المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن - تفسير القرآن الكريم - اللهيميد - من الفاتحة إلى النساء - جـ ٤

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)).

[آل عمران: 92].

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قيل في معنى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) أي: لن تبلغوا ثواب البر، وقيل: لن تبلغوا درجة ومنزلة أهل البر.

والمراد بالنفقة هنا: قيل الواجبة، وقيل: جميع الصدقات، وقيل: جميع النفقات التي يُبتغى بها وجه الله تعالى، سواء كانت صدقة، أو لم تكن.

ومعنى الآية: لن تنالوا حقيقة البر، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذي يوصلكم إلى رضا الله، وإلى جنته التي أعدها لعباده الصالحين، إلا إذا بذلتم مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها في سبيل الله، وما تنفقوا من شيء- ولو قليلا- فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه بأكثر مما أنفقتم وبذلتم.

أي: لن تنالوا وتدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر قلوبكم ويقين تقواكم. (تفسير السعدي).

• قال السعدي: فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها.

•‌

‌ أمثلة تطبيقية:

أ- عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) متفق عليه.

ب-وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» قَالَ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ. قَالَ فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِى الْقُرْبَى وَفِى الرِّقَابِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدًا فَلَمَّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ أَنَّ فِيهِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالاً) متفق عليه

ج- وعنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ «الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» . قَالَ قُلْتُ أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا

) رواه مسلم.

ص: 1

د- كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قرّبه إلى ربه امتثالاً لقوله تعالى (لن تنالوا البر

).

هـ- قال القرطبي: وكذلك فعل زيد بن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس له يقال له «سبل» وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلى من فرسي هذه، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

و- واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له: لم أعتقتها ولم تصب منها؟ فقال (لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّون) ز- وأعتق ابن عمر نافعاً مولاه، وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأوّل قول الله عز وجل (لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّون).

ك- وكان الربيع بن خثيم إذا جاءه السائل يقول لمولاته: يا فلانة أعطي السائل سكراً، فإن الربيع يحب السكر.

ط- وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالاً من سكر ويتصدّق بها، فقيل له: هلا تصدّقت بقيمتها؟ فقال: لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحبّ.

وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تُدركوا ما تأمّلون إلا بالصبر على ما تكرهون

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) من صغير أو كبير.

(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء، وسيجازيكم عليه أتم الجزاء.

• قال السعدي: ولما كان الإنفاق على أي: وجه كان مثابا عليه العبد، سواء كان قليلا أو كثيراً، محبوباً للنفس أم لا وكان قوله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) فلا يضيق عليكم، بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

‌الفوائد:

1 -

فضل الإنفاق مما يحبه الإنسان.

2 -

أنه كلما أنفق الإنسان مما هو أحب إليه، كان أكثر لبره.

3 -

عموم علم الله تعالى.

4 -

إثبات الجزاء.

ص: 2

(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)).

[آل عمران: 93 - 94].

(كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ) أي: كل الأطعمة كانت حلالاً لبني إسرائيل.

والطعام: مصدر بمعنى المطعوم، والمراد به هنا كل ما يطعم ويؤكل.

وحلا: مصدر أيضاً بمعنى حلالاً، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالاً، لا نفس الطعام، لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات.

(إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ) أي: إلا ما حرمه يعقوب على نفسه وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حرمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها عقوبة على معاصيهم.

وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) أي: كانت حلالاً لهم قبل نزول التوراة.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: قل لهم يا محمد ائتوني بالتوراة واقرأوها عليّ إن كنتم صادقين في دعواكم أنها لم تحرم عليكم بسبب بغيكم وظلمكم.

ومعنى الآية: قال بعض العلماء: كل أنواع الأطعمة كانت حلالاً لبنى إسرائيل قبل نزول التوراة إلا شيئاً واحداً كان محرماً عليهم قبل نزولها

وهو ما حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فإنهم حرموه على أنفسهم اقتداء به، فلما أنزل اللّه التوراة حرم عليهم فيها بعض الطيبات بسبب بغيهم وظلمهم.

هذا هو الحق الذي لا شك فيه، فإن جادلوك يا محمد في هذه المسألة فقل لهم على سبيل التحدي: أحضروا التوراة فاقرءوها ليتبين الصادق منا من الكاذب، إن كنتم صادقين في زعمكم أن ما حرمه اللّه عليكم فيها كان محرماً على نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

ص: 3

• قال ابن عطية: قوله تعالى (كل الطعام كان حلاً

) إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها.

• وقال في التسهيل: الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالاً لبني إسرائيل (إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ) أبوهم يعقوب (على نَفْسِهِ) وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حُرِّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبة لهم على معاصيهم، وفيها رد عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافاً لليهود في قولهم: إنّ النسخ محال على هذه الأشياء، وفيها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكراً لله وتقرّباً إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم.

(التسهيل)

• قال السعدي: وهذا من أعظم الأدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام الآيات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به من الأمور التي لا يعلمها إلا بإخبار ربه له به.

• قال ابن كثير: الآية مشروع في الرد على اليهود، وبيان بأن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإن اللّه تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة أباح اللّه له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه فيما حرم على نفسه، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وبتحريم أشياء زيادة على ذلك - عقوبة لهم بسبب بغيهم وظلمهم. وهذا هو النسخ بعينه.

ص: 4

(فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي: فمن تعمد الكذب على اللّه تعالى بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بنى إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم، كان محرماً عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون في الظلم: المتجاوزون للحدود التي شرعها اللّه تعالى، وسيعاقبهم سبحانه على هذا الظلم والافتراء عذاباً أليماً لا مهرب لهم منه ولا نصير.

• افترى: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، وأصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود، والكذب: الإخبار بخلاف الواقع.

• قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد قيام الحجة وظهور البينة.

(قُلْ صَدَقَ اللَّه) أي: فيما أخبر به وحكم، وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن يقولوا بألسنتهم: صدق الله، معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية، مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها، ومن هنا تعلم أن أعظم الناس تصديقاً لله أعظمهم علماً ويقيناً بالأدلة التفصيلية السمعية والعقلية.

• قال الآلوسي: قوله تعالى (قُلْ صَدَقَ الله) أي ظهر وثبت صدقه في أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وقيل: في أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، وقيل: في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولاً أولياً وفيه كما قيل: تعريض بكذبهم الصريح.

• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (قل صدق الله) وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.

• وفي الآية ثناء على الله تعالى وقد قال تعالى (وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً).

• قال في التسهيل: قوله تعالى (صَدَقَ الله) أي الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم.

ص: 5

(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك الشرك الذي هو مدار السعادة، وبتركه حصول الشقاوة، وفي هذا دليل على أن اليهود وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين.

كما قال تعالى (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

• وملة إبراهيم: هي الحنيفية السمحة، وهي الإسلام كما قال تعالى (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

• والْحَنِيفِيَّةُ: دِينُ جَمِيعِ الأنْبِيَاءِ؛ ولكِن أُضِيفت إلى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام؛ لأنَّه أكْمَلُ الخلْقِ تحقِيقًا للتَّوحيدِ مع نبيِّنا صلى الله عليه وسلم؛ وإِبْرَاهِيمُ: الأبُ، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: الِابنُ؛ فاستَحَقَّ أن تُنْسَبَ إلى الأَبِ دُون الابْنِ؛ فيقال: مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ على جهةِ التَّشْريفِ له؛ وإن كانَت هي ملَّةَ الأنبيَاء جَميعاً.

• ملة إبراهيم هي عبادة الله مخلصين له الدين، فهي توحيد الله فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). وقال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

• قوله تعالى (وما كان من المشركين) في هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام. وقد أثنى الله عليه في آيات كثيرة:

قال تعالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).

وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقال تعالى (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

ص: 6

وقال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

).

وقال تعالى (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ).

وقال تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ).

• وثناء الله على شخص لفائدتين:

الأولى: لنقوم بالثناء عليه.

والثانية: لنقتدي به.

‌الفوائد:

1 -

أن لله تعالى أن يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء.

2 -

الرد على اليهود الذين زعموا أنه لا نسخ في الشرائع.

3 -

أن التوراة منزلة كالقرآن.

4 -

إثبات علو الله تعالى.

5 -

علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.

6 -

أنه ينبغي للإنسان أن يتحدى خصمه بما تَبين به الحجة على وجه لا مفر منه.

7 -

أنه متى ظهر الحق فحاد الإنسان عنه صار أشد ظلماً.

8 -

تحريم الكذب على الله.

9 -

أن من العباد من يفتري الكذب على الله.

10 -

وجوب تصديق الله.

11 -

الثناء على الله بالصدق.

