هو، لخرس في لسانه، أو لجهل، لا يعرف معه وجه الصواب ونحو ذلك.

(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) أي: فيملل قيّمه أو وكيله - من قريب كأب أو أخ أو جد أو ابن أو غيرهم - بالعدل من غير نقص أو زيادة.

• قوله تعالى (وليه) أي: ولي هذا الإنسان الذي عليه الحق، وهذا ظاهر الآية.

• قال هنا (بالعدل) لأن المملي هنا وهو الولي يتصور منه الزيادة والنقص، محاباة لهذا أو لهذا، بخلاف ما إذا كان المملي هو المدين، فإن المتصور منه النقص فقط ولهذا قال في حقه (ولا يبخس منه شيئاً).

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) أي: اطلبوا مع الكتابة أن يشهد لكم شاهدان من المسلمين زيادة في التوثقة.

• لابد أن يكون الشاهد من المسلمين.

(فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) المعنى إن لم يأت الطالب برجلين فليأت برجل وامرأتين؛ هذا قول الجمهور. (قاله القرطبي).

وقال قوم: بل المعنى فإن لم يكن رجلان، أي لم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال.

• قال ابن عطية: وهذا ضعيف، فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور، أي إن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذرٍ مّا فليستشهد رجلاً وامرأتين.

فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية، ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشرط أن يكون معهما رجل.

ص: 109

وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثر الله أسباب تَوْثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلْوَى بها وتكررها؛ فجعل فيها التَوثُّق تارة بالكتْبَة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال.

• قال ابن كثير: وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة، كما جاء عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكُن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جَزْلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تُكْثرْنَ اللعن، وتكفُرْنَ العشير، ما رأيتُ من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُب منكن". قالت: يا رسول الله، ما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تَعْدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين).

•‌

‌ وهذا أحد المواضع الخمسة التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر وهي:

الأول: العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفيه عدة أحاديث صحاح وحسان. والثاني: الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل.

والثالث: الميراث، والرابع: الدية، والخامس: العتق.

(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا) يعني: المرأتين إذا نسيت الشهادة، أي: لئلا تضل إحداهما فتذكر الأخرى.

(فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) أي: يحصل لها ذكرى بما وقع به الإشهاد، ولهذا قرأ آخرون:"فَتُذكر" بالتشديد من التذكار.

• في هذا الحكمة في جعل شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وهو كون المرأة عرضة للنسيان أكثر بسبب نقصان عقلها، وضعف حفظها وضبطها.

• قال الرازي: المعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وهذه حيطة أخرى من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيانِ، لأنّ المرأة أضعف من الرجل بأصل الجبلّة بحسب الغالب، والضلال هنا بمعنى النسيان.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) قيل: معناه: إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع بن أنس. وهذا كقوله (وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ) ومن هاهنا استفيد أن تَحَمّل الشهادة فرض كفاية.

وقيل -وهو مذهب الجمهور -: المراد بقوله (وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) للأداء، لحقيقة.

وهذا واجب وقد قال تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).

ص: 110

• قوله (الشُّهَدَاء) والشاهد حقيقة فيمن تحمَّل، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية.

(وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ) هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال

(وَلا تَسْأَمُوا) أي: لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة (إلى أجله) أي: إلى وقت حلوله، لأن في الكتابة ضبط الدين، والقضاء على أسباب الاختلاف.

(ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً هو:

أولاً: (أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي: أعدل، وإنما كان هذا أعدل عند الله، لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب، وعن الجهل والكذب أبعد، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى (ادعوهم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله) أي أعدل عند الله، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.

ثانياً: (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) أي: أقرب وأعدل لإقامة الشهادة، وأكمل وأصوب وأضبط لها، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا.

ثالثاً: (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) أي: إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.

ص: 111

(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وتقدم أن هذا الأمر للاستحباب.

• قال ابن كثير: وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب، لا على الوجوب، والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري، وقد رواه الإمام أحمد عن عمَارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: أو ليس قد ابتعته منك؟ " قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا، حتى جاء خزَيْمة، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين).

(وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أي: لا يضارر كاتب في كتابته، فيكتب غير ما يُملي، أو يمتنع من الكتابة مضارة للمملي أو لغيره.

ولا يضار شهيد في شهادته، فيشهد بخلاف ما رأى وسمع، وبخلاف الحق، أو يمتنع من تحمل الشهادة، أو أدائها أو يكتمها مضارة للمشهود له.

• قال الرازي: قوله تعالى (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) اعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع، ويحتمل: أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما.

والأول: قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، والثاني: قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.

(وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نَهِيتم عنه، فإنه فسق كائن بكم، أي: لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه.

ص: 112

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: خافوه وراقبوه، واتبعوا أمره واتركوا زجره.

• قال ابن عاشور: أمر بالتّقوى لأنّها مِلاك الخير، وبها يكون ترك الفسوق.

(وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) أي: ويبين لكم الواجب لكم وعليكم.

كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)، وكقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).

• وقال القرطبي: وعدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يلقى إليه؛ وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فيْصَلا يفصل به بين الحق والباطل؛ ومنه قوله تعالى (يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً).

(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات.

‌الفوائد:

1 -

تصدير الخطاب للمؤمنين بالنداء للتنبيه والعناية والاهتمام بما تضمنته هذه الآية.

2 -

جواز التعامل بالدين كما في هذه الآية، وكقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وأجمعت الأمة على جوازه، والحكمة تقتضي ذلك في جانب المدين والدائن:

ففي جانب المدين: لأن الإنسان قد يحتاج شيئاً فلا يملك المال ليشتريه، فيستدين من أجل ذلك، ففيه سد حاجة المحتاج بطريق مشروع، بدلاً من طرق محرمة.

وأما في جانب الدائن: فقد يكون الديْن سبباً لتصريف كثير من التجار لبضائعهم وسلعهم، وأيضاً لما فيه من الثواب والأجر والقرض الحسن، وأيضاً فيه مظهر عظيم من مظاهر التعاون.

3 -

أن الأجل في الدين لابد أن يكون معلوماً محدداً، فأما إذا كان مجهولاً فلا يجوز.

لقوله تعالى ( .. إلى أجل مسمى .. ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم،

إلى أجل معلوم) متفق عليه.

ولحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر) رواه مسلم.

ولأن جهالة الأجل تؤدي إلى الغرر وإلى النزاع بين البائع والمشتري.

4 -

مشروعية كتابة الدين لقوله (فاكتبوه) وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبه، لأن هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وذهب جمهور العلماء إلى أن كتابة الدين مستحبة وليست بواجبة، وحملوا الأمر في الآية على الاستحباب بدليل قوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابتاع بلا كتابة ولا إشهاد كما في حديث خزيمة بن ثابت وسيأتي إن شاء الله.

5 -

حضور كل من الدائن والمدين عند كتابة الدين لقوله تعالى (وليكتب بينكم).

6 -

يجب أن يكون الكاتب بين المتداينين عدلاً، بحيث يكتب بالعدل المطابق للواقع، الموافق للشرع من غير ميل لأحدهما.

7 -

ظاهر الآية أن الكاتب لا يكون أحد المتعاقدين، لكن لو تراضيا أن يكتب أحدهما وبخاصة الذي عليه الحق صح ذلك، لأن ذلك بمثابة الاعتراف منه والاقرار على نفسه.

ص: 113

8 -

ينبغي لمن منّ الله عليه، فعلمه الكتابة وصنعتها، والعلم الشرعي فيها أن لا يمتنع عن الكتابة لمن يحتاج إليها.

9 -

نعمة الله على عباده بتعليمهم الكتابة.

10 -

يجب على الكاتب أن يكتب وفق ما علمه الله من الشرع.

11 -

أن الذي ينبغي أن يملي على الكاتب هو المدين الذي عليه الحق لا الدائن.

12 -

أن الإقرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق، لأن ما يمليه المدين إقرار منه واعتراف.

13 -

يجب على المدين الذي عليه الحق أن يتقي الله ربه، فلا يملي إلا حقاً ولا يقول إلا صدقاً.

14 -

وجوب تقوى الله.

15 -

أن تقوى الله مانعة من الحرام.

16 -

ينبغي تذكير الناس بتقوى الله عند كل معاملة يتعاملون بها.

17 -

ثبوت الولاية على من لا يحسن التصرف.

18 -

حرص الشريعة على حقوق الضعفاء كالسفهاء والصغار والمجانين.

19 -

حرص الشريعة على حفظ الحقوق.

20 -

مشروعية كتابة الإشهاد على الدين مع الكتابة لزيادة التوثقة لقوله (واستشهدوا).

21 -

لابد في الشهادة على الديْن ونحوه من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين.

22 -

أن شهادة الرجلين أولى من شهادة رجل وامرأتين، لتقديم شهادة الرجلين في الآية.

23 -

تفضيل الرجال على النساء في الشهادة من حيث العموم، وذلك لما ميز الله به الرجال من كمال العقل والدين قوة الحفظ والضبط.

24 -

يشترط في الشاهد أن يكون عدلاً.

لقوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

ولأن غير العدل لا يؤمن أن يشهد على غيره بالزور.

والعدل عرفه السعدي بقوله (من رضيه الناس) لهذه الآية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فكل مرضيٍّ عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته فهو مقبول، وقال السعدي في كتاب (بهجة قلوب الأبرار) وهذا أحسن الحدود، ولا يسع الناس العمل بغيره.

وقيل: العدالة: هي الصلاح في الدين: بفعل الأوامر واجتناب النواهي. واستعمال المروءة بفعل ما يزينه وترك ما يشينه.

ص: 114

25 -

يشترط في الشاهد أن يكون بالغاً.

لقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) والصبي لا يسمى رجلاً.

ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه، فلأن لا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى.

والمراد أنه لا يقبل أداؤه للشهادة، أما لو تحملها وهو صغير وعَقَل ما تحمله، وشهد به بعد بلوغه صحت شهادته.

26 -

يشترط في الشاهد أن يكون أيضاً مسلماً.

لقوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس نرضاه.

ولقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وإذا كان الفاسق يجب علينا اليقين في خبره، فما بالك بالكافر (فالكافر محل الخيانة).

ولقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والكافر ليس منا.

27 -

بيان الحكمة في جعل شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد، وهو نقصان عقلها، وضعف حفظها وضبطها، وكمال

عقل الرجل، وقوة حفظه وضبطه، فالمرأة عرضة للنسيان أكثر من الرجل من حيث العموم.

28 -

لابد أن تكون الشهادة عن علم ويقين.

29 -

تحريم الامتناع من الشهادة تحملاً وأداء ممن دعي إليها. (وستأتي مباحثها إن شاء الله).

30 -

التأكيد على مشروعية كتابة الدين إلى أجله.

31 -

حرص الشريعة الإسلامية بإبعاد المسلمين عن كل ما يؤدي إلى النزاع والشك والخصومات.

32 -

إباحة التجارة.

33 -

لا حرج في عدم كتابة التجارة الحاضرة.

34 -

لا يجوز أن يضار كاتب فيكتب خلاف ما يُملى عليه وخلاف الحق، ولا يجوز أن يضار شهيد فيشهد بخلاف ما رأى أو سمع.

35 -

تحريم الضرر بين المسلمين.

36 -

وجوب تقوى الله.

37 -

أن تقوى الله سبب للعمل بأوامر الله وترك نواهيه.

38 -

أن الأصل في الإنسان الجهل وعدم العلم إلا بتعليم الله له كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

39 -

إثبات علم الله الواسع المحيط بكل شيء.

40 -

أن من أسباب تحصيل العلم تقوى الله.

ص: 115

(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)).

[البقرة: 283].

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ) أي: وإن كنتم مسافرين، وتداينتم حال السفر بدين إلى أجل مسمى (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً) يكتب الدين بينكم، ومثل هذا إذا لم تجدوا أدوات الكتابة كالقرطاس والقلم ونحو ذلك.

(فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي: فعليكم برهان مقبوضة يقبضها الدائن وهو (المرتهن) يأخذها من الراهن وهو المدين.

• والرهن: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.

• قال ابن عاشور: هذا معطوف على قوله (إذا تداينتم بدَين وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ) الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هذه الحالة.

• وقال القرطبي: لمّا ذكر الله تعالى النَّدْب إلى الإشهاد والكتْب لمصلحة حفظ الأموال والأدّيَان، عقّب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة من الكتْب، وجعل لها الرهن، ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو غالب الأعذار، لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كلُّ عذر.

• والسفر: هو الضرب في الأرض والسير فيها، سمي السفر سفراً لأنه خروج من البلد ومحل الإقامة إلى حيث السفر والنور.

ومثل هذا إذا كان الدين في الحضر ولم يجدوا كاتباً، وإنما خص السفر، لأنه مظنة عدم وجود الكاتب، أما الحضر فيندر فيه عدم وجود الكاتب.

• قال ابن الجوزي: إنما خص السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب، والشاهد فيه ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب، والإشهاد، فخذوا الرهن.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي: فإن أمِن بعضكم بعضاً ولم تكتبوا الديْن ولم تشهدوا عليه.

(فلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) أي: فليؤد المدين الذي ائتمنه الدائن (أَمَانَتَهُ) أي: الذي ائتمن عليه من الدين وغيره.

ص: 116

(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) تذكير بتقوى الله، فلا ينكر ما ائتمن عليه من دين وغيره، ولا يبخس منه شيئاً أو يماطل في أدائه.

• قال ابن عاشور: وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدَّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابَة في النفوس، فذلك تحذير من عدم الوفاء به؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خِيانة؛ لأنّها ضدّها، وفي الحديث: أدِّ الأمَانَة إلى من ائتَمنك ولا تَخن من خانك.

• قال الرازي: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) أي: هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد، لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق، وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل، وفي الآية قول آخر، وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده، والوجه هو الأول.

• استدل بالآية من قال بجواز الرهن حال السفر فقط، وذهب جماهير العلماء إلى جوازه في الحضر والسفر.

قال جمهور من العلماء: الرّهْنُ في السفر بنص التنزيل، وفي الحضر ثابت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح.

وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجلٍ ورهنه دِرعاً له من حديد.

وأخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال (توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرْعُه مرهونةٌ عند يهوديّ بِثلاثين صاعاً من شعير لأهله).

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ) أي: لا تخفوها وتجحدوا ما شهدتم به، بإنكار الشهادة أصلاً، أو بالتغيير فيها أو التبديل، بزيادة أو نقصان أو غير ذلك.

(وَمَنْ يَكْتُمْهَا) بإخفاء أو بتغيير أو تبديل.

(فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي: آثم بفعل ذلك.

وهذه كقوله تعالى (وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ).

ص: 117

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

• وأضاف الإثم إلى القلب، لأن الشهادة أمر خفي راجع إلى القلب.

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحذير من الإقدام على هذا الكتمان، لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى، فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال، ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (والله بما تعملون عليم) تهديد، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع؛ لأنّ القادر لا يحُول بينه وبين المؤاخذة إلاّ الجهل فإذا كان عليماً أقام قسطاس الجزاء.

‌الفوائد:

1 -

أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض.

2 -

جواز الرهن، وجمهور العلماء على جوازه حضراً وسفراً.

3 -

أنه إذا حصل الائتمان من بعضهما لم يجب رهن ولا إشهاد ولا كتابة.

4 -

وجوب أداء الأمانة.

5 -

تحريم كتمان الشهادة.

6 -

أن كتمان الشهادة من الكبائر.

7 -

وجوب الاهتمام بصلاح القلب.

8 -

عموم علم الله تعالى بكل شيء نعمله.

9 -

التهديد لمن يكتم الشهادة، فإن الله عالم به.

ص: 118

(لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)).

[البقرة: 284].

عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله

) اشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى أصْحَابِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَأتَوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أيْ رسولَ الله، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ: الصَّلاةَ والجِهَادَ

والصِّيامَ والصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الآيَةُ وَلا نُطيقُها. قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:(أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكتَابَينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ) فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا القومُ، وَذَلَّتْ بِهَا ألْسنَتُهُمْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى في إثرِهَا:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير) فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأنزَلَ الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ) قَالَ: نَعَمْ (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قَالَ: نَعَمْ (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه) قَالَ: نَعَمْ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) قال: نَعَمْ) رواه مسلم.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قَالَ دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا» . قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ (وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا) قَالَ قَدْ فَعَلْتُ). رواه مسلم

(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: كل ما في السماوات والأرض له سبحانه وتعالى خلقاً وملكاً وتدبيراً.

• قال أبو بكر الجزائري: خلقاً وملكاً وتصرفاً.

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على هذا العموم:

قال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وقال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).

ص: 119

وقال تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

•‌

‌ وهذه الجملة تؤيد تفرده سبحانه بالألوهية، وذلك من جانبين:

الأول: حيث إن الجميع عبيد له جل جلاله، وليس للعبد أن يعبد غير مالكه، أو يُشرِك غيره معه في العبادة، وقد نهاه عن ذلك.

الثاني: وحيث إن الجميع عبيد له، فكيف يُعبد مملوك - كائناً من كان - ويُترك المالك، أو يُشرَك مملوك في العبادة مع المالك، وقد نهى عن ذلك.

•‌

‌ والفائدة من إيماننا بأن لله ملك السموات والأرض يفيد:

أولاً: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء ..

يدل لذلك ما أمرنا الله به أن نقول عند المصيبة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

ويدل لذلك أيضاً ما بينّه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته التي أشرف ابنها على الموت، حينما أرسلت إليه ليأتي، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

ثانياً: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه.

ثالثاً: أن كل ما في الكون ملك لله الأحد سبحانه وتعالى من غير شريك، فما لدينا من مال ومتاع وجاه ليس ملكاً لنا بل هو ملك لله، وإنما نحن مستخلفون فيه للابتلاء والاختبار، كما قال تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون .. ) رواه مسلم.

(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ) أي: وإن تظهروا الذي في صدوركم وقلوبكم من المعتقدات والمضمرات والسرائر.

(أَو تُخْفُوهُ) أي: أو تسروه وتضمروه.

ص: 120

(يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) أي: يُطلعكم عليه، ويخبركم به ويظهره لكم، لأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية، فالسر والعلانية عنده سواء.

قال تعالى (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقال تعالى (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)

وقال تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).

وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

• ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة.

كما تقدم في حديثي أبي هريرة وابن عباس، وهذا جاء عن ابن عمر وابن عباس، فقد روى البخاري عن ابن عمر أنه قال فيها: نسختها الآية التي بعدها.

• قال ابن الجوزي: وهذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد.

ورجحه في التسهيل، وقال: والصحيح التأويل الأوّل لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضاً عن ابن عباس وغيره، فإن قيل: إنّ الآية

خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فالجواب: أنّ النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبر.

وذهب بعضهم إلى أنها غير منسوخة، وإنما هي في حق كاتم الشهادة.

ومن العلماء من قال: إن المنسوخ منها ما يتعلق بحديث النفس والوساوس والشكوك لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها مالم تعمل أو تكلم).

ومن العلماء من قال: لم تنسخ، ولكن لا يلزم من المحاسبة المؤاخذة.

وقال الضّحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه.

وفي الخبر: إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يومٌ تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كُتَّابي لم يكتبوا إلاَّ ما ظهر من أعمالكم وأنا المطّلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يُخْبُروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأُحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، وهذا أصح ما في الباب، يدل عليه حديث النجوى:

عن ابن عمر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ. قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ) متفق عليه.

وقال الثعالبي: ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة.

ص: 121

وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى (وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) معناه: بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ، أشفَقَ الصحابةُ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها.

(فَيَغْفِرُ) برحمته.

(لِمَنْ يَشَاءُ) من العصاة.

(وَيُعَذِّبُ) بعدله.

(مَنْ يَشَاءُ) من عباده.

• يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

• قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.

(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء سبحانه، كما قال تعالى (ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً).

ومن قدرته أنه سبحانه: يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وينسخ من الأحكام ما يشاء ويبقي ما يشاء، كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ

تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

• وناسب ختم الآية بقوله تعالى (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن محاسبته للعباد على ما يبدون وما يخفون، ومغفرته لمن يشاء وتعذيبه لمن يشاء منهم، إنما يحصل ذلك يوم البعث والمعاد، الذي هو من أعظم الدلائل على كمال قدرته عز وجل

‌الفوائد:

1 -

عموم ملك الله تعالى.

2 -

أن الله لا شريك له في ذلك الملك.

3 -

إثبات صفات الكمال لله تعالى.

4 -

الرضا بقضاء الله وقدره، لأننا ملك له تعالى.

5 -

عموم علم الله تعالى وسعته.

6 -

تحذير العبد من أن يخفي في قلبه مالا يرضي الله.

7 -

إثبات الحساب.

8 -

إثبات المشيئة لله تعالى.

9 -

إثبات القدرة لله وعمومها.

ص: 122

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286))

[البقرة: 285 - 286].

‌جاءت الأحاديث بفضل هاتين الآيتين:

أ-عن أَبي مسعودٍ البَدْرِيِّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخر سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) متفقٌ عَلَيْهِ.

قيل: كَفَتَاهُ الْمَكْرُوهَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقِيلَ: كَفَتَاهُ مِنْ قِيامِ اللَّيْلِ.

وقال ابن حجر: قيل: أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن.

وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها.

وقيل: معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً.

وقيل معناه كفتاه كل سوء.

وقيل: كفتاه شر الشيطان.

وقيل دفعتا عنه شر الإنس والجن.

وقال النووي: قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان وقيل من الآفات ويحتمل من الجميع.

وقال ابن القيم: الصحيح: أن معناها كفتاه من شر ما يؤذيه، وقيل: كفتاه من قيام الليل، وليس بشيء.

ب-وعن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (بَيْنَمَا جِبْريلُ عليه السلام قَاعِدٌ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقيضاً مِنْ فَوقِهِ، فَرَفَعَ رَأسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليَوْمَ وَلَمْ يُفْتَحْ قَطٌّ إِلاَّ اليَوْمَ، فنَزلَ منهُ مَلكٌ، فقالَ: هذا مَلكٌ نَزلَ إلى الأرضِ لم ينْزلْ قطّ إلاّ اليومَ فَسَلَّمَ وقال:

أبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤتَهُمَا نَبيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَواتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلاَّ أُعْطِيتَه). رواه مسلم

ج-وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (لَمَّا أُسْرِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِىَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِى مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِى مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قَالَ فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثاً: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئاً الْمُقْحِمَاتُ) رواه مسلم.

(الْمُقْحِمَاتُ) الكبائر من الذنوب التي تقحم صاحبها في النار أي تلقيه فيها.

د-وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش) رواه أحمد.

هـ-وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان) رواه الترمذي و ابن حبان.

ص: 123

(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي: بالذي أنزل إليه من ربه من الوحي وهو القرآن والسنة المطهرة.

والمراد بالرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم.

• وفي هذه ثناء من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

(وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول، أي: وآمن المؤمنون الذين حققوا الإيمان بما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم من ربه من الوحي، وانقادوا لذلك ظاهراً وباطناً.

(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) أي: كل من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمن بالله.

‌والإيمان بالله يتضمن عدة أمور:

‌الأمر الأول: الإيمان بوجود الله دون شك ولا ريب.

وقد دل على وجوده سبحانه الفطرة والعقل والشرع والحس.

أما الفطرة: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، وقد قال صلى الله عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجسانه) متفق عليه.

وأما العقل: فلأن هذه الموجودات والمخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد بنفسها، لأن الشيء لا يخلق نفسه، ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لابد له من محدِث، وكل موجود لابد له من موجِد. (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ).

وأما الحس: فإننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين وغوث المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجوده سبحانه وتعالى.

قال تعالى (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

وعن أنس (أن أعرابياً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا رسول الله! هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا فثار السحاب ونزل المطر

) متفق عليه.

وأما دلالة الشرع: فلأن الكتب السماوية كلها ناطقة بذلك.

‌الأمر الثاني: الإيمان بربوبية الله تعالى.

أي: بأنه الرب لا شريك له ولا معين، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، فهو خالق كل شيء ومالكه ومدبره

قال تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

ص: 124

وقال تعالى (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).

وقال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

‌الأمر الثالث: الإيمان بألوهيته.

أي: بأنه الإله الحق لا شريك له، فكل من اتخذ إلهاً مع الله فألوهيته باطلة.

قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

‌الأمر الرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.

أي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

قال تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). [وسيأتي مزيد بحث لهذا الأمر إن شاء الله].

(وَمَلائِكَتِهِ) الملائكة: عالم غيبي خلقوا من نور، جعلهم الله طائعين له متذللين له.

‌والإيمان بهم يتضمن عدة أمور:

أولاً: الإيمان بوجودهم، فمن أنكر وجودهم فهو كافر لأنه مكذب لله ولرسوله.

ثانياً: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم كجبريل وإسرافيل ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالاً.

ثالثاً: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة جبريل، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على صفته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح وقد سد الأفق.

رابعاً: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى كتسبيحه والتعبد له ليلاً ونهاراً بدون ملل ولا فتور.

ص: 125

(وَكُتُبِهِ) الإيمان بالكتب: هو التصديق الجازم بأن لله كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله، وهي من كلامه حقيقة، وأنها نور وهدى، وأن ما تضمنته حق وصدق، ولا يعلم عددها إلا الله، وأنه يجب الإيمان بها مجملة إلا ما سمي منها وهي: التوراة أنزلت على موسى، والإنجيل أنزلت على عيسى، والزبور أنزلت على داود، والقرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً).

(وَرُسُلِهِ) الإيمان بالرسل يتضمن عدة أمور:

أولاً: أن رسالتهم حق من عند الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر برسالة الجميع.

كما قال تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل، مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه.

ثانياً: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه، وقد ذكر الله في كتابه خمسة وعشرين نبياً ورسولاً، وأما ما لم نعلم اسمه فنؤمن به إجمالاً، فالله أرسل رسلاً لم يقصصهم علينا ولا يعلم عددهم إلا الله قال تعالى (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً).

ثالثاً: الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوا بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله قال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فالمؤمنون يصدقون بجميع الأنبياء والرسل، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على

الحق ظاهرين.

وهذا بخلاف الذين قال الله عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).

ص: 126

(وَقَالُوا) أي: وقال الرسول والمؤمنون.

(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي: سمعنا ما أمرتنا به، وما نهيتنا عنه (وَأَطَعْنَا) أي: وانقدنا لذلك بجوارحنا فعلاً للمأمورات وتركاً للمحظورات.

• فالفرق بين السمع والطاعة، أن السمع هو القبول، والطاعة هي الامتثال والانقياد.

وهكذا صفات أهل الإيمان أن يقولوا سمعنا وأطعنا، كما قال تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقال عنهم (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا).

بخلاف المكذبين من اليهود وغيرهم الذين قال الله عنهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا).

وقال تعالى عنهم (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ).

(غُفْرَانَكَ رَبَّنَا) أي: نسألك غفرانك، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه.

(وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي: إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب.

كما قال تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ).

وقال تعالى (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وقال تعالى (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) أي: لا يكلف أحدًا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم.

كما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا).

وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

وقال تعالى (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).

وقال تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة، في قوله (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه) أي: هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان.

(لَهَا مَا كَسَبَتْ) أي: من خير.

(وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) أي: من شر.

• قال في التسهيل: وجاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع العبد به، وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر العبد، وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشرّ اكتسبت، لأنّ في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة افتعل، فالسيئات فاعلها يتكلف مخافة أمر الله، ويتعدّاه بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادّة من غير تكلف، أو لأنّ السيئات يجدّ في فعلها لميل النفس إليها، فجعلت لذلك مكتسبة، ولا لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك: وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال.

ص: 127

(رَبَّنَا) أي: ربنا.

(لا تُؤَاخِذْنَا) أي: لا تعاقبنا.

(إِنْ نَسِينَا) النسيان: ذهول القلب عن شيء معلوم.

• قال ابن كثير: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا) أي: إن تركنا فرضًا على جهة النسيان، أو فعلنا حرامًا كذلك.

(أَوْ أَخْطَأْنَا) الخطأ: الوقوع في المخالفة من غير قصد، إما لجهل أو غير ذلك.

وفي حديث أبي هريرة: قال الله تعالى: نعم، وفي حديث ابن عباس: قال الله: قد فعلت.

وفي الحديث (إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

(رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) أي: لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به، من الدين الحنيف السهل السمح.

وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: نعم.

وعن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: قد فعلت.

• قال ابن تيمية: أي: لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا، فإنا أضعف أجساداً، وأقل احتمالاً، وهذا في الأمر والنهي والتكليف.

• الإصر: الشيء الثقيل الشاق الذي يعجز الإنسان عن تحمله من الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية.

قوله تعالى (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(الكاف) للتشبيه، بمعنى (مثل) أي: مثل الذي حملته على الذين من قبلنا من اليهود والنصارى وغيرهم.

• من ذلك أن الله جعل من شروط قبول توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، أي: قتل بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل يقتل أخاه وأباه، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

• والحكمة من قوله (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) تذكير الأمة بعظيم فضل الله عليها، وما ميزها به من بين الأمم.

(رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) أي: من التكليف والمصائب والبلاء، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به.

(وَاعْفُ عَنَّا) أي: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا.

(وَاغْفِرْ لَنَا) أي: تجاوز عما ارتكبنا من المنهيات.

ص: 128

(وَارْحَمْنَا) برحمتك الواسعة.

• قال في التسهيل: قوله تعالى (واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ) ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أنّ العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضيل بالإنعام.

• قال ابن كثير: (وارحمنا) أي: فيما يُسْتَقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره.

(أَنْتَ مَوْلانَا) أي: أنت ولينا وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.

• والمراد بالولاية هنا الولاية الخاصة، وهي ولاية الله عز وجل للمؤمنين كما قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وقال سبحانه (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ).

(فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك في عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة، قال الله: نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم، عن ابن عباس:"قال الله: قد فعلت".

• فنعم المولى تبارك وتعالى ونعم النصير لمن عبده وتوكل عليه واعتصم به.

قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

وقال تعالى (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

وقال تعالى (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ).

• قال ابن عاشور: ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم، وسلموا من الفتنة، ودخل الناس فيه أفواجاً.

ص: 129

‌الفوائد:

1 -

أن محمد مكلف بالإيمان بما أنزل إليه.

2 -

أن القرآن كلام الله.

3 -

أن القرآن منزل غير مخلوق.

4 -

إثبات علو الله.

5 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

6 -

إثبات الملائكة.

7 -

أن من صفات المؤمنين السمع والطاعة.

8 -

أن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله.

9 -

أن المرجع والمصير إلى الله.

10 -

إثبات البعث.

11 -

بيان رحمة الله بعباده.

12 -

أنه لا واجب مع العجز.

13 -

يسر الدين الإسلامي.

14 -

أن للإنسان ما كسب دون نقصان.

15 -

رفع المؤاخذة بالنسيان.

16 -

أن النسيان وارد على البشر.

17 -

امتنان الله على هذه الأمة برفع الآصار.

18 -

سؤال الله العافية.

19 -

أن المؤمن لا ولي له إلا الله.

20 -

أنه يجب اللجوء إلى الله.

11/ 4/ 1433 هـ

ص: 130

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تفسير

سورة آل عمران

جمع وإعداد

سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

ص: 131

‌مقدمة

سورة آل عمران سورة مدنية.

قال ابن عاشور: وهذه السورة نزلت بالمدينة بالاتفاق.

والفرق بين المدني والمكي: الاعتبار بالزمن، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني.

‌فضائلها:

عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة) رواه مسلم.

• سميت السورة بـ " آل عمران " لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة " آل عمران "، وعمران هو والد مريم (أم عيسى)، وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الإلهية، بولادة السيدة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام.

•‌

‌ أغراض السورة:

أولاً: بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها.

ثانياً: والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام.

ثالثاً: والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به.

رابعاً: وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله: من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء.

خامساً: وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم.

سادساً: الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله، وذكر الذين آمنوا به حقاً، وإبطال إلهية، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم.

ص: 132

سابعاً: ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.

ثامناً: وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين.

تاسعاً: إظهار ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم.

عاشراً: وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين.

الحادي عشر: وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلاً لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما.

الثاني عشر: ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله.

ص: 133

(ألم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

[آل عمران: 1 - 2].