12 -

وجوب اتباع ملة إبراهيم.

13 -

الثناء على إبراهيم.

14 -

فضل التوحيد ومجانبة الشرك.

15 -

أن المقياس بين الناس بالأعظم تحقيقاً للتوحيد وابتعاداً عن الشرك.

ص: 7

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)).

[آل عمران: 96 - 97].

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) يُخْبر تعالى أن أول بيت وُضع للناس، أي: لعموم الناس، لعبادتهم ونُسُكهم، يَطُوفون به ويُصلُّون إليه ويَعتكِفُون عنده.

(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) يعني: الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يَزْعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجِه، ولا يَحجُّون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه.

عن أبي ذَر رضي الله عنه قال (قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ مَسجِد وُضِع في الأرض أوَّلُ؟ قال: الْمسْجِدُ الْحَرَامُ، قلت: ثم أَيُّ؟ قال: الْمسجِدُ الأقْصَى، قلت: كم بينهما؟ قال: أرْبَعُونَ سَنَةً، قلتُ: ثم أَيُّ؟ قال: ثُم حَيْثُ أدْرَكْت الصَلاةَ فَصَلِّ، فَكُلُّهَا مَسْجِد). متفق عليه

• قوله تعالى (بِبَكَّةَ) بكة اسم من أسماء مكة على المشهور.

قيل: سُمِّيت بذلك لأنها تَبُكّ أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى: يُبَكون بها ويخضعون عندها.

وقيل: لأن الناس يَتَبَاكّون فيها، أي: يزدحمون.

(مُبَارَكاً) أي: كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره.

ووجه بركته:

أولاً: أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها.

قال صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).

وقال صلى الله عليه وسلم (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).

وقال صلى الله عليه وسلم (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.

وثانيها: قال القفال رحمه الله تعالى: ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى (يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْء) فيكون كقوله (إلى المسجد

الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

وثالثها: فيه زمزم، وقد قال صلى الله عليه وسلم (ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم).

ورابعها: ما دعا به إبراهيم لمكة، أن يبارك الله في ثمارها ومدها وصاعها.

(وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) وجه هدايته للعالمين:

أولاً: أنه قبلة للمؤمنين، يهتدون به إلى جهة صلاتهم.

ثانياً: أن به دلائل وآيات تدل على الخالق سبحانه وتعالى.

ثالثاً: أنه هدى للعالمين إلى الجنة.

ص: 8

(فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي: فيه علامات واضحات كثيرة تدل على شرفه وفضله على سائر المساجد.

(مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) يعني: الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقا بجدار البيت، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) يعني: حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف يأمنُ من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية.

كما قال الله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

وقال تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

وقال تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً).

وقال إبراهيم (رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا).

وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي: فرض لازم على المستطيع حج بيت الله العتيق.

• وهذه آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل: بل هي قوله (وأتموا الحج والعمرة لله) والأول أظهر. (تفسير ابن كثير)

تعريف الحج لغة: القصد، يقال: حج كذا بمعنى قصد.

وشرعاً: التعبد لله بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص.

(مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي: واجب على المستطيع الوصول إليه.

واختلف العلماء في المراد بالسبيل هنا:

فذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالسبيل الزاد والراحلة.

وهذا قول جمهور العلماء.

لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (السبيل الزاد والراحلة).

قال الشوكاني: ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها.

وقال الشنقيطي: حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج.

وقد ذكر الترمذي أن أكثر أهل العلم على العمل بها.

وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير السبيل أنه قال: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زادٍ وراحلة من غير أن يجحف به، وسنده صحيح.

ص: 9

والمراد بالزاد: ما يتزود به، وهو في الأصل الطعام الذي يُتخذ للسفر، والمراد هنا: ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، والراحلة: الناقة التي تصلح لأن يرحل عليها.

وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالاستطاعة على قدر الطاقة.

واختار هذا ابن جرير في تفسيره.

فيدخل في ذلك الزاد والراحلة وأمن الطريق ووجود مكانٍ صالحٍ للمبيت بالمشاعر وزوال الموانع من أداء الحج أياً كانت، ونحو ذلك.

وقال الشيخ محمد رحمه الله: الصحيح أن المراد بالسبيل في قوله تعالى: (من استطاع إليه سبيلاً) المراد الطريق الذي يوصلك إلى مكة أي طريق كان، سواء كان زاداً أو راحلة أو مشياً على الأقدام، أو ما أشبه ذلك.

(وَمَنْ كَفَرَ) استدل به من قال إن تارك الحج عمداً كافر، وجمهور العلماء على عدم كفره.

وأجابوا عن هذه الآية (ومن كفر) بأجوبة:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ كَفَرَ) أَيْ: وَمَنْ جَحَدَ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، فَقَدْ كَفَرَ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ كَفَرَ) أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ الْبَالِغِ فِي الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ كَقَوْلِهِ لِلْمِقْدَادِ الثَّابِتِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» حِينَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي الْحَرْبِ (لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَال).

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَدْ كَفَرَ.

(فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) غني سبحانه عن جميع الخلق وعن عباداتهم وطاعاتهم.

كما قال تعالى (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).

وقال تعالى (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

ص: 10

وقال تعالى (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

وقال تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

وقال تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ).

‌الفوائد:

1 -

أن أول بيت وضع للعبادة هو الكعبة.

2 -

أن تقدم المكان في العبادة له أثر في تفضيله.

3 -

أن هذا البيت هدى للعالمين.

4 -

أن من أسماء مكة بكة.

5 -

أن هذا البيت مبارك.

6 -

أن من دخل المسجد الحرام فهو آمن.

7 -

وجوب الحج.

8 -

أن وجوبه مقيد بالاستطاعة.

9 -

أن الحج واجب مرة واحدة في العمر، لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وقد دلت السنة أيضاً على أنه لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، كما في حديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت).

10 -

رحمة الله بعباده بحيث لم يفرض على عباده ما يشق عليهم.

11 -

خطر ترك الحج لقوله (ومن كفر .. ).

12 -

غنى الله عن عباداتنا وطاعاتنا.

ص: 11

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)).

[آل عمران: 98 - 99].

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ

) هذا تعنيف من الله تعالى لكَفَرة أهل الكتاب، على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله، وصَدِّهم عن سبيله مَنْ أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله، بما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين، والسادة المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وما بَشَّروا به ونوَّهُوا، من ذِكْر النبي صلى الله عليه وسلم الأميّ الهاشمي العربي المكّيّ، سيد ولد آدم، وخاتم الأنبياء، ورسول رب الأرض والسماء، وقد توعدهم الله تعالى على ذلك بأنه شهيد على صَنِيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومقاتلتهم الرسول المُبشر بالتكذيب والجحود والعناد، وأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون، أي: وسيجزيهم على ذلك يوم لا ينفعهم مال ولا بنون.

• وقد تقدم معنى الكفر بآيات الله.

• فإن قيل: ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار؟.

قلنا لوجهين:

الأول: أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه السلام، ثم أجاب عن شبههم في ذلك، ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال (يا أَهْل الكتاب) فهذا الترتيب الصحيح.

الثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته.

• قال البيضاوي: قوله تعالى (قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ) كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب.

• قال الرازي: قال المفسرون: وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته صلى الله عليه وسلم في كتابهم.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وأنتم شهداء) ومعناه وأنتم عالمون أنّها سبيل الله، وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مِمَّا لا يعلمه إلاّ الله، لأنّ ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقّبه بقوله (وما الله بغافل عما تعملون) وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنَّهم يعلمون أنّ الله يعلم ما تخفي الصدور، وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة (والله شهيد على ما تعملون) إلاّ أنّ هذا أغلظ في التَّوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأنّ حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك.

ص: 12

• قوله تعالى (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي: عن دينه وشرعه، وسمي الدين سبيلاً، لأنه موصل إليه، وأضيف إلى الله لوجهين:

الوجه الأول: أن الله هو الذي وضعه سبيلاً للخلق يمشون عليه.

الوجه الثاني: أنه موصل إلى الله، فمن سلك السبيل الذي وضعه الله للعباد فسيصل إلى الله تعالى.

(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي: أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا يخفي عليه خافية، وسيجازيهم عليها، وفي هذا وعيد وتهديد.

• قال القاسمي: وقوله تعالى (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيه من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه، مطلعاً عليه غير غافل عنه، كان لمجازاتهم بالمرصاد.

• والغفلة صفة منفية فيجب نفيها عن الله مع إثبات ضدها، فالله لا يغفل لكمال علمه.

‌الفوائد:

1 -

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ أهل الكتاب على كفرهم بآيات الله.

2 -

تهديد من يكفر بآيات الله.