(ألم) هذه تسمى الحروف المقطعة، اختلف العلماء في الحروف المقطعة التي وردت في أوائل بعض السور على أقوال كثيرة:

فقيل: لها معنى، واختلف في معناها: فبعض العلماء: قال هي أسماء للسور، وبعضهم قال: هي أسماء لله، وبعضهم قال غير ذلك.

وقيل: هي حروف هجائية ليس لها معنى، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين وقال: وحجة هذا القول: أن القرآن نزل بلغة العرب، وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية.

وأما الحكمة منها: فأرجح الأقوال أنها إشارة إلى إعجاز القرآن العظيم، ورجح هذا القول ابن كثير في تفسيره فقال: وقال آخرون إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وإليه ذهب الشيخ أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.

وقد رجح هذا الشيخ الشنقيطي في أضواء البينان حيث قال بعد أن ذكر الخلاف: أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله

ثم قال رحمه الله: ووجه استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماً عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وأنه حق، قال تعالى في البقرة (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه)، وقال في آل عمران (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق)، وقال في الأعراف (المص كتاب أنزل إليك)، وقال في يونس (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)، وقال في هود (الر كتاب أحكمت آياته .. )، وقال في يوسف (الر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربياً).

ص: 134

ثم ذكر رحمه الله بقية السور.

ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال بعدما رجح هذا القول:

أن هذا القرآن لم يأت بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر، وإنما هي من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر، ومع ذلك فقد أعجزهم.

• وأما قول من قال إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور، فهذا ضعيف، لأن الفصل حاصل بدونها.

• وقول من قال: بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذا تواصوا بالإعراض عن القرآن إذا تلي عليهم، وهذا ضعيف، لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها.

• عدد هذه الحروف المقطعة (14) حرفاً يجمعها قولهم: نص حكيم قاطع له سر.

• افتتح الله عز وجل (29) سورة بالحروف المقطعة.

(اللَّهُ) اسم من أسماء الله، متضمن للألوهية لله تعالى.

ومعناه: المألوه المعبود الذي تعبده الخلائق، وتتأله له محبة وتعظيماً وخضوعاً له، وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، لما له من صفات الألوهية، وهي صفات الكمال.

• لا يعرف أحد تسمى به لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو مختص بالله لفظاً ومعنى.

لفظاً: أي أن هذا اللفظ لا يصح أن يسمى به أحد.

ومعنى: أي أن الصفة التي تضمنها هذا الاسم وهي الإلهية لا يصلح شيء منها للمخلوق.

• جميع الأسماء ترجع إليه لفظاً ومعنى: أي أن أسماء الله تأتي بعده ولا يأتي بعد شيء منها.

ومعنى ترجع إليه معنى: أي أن هذا الاسم يتضمن صفة الإلهية وهي أوسع الصفات، وهذه الصفة ترجع إليها جميع الصفات.

ص: 135

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا:

أولاً: محبة الله محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس والأهل والولد والدنيا جميعاً، لأنه المألوه المعبود وحده وهو المنعم المتفضل وحده.

ثانياً: تعظيمه سبحانه وإجلاله وإخلاص العبودية له وحده من توكل وخوف ورجاء ورغبة ورهبة وغير ذلك من أنواع العبادات.

ثالثاً: الشعور بالعزة به سبحانه والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم.

رابعاً: طمأنينة القلب وسعادته وأنسه بالله.

خامساً: إرادة تعالى بالمحبة والولاء، وإفراده تعالى بالحكم والتحاكم.

(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا معبود بحق سواه.

فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبداً لربه، ممتثلا أوامره مجتنباً نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقاً ناقصاً مدبراً فقيراً من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة.

• في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله (لا إله إلا هو) هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.

ففيها نفي استحقاق غير الله العبادة، وإثبات استحقاق الألوهية والعبودية لله تعالى.

• قال ابن كثير: إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق.

• وقال السعدي: فأخبر أنه الله، الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، وعبودية غيره باطلة.

• قال ابن رجب: قَوْل: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، تَقْتَضِي أَلَّا يُحِبَّ سِوَاهُ، فَإِنَّ اَلْإِلَهَ هُوَ اَلَّذِي يُطَاعُ، مَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً. وَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَكَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِمَّا يَكْرَهُ اَللَّهُ، أَوْ كَرِهَ شَيْئًا مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ لَمْ يَكْمُلْ تَوْحِيدُهُ وَلَا صِدْقُهُ فِي قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ اَلشِّرْكِ اَلْخَفِيِّ بِحَسْبِ مَا كَرِهَهُ مِمَّا يُحِبُّهُ اَللَّهُ، وَمَا أَحَبَّهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ. قَالَ تَعَالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم).

ص: 136

•‌

‌ فضائل كلمة التوحيد

‌أولاً: وَهِيَ كَلِمَةُ اَلْإِخْلَاصِ، وَشَهَادَةُ اَلْحَقِّ وَدَعْوَةُ اَلْحَقِّ، وَبَرَاءةٌ مِنْ اَلشِّرْكِ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَ اَلْخَلْقُ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون).

‌ثانياً: وَلِأَجْلِهَا أُرْسِلَتْ اَلرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ اَلْكُتُبُ

قَالَ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون).

وقال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).

وَهَذِهِ اَلْآيَةُ أَوَّلُ مَا عَدَّدَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ اَلنَّعَمِ فِي سُورَةِ اَلنِّعَمِ اَلَّتِي تُسَمَّى سُورَة اَلنَّحْلِ، وَلِهَذَا قَالَ اِبْنُ عُيَيْنَةَ: مَا أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعِبَادِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَإِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ لِأَهْلِ اَلْجَنَّةِ كَالْمَاءِ اَلْبَارِدِ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا; وَلِأَجْلِهَا أُعِدَّتْ دَارُ اَلثَّوَابِ وَدَارُ اَلْعِقَابِ، فِي اَلْآخِرَةِ، فَمَنْ قَالَهَا وَمَاتَ عَلَيْهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِ اَلثَّوَابِ، وَمَنْ رَدَّهَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اَلْعِقَاب، وَمِنْ أَجْلِهَا أُمِرَتْ اَلرُّسُلُ بِالْجِهَادِ، فَمَنْ قَالَهَا عُصِمَ مَالُهُ وَدَمُهُ.

‌ثالثاً: هي ثَمَنُ اَلْجَنَّةِ.

قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ اَلْجَنَّة). رواه أبو داود.

‌رابعاً: وهي نَجَاةٌ مِنْ اَلنَّارِ.

(سَمِعَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤَذِّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، فَقَالَ خَرَجَ مِنْ اَلنَّارِ). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

‌خامساً: وهي أَحْسَنُ اَلْحَسَنَاتِ.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! عَلِّمْنِي عَمَلاً يُقَرِّبُنِي مِنَ اَلْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنْ اَلنَّارِ، قَالَ: إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ مِنَ اَلْحَسَنَاتِ؟ قَالَ هِيَ أَحْسَنُ اَلْحَسَنَات).

‌سادساً: وَهِيَ تُجَدِّدُ مَا دُرِسَ مِنَ اَلْإِيمَانِ فِي اَلْقَلْبِ.

كما في اَلْمُسْنَدِ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ قَالُوا كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

ص: 137

‌سابعاً: وَهِيَ اَلَّتِي لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ فِي اَلْوَزْنِ، فَلَوْ وُزِنَتْ اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ رَجَحَتْ بِهِنَّ.

كَمَا فِي اَلْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهِ إِلَّا اَللَّهُ، فَإِنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ كُنَّ فِي حَلْقَةٍ مُبْهَمَةٍ قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَنَّ مُوسَى عليه السلام قَالَ: يَا رَبُّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، قَالَ: يَا رَبِّ! كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا. قَالَ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ. فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى! لَوْ أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي وَالْأَرَضِينَ اَلسَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه).

‌ثامناً: وَهِيَ أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ.

كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ اَلْمَرْفُوع (أَفْضَلُ اَلذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّه). رواه الترمذي.

‌تاسعاً: ومن أعظم فضائلها:

ما جاء فِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم مَنْ قَالَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ وَلَهُ اَلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ اَلشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِك).

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ اَلنَّبِي صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ قَالَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيل).

‌عاشراً: وَمِنْ فَضَائِلِهَا أَنَّهَا تَفْتَحُ لِقَائِلِهَا أَبْوَابَ اَلْجَنَّةِ اَلثَّمَانِيَةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.

كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَر. قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ اَلْجَنَّةِ") أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

وَفِي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال (مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اَللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ اَلْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ اَلنَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاء).

ص: 138

(الْحَيُّ) الذي له الحياة الكاملة.

ومعناه: أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.

• قال ابن كثير: أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً.

• وقال البغوي: الباقي الدائم على الأبد.

• وقال الطبري: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخره له أمد، إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حياً فلحياته أول محدود، وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بقضاء غايتها.

• وقد ورد اسم الحي لله تعالى في عدة آيات:

قال تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

وقال تعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

وقال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

وقال تعالى (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

• واسم الحي من أعظم الأسماء، لأنه يستلزم جميع صفات الكمال لله تعالى.

• كل ما سوى الله ميت.

قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

وقال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ).

وقد جاء في الحديث (أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنه مفارقه، واعمل

).

ص: 139

• وفي ذكر صفة (الحي) بعد قوله عز وجل (الله لا إله إلا هو) استدلال على إثبات تفرّده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه، وذلك لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حيّ بهذه الحياة إلا الله الأحد فلا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال ابن عاشور: والمقصود إثبات الحياة وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة عنهم كما قال إبراهيم عليه السلام (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

‌أولاً: محبة الله تعالى وإجلاله.

‌ثانياً: التوكل الصادق على الله، كما قال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

ومن أعظم ما يتوكل على الله فيه طلب الهداية والثبات على الإيمان وعدم الزيغ عنه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه (اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تُضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). رواه مسلم

‌ثالثاً: الزهد في الدنيا الفانية وعدم الاغترار بها، لأنه مهما أعطي العبد من العمر فلابد من الموت.

• قال ابن عاشور: وأتبع بالوصفين (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لنفي اللبس عن مسمى هذا الاسم، والإيماء إلى وجه انفراده بالإلهية، وأن غيره لا يستأهلها؛ لأنه غير حي أو غير قيوم، فالأصنام لا حياة لها، وعيسى في اعتقاد النصارى قد أميت، فما هو الآن بقيوم، ولا هو في حال حياته بقيوم على تدبير العالم، وكيف وقد أوذي في الله، وكذب، واختفى من أعدائه.

ص: 140

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)).

[آل عمران: 3 - 4].

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) أي: نزل عليك القرآن يا محمد

• قال أبو حيان: الكتاب هنا: القرآن، باتفاق المفسرين.

(بِالْحَقِّ) أي: لا شك به ولا ريب، بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً.

• الباء للملابسة وللتعدية: أي أن القرآن نفسه نزل حقاً من عند الله لا من عند غيره، وتكون للتعدية: بمعنى أن الكتاب نزل بالحق أي: أن ما اشتمل عليه القرآن فهو حق، فعلى الوجه يكون المراد بقوله: بالحق تأكيد أنه نزل من عند الله، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: أن كل ما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواهي وأخبار فهو حق.

• اختلف العلماء هل (نزّل)(وأنزل) بمعنى واحد أم لا؟

فقيل: هما بمعنى واحد.

وهذا قول أبي حيان وابن عاشور.

ويدل لهذا القول:

أولاً: أنه جاء في وصف القرآن (نزّل)(وأنزل) كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) وقال تعالى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ).

ثانياً: قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) فجمع بين التضعيف وبين قوله (جُمْلَةً وَاحِدَةً).

وقيل: إن المغايرة بين اللفظين في الآية تدل على نزول القرآن منجماً ونزول الكتابين جملة.

وبهذا قال البغوي والزمخشري وابن الجوزي والقرطبي والبيضاوي والشوكاني.

قال ابن الجوزي: وقيل: إنما قال في القرآن (نزّل) بالتشديد، وفي التوراة والإنجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، وأنزل القرآن في مرات كثيرة.

وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)(وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) قلت: لأن القرآن نزل منجماً، ونزل الكتابان جملة.

ص: 141

(مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل.

التصديق لما بين يديه له معنيان:

أولاً: أنه شاهد لها بالصدق، أي شاهد لها بالصدق، وقد شهد القرآن أن التوراة والإنجيل كليهما من عند الله.

ثانياً: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت به.

• قال ابن كثير: فهي تصدّقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها، لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن العظيم عليه.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أنه مصدق للكتب السابقة له، وجعل السابق بين يديه: لأنه يجيء قبله. فكأنه يمشي أمامه.

(وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ) على موسى عليه السلام.

(وَالْإِنْجِيلَ) على عيسى عليه السلام.

(مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل هذا القرآن.

(هُدىً لِلنَّاسِ) أي: في زمانهما.

• اختلف العلماء هل هذا الوصف (هدى للناس) عائد إلى التوراة والإنجيل فقط أم يشمل القرآن؟

فقيل: إنه وصف عائد إلى التوراة والإنجيل فقط.

ورجحه أبو حيان.

وقال: وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا، وإن كان القرآن هدى، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، بل وصف بأنه حق في نفسه، قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.

وقيل: أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى، فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل، والله أعلم بمراده. قاله الرازي.

واختاره السعدي وقال: الظاهر أن هذا راجع لكل ما تقدم، أي: أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن هدى للناس من الضلال، فمن قبل هدى الله فهو المهتدي، ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلالة.

(وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره، ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك.

ص: 142

قيل: المراد بالفرقان هنا القرآن.

• قال ابن عاشور: وسمي به القرآن؛ قال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) والمراد بالفرقان هنا القرآن؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفي وصفه بذلك تفضيل لهديه على هدي التوراة والإنجيل، لأن التفرقة بين الحق والباطل أعظم أحوال الهدي، لما فيها من البرهان، وإزالة الشبهة. وإعادة قوله (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) بعد قوله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) للاهتمام، وليوصل الكلام به في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّه) الآية أي بآياته في القرآن.

• قال الرازي: وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير فلا تكرار.

وقيل: المراد بالفرقان المعجزات واختاره الرازي.

قال رحمه الله: وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين، فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق، وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك، بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية.

وقال ابن عطية: وقال بعض المفسرين: (الفرقان) هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب.

ص: 143

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ) آيات الله تنقسم إلى قسمين:

‌القسم الأول: آيات كونية: (وهي مما نشاهده مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها).

وهي ما نصبه الله - جل وعلا - ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد المستحق للعبادة، كالشمس والسماء والأرض ونحوها، وكل ما في الكون من مخلوقات الله شاهد بكمال الله وقدرته وعزته وأنه المستحق للعبادة.

قال تعالى (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لعلامات واضحة جازمة قاطعة بأن من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده.

• والكفر بالآيات الكونية يكون بأمور: أن يجحد أن الخالق سبحانه خلقها فيدعي أن الذي خلقها، أو أن يعتقد أن له شريكاً في خلقه، أو أن له معيناً في خلقه.

‌القسم الثاني: آيات شرعية (وهي الوحي المنزل).

ومنه قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).

والكفر بآيات الله الشرعية (وهي الوحي المنزل) يكون بعدة أمور:

أولاً: بتكذيبها، ثانياً: أو بجحودها، ثالثاً: أو بالاستكبار والعناد.

(لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) أي: يوم القيامة.

قال أبو حيان: لما قرر تعالى أمر الإلهية، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة، وغيرها، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا، كالقتل، والأسر، والغلبة، وعذاب الآخرة: كالنار.

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) اسم من أسماء الله، وهو متضمن لصفة العزة الكاملة لله، وهي ثلاثة أنواع:

عزة القدْر: بمعنى أن الله ذو قدْر شريف عظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (السيد الله).

وعزة القهر: بمعنى أن الله القاهر لكل شيء، لا يُغلب، كما قال تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ).

وعزة الامتناع: بمعنى أنه يمتنع أن يناله أحد بسوء أو نقص.

قال السعدي: (العزيز) الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته.

ص: 144

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفة هذا الاسم:

أولاً: إن اسمه سبحانه (العزيز) يستلزم توحيده وعبادته وحده لا شريك له، إذ الشركة تنافي كمال العزة.

ثانياً: ومن كمال العزة تبرئته سبحانه من كل سوء وتنزيهه من كل شر ونقص، قال ابن القيم: ومن تمام عزته: براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.

ثالثاً: من كمال عزته سبحانه نفاذ حكمه وأمره في عباده وتصريف قلوبهم على ما يشاء، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا يجعل العبد خائفاً من ربه، لائذاً بجنابه معتصماً به متبرئاً من الحول والقوة ذليلاً حقيراً بين يدي ربه سبحانه.

رابعاً: أن الإيمان بهذا الاسم الكريم يثمر العزة في قلب المؤمن، ومهما ابتغى العبد العزة عند غير الله وفي غير دينه فلن يجدها ولن يجد إلا الذل والضعف والهوان كما قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). والشعور بهذه العزة تثمر التعالي على الباطل وأهله وعدم الاستكانة لهم مهما تسلطوا على العبد.

خامساً: أن الإيمان بهذا الاسم يثمر عدم الركون إلى شيء من هذه الدنيا الفانية وجعلها مصر العزة والقوة، فكم رأينا وسمعنا من كثير من الناس اغتر بعضهم بماله أو جاهه أو ولده أو سلطانه ومنصبه فكانت كلها سبباً في إذلاله وشقائه.

سادساً: من أسباب العزة العفو والتواضع والذلة للمؤمنين، قال تعالى في وصف عباده الذين يحبهم ويحبونه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) وقال صلى الله عليه وسلم (

وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) رواه مسلم.

(ذُو انْتِقَامٍ) ممن كذب بآياته، وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام.

‌الفوائد:

1 -

إثبات ألوهية الله تعالى.

2 -

انفراده بهذه الألوهية.

3 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الحي والقيوم.

4 -

إثبات حياة الله الكاملة.

5 -

أن كل شيء مفتقر إلى الله.

6 -

إثبات علو الله تعالى.

7 -

أن القرآن منزل.

8 -

فضيلة هذا القرآن.

9 -

رحمة الله بعباده حيث كان ينزل الكتب على رسله هدى للناس.

10 -

إثبات الحكمة لله تعالى.

11 -

إثبات اسم من أسماء الله وهو العزيز.

ص: 145

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)).

[آل عمران: 5 - 6].

(إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماوات والأرض، ولا يخفى عليه شيء من ذلك.

• قال القرطبي: هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير، فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلهاً أو ابن إله وهو تَخْفى عليه الأشياء.

• وقال أبو حيان: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) شيء نكرة في سياق النفي، فتعم، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء، إذ هما أعظم ما نشاهده.

• وقال السعدي: وهذا فيه تقرير إحاطة علمه بالمعلومات كلها، جليها وخفيها، ظاهرها وباطنها، ومن جملة ذلك الأجنة في البطون التي لا يدركها بصر المخلوقين، ولا ينالها علمهم، وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير، ويقدرها بكل تقدير.

• قوله تعالى: (لا يخفى عليه شيء) تحذير من مخالفته سراً وجهراً.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) أي: يخلقكم كما يشاء في الأرحام من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد.

• قال الطبري:

فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر، يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاف ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين.

• وقال القرطبي: وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نَجْران، وأنّ عيسى من المَصوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل.

• وقال ابن كثير: وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله تعالى صوره في الرحم وخلقه، كما يشاء، فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى - عليهم لعائن الله- وقد تقلب في الأحشاء، وتنقل من حال إلى حال، كما قال تعالى (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

ص: 146

(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: لا إله بحق إلا هو سبحانه، فهو الخالق، فهو المستحق للإلهية لا شريك له.

(الْعَزِيزُ) الذي قهر الخلائق بقوته، واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم.

(الْحَكِيمُ) قال ابن جرير: هو الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.

وقال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله.

فالحكيم اسم من أسماء الله متضمن لصفة الحكمة البالغة، فأوامره وأحكامه وأفعاله كلها لحكمة.

فهو سبحانه حكيم في صنعه، وحكيم في شرعه، فجميع مصنوعاته كلها محكمة، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وأما في الشرع فيقول سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فلا يمكن أن يوجد تناقض في القرآن أبداً.

قال بعض العلماء: الحكمة تكون في صورة الشيء: أي أن خلق الإنسان على هذه الصورة لحكمة، وكذلك خلق الحيوان على هذه الصورة لحكمة.

وتكون في غايته: أي أن الغاية من خلق الإنسان لحكمة، وكذلك الحيوانات، وكذلك جميع المخلوقات، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

• ونستفيد من معرفتنا أن الله حكيم في كل أفعاله: اقتناع الإنسان بما يجري عليه وما يوجبه الله عليه، لأن ما يجريه الله عز وجل من الأحكام مقرون بالحكمة، فإذا علمت هذا يقينياً اقتنعت سواء كان هذا من الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية، حتى المصائب التي تنال العباد لاشك أن لها حكمة.

ص: 147

قال الشيخ ابن عثيمين: العزيز الحكيم، فإن الله تعالى يجمع بينهما في القرآن كثيرًا، فيكون كل منهما دالا على الكمال الخاص الذي يقتضيه، وهو العزة في العزيز، والحكم والحكمة في الحكيم. والجمع بينهما دال على كمال آخر، وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلما وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسئ التصرف. وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونان بالعز الكامل، بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنهما يعتريهما الذل.

‌الفوائد:

1 -

التحذير من مخالفة الله، لأن الله يعلم بمخالفتك إياه.

2 -

أن الله يعلم الكليان والجزئيات.

3 -

بيان قدرة الله، حيث يصور المخلوقات في الأرحام.

4 -

أن صور المخلوقات يكون تصويرها بأمر الله وإذنه.

5 -

إثبات المشيئة لله تعالى.

6 -

انفراد الله بالألوهية.

ص: 148

(هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7)).

[آل عمران: 7].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) أي: أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم.

(مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس.

(هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.

• قال الطبري:

ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء الآيات المحكمات، بأنهن (هُنّ أمّ الكتاب) يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم، وإنما سماهن (أمّ الكتاب) لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء (أمًّا) له، فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر (أمّهم) والمدبر معظم أمر القرية والبلدة:"أمها".

(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) أي: فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم.

• قال السعدي: قوله تعالى (منه آيات محكمات) أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال (هن أم الكتاب) أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، (و) منه آيات (أخر متشابهات) أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضاً ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة.

• ثم ذكر تعالى أقسام الناس بالنسبة للمحكم والمتشابه فقال:

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل، وفسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت

قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد.

ص: 149

واختلف العلماء في المراد بهم هنا على أقوال: أصحها أنها تعم كل من زاغ عن الحق ومال عنه.

ورجحه الطبري، وابن عطية، والرازي، وأبو حيان، والشوكاني، والقاسمي، وابن عاشور، والسعدي.

• قال الطبري: وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنيّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلاً منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم).

• وقال ابن عطية: والإشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ.

• وقال الرازي: وقال المحققون إن هذا يعم جميع المبطلين وكل من احتج لباطله بالمتشابه لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ

• وقال الشوكاني: وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق.

(فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم.

• قال الشوكاني: أي يتعلقون بالمتشابه من الكتاب، فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء.

ص: 150

• قال السعدي: (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه.

(ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) أي: لإضلال أتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ) وبقوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله.

(وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) أي: تحريفه على ما يريدون.

• نستفيد أن من علامة زيغ القلب اتباع المتشابه.

• يستطيع متَّبع المتشابه أن يستدل على جواز الكفر بقول الله (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) فيزعم أن الله تعالى خيَّر الناس بين الإيمان والكفر، والتخيير بينهما يقتضي استواءهما، ويغضُّ الطرف عن الآيات الكثيرة التي تتوعد الكافر بالنار، ومنها آخر هذه الآية التي يُستدَل بها على فساد قوله؛ فهي في سياق التهديد والوعيد وليس فيها تخيير (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) وقد استدل بهذه الآية على الحرية الدينية كثير ممن فتنوا بالغرب وحريته.

ويستطيع متَّبع المتشابهات أن يحكم بالجنة لأصحاب الديانات الأخرى ممن كفروا بالإسلام مستدلاً بقول الله تعالى (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) متعامياً عن

معنى الآية وهو (من آمن منهم برسوله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ومات على إيمانه)، ويترك هذا الملبِّس مئات الآيات والأحاديث التي تحكم بالنار لكل من لم يتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وكثير من الليبراليين يستدل بها على صحة دين الكفار!.

ص: 151

• ويستطيع النصراني أن يستدل على عقيدة التثليث، وعلى بنوَّة المسيح لله بالقرآن الكريم؛ مع أنها شرك أكبر، وقَدْح في الله تعالى؛ وذلك حين يأتي النصراني إلى الآيات التي فيها أن عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويخبر ببعض الغيب فيستدل بها على ألوهية عيسى عليه السلام باعتبار أن هذه الأفعال التي قام بها عيسى من خصائص الله تعالى ويعمى عن الآيات التي تثبت بشريته؛ وأنه مخلوق لله وأنه تعالى أجرى على يديه هذه الخصائص معجزة تثبت صدقه عليه السلام كما قال تعالى (إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).

ثم يأتي إلى الآيات التي تثبت أن عيسى ولد بلا أب فيستدل بها على بنوَّته لله تعالى ويعمى عن الآيات الكثيرة التي تنفي الولد عن الله تعالى والآيات التي تذكر قصة ولادة عيسى عليه السلام.

ثم يأتي إلى الآيات القرآنية التي فيها كلام الله سبحانه وتعالى عن نفسه بصيغ جمع العظمة نحو قوله تعالى (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فيَدَّعي أن الله سبحانه وتعالى متعدد وليس واحداً، ويعمى عن الآيات التي فيها إثبات وحدانية الله تعالى وبطلان عقيدة التثليث والآلهة المتعددة نحو قول الله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ).

وقد روى أئمة التفسير وأهل السير أن نصارى نجران احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحجج زاعمين ألوهية عيسى وبنوته لله سبحانه وتعالى فأنزل سبحانه صدر سورة آل عمران في دحض حججهم.

وإذا كان بإمكان متَّبع المتشابه أن يصحح العقائد الزائفة، ويساوي الكفر بالإيمان، ويحكم لأصناف الكفار بالجنة، ويستدل لما يقول بنصوص ينتقيها من القرآن، وُيعرِض عن غيرها على طريقة أهل الكتاب في إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعضه؛ فإنه يستطيع من باب أَوْلى أن يبيح ما دون الشرك والكفر من المحرمات: كالاختلاط، والخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة بلا محرم، وغير ذلك من المحرمات، ويستدل لما يريد بنصوص مشتبهة ويترك المحكم الواضح.

ص: 152

وإذا كان متَّبع المتشابه يستطيع أن يبطل التوحيد بنصوص ينتقيها من القرآن فلن يعجز عن إبطال ما هو دون التوحيد من الواجبات: كصلاة الجماعة، وحجاب المرأة، ووجوب المحرم لها، وغير ذلك، وسيجد من النصوص ما يؤيد باطله إذا كانت العملية عملية انتقاء واختيار.

• وفي وصية عظيمة نافعة في هذا المجال ينقلها ابن القيم عن شيخه ابن تيمية - رحمهما الله تعالى - فيقول: (وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلتُ أُورِد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته؛ وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات أو كما قال، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك).

وقد تضافر المنقول عن السلف الصالح في التحذير ممن فتنوا في دينهم باتباع المتشابه وترك المحكم.

فقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: لا تجالسنَّ مفتوناً، فإنه لا تخطئك منه إحدى خلتين: إما أنَّ يفتنك فتتبعه، وأما أنَّ يؤذيك قبل أنَّ تفارقه.

وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أصحاب الأهواء؛ فإني لا آمن أنَّ يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم ما تعرفون.

وقال رجل للحسن رحمه الله تعالى: تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني فإن كنت أضللت دينك فالتمسه.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.

(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ذهب أكثر السلف إلى الوقف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ). وتكون الواو في (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ

) للاستئناف، ويكون المعنى: أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، أما الراسخون في العلم

الذين لم يعلموا تأويله يقولون (آمَنَّا بِهِ

) وليس في كلام ربنا تناقض ولا تضارب.

ص: 153

وممن رجح هذا القول الشنقيطي، فقال رحمه الله: قوله تعالى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله) يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يؤول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرناها فيه أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن، يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد، لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يؤول إليها كقوله: (هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ) وقوله (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية. وقوله (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) وقوله (ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) إلى غير ذلك من الآيات.

ثم قال رحمه الله: ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئاً وأثبته لنفسه، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك:

كقوله (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله).

وقوله (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ).

وقوله (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ).

فالمطابق لذلك أن يكون قوله (ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ) معناه: أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال: لو كانت الواو في قوله (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله (كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا) فائدة والقول بأن الوقف تام على قوله (إِلاَّ اللهُ) وأن قوله (والراسخون) ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا.

وذهب بعض العلماء إلى الوصل ولم يقف (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

• قال الشنقيطي: وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى مَدَحَهُمْ بِالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ يَمْدَحُهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ جُهَّالٌ.

ص: 154

• قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ يَفْهَمُ كَلَامَ الْعَرَبِ، وَفِي أَيِّ شَيْءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: يُجَابُ عَنْ كَلَامِ شَيْخِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ رُسُوخَهُمْ فِي الْعِلْمِ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَهُمْ يَنْتَهُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَيَقُولُونَ فِيمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى عِلْمِ حَقِيقَتِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا بِخِلَافِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ فَإِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «الْكَشَّافِ» . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ.

• وقال بعض العلماء هذا يرجع إلى تفسير التأويل، فإن قلنا إن المراد به التفسير فالوصل أولى، لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن المتشابه، ولا يخفى عليهم لرسوخهم في العلم.

وأما إذا جعلنا التأويل بمعنى العاقبة والغاية المجهولة، فالوقف أولى (إلا الله) لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمره مجهول لكل الخلق.

والتأويل يطلق بمعنى التفسير ويطلق بمعنى العاقبة المجهولة.

o فمن إطلاقه بمعنى التفسير:

قوله تعالى (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي: بتفسير هذه الرؤية.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) أي: التفسير.

وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كما يقول ابن جرير وأمثاله - من المصنفين في التفسير - واختلف علماء التأويل ومجاهد

إمام المفسرين.

ص: 155

قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وعلى تفسيره يعتمد الشافعي وأحمد والبخاري وغيرهما.

o ومن إطلاقه بمعنى العاقبة المجهولة:

قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) يعني: عاقبته وهو ما يؤول إليه (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي: تأتي عاقبته التي وعدوا بها.

• قال الشوكاني: ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان:

أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يئول أمره إليه.

ومنه قوله (هذا تَأْوِيلُ رؤياي).

وقوله (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد.

فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويكون قوله (والرسخون فِي العلم) مبتدأ، و (يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ) خبره.

وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو: التفسير، والبيان، والتعبير عن الشيء.

كقوله (نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) أي بتفسيره فالوقف على (والراسخون فِي العلم) لأنهم يعلمون، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا، فيكون (يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ) حالاً منهم.

(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) أي: الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا).

• قال السعدي: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض، وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك.

ص: 156

(وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة.

الألباب جمع لب وهو العقل.

‌الفوائد:

1 -

أن القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه.

فإن قيل: ما الجواب عن قوله تعالى (الر تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم) وقوله (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم؟

الجواب: المراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم.

وأما قوله تعالى (كتابا متشابها مَّثَانِيَ) فالمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً، وإليه الإشارة بقوله تعالى (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً) أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة.

2 -

أن القرآن كلام الله.

3 -

إثبات علو الله تعالى لقوله (أنزل) والإنزال لا يكون إلا من علو.

4 -

أن هذا القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه.

5 -

وجوب الرجوع إلى المحكم إزاء المتشابه لقوله (هن أم الكتاب) أي: مرجعه.

6 -

حكمة الله في جعل القرآن ينقسم إلى قسمين، امتحاناً وابتلاء.

7 -

أن من علامة زيغ القلب اتباع المتشابه.

8 -

أن هؤلاء الذين يتبعون المتشابه تارة يبتغون الفتنة وهي صد الناس عن دينهم، وتارة يريدون بذلك أن يحرفوه إلى المعنى الذي يريدون.

9 -

فضيلة الرسوخ في العلم.

10 -

أن الراسخين في العلم يعلمون أن الذي يكون من عند الله لا يكون فيه تناقض.