قوله تعالى: قُلْ افتَتَح بفِعْل (قُلْ)؛ اهتمامًا بالمقُول (12).

قوله الله تعالى: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ؛ يُستَفاد منه أنَّ اللهَ تعالى لا يُحاسِب العبدَ على ما حدَّث به نَفْسَه؛ فالوَساوس التي تكون في الصَّدر لا يُؤاخَذ عليها الإنسانُ إلَّا إذا ترتَّب عليها عملٌ، أو ركَن إليها واعتَقدها، وجعَلَها من أعمالِ القلب، فحينئذٍ يُحاسَب عليها، وكذلك إذا نطَق بها لسانُه، أو عمِل بمقتضاها بجوارحه، فحينئذٍ يُحاسَب عليها.

ص: 13

قوله تعالى: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ) إنَّما ذكَر مَنْ آمن مع أنهم يَصُدُّون مَنْ لم يؤمن أيضًا حتى لا يَدخُل في الإيمان؛ وذلك لأنَّ صدَّ مَن آمن أشدُّ عُدوانًا من صدِّ مَن لم يؤمن؛ فالبقاءُ على الكُفْر أهونُ من الرِّدة؛ لأنَّ هذا مَنْع، والأوَّل رَفْع، ورَفْع الخيرِ أشدُّ عقوبةً مِن مَنْعه.

3 -

إحاطة الله تعالى بكل شيء.

4 -

أن من صد عن سبيل الله من المسلمين ففيه شبه من أهل الكتاب.

5 -

الحث على التمسك بشرع الله ودينه.

6 -

سوء قصد أهل الكتاب.

7 -

عموم رقابة الله عز وجل على كل شيء، ولا يفوته شيء ولا يخفى عليه شيء.

8 -

أن الغفلة من الصفات المنفية عن الله وذلك لكمال علمه سبحانه.

9 -

تهديد العصاة، بأن الله لا يغفل عنهم.

10 -

ختَم اللهُ تعالى الآيةَ الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ، والآية الثانية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يُظهِرون الكُفْرَ بنُبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يُظهِرون إلقاءَ الشُّبهِ في قلوب المسلمين، بل كانوا يَحتالون في ذلك بضُروب من المكايد والحيل الخفيَّة التي لا تَروُج إلا على الغافل، فلا جَرَم قال فيما أَظهَروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ، وفيما أَضمَروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون.

11 -

قوله الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ؛ يَتضمَّن نَفْي الغَفْلةِ عن الله، وكذلك ثبوتَ كمال المراقبة؛ لأنَّ مَن كان كامِل المراقبة، فإنَّه ليس عنده غَفْلة.

ص: 14

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)).

[آل عمران: 100 - 101].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وانقادوا وعملوا بجوارحهم.

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به.

• والإيمان شرعاً: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان.

• تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان.

• قال ابن عاشور: إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال (قل يا أهل الكتاب) ولم يقل: قل يأيُّها الّذين آمنوا (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من الذين أوتوا الكتاب، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما مَنَحهم به من إرسال رسوله.

• وفي قوله تعالى (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام.

ص: 15

كما قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).

وقال تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).

وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).

وقال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).

وقال تعالى (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أي: على أيّ حال يقع منكم الكفر.

(وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ) الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (وفيكم رسوله) حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنّة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون، وبها يظهر معنى قوله صلى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري (لَا تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه).

وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال: سماعُ القرآن، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم.

• والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم، ومنهم من جعله عاماً لسائر المؤمنين وجميع الأمة، وعليه معنى كونه صلى الله عليه وسلم فيهم، إن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله، ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذاناً بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت.

• قال القرطبي: ويدخل في هذه الآية مَن لم يَرَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فيهم من سُنّته يقوم مقام رؤيته.

• قال ابن كثير: يعني: أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه؛ فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهارًا، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والآية بعدها.

وكما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لأصحابه (أيُّ الْمُؤمِنِينَ أعْجَبُ إلَيْكُمْ إيمَانًا؟ قالوا: الملائكة. قال: وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم؟ وذكروا الأنبياء قال: وَكَيْفَ لا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنزلُ عَلَيْهِمْ؟ قالوا: فنحن. قال: وَكَيْفَ لا تُؤْمِنُونَ وأنَا بَيْنَ أظْهُرِكُم؟. قالوا: فأيّ الناس أعجب إيمانًا؟ قال: قَوْمٌ يَجِيؤُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا).

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) توكلاً عليه واعتماداً ودعاء واستعانة.

ص: 16

(فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) في هذا حث على الاعتصام بالله، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية.

وقد أمر الله بالاعتصام به:

فقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

وقال تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

وقال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً).

‌الفوائد:

1 -

تحذير المؤمنين من طاعة أهل الكتاب.

2 -

أن الكفار يجتهدون في إضلال المؤمنين بكل طاقاتهم.

3 -

أن هدف أهل الكتاب الأساسي هو الردة عن الدين.

4 -

أن طاعة الكفار مخالفة للإيمان.

5 -

استبعاد أن يرتد المؤمن وهو يتلى عليه كتاب الله وفيهم رسوله.

6 -

معرفةُ فضْلِ الصحابة بالمَنْقبة العظيمة، والمِنَّة الجليلة، وهي وجودُ هذا الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام بينهم، ومشاهدةُ أنواره؛ فكان وجودُه عِصْمةً من ضلالهم، تلك المَزيَّة التي فاز بها الصَّحابةُ المخاطَبون بهذه الآية وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه

7 -

الحث على الاعتصام بالله.

8 -

أنَّ التَّمسُّك بكتابِ الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإقبال عليهما أعظمُ مانعٍ يَمْنع من الكُفر.

9 -

من اعتصم بالله هدي.

ص: 17

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)).

[آل عمران: 102 - 103].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أمر بتقوى الله حق تقاته.

عن ابن مسعود في قوله (اتقوا الله حق تقاته) قال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وبهذا قال الربيع بن خُثيم وعمرو بن ميمون وطاووس والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم واختاره الطبري.

وقيل: (حق تقاته) أن يجاهدوا في الله حق الجهاد، وألا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، روي هذا القول عن ابن عباس.

• قال ابن عاشور: التقوى حاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظَّاهرة، والنَّوايا الباطنة.

• وقال رحمه الله: انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم.

وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية.

• اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا على قولين:

القول الأول: أنها محكمة غير منسوخة.

واختار هذا الطبري، وابن تيمية، وابن عقيل، ورجحه ابن عطية، والقرطبي، والقاسمي، وابن عاشور.

قالوا إن قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بيان وتفسير لقوله تعالى (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم.

قال ابن تيمية: فإن الله يقول (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وهذا تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال ابن مسعود

وغيره: حق تقاته: أن يطاع فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي: بحسب استطاعتكم، فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، قال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).

وقال ابن عطية بعد ذكره هذا القول (وهذا القول هو الصحيح).

ص: 18

القول الثاني: أنها منسوخة.

وإليه ذهب ابن عباس في أحد قوليه، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة وغيرهم.

قالوا: إن قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ناسخة لقوله (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ).

• في الآية الأمر بتقوى الله، وقد جاءت آيات كثيرة تأمر بتقوى الله:

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

التقوى مأخوذة من الوقاية، وهي: أن يجعل الإنسان لنفسة وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

• وهذا من أجمع التعاريف، وقد جاء في معناها آثار عدة عن السلف كلها داخلة تحت خذا المعنى.

قال علي: التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

وقال ابن مسعود: حقيقة تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.

قال ابن القيم: وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى.

وروي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.

قال ابن المعتز:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها فهو التقى

كن مثل ماش فوق

أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

ص: 19

قال ابن القيم: مراتب التقوى:

التقوى ثلاث مراتب:

إحداها: حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، والثانية: حميّتها عن المكروهات، والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.

فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.

• قال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة.

وقال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله.

وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.

• قال القرطبي: ذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يَقْوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل (فاتقوا الله مَا استطعتم) فنسخت هذه الآيةَ.

قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية.

وقيل: إن قوله (فاتقوا الله مَا استطعتم) بيانٌ لهذه الآية.

والمعنى: فاتّقوا الله حق تُقاته ما استطعتم، وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أوْلىَ.

(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي: حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك.

• قال الرازي: لفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله (إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلَا تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

ص: 20

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) أمر بالاعتصام بحبل الله.

وقد اختلف في المراد بحبل الله:

فقيل: أي: بعهد الله.

وقيل: بحبل الله، أي: القرآن.

وقيل: المراد به الجماعة.

وقيل: إنه إخلاص الله.