11 -

أنه لا يتذكر بهذا القرآن إلا أصحاب العقول.

ص: 157

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)).

[آل عمران: 8 - 9].

(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) هذا من جملة كلام الراسخين في العلم، أنهم دعوا ربهم قائلين (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم.

عن أنس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلت يا رسول الله آمنا وبك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبهما كما يشاء) رواه الترمذي.

وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ). رواه مسلم

• قال ابن القيم: حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء.

أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك.

فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأساً ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك.

قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.

والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته.

فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك.

قال تعالى (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ).

فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة.

وفي الحديث (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) متفق عليه.

وكان قسم النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ومقلب القلوب.

• وتتفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها.

• وينبغي التحذير من التساهل في أمر القلب.

قال صلى الله عليه وسلم: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) رواه مسلم.

• ولا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم.

ص: 158

قال تعالى (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).

القلب السليم: هو السالم من الشرك والبدعة والآفات والمكروهات، وليس فيه إلا محبة الله وخشيته.

• وينبغي الدعاء بسلامة القلب.

فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أسألك قلباً سليماً .. ) رواه أحمد.

• وأهم سبب لحياة القلب الاستجابة لله ولرسوله.

قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه).

(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي: من عندك.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي: كثير العطاء.

(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي: يقولون في دعائهم: إنك - يا ربنا - ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) استحضروا عند طلب الرحمة أحْوجَ ما يكونون إليها، وهو يومُ تكونُ الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءَهم على سبيل الإيجاز، كأنّهم قالوا: وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصّة يوم تجمّع الناس كقول إبراهيم (ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) على ما في تذكّر يوم الجمع من المناسبة بعد ذكر أحوال الغواة والمهتدين، والعلماءِ الراسخين.

ص: 159

• قال السعدي: وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد:

إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه.

الثانية: الرسوخ في العلم، وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالماً محققاً، وعارفا مدققاً، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علماً وحالاً وعملاً.

الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله (يقولون آمنا به كل من عند ربنا).

الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون المنحرفون.

الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا).

السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير، واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب.

السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل الرادع عن الزلل.

(إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) فالله لا يخلف الميعاد لكمال صدقه وكمال قدرته، لأن الذي يخلف الميعاد إما أن يكون لكذب الواعد، أو لعجزه.

‌الفوائد:

1 -

مشروعية الدعاء بهذا الدعاء.

2 -

مشروعية تصدير الدعاء باسم الرب.

3 -

سؤال الإنسان ربه ألا يزيغ قلبه.

4 -

أن في صلاح القلب صلاح لجميع الجسد.

5 -

التوسل إلى الله بنعمه.

6 -

التوسل بأسماء الله.

7 -

أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.

8 -

تمام قدرة الله بجمع الناس كلهم في هذا اليوم.

9 -

انتفاء صفة خلف الوعد عن الله تعالى.

ص: 160

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)).

[آل عمران: 10 - 11].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه.

• الكفر لغة الستر والتغطية، ويسمى الليل (كافراً) لأنه يغطي كل شيء، وكل شيء غطى شيء فقد كفره، والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب، وشرعاً: ضد الإيمان، فهو عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي: وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، بل كما قال تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) وقال تعالى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

• قال الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً، وذكر أنهم وقود النار أي: حطبها الذي تتقد فيه،

تكذيباً لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم، وأنه أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضاً فكذبهم في آيات كثيرة:

فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك:

قوله تعالى (وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

وقوله (أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً). يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا.

وقوله (وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى) أي: بدليل ما أعطاني في الدنيا.

وقوله (وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً) قياساً منه للآخرة على الدنيا.

ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا (إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ

).

وقوله (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ).

وقوله (وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى).

ص: 161

وقوله (وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).

وقوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).

وصرح في موضع آخر، أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله (إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُون).

• قال الرازي: اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به، ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة.

أما الأول: فهو المراد بقوله (لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلَا أولادهم) وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد، فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب، فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا، لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم، فما عداه بالتعذر أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وقوله (المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا) وقوله (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً) وقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ).

وأما القسم الثاني: من أسباب كمال العذاب، فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، وإليه الإشارة بقوله تعالى (وأولئك هُمْ وَقُودُ النار) وهذا هو النهاية في شر العذاب، فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس، والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار، وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله: وردت وروداً.

• وقال السمرقندي: إنما ذكر الأموال والأولاد، لأن أكثر الناس يدخلون النار، لأجل الأموال والأولاد، فأخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم في الآخرة، لكيلا يفني الناس أعمارهم، لأجل المال والولد، وإنما ذكر الله تعالى الكفار، لكي يعتبر بذلك المؤمنون.

• وقال ابن عاشور: وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل، من عشيرته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤُها.

(وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) أي: حطبها الذي تسجر به وتوقد به، كقوله (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ).

ص: 162

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: كحال آل فرعون.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين بالرسل.

أي: دأب هؤلاء الكفرة وشأنهم وديدنهم مثل دأب آل فرعون في تكذيب الرسل، وكدأب الأمم الماضية كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب.

• قال ابن كثير: والمعنى في الآية: أن الكافرين لا تغني عنهم الأولاد ولا الأموال، بل يهلكون ويعذبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه.

(كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) آيات الله: ما تتلوه عليهم الرسل من آياته الشرعية الدينية، وما يعاينونه من المعجزات من آياته الكونية القدرية.

(فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي: أهلكهم وعاقبهم العقاب الشديد بسبب ذنوبهم.

والعرب تقول (أخذه الله) إذا عاقبه عقاباً شديداً أليماً.

وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

• قوله تعالى (بذنوبهم) الذنب: هو الجريمة التي يستحق صاحبها النكال.

• فالمعاصي سبب لنزول المصائب وزوال النعم.

قال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

وقال تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).

وقال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً).

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وقال تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).

وقال تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).

وقال تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

ص: 163

(وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: شديد الأخذ أليم العذاب، لا يمتنع منه أحد، ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد، الذي قد غلب كل شيء وذل له كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه.

• والعقاب: النكال الشديد لأجل الذنب، قال بعض العلماء: سمي عقاباً لأنه يأتي عقب الذنب من أجله.

‌الفوائد:

1 -

أن الكفار لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً.

2 -

أن المؤمنين ينتفعون بأموالهم وأولادهم.

3 -

تمام قدرة الله تعالى.

4 -

إثبات النار.

5 -

أن الكفار في النار.

6 -

أن الذنوب سبب للعقوبات.

7 -

أن الله لا يظلم أحداً.

8 -

أن الله شديد العقاب.

ص: 164

(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)).

[آل عمران: 12].

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: قل يا محمد لليهود.

(سَتُغْلَبُونَ) أي: في الدنيا.

قيل في سبب نزولها:

أنه لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر وقدم المدينة، جمع يهود في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً، فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال، لو قاتلتنا لعرفت، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: إن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر، قالوا: والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة، ونعته وأنه لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا: ليس هذا هو ذاك، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: إن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم.

قال أبو حيان: والظاهر أن: الذين كفروا يعم الفريقين المشركين واليهود، وكل قد غلب بالسيف، والجزية، والذلة، وظهور الدلائل والحجج.

(وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ) أي: وتجمعون وتساقون إلى جهنم.

فيكون هؤلاء الكفار قد خسروا الدنيا بالغلبة والذل، وخسروا الآخرة بأنهم يحشرون إلى جهنم، وهذا كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي: وبئس المهاد والفراش الذي تمتهدونه نار جهنم.

كما قال تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

ص: 165

‌الفوائد:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد توجه إليه الأوامر.

2 -

أهمية هذا الخبر الذي أمر الله نبيه أن يبلغه للكافرين.

3 -

تقوية المؤمنين.

4 -

إرعاب الكفار وتحذيرهم.

5 -

أن الله عز وجل يجمع للكفار بين العقوبتين: عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.

6 -

إثبات عذاب النار.

7 -

ذم النار.

ص: 166

(قدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (13)).

[آل عمران: 13].

(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) أي: قد كان لكم يا معشر يهود عظة وعبرة في فئتين التقتا وذلك يوم بدر.

وهما: الفئة المسلمة: وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والفئة الكافرة: وهم المشركون.

• قال القرطبي: لا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بَدْر.

• وقال الرازي: وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة.

• وقال القرطبي: واختلف من المخاطب بها؛ فقيل: يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم.

وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدِموا على مثليْهم وأمثالهم كما قد وقع.

• قوله تعالى (

لكم آية) قال الرازي: واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً:

الأول: أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور، منها: قلة العدد، ومنها: أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا، ومنها: قلة السلاح والفرس، ومنها: أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها: كثرة العدد، ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب، ومنها: كثرة سلاحهم وخيلهم، ومنها: أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة، والمقاتلة في الأزمنة الماضية، وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة، ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً.

ص: 167

والوجه الثاني: في كون هذه الواقعة آية، أنه عليه السلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله (وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان، وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.

• وقال الجصاص: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ لِلْكَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَجْرَى الْعَادَةِ؛ لِمَا أَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَعَدَهُمْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ اللِّقَاءِ بِالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ وَقَالَ (هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ) وَكَانَ كَمَا وَعَدَ اللَّهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

• وقال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا) ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي: علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به.

وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بينة أي لا لبس في الحق معها وذلك في قوله (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ).

وصرح أيضاً بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل وهو قوله (وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان).

(فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهم المسلمون.

(وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) وهم مشركو قريش يوم بدر.

(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) اختلف العلماء في هذا على قولين:

القول الأول: أي يرى الكافرون المؤمنين أكثر منهم مرتين، جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم.

وهذا اختيار ابن جرير.

القول الثاني: أي ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم، أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم.

• قال الرازي: قوله تعالى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) يحتمل:

الأول: أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين.

والاحتمال الثاني: أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم.

فإن قيل: هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال (وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).

فالجواب: أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.

ص: 168

والاحتمال الثالث: أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى (إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ).

فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم؟.

الجواب: أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم، وذلك لأنه تعالى قال (إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ) فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم، وإزالة للخوف عن صدورهم.

والاحتمال الرابع: أن الرائين هم المسلمون، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين

(وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ) أي: يقوي ويعز.

(بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ) على حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى.

• قال الرازي: والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: التكثير والتقليل، وغلبة القليل، مع عدم العدة، على التكثير الشاكي السلاح.

(لَعِبْرَةً) لآية وعظة.

(لِأُولِي الْأَبْصَارِ) لذوي العقول والبصائر.

• قال الماوردي: قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ) فيه وجهان:

أحدهما: أن في نصرة الله لرسوله يوم بدر مع قلة أصحابه عبرة لذوي البصائر والعقول.

والثاني: أن فيما أبصره المشركون من كثرة المسلمين مع قلتهم عبرة لذوي الأعين والبصائر.

‌الفوائد:

1 -

أن النصر ليس بكثرة العدد ولا بقوة العُدد.

2 -

أن القتال لا يكون سبباً للنصر إلا إذا كان في سبيل الله.

3 -

أنه لا ألفة بين المؤمنين والكافرين.

4 -

إثبات أفعال الله.

5 -

إثبات المشيئة لله.

6 -

أنه لا يعتبر بالأمور إلا أولو البصائر.

7 -

أنك إذا وجدت من نفسك عدم اعتبار واتعاظ بما يجري، فاعلم أنك ضعيف البصيرة.

8 -

الثناء على أهل البصيرة.

ص: 169

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14))

[آل عمران: 14].

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ

) كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار.

اختلف العلماء من المزين، فقيل: هو الله تعالى.

كما قال تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَهَا) رواه أبو داود والترمذي.

ووجه تزيين الله لها، ابتلاء واختباراً.

وقيل: المزين هو الشيطان.

• قال القرطبي: تزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجِبِلّة على الميل إلى هذه الأشياء، وتزيين الشيطان إنما هو بالوَسْوَسة والخديعة وتحسين أخْذِها من غير وجوهها.

ص: 170

والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهِم.

• وقال في التسهيل: ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا، وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة.

• قال ابن عاشور: والتزيين تصيير الشيء زينا أي حسناً، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين، وإزالة ما يعتريه من القبح أو التشويه، ولذلك سمي الحلاق مزيناً.

• وقال امرؤ القيس: الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

(حُبُّ الشَّهَوَاتِ) الشهوة: ما تدعو النفس إليه وتشتهيه.

• قال الشوكاني: والمراد بالناس: الجنس. والشهوات جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى ما تريده. والمراد هنا: المشتهيات عبر عنها بالشهوات، مبالغة في كونها مرغوباً فيها، أو تحقيراً لها؛ لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية.

• قال الثعالبي: وفي ضمن ذلك توبيخٌ، والشهواتُ ذميمةٌ، واتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم (حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ) فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا، فمَنْ واقعها، خلص إِلى النَّار.

• قال صاحب الكشاف: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان:

إحداهما: أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها.

والثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.

• قال القرطبي: واتباع الشهوات مردٍ وطاعتها مهلكة، وفي صحيح مسلم (حُفِّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات).

وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها.

وأن النار لا ينْجَى منها إلا بترك الشهوات وفِطام النفس عنها.

ص: 171

(مِنَ النِّسَاءِ) فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد.

وفتنة النساء من أعظم الفتن، وخاصة في هذه الأزمنة التي انتشرت فيها التبرج والاختلاط، وانفتح الإعلام، وأصبحت فتنة المرأة تعرض ليلاً نهاراً.

كما ثبت في الصحيح أنه، عليه السلام قال (مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء) متفق عليه

وقال صلى الله عليه وسلم (

فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) متفق عليه.

ويكفي في فتنتها قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ المَرأَةَ تُقبِلُ فِي صُورَةِ شَيطَانٍ، وَتُدبِرُ فِي صُورَةِ شَيطَان).

قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعنَاهُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الهَوَى وَالدُّعَاءِ إِلَى الفِتنَةِ بِهَا، لِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الرِّجَالِ مِنَ المَيلِ إِلَى النِّسَاءِ وَالِالتِذَاذِ بِنَظَرِهِنَّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِن، فهِيَ شَبِيهَةٌ بِالشَّيطَانِ فِي دُعَائِهِ إِلَى الشَّرِّ بِوَسوَسَتِهِ وَتَزيِينهِ لَه.

قال سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: مَا يَئِسَ الشَّيطَانُ مِنَ شَيءٍ إلا أتَاهُ مِن قِبَلِ النِّسَاءِ.

وقال أبو صَالحٍ السَّمَّانُ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: بَلغَنِي أنَّ أكثرَ ذُنُوبِ أهِلِ النَّارِ فِي النِّساء.

• قال الرازي: قوله تعالى (من النساء) وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى (خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة.

ص: 172

• وقال القرطبي: قوله تعالى (مِنَ النساء) بدأ بهِنّ لكثرة تشوّف النفوس إليهن؛ لأنهنّ حبائل الشيطان وفتنة الرجال.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تركت بعدي فِتنةً أشدَّ على الرجال من النساء) أخرجه البخاريّ ومسلم.

ففتنة النساء أشدّ من جميع الأشياء.

ويقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة.

فأمّا اللتان في النساء فإحداهما: أن تؤدِّي إلى قطع الرِحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأُمَّهَات والأخوات.

والثانية: يُبْتلى بجمع المال من الحلال والحرام.

وأمّا البنون فإن الفتنة فيهم واحدة، وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم.

• وقد حذر الإسلام من الفتنة بالنساء.

فالشهوة أمرها خطير وشرها جسيم، فكم من عابد لله حولته الشهوة إلى فاسق، وكم من عالم حولته إلى جاهل، وكم أخرجت أناساً من الدين كانوا في نظر من يعرفهم أبعد الناس عن الضلال والانحراف، ولذا قال أحد السلف: لم يكن كفر من مضى إلا من قِبَل النساء وهو كائن كفر من بقي من قبل النساء.

وقد أورد القرطبي مجموعة من القصص والأمثلة التي تبين مدى خطورة هذا الداء، وأنه سبب قوي للانتكاس والردة.

فقد ذكر أن رجلاً ملتزماً مسجداً للأذان والصلاة، وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة، وكان مثالاً لأهل الخير والصلاح، وكان يرقى كل يوم المنارة للأذان، وفي أحد الأيام نظر إلى بيت نصراني ذمي تحت منارة المسجد فرأى بنت صاحب الدار فافتتن بها وترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار، فقالت له: ماذا تريد؟ قال: أريدك أنتِ، قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبتني لبي وأخذت بمجامع قلبي، قالت: لا أجيبك إلى ريبة، قال: أتزوجك، قالت له: أنت مسلم وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك، قال لها: أتنصر، قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر ليتزوجها، وأقام معها في الدار، وقبل الزواج رقى إلى سطح الدار فسقط منه فمات، فلا ظفر بها، ولا ظفر بدينه، فنعوذ بالله من سوء الخاتمة.

وذلك مما يؤكد أن الفتنة بالنساء في الحرام موجب للانتكاسة عن الإيمان والاستقامة.

• قصة ذكرها ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين فقال: وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ

نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وقد صار لي فيهم مال وولد " [البداية والنهاية 11/ 64]

ص: 173

• وقال ابن الجوزي: بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة. [ذم الهوى 409]

قال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.

وروي عن ابن عباس أنه قرأ (وخلق الإنسان ضعيفاً) أي وخلق الله الإنسان ضعيفاً، أي: لا يصبر عن النساء.

وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغداً مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغداً لغيرك.

ويكفي في هذا قول الله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة).

• ومن أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، والمولع بشهوة الجنس بدون ضابط، أو رادع؛ لا يقف ولا يرعوي، يقول الشيخ علي الطنطاوي: لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل، وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا .. أكتبها بالقلم العريض .. ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً.

• وفي الأدب الكبير، لابن المقفع: اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه.

ص: 174

• وفي الختام: لا يأمن أحد على نفسه من الانتكاس بعد الهداية ولهذا نسأل الله دائما الثبات حينما نقول: يا مثبت القلوب ثبت قلبنا على دينك

اللهم آمين.

• قال ابن القيم: لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة، إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله: أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً. [روضة المحبين 11].

(وَالْبَنِينَ) ليفتخر بهم، وللتكثر بهم، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم، والتفاخر والزينة.

وفي الحديث (الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة) أي: يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة

خوف فقره، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته، وقد قال تعالى (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)، وقيل لبعض النساك: ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك؟ قال: سمعاً لأمر الله، ولا مرحباً بمن عاش فتنني، وإن مات أحزنني. يريد قوله تعالى (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

ص: 175

قال تعالى (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد: أن منهم من هو عدو الزوج والوالد، بمعنى: أنه يلتهي به عن العمل الصالح كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

• قال مجاهد: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع مع حبه إلا أن يطيعه.

• قال ابن القيم: وليس المراد من هذه العداوة ما يفهمه كثير من الناس أنها عداوة البغضاء والمحادة، بل هي عداوة المحبة الصادقة للآباء عن الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصدقة وغير ذلك من أمور الدين وأعمال البر

وما أكثر ما فات العبد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده.

• بعض الأبناء وبعض الأزواج أعداء لوالديهم، فيحملونهم على معصية الله، ويثبطونهم عن طاعة الله، فقد يتساهل الأزواج والوالدان في ترك بعض الواجبات كترك الهجرة والجهاد وغير ذلك، أو في ارتكاب بعض المنهيات مجاراة لأزواجهم وأولادهم ونزولاً عند رغباتهم فتحملهم العاطفة أو طلب رضاهم على تقديم محبتهم ورضاهم على محبة الله ورضاه.

• والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد.

فوق ل الله تعالى (عَدُوّاً لَّكُمْ) العدو من يريد لك الشر أو يحملك عليه، أو يكون سبباً في منع الخير عنك عن قصد منه أو عن غير قصد (فَاحْذَرُوهُمْ) على دينكم، أن يضروكم في دينكم، أو توافقوهم على رغباتهم فيما لا يرضي الله، والحذر: الاحتراز والحيطة من الشيء المخيف

• قال الشوكاني: وخص البنين دون البنات؛ لعدم الاطراد في محبتهن.

(وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أي: الأموال الكثيرة المكدّسة من الذهب والفضة، وإنما كان المال محبوباً لأنه يحصل به غالباً الشهوات، والمرء يرتكب الأخطار في تحصيله.

• القناطير: جمع قنطار وهو العُقدة الكثيرة من المال، أو المال الكثير الذي لا يحصى، والمقنطرة: المضعّفة، وهو للتأكيد كقولك ألوف مؤلفة وأضعاف مضاعفة، قاله الطبري.

ورجح القول بأن (المقنطرة) المضعفة: الثعلبي، والواحدي، وابن عاشور.

ص: 176

• وقد اختلف العلماء في مقدار القنطار:

فقيل: القنطار ألف ومائتا أوقية، وقيل: القنطار ألف ومائتا دينار، وقيل: القنطار ثمانون ألفاً.

وقال الطبري: فالصواب أن يقال: هو المال الكثير كما قال الربيع بن أنس.

• قال ابن الجوزي: وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قاله ابن الأنباري

• والمال فتنة عظيمة، لأنه يحمل صاحبه على الإعراض عن طريق الله تعالى، ويحمله أيضاً على الطغيان والبغي.

والمال - أيضاً - فتنة لأنه يشغل القلب ويلهي عن الطاعة وينسي الآخرة.

قال تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).

وقال تعالى (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ).

وقال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

وقصة الثلاثة - الأقرع والأبرص والأعمى - الذين ابتلاهم الله، فجحد اثنان منهما.

وقال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقال تعالى (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ. إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وقال تعالى (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي بالمال) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (يهرم ابن آدم ويهرم معه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتن، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب) رواه أحمد

ص: 177

وقال صلى الله عليه وسلم (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ المال من حلال أو حرام) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)

قال ابن رجب: هذا مثل عظيم ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، قد غاب عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم.

فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا.

• الحرص على المال على نوعين:

الأول: شدة محبة المال مع شدة طلبه من جوه المباحة المبالغة في طلبه والجد في تحصيله.

ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم، فضيّعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم.

فالحريص يضيع زمانه الشريف يخاطر بنفسه لتي لا قيمة لها في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.

قيل لبعض الحكماء: إن فلاناً جمع مالاً، فقال: فهل جمع أياماً ينفقه فيها؟ قيل: لا. قال: ما جمع شيئاً

كان عبد الأحد بن زيد يحلف بالله، لحرص المرء على الدنيا أخوف عليه عندي من أعدى أعدائه.

وفي بعض الآثار الإسرائيلية: الرزق مقسوم، والحريص محروم، ابنَ آدم، إذا أفنيتَ عمرَك في طلب الدنيا، فمتى تطلب الآخرة.

إذا كنت في الدنيا عن الخيرِ عاجزاً فما أنت في يومِ القيامة صانعُ.

قال بعض السلف: إذا كان القدر حقاً فالحرصُ باطلٌ، وإذا كان الغدر في الناس طباعاً فالثقة بكل أحدٍ عجزٌ، وإذا كان الموت لكلِ أحد راصداً فالطمأنينة إلى الدنيا حمق.

كتب بعض الحكماء إلى أخٍ له كان حريصاً على الدنيا: أما بعد، فإنك أصبحت حريصاً على الدنيا، تخدمها وهي تزجرُك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصاً محروماً، ولا زاهداً مرزوقاً، ولا ميتاً عن كثير، ولا مبلغاً من الدنيا باليسير.

ص: 178

قال بعض الحكماء: أطول الناس هماً الحسود، وأهنؤهم عيشاً القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط.

الثاني: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة.

قال تعالى (ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الشح، فإن الشح أهك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا).

وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا

محارمهم).

قال طائفة من العلماء: الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها ويمنع حوقها

والبخل: هو إمساك الإنسان ما في يده.

قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول. (تفسير القاسمي).

(وَالْخَيْلِ) سميت بذلك لأن صاحبها يختال إذا ركبها.

ص: 179

(الْمُسَوَّمَةِ) أي: المعلّمة، كما قال ابن عباس.

• وفي المسومة ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها الراعية.

واختاره السمرقندي، وابن جزي، وابن عاشور.

قال ابن قتيبة: يقال: سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، وأسمتها وهي مسامة، وسومتها فهي مسوَّمة: إذا رعيتها.

والثاني: أنها المعلمة.

وبه قال ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج (وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة. والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان).

والثالث: أنها الحسان.

وإلى هذا القول ذهب عكرمة ومجاهد، ورجحه الطبري والسيوطي.

والرابع: أي المعدة للجهاد.

وهو مروي عن ابن زيد.

لكن هذا القول فيه نظر، لأن إعداد الخيل للجهاد في سبيل الله من أمور الدين، وليس من قبيل أمور الدنيا التي زينت للناس، فهذا القول فيه نظر بيّن.

• ولهذا قال الطبري: وأما الذي قاله ابن زيد من أنها المعدة في سبيل الله، فتأويل من معنى المسومة بمعزل

والراجح أن الأقوال الثلاثة الأولى كلها محتملة، لأن اللفظ يحتملها، وهذا ما اختاره القرطبي فقال: قلت: كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حساناً معلمة لتعرف من غيرها.

(وَالْأَنْعَامِ) وهي جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم.

(وَالْحَرْثِ) أي: الأرض المتخذة للغراس والزراعة.

• قال القرطبي: قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس؛ أمّا الذهب والفضة فيتموّل بها التجار، وأمّا الخيل المسوّمة فيتموّل بها الملوك، وأمّا الأنعام فيتموّل بها أهل البوادِي، وأمّا الحرث فيتموّل بها أهل الرساتيق.

فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتموّل، فأمّا النساء والبنون ففتنة للجميع.

ص: 180

(ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي ما يُتَمتّع به فيها ثم يذهب ولا يبقى.

(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي: حسن المرجع والمصير.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (ذلك متاع الحياة الدنيا) أي: ذلك المذكور ما يتمتع به، ثم يذهب، ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا،

وترغيب في الآخرة.

• وقال في التسهيل: قوله تعالى (ذلك متاع الحياة الدنيا) تحقير لها ليزهد فيها الناس.

• وقال القاسمي: قوله تعالى (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي: المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره. وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.

وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.

• وقال السعدي: وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما.

• سئل سهل بن عبد الله: بِم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات؟ قال: بتشاغله بما أُمِر به.

ص: 181

• قوله تعالى (الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) هي هذه الحيلة التي نعيشها التي قبل الآخرة، وسميت لدنيا لسببين:

السبب الأول: لأنها قبل الآخرة في الزمن.

السبب الثاني: لدناءتها وحقارتها بالنسبة للآخرة. كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري.

• ففي هذه الآية حقارة الدنيا وخستها.

كما قال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).

وقال سبحانه وتعالى عن مؤمن فرعون أنه قال لقومه (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).

وقال القرطبي: متاع: أي يتمتع بها قليل ثم تنقطع وتزول. ودار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود.

قال ابن رجب: وقال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) والمتاع: هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع ويفنى.

فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس وعمارتها بالخراب واجتماعها بفرقة الأحباب وكل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: يا دار تخربين ويموت سكانك.

ص: 182

وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه

) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه الترمذي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) رواه مسلم

قال النووي رحمه الله: ما للدنيا بالنسبة للآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر.

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمر (يا ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري وفي رواية (وعد نفسك من أهل القبور).

هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر، وهي في الواقع وصية له وللأمة من بعده رضي الله عنه وأرضاه، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور، قال الإمام النووي رحمه الله في معنى الحديث (لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا، ولا تحدّث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه).

من أقوال السلف:

ص: 183

قال موسى عليه الصلاة والسلام: الدنيا قنطره فاعبروها ولا تعمروها.

وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: من ذا الذي يبني على موج البحار داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً.

وقال: مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله.

وقد خرج أبو الدرداء على أهل الشام ورآهم في ترف فقال لهم: مالي أراكم تجمعون ما لا تأخذون، وتبنون ما لا تسكنون، وتؤمّلون ما لا تأخذون، لقد جمعت الأقوام التي قبلكم وأمّنتْ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، فجعل الناس يبكون حتى سمع نشيجهم من خارج المسجد.

وقال أبو داود وهو من تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت الإمام أحمد بن حنبل ذكر الدنيا.

وقال ابن القيم: لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة.

وقال: الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج، والسير في طلبها كالسير في أرض مسبعة - أي كثيرة السباع - السباحة فيها كالسباحة في غدير التمساح.

‌الفوائد:

1 -

حكمة الله في ابتلاء الناس بتزيين حب الشهوات.

2 -

أن عند الفتن يظهر الصادق من الكاذب.

3 -

أن الدنيا دار ابتلاء.

4 -

أنه لا يذم من أحب هذه الأمور على الوجه المشروع.

5 -

تقديم الأشد فالأشد، ولهذا قدم فتنة النساء.

6 -

عظم خطر فتنة البنين.

7 -

وجوب الحذر من فتنة المال.

8 -

أنه كلما كثر المال كلما ازدادت الفتنة.

9 -

أن هذه الأشياء متاع في الدنيا زائل.

10 -

وجوب الاستعداد للآخرة لأنها هي الباقية.

11 -

أن متاع قليل ناقص منغص بالآفات.

12 -

التزهيد في التعلق بهذه الأشياء.

13 -

أن ما عند الله خير من هذه الدنيا.

ص: 184

(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

[آل عمران: 15].

(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ) أي: قل يا محمد للناس: أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها، الذي هو زائل لا محالة.

• قال ابن عاشور: وافتتح الاستئناف بكلمة (قُلْ) للاهتمام بالمقول، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقي ما سيقص عليهم كقوله تعالى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).

• قال الرازي: إنما قلنا: إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية، وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة، ونعم الآخرة باقية لا محالة.

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي: اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: عند خالقهم وسيدهم ومالكم.

(جَنَّاتٌ) جمع جنة، الجنة في لغة العرب: البستان، لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه، وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) أي البستان، وفي قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) وأما في الاصطلاح: فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي: تجري من تحت قصورها الأنهار، وليس المعنى أنها تجري من تحت أرضها، والجري هو سير الماء على الأرض، والأنهار جمع نهر وهو الماء الكثير، وهذه الأنهار تجري من غير أخدود كما قال بعض السلف.

• وهذه الأنهار فصلها الله في هذه السورة كما سيأتي فقال (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً).

• قال ابن القيم: وهذا يدل على أمور: أحدها: وجود الأنهار فيها. الثاني: أنها جارية لا واقفة. الثالثة: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.

ص: 185

• قوله تعالى (جنات) دليل على أن الجنات أنوع.

كما قال تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ثم قال تعالى (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما).

• قال الشيخ ابن عثيمين: قوله تعالى (في جنات) أحياناً تأتي مفردة كقوله تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) وأحياناً تأتي مجموعة، فإفرادها باعتبار الجنس، وجمعها باعتبار النوع، لأن الجنة، وقد ذكر الله في آخر سورة الرحمن أربعة أنواع (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ثم قال (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) والأوليان أشرف.

(خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين فيها إقامة أبدية لا تحول ولا تزول، فلا يموتون ولا يفنون ولا يخرجون منها

• وذكر من نعيم الجنة الخلود، لأنه أعظم النعيم، لأن أكبر ما ينكد اللذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم، والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً.

فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات، لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها، لأنه يقطعها، ولهذا قال (خالدين فيها) لا يزول عنهم ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.

وجاءت الآيات الكثيرة بخلود أهل الجنة بالجنة.

فقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ص: 186

وقال صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداُ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على شكل كبش فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت

) متفق عليه.

(وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي: من الدَّنَس، والخَبَث، والأذى، والحيض، والنفاس، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا.

• قال السمرقندي: معناه في الخَلْق والخُلُق، فأما الخَلْقُ فإنهن لا يَحضنَ ولا يتمخَّطْن، ولا يأتين الخلاء، وأما الخُلُق، فإنهن لا يَغِرْن ولا يحسدن، ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.

(وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ) أي: يحل عليهم رضوانه، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي: أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم.

• قال تعالى في سورة براءة (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

• قال أبو حيان: بدأ أولاً بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما جاء في الحديث أنه تعالى (يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).

ص: 187

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي: يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.

• قال الشيخ ابن عثيمين: فهو بصير بهم بصر نظر، وبصر علم، أما بضر النظر فلا يغيب عن نظره شيء، وأما بصر العلم فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

والبصير: اسم من أسماء الله متضمن لصفة البصر.

• قال السعدي: الذي يُبصر كلَّ شيء وإن رقَّ وصغُر، فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السماوات السبع.

قال ابن القيم:

وهو البصيرُ يرى دبيبَ النملةِ الـ

سوداءِ تحت الصخرِ والصَّوَانِ

ويرى مجاري القوت في أعضائها

ويَرى عُروق بياضِها بعيانِ

ويرى خيانات العيون بِلْحظِها

ويرى كذلك تقلبَ الأجفانِ

• وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع، فالمتصف بها أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

وقد أنكر إبراهيم على أبيه عندما عَبَد ما لا يبصر ولا يسمع (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).

• والله بصير بأحوال عباده خبير بها، بصير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها، بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ).

• وهو بصير بالعباد شهيد عليهم، الصالح منهم والطالح، المؤمن والكافر (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

ص: 188

• ومن علم أن الله مطلع عليه استحى أن يراه على معصية أو فيما لا يحب، ومن علم أنه يراه أحسن عمله وعبادته وأخلص فيها لربه وخشع، فقد جاء في حديث جبريل عليه السلام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

‌الفوائد:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد يؤمر وينهى.

2 -

فضل التقوى وما أعد الله للمتقين.

3 -

أن من أسباب دخول الجنة تقوى الله كما قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق.

4 -

من نعيم الجنة الأنهار التي تجري من تحت قصورها.

5 -

فضيلة الأزواج في الجنة.

6 -

أن من تمام نعيم هؤلاء رضوان الله عليهم.

7 -

إثبات صفة الرضا لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله.

8 -

إحاطة الله بالعباد علماً ورؤية.

9 -

التحذير من مخالفة أوامر الله، لأن الله بصير لا يخفى عليه شيء.

ص: 189

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)

[آل عمران: 16 - 17].

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) يصف تعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل، فقال تعالى (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا) أي: بك وبكتابك وبرسولك.

والإيمان هنا يشمل النطق باللسان والاعتقاد بالجنان، لأن الله إذا أطلق القول بالإيمان ولم يتعقبه، كان المراد به القول باللسان، والعقد بالجنان.

(فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك.

والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه - أي ستره ورحمته - فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) رواه البخاري ومسلم.

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام، ولهذا نقول مغفرة الذنوب: سترها عن الناس، والعفو عن عقوباتها.

(وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي: ادفع عنا عذاب النار، كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ

إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً).

• قال الطبري: وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.

ص: 190

(الصَّابِرِينَ) أي: في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات، وعلى أقدار الله المؤلمة.

صبر على طاعة الله: فهو أن يجاهد نفسه على القيام بالطاعة وبالإخلاص بها وإحسانها.

والصبر عن المعصية: لا سيما مع قوة الداعي، فهذا يحتاج إلى صبر شديد، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله

ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله).

ومن ذلك صبر يوسف عندما دعته امرأة العزيز.

ومن ذلك الرجل الإسرائيلي الذي كان يراود ابنة عمه عن نفسها، .... فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته قالت له: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وهي أحب الناس إليه.

واصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا كثير، ومنه صبر أيوب، وصبر يوسف عندما ألقاه إخوته في الجب.

• قال الرازي: الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى، كما قال (الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون) قال سفيان بن عيينة في قوله (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر.

قال تعالى (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).

وقال تعالى (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً).

وقال تعالى (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا).

وقال تعالى (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ).

وقال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ).

(وَالصَّادِقِينَ) في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم.

ص: 191

• وقد قسم ابن القيم الصدق إلى ثلاثة أقسام:

الأول: صدق في الأقوال:

ومعناه: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها.

والثاني: صدق في الأعمال.

ومعناه: استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد.

والثالث: صدق في الأحوال.

ومعناه: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص.

• وقد أمر الله بالصدق:

فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي: كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق وأعمالهم وأحوالهم لا تكون إلا صدقاً خالية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة.

• وبين تعالى أنهم لو صدقوا لكان خيرا لهم:

فقال تعالى (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ).

• وعند الابتلاء يعرف الصادق من الكاذب:

فقال تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

• ولا ينفع يوم القيامة إلا الصدق:

قال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ).

• والصديقة منزلة عالية.

قال تعالى عن عيسى وأمه (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ).

وقال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً).

ص: 192

• وسبب للبركة.

قال صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما) متفق عليه.

قال عمر بن الخطاب: عليك بالصدق وإن قتلك.

وقال بشر بن الحارث: مَنْ عامل الله بالصدق استوحش من الناس.

وقال جعفر بن محمد: الصدق هو المجاهدة، وأن لا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك، فقال تعالى (هو اجتباكم).

وقال أحمد بن حنبل: لو وضع الصدق على جرح لبرأ.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.

وقال ابن عباس صدق الله العظيم: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر.

وقال بعض العلماء: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة ولا يتم بعضها إلا ببعض: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله في الأعمال، وطيب المطعم.

وقال ابن القيم: الصادق مطلوبه رضى ربه، وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أينما توجهت ركائبها، ويستقل معها أينما استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع المنافع.

قال ابن تيمية: الصديقية كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهراً وباطناً.

قال ابن القيم: فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل وأنه لا شيء وأنه ممن لم يصح له الإسلام بعد، حتى يدعى الشرف فيه.

وقال: فالصدق في الأقوال: استواء اللسان على الأقوال والصدق في الأعمال استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامه بها تكون صد يقيته.

وقال: كل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب.

وقال: أصل أعمال القلوب كلها: الصدق.

وقال: والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوقفه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

ص: 193

وقال: حمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم.

وقال: فإن العبد الصادق لا يرى نفسه إلا مقصراً والموجب له لهذه الرؤية: استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها، وقلة زاده في عينه، فمن عرف الله وعرف نفسه، لم يرَ نفسه إلا بعين النقصان.

قال: ومن علامة الصادق: أنه لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه ويستكثر من الأسباب التي تقربه إليه وتدنيه منه، لا لعلة من

علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتها، كما قال عمر بن الخطاب: لولا ثلاث لما أحببت البقاء في الدنيا لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر.

وقال: ومن علامات الصادقين: التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمر الله، والحياء من نظره، والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول، وأن يكون نومه غلبه، وأكله فاقه وكلامه ضرورة، وإذا سمع شيئاً من علوم القوم فعمل به: صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به، وإذا تكلم انتفع به من سمعه.

وقال: ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذروة سنام الصديقية، سمي (الصديق) على الإطلاق والصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق؛ فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل.

ص: 194

‌علامات الصادق:

‌أولاً: طمأنينة القلب واستقراره:

إن الصدق في جميع الأحوال باطنها وظاهرها يورث الطمأنينة والسكينة في القلب، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد إلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه، يقول صلى الله عليه وسلم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة).

‌ثانياً: الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل.

فالصادق مع الله عز وجل لا تراه إلا متأهباً للقاء ربه، مستعداً لذلك بالأعمال الصالحة، والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعاً في ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.

‌ثالثاً: سلامة القلب.

إن من علامة الصدق سلامة القلب، وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلاً للمؤمنين ولا شراً، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته.

‌رابعاً: حفظ الوقت وتدارك العمر.

إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظاً على وقته شحيحاً به، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه في الآخرة، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها، ثم قام وتركها، فبادر بالأعمار الصالحة فراغه وصحته، وشبابه، وحياته، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه، وتضيع عليه وقته، وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع.

ص: 195

‌خامساً: الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل وكراهة ذلك:

ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس، والقناعة بما كتب الله عز وجل، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص، وهي تنبع أصلاً من صحة المعتقد، وكمال التوحيد لله عز وجل، وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار.

‌سادساً: إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور:

إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق، فكلما كان العبد صادقاً مع ربه عز وجل كلما كان حريصاً على إخفاء أعماله حيث لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.

قال الحسن: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به.

‌سابعاً: الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين.

‌ثامناً: الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل.

إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل، حيث لا يقر له قرار، ولا يهدأ له

بال وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم.

إن المؤمن الصادق لا يقدّم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية.

[كتاب وقفات مع آيات للشيخ الجليل حفظه الله].

ص: 196

(وَالْقَانِتِينَ) المراد بالقنوت هنا: دوام الطاعة مع الخشوع والخضوع لله تعالى، بحيث يكون الإنسان مديماً لطاعة الله مقبلاً على الله تعالى في طاعته.

(وَالْمُنْفِقِينَ) أي: من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلات، ومواساة ذوي الحاجات.

(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار.

والاستغفار مندوبٌ إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال (وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

• قال القرطبي: وخص السّحَر بالذكر لأنه مظانّ القبول ووقت إجابة الدعاء.

عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (ينزِل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأوّل فيقول أنا المِلك أنا المِلك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفِر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر) متفق عليه.

‌فهم يستغفرون في هذا الوقت:

‌أولاً: لأنه وقت النزول الإلهي.

‌ثانياً: لأن المشروع للمسلم بعد العبادة أن يستغفر الله.

قال ابن القيم: أرباب البصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات؟ لشهودهم تقصيرهم فيها، وترْك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه.

ولهذا يشرع بعد العبادات الاستغفار.

أمر الله وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقال تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

وفي الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً

).

وأمره بالاستغفار بعد أداء الرسالة، واقتراب أجله، فقال في آخر سورة أنزلت عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).

ص: 197

‌ثالثاً: ولعل من الحِكم: دفع العجب ورؤية النفس.

• قال السعدي: ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومن بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.

• قال أبو السعود: أي هم مع قلة نومهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار بالأسحار كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم.

‌الفوائد:

1 -

من صفات المتقين إعلانهم الإيمان بالله تعالى.

2 -

أن من صفات المتقين عدم الإعجاب بالنفس، وأنهم يرون أنهم مقصرون.

3 -

أن التقوى لا تعصم العبد من الذنوب، لكن المتقي يبادر بالتوبة.

4 -

جواز التوسل بالإيمان.

5 -

سؤال الله الوقاية من النار.

6 -

إثبات عذاب النار.

7 -

فضيلة هذه الصفات: وهي الصبر والصدق والقنوت والإنفاق.

8 -

أن الصبر أفضل الصفات. [16/ 5/ 1433 هـ].

ص: 198

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18))

[آل عمران: 18].

(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) شهد تعالى -وكفى به شهيداً - وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين (أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أي: المتفَرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).

• قال ابن القيم: شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام).

فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع هذه الطوائف، والشهادة يبطلان أقوالهم ومذاهبهم، وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية.

فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به.

وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار.

قال مجاهد حكم وقضى.

وقال الزجاج: بيّن.

وقالت طائفة أعلم وأخبر.

وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه.

• وقال ابن تيمية: وَشَهَادَةُ الرَّبِّ وَبَيَانُهُ وَإِعْلَامُهُ يَكُونُ بِقَوْلِهِ تَارَةً وَبِفِعْلِهِ تَارَةً. فَالْقَوْلُ هُوَ مَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَوْحَاهُ إلَى عِبَادِه، كَمَا قَالَ (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ.

ص: 199

وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَا نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلَالَتُهَا بِالْعَقْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَبَرٌ عَنْ اللَّه.

• وقال السعدي: هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم، أما شهادته تعالى فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، فنوع الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه ما قام أحد بتوحيده إلا ونصره على المشرك الجاحد المنكر للتوحيد، وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لأنفسهم ولغيرهم، ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلان الشرك.

(وَالْمَلائِكَةُ) معطوفة على اسم الجلالة (الله) أي: وشهدت الملائكة أنه لا إله إلا هو.

(وَأُولُو الْعِلْمِ) أي: أن أصحاب العلم - الذين رزقهم الله العلم - يشهدون أيضاً بأنه لا إله إلا هو.

يشهدون بأقوالهم وبدعوتهم وبأعمالهم.

• وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.

• قال ابن القيم: وقد فسرت شهادة أولي العلم بالإقرار وفسرت بالتبيين والإظهار.

والصحيح أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام وهم شهداء الله على الناس يوم القيامة قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وقال تعالى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فأخبر أنه جعلهم عدولاً خياراً ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة فمن لم يقم بهذه الشهادة علماً وعملاً ومعرفة وإقراراً ودعوة وتعليماً وإرشاداً فليس من شهداء الله والله المستعان.

ص: 200

• وقال السعدي: وأما شهادة أهل العلم فلأنهم هم المرجع في جميع الأمور الدينية، خصوصاً في أعظم الأمور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد، فكلهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة إليه، فوجب على الخلق التزام هذا الأمر المشهود عليه والعمل به، وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد، لأن الله شهد به بنفسه وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم.

• قال القرطبي: في هذه الآَية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء.

وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر يستزيده من العلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إنّ العلماء ورثة الأنبياء) وقال (العلماء أُمَنَاء الله على خلقه) وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحلُّ لهم في الدّين خطير.

وقال ابن القيم: استشهد سبحانه بأولى العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده فقال (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه:

أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر.

والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.

والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته.

والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، ومنه الأثر المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).

الخامس: أنه وصفهم بكونهم أولى العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به وأنهم أهله وأصحابه ليس بمستعار لهم.

السادس: أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً.

السابع: أنه استشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه وأكبره، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم.

الثامن: أنه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين فهم بمنزلة أدلته وآياته وبراهنيه الدالة على توحيده.

التاسع: أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة الصادرة منه ومن ملائكته ومنهم ولم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم وأنطقهم بهذه الشهادة فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة وإنطاقاً وتعليماً وهم الشاهدون بها له إقراراً واعترافاً وتصديقاً وإيماناً.

ص: 201

العاشر: أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة، فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به فثبت الحق المشهود به فوجب على الخلق الإقرار به، وكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بشهادتهم وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره، وهذا فضل عظيم لا يدري قدره إلا الله وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره أيضاً فهذه عشرة أوجه في هذه الآية.

(قَائِماً بِالْقِسْطِ)(قائماً) حال من لفظ الجلالة، أي: حال كونه قائماً بالقسط، أي: بالعدل.

فالله تعالى عدل في أحكامه وأفعاله.

أي: شهد الشهادة حال قيامه بالقسط، ويحتمل أنه يتصل بما بعد إلا، أي: الشهادة واقعة على الشهادة وعلى قيامه بالقسط

(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قيل: تأكيد لما سبق، ولم يذكر ابن كثير إلا هذا القول.

وقيل: إن الجملة الأولى وصف له تبارك وتعالى بالتوحيد، وهذه الجملة الثانية: تعليم منه تعالى لعباده أن يقولوا هذه الجملة.

(والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد).

(الْعَزِيزُ) الذي له العزة الكاملة. (وقد تقدم الكلام على هذا الاسم).

(الْحَكِيمُ) اسم من أسماء الله، متضمن للحكمة الكاملة البالغة اسم من أسماء الله متضمن لصفة الحكمة البالغة.

قال ابن جرير: هو الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.

وقال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله.

قال ابن القيم: وقد دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنة: أنه سبحانه (حكيم) لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل كما فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل.

ص: 202

وقال السعدي: فالله لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه.

اسم من أسماء الله متضمن لصفة الحكمة البالغة، فأوامره وأحكامه وأفعاله كلها لحكمة.

فهو سبحانه حكيم في صنعه، وحكيم في شرعه، فجميع مصنوعاته كلها محكمة، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ). وأما في الشرع فيقول سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فلا يمكن أن يوجد تناقض في القرآن أبداً.

قال بعض العلماء: الحكمة تكون في صورة الشيء: أي أن خلق الإنسان على هذه الصورة لحكمة، وكذلك خلق الحيوان على هذه الصورة لحكمة.

وتكون في غايته: أي: أن الغاية من خلق الإنسان لحكمة، وكذلك الحيوانات، وكذلك جميع المخلوقات، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: أن الله خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة وهي عبادته سبحانه حيث قال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).

ثانياً: أن خلق اله محكم لا خلل فيه ولا قصور، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).

ص: 203

ونستفيد من معرفتنا أن الله حكيم في كل أفعاله: اقتناع الإنسان بما يجري عليه وما يوجبه الله عليه، لأن ما يجريه الله عز وجل من الأحكام مقرون بالحكمة، فإذا علمت هذا يقينياً اقتنعت سواء كان هذا من الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية، حتى المصائب التي تنال العباد لاشك أن لها حكمة.

• قال ابن تيمية: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؛ فَتَضَمَّنَتْ وَحْدَانِيَّتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلشِّرْكِ وَتَضَمَّنَتْ عَدْلَهُ الْمُنَافِيَ لِلظُّلْمِ وَتَضَمَّنَتْ عِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ الْمُنَافِيَةَ لِلذُّلِّ وَالسَّفَهِ وَتَضَمَّنَتْ تَنْزِيهَهُ عَنْ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ فَفِيهَا إثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَإِثْبَاتُ الْعَدْلِ وَإِثْبَاتُ الْحِكْمَةِ وَإِثْبَاتُ الْقُدْرَة.

‌الفوائد:

1 -

بيان فضل التوحيد.

2 -

فضيلة الملائكة.

3 -

فضيلة العلم وأهله.

4 -

وصف الله بتمام العدل.

5 -

انفراد الله بالألوهية.

6 -

إثبات العزة والحكمة لله تعالى.

ص: 204

(إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)).

[آل عمران: 19 - 20].

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ) قال ابن عاشور: قرأ جمهور القراء (إِنَّ الدِّينَ) بكسر همزة إن فهو استئناف ابتدائي لبيان فضيلة هذا الدين بأجمع عبارة وأوجزها.

• قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل.

كما قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ).

•‌

‌ الإسلام دين جميع الرسل:

فنوح يقول لقومه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً (فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وأبناء يعقوب يجيبون أباهم (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وموسى يقول لقومه (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ).

والحواريون يقولون لعيسى (آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

ويوسف قال (توفني مسلماً

).

ص: 205

وسليمان عليه السلام قال (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِين).

وملكة سبأ (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

•‌

‌ الإسلام في الكتاب والسنة له إطلاقان:

‌الإطلاق الأول: الإسلام العام.

قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً).

وقال تعالى عن يوسف (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

فالمقصود بالإسلام هنا الإسلام العام الذي يفسر بأنه: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.

‌الإطلاق الثاني: الإسلام الخاص.

وهو الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي إذا أطلق لم يقصد إلا هو على وجه الخصوص.

ومعناه: استسلام الظاهر والبطن لله، تعبداً له بالشرع المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم على مقام المشاهدة أو المراقبة.

• قال القرطبي: والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التَّغَايُر؛ لحديث جبريل، وقد يكون بمعنى المَرادَفَة، فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبد القيس وأنه أمرهم بالإيمان (بالله) وحده قال:"هل تدرون ما الإيمان" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمساً من المغنم". الحديث.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله). أخرجه الترمذي وزاد مسلم (والحياء شعبة من الإيمان).

ص: 206

(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة، بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.

(بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي: بغى بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بُغْض البَعْض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقاً.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ) تقدم شرحها في أول السورة.

(فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يحتمل معنيان:

يحتمل أن يوم الأخر - الذي يقع فيه الحساب - قريب أن مجيئه قريب وسريع، وكل ما هو آت قريب والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب.

ويحتمل - وهو المتبادر -: أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم، بخلاف حال المخلوقين فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن ذلك يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة.

•‌

‌ في الآية إثبات الحساب:

o < رمز>تعريف الحساب:

لغة: العدد.

وشرعاً: اطلاع الله عباده على أعمالهم، وتقريرهم عليها.

o وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).

وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً).

وأما من السنة:

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: (

اللهم حاسبني حساباً يسيراً) فقالت عائشة: (ما الحساب اليسير؟ قال: (أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه). رواه أحمد، وقال الألباني: إسناده جيد.

ص: 207

‌وأجمع المسلمون على ثبوت الحساب يوم القيامة.

o < رمز>يستثنى من الذين لا يحاسبون من يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

كما جاء في الصحيحين. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عرضت عليّ الأمم

الحديث وفيه: ورأيت أمتي ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).

o < رمز> يشمل الحساب حتى الجن.

لأنهم مكلفون مأمورون كالإنس.

ولذلك الجني الكافر يدخل النار بالاتفاق.

كما قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

).

وقال تعالى (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ).

ويدخل مؤمنهم الجنة كما هو مذهب أكثر العلماء:

لعموم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

ولقوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).

ولقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ).

ص: 208

o < رمز>صفة حساب المؤمن:

يخلو به ربه ويقرره بذنوبه، ثم يسترها ويغفرها.

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب! أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم). متفق عليه

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ومع ذلك، فإنه سبحانه يضع عليه ستره، بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله على المؤمن، فإن الإنسان إذا قررك بجنايتك أمام الناس وإن سمح عنك، ففيه شيء من الفضيحة، لكن إذا كان ذلك وحدك، فإن ذلك ستر منه عليك.

o < رمز>وأما الكفار فيحاسبون حساب تقريع وتوبيخ، وليس محاسبة حسنات وسيئات.

كما في حديث ابن عمر السابق وفيه (

وأما الكفار والمنافقون فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق، هؤلاء الذين كذبوا على الله).

o < رمز>وهو عسير عليهم.

كما قال تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً).

وقال تعالى (مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).

وإنما كان الحساب شديداً، لأنه لا يدع شاردة ولا واردة إلا أتى بها (أحصاه الله ونسوه).

o < رمز> وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله: الصلاة.

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله). رواه الترمذي

o < رمز>وأول ما يقضى فيه بين الناس في الدماء.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء). متفق عليه من حديث ابن مسعود.

ص: 209

o < رمز>يُسأل العبد عن كل شيء، ومن أهم الأمور التي يُسأل عنها:

‌أولاً: الكفر والشرك.

كما قال تعالى (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ).

‌ثانياً: ما عمله في الدنيا.

كما قال تعالى (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وعن أبي برزة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) رواه الترمذي.

‌ثالثاً: النعيم الذي يتمتع به.

قال تعالى (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(سورة التكاثر: 8).

‌رابعاً: العهود والمواثيق.

كما قال تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً).

‌خامساً: السمع والبصر والفؤاد.

كما قال تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

ص: 210

o‌

‌ قواعد عامة في الحساب:

‌أولاً: العدل التام في الحساب.

قال تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة).

وقال تعالى (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

فتيلاً: هو الخيط الذي يكون في شق النواة.

نقيراً: النقير النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة.

‌ثانياً: لا يؤاخذ أحد بجريرة أحد.

قال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

وقال تعالى (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

أي لتؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقِبة بإثمها.

‌ثالثاً: الله سريع الحساب.

o < رمز>البهائم لا حساب عليها حساب حسنات وسيئات وإنما يجري بينها القصاص.

عن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لتؤدن الحقوقَ إلى أهلها حتى يقادَ للشاةِ الجَلْحَاء من الشاة القرناء) متفق عليه.

الجلحاء: بفتح الجيم وسكون اللام وهي التي لا قرن لها.

الحكمة: ليظهر عدل الله حتى في البهائم.

(فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي: جادلوك.

(فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي انقدت لله وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه لأنه أكرم الجوارح من الإنسان وفيه بهاؤه، فإذا خضع وجهه للشيء خضع له جميع جوارحه، وقال الفراء: معناه أخلصت عملي لله.

• قال الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول: "أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه.

• قال الماوردي: فإن قيل: في أمره تعالى عند حِجَاجِهمْ بأن يقول: (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) عدول عن جوابهم وتسليم لحِجَاجِهم، فعنه جوابان:

أحدهما: ليس يقتضي أمره بهذا القول النهي عن جوابهم والتسليم بحِجَاجِهم، وإنما أمره أن يخبرهم بما يقتضيه معتقده، ثم هو في الجواب لهم والاحْتِجَاج على ما يقتضيه السؤال.

والثاني: أنهم ما حاجُّوه طلباً للحق فيلزمه جوابهم، وإنما حاجُّوه إظهاراً للعناد، فجاز له الإِعراض عنهم بما أمره أن يقول لهم.

(وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي: ومن اتبعه كذلك، قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ) أمر من الله للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم.

ص: 211

• قال الفخر: إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين:

الأول: أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب

والثاني: أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم.

(أَأَسْلَمْتُمْ) قال البغوي: (أَأَسْلَمْتُمْ) لفظه استفهام ومعناه أمر، أي أسلموا كما قال (فهل أنتم منتهون) أي انتهوا.

• وقال القرطبي: (أَأَسْلَمْتُمْ) استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر، أي أسلموا؛ كذا قال الطبري وغيره.

• وقال الزجاج: (أَأَسلمتم) تهديد، وهذا حسن، لأن المعنى أَأَسلمتم أم لا.

(فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً، ويحتمل أن يريد: فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

(فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي: والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة.

قال الرازي: والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه، وليس عليه قبولهم.

ص: 212

• في الآية أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ، وأما الهداية فهي بيد الله.

قال تعالى (

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وقال تعالى (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).

وقال تعالى (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).

وقال تعالى (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وقال تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وقال تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ).

وقال تعالى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وما ذاك إلا لحكمته ورحمته.

• قال ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث، فمن ذلك:

قوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا).

وقال تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).

وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امتثالا لأمر الله له بذلك.

ص: 213

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ).

وقال (كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً) متفق عليه.

‌الفوائد:

1 -

أن الدين المقبول عند الله هو الإسلام.

2 -

أن كل دين يخالف الإسلام في كل زمان فهو باطل.

3 -

بطلان دين اليهودية والنصرانية.

4 -

أن اختلاف اليهود والنصارى كان عن علم.

5 -

أن البغي هو سبب الاختلاف عند هؤلاء.

6 -

الإشارة إلى الحذر مما وقع فيه أهل الكتاب من البغي.

7 -

التحذير من الكفر بآيات الله.

8 -

إثبات الحساب.

9 -

إثبات سرعة الحساب.

10 -

قدرة الله تعالى العظيمة.

11 -

مجادلة أهل الباطل عن باطلهم.

12 -

وجوب إخلاص العبادة لله تعالى.

13 -

أن أتّباع الرسول يحذون حذوه في إسلامهم لله تعالى.

14 -

أن الوجه أشرف الأعضاء.

15 -

وجوب الاستسلام لأمر الله.

16 -

أن من لم يسلم فهو ضال.

17 -

التحذير من الإعراض.

18 -

عموم علم الله تعالى.

ص: 214

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ).

[آل عمران: 21 - 22].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ) تقدم شرحها.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: ويقتلون أنبياء الله بغير سبب ولا جريمة، وهم اليهود.

• قوله تعالى (بغيرِ حق) هذه صفة كاشفة وليست مقيدة.

• قال ابن عاشور: والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم.

(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي: ويقتلون الدعاة إلى الله الذين يأمرون بالخير والعدل.

• قال ابن عطية: والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوئ أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ لأنهم كانوا حريصين على قتل محمد صلى الله عليه وسلم.

• قال الرازي: سؤال إذا كان قوله (إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله) في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه السلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟

فالجواب من وجهين:

الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته.

الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا ههنا لا يصح أن

يكون إلا كذلك.

ص: 215

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي: أخبرهم بعذاب أليم موجع.

• قوله (فبشرهم) الأغلب في البشارة إطلاقها على الإِخبار بالخير، وقد تستعمل في الإِخبار بالشّر كما استعملت في هذا الموضع وفي تسميتها بذلك وجهان:

أحدهما: لأنها تغير بَشْرَةَ الوجه بالسرور في الخير، وبالغم في الشر.

والثاني: تكون تهكماً بهم كقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

• قال ابن عاشور: وحقيقة التبشير: الإخبار بما يظهر سرور المخبر بفتح الباء وهو هنا مستعمل في ضد حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبرين، فهذا الاستعمال في الضد معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمونها تهكمية لأن تشبيه الضد بضده لا يروج في عقل أحد إلا على معنى التهكم، أو التمليح.

(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات، ولم يبق لها أثر في الدين.

قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين).

فالموت على الكفر محبط للعمل كما قال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

• قال الطبري:

فأما في الدنيا، فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.

ص: 216

• وقال الرازي:

أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب.

• وقال ابن عاشور: فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا.

(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أي: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه. (الطبري).

‌الفوائد:

1 -

تبشير كل كافر بالعذاب.

2 -

وجوب الإيمان بآيات الله الشرعية والكونية، لأن الله توعد هؤلاء بالعذاب الأليم.

3 -

تحريم قتل النبيين.

4 -

أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان موجوداً في الأمم الماضية.

5 -

حبوط عمل هؤلاء الكفار.

6 -

أن الكفر محبط للأعمال.

ص: 217

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)).

[آل عمران: 23 - 25].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) يقول تعالى منكرًا على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللَّذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولَّوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم، والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.

• قال السعدي: يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقياداً لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم معرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

• قوله تعالى (ألم تر) هذه رؤية علمية لا بصرية، أي: ألم تعلم، والاستفهام استفهام تعجب.

• قوله تعالى (الكتاب) المراد كتابهم التوراة، وهذا قول جمهور المفسرين (ذكره الرازي) ورجحه الطبري وقال: وإنما قلنا إن ذلك الكتاب هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطع.

ص: 218

• جاءت عدة روايات في سبب نزول هذه الآية، لكن لا يصح منها شيء.

• قال الرازي: ظاهر قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب) يتناول كلهم، ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم، إلا أنه قد دلّ دليل آخر، على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول (مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

• قال ابن عطية: قوله تعالى (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) وخص الله تعالى بالتولي فريقاً دون الكل لأن منهم من لم يتول كابن سلام وغيره.

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فإن قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟

فالجواب من أربعة أوجه:

أحدها: التأكيد.

والثاني: أن يكون المعنى: يتولون عن الداعي، ويعرضون عما دعا إليه.

والثالث: يتولون بأبدانهم، ويعرضون عن الحق بقلوبهم.

والرابع: أن يكون الذين تولوا علماءهم، والذين أعرضوا أتباعهم، قاله ابن الأنباري.

(ذَلِكَ) التولي والإعراض.

(بِأَنَّهُمْ قَالُوا) كذباً على الله.

(لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يخرجنا منها ربنا.

• قال ابن كثير: أي: إنما حملهم وجَرّأهم على مخالفة الحق، افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً.

ص: 219

• قال ابن عاشور: قوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) الإشارة إلى توليهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنهم في أمان من العذاب إلا أياما قليلة، فانعدم اكتراثهم باتباع الحق؛ لأن اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضاً بسفالة همتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس، وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أن هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنه مفترى مدلس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود، كما تقدم في البقرة.

(وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: ثَبَّتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياما معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطاناً.

(فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي: كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله تعالى سائلهم عن ذلك كله، ومحاسبهم عليه، ومجازيهم به؛ ولهذا قال (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) لا شك في وقوعه.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: وأعطيت كل نفس من البشر والجن ما كسبت من خير أو شر.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). فلا ينقصون من حسناتهم، ولا يزاد عليهم في السيئات، ولا يعاقبون بظلم غيرهم.

فلا يظلمون مثقال ذرة.

ص: 220

كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

وقال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً). ظلماً: أي: زيادة في السيئات (ولا هضماً) أي نقصاً في الحسنات.

وقال تعالى (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)

فالله عز وجل لا يظلم أحداً، لكمال عدله لا لعجزه عن الظلم.

‌الفوائد:

1 -

أنه ليس كل من أوتي علماً يوفق للعمل.

2 -

التعجب من حال هؤلاء.

3 -

أن الواجب التحاكم إلى كتاب الله.

4 -

ذم من يتولى.

5 -

تحذير الإنسان أن يتكل على الأماني.

6 -

أن هؤلاء يؤمنون بالبعث.

ص: 221

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)).

[آل عمران: 26].

(قُلِ اللَّهُمَّ

) أي: قل: يا الله، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

(مَالِكَ الْمُلْكِ) أي: مالك كل الموجودات.

• قال السعدي: أي أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها.

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي: تعطي الملك من تشاء.

• قال ابن القيم: فصدر الآية سبحانه بتفرده بالملك كله وأنه هو سبحانه هو الذي يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء لا غيره، فالأول

تفرده بالملك والثاني تفرده بالتصرف.