• قال السمرقندي: قال بعض الحكماء: إن مثل من في الدنيا، كمثل من وقع في بئر، فيها من كل نوع من الآفات، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق، فكذلك الدنيا دار محنة، وفيها كل نوع من الآفات، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق، وهو كتاب الله تعالى.

(وَلا تَفَرَّقُوا) أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة.

وقد وردت الآيات الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.

قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ).

وقال تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد).

وقال تعالى (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وقال تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَال) متفق عليه.

وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (

ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا).

وعن أبي مسعود قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم). رواه مسلم

وعن جندب. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفت فقوموا عنه).

وعن عبادة. قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى

فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة).

ص: 21

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج، فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن، وإحَنٌ وذُحُول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى، قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم، فأبعدهم الله منها: أنْ هَدَاهُم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ، فَعتَبَ من عتب منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله، فخطبهم فقال (يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ " كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ).

• قال ابن عاشور: قوله: (واذكروا نعمت الله عليكم) تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق.

• التَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل.

قال تعالى حكاية عن هود (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح).

وقال عن شعيب (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم).

وقال الله لموسى (وذكرهم بأيام الله).

وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار.

(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) أي: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها.

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة، والله تعالى يقول (وما كنا معذّبين إلا أن نبعث رسولا) ويقول (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).

والذي يظهر في الجواب - والله تعالى أعلم - أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت، كما بينه تعالى بقوله (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) الآية.

وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة، فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرِّحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى (لتنذر قوما ما أُنذر أباؤهم).

ص: 22

(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي: يوضحها ويبينها.

• قال ابن عاشور: نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم.

والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح.

والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم، ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية، وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى شكر الله والتمسك بحبله.

‌الفوائد:

1 -

وجوب تقوى الله.

2 -

العناية والاهتمام بتقوى الله.

3 -

أن تقوى الله من مقتضيات الإيمان.

4 -

وجوب البقاء على الإسلام.

5 -

وجوب الاجتماع على شرع الله.

6 -

وجوب التحاكم إلى شرع الله.

7 -

من أعظم نعم الله اجتماع القلوب.

ص: 23

(ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)).

[آل عمران: 104].

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين مَنَّ الله عليهم بالإيمان والاعتصام بحبله.

(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) وهو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه.

(وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه.

(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه.

• قال السعدي: وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله (ولتكن منكم أمة) إلخ أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، كالاستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية الأعداء وعز الإسلام، وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم، ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين.

(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب.

• أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض لقوله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكراً فليغيره بيده

) لكنه فرض كفائي.

لقوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

).

قال ابن قدامة: في هذه الآية بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، لأنه قال (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) ولم يقل: كونوا آمرين بالمعروف.

• قال في التسهيل: وقوله: منكم: دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال.

ص: 24

•‌

‌ الأمة في القرآن تطلق على معان:

منها: الجماعة من الناس.

كما في قوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). وقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ).

ومنها: الإمام في الدين المقتدى به.

كما في قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً).

ومنها: البرهة من الزمن.

كما في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي: تذكر بعد بُرهة من الزمن.

وكقوله تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) أي: إلى قطعة من الزمن معينة.

ومنها: الشريعة والدين.

كقوله تعالى (إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي: على شريعة وملة ودين.

• هناك أحوال يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين:

أولاً: التعيين من قبل السلطان.

ثانياً: التفرد بالعلم بأن معروفاً قد ترك، أو منكراً قد ارتكب.

قال النووي: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ثم إنه قد يتعين إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو.

ثالثاً: انحصار القدرة في أشخاص محددين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره.

ص: 25

•‌

‌ فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

‌أولاً: مهمة الرسل.

قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وقال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ

).

‌ثانياً: من صفات المؤمنين.

قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

وقال تعالى (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

قال الغزالي: فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية.

‌ثالثاً: أن خيرية الأمة مناطة بهذه الشعيرة.

قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).

‌رابعاً: من أوصاف سيد المرسلين.

قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ).

‌خامساً: من خصال الصالحين.

قال تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

‌سادساً: من أسباب النصر والتمكين.

قال تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

ص: 26

‌سابعاً: من أسباب النجاة.

قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ).

‌ثامناً: عظم فضل القيام به.

قال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

وقال صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) رواه مسلم.

‌تاسعاً: من أسباب تكفير الذنوب.

قال صلى الله عليه وسلم (فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) رواه مسلم.

‌عاشراً: أنه طريق الفلاح.

لقوله تعالى (ولتكن مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

‌الحادي عشر: أنه رفع لراية الدين ودحر للمنافقين والكافرين.

قال الثوري: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.

ص: 27

•‌

‌ خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

‌أولاً: أن ذلك من صفات المنافقين.

قال تعالى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ).

‌ثانياً: نزول البلاء والعذاب.

قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).

ولما قالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: (أنهلك وفينا الصالحون؟) قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا كُثر الخب). رواه البخاري

قال صلى الله عليه وسلم (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه أبو داود.

‌ثالثاً: عدم استجابة الدعاء.

قال صلى الله عليه وسلم (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عقاباً منه فتدعونه فلا يستجيب لكم) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم) رواه أحمد.

‌رابعاً: اللعن والإبعاد من رحمة الله.

قال تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

‌خامساً: انتفاء خيرية الأمة.

قال صلى الله عليه وسلم (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم) رواه أبو داود

‌سادساً: الفساق والفجار والكفار، وتزيين المعاصي، وشيوع المنكر واستمراؤه.

‌سابعاً: ظهور الجهل، واندثار العلم، وتخبط الأمة في ظلم حالك لا فجر لها.

ويكفي عذاب الله عز وجل لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسلط الأعداء والمنافقين عليه، وضعف شوكته وقلة هيبته.

ص: 28

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال الثوري: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافقين.

وقال علي: أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم

ينكر المنكر نكِّس، فجعل أعلاه أسفله.

وقال أبو الدرداء: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم.

وقال حذيفة عندما سئل عن ميت الأحياء: الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه.

وقال سفيان: إني لأرى المنكر فلا أتكلم فأبول دماً.

وقال إسماعيل بن عمر: من ترك الأمر بالمعروف خوف المخلوقين، نزعت منه الهيبة، فلو أمر ولده لا ستخف به.

قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: فلو قدر أن رجل يصوم النهار ويقوم في الليل ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع هذا لا يغضب الله، ولا يتمعَّر وجهه، ولا يحمر، فلا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً، وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2 -

أنه يجب على طائفة من المؤمنين القيام بهذه الشعيرة.

3 -

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4 -

على الإنسان أن يطلب العلم ليكون حكيماً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.

5 -

فضل هذه الشعيرة وأنها من أسباب الفلاح.

ص: 29

(وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ (108)).

[آل عمران: 105 - 108].

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) ينهى هذه الأمة أن تكون كالأمم الماضية في تفرقهم واختلافهم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم.

(مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة، المبينة للحق، الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة، وهي كلمة الحق.

• قال القرطبي: يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين.

عن معاوية. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يعني الأهواء-كُلُّهَا فِي النَّار إلا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ، لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إلا دَخَلَهُ. واللهِ -يَا مَعْشَر العَربِ-لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جاء بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُكم مِن النَّاسِ أحْرَى ألا يَقُومَ بِه).

• وقال ابن عاشور: وفيه إشارة إلى أن الاختلاف المذموم والذي يؤدي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الديانة الذي يفضي إلى تكفير بعض الأمة بعضا، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبينة على اختلاف مصالح الأمة في الأقطار والأعصار، وهو المعبر عنه بالاجتهاد، ونحن إذا تقصينا تاريخ المذاهب الإسلامية لا نجد افتراقا نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشريعة.

(وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم، فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوهُ المؤمنين مبيضّة ووجُوه الكافرين مسْوَدّة قال

الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان وذلك في قوله (فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) الآية.

ص: 30

‌وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله:

وهو قوله تعالى (وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ).

‌وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات:

وهو قوله (والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً).

وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور:

وهو قوله تعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة).

وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر بالله تعالى، وبين في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون وهو قوله (وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً) وأقبح صورة أن تكون الوجوه مسوداً والعيون زرقاً.

• وفي وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره، وتعظيم لشأنه، وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة، وترغيب للمؤمنين في الإكثار من التزود بالعمل الصالح وترهيب للكافرين من التمادي في كفرهم وضلالهم.

• قال ابن عاشور: والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع:

(أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) في الكلام حذف، أي فيقال لهم (أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (أكفرتم) قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلاً عليه، كقوله تعالى (وإسماعيل ربَّنا تقبل منا)، أي: ويقولان: ربنا تقبَّل منا. ومثله (من كل باب. سلام عليكم) والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ.