• قوله تعالى: (تؤتي) دل على أن خير الله عز وجل ما أسرع إتيانه للعبد، ولذلك يقول بعض الناس إذا رأى نعمة على شخص أتت فجأة، قال " من أين له هذا " ولذا يقول بعض الشعراء:

ملك الملوك إذا وهب لا تسألن عن السبب

(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) أي: وتخلع وتنزع الملك ممن تشاء.

ص: 222

فقوله (وتنزع

) كما ينزع الجلد من البهيمة، لأن بعض الناس إذا ملك شيئاً فإن ذهاب هذا الشيء منه عسير، يتشبث به تشبثاً عظيماً، ولذلك يقول القدماء من العرب (الملك عقيم) يمكن للملك الذي يملك وطناً، يمكن أن يضحي بأبيه وأن يضحي بابنه من أجل هذا الملك، ولذلك كان الأسلوب مناسبا (وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء).

• قال السعدي: وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سبباً لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع.

(وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) أي: تجعله عزيزاً قوياً.

•‌

‌ أسباب العزة:

‌أولاً: الإيمان.

قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

• قال قتادة: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي: فلتعزز بطاعة الله عز وجل.

• وقال الزجاج معناه: من كان يريد بعبادة الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فان الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا.

• وقال ابن القيم: من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله بالكلم الطيب والعمل الصالح، ولذا كان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.

ص: 223

‌ثانياً: الجهاد.

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم إذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). رواد أبو داود

ثالثاً: التواضع.

قال صلى الله عليه وسلم (من تواضع لله رفعه الله) رواه مسلم.

رابعاً: العفو عن الناس.

قال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً

) رواه مسلم.

وعن أبي كبشة الأنماري انه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول (ثلاثة اقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه؛ قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر أو كلمة نحوها) رواه الترمذي.

خامساً: العلم.

قال تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

• قال ابن القيم: العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفاً، ويرفع العبد المملوك حتى جلسه مجالس الملوك.

وقال إبراهيم الحربي: (كان عطاء بن أبي رباح عبداً اسود لامرأة من أهل مكة، وكان انفه كأنه باقلاء، قال وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى أنفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود).

• وقال خيثمة بن سليمان: (سمعت ابن أبي الخناجر يقول: كنا في مجلس يزيد بن هارون والناس قد اجتمعوا إليه، فمر أمير المؤمنين فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس ألوف إلى أصحابه، وقال: هذا الملك

).

• وقال سفيان الثوري: (من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم).

ص: 224

(وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) أي: تجعله ذليلاً.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله.

• لماذا لم يذكر الشر مع أن الشر بيده تعالى؟

قيل: ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لأن العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر - والله سبحانه وتعالى أعلم.

• قال ابن القيم: وأخطأ من قال المعنى بيدك الخير والشر لثلاثة أوجه:

أحدها: أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف بل ترك ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد،

الثاني: أن الذي بيد الله تعالى نوعان فضل وعدل كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) فالفضل لإحدى اليدين والعدل للأخرى وكلاهما خير لا شر فيه بوجه.

الثالث: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك كالتفسير للآية ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه وقطع إضافة الآخر إليه مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.

وقد أجاب الشيخ حافظ بن أحمد حكمي عن سؤال مفاده: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) مع أن الله سبحانه خالق كل شيء؟، فقال: "معنى ذلك أن أفعال الله عز وجل كلها خير محض، من حيث اتصافه بها، وصدورها عنه، ليس فيها شر بوجه؛ فإنه تعالى حكم عدل، وجميع أفعاله حكمة وعدل، يضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، كما هي معلومة عنده سبحانه وتعالى وما كان في نفس المقدور من شر فمن جهة إضافته إلى العبد؛ لما يلحقه من المهالك؛ وذلك بما كسبت يداه جزاء وفاقاً.

ص: 225

كما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

وقال تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ).

وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

(إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك.

‌الفوائد:

1 -

تعليم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يفوض الأمر إليه.

2 -

بيان تمام ملك الله.

3 -

أن الله يؤتي الملك لمن يشاء.

4 -

تمام ملك الله وسلطانه أيضاً.

5 -

طلب العزة من الله.

6 -

أن الخير بيد الله.

7 -

عموم قدرة الله.

ص: 226

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (27))

[آل عمران: 27]

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة، ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي: يخرج النبات الحي من الحب النوى، الذي هو كالجماد الميت ولهذا قال تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ

)، ويخرج الإنسان من النطفة وهي ميتة، ويخرج الدجاجة من البيضة وهي ميتة، والنبات يخرج من الحبة وهي ميتة. والشجرة تخرج من النواة وهي ميتة.

ويمكن نحمل الحياة على المجاز فنقول: يخرج الابن المؤمن من الأب الكافر، والمؤمن من الضال.

(وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) يخرج النطفة وهي ميتة من الحي وهو الإنسان، والبيضة وهي ميتة تخرج من الحي وهي الدجاجة.

وبالمجاز: نقول: يخرج الابن الكافر من الأب المؤمن، والضال من المهتدي.

قيل: يخرج الدجاج من البيضة، وقيل: يخرج الولد الصالح من الكافر والكافر من الصالح.

• قال الرازي: قوله تعالى (تخرج الحي

) ذكر المفسرون فيه وجوهاً:

أحدها: يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام.

والثاني: يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس.

والثالث: يخرج الحيوان من النطفة، والطير من البيضة وبالعكس.

والرابع: يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس، والنخلة من النواة وبالعكس، قال القفّال رحمه الله: والكلمة محتملة للكل.

ص: 227

أما الكفر والإيمان فقال تعالى (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء، وجعل قبل ذلك ميتة فقال (يحيي الأرض بعد موتها) وقال (فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا) وقال:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

• وهذه من أعظم الآيات كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

(وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي بغير تضييق ولا تقتير؛ كما تقول: فلان يعطِي بغير حساب؛ كأنه لا يحسب ما يعطي.

‌الفوائد:

1 -

تمام قدرة الله في كونه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.

2 -

إثبات حكمة الله تعالى.

3 -

تمام قدرة الله بإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي.

4 -

أن الرزق بيد الله.

5 -

أن عطاء الله بلا عوض.

ص: 228

(لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)).

[آل عمران: 28].

(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهى الله، تبارك وتعالى، عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين.

كما قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا).

قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ

).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده.

وقال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ص: 229

وقال تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا محمد بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء، يعني أنصاراً وأخلاء من دون المؤمنين، تاركين موالاة المؤمنين معرضين عنها، يطلبون عند هؤلاء الكفار المنعة والقوة والنفوذ، وما علم أولئك السفهاء البلهاء أن العزة لله جميعاً

وقال تعالى (تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).

فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان الحقيقي بالله وبنبيه صلى الله عليه وسلم محمد صلى الله عليه وسلم مرتبط بعدم موالاة الكفار وتوليهم، فثبوت موالاة الكفار موجب لعدم الإيمان أو نقصه.

ففي هذه الآيات أشد التهديد والوعيد وأعظم الزجر عن موالاة الكافرين.

روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: لي كاتب نصراني. قال: مالك قاتلك الله، أما سمعت قول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) ألا اتخذت حنيفاً قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال: (لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (أي عرى الإيمان أوثق؟) قال: الله ورسوله أعلم، قال (الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله). رواه أحمد

ص: 230

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم.

فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترِط عليّ فأنت أعلم، قال:(أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله.

• قوله تعالى (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ليس معناه يجوز موالاة الكفار اشتراكاً مع المؤمنين، وإنما المعني:

قيل: إن قوله (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ذُكر للإشارة إلى أن المؤمنين هم الأحق بالموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار.

وقيل: أن هذا ورد على قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فهو لبيان الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، فموالاة الكفار حرام مطلقاً.

ص: 231

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية، هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به بدليل قوله (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا:

كقوله تعالى (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).

وكقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ

) الآية.

والجواب عن هذا: أن قوله (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لا مفهوم له، وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع كما في هذه الآية؛ لأنها نزلت في قوم والَوْا اليهود دون المؤمنين، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقاً.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله.

• قال ابن جرير (فليس من الله في شيء) يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.

• وقال القرطبي: أي: ليس من حزب الله ولا من أوليائه في شيء، وهو إذاً من حزب الشيطان وأنصاره.

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ.

• قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) يَعْنِي أَنْ تَخَافُوا تَلَفَ النَّفْسِ وَبَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَتَتَّقُوهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُوَالَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لَهَا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي: فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها.

ص: 232

(وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي: مرجع العباد ليوم التناد، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة.

‌الفوائد:

1 -

تحريم موالاة الكفار.

2 -

وجوب بغض الكفار.

3 -

أن اتخاذ الكفار أولياء منافٍ للإيمان.

4 -

وجوب اتخاذ المؤمنين أولياء.

5 -

وجوب حب ما يحبه الله وبغض ما يبغضه.

6 -

تحريم المداهنة لأعداء الله.

7 -

تحذير الله للناس، وهذا لمصلحتهم لكي يخافوا ويرتدعوا عن العصيان.

8 -

أن المصير والمرجع إلى الله.

ص: 233

(قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29))

[آل عمران: 29].

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والآنات واللحظات وجميع الأوقات، وبجميع ما في السموات والأرض، لا يغيب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال. (تفسير ابن كثير).

• فالله تعالى يعلم ما في الصدور ويعلم السر وأخفى.

قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).

قال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

وقال تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وقال تعالى (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر، أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن، فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه.

ص: 234

• وقال ابن كثير: وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، وألا يرتكبوا ما نهى عنه وما يَبْغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإنْ أنظر من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا قال بعد هذا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا).

• وقال أبو حيان: المفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة، وتحذير من ذلك.

(وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) هذا دليل على سعة علمه، وذكر عموم بعد خصوص، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد، أحدهما: بالخصوص، والآخر: بالعموم، إذ هم ممن في الأرض.

(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إعلام بأنه مع العلم ذو قدرة على كل شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلا أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أن الله لا يفلتهم من عقابه.

‌الفوائد:

1 -

عموم علم الله تعالى.

2 -

أن الله محيط بكل شيء علماً.

3 -

التحذير من كتم شيء في القلب مما يسخط الله من رياء أو نفاق أو حقد أو نحو ذلك.

4 -

وجوب الاهتمام بالقلب.

5 -

إثبات قدرة الله.

6 -

تهديد للعصاة.

7 -

وجوب الخوف من الله. [الثلاثاء 25/ 5/ 1433 هـ].

ص: 235

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30)).

[آل عمران: 30].

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) يعني: يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر.

كما قال تعالى (يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه.

وقال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

• قال الرازي: اعلم أن العمل لا يبقى، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين:

الأول: أنه يجد صحائف الأعمال، وهو قوله تعالى (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

وقال (فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أحصاه الله وَنَسُوهُ).

الثاني: أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى (مُّحْضَرًا) يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المعنى: أن جزاء العمل يكون محضراً، كقوله (وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا).

وعلى كلا الوجهين، فالترغيب والترهيب حاصلان.

(تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) وود لو أنه تبرأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي: يخوفكم عقابه.

ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه.

ص: 236

(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) أي: إن الله بجميع عباده ذو رأفة، والرأفة أعلى معاني الرحمة.

وقال الخطابي: الرؤوف هو الرحيم العاطف برأفته على عباده.

وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها.

قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه.

• فمن رأفته سبحانه وتعالى بنا، أنه خوفنا من عقوبته وعذابه، ونهانا عن معصيته، قبل أن يلقاه العبد يوم القيامة ليستعد للقائه، ويتجنب سخطه وغضبه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).

ومن رأفته أنه أرسل رسله وأنزل كتبه التي تبين شرعه، لينقذ الناس من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والهداية (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ومن رأفته أنه يقبل توبة التائبين، ولا يُرد عن بابه العاصين المنيبين، مهما كثرت سيئاتهم، وتعاظمت خطيئاتهم (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ومن رأفته: تسخيره لما في السماوات وما في الأرض لمصلحة الإنسان ومنفعته، وخلقه الأنعام ليركب على ظهرها فتحمله المسافات الشاسعة، هو ومتاعه وزاده (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ).

ص: 237

• قال الرازي: قوله تعالى (وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) فيه وجوه:

الأول: أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته، وأنه يمهل ولا يهمل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذرهم من استحقاق غضبه، قال الحسن: ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه.

الثاني: أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي.

• وقال ابن عطية: قوله تعالى (والله رؤوف بالعباد) يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى (إن ربك لشديد العقاب، وإنه لغفور رحيم) لأن قوله (ويحذركم الله نفسه) والله محذور العقاب.

• قال السمرقندي: ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا)، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله (وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ) وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله (والله رَءوفٌ بالعباد).

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (بالعباد) والتعريف في العباد للاستغراق: لأن رأفة الله شاملة لكل الناس مسلمهم وكافرهم (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلا لصدق كلماته، وانتظام حكمته سبحانه.

‌الفوائد:

1 -

التحذير والتذكير لهذا اليوم العظيم الذي يجد فيه الإنسان ما عمل من خير أو شر.

2 -

تذكر يوم القيامة والاستعداد له.

3 -

كمال قدرة الله.

4 -

إثبات اليوم الآخر.

5 -

أن الشر يسوء صاحبه.

6 -

رحمة الله بعباده، حيث حذرهم نفسه.

7 -

إثبات الرأفة لله.

ص: 238

(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)).

[آل عمران: 31].

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ).

• قال ابن القيم: قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله آية المحنة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي)

فمتابعة الرسول قولاً وفعلاً دليل على محبة الله تعالى.

(يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) هذه الثمرة الأولى، وما أعظمها من ثمرة.

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله) الآية.

صرح تعالى: في هذه الآية الكريمة أن اتباع نبيه موجب لمحبته جلا وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى (مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله) وقال تعالى (وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا).

• قال ابن القيم: قوله تعالى (يحببكم الله) إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها، وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسِل لكم، فما لم تحصل المتابعة، فليست محبتكم له حاصلة، ومحبته لكم منتفية.

ص: 239

وقال رحمه الله: فجعل سبحانه متابعة رسوله سبباً لمحبتهم له وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل.

تعصي الإله وأنت تزعم حبه

هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع.

• وقال السعدي: هذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال (قل إن كنتم تحبون الله) أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.

• قال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته، وسئل ذو النون متى أحب ربي؟ قال إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر.

وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك.

وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.

ص: 240

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) هذه الثمرة الثانية، والمغفرة: التجاوز عن الذنب مع الستر، والمعنى: يمحو الله عنكم الذنوب والآثام ويسترها.

(وَاللَّهُ غَفُورٌ) الغفور اسم من أسماء الله تعالى، فيجب إثبات ذلك، وهو أيضاً هو دال على صفة المغفرة الواسعة لله تعالى كما سبحانه (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)، والمغفرة - كما سبق - ستر الذنب عن الخلق والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه، حتى يضع عليه كنفه - أي ستره ورحمته - فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال الله عز وجل: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) متفق عليه.

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام.

(رَحِيمٌ) الرحيم اسم من أسماء الله، فيجب إثبات ذلك، وهو متضمن لصفة الرحمة الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

ورحمته سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:

رحمة ذاتية ثابتة لله تعالى.

ورحمة فعليه يوصلها من شاء من عباده كما قال تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)، والرحمة الفعلية تنقسم أيضاً إلى قسمين:

رحمة عامة لجميع الخلق في الدنيا والآخرة.

ورحمة خاصة بالمؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ومن رحمته بهم عدم المؤاخذة على الخطأ.

‌الفوائد:

1 -

وجوب محبة الرسول.

2 -

أن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم سبب لمحبة الله للعبد.

3 -

فضل اتباع الرسول: أولاً: محبة الله، ثانياً: مغفرة الذنوب.

4 -

أن محبة الله ليس بالكلام والدعاوى.

5 -

إثبات المحبة لله تعالى.

6 -

أن اتباع الرسول سبب لمغفرة الذنوب.

ص: 241

(قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)).

[آل عمران: 32].

(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الطاعة: موافقة الأمر، وذلك بفعل الأمر، وترك المحظور، ولهذا أخذتْ من المطاوعة وهي الانقياد.

• قوله تعالى (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم و (أل) للعهد الذهني أي: الرسول المعهود محمداً، والرسول تعريفه: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.

• وقد جاءت آيات كثيرة تأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا).

قال تعالى (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: خالفوا عن أمره.

(فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) فيجب أن نبغضهم ونحاربهم.

ص: 242

• قوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) هذا إظهار في مقام الإضمار، لأن الأصل أن يقول: فإن تولوا فإن الله لا يحبهم، وذلك لفائدة:

النص على علة السبب، فلما قال (

لا يحب الكافرين) علم أن سبب عدم محبتهم هو كفرهم، وأن توليهم وعدم الطاعة سببه الكفر.

وفائدة أخرى: أن الله لا يحب كل كافر.

‌الفوائد:

1 -

وجوب طاعة الله ورسوله.

2 -

أن طاعة الرسول من طاعة الله.

3 -

الرد على من قال: إن السنة لا يعمل بها إلا ما وافق القرآن.

4 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

وجوب بغض الكافرين.

6 -

وجوب محبة المؤمنين.

7 -

ذم التولي والإعراض عن دين الله.

ص: 243

(إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34))

[آل عمران: 33 - 34].

(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ) يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم عليه السلام خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه،

وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.

• وهو نبي ليس برسول.

لقوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ). فجعل النبيين من بعد نوح.

وفي حديث الشفاعة الطويل (أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض).

(وَنُوحاً) واصطفى نوحاً عليه السلام وجعله أول رسول [بعثه] إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا، سرا وجهارًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به.

(وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم.

(وَآلَ عِمْرَانَ) والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام.

ص: 244

• قال الرازي: قوله تعالى (إن الله اصطفى .. ) في الآية قولان:

الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف.

والثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين:

أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار.

والثاني: أنه موافق لقوله تعالى (الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته).

(عَلَى الْعَالَمِينَ) جمع عالم، وهم كل من سوى الله.

• قال ابن الجوزي: وإنما خصّ هؤلاء بالذكر، لأن الأنبياء كلهم من نسلهم.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) وفي معنى هذه البعضية قولان.

أحدهما: أن بعضهم من بعض في التناصُر والدين، لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس، وقتادة.

والثاني: أنه في التسلسل، لأن جميعهم ذرية آدم، ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم، ذكره بعض أهل التفسير.

• قال الرازي: قوله تعالى (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) في تأويل الآية وجوه:

لأول: ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة، ونظيره قوله تعالى (المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق.

والثاني: ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام، ويكون المراد بالذرية من سوى آدم.

ص: 245

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لأقوال العباد.

(عَلِيمٌ) عليم بضمائرهم وأفعالهم، عليم بمن يصلح للاصطفاء.

‌الفوائد:

1 -

فضل هؤلاء الأنبياء.

2 -

أن الله يختار من خلقه ما شاء الله كما قال تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

3 -

أن التفاضل كما يكون في الأعمال يكون في الأعيان.

4 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع والعليم.

ص: 246

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)).

[آل عمران: 35 - 37].

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ) امرأة عمران هذه أم مريم بنت عمران

(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) أي: نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني.

(مُحَرَّراً) أي: خالصاً مفرغاً للعبادة، ولخدمة بيت المقدس.

(فَتَقَبَّلْ مِنِّي) أي: تقبل مني هذا التقرب إليك.

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائي.

(الْعَلِيمُ) بنيتي.

• أهل الخير والصلاح يعملون أعمالاً صالحة ولا يغترون بها، بل يسألون الله القبول.

فهذا هو الخليل وولده إسماعيل يرفعان القواعد من البيت ويقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

وهؤلاء عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً ومع ذلك يقولون (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً. إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً).

وقال تعالى (إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

ص: 247

وقال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ).

وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات).

والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن.

وقال تعالى (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

قال ابن القيم: والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ).

ثم قال: ومن تأمل أحوال الصحابة وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير - بل التفريط - والأمن، فهذا الصديق يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.

وذكر عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.

وكان يبكي كثيراً ويقول: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا.

وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل.

وهذا عمر قرأ سورة الطور حنى بلغ (إن عذاب ربك لواقع) بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه.

وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.

وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته.

وهذا علي اشتد بكاؤه وخوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى.

وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من الدموع.

وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد وددت أني لم أخلق.

ص: 248

وقال ابن أبي مليْكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم خاف على نفسه النفاق ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.

وقال الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.

وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.

(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي: وضعت أنثى.

(قَالَتْ) على وجه الاعتذار.

(رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لأنه ليس من العادة أن الأنثى تخدم المسجد.

قال ابن عباس: إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور فقبل الله مريم.

• قال الرازي: اعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها، وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت (رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى) خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى، تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها، بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم، وأن ذلك من تمام قولها، وقُرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل.

• قال الآلوسي: قوله تعالى (والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات، وهي غافلة عن ذلك كله.

ص: 249

• قال ابن عادل: قوله تعالى (والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " وَضَعْتُ " بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس.

• وقرأ الباقون (وَضَعَتْ) بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى.

قال الزمخشريُّ: ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله تعالى (والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت.

(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) أي: في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى.

فالذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة، ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان.

والذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة.

و الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى.

والذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى.

(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) أي: أسميت هذه الأنثى مريم.

• قال الرازي: أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم، فلذلك تولت الأم تسميتها، لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء.

ثم قال: أن مريم في لغتهم: العابدة، فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا.

• قال ابن كثير: فيه دلالة على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق؛ لأنه شرع من قبلنا، وقد حكي مقررًا، وبذلك ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال (وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ وَلَد سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أبِي إبْرَاهِيمَ". أخرجاه.

ص: 250

وكذلك ثبت فيهما (أن أنس بن مالك ذهب بأخيه، حين ولدته أمه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَحَنَّكه وسماه عبد الله).

وفي صحيح البخاري (أن رجلا قال: يا رسول الله، وُلِدَ لي وَلَد، فما أُسمِّيه؟ قال: "اسْم وَلدِك عَبْد الرَّحْمَنِ).

(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) أي: عَوَّذتها بالله، عز وجل، من شر الشيطان، وعوذت ذريتها، وهو ولدها عيسى، عليه السلام. فاستجاب الله لها ذلك.

عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلا مَسَّه الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلّ صَارخًا مِنْ مَسِّهِ إيَّاهُ، إلا مَرْيَمَ وابْنَهَا". ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) متفق عليه.

• وذريتها: لم يكن لها ذرية إلا عيسى.

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه:

(وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) أي: جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويَسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين.

(وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً نافعًا وعملا صالحًا؛ ولأنه كان زَوْجَ خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح (فإذا بِيحيى وعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ).

• قال ابن عاشور: عد هذا في فضائل مريم، لأنه من جملة ما يزيد فضلها، لأن أبا التربة يكسب خلقه وصلاحه مرباه.

(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) وهو مكان العبادة، وليس هو المحراب الموجود في المساجد الآن.

• قال ابن عاشور: والمحراب بناء يتخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته، وأكثر ما يتخذ في علو يرتقي إليه بسلم أو درج، وهو غير المسجد.

ص: 251

(وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً) أي: من غير كسب ولا تعب، بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها.

وهي منقطعة للعبادة دائماً.

• قال ابن كثير: قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، وإبراهيم النخَعيّ، والضحاك، وقتادة، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفي، والسُّدِّي يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.

وعن مجاهد (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا) أي: علماً، أو قال: صحفًا فيها علم. رواه ابن أبي حاتم، والأول أصح، وفيه دلالة على كرامات الأولياء. وفي السنة لهذا نظائر كثيرة.

• قال أبو حيان: والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف، و (كلما) تقتضي التكرار، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها.

ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها، والمعنى: أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها، ولم يوجهه هو.

وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً.

قال الراغب: واللفظ محتمل، انتهى، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.

(قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا) يقول: من أين لك هذا؟

• قال أبو حيان: قوله تعالى (قال يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله) استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها، وكيف أتى هذا الرزق؟ و: أنَّى، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان، والأظهر أنه سؤال عن الجهة، فكأنه قال: من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة: معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك.

(قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ظاهره أنه لم: يأت به آدمي ألبتة، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.

• قال الماوردي: قوله تعالى (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) فيه قولان:

أحدهما: أن الله تعالى كان يأتيها بالرزق.

والثاني: أن بعض الصالحين من عباده سخره الله تعالى لها لطفاً منه بها حتى يأتيها رزقها. والأول أشبه.

• وقال أبو حيان: وهذا الخارق العظيم قيل: هو بدعوة زكريا لها بالرزق، فيكون من خصائص زكريا وقيل: كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى.

ص: 252

وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي، إلا إن كان ذلك في زمان نبي، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.

والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى، فهو كان لم يخلق بعد.

قال الزجاج: وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).

(إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: بغير مكافأة ومن غير تعب ولا جد.

• وهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم، وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، وقوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي بغير تقدير لكثرته، أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها، وهذا كقوله (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).

ورجح الطبري أنه من كلام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال: (إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب) فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب.

ص: 253

• قوله تعالى (من يشاء) ليعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، هي مشيئة مقرونه بالحكمة، والدليل على ذلك، قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله، بيّن أن ذلك مبني عن علم وحكمة.

‌الفوائد:

1 -

تعظيم هذه القصة، لأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبينها للناس.

2 -

عبادة هذه الأسرة لله تعالى.

3 -

النية الصالحة في تربية الأبناء.

4 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: السميع والعليم.

5 -

اعتذار الإنسان عن ربه إذا وقع الأمر خلاف ذلك.

6 -

التوسل إلى الله بربوبيته.

7 -

أنه لا يستوي الذكور والإناث.

8 -

جواز تسمية المولود حين يولد.

9 -

مشروعية إعاذة الإنسان أبناءه من الشيطان.

10 -

إثبات عداوة الشيطان للإنسان.

11 -

أن الله منّ على هذه الطفلة بشيئين: بالقبول الحسن، والنبات الحسن.

12 -

أن الله قد ييسر للإنسان من يكفله من أهل الخير.

13 -

أن الأنبياء لا يعلمون الغيب.

14 -

إثبات أن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ص: 254

(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (41)).

[آل عمران: 38 - 41].

(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لما رأى زكريا، عليه السلام، أن الله تعالى يرزق مريم، عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد ضعف ووَهَن منه العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خَفياً.

• قال في التسهيل (هُنَالِكَ) إشارة إلى مكان، وقد يستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا أي: لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم سأل مِنَ اللِه.

(قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي: من عندك.

(ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي: ولداً صالحاً، والمراد هنا ولداً صالحاً كما قال تعالى (

فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ).

• قال السعدي: قوله تعالى (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم. فاستجاب له دعاءه.

ص: 255

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أي: في ذلك المكان، قبل أن يخرج، وقد نبهه إلى الدعاء مشاهدة خوارق العادة مع قول مريم (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) والحكمة ضالة المؤمن، وأهل النفوس الزكية يعتبرون بما يرون ويسمعون، فلذلك عمد إلى الدعاء بطلب الولد في غير إبانه، وقد كان في حسرة من عدم الولد كما حكى الله عند في سورة مريم، وأيضاً فقد كان حينئذ في مكان شهد فيه فيضاً إلهياً، ولم يزل أهل الخير يتوخون الأمكنة بما حدث فيها من خير، والأزمنة الصالحة كذلك، وما هي إلا كالذوات الصالحة في أنها محال تجليات رضا الله.

وسأل الذرية الطيبة لأنها التي يرجى منها خير الدنيا والآخرة بحصول الآثار الصالحة النافعة.، ومشاهدة خوارق العادات خولت لزكريا الدعاء بما هو من الخوارق، أو من المستبعدات، لأنه رأى نفسه غير بعيد عن عناية الله تعالى، لا سيما في زمن الفيض أو مكانه، فلا يعد دعاؤه بذلك تجاوزا لحدود الأدب مع الله.

• قال القرطبي: دلّت هذه الآية على طلب الولد، وهي سُنّة المرسلين والصدّيقين.

قال الله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً).

وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وَقّاص قال: أراد عثمان أن يتبتّل فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.

وقد ترجم البخاري على هذا (باب طلب الولد) وقال صلى الله عليه وسلم لأبى طَلْحة حين مات ابنه (أعْرَسْتم الليلة؟ قال نعم قال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما، قال فحملت.

وفي البخاري: قال سفيان فقال رجل من الأنصار: فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن.

وترجم أيضاً (باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة) وساق حديث أنس بن مالك قال قالت " أم سُليم: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له، فقال: اللّهُمّ أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته.

وقال صلى الله عليه وسلم (الّلهُمّ اغفر لأبي سَلَمة وارفع درجته في المهديَّين فيما واخلفه في عَقِبه في الغابرين).

وقال صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الوَلود الوَدود فإني مكاثر بكم الأمم) أخرجه أبو داود.

والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه؛ لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته.

قال صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث" فذكر: أو ولد صالح يدعو له) ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية. (تفسير القرطبي).

ص: 256

(إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم، بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه، وهو كقول المصلين: سمع الله لمن حمده، يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين، وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً).

كما قال تعالى عنه في سورة مريم (كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً).

• ففي قوله تعالى (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) اختلف المفسرون لماذا دعاء ربه خفياً (أي سراً)؟

القول الأول: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند الكبر.

القول الثاني: لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره.

القول الثالث: إنه أخفاه لأنه طلب أمر دنيوي.

القول الرابع: لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء.

ورجح هذا القول: الطبري، وابن الجوزي، والرازي، والآلوسي، وابن عاشور، والقاسمي، والشنقيطي، والسعدي.

قال الطبري: قوله تعالى (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل، كراهة منه للرياء.

وقال ابن الجوزي: وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء، ومنه الحديث: إِنكم لا تدعون أصم.

وقال السعدي:

وناداه نداء خفياً، ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلاصاً.

وقال الشنقيطي: والأظهر: أن السر في إخفائه هو ما ذكرنا من كون الإخفاء أفضل من الإعلان في الدعاء.

• وقد ذكر ابن القيم فوائد إخفاء الدعاء فقال:

أحدها: أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.

ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه.

ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق.

رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.

ص: 257

خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.

سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسأله مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه.

ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره.

تاسعها: إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له.

• وقوله تعالى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) المراد بالإرث هنا إرث النبوة والعلم لا المال، وذلك لأمور:

أولاً: أن النبي أعظم وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده.

ثانياً: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء عليهم السلام، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

ثالثاً: أنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا نُورث، ما تركنا فهو صدقة) وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

رابعاً: قوله تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) أي: في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها.

(تفسير ابن كثير 5/ 213).

ص: 258

وقوله تعالى (بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) اختلف في معنى (لم نجعل له سمياً).

قيل: لم يسم أحد قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير والشوكاني والشنقيطي.

وقيل: لم نجعل له شبيهاً.، وهذا مرجوح لأن يحيي سبقه كثير من الأنبياء، وفيهم من هو أفضل منه.

• قال ابن جرير: وهذا القول أعني قول من قال: لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك، وإنما معنى الكلام: لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه.

• قال الشوكاني: قال أكثر المفسرين: معناه: لم نسمّ أحداً قبله يحيى.

وقال مجاهد وجماعة: معنى (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ، وردّ هذا بأنه يقتضي تفضيله على إبراهيم وموسى.

وقيل: معناه لم تلد عاقر مثله، والأوّل أولى.

ثم قال رحمه الله: وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين:

الأولى: أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين.

والجهة الثانية: أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه.

قال الشنقيطي: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: اسْمُهُ يَحْيَى، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ، وَلَمْ يَكِلْ تَسْمِيَتَهُ إِلَى أَبِيهِ، وَفِي هَذَا مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِيَحْيَى.

(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته، ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة.

وقال بعض العلماء: أطلق الملائكة وأراد جبريل، ومثل به بعض علماء الأصول للعام المراد به الخصوص قائلاً: إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل.

• قال ابن الجوزي: وفي الملائكة قولان:

أحدهما: جبريل وحده، قال السدي، ومقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع، تقول: ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس.

والثاني: أنهم جماعة من الملائكة، وهو مذهب قوم، منهم ابن جرير الطبري.

(أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) أي: بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان، وأن الذي تولى اسمه هو الله تعالى.

ص: 259

(مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي: مصدقاً بعيسى.

قال الرازي: وهو اختيار الجمهور.

قال الشنقيطي: وإنما قيل لعيسى: كلمة، لأن الله أوجده بكلمة وهي قوله (كن) فكان كما قال تعالى (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ).

قال الشنقيطي: وهذا قول جمهور العلماء في معنى (مصدقاً بكلمة الله)، وقيل: المراد بـ (كلمة) الكتاب، أي: مصدقاً بكتاب الله.

(وَسَيِّدًا) السيد، الذي يسود قومه؛ أي يفوقهم في الشرف والفضل.

(وَحَصُورًا) الصحيح في معنى (وحصوراً) أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلاً منه، وانقطاعاً لعبادة الله، وكان ذلك جائزاً في شرعه، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزوج وعدم التبتل.

• قال الرازي: والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها.

• وقال البغوي: واختار قوم هذا القول لوجهين:

أحدهما: لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء.

والثاني: أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء.

• وقول من قال إنه كان عاجز عن إتيان النساء لعجزه، أو لأنه عنين، فهذا ليس بصحيح.

• قال الرازي: من العلماء قال كان ذلك لصغر الآلة، ومنهم من قال: كان ذلك لتعذر الإنزال، ومنهم من قال: كان ذلك لعدم القدرة، فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال محصور عنهن، أي محبوس، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً.

• وقال الشنقيطي: أما قول من قال: إن الحصور فعول بمعنى مفعول، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن، فليس بصحيح، لأن العنّة عيب ونقص في الرجال، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها.

(وَنَبِيًّا) هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى.

(مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين صلحت عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم ونياتهم، والصلاح ضد الفساد، وقد وصف الله يحيي بالصلاح مع من وصف بذلك من الأنبياء في سورة الأنعام في قوله (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) لم يبين هنا القدر الذي بلغ من الكبر، ولكنه بينه في سورة مريم أنه بلغ من الكبَر عتياً وذلك في قوله تعالى (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً) والعتي: اليبس والقحول في المفاصل والعظام من شدة الكِبَر.

ص: 260

(وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) وبيّن تعالى أنها كانت كذلك قبل كِبرها بقوله (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً).

• فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ اسْتِفْهَامَ زَكَرِيَّا اسْتِفْهَامُ اسْتِخْبَارٍ وَاسْتِعْلَامٍ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ هَلِ اللَّهُ يَأْتِيهِ بِالْوَلَدِ مِنْ زَوْجَةِ الْعَجُوزِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِمَا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، أَوْ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ شَابَّةً، أَوْ يَرُدُّهُمَا شَابَّيْنِ؟ فَاسْتَفْهَمَ عَنِ الْحَقِيقَةِ لِيَعْلَمَهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا، وَهُوَ أَظْهَرُهَا.

الثَّانِي: أَنَّ اسْتِفْهَامَهُ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ بُعْدًا هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ: مِنْ أَنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى، قَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: لَيْسَ هَذَا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نِدَاءُ الشَّيْطَانِ، فَدَاخَلَ زَكَرِيَّا الشَّكُّ فِي أَنَّ النِّدَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّكِّ النَّاشِئِ عَنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ قَبْلَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ، وَلِذَا طَلَبَ الْآيَةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً الْآيَةَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ بُعْدٌ; لِأَنَّهُ لَا يَلْتَبِسُ عَلَى زَكَرِيَّا نِدَاءُ الْمَلَائِكَةِ بِنِدَاءِ الشَّيْطَانِ.

• وقال ابن عطية: وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟

ثم قال ابن عطية: وهذا تأويل حسن يليق بزكريا عليه السلام، وقال مكي: وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة، وهذا قول ضعيف المعنى.

ص: 261

(قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي: هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.

(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي: علامة أستدل بها على وجود الولد مني.

• قال الآلوسي: (قَالَ رَبّ اجعل لِّي ءايَةً) أي علامة تدلني على العلوق وإنما سألها استعجالاً للسرور قاله الحسن، وقيل ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهوراً معتاداً، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفاً.

• وقال ابن عاشور: وعن السدي والربيع: آية تحقق كون الخطاب الوارد عليه وارداً من قبل الله تعالى، وهو ما في إنجيل لوقا، وعندي في هذا نظر، لأن الأنبياء لا يلتبس عليهم الخطاب الوارد عليهم من الله ويعلمونه بعلم ضروري.

(قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) أي: إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سوي صحيح، كما في قوله (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).

• قال الشنقيطي: لَمْ يُبَيِّنْ هَلِ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ بُكْمٌ طَرَأَ لَهُ، أَوْ آفَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ لَا مَانِعَ لَهُ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» أَنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ وَأَنَّ انْتِفَاءَ التَّكَلُّمِ عَنْهُ لَا لِبُكْمٍ، وَلَا مَرَضٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) لِأَنَّ قَوْلَهُ سَوِيًّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تُكَلِّمَ مُفِيدٌ لِكَوْنِ انْتِفَاءِ التَّكَلُّمِ بِطَرِيقِ الْإِعْجَازِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ، لَا لِاعْتِقَالِ اللِّسَانِ بِمَرَضٍ، أَيْ: يَتَعَذَّرُ عَلَيْكَ تَكْلِيمُهُمْ وَلَا تُطِيقُهُ، فِي حَالِ كَوْنِكَ سَوِيَّ الْخَلْقِ سَلِيمَ الْجَوَارِحِ، مَا بِكَ شَائِبَةٌ بُكْمٌ وَلَا خَرَسٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ).

• وقال الشنقيطي: أي تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سوياً، أي سوي الخلق، سليم الجوارح، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العبادة، وأما ذكر الله فليس ممنوعاً منه بدليل قوله تعالى في آل عمران (َاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ).

• قال في التسهيل: قوله تعالى (واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً) وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكراً على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر.

• قال الرازي: ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه:

أحدها: أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات.

وثانيها: أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات.

وثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد، ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات.

• قال السعدي: وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها، فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره.

ص: 262

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا) قلبك ولسانك في جميع أوقاتك، أمره بذكره، لأن بالذكر تطمئن القلوب، وترتاح النفوس، ويستنير القلب، وشكراً لله تعالى.

وقد أمر الله بذكره كثيراً:

قال تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً).

وقال تعالى (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

وقال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) العشي: آخر النهار، والإبكار أول النهار.

وهذا الوقتان قد أمر الله بذكره فيهما:

فقال تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا).

وقال تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).

وقال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ).

وتسبيح الله يكون عن أمور ثلاثة:

عن صفة العيب، وعن نقص في كمال، وعن مماثلة المخلوقين.

فالنقص كقوله تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

وعن نقص في كمال مثل قوله تعالى (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا).

ومماثلة المخلوقين مثل قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

‌الفوائد:

1 -

أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله حتى الأنبياء.

2 -

أن زكريا بلغ سناً بعيداً دون أن يأتيه ولد.

3 -

أنه ينبغي للإنسان إذا سأل ذرية أن يسأل ذرية طيبة.

4 -

التوسل إلى الله بأسمائه المناسبة للحاجة.

5 -

أن الله يسمع الدعاء ويجيب.

6 -

إثبات الملائكة.

7 -

مشروعية تبشير الإنسان بما يسره.

ص: 263

قال تعالى (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقال تعالى (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ).

وقال معاذ للرسول (أفلا أبشر الناس؟) متفق عليه.

قال كعب (

فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ، فَخَرَرْتُ سَاجِدا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. فآذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله عز وجل عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَساً وَسَعَى

سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ

8 -

الثناء على من صدق المرسلين.

9 -

الصفات العظيمة في النبي يحيي.

10 -

أن الأنبياء من الصالحين، بل هم في أعلى مراتب الصلاح.

11 -

أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما تطمئن به نفسه.

12 -

إثبات المشيئة لله.

13 -

جواز البحث عما يزيد الإيمان.

14 -

تمام قدرة الله.

15 -

فضل ذكر الله.

16 -

فضل ذكر الله في هذين الوقتين.

(الأحد 8/ 6/ 1433 هـ).

ص: 264

(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)).

[آل عمران: 42 - 44].

(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ) قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده.

وهذا كقوله (يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ) يعني جبريل، وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام، وهو قوله (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً).

والمعنى: واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم - التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً - يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ، أي: اختارك واجتباك لطاعته، وقبلك لخدمة بيته وَطَهَّرَكِ من الأدناس والأقذار، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد، والطبع السليم وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر.

وجعلك أنت وهو آية للعالمين.

فأنت ترى أن اللّه تعالى قد مدح مريم مدحاً عظيماً بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه، والتنويه بقدره.

• وقول الملائكة لمريم (إن اللّه اصطفاك وطهرك .. ) الراجح أنهم قالوه لها مشافهة، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال: روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى.

وقيل: كان خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم.

والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشرا سويا وكلمها، وذلك في قوله تعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.

ص: 265

(يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) اصطفاؤه إياها سبحانه من وجوه:

أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث.

ثانيها: أنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة.

ثالثها: أنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى (أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله).

رابعها: أنه أنبتها نباتاً حسناً.

(وَطَهَّرَكِ) من كل عيب في خلق وخُلق ودين.

(وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) وفي هذا الاصطفاء الثاني أقوال.

قيل: إنه تأكيد للأول.

وقيل: الاصطفاء الأول اصطفاء عام، وهذا الاصطفاء اصطفاء خاص بالنساء، حيث جعلها من النساء الكمّل.

وقيل: الأول للعبادة، والثاني: لولادة عيسى عليه السلام.

وذهب بعض العلماء إلى أن الاصطفاء الأول أنه تقبلها، والثاني لولادة عيسى.

• قال الرازي: وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة، وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة

• قوله تعالى (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) قيل: جميع النساء في سائر الأعصار، واستدل به على أفضليتها على فاطمة، وخديجة، وعائشة رضي الله تعالى عنهن.

وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها، واختاره ابن جرير.

ص: 266

(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع.

• قال ابن كثير: ثم أخبر تعالى عن الملائكة: أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها، لما يريد الله تعالى بها من الأمر الذي قدره وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولدًا من غير أب، فقال تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ).

• جاء في التفسير الوسيط: القنوت. لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخشوع والخضوع اللّه رب العالمين.

أي: قالت الملائكة أيضاً لمريم: يا مريم أخلصي العبادة للّه وحده وداومي عليها، وأكثري من السجود اللّه ومن الركوع مع الراكعين، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قرباً وحباً من خالقه عز وجل.

فالآية الكريمة دعوة قوية من اللّه تعالى لمريم ولعباده جميعاً بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة.

• قوله تعالى (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) اللام في قوله (لربك) للاختصاص، أي: قنوتاً خالصاً لله، أي: طاعة خالصة له، لأن من شرط الطاعة أن تكون خالصة لله.

(وَاسْجُدِي) أي: السجود المعروف.

وعطف السجود على القنوت من باب عطف الخاص على العام. وذكر الخاص بعد العام يدل على فضله ومزيته، ولذلك يعتبر السجود من أفضل الطاعات وفي الحديث (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).

(وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) الركوع معروف، والمعنى:(مع الراكعين) في جملتهم، وليس المراد أن تصلي مع الجماعة، لأن المرأة لا تخاطب بالصلاة مع الجماعة، لكن كوني في جملة الراكعين الذين يركعون لله.

• قدم السجود على الركوع، لأنه أفضل وأشرف.

وقيل: إن السجود كان في دينهم قبل الركوع، قال ابن القيم: وهذا قائل ما لا علم له به.

ص: 267

• قال ابن القيم: والذي يظهر في الآية والله أعلم بمراده من كلامه أنها اشتملت على مطلق العبادة وتفصيلها فذكر الأعم ثم ما هو أخص منه ثم ما هو أخص من الأخص

فذكر القنوت أولا وهو الطاعة الدائمة فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة ثم ذكر ما هو أخص منه وهو السجود الذي يشرع وحده كسجود الشكر والتلاوة ويشرع في الصلاة فهو أخص من مطلق القنوت ثم ذكر الركوع الذي لا يشرع إلا في الصلاة فلا يسن الإتيان به منفردا فهو أخص مما قبله ففائدة الترتيب النزول من الأعم إلى الأخص إلى أخص منه وهما طريقتان معروفتان في الكلام النزول من الأعم إلى الأخص.

(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي: هذا الذي قصصناه عليك من قصة امرأة عمران وابنتها مريم البتول ومن قصة زكريا ويحيي إنما هو من الأنباء المغيبة والأخبار الهامة التي أوحينا بها إليك يا محمد ما كنت تعلمها من قبل.

• فاسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.

والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.

والوحي: لغة الإعلام بسرعة.

وشرعاً: إخبار الله تعالى لنبي من أنبيائه بما يشاءه من شرعه.

ص: 268

• قال القرطبي: قوله تعالى (نُوحِيهِ إِلَيكَ) فيه دلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب؛ وأخبر عن ذلك وصدّقه أهل الكتاب بذلك؛ فذلك قوله تعالى (نُوحِيهِ إِلَيكَ) فردّ الكناية إلى "ذلك" فلذلك ذُكِّر.

(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي: وما كنت عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم حين ألقوا أقلامهم للقرعة كل يريدها في كنفه ورعايته.

• والأقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة، وقيل المراد بها السهام.

أي: وما كنت - يا محمد - لديهم أي: عندهم معايناً لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها

(وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي: يتنازعون فيمن يكفلها منهم.

والغرض: أن هذه الأخبار كانت وحياً من عند الله العليم الخبير.

• قال الرازي: ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً:

الأول: المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين.

والثاني: أنهم لما ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم، هذا قول الربيع

والثالث: قال أبو مسلم: معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى (فساهم فَكَانَ مِنَ المدحضين) وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور، وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً.

• قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به، فوجب حمل لفظ القلم عليه.

ص: 269

• قال القرطبي: استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظِّنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعاً للكتاب والسنَّة.

وردّ العملَ بالقُرْعة أبو حنيفة وأصحابه، وردّوا الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنها لا معنى لها وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.

وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوّزها وقال: القرعة في القياس لا تستقيم، ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنّة.

قال أبو عبيد: وقد عمِل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال ابن المنذر: واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء، فلا معنى لقول من ردّها.

وقد ترجم البخاريّ في آخر كتاب الشهادات (باب القُرْعةِ في المشكِلات وقولِ الله عز وجل (إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) وساق حديث النعمان بن بشير (مثل القائم على حدود الله والمُدْهِن فيها مثل قوم استهموا على سفينة

).

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا).

ص: 270

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه).

‌الفوائد:

1 -

تعظيم شأن مريم.

2 -

فضل مريم.

3 -

أن الله يصطفي من الناس من يشاء.

4 -

براءة مريم مما ادعاه اليهود من كونها بغياً.

5 -

أن مريم مفضلة على النساء.

6 -

أن الله إذا أنعم على أحد بنعمة ينبغي أن يشكر الله ويتعبد له.

7 -

فضيلة القنوت، وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

8 -

فضيلة السجود والركوع.

9 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

10 -

جواز القرعة.

ص: 271

(إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (51)).

[آل عمران: 46 - 51].

(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) هذه بشارة من الملائكة لمريم، عليها السلام، بأن سيوجد منها ولد عظيم، له شأن كبير.

(إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي: بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي: بقوله له (كن فيكون) وهذا تفسير قوله (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه.

• قال ابن عاشور: ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة.

ص: 272

• قوله تعالى (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)(من) ليست تبعيضية، بل ابتدائية، كقوله صلى الله عليه وسلم (وروح منه) من: ابتدائية، وليست تبعيضية، كقوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) أي: روح صادرة من الله، وليست جزءاً من الله كما تزعم النصارى.

(اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اسمه عيسى، ولقبه المسيح، وينسب لأمه. سمي بالمسيح؟

قيل: لكثرة سياحته.

وقيل: لأنه كان مسيح القدمين، أي: لا أخْمَص لهما.

وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى.

• قال النووي: حكي عن ابن عباس أنه قال: لم يمسح ذا عاهة إلا برئ.

وقيل: لأنه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له.

وقيل: لمسحه الأرض أي قطعها.

• وينسب لأمه، حيث لا أب له.

• قال ابن تيمية: ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال (ابن مريم) بخلاف سائر الأنبياء وفي ذلك فائدتان:

إحداهما: بيان أنه مولود، والله لم يولد.

والثانية: نسبته إلى مريم، بأنه ابنها ليس هو ابن الله.

ص: 273

(وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أي: له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزل عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منحه به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه، أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله عليهم.

• قال الشوكاني: وجاهته في الدنيا النبوة، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة.

• وقال أبو حيان: وقيل: في الدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالشفاعة.

وقيل: في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وفي الآخرة بالشفاعة.

وقيل: في الدنيا كريماً لا يرد وجهه، وفي الآخرة في علية المرسلين.

وقال الزمخشري: الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة.

وقال ابن عطية: وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته.

(وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) عند الله.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي: يكلمهم وهو في المهد، آية من آيات الله تعالى. (المهد فراش الرضيع).

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلَاثَةٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِداً فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَانَ فِيهَا فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّى فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي

وَبَيْنَا صَبِىٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَتْ أُمُّهُ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا. فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ. قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَحْكِى ارْتِضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ فَجَعَلَ يَمُصُّهَا. قَالَ وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ. وَهِىَ تَقُولُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَتْ أُمُّهُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا. فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ. فَقُلْتَ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ. فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا. فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا قَالَ إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّاراً فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ. وَلَمْ تَزْنِ وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا) رواه مسلم.

ص: 274

(وَكَهْلًا) أي: يكلمهم في المهد كما يكلمهم في الكهولة.

• قال الزمخشري: معناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة.

• قال أبو مسلم: معناه أنه يكلم حال كونه في المهد، وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجزة.

• وقال بعض العلماء: وفائدة الآية أنه أعلمهم أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد ويعيش إلى أن يكلمهم كهلاً، إذ كانت العادة أن

من تكلم في المهد لم يعش.

• قال الأصم: المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة.

(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين صلحت أعمالهم وعقائدهم وأقوالهم لله تعالى.

• قال الطبري (ومن الصالحين) فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي: قالت ذلك متعجبة.

(وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي: ولست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً؟ حاشا لله.

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (قالت رب أنّى يكون لي ولد) في علة قولها هذا قولان:

أحدهما: أنها قالت هذا تعجباً واستفهاماً، لا شكاً وإنكاراً، على ما أشرنا إليه في قصة زكريا، وعلى هذا الجمهور.

والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدمياً يريد بهاً سوءاً، ولهذا قالت (أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً).

• قال تعالى في سورة مريم (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم.

• قال ابن القيم: خلق هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب:

لا من ذكر ولا من أنثى، كآدم.

من ذكر بلا أنثى، كحواء.

من أنثى بلا ذكر، كالمسيح.

من ذكر وأنثى، كسائر النوع.

ص: 275

• قال بعض العلماء: أن الملك وهو جبريل عليه السلام - لما استسلمت مريم لقضاء الله - نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى.

قال تعالى في سورة مريم (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).

• قوله تعالى عنها (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) أي قبل هذا الحال.

• تمنت مريم الموت لسببين:

الأول: خوفاً من أن يقع أناس ويفتنوا بسببها.

الثاني: حتى لا تتهم بدينها.

• وقولها (وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) أي لم أخلق ولم أك شيئاً.

قال ابن كثير: فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية.

وقوله تعالى (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) قولان للعلماء في المراد به:

فقيل: هو جبريل، وهو قول ابن عباس.

وقيل: عيسى، ورجحه ابن جرير والشنقيطي.

قال الشنقيطي مرجحاً هذا القول: فأشارت إليه، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته.

(أَلاَّ تَحْزَنِي) أي ناداها قائلاً لها: لا تحزني (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) أي جعل جدولاً صغيراً يجري أمامك (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)

أي حركي جذع النخلة اليابسة (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) أي طرياً لذيذاً نافعاً (فكلي) من التمر (واشربي) من النهر (وقري عيناً) بهذا المولود عيسى، ولا تحزني.

ص: 276

(فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً) أي مهما رأيت من أحد (فَقُولِي) المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي [فلن أكلم اليوم إنسياً](إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) أي سكوتاً.

(فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً) أي فلن أكلم أحداً من الناس.

• قال السعدي: فأمرها أنها إذا رأت أحداً من البشر أن تقول على وجه الإشارة إني نذرت للرحمن صوماً، لتستريح من قولهم وكلامهم، وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفْي ذلك عن نفسها، لأن الناس لا يصدقونها، ولا فائدة فيه، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد، أعظم شاهداً على قراءتها.

قوله تعالى (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت الأمر لله واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً وقالوا:

قوله تعالى (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً) أي أمراً عظيماً.

(يَا أُخْتَ هَارُونَ) اختلف العلماء ما المراد بهارون هنا؟

فقيل: نسبة إلى رجل صالح في قومها اسمه هارون، أي يا شبيهة هارون بالعبادة.

وقيل: كانت من نسل هارون، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم.

• وليس المراد به هارون أخا موسى بالاتفاق، لأن الله ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً، وليس بعده إلا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا ثبت في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي).

(مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) يا أخت الرجل الصالح هارون ما كان أبوك رجل سوء يأتي الفواحش، وما كانت أمك امرأة سوء تأتي البِغاء.

ص: 277

(فأشارت إليه) أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه.

• ومعنى إشارتها إليه: أي أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر، بدليل أنهم قالوا (كيف نكلم من كان في المهد صبياً).

فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً) أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه.

كما قال تعالى (وقال عيسى يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم).

وقال (إن الله ربي وربكم هذا صراط مستقيم).

وقال تعالى عنه (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم).

• قال العلماء: إنما قدم ذكر العبودية ليبطل قول من ادعى فيه الربوبية.

(قَالَ) لها الملك في جواب هذا السؤال:

(كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي: هكذا أمْرُ الله عظيم، لا يعجزه شيء. وصرح هاهنا بقوله (يَخْلُقُ) ولم يقل:(يفعل) كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق؛ لئلا يبقى شبهة.

(إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي: فلا يتأخر شيئًا، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة، كقوله تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي: إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر.

• قال الطبري: يقول تعالى: قالت مريم إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه: (ربِّ أنَّى يكون لي ولد) من أيِّ وجه يكون

لي ولد؟ أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها (كذلك الله يخلق ما يشاء) يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد خلقه فيقول له (كن فيكون) ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء.

ص: 278

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، قاله ابن كثير، واختار هذا ابن جرير الطبري.

• قال ابن عطية: (ويعلمه الكتاب) هو الخط باليد فهو مصدر كتب يكتب. هذا قول ابن جريج وجماعة المفسرين، وقال بعضهم: هي إشارة إلى كتاب منزل لم يعين وهذه دعوى لا حجة عليها.

(وَالْحِكْمَةَ) قيل: المراد بالحكمة هنا تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق.

وقيل: المراد بها هنا السنة، واختاره ابن جرير.

وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام.

وقيل: الصواب في القول والعمل.

• من حكم عيسى عليه السلام:

كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك اتركوا لهم بالدنيا.

لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا.

يا معاشر الحواريين إن خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة، ويباعدان من زهرة الدنيا.

يا ابن آدم الضعيف اتّق الله حيثما كنت، وكل كسرتك من حلال، واتخذ المسجد بيتاً، وكن فيه الدنيا ضعيفاً، وعوّد نفسك البكاء، وقلبك التفكر، وجسدك الصبر، ولا تهتم برزقك غداً فإنها خطيئة تكتب عليك.

أصل كل خطيئة حب الدنيا. ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً.

اعبروا الدنيا ولا تعمروها، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.

حب الدنيا أصل كل خطيئة، والمال فيه داء كبير. قالوا: وما داؤه؟ قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء. قالوا: فإن سلم؟ قال: يشغله اصلاحه عن ذكر الله.

وأخرج البيهقي عن مالك بن دينار قال: قالوا لعيسى عليه السلام يا روح الله ألا نبني لك بيتا؟ قال: بلى. ابنوه على ساحل البحر قالوا: إذن يجيء الماء فيذهب به قال: أين تريدون؟ تبنون لي على القنطرة؟

مرت امرأة على عيسى عليه السلام فقالت: طوبى لثدي أرضعك، وحجر حملك، فقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن قرأ كتاب الله ثم عمل بما فيه.

الخمر مفتاح كل شر، والنساء حبالة الشيطان.

وقال لأحبار بني إسرائيل: لا تكونوا للناس كالذئب السارق، وكالثعلب الخدوع، وكالحدأ الخاطف.

يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر داراً؟ قالوا: يا روح الله ومن يقدر على ذلك! قال: إياكم والدنيا فلا تتخذوها قراراً.

طوبى لمن خزن لسانه، ووسعه بيته، وبكى من ذكر خطيئته. استحي مني.

(وَالتَّوْرَاةَ) وهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى بن عمران.

(وَالْإِنْجِيلَ) وهو الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، وقد كان عيسى عليه السلام، يحفظ هذا وهذا.

(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ) أي: و يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، قائلا لهم:

(أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: جئتكم بعلامة تدل على صدقي، وهي ما أيدني الله من المعجزات.

• المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن

المغيبات فكان المراد من قوله (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ) الجنس لا الفرد.

ص: 279

وفي هذا أن عيسى بعث إلى قومه خاصة لقوله (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ) ولقوله صلى الله عليه وسلم (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) متفق عليه.

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ) وكذلك كان يفعل: يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخُ فيه، فيطير عيانًا بإذن الله، عز وجل، الذي جعل هذا معجزة يَدُلّ على أن الله أرسله.

• قال في التسهيل: ذكر (بِإِذْنِ الله) رفعاً لوهم من توهم في عيسى الربوبية.

• وقال الشوكاني: وقوله (بِإِذُنِ الله) فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام.

• قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الآية، هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم، ونظيرها قوله تعالى (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) الآية، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله خالق كل شيء كقوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وقوله (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) إلى غير ذلك من الآيات.

والجواب ظاهر وهو معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين: هو أخذه شيئاً من الطين وجعله على هيئة أي صورة الطير، وليس المراد الخلق الحقيقي؛ لأن الله متفرد به - جل وعلا -وقوله (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) معناه: تكذبون، فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر.

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قيل: هو الذي يبصر نهارًا ولا يبصر ليلاً، وقيل بالعكس. وقيل: هو الأعشى. وقيل: الأعمش. وقيل: هو الذي يولد أعمى. وهو أشبه؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي.

(وَالْأَبْرَصَ) معروف.

• قال ابن عادل: إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطبَّ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.

• وقال الشوكاني: وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر؛ لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة.

ص: 280

(وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) الآية العظمى، وهذا من آيات الله، وفي الأخرى (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى)، في الآيتين إحياء الموتى وإن كانوا على ظهر الأرض، وإحياء الموتى وإن كانوا في القبور وإخراجهم منها أحياء، يعني إذا ضممت هذه إلى هذه استفدت فائدتين: أنه يحيي الموتى وهم على ظهر الأرض، ويحييهم وهم في بطن الأرض فيخرجون. (الشيخ ابن عثيمين).

• قال ابن كثير: قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة. فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من الأبرار. وأما عيسى عليه السلام فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله، عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا.

(وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي: أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغده.

• قال الرازي: الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة، وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة، ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: في ذلك كله.

• قال الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة.

ص: 281

(لَآيَةً لَكُمْ) على صدقي فيما جئتكم به.

• قال الطبري: أي: لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم (إني رسولٌ من ربكم إليكم) وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.

• فغير المؤمن لا ينتفع بالآيات قال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

(وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: مقرر لهم ومُثَبّت.

(وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) أي: ولأحلَّ لكم بوحي من الله بعض ما حرَّمه الله عليكم تخفيفًا من الله ورحمة.

والمحرم عليهم ذكر الله تعالى في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).

وقال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

• قال ابن كثير: فيه دلالة على أن عيسى، عليه السلام، نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطؤوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى (وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) والله أعلم.

(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: وجئتكم بحجة من ربكم على صدق ما أقول لكم.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: فاتقوا الله يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه.

(وَأَطِيعُونِ) فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به.

ص: 282

(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي: أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه.

• معاني الرب في لسان العرب ترجع إلى 3 أصول: الأول: السيد، والثاني: المالك، والثالث: المصلح للشيء للقائم عليه.

• قال الرازي: ختم كلامه بقوله (إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ) ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون: إنه إله وابن إله لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه، ثم قال (فاعبدوه) والمعنى: أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه، ثم أكد ذلك بقوله (هذا صراط مُّسْتَقِيم).

• وقال في التسهيل: قوله تعالى (إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ردّ على من نسب الربوبية لعيسى.

• عبادة الله: هذه دعوة جميع الرسل، الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك الشرك، وهذا معنى: لا إله إلا الله: أي: لا معبود حق إلا الله.

• وأصل العبادة في لغة العرب: الذل والخضوع، وقيل للعبد (عبد) لذله وخضوعه لسيده، فالعبادة: الذل والخضوع على وجه المحبة خاصة، فلا تكفي المحبة دون الذل والخضوع، ولا يكفي الذل والخضوع دون المحبة، لأن الإنسان إذا كان ذله متجرداً عن محبة الله يُبغض الذي هو يذل له، ومن أبغض ربه هلك، وإذا كانت محبةً خالصة لا خوف معها، فإن المُحب الذي لا يُداخله خوف يحمله الدلال على أن يسيء الأدب، ويرتكب أموراً لا تنبغي، والله عز وجل لا يليق به شيء من ذلك. (قاله الشنقيطي)

• فالعبادة تطلق على معنيين: احدهما: التعبد: يعني التذلل لله، كما سبق، وتطلق على المتعبد به (بالنسبة لأفعال العباد) وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة القلبية والجوارحية.

• دعوة جميع الرسل الدعوة إلى عبادة الله وحده.

كما قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وكان كل نبي يقول لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره كما قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).

ص: 283

وقال تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)

وقال تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)

وقال تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)

(هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم، لا عوج فيه، وهو طريق الجنة.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (هذا صراط مستقيم) الإشارة إلى ما قاله كلِّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير.

‌الفوائد:

1 -

فضل مريم وابنها.

2 -

مشروعية تبشير المسلم.

3 -

الثناء على عيسى بهذه الصفات العظيمة.

4 -

أن عيسى وجد من أم بلا أب.

5 -

أن عيسى مخلوق كغيره من البشر.

6 -

الرد على اليهود في اتهامهم لعيسى وأمه.

7 -

عظمة قدر الله تعالى.

8 -

أن الله لا يعجزه شيء.

9 -

أن كل أحد بحاجة إلى تعليم الله حتى الأنبياء.

10 -

فضل العلم.

11 -

إثبات رسالة عيسى.

12 -

أن عيسى مرسل إلى قومه خاصة.

13 -

الإشارة إلى وجوب قبول رسالته لقوله (من ربكم).

14 -

قدرة الله حيث جعل عيسى ابن مريم يخلق من الطين كهيئة الطير.

15 -

أن من آيات عيسى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، لكن بإذن الله.

16 -

الآية العظيمة وهي إحياء الموتى.

17 -

أن الرسل لا يملكون شيئاً من الربوبية.

18 -

أن الله أطلع نبيه عيسى على ما يأكل قومه وما يدخرون.

19 -

إثبات الحكمة لله تعالى.

20 -

أن الإيمان يحمل صاحبه على قبول الآيات.

ص: 284

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54))

[آل عمران: 52 - 54].

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أي: استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال.

(قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) قال مجاهد: أي من يَتبعني إلى الله؟ وقال سفيان الثوري وغيره: من أنصاري مع الله؟ وقول مجاهد أقربُ.

والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج، قبل أن يهاجر:(مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى أن أبلغ كلامَ رَبِّي، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي) حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر. وهكذا عيسى ابن مريم، انْتدَبَ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.

• قال الرازي: قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى (وَلَا تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم) أي معها، وقال صلى الله عليه وسلم (الذود إلى الذود إبل) أي مع الذود.

• قال الماوردي: واختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه استنصر بهم طلباً للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته، وهذا قول الحسن، ومجاهد.

والثاني: أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق.

والثالث: لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف.

(قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) أي: قال أصفياء عيسى: نحن أنصار دين الله والداعون إليه.