ص: 31

• قوله تعالى (

بعد إيمانكم) يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى.

ويقال: هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به.

وقال أبو العالية: هذا للمنافقين، يقال: أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية.

• وقال الطبري: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم:(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).

ثم قال مبيناً وجه الترجيح: وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين: أحدهما سودًا وجوهه، والآخر بيضًا وجوهه. فمعلوم -إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان- أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه. فلا وجه إذًا لقول قائل: عنى بقوله: "أكفرتم بعد إيمانكم، بعض الكفار دون بعض، وقد عمّ الله جل ثناؤه الخبرَ عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة، كان معلومًا أنها المرادة بذلك.

• قال ابن عاشور: وقدم عند وصف اليوم ذكر البياض، الذي هو شعار أهل النعيم، تشريفا لذلك اليوم بأنه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن في ذكر سمة أهل النعيم، عقب وعيد غيرهم بالعذاب، حسرة عليهم، إذ يعلم السامع أن لهم عذابا عظيما في يوم فيه نعيم عظيم.

ثم قدم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم.

(فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي: فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه.

• قال الرازي: أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً.

ص: 32

• والأمر في قوله فَذُوقُوا للإهانة والإذلال.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) المراد برحمة هنا الجنة، كما في الحديث. قال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى للجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء).

فرحمة الله هنا ليست الرحمة المذكورة في قوله تعالى (وربك الغفور ذو الرحمة) لأن هذه الصفة صفة لله.

• قال ابن قتيبة: وسمَّى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته.

(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يبغون عنها حولاً.

وهذا من أعظم تمام النعيم، أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآبدين.

• وهذا من أعظم النعيم وبه يتم النعيم، لأن أكبر ما ينكد اللذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم، والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً.

فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات، لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها، لأنه يقطعها، ولهذا قال (خالدين فيها) لا يزول عنهم ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.

وجاءت الآيات الكثيرة بخلود أهل الجنة بالجنة.

فقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على شكل كبش فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت

) متفق عليه.

ص: 33

قال أبو حيان: ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة الله بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى.

وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب.

وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه، بل قال (فذوقوا العذاب) ولما ذكر العذاب علّله بفعلهم، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة.

(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ) أي: هذه آيات الله وحُجَجه وبيناته.

الإشارة إلى طائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ).

(نَتْلُوهَا عَلَيْكَ) يا محمد، بواسطة جبريل، كما قال تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين).

(بِالْحَقِّ) الباء للمصاحبة، يعني أنها مصحوبة بالحق ونازلة بالحق، صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، وتكون الباء للملابسة، أي:

أنها نزلت من عند الله حقاً بلا شك، وهو يشمل المعنيين جميعاً، فهي نازلة من عند الله حقاً بلا شك، وهي أيضاً نازلة بالحق.

(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ) أي: ليس بظالم لهم بل هو الحَكَم العدل الذي لا يجوز.

ص: 34

‌الفوائد:

1 -

النهي عن التفرق في القلوب.

2 -

أن ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتفرق.

3 -

أن التفرق بعد أن تبين الحق أشد قبحاً من التفرق حين خفاء الحق.

4 -

وجوب التذكير بهذا اليوم العظيم الذي ينقسم فيه الناس إلى قسمين.

5 -

إثبات يوم القيامة.

6 -

إثبات البعث والجزاء.

7 -

أنه يجمع لهؤلاء الكفار العذاب بين العذاب البدني والعذاب النفسي.

8 -

شدة التنكيل بهؤلاء الكفرة.

9 -

أن الذي ابيضت وجوههم في الجنة.

10 -

أن أهل الجنة مخلدون.

11 -

أن القرآن كلام الله.

12 -

إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

13 -

انتفاء الظلم عن الله لكمال عدله.

ص: 35

(وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109)).

[آل عمران: 109].

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: كل ما في السماوات والأرض له سبحانه وتعالى خلقاً وملكاً وتدبيراً.

• قال ابن جرير: أي أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون آلهة ومعبود.

• وقال ابن كثير: إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه.

• وقال أبو بكر الجزائري: خلقاً وملكاً وتصرفاً.

وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على هذا العموم:

قال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وقال تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).

وقال تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

• وهذه الجملة تؤيد تفرده سبحانه بالألوهية، وذلك من جانبين:

الأول: حيث إن الجميع عبيد له جل جلاله، وليس للعبد أن يعبد غير مالكه، أو يُشرِك غيره معه في العبادة، وقد نهاه عن ذلك.

الثاني: وحيث إن الجميع عبيد له، فكيف يُعبد مملوك -كائناً من كان- ويُترك المالك، أو يُشرَك مملوك في العبادة مع المالك، وقد نهى عن ذلك.

• والفائدة من إيماننا بأن لله ملك السموات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين:

الفائدة الأولى: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف

فيك كما يشاء ..

يدل لذلك ما أمرنا الله به أن نقول عند المصيبة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

ويدل لذلك أيضاً ما بينّه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته التي أشرف ابنها على الموت، حينما أرسلت إليه ليأتي، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه.

ص: 36

الفائدة الثالثة: أن كل ما في الكون ملك لله الأحد سبحانه وتعالى من غير شريك، فما لدينا من مال ومتاع وجاه ليس ملكاً لنا بل هو ملك لله، وإنما نحن مستخلفون فيه للابتلاء والاختبار، كما قال تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون

) رواه مسلم.

(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي: إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور، أمور الدنيا والآخرة كما قال تعالى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم فيحاسبهم.

فالدنيا والآخرة كلها بيده سبحانه كما (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى).

وهو المحمود على ذلك كله، كما قال تعالى (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ).

وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

‌الفوائد:

1 -

عموم ملك الله تعالى.

2 -

انفراد ملك الله تعالى بذلك.

3 -

أن مرجع الأمور إلى الله.

4 -

إثبات الآخرة والحساب.

5 -

عظمة الله وتمام سلطانه.

ص: 37

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110))

[آل عمران: 110].

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

عن أبي هريرة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال: خَيْرَ الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.

وهكذا قال ابن عباس، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وعَطاء، والربيع بن أنس، وعطية العَوْفيّ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يعني: خَيْرَ الناس للناس.

والمعنى: أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس؛ ولهذا قال (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).

فوجه خيرية هذه الأمة لبقية الأمم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقاتل هذه الأمم حتى تدخلها الإسلام فتنجيها من عذاب الله يوم القيامة.

• قال الرازي: قال الزجاج: قوله (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام في كل الأمة، ونظيره قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام)(كتب عَلَيْكُم القصاص) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا.

• وفي الآية فضيلة ظاهره للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لأن خيرية هذه الأمة منوطة بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وإيمانها

بالله، فإذا تخلت عن إيمانها بالله وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر سُلبتْ منها تلك الخيرية.

• الحكمة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال الشنقيطي: لأن استقراء القرآن دل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ثلاث حكم، تضمنت هذه الآية من سورة الأعراف (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) من تلك الحكم الثلاث اثنتين، فالحكم الثلاث:

الأولى: أن يقيم الإنسان عذره أمام ربه، ويخرج بذلك من عهدة التقصير في الأمر بالمعروف لئلا يدخل في قوله (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

ص: 38

وهذه الحكمة أشار لها بقوله (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ).

الحكمة الثانية: هي رجاء انتفاع المذَكَّر.

كما قال هنا عنهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، وذكر الله هذه الحكمة في قوله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

الحكمة الثالثة: هي إقامة الحجة لله على خلقه في أرضه نيابة عن رسله.

لأن الله يقول (رسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فأهل العلم يقيمون حجة الله على خلقه بإقامة الحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

•‌

‌ فضائل هذه الأمة:

أولاً: قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). وقال صلى الله عليه وسلم (وجعلت أمتي خير الأمم).

ثانياً: قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ثالثاً: قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

رابعاً: قال صلى الله عليه وسلم (إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) رواه الترمذي.

خامساً: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّة) رواه مسلم

سادساً: قال (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد،

فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب،

هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) متفق عليه.

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم.

كما قال قتادة: بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة فقرأ هذه الآية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ثم قال: من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها. رواه ابن جرير.

ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ولهذا لما مَدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم،

• قال الرازي: اعلم أن هذا كلام مستأنف، والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم.

ص: 39

• وقال القرطبي: قوله تعالى: (تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر) مدح هذه الأمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتَواطَئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذَّمِّ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من سره أن يكون من أهل هذه الآية فليؤد شرط الله فيها، يريد من سره أن يكون من خير أمة فليؤمن بالله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر.