• قال الرازي: ذكروا في لفظ (الحواري) وجوهاً:

الأول: أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل، وخالصته، ومنه يقال للدقيق حواري، لأنه هو الخالص منه، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير (إنه ابن عمتي، وحواري من أمتي) والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم.

القول الثاني: الحواري أصله من الحور، وهو شدة البياض، ومنه قيل للدقيق حواري، ومنه الأحور، والحور نقاء بياض العين، وحورت الثياب: بيضتها، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم؟ فقال سعيد بن جبير: لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين، يبيضون الثياب، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم، وإشارة إلى نقاء قلوبهم، كالثوب الأبيض، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب، طاهر الذيل، إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة، وفلان دنس الثياب: إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي.

ص: 285

• قال الطبري: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى "الحواريين"، قولُ من قال: سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين.

• قال الشنقيطي: لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ولكنه بين في سورة الصف، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد صلى صلى الله عليه وسلم في نصرة الله ودينه، وذلك في قوله تعالى (يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله).

(آمَنَّا بِاللَّهِ) أي: آمنا بما يجب الإيمان بالله.

(وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فالإسلام دين جميع الرسل:

فنوح يقول لقومه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً (فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وأبناء يعقوب يجيبون أباهم (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وموسى يقول لقومه (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ).

والحواريون يقولون لعيسى (آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

ويوسف قال (توفني مسلماً

).

وسليمان عليه السلام قال (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِين).

وملكة سبأ (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ) أي: صدّقنا (بما أنزلت) يعني: بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك.

(وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) أي: امتثلنا ما أتى به منك إلينا.

ص: 286

(فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم، حيث قالوا (واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر، وتقوية له، وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة.

• قال الطبري: يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.

وقيل: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق.

(وَمَكَرُوا) أي: مكروا بعيسى حيث هموا بقتله.

(وَمَكَرَ اللَّهُ) حيث أنقذه منهم، ورفعه إلى السماء.

قيل: إن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهم.

• قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله، وذلك في قوله (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله) وبين أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك في قوله (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ)، وقوله (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ).

(وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) سبحانه وتعالى.

‌الفوائد:

1 -

عتو بني إسرائيل.

2 -

أن الرسل دعوتهم إلى الله لا إلى أنفسهم.

3 -

فضيلة الحواريين.

4 -

أن الرسل لا يعلمون الغيب.

5 -

فضيلة الحواريين في لجوئهم إلى الله.

6 -

إثبات علو الله.

7 -

أن أعداء الرسل يمكرون لهم.

8 -

أن الله لا يوصف بالمكر على سبيل الإطلاق، بل يقال: إن الله ماكر بمن يمكر به.

ص: 287

(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)).

[آل عمران: 55].

(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) اختلف المفسرون في قوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).

لأن عيسى لم يمت بل رفع كما قال تعالى (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً).

وقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

فقيل: المراد بالوفاة هنا النوم.

وهذا قول الربيع بن أنس، والحسن وغيرهم، وعزاه ابن كثير والشوكاني للأكثرين.

• قال ابن كثير: وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النوم. واستدلوا:

بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ).

وقوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يقول (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) رواه البخاري.

وقوله تعالى (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً).

قال ابن كثير: والضمير في قوله (قبل موته) عائد على عيسى، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة.

وقيل: إن الوفاة هنا بمعنى: القبض، أي: قابضك من الأرض، فرافعك إليّ.

وهذا قول جمهور المفسرين. واستدلوا:

بقوله تعالى (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

قال البغوي: أي قبضتني إلى السماء وأنا حي، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه إلى السماء لا بعد موته.

قال الشنقيطي:

الوجه الثالث: أنّ (مُتَوَفِّيكَ) اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم: (توفّى فلان دينه) إذا قبضه إليه .. فيكون معنى (مُتَوَفِّيكَ) على هذا قابضك منهم إلي حيا، وهذا القول هو اختيار بن جرير،

ثم قال رحمه الله: وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائيليات، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها.

ص: 288

وقيل: إن الوفاة في الآية بمعنى الموت، وهذا مروي عن ابن عباس. وهذا القول يحتمل وجهين:

الوجه الأول: أن الله توفاه ثم رفعه بعد ذلك إلى السماء.

الوجه الثاني: أن في الآية تقديماً وتأخيراً فيكون المعنى: إني رافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، وهذا من المقدم الذي معناه التأخير.

• قال السمرقندي: قوله تعالى (إِذْ قَالَ الله يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ) ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال.

وقد ضعف ابن جرير الوجه الأول فقال: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله، لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله

إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ثم يحييهم.

وقال القرطبي - بعد أن أورد الوجه الأول -: وهذا فيه بعد، فإنه صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم نزوله وقتله الدجال.

وقيل: أن الوفاة هنا بمعنى: مستوفي أجلك، ومتم عمرك، وذلك بعصمتك من قتل أعدائك، ومؤخرك إلى أجلك المقدر، ومميتك بعد ذلك لا قتلاً بأيديهم.

وهذا اختيار الزمخشري، وأبي السعود، والقاسمي.

وقيل: أن الوفاة هنا بمعنى: متقبل عملك، وقد أورد هذا المعنى ابن عطية وضعفه فقال: وهذا ضعيف من جهة اللفظ.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: برفعي إياك إلى السماء.

• قال الراز: المعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى.

(وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وهكذا وقع؛ فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورَد على كل فريق، فاستمروا كذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم نَبَع لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة -التي هي الخيانة الحقيرة-وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصَلّوا له إلى المشرق وصوروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه الطائفة المَلْكِيَّة منهم. وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيَّدهم الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفار، عليهم لعائن الله.

ص: 289

قال الرازي: قوله تعالى (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فيه وجهان:

الأول: أن المعنى: الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به، وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة، فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة، فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون، وأما النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك.

الثاني: المراد بالفوقية بالحجة والدليل.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي: يوم القيامة.

• ويوم القيامة، سمي بذلك:

أولاً: لأن الناس يقومون من قبورهم: قال تعالى (يوم يقوم الناس لرب العالمين).

ثانياً: ولقيام الأشهاد. لقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).

ثالثاً: ولقيام الملائكة لقوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً

).

(فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي: فأفصِل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمر عيسى عليه السلام.

‌الفوائد:

1 -

إثبات القول لله تعالى.

2 -

أن الله رفع عيسى بجسمه.

3 -

أن الله منع الأذى عن عيسى.

4 -

طهارة عيسى من كل سوء.

5 -

أن كل من اتهم عيسى بالسوء فهو كافر.

6 -

أن أتباع عيسى منصورون إلى يوم القيامة.

7 -

إثبات يوم القيامة.

8 -

أن مرجع الخلائق إلى الله.

ص: 290

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)). [56 - 58].

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله.

(فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وكذلك فعل تعالى بمن كفر بالمسيح من اليهود، أو غلا فيه وأطراه من النصارى؛ عَذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخْذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك، وفي الدار الآخرة عَذابُهم أشد وأشق (وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).

• والدنيا هي هذه الحياة التي نعيشها التي قبل الآخرة، وسميت لدنيا لسببين:

السبب الأول: لأنها قبل الآخرة في الزمن.

السبب الثاني: لدناءتها وحقارتها بالنسبة للآخرة. كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري.

(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ينصرهم ويدفع عنهم العذاب، قال تعالى (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ).

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: آمنوا بقلوبهم وانقادوا.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي: وعملوا بجوارحهم، الأعمال الصالحات، من الأفعال والأقوال، الواجبات والمستحباب، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

• والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص، لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرى ما نوى)، الشرط الثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رواه مسلم

• ودائماً يقرن الله العمل بالصالح، لأنه ليس كل عمل يقبل إلا إذا كان صالحاً.

قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

).

وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً

).

ص: 291

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به.

• والإيمان شرعاً: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.

• قال السعدي: ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول

بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.

(فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات.

وقال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ).

وقال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تحذير شديد للظالمين، وأعظم الظلم الشرك بالله تعالى كما تعالى (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

(ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي: هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله الله تعالى، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

ص: 292

‌الفوائد:

1 -

إثبات القول لله تعالى.

2 -

أن الله رفع عيسى بجسمه.

3 -

أن الله منع الأذى عن عيسى.

4 -

طهارة عيسى من كل سوء.

5 -

أن كل من اتهم عيسى بالسوء فهو كافر.

6 -

أن أتباع عيسى منصورون إلى يوم القيامة.

7 -

إثبات يوم القيامة.

8 -

أن مرجع الخلائق إلى الله.

9 -

إثبات علو الله تعالى.

10 -

تهديد الكفار بيوم القيامة.

11 -

أن العمل لا ينفع إلا إذا كان صالحاً.

12 -

من شروط قبول العمل الإيمان.

13 -

إثبات المحبة لله تعالى.

14 -

تحريم الظلم بكل أنواعه.

15 -

فضل القرآن الكريم.

ص: 293

(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (60)).

[آل عمران: 59 - 60].

(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ) في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب.

(كَمَثَلِ آدَمَ) فإن الله خلقه من غير أب ولا أم بل:

(خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ).

وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ).

وقال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ).

(ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقاً من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فسادًا، ولكن

الرب عز وجل، أراد أن يظهر قدرته لخلقه، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ).

• قال الرازي: أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من جملة شبههم أن قالوا: يا محمد، لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى، فقال: إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى، فكذا القول في عيسى عليه السلام، هذا حاصل الكلام، وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس.

ص: 294

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي: هذا القول هو الحق في عيسى، الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

• وقال ابن عاشور: الخطاب في (فلا تكن من الممترين) للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود التعريض بغيره، والمعرَّض بهم هنا هم النصارى الممترُون الذين امتروا في الإلاهية بسبب تحقق أن لَا أبَ لِعيسى.

• وقال ابن عطية: ونهي النبي عليه السلام في عبارة اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على أن المراد بالامتراء غيره، ولو قيل: فلا تكن ممترياً لكانت هذه الدلالة أقل، ولو قيل فلا تمتر لكانت أقل ونهي النبي عليه السلام عن الامتراء مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.

• وقال الزمخشري: ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممترياً من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره.

• وقال الآلوسي: قوله تعالى (فَلَا تَكُنْ مّن الممترين) خطاب له صلى الله عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه السلام كما في قوله تعالى (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المشركين) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين.

إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نوراً على نور.

وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطفه بغيره، وجوز أن يكون خطاباً لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب.

‌الفوائد:

1 -

أن آدم خلق من تراب.

2 -

بيان قدرة الله حيث خلق آدم من غير أم ولا أب، وخلق عيسى من أم بلا أب.

3 -

إثبات القول للرب تعالى.

4 -

النهي عن الشك فيما أخبر به الله تعالى.

5 -

أن الله تعالى لا يصدر عنه إلا الحق.

ص: 295

(فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)).

[آل عمران: 61 - 63].

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُبَاهِلَ مَنْ عَانَدَ الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيانِ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) أي: نحضرهم في حال المباهلة.

• قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) المحاجة المجادلة، وسميت المجادلة محاجة، لأن كل واحد من المتجادلين يدلي بحجته من أجل أن يخصم الآخر ويحجه، وقوله (فيه) أي: في عيسى، في شأنه وقضيته.

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي: نلتعن.

• قال ابن عاشور: والابتهال مشتق من البهل وهو الدعاء باللعن ويطلق على الاجتهاد في الدعاء مطلقاً لأن الداعي باللعن يجتهد في دعائه والمراد في الآية المعنى الأول.

(فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) أي: منا ومنكم.

وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يُحَاجّون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صَدْرَ هذه السورة رَدا عليهم.

والمباهلة لم تتم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين النصارى.

عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ (جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ لَا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا، لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. قَالَا إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً أَمِيناً، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلاَّ أَمِيناً. فَقَالَ «لأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلاً أَمِيناً حَقَّ أَمِينٍ». فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ». فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ).

وعن ابن عباس، قال (قال أبو جهل: إن رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطَأ على عنقه. قال: فقال: لو فعلَ لأخَذته الملائكةُ عيانًا، ولو أن اليهود تمنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرَجَعوا لا يجدون مالا ولا أهلاً) رواه أحمد.

وفي صحيح مسلم (أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً) رواه مسلم.

ص: 296

• قال ابن تيمية: فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يشتوروا، فاشتوروا فقال بعضهم لبعض تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل قوم نبياً إلا نزل بهم العذاب، فاستعفوا من المباهلة فصالحوه وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون لما خافوا من دعائه عليهم، لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله، وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، وهم أول من أدى الجزية من النصارى.

(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) أي: هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا مَعْدل عنه ولا محيد.

(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) تأكيد لوحدانية الله، فهو المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق.

• وفي هذا رد النصارى في تثليثهم، وكذا فيه رد على سائر الثنوية.

(وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قهر بقدرته وقوته جميع الموجودات، وأذعنت له سكان الأرض والسماوات.

(الْحَكِيمُ) الذي له الحكمة الكاملة البالغة، الذي يضع الأشياء في مواضعها، وينزلها منازلها.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: عن هذا إلى غيره.

(فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) أي: من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر، الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمه.

‌الفوائد:

1 -

إثبات أن ما جاء به الرسول حق.

2 -

أنه لا تجوز المباهلة إلا بعلم يقيني.

3 -

جواز المباهلة لكن بشرطين: أن تكون في أمر هام، وأن تكون بعلم.

4 -

أنه لا إله حق إلا الله.

5 -

إثبات العزة الكاملة لله تعالى.

6 -

تهديد من تولى عن دين الله.

7 -

أن كل من تولى عن دين الله فهو مفسد.

ص: 297

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)).

[آل عمران: 64].

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ) هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ) والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا.

• اختلف في المراد بأهل الكتاب هنا:

فقيل: نصارى نجران.

وقيل: اليهود.

وقيل: اليهود والنصارى.

قال الطبري: وإنما قلنا عنى بقوله (يا أهل الكتاب) أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله (يا أهل الكتاب) بعضًا دون بعض، فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب"، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.

ثم وصفها:

(سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أي: عدل، نستوي نحن وأنتم فيها.

• قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ نَتَسَاوَى جَمِيعًا فِيهَا؛ إذْ كُنَّا جَمِيعًا عِبَادَ اللَّهِ.

ثم فسرها بقوله:

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) وحده سبحانه، محبة وتعظيماً.

(وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) لا وَثَناً، ولا صنماً، ولا صليباً ولا طاغوتاً، ولا نارًا، ولا شيئًا، بل نُفْرِدُ العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة

جميع الرسل:

قال الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

• والشرك: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.

ص: 298

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقال ابن جُرَيْج: يعني: يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة: يعني يسجد بعضنا لبعض.

• قال الطبري: قوله تعالى (أرباباً من دون الله) أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله، ولم يحله.

أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم (أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم فقال عليه السلام: هو ذاك).

• قال شيخ الإسلام في معنى قوله (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله): هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يكون على وجهين:

الأول: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي: فإن تولوا عن هذا النَّصَف وهذه الدعوة فأشْهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.

‌الفوائد:

1 -

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب.

2 -

الدعوة إلى التوحيد وترك الشرك.

3 -

وجوب استعمال العدل في المناظرة.

4 -

أن جميع الرسل متفقون على هذه الكلمة وهي: توحيد الله وترك الشرك.

5 -

أن التوحيد لا يصح إلا بتوحيد الله وترك الشرك والبراءة من الشرك وأهله.

قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي).

لأن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) تنطوي على نفي وإثبات، فعبر عن المنفي فيها بقوله (إنني براء مما تعبدون) وعبّر عن المثبت فيها بقوله (إلا الذي فطرني) ففيه تفسير التوحيد بإثبات العبادة لله وحده ونفيها عما سواه.

وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل.

• هذا الحديث من أعظم ما يبين لا إله إلا الله، وأنه الكفر بكل ما يعبد من دون الله.

6 -

أن من أطاع مخلوقاً في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد اتخذه شريكاً لله.

7 -

أن الحكم بين الناس لله تعالى.

8 -

ينبغي على المسلم أن يعتز بدينه ويشهره ويدافع عنه.

(23/ 6/ 1433 هـ).

ص: 299

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)).

[آل عمران: 65 - 68].

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) ينكر تعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل، ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم.

(وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي: كيف تَدّعُون أيها اليهود، أنه كان يهوديا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى، وكيف تَدّعُون، أيها النصارى، أنه كان نصرانيا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ على استحالة مقالتهم، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم.

• قال الرازي: اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: كان إبراهيم على ديننا، فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً؟.

• وقال القرطبي: قال الزجاج: هذه الآية أبْيَنُ حجة على اليهود والنصارى؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب.

ويقال: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أيضاً ألف سنة.

• قال السعدي: لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى أنه نصراني، وجادلوا على ذلك، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم.

الوجه الثاني: أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم، فهل هذا يعقل؟! فلهذا قال (أفلا تعقلون) أي: فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا

ذلك.

الوجه الثالث: أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين، وجعله حنيفاً مسلماً، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته، وهذا النبي وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم وليس منهم، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب.

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإنَّ اليهود والنصارى تَحَاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علْم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لم يعلموا به، فأنكر الله عليهم ذلك، وأمرهم بردّ ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها.

• قال القرطبي: في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظرِ على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل (ها أنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).

ص: 300

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي: والله يعلم الأمور على خفائها، وأنتم لا تعلمون.

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً) أي: ما كان إبراهيم على دين اليهودية، ولا على دين النصارى.

(وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً) مستقيماً مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.

(مُسْلِماً) مستسلماً لله تعالى بقلبه وجوارحه.

(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه توكيد للتي قبلها.

• في هذا ثناء على إبراهيم من وجوه ثلاثة:

أولاً: إمامته، ووجهها: أننا أمرنا باتباعه، والمتبوع هو الإمام، كما في قوله تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً).

ثانياً: أنه حنيف، والحنيف هو المائل عن كل دين سوى الإسلام.

ثالثاً: أنه ليس فيه شرك في عمله لقوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ص: 301

• قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لم يكن مشركاً يوماً؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ .. ) الآية، وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي .. فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي

فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ .. ) الآية، ومن ظنّ ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قول الله تعالى عن الكفار (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) والجواب عن هذا من وجهين:

أحدهما: أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي: أي هذا ربي على زعمكم الباطل، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليماً جدلياً ليفحم بذلك خصمه، فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون رباً، لقالوا له: كذبت، بل الكوكب ربّ، ومما يدل لكونه مناظراً لا ناظر قوله تعالى:(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ .. ).

ورجح هذا القول ابن قتيبة، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير وغيرهم.

لأن الله نفى عن إبراهيم الوقوع في الشرك في الماضي في قوله (وما كان من المشركين).

ولأن الله تعالى قال بعد سرد القصة (وحاجه قومه) وقال تعالى (وتلك حجتنا) فدل ذلك على أنه في حال مناظرة ومحاجة.

وقيل: إن قول إبراهيم (هذا ربي) هو على تقدير استفهام محذوف، أي: أهذا ربي؟ ومعناه: إنكار أن يكون مثل هذا رباً.

وهذا قول جمع من أهل العلم كالبغوي، وابن عطية، والرازي وغيرهم.

استدل بن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ولا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعاً وإظهاراً لالتجائهم إلى الله كقول إبراهيم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) وقوله هو وإسماعيل (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الآية.

• قال ابن عاشور: فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلاناً لم يَترك للشرك مسلكاً إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلاً وهو الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفرض حَجّه على الناس: ارتباطاً بمغزاه، وأعلَن تمام العبودية لله تعالى بقوله (ولا أخاف مَا تشركون به إلاّ أن يشاء ربّي شيئاً) وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً).

ص: 302

وتَطَلّب الهُدى بقوله (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ)(وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا).

وكسر الأصنام بيده (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً).

وأظهر الانقطاع لله بقوله (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ).

وتصَدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ).

• قال الرازي: قوله تعالى (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح وبكون اليهود مشركين

في قولهم بالتشبيه.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومَنْ بعدهم.

(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي: حافظ المؤمنين ومتولي أمورهم وناصرهم، والمراد بالولاية هنا الولاية الخاصة.

لأن الولاية تنقسم إلى قسمين:

ولاية عامة: مقتضاها أن يرزقهم ويعطيهم وأيضا القهر والسلطان والملك، وهذه للمؤمنين والكفار.

ودليلها هذه الآية (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ).

وقوله تعالى (ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

ولاية خاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين مقتضاها النصر والتأييد والتسديد والتوفيق والإخراج من الظلمات إلى النور.

كما قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ).

وقال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فالله ولي المؤمنين: لأنه يواليهم بالنصر والثواب الجزيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) رواه البخاري.

والمؤمنون أولياء الله كقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأنهم يوالونه بالطاعة.

قال ابن القيم: فالولاية عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، وليست بكثرة صوم ولا صلاة

قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي: يخرجونهم من نور الإيمان إلى ظلمات الشك والضلالة.

ص: 303

• قال الشنقيطي: هذه ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى (الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور).

وبين في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبين أن ولايتهم له تعالى بإيمانهم وتقواهم وذلك في قوله تعالى (ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ).

وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولى نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه أيضاً يتولى الصالحين وهو قوله تعالى (إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين).

قاعدة: كل من كان إيمانه أكمل، فولاية الله له أكمل، لأن الحكم المعلق بوصف يزداد قوة بقوة هذا الوصف فيه.

كقوله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإن الله في هذه الآية علق حكم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر بشرط إقامتها وليس فقط أداؤها، (والحكم المعلق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصه) فعلى قدر إقامة العبد لصلاته على قدر ما تؤثر فيه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وبهذا يزول الإشكال الذي يورده البعض: وهو أن كثير من المصلين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر.

وكقوله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) في هذا دليل على أن من تأثر بالموعظة فإن هذا من علامات إيمانه، وكلما كان تأثره أقوى كان إيمانه أقوى، لأن الشيء إذا علق بوصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.

‌الفوائد:

1 -

توبيخ أهل الكتاب بكونهم يحاجون ويجادلون في إبراهيم.

2 -

إثبات أن التوراة والإنجيل منزلة من عند الله.

3 -

إثبات علو الله، لأن النزول لا يكون إلا من علو.

4 -

ذم المحاجة بغير علم.

5 -

إثبات العلم الكامل لله تعالى.

6 -

تبرئة إبراهيم من دين اليهود والنصارى.

7 -

الثناء على إبراهيم، حيث وصفه بالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه أي شرك.

8 -

فضل التوحيد، وأنه أعظم ما يميز الرجل ويثنى به عليه. قال ابن تيمية: وكان [أي أبو بكر] من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، لا يطلب جزاء من أحد من الخلق. (الفتاوى: 1/ 188)

ص: 304

9 -

الحرص على تحقيق التوحيد وتنقيته من الشرك والبدع والمعاصي.

10 -

أنه لا بد في التوحيد من شيئين: نفي وإثبات.

11 -

الثناء على إبراهيم بأنه لم يكن في عمله شرك.

12 -

تعظيم الله تعالى.

13 -

وجوب إفراد الله بالعبادة.

14 -

تحريم الشرك بكل أنواعه.

15 -

شرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه لكونهم أولى الناس بإبراهيم.

16 -

إثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

17 -

إثبات ولاية الله للمؤمنين.

18 -

كل من كان أكمل إيماناً فولاية الله له أكمل. (28/ 6/ 1433 هـ).

ص: 305

(وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71)).

[آل عمران: 69 - 71].

(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أي: تمنى بعض أهل الكتاب إضلالكم بالرجوع عن دينكم حسداً وبغياً.

• قال الرازي: علم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق، والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم: إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة، وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول، وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء، والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود.

• أهل الكفر والضلال دائماً يريدون إضلال أهل الإيمان.

قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).

وقوله تعالى (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء).

وقال تعالى (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

وقال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).

وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ).

وقال تعالى (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).

وقال تعالى (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).

وقال تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

وقال تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

• قوله تعالى (طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) اعلم أن (مِنْ) ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله (مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ)(وَمِنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَة).

ص: 306

(وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي: لا يعود وبال ذلك إلا عليهم إذ يضاعف به عذابهم.

(وَمَا يَشْعُرُونَ) أنهم ممكور بهم.

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ) تقدم شرحها، والمراد بآيات الله هنا الشرعية.

• اختلف في المراد بآيات الله على أقوال:

القول الأول: أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل، وعلى هذا القول فيه وجوه:

أحدها: ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام، ومنها: ما في هذين الكتابين؛ أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً، ومنها: أن فيهما أن الدين هو الإسلام.

واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول: إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز، والثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.

فأما قوله تعالى (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين، وعند حضور عوامهم، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها، ومثله قوله تعالى (تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء).

واعلم أن تفسير الآية بهذا القول، يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه السلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم، ويظهرون غيره، ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز.

القول الثاني: في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً.

القول الثالث: أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القول فقوله تعالى (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم، من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليه السلام من هذا الوجه، وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد صلى الله عليه وسلم كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم.

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي: تعلمون صدقها وتتحققون حقها.

ص: 307

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اللبس الخلط، أي: لم تخلطون الحق بالباطل بإلقاء الشبَه والتحريف.

• قال الرازي: لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً:

أحدها: تحريف التوراة، فيخلطون المنزل بالمحرف، عن الحسن وابن زيد.

وثانيها: إنهم تواصوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار، تشكيكاً للناس، عن ابن عباس وقتادة.

وثالثها: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة.

ورابعها: أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق، ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات.

(وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: وتكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من كتم علماً ألجم بلجام من نار) رواه أبو داود.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه.

ص: 308

‌الفوائد:

1 -

بيان عداوة أهل الكتاب للمسلمين.

2 -

التحذير من أهل الكتاب.

3 -

الرد على من يقول إن الكفار يريدون الخير لنا.

4 -

وجوب بغض الكافر.

5 -

الحذر من خطط الكفار لتدمير المسلمين عبر القنوات والمجلات والجرائد.

6 -

توبيخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله.

7 -

وجوب الإيمان بآيات الله.

8 -

يجب الحذر من الكفار حيث يحاولون لبس الحق بالباطل ليضلوا الناس.

9 -

تحريم كتم الحق.

10 -

وجوب بيان الحق لمن علمه.

11 -

ينبغي على المسلم أن يعرف صفات اليهود ليتجنبها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

فمن صفاتهم: كتم الحق، ولبس الحق بالباطل. (الأحد/ 29/ 6/ 1433 هـ)

ص: 309

(وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)).

[آل عمران: 72 - 74].

بعد هذه النداءات المتكررة لأهل الكتاب، والحجج الباهرة التي ساقها لهم على صحة هذا الدين والتوبيخات المتعددة التي وبخهم بها لانصرافهم عن الحق ومحاولتهم صرف غيرهم عنه بعد كل ذلك، أخذ القرآن في سرد بعض المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود لكيد الإسلام والمسلمين فبدأ ببيان مسلك لئيم من مسالكهم الكثيرة، وهو أن بعضهم كان يظهر الإيمان لفترة من الوقت ثم يرجع عنه إلى الكفر، ليوهم ضعاف العقول أنه ما رجع عن الإسلام إلا بعد أن دخله فوجده دينا ليس بشيء- في زعمه- استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك لكي يطلع أتباعه على مسالك اليهود ومكرهم حتى يحذروهم، فيقول:

(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هذه مكيدة أرادوها ليلْبسُوا على الضعفاء من الناس أمْر دينهم، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويُصَلّوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما رَدّهم إلى دينهم اطّلاعهُم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

• فأنت إذا تأملت في هذه الآيات الكريمة تراها قد حكت عن طائفة من أهل الكتاب طريقة ماكرة لئيمة، هي تظاهرهم بالإسلام لفترة من الوقت ليحسن الظن بهم من ليس خبيرا بمكرهم وخداعهم، حتى إذا ما اطمأن الناس إليهم جاهروا بكفرهم ورجعوا إلى ما كانوا عليه، ليوهموا حديثي العهد بالإسلام أو ضعاف الإيمان، أنهم قوم يبحثون عن الحقيقة، وأنهم ليس عندهم أي عداء للنبي صلى الله عليه وسلم بل إن الذي حصل منهم هو أنهم بعد دخولهم في الإسلام وجدوه دينا باطلا وأنهم ما عادوا إلى دينهم القديم إلا بعد الفحص والاختبار وإمعان النظر في دين الإسلام.

• والمتتبع لمراحل التاريخ قديماً وحديثاً يرى أن الدهاة في السياسة والحرب يتخذ هذه الخدعة ذريعة لإشاعة الخلل والاضطراب في صفوف أعدائه.

• قال بعض العلماء: هذا النوع الذي تحكيه الآيات من صد اليهود عن الإسلام مبنى على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا، هرقل، ملك الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي صلى الله عليه وسلم أن قال له: «هل يرتد أحد من أتباع محمد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لولا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على بواطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب.

ص: 310

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم، وهو المذكور في هذه الآية.

• وقال رحمه الله: الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه:

الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب، فيكون معجزاً.

الثاني: أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف.

الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس.

• وسمى أول النهار وجهاً، لأنه أول ما يواجهك منه، وأول وقت ظهوره ووضوحه.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) أي: آمنوا في أول النهار واكفروا في آخره، بأن تعودوا إلى اليهودية، أملاً في أن ينخدع بحيلتكم هذه بعض المسلمين، فيشكوا في دينهم، ويعودوا إلى الكفر بعد دخولهم في الإسلام.

• وفي هذا كشف عن مقصدهم الخبيث، وهو ابتغاؤهم رجوع بعض المؤمنين عن دينهم الحق إلى ما كانوا عليه من باطل.

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي: لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم.

(قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات، وَإنْ كتمتم -أيها اليهود-ما بأيديكم من صفة محمد في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين.

وهذه جملة معترضة.

(أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) يقولون: لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به.

(أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي: يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة.

فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة

للعالمين، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم، وصدق الله إذ يقول في شأنهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

ص: 311

وهناك وجه آخر في التفسير:

والتقدير: ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي إلا من كان على ملتكم اليهودية، أما أن يكون من غيركم كهذا النبي العربي فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، لأنهما- في زعمهم- حكر على بنى إسرائيل.

فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم، أي اليهود، ويرون أنفسهم- لغرورهم وانطماس بصيرتهم- أنهم أهدى سبيلاً من كل من سواهم من البشر.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: الأمورُ كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته، ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة.

• وفي الآية إثبات اليد لله تعالى.

قال تعالى (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ).

وقال تعالى (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) رواه مسلم

المخالفون لأهل السنة:

أولها أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، أن المراد باليد هي القوة أو النعمة.

والرد عليهم:

أ-أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ فهو مردود إلا بدليل.

ب-أنه مخالف لإجماع السلف، فقد أجمع السلف على إثبات اليدين لله، فيجب إثباتها له بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

ج-أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعمة أو القوة في مثل قوله: (لما خلقت بيديّ) لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط ونِعَمُ الله لا تحصى، ويستلزم أن تكون القوة قوتان والقوى بمعنى واحد لا تتعدد.

د-أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس ولا على الحمير والكلاب، لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ أن إبليس سيقول:(وأنا يا رب خلقتني بقوتك فما فضْله علي).

هـ-أن يقول أن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة فإن فيها ذكر الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد بها القوة، لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.

ص: 312

• الأوجه التي وردت عليها صفة اليدين وكيفية التوفيق بينها:

الأول: الإفراد كقوله تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

الثاني: التثنية كقوله تعالى (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).

الثالث: الجمع كقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً).

والتوفيق بين هذه الوجوه أن نقول:

الوجه الأول مفرد مضاف فيشمل كل ما ثبت لله من يد ولا ينافي الثنتين.

وأما الجمع للتعظيم لا لحقيقة العدد الذي هو ثلاثة فأكثر، وحينئذ لا ينافي التثنية.

فائدة: قوله تعالى (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون) والأيد هنا بمعنى القوة وليست هنا صفة لله وليس هذا تأويلاً ولا تحريفاً، ولهذا

لم يضفها الله إلى نفسه فلم يقل بأيدينا بل قال (بأيد).

(وَاللَّهُ وَاسِعٌ) قال ابن جرير: واسع يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.

وقال الخطابي: الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه.

وقال السعدي: الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة، والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم.

• فالله عز وجل واسع العطاء، كثير الإفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وفضله، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته.