• قال الغزالي رحمه الله: هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه

وعمله؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.

(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ) أي: بما أنزل على محمد.

(لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة.

(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) أي: قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.

أي: وكثير منهم خارجون عن طاعة الله.

ص: 40

• فالكثرة الكاثرة من الخلق ليسوا على الحق، بل هم خارجون عن الحق وعن طاعة الله.

‌والأدلة على هذا كثيرة:

قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

وقال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

وقال تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).

وقال تعالى (وقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

وقال تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هم).

وقال تعالى في شأن نوح (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).

وقال تعالى في الحديث القدسي (يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما أنتم في الأمم كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان

) متفق عليه

‌الفوائد:

1 -

أن هذه الأمة خير الأمم.

2 -

أن هذه الأمة فضلت على غيرها بالخيرية لوصف ليس في غيرها.

3 -

أنه متى زال هذا الوصف زال كونها خير أمة.

4 -

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ترتب الخيرية عليه يدل على أهميته.

5 -

أنه كلما ازداد الإنسان أمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر كان خيراً من غيره، لأن المعلق على وصف يقوى بقوته ويضعف بضعفه.

ص: 41

(لن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (111)).

[آل عمران: 111].

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي: لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً بألسنتهم من سب وطعن.

• قال ابن عطية: قوله تعالى (لن يضروكم إلا أذى) معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة.

• قال القرطبي: يعني كذبهم وتحريفهم وبُهْتَهم؛ لا أنَّه تكون لهم الغَلَبَة.

• وقال الرازي: قوله تعالى (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً) معناه: أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن

يؤذوكم باللسان، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإما بإظهار كلمة الكفر، كقولهم (عُزَيْرٌ ابن الله) و (المسيح ابن الله) و (الله ثالث ثلاثة) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين.

قال القرطبي: فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلاَّ إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.

(وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وهذا وقع، فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين. (ابن كثير)

• قال القرطبي: وفي هذه الآية معجزة للنبيّ عليه السلام؛ لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره.

ص: 42

• وقال أبو حيان: هذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه، أو النصر المستمد من الله، وكلاهما ليس لهم.

وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب.

ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى (سيهزم الجمع ويولون الدبر)(ومن يولهم يومئذ دبره) ثم لا ينصرون: هذا استئنافُ إخبار أنّهم لا ينصرون أبداً.

• وقال الآلوسي: وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئاً منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح.

‌الفوائد:

1 -

أن أهل الكتاب لن يضروا المسلمين.

2 -

أنه لو تقابل المسلمون وأهل الكتاب في قتال فالمنتصر هم المسلمون.

3 -

تشجيع الله للمؤمنين وتثبيتهم.

ص: 43

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (112)).

[آل عمران: 112].

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) أي: لزمهم الذل والهوان أينما وجدوا.

• قال ابن عاشور: ومعنى ضرب الذلّة اتَّصالها بهم وإحاطتها.

•‌

‌ اختلف في المراد بالذل هنا على أقوال:

الأول: أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى: (اقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

الثاني: أن هذه الذلة هي الجزية، وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار.

والثالث: أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون.

• ضربت عليهم الذلة لأنهم تكبروا، فكل متكبر مصيره إلى الذل عقوبة له.

•‌

‌ أسباب الذل:

‌أولاً: استمراء المعاصي وتسويف التوبة:

قال تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ

كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

قال أبو حيان الأندلسي: لما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، بين علة ذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم.

وقال الحسن البصري: أما والله لئن تدقدقت بهم الهماليج ووطئت الرحال أعقابهم، إن ذل المعاصي لفي قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله.

ص: 44

‌ثانياً: الإشراك بالله تعالى والابتداع في الدين.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).

• قال الطبري: يقول تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلهًا سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ، بتعجيل الله لهم ذلك وذلة وهي الهوان، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في الحياة الدنيا، في عاجل الدنيا قبل آجل الآخرة.

• وقال الشاطبي: كل من ابتدع في دين الله، فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبروته، فهم في أنفسهم أذلاء، وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال، ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين، وفيما بعد ذلك؟ حتى تلبسوا بالسلاطين، ولاذوا بأهل الدنيا، ومن لم يقدر على ذلك; استخفى ببدعته، وهرب بها عن مخالطة الجمهور، وعمل بأعمالها على التقية.

‌ثالثاً: محاربة الله ورسوله ومخالفة أمرهما.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ).

• قال الشوكاني: أولئك في الأذلين أي: أولئك المحادون لله ورسوله، المتصفون بتلك الصفات المتقدمة، من جملة من أذلَّه الله من الأمم السابقة واللاحقة؛ لأنهم لما حادوا الله ورسوله صاروا من الذُّل بهذا المكان. قال عطاء: يريد الذُّل في الدنيا والخزي في الآخرة.

‌رابعاً: الكبْر والأنفة عن قبول الحق.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال، يغشاهم الذُّل من كل مكان) رواه الترمذي.

قال ابن القيم: من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفًا ورجاءً والتجاءً واستعانةً، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه.

ص: 45

‌خامساً: اتباع الهوى.

قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

قال ابن تيمية: من قهره هواه ذل وهان وهلك وباد.

وقال ابن القيم: لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذُّل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يعذب به في قلبه.

وقال ابن القيم أيضاً: تجد في المتبع لهواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه

وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته، والذُّل قرين معصيته.

‌سادساً: ترك الجهاد وحب الدنيا وكراهية الموت.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلًا لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم). رواه أبو داود

قال ابن رجب: من أعظم ما حصل به الذُّل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله، فمن سلك سبيل الرسول

صلى الله عليه وسلم عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فقال (ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل) فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل، فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟

وقال الحسن البصري: قد رأينا أقوامًا آثروا عاجلتهم على عاقبتهم فذلوا وهلكوا وافتضحوا.

وقال: ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله.

ص: 46

‌سابعاً: البخل وشيوع الربا وأكل أموال الناس بالباطل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم).

ثامناً: سؤال الناس والتطلع لما في أيديهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه)، وفي رواية لأحمد (فيكف الله بها وجهه).

قال ابن حجر: فيه الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال، ومن ذل الرد إذا لم يعط.

وقال ابن مفلح: أولى الناس بحفظ المال، وتنمية اليسير منه، والقناعة بقليله توفيرًا لحفظ الدين والجاه، والسلامة من مننِ العوامِ الأراذلِ -العالمُ الذي فيه دين، وله أنفة من الذل.

(إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: إن المراد بحبل من الله الإسلام، وقيل: إن حبل الله هو الذمة والعهد الذين أعطاهما الله لليهود والنصارى إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

(وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) قيل: هو العهد.

(وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي: رجعوا مستوجبين للغضب الشديد من الله.

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي: لزمتهم الفاقة والخشوع.

(ذَلِكَ) الذل والغضب عليهم والمسكنة.

(بِـ) أي: بسبب.

ص: 47

(أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) تقدم شرحها.

وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) تقدم شرحها.

ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) أي: بسبب ما ارتكبوا من المعاصي.

وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي: وبسبب اعتدائهم على الناس وظلمهم لهم.

‌الفوائد:

1 -

أن أهل الكتاب وخاصة اليهود من أذل الناس.

2 -

أن أهل الكتاب قد ترتفع عنهم الذلة بحبل من الله أو بحبل من الناس.

3 -

إثبات الغضب لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله.

4 -

أن الكفر بآيات الله سبب للعقوبات.

5 -

عتو بني إسرائيل بالكفر وقتل الأنبياء والمعصية والعدوان.

6 -

أن قتل الأنبياء موجب للعقوبة.

ص: 48

(لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَ

يْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)). [آل عمران: 113 - 115].

(لَيْسُوا سَوَاءً) المشهور عن كثير من المفسرين -كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العَوْفِيّ عن ابن عباس-أن هذه الآيات نزلت فيمن آمَنَ من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سَلام وأسَد بن عُبَيْد وثعلبة بن سَعْية وأسَيد بن سعْية وغيرهم، أي: لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب [وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً) أي: ليسوا كلُّهم على حَدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المُجْرم، ولهذا قال تعالى:

(مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) قال الآلوسي: قوله تعالى (مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ .. ) استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم، تأكيداً لِما أفاده قولُه (منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون) فالضمير في قوله (ليسوا) لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفاً، وهم اليهود، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد.

• قوله تعالى (أمة قائمة) وقيل: أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله (وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما) وقوله (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل).

وقوله (قُمِ الليل) وقوله (وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة.

وقيل: في تفسير كونها قائمة: أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله (إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها، ومنه قوله تعالى:(قَائِمَاً بالقسط).

• قال ابن كثير: أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشَرْعه مُتَّبِعة نبيَّ الله، فهي (قَائِمَةٌ) يعني مستقيمة.

(يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي: يقومون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم.

(وهم يسجدون) المراد بذلك الصلاة.

(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.

(وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو كل ما يكون بعد الموت.

وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) يأمرون بكل خير.

(وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وينهون عن كل شر.

(وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) المسارعة في الخيرات تقتضي فعلها وتكميلها والإتيان بها على أكمل وجه.

• فينبغي للمسلم أن يبادر للخيرات والأعمال الصالحات الواجبات والمستحبات. (وسيأتي ما يتعلق بالمسارعة للخيرات قريباً إن شاء الله)

ص: 49

(وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح: من أدى حق الله وحق عباده.

• قال الرازي: واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن، فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال: بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم (وأدخلناهم فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين) وقال (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد، وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال، فإذا كان كل ما حصل من باب ما ينبغي أن يكون، فقد حصل الصلاح، فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات.

ص: 50

(وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي: لا يضيع عند الله بل يجزيكم به أوفر الجزاء.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي: لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً.

‌الفوائد:

1 -

أن أهل الكتاب ليسوا سواء، منهم أمة ضالة ومنهم أمة قائمة بأمر الله.

2 -

بيان عدل الله تعالى.

3 -

الثناء على القيام بطاعة الله والثبات عليها.

4 -

الثناء على من يتلون كتاب الله تلاوة وعملاً.

5 -

فضيلة السجود.

6 -

فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

7 -

الحث على المسارعة على الخيرات.

8 -

فضل الصلاح.

9 -

على المسلم أن يعرف الصفات التي يكون فيها الإنسان صالحاً ليطبقها.

10 -

أن من عملاً خيراً أثيب عليها كاملاً.

11 -

بيان عدل الله.

12 -

الحث على العمل الصالح.

13 -

إثبات علم الله تعالى.

14 -

الثناء على أهل التقوى.

ص: 51

(إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)).

[آل عمران: 116].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه.

• الكفر لغة الستر والتغطية، ويسمى الليل (كافراً) لأنه يغطي كل شيء، وكل شيء غطى شيء فقد كفره، والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب، وشرعاً: ضد الإيمان، فهو عدم الإيمان بالله ورسله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) أي: لن تدفع عنه.

(أَمْوَالُهُمْ) ولو كثرت.

(وَلا أَوْلادُهُمْ) ولو كثروا لينتصروا بهم.

(مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي: من عذاب الله وعقابه شيئاً إذا نزل.

قال تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ).

وقال تعالى (ما أغنى عني ماليه).

وقال تعالى (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

وقال تعالى (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ).

وقال تعالى (وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى).

وقال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).

وهم قد ادعوا ذلك لأنفسهم كما قال تعالى عنهم (وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) وقوله (أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً). يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا.

ص: 52

وقوله (وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى) أي: بدليل ما أعطاني في الدنيا.

• قال ابن عاشور: وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال، كدفع الديات والغرامات، ويكون بالنصر والقتال، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل، من عشيرته، أبناؤه، وعن القبيلة أبناؤُها.

• وقال ابن عطية: وخص الله تعالى الأموال والأولاد بالذكر لوجوه:

منها: أنها زينة الحياة الدنيا، وعظم ما تجري إليه الآمال.

ومنها: أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها.

ومنها: أن الكفار يفخرون بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا يفخرون على المؤمنين، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة، فإذا لم تغن هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني.

• ويوم القيامة لا ينفع إلا العمل الصالح.

قال تعالى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

وقوله (واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) الآية.

وقوله (فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ).

وقوله (وَمَا أموالكم وَلَا أولادكم بالتي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى).

(وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.

• قال البغوي: قوله تعالى (وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وإنما جعلهم من أصحابها لأنهم أهلها لا يخرجون منها ولا يفارقونها، كصاحب الرجل لا يفارقه.

• والنار هي الدار التي أعدها الله للكافرين.

قوله تعالى (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذا الأسلوب يطلق على الذين يخلدون فيها، فالمؤمن العاصي - وإن كان يستحق العذاب بالنار - فإنه لا يسمى من أصحاب النار، لأن الأصل في الصحبة طول الملازمة.

• كل ما ورد (أصحاب النار) فالمراد أهلها الكفار الذين لا يخرجون منها إلا في هذا الموضع (أصحاب النار) أي: الملائكة الخزنة.

(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون.

ص: 53

‌وقد ذكر الله تأبيده في ثلاث آيات من القرآن الكريم:

o في سورة النساء: قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً).

o وفي سورة الأحزاب: قال تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً).

o وفي سورة الجن: قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُون).

وقال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ).

• قال الرازي: اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد، وذلك لفوائد:

أحدها: ليظهر بذلك عدله سبحانه، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان.

وثانيها: أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه.

وثالثها: أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان.

‌الفوائد:

1 -

أن المال والأولاد لن تغني وتدفع عن الكفار عذاب الله.

2 -

تمام قدرة الله وسلطانه على عباده.

3 -

خطر فتنة الأموال والأولاد.

4 -

أن الكفار في النار.

5 -

أنهم مخلدون فيها.

6 -

إثبات النار.

ص: 54

(مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)).

[آل عمران: 117].

(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: الكفار.

هذا مثل ضربه لما ينفقه الكفار في هذا الدار.

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً، ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات، فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك، فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة، وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات، وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله.

(كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) قيل: برد شديد.

• قال الرازي: قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.

والثاني: أن الصر: هو السموم الحارة والنار التي تغلي، وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر ابن الأنباري.

قال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها (فِيهَا صِرٌّ) لتصويتها عند الالتهاب، ومنه صرير الباب، والصرصر مشهور، والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى (فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في (فِيهَا صِرٌّ) قال فيها نار، وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل، لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به.

(أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) أي: أصابت تلك الريح المدمرة زرع قوم ظلموا أنفسهم بالمعاصي فأفسدته وأهلكته فلم ينتفعوا به، فكذلك الكفار يمحق الله أعمالهم الصالحة كما يذهب هذا الزرع بذنوب صاحبه.

• والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه.

• قال ابن عاشور: ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها، المخيِّببِ آخِرُها، حين يحبطها الكفر، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، تشبيه المعقول بالمحسوس.

ص: 55

(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وقال رحمه الله: والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة.

• وقال الطبري في معنى الآية: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد "حرثَ قوم"، يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه "ظلموا أنفسهم"، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده "فأهلكته"، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.

يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته، حين يلقاه، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها.

‌الفوائد:

1 -

أن الكافر لا يستفيد من أعماله يوم القيامة.

كما قال تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً).

وقال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

وقال تعالى عن يوم القيامة (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

2 -

أن من شروط قبول العمل الإيمان.

ص: 56

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)).

[آل عمران: 118 - 120].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أي: لا تتخذوا المنافقين أصدقاء تودونهم وتطلعونهم على أسراركم وتجعلونهم أولياء من غير المؤمنين.

• قال ابن كثير: بطانة الرجل: هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخِلة أمره.

• قال القرطبي: نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يَتَّخِذوا من الكفار واليهود وأهل الأهْوَاء دُخَلاءَ ووُلَجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم.

ويُقال: كل من كان على خلاف مَذْهَبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر:

عن الْمَرءِ لَا تَسْألْ وَسَلْ عن قَرِينهِ

فَكلُّ قَرِينٍ بِالمُقارن يَقْتَدِي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).

وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم.

ثم قال القرطبي رحمه الله: قلت وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة

الأغبياء من الولاة والأمراء. روى البخاري عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما بعث اللّه من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه. وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه، والمعصوم من عصمه اللّه).

ص: 57

• قال الرازي: اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ على أقوال:

الأول: أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك

الثاني: أنهم هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون

الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار، والدليل عليه قوله تعالى (بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ) فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى (يا أيها الذين ءامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطاً منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتباً، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم.

• وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم في عقيدتهم على أسرارهم، وألا يتخذوا أعداء اللّه وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين.

(لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) أي: لا يقصرون لكم في الفساد، قال تعالى (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً) أي فساداً وضرراً.

• قال القرطبي: ومعنى (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) لا يقصِّرون فيما فيه الفسادُ عليكم.

• قال القرطبي: بيّن تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً) يقول فساداً.

يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه.

ص: 58

(وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) أي: تمنوا مشقتكم وما يوقعكم في الضرر الشديد.