•‌

‌ والله واسع المغفرة.

ومن سعة مغفرته: أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه.

قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وقال حملة العرش عن ربهم تبارك وتعالى (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).

ص: 313

•‌

‌ والله واسع العلم:

كما قال تعالى (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

•‌

‌ والله واسع الرحمة:

كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).

(عَلِيمٌ) بكل شيء لا تخفى عليه خافية، عَلِيمٌ بمن يستحق الهداية ومن لا يستحق.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) كما قال تعالى (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

• قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.

(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ) أي: صاحب الفضل.

(الْعَظِيمِ) أي: الواسع الكثير، فلا فضل أعظم من فضل الله تعالى.

كما قال تعالى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) وقال تعالى (وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)

‌الفوائد:

1 -

بيان كيد الكفار للمسلمين.

2 -

من خطط الكفار التلبيس على المسلمين دينهم.

3 -

أن أهل الكتاب قد يكون فيهم منافقون.

4 -

تعصب أهل الكتاب لدينهم.

5 -

معرفة أساليب الكفار في حرب الإسلام.

6 -

أن من أعظم صفات اليهود الحسد.

7 -

أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث والحساب.

8 -

أن الفضل والعطاء بيد الله.

9 -

إثبات اليد لله تعالى.

10 -

أنه ينبغي للإنسان أن يعلق رجاءه بالله تعالى.

11 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: واسع، عليم.

12 -

إثبات علم الله الكامل.

13 -

أنه لا اعتراض على الله في كونه يختص برحمته من يشاء.

14 -

الله أعلم حيث يضع رحمته.

15 -

إثبات الحكمة الكاملة لله تعالى.

ص: 314

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)).

[آل عمران: 75 - 76].

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ) يخبر تعالى عن اليهود بأن فيهم الخونة، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ) أي: من المال الكثير.

(يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي: وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ) أي: ومنهم من لا يؤتمن على دينار.

(لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) لخيانته.

(إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) أي: بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى ألا يؤديه.

• وقال الطبري: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (إلا ما دمت عليه قائماً):

فقال بعضهم: إلا ما دمت له متقاضياً.

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه.

• ثم قال رحمه الله: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء، من قولهم: قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه.

• قال الرازي: المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل، يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو أؤتمن على الشيء القليل، فإنه يجوز فيه الخيانة.

• فأهل الكتاب منهم الأمين ومنهم الخائن لكن أكثرهم خونة كما قال تعالى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).

• قال القرطبي: وذكر تعالى قسمين: من يؤدّي ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة عليه؛ وقد يكون من الناس من لا يؤدِّي وإن دُمت عليه قائماً، فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر؛ فخرج الكلام على الغالب.

• قال الطبري: فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟

قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.

فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.

ص: 315

• قال ابن الجوزي: فان قيل: لم خصَّ أهل الكتاب بأن فيهم خائناً وأميناً والخلق على ذلك، فالجواب: أنهم يخونون المسلمين استحلالاً لذلك، وقد بيَّنه في قوله تعالى (ليس علينا في الأمِّيِّين سبيل) فحذَّر منهم.

• قال في التسهيل: وذكر القنطار مثالاً للكثير؛ فمن أدّاه: أدّى ما دونه، وذكر الدينار مثالاً للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى.

(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي: إنَّمَا حَمَلهم على جُحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حَرَج في أكل أموال الأمييّن، وهم العرب؛ فإن الله قد أحلها لنا.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فيه وجوه:

الأول: أنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه، ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش.

الثاني: أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة.

الثالث: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم.

(بَلَى) أي: بلى عليكم حرج وسبيل وإثم في الأميين إذا أكلتم أموالهم وظلمتموهم.

(مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) منكم يا أهل الكتاب، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث وتصديقه فيما جاء به.

(وَاتَّقَى) الله، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) فضل عظيم للمتقين، الذين يتقون الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

ص: 316

•‌

‌ ففي هذه الآية فضل عظيم للتقوى، وللتقوى فضائل:

أولاً: أنها سبب لتيسير الأمور.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

ثانياً: أنها سبب لإكرام الله.

قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

ثالثاً: العاقبة لأهل التقوى.

قال تعالى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

رابعاً: أنها سبب في دخول الجنة.

قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

خامساً: أنها سبب لتكفير السيئات.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

سادساً: أنها سبب لحصول البشرى لهم.

قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا).

سابعاً: أنها سبب للفوز والهداية.

قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

ثامناً: أنها سبب للنجاة يوم القيامة.

قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).

تاسعاً: أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض.

قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).

عاشراً: أنها سبب للخروج من المأزق.

ص: 317

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).

الحادي عشر: أنها سبب لمحبة الله.

قال تعالى (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

الثاني عشر: أنها سبب للاهتداء بالقرآن.

قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

الثالث عشر: بالتقوى تنال معية الله.

قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

الرابع عشر: أنها خير زاد.

قال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

الخامس عشر: أنها من أسباب نيل الأجر العظيم.

قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).

السادس عشر: أن الآخرة خير من الدنيا للمتقين.

قال تعالى (والْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

السابع عشر: أنها سبب لقبول الأعمال.

قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

الثامن عشر: أن لباس التقوى خير لباس.

قال تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).

التاسع عشر: أنها من أسباب الرحمة.

قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

العشرون: أنها من أسباب ولاية الله.

قال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

وقال تعالى (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).

• قال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة.

قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله.

وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.

ص: 318

• قال ابن القيم: مراتب التقوى: التقوى ثلاث مراتب:

إحداها: حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، والثانية: حميّتها عن المكروهات، والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.

فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.

‌الفوائد:

1 -

انقسام أهل الكتاب إلى خائن وأمين.

2 -

أنه يجب الحذر من أهل الكتاب.

3 -

إعجاب أهل الكتاب بأنفسهم واحتقارهم لغيرهم.

4 -

أن من افترى على الله الكذب فيما يفتي به أو يحكم به بين الناس ففيه شبه باليهود والنصارى.

5 -

أن من افترى على الله الكذب وهو يعلم أشد إثماً وعدواناً ممن لا يعلم.

6 -

الثناء على الموفين بالعهد.

7 -

أن تقوى الله سبباً لمحبة الله.

8 -

فضل تقوى الله.

(السبت: 5/ 7/ 1433 هـ).

ص: 319

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)).

[آل عمران: 77].

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) أي: يأخذون.

• والاشتراء في لغة العرب: الاستبدال، فكل شيء استبدلته بشيء فقد اشتريته

(بِعَهْدِ اللَّهِ) هو ما عاهدوا عليه من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: بعهد الله، أي: بعهدهم مع الناس، وأضافه الله إلى نفسه لأنه أمر بالوفاء به. قال تعالى (وأوفوا بعهد الله)

(وَأَيْمَانِهِمْ) أي: ويشترون أيضاً بأيمانهم ثمناً قليلاً.

والأيمان جمع يمين، وهي الحلف بالله تعالى، فيحلف على جحد حق واجب عليه، أو يحلف على دعوى حق له، وهو كاذب قال الرازي: قوله تعالى (إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله) يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه، لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به.

قال تعالى (وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) الآية وقال (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً) وقال (يُوفُونَ بالنذر) وقال: (مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ).

(ثَمَناً قَلِيلاً) وهي حطام الدنيا وعرضها الخسيس الزائل.

• قال الآلوسي: وصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب.

وقال رحمه الله: ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشترِي في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته.

وقال رحمه الله: (ثمناً قليلاً) وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به، فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم.

• قال القرطبي: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول مَن فعل فعلهم.

سئل الحسن البصري عن قوله تعالى (ثَمَناً قَلِيلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.

• فالثمن القليل: يشمل المال والمنصب والجاه والشهرة والرفعة، فإن أحبار اليهود لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لذهبت عنهم بعض ما هم فيه من المكانة والمنزلة والرفعة.

وقد صدق من قال من السلف: من أحب أن يعرف ذهب دينه.

قال الحسن رحمه الله: عقوبة العالم موت القلب، قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة (جامع بيان العلم وفضله).

ص: 320

قال محمد بن عمر الأسلمي - توفي سنة (207 هـ) رحمه الله: لقد كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان، فيقول أحدهما لصاحبه:

لأنت أفلس من القاضي، فصار القضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكاً وأصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال! (الطبقات الكبرى).

قال يوسف بن زكريا رحمه الله: كان محمد بن يوسف، لا يشتري من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن أعيش بديني؟ (حلية الأولياء).

جلس الحسن رحمه الله يُحَدّث فأُهدِيَ له فردَّه، وقال: إن من جلس هذا المجلس ثم قَبِل، فليس له عند الله خلاق، أو قال: فليس له خلاق (الزهد لأحمد).

قال وهب بن منبه - توفي سنة (114 هـ) رحمه الله: كان العلماء من قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إليها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم، فأصبح أهل العلم يبذلون لأهل الدنيا عِلمَهُم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم، لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (حلية الأولياء).

قال أبو حازم رحمه الله لا تكون عالماً حتى تكون فيك خصال: لا تبغ على من فوقك ولا تحقر من دونك ولا تأخذ على علمك دنيا. (المداراة).

قال مطرف بن عبد الله رحمه الله إن أقبحَ ما طُلبت به الدنيا عملُ الآخرة. (حلية الأولياء).

قال شميط بن عجلان رحمه الله يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها. وكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(حلية الأولياء).

قال ابن المبارك رحمه الله إنما الناس العلماء والملوك والزهاد، والسفلة الذين يأكلون بدينهم أموال الناس بالباطل ثم قرأ (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل).

قال (يأكلون الدنيا بالدين، قال: فبكى فضيل بن عياض بكاءاً شديداً ثم قال: كذب من قال: إنه لا يأكل بدينه أنا والله آكل بديني. (شعب الإيمان).

ص: 321

• وقد ذكر العلامة المعلمي أن المنزلة والجاه من موانع الهداية فقال رحمه الله بعد أن ذكر الوجه الأول:

الوجه الثاني: أن يكون قد صار في الباطل جاه وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.

• وفي هذا أن الدنيا كلها ثمن قليل حقير.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي.

ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.

(أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي: لا نصيب لهم في الآخرة، ولا حظ لهم منها.

والآخرة يوم القيامة، وسمي يوم القيامة آخرة لأنه آخر مراحل البشر.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) أي: كلام لطف بهم.

لكن الله قد يكلمهم كلام إهانة كما قال تعالى (قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ).

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) نظر رحمة.

•‌

‌ ويوم القيامة سمي بذلك:

‌أولاً: لقيام الناس من قبورهم.

كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

‌ثانياً: لقيام الأشهاد.

كما قال تعالى (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ).

‌ثالثاً: لقيام الروح والملائكة.

كما قال تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً).

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي: ولا يطهرهم من آثار رجسهم التي تلوثوا بها.

• قال الرازي: قوله تعالى (وَلَا يُزَكّيهِمْ) ففيه وجوه الأول: أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني: لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له.

واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال (والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار) وقال (وتتلقاهم الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ)(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة).

وقد تكون بغير واسطة، أما في الدنيا فكقوله (التائبون العابدون) وأما في الآخرة فكقوله (سَلَامٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ).

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قلت: يا رسول الله، من هم؟ خابوا وخسروا. قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال: "المُسْبِل، والمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ بالكاذب) رواه مسلم.

ص: 322

وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو فيها فَاجِر، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ الله عز وجل وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ، فقال الأشعث: فيّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني، فقدَّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلَكَ بَيَّنة؟ " قلتُ: لا فقال لليهودي: احْلِفْ، فقلتُ: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) متفق عليه.

‌الفوائد:

1 -

تهديد من يشتري بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً.

2 -

تحريم اليمين الغموس.

3 -

أن اليمين الغموس وعدم القيام بعهد الله من كبائر الذنوب.

4 -

إثبات الآخرة.

5 -

أنه ينبغي للإنسان أن تكون الآخرة همه.

6 -

ذم الدنيا، وأنه قليلة زائلة.

7 -

خطر الدنيا وطلبها والتعلق بها.

8 -

التحذير من فتنة الدنيا.

9 -

إثبات يوم القيامة.

(الأحد: 6/ 7/ 1433 هـ).

ص: 323

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)).

[آل عمران: 78].

(وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي: من أهل الكتاب.

(لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) أي: يعطفونها، قال ابن عباس: يحرفونه بتأويله على غير مراد الله.

(لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أي: من أجل أن تحسبوه وتظنوه أنه من عند الله.

والمراد بالكتاب هنا التوراة.

(وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ) هذا إبطال لما أرادوه من ليّهم ألسنتهم بالكتاب.

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) كذباً على الله.

(وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) رد على ادعائهم.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه كذب على الله.

• بعض صفات أهل الكتاب كما ذكره الله تعالى.

الحسد: قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) نقض الميثاق: قال تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسيه).

الخيانة: قال تعالى (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

كتم العلم: قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).

ص: 324

تحريف الكتاب: قال تعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، وقال تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) وقال تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).

قتل الأنبياء: قال تعالى (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وهم الذين قتلوا زكريا ويحيي عليهما السلام، وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم.

قتلهم للدعاء إلى الله: قال تعالى (إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقال تعالى (لقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).

‌الفوائد:

1 -

تحريم أهل الكتاب للكتاب.

2 -

تحريم تحريف الكتاب.

3 -

الحذر من تأويل القرآن، وأن من فعل ذلك ففيه شبه من أهل الكتاب.

4 -

ينبغي معرفة صفات أهل الكتاب لنجتنبها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه

).

ص: 325

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80)).

[آل عمران: 79 - 80].

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) في هذا رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون اللّه.

والمعنى: لا يصح ولا ينبغي ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه اللّه تعالى وأعطاه:

(الْكِتابَ) الناطق بالحق، الآمر بالتوحيد، الناهي عن الإشراك، وآتاه (الْحُكْمَ) أي العلم النافع والعمل به، وآتاه

(النُّبُوَّةَ) أي الرسالة التي يبلغها عنه سبحانه إلى الناس، ليدعوهم إلى عبادته وحده، وإلى مكارم الأخلاق، لا يصح له ولا ينبغي بعد كل هذه النعم أن يكفرها ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ بعد هذا العطاء العظيم الذي وهبه اللّه له كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: لا ينبغي ولا يعقل من بشر آتاه اللّه كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، لأن الأنبياء الذين آتاهم اللّه الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من اللّه، وإخلاصهم له، عن أن يقولوا هذا القول المنكر، كما يحجزهم عنه أيضاً ما امتازوا به من نفوس طاهرة،

وقلوب نقية، وعقول سليمة

لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم اللّه تعالى أخذ عزيز مقتدر فهو سبحانه القائل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ).

• قال ابن كثير: فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى.

ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال: وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا -يعني أهل الكتاب-كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وفي المسند، والترمذي -كما سيأتي-أن عَديّ بن حاتم قال: يا رسول الله، ما عبدوهم. قال:(بَلَى، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُم).

فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام، إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام، فالرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة، فقاموا بذلك أتم قيام، ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق.

ص: 326

• وقال السعدي: أي: يمتنع ويستحيل كل الاستحالة لبشر منّ الله عليه بالوحي والكتاب والنبوة، وأعطاه الحكم الشرعي، أن يأمر الناس بعبادته، وبعبادة النبيين والملائكة واتخاذهم أرباباً، لأن هذا هو الكفر، فكيف وقد بعث بالإسلام المنافي للكفر من كل وجه، فكيف يأمر بضده؟

(وَلَكِنْ كُونُوا) أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.

(رَبَّانِيِّينَ) أي: مقبلين على طاعة اللّه تعالى وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذي أنزله اللّه لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له، أي قارئين له بتمهل وتدبر.

• وقوله تعالى وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ استدراك قصد به إثبات ما ينبغي للرسل أن يقولوه بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغي لهم أن ينطقوا به، أي: لا ينبغي لبشر آتاه اللّه نعما لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللّه، ولكن الذي ينبغي له أن يقوله لهم هو قوله: كونوا ربانيين أي مخلصين له سبحانه العبادة إخلاصاً تاماً.

• والمراد بالرباني: الإنسان الذي أخلص اللّه تعالى في عبادته، وراقبه في كل أقواله وأفعاله، واتقاه حق التقوى، وجمع بين العلم النافع والعمل به، وقضى حياته في تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم.

• قال الطبري: وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها.

(بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) أي: بتعليمكم الناس الكتاب.

(وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي: ودراستكم إياه.

• قال الرازي: دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً، فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع).

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً) أي: ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مُقَرَّب.

• وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس، فقد وقع في عبادة الملائكة «الصابئة» الذين كانوا يقيمون في بلاد الكلدان، وتبعهم بعض المشركين من العرب، ووقع في عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن اللّه وكثير من اليهود عبدوا عزيزا وزعموه ابن اللّه.

ص: 327

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: لا يَفْعَل ذلك؛ لأنَّ من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان، وهو عبادة الله وحده لا شريك له.

كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وقال تعالى (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ).

وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

والاستفهام في قوله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للإنكار الذي بمعنى النفي.

‌الفوائد:

1 -

أن من منّ الله عليه بالعلم النافع فإنه لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه.

2 -

الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يكون معلماً ربانياً.

3 -

وجوب عبادة الله وحده.

4 -

تحريم الشرك.

ص: 328

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)).

[آل عمران: 81 - 82].

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) أي: واذكر يا محمد لمن أرسلناك إليهم، اذكر هذا العهد والميثاق.

وسمي الميثاق عهداً، لأن كلاً من المتعاهدين يتوثق به مع الآخر.

(لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) أي: للذي أعطيتكم من الكتاب والحكمة.

وقال بعض العلماء: إن (لما) بمعنى مهما، والمراد مهما أوتيتم من كتاب وحكمة.

(ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) أي: ثم جاءكم رسول من عندي بكتاب مصدق لما بين أيديكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

(لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) هذا محل الميثاق، أي: تؤمنوا به وتصدقوه.

(وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أي: تعينونه على نشر رسالته، وعلى قتال أعدائه.

• قال ابن الجوزي: وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان:

أحدهما: أنه تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، روي عن علي، وابن عباس، وقتادة، والسدي.

والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمننَّ بما جاء به الآخر منهم، قاله طاووس.

• وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم، عليه السلام، إلى عيسى عليه السلام، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته؛ ولهذا قال تعالى وتقدس (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) أي: لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة.

• قيل: ما بعث الله نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمدٌ وهو حيٌ ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمر الله النبي أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث فيهم محمداً عليه السلام وهو حيٌ وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه.

وهذا رفعةٌ وعظمةٌ بين الأنبياء وتعريفٌ وتشريفٌ بين البشرية جمعاء .. إذ هذه مكانة عظيمة، والله جل وعلا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا في آخر الزمان، وأنه خاتم الأنبياء .. فإذا جعل الميثاق على كل نبيٍّ بعث أنه يُقرّ ويؤخذ عليه الميثاق إن بُعث محمد وهو حيٌّ، أو بعث في أمته بعد وفاته أن يأخذ العهد والميثاق على الإيمان بمحمدِ صلى الله عليه وسلم وعلى نصرته وأتباعه؟

وقيل: أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان بعضاً، فذلك معنى النصرة بالتصديق. وهذا قول

سعيد بن جبير و قتادة و طاوس و السدي و الحسن، وهو ظاهر الآية،

• قال ابن الجوزي: قال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين، وأممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس، والزجاج.

ص: 329

(قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ) أي: أأقررتم واعترفتم.

(وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) أي: عهدي، والإصر العهد الثقيل.

(قَالُوا أَقْرَرْنَا) أي: اعترفنا.

(قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي: اشهدوا على أنفسكم وأتباعكم وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ) أي: عن هذا العهد.

(فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المراد بالفسق هنا الكفر.

عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة، فكتب لي جَوَامعَ من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً -قال: فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ).

عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، وَإِنَّه -واللهِ-لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي.

وفي بعض الأحاديث (لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي).

فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر في إتيان الرب لِفَصْل القضاء، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه، فيكونَ هو المخصوص به.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخذ الله على جميع الأنبياء الميثاق أن يؤمنوا به.

3 -

أنه يجب على الأنبياء أن ينصروا هذا النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

إثبات كلام الله تعالى.

5 -

فسق من تولى بعد قيام الحجة عليه.

ص: 330

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)).

[آل عمران: 83].

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) ينكر تعالى على من أراد ديناً سوى دين الله، الذي أنزل به كتبه، وأرسل له رسله، وهو عبادته وحده لا شريك له.

• قال ابن عاشور: الاستفهام للتوبيخ والتحذير، ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله.

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) أي: استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً كما قال تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).

فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله تعالى، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم، الذي لا يخالف ولا يمانع. (تفسير ابن كثير).

وقيل: أن المؤمن يسجد طائعاً، والكافر يسجد ظلُّه وهو كاره

وقيل: إن المؤمن أسلم طائعاً، والكافر أسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه في ذلك الوقت.

وقيل: إن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم، لا يقدر أحد أن يمتنع من جبّلةٍ جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشعبي: انقاد كلهم له. (زاد المسير).

(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي: يوم المعاد، فيجازي كلاً بعمله.

‌الفوائد:

1 -

ذم من يبتغي غير دين الإسلام.

2 -

لا ينبغي للإنسان أن يتخذ ديناً غير دين الله وهو مربوب لله.

3 -

عموم ملك الله وسلطانه.

ص: 331

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)).

[آل عمران: 84 - 85].

(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ) والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجود الله، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.

• وحد الضمير في (قُلْ) وجمع في (آمنا):

يحتمل: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنا بالله، كذا قدَّره ابنُ عطية.

ويحتمل: أن المأمور بذلك نبينا وحده، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له.

• قال السعدي: في قوله (قولوا) فيها إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها، إذ هي أصل الدين وأساسه.

(وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) أي: القرآن العظيم، ويشمل السنة لقوله تعالى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).

(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) أي: من الصحف والوحي.

ولم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكن بيّن في سورة الأعلى أنه صحف، وأن من جملة ما في تلك الصحف (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وذلك في قوله (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى).

(وَالْأَسْبَاطِ) وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الإثني عشر.

• والأسباط: هم بنو يعقوب اثنا عشر رجلاً، ولد كل رجل منهم أمة من الناس، فسموا الأسباط، وقال الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل.

قال البخاري: الأسباط قبائل بني إسرائيل، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم، وهذا اختيار الطبري.

(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) أي: من التوراة والإنجيل والآيات كاليد والعصا وكإخراج الموتى بإذن الله.

قال تعالى (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وهو التوراة بالإجماع، وذكر ما أوتيه عيسى وهو الإنجيل كما في قوله تعالى (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ).

ص: 332

(وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) هذا يعم جميع الأنبياء جملة.

أي: ونؤمن بما أنزل على غيرهم من الأنبياء جميعاً ونصدق بما جاءوا به من عند الله من الآيات البينات والمعجزات الباهرات.

• سؤال: فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟

قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يده، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق. (مفاتيح الغيب)

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) يعني: بل نؤمن بجميعهم.

أي: نؤمن على هذا الوجه، فلا نفرق بين أحد منهم في الإيمان بهم، لا في الاتباع، فلا نؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما فعلت اليهود والنصارى

• قال ابن عاشور: ومعنى (لا نفرق بين أحد منهم) أننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حبّ نبينا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة.

وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى (وتؤمنون بالكتاب كله).

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون أو مخلصون أنفسَنا له تعالى لا نجعلُ له شريكاً فيها، وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنه بمعزل من ذلك.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أي: من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه.

والمراد بالإسلام هنا: الإسلام الخاص الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين) الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته.

‌الفوائد:

4 -

وجوب الإيمان بالقلب واللسان.

5 -

وجوب الإيمان بما أنزل علينا.

6 -

ثبوت نبوة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.

7 -

وجوب الاستسلام لله تعالى.

8 -

بطلان كل عمل ليس على دين الإسلام.

9 -

أن جميع الأديان غير دين الإسلام غير مقبولة عند الله.

10 -

إثبات الآخرة.

ص: 333

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (89)).

[آل عمران: 86 - 89].

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) استفهام للتعجيب والتعظيم لكفرهم، أي: كيف يستحق الهداية قوم كفروا بعد إيمانهم.

(وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ) أي: بعد أن جاءتهم الشواهد ووضح لهم الحق أن محمداً رسول الله.

(وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: جاءتهم المعجزات والحجج البينات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.

• قال السعدي: لأنهم عرفوا الحق فرفضوه، ولأن من هذه الحالة وصفه، فإن الله يعاقبه بالانتكاس، وانقلاب القلب جزاء له، إذ عرف الحق فتركه، والباطل فآثره، فولاه الله ما تولى لنفسه.

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث:

أحدها: بعد الإيمان.

وثانيها: بعد شهادة كون الرسول حقاً.

وثالثها: بعد مجيء البينات، وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة، فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل.

وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تهديد لكل ظالم، وأعظم الظلم الشرك بالله تعالى.

الهداية المنفية هنا هداية التوفيق، أما هداية البيان والإرشاد فهي حاصلة لكل أحد.

• قال الشوكاني: وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد اليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.

ص: 334

• قوله تعالى (والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين) يقال: ظاهر الآية أَنَّ مَن كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالماً، لا يهديه الله؛ وقد رأينا كثيراً من المرتدِّين قد أسلموا وهداهم الله، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم.

والجواب من وجهين:

أحدهما: أن هذه الآيةَ الكريمةَ وأمثالَها في القرآنِ من العامِّ المخصوصِ، أي: لا يهدِي القومَ الكافرينَ الذين سَبَقَ في عِلْمِهِ عدمُ هدايتِهم وشقاؤهم شقاءً أزليًّا.

كقولِه (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ).

وقولُه (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). ونحو ذلك من الآياتِ. وعلى أن هذه الآيةَ الكريمةَ من العامِّ المخصوصِ بآياتٍ أُخَرَ فلَا إشكالَ.

القول الثاني: لا يهدي الظالمين ما داموا مصرّين على ظلمهم، فإن رزقهم الله التوبة والإنابة زال اسم الظلم عنهم، ولم يدخلوا في عداد الظالمين، فصار لا إشكال في هدايتهم. (الشنقيطي).

(أُولَئِكَ) المشار إليهم، الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق.

(جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ) أي: يلعنهم الله، أي: يطردهم من رحمته.

(وَالْمَلائِكَةِ) أي: والملائكة تلعنهم، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

(وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي: يطلبون من الله أن يلعنهم.

واختلف العلماء بالمراد في الناس هنا:

فقيل: المؤمنون فقط.

وقيل: المراد أغلب الناس.

لكن هذا ضعيف، لأن أغلب الناس كفار كما قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

ولذلك الصحيح أن الكافر يلعن الكافر، ويكون لذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فكوْن الكافر يلعن الكافر في الدنيا بأن يدعو الكافر مثلاً على الظالم، فإذا قال الكافر - مثلاً - لعن الله الظالم، دخل هو نفسه في اللعنة، وأما كون الكفار يلعن بعضهم بعضاً في الآخرة فهذا واضح من قوله تعالى (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وكذلك من قوله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا).

ص: 335

• استدل بهذه الآية من قال بجواز لعن الكافر، ولعن الكافر على أنواع:

أولاً: لعن الكفار جملة فهذا جائز.

كما في هذه الآية.

وقوله تعالى (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).

ثانياً: الكافر المعين، فهذا فيه خلاف:

فقيل: لا يجوز.

وممن ذهب إلى هذا الغزالي، وذكره الإمام النووي.

قالوا: ربما يسلم.

وقيل: يجوز.

لحديث عمر بن الخطاب (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله) رواه البخاري.

قالوا: فدل على من لا يحب الله ورسوله يلعن.

والذي يظهر الجواز خاصة إذا كان ممن يؤذي المسلمين.

ص: 336

• وأما العصاة لمسلمين:

فلعنهم جملة جائز ولا بأس.

قال تعالى (لعنة الله على الظالمين).

وقال تعالى (لعنة الله على الكاذبين).

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق

) وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكل الربا

).

• وأما العاصي المعين: فلا يجوز لعنه اتفاقاً.

للحديث السابق (حيث كان يؤتى به ويجلد في شرب الخمر، قال صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، وفي رواية: لا تكونوا أعواناً للشيطان على أخيكم).

(خَالِدِينَ فِيهَا) قال في التسهيل: قوله تعالى (خالدين فِيهَا) الضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار وإن لم تكن ذكرت؛ لأنّ المعنى يقتضيها.

ورجح الرازي الأول وقال: والأول أولى لوجوه.

الأول: أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر.

الثاني: أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا، فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى.

الثالث: أن قوله (خالدين فِيهَا) إخبار عن الحال، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال، وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال، بل لا بد من التأويل؛ فكان ذلك أولى.

(لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) أي: لا يخفف عنهم طرفة عين. بل هو دائم متواصل.

كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)

وقال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون).

وقال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي: ولا يُمهلون أو يؤجلون، بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى، وفي الآخرة لا مهلة ألبتة فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا

يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون، وقيل لهم (اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ).

وقيل: هو من النظر أي: لا ينظر الله إليهم فيرحمهم.

ص: 337

• قال الماوردي: (وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.

والثاني: لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم.

(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال.

(وَأَصْلَحُوا) أي: وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغرّوا به من تبعهم ممن لا علم له.

• قال ابن عطية: والإصلاح عام في القول والعمل.

(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) يغفر لهم ما قدموه، ويعفو عنهم ما أسلفوه.

(رَحِيمٌ) ومن رحمته أنه يغفر الزلات والخطيئات، فرحمة الله واسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).

وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

• قال ابن كثير: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه: أنه من تاب إليه تاب عليه. أ هـ

‌الفوائد:

1 -

أن من ضل عن بصيرة، فإنه يبعد أن يُهدى.

2 -

أن الهداية والإضلال بيد الله.

3 -

أن الإنسان قد يستكبر ويعاند بعد أن تبين له الحق.

4 -

أن الكفر بعد الإيمان أغلظ من الكفر الأصلي.

5 -

أن الله تعالى لم يترك الخلق هملاً، بل أقام لهم الحجج والبينات.

6 -

إثبات الجزاء.

7 -

أن الكفار مخلدون في النار.

8 -

أن التوبة تجب ما قبلها.

ص: 338

(إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ا

فْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (91)). [آل عمران: 90 - 91].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) يقول تعالى متوعدًا ومتهدِّدًا لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا، أي: استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنه لا يقبل لهم توبة عند مماتهم، كما قال تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

• قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفراً لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا؛ لأنه عبّر بـ (لن) الدالة على نفي الفعل في المستقبل.

مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها.

كقوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف).

وقوله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ).

والجواب من أربعة أوجه:

ورجح رحمه الله فقال:

الثاني: وهو أقربها عندي أن قوله تعالى (لن تقبل توبتهم) يعني إذا تابوا عند حضور الموت، ويدل لهذا الوجه أمران:

الأول: أنّه تعالى بيّن في مواضع أخرى أنّ الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت في ذلك الوقت، كقوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء.

وقوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا).

وقوله في فرعون (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين) فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيّد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد كما تقرر في الأصول.

الثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله (ثم ازدادوا كفراً) فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها، ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني - الذي هو التقيد بحضور الموت - عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي.

(وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي: الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغَيِّ.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ) أي: من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة.

كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان -وكان يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ العاني، ويُطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ.

ص: 339

قال النووي: معنى الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام ووجوه المكارم لا ينفعه في الآخرة، لكونه كافراً، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، أي لم يكن مصدقاً بالبعث، ومن لم يصدق به كافر ولا ينفعه عمل.

قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

وقال تعالى (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). فعلق حبوط العمل بموته على الكفر.

وقال تعالى (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

• وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه.

كما قال تعالى (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ).

وقال تعالى (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ).

وقال تعالى (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ).

وقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أي: وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله، ولا يجيرهم من أليم عقابه.

• فالإيمان شرط لقبول الأعمال:

كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

وقال تعالى (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب).

‌الفوائد:

1 -

أن المرتد إذا بقي على ردته، فإنه لا تقبل توبته عند الموت.

2 -

أن من تاب قبل أن يحضر أجله تاب الله عليه.

3 -

أن من مات على الكفر فلن يقبل منه شيء.

4 -

شدة العذاب على الكافرين.

ص: 340