أي: أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم، بجانب أنهم لا يألون جهدا في إفساد أمركم، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم، وتفريق جمعكم، وذهاب قوتكم.

(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أي: قد ظهرت أمارات العداوة لكم على ألسنتهم.

• قال ابن كثير: أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل.

• وقال القرطبي: قوله تعالى (قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم.

والبغضاء: البغض، وهو ضدّ الحُبِّ.

وخصّ تعالى الأفواه بالذِّكر دون الألسنة إشارةً إلى تَشدُّقهم وثَرْثَرَتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه.

• قال الآلوسي: قوله تعالى (قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم) أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم، وقال قتادة: ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعده ..

• وقال الرازي: قوله (قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم) إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان:

الأول: أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقته لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول).

ص: 59

• وقد قيل: كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان.

(وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) أي: وما يبطنونه لكم من البغضاء أكثر مما يظهرونه.

• قال الفخر: يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد. أ

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي: وقد وضحنا لكم الآيات الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة ومعاداة المنافقين.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي: إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه.

• ثم ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة، كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول

(هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) أي: أنتم -أيها المؤمنون-تحبون المنافقين مما يظهرون لكم من الإيمان، فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم، لا باطنا ولا ظاهراً.

وقيل: تحبون لهم الإسلام وهم يحبون أن تبقوا على الكفر.

وقيل: (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة، وَلَا يُحِبُّونَكُمْ بسبب كونكم مسلمين.

وقيل: (تُحِبُّونَهُمْ) بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان (وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم.

وقيل: (تُحِبُّونَهُمْ) بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن (وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر.

واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين، فالكل داخل تحت الآية، ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع، ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين.

(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) أي: ليس عندكم في شيء منه شك ولا رَيْب، وهم عندهم الشك والرِّيَب والحِيرة.

• قال الرازي: في الآية إضمار، والتقدير: وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به، وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر.

• قال القرطبي: والكتاب اسم جنس؛ قال ابن عباس: يعنى بالكُتُب.

ص: 60

واليهود يؤمنون بالبعض؛ كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ).

(وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا) وهذا شأن المنافقين يُظْهِرون للمؤمنين الإيمانَ والمودّة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه.

(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) الأنامل أطراف الأصابع.، وذلك أشد الغيظ والحنق.

• قال ابن عاشور: وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر، والغيظ: غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام.

والمعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل، كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه، ولما كثر هذا الفعل من الغضبان، صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض، قال المفسرون: وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أ ي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله مُتمّ نعمته على عباده المؤمنين ومُكَملٌ دينه، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم.

• قال الرازي: وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي.

• وقال ابن عاشور: قوله تعالى (قل موتوا بغيظكم) كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم).

والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم، وبتعجيل موتهم به، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور، والعرب تقول: فلان محسَّد، أي هو في حالة نعمة وكمال.

ص: 61

• قال القرطبي: إن قيل: كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء: كن فيكون.

قيل عنه جوابان:

أحدهما: قال فيه الطبريّ وكثير من المفسرين: هو دعاء عليهم، أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا.

فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مُوَاجهةً وغيرَ مواجهة بخلاف اللّعْنَة.

الثاني: أن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك، فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقْرِيع والإغَاظَة.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب، ونصر وتأييد، وكثروا وعزّ أنصارهم، ساء ذلك المنافقين، وإن أصاب المسلمين سَنَة -أي: جَدْب-أو أُديل عليهم الأعداء، لما لله في ذلك من الحكمة، كما جرى يوم أُحُد، فَرح المنافقون بذلك.

• قال ابن عطية: ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكن.

لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه، أو فيه، فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين.

• قال في التفسير الوسيط: فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خير، ويشمتون بهم عند ما ينزل بهم شر.

وعبر في جانب الحسنة بالمس، وفي جانب السيئة بالإصابة، للإشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم، بحيث إن أي حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفا وليس غامرا عاما فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلاً.

• وقيل: والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) وقوله سبحانه (إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً).

• قال القرطبي: والمعنى في الآية: أن من كانت هذه صفته من شدّة العداوة والحِقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة، لا سِيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو مِلاك الدنيا والآخرة؛ ولقد أحسن القائل في قوله:

كلّ العداوةِ قد تُرجَى إفاقتُها

إلاّ عداوة مَن عاداك مِنْ حسدِ.

ص: 62

• قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين:

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل

على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.

• قال ابن عاشور: أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ: بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم، وقوله (لا يَضِركم كيدهم شيئاً) أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى، فالأذى ضرّ خفيف، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً، وذلك بالصّبر على الأذى، وقلّة الاكتراث به، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً، وفي الحديث (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم).

• وقال النسفي: وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى.

وقال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك.

ص: 63

(إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تهديد للكافرين.

• قال الطبري: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله، والعداوة لأهل دينه، وغير ذلك من معاصي الله "محيط" بجميعه، حافظ له، لا يعزب عنه شيء منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله، ويذيقهم عقوبته عليه.

‌الفوائد:

1 -

تحريم اتخاذ البطانة التي ليست منا.

2 -

أن تجنب البطانة السيئة من مقتضيات الإيمان.

3 -

أن أعداءنا يودون لنا ما يشق علينا.

4 -

بغض الكفار للمؤمنين.

5 -

أن ما في قلوب الأعداء من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدو.

6 -

بيان علم الله بما في القلوب.

7 -

وجوب الإيمان بجميع الكتب.

8 -

أن العبرة بالأفعال لا بالأقوال.

9 -

قوة المسلم أمام الأعداء.

10 -

إثبات علم الله لما في القلوب.

11 -

بيان شدة عداوة الكفار للمؤمنين، لأنهم يسؤهم فرحك، ويفرحهم هزيمتك.

ص: 64

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122))

[آل عمران: 121 - 122].

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) أي: واذكر يا محمد حين خرجت إلى أحد من عند أهلك، أي: من المنزل الذي فيه أهلك.

(تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) أي: تنزّل المؤمنين أماكنهم لقتال عدوهم، وتجعلهم ميْمنة وميسرة حيث أمرتهم.

• وأصل التبوء اتخاذ المنزل، يقال بوّأته منزلاً: إذا أسكنته إياه.

(وَاللَّهُ سَمِيعٌ) أي: لما تقولون.

(عَلِيمٌ) بضمائركم.

• قال ابن كثير: المرادُ بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهور، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وغير واحد. وعن الحسن

البصري: المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن جرير، وهو غريب لا يُعَوَّل عليه.

وكانت وقعةُ أحد يومَ السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة.

• قال ابن عاشور: ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين، المنافقين، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً، ودخيلتهما سواء، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم.

(إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا) بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، وَاللَّهُ يَقُولُ (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) رواه البخاري.

• والهمّ من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوب المؤمنين فلم يرجعوا وذلك قوله (والله وليهما).

فصورة الفشل: أنهما همتا أن ينصرفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تسرب إليهما بعض الجبن والخور، لكن الله ثبتهما.

ص: 65

(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي: على الله لا على غيره فليتعمد أهل الإيمان.

والآية دليل على وجوب التوكل.

قال تعالى (وعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً).

وقال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وقال تعالى (فاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وقال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً).

وقال صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي (يقول تعالى: يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله عن هذا الحديث الشريف: فيه وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة؛ كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة، وأنه سبب لدخول الجنة.

‌وللتوكل فضائل:

‌أولاً: أهل التوكل هم أهل محبة الله عز وجل.

قال تعالى (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين).

‌ثانياً: التوكل من شيم أنبياء الله ورسله وأوليائه.

قال تعالى عن نوح (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ)

وقال تعالى عن هود: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

ص: 66

‌ثالثاً: أهل التوكل هم أهل الإيمان.

قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

وقال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي: وعلى الله وحده فليعتمد ولْيثق المؤمنون.

قال ابن القيم: فجعل التوكل شرطاً في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وكلما قوي توكل العبد كان إيمانه أقوى، وإذا

ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولا بد.

‌رابعاً: أهل التوكل هم أهل الجنة.

قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِم).

وكما في حديث الباب.

وقال صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير). رواه مسلم

حكى النووي في هذا الحديث: أن المراد بهؤلاء القوم هم المتوكلون.

‌خامساً: التوكل على الله مجلبة للرزق.

عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). رواه الترمذي

‌سادساً: المتوكلون ليس عليهم للشيطان سبيل.

قال تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

‌سابعاً: المتوكلون الله حسبهم وكافيهم.

قال تعالى (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجاً، وكفاه ونصره. (بدائع الفوائد).

ص: 67

‌ثامناً: أهل التوكل على الله هم أهل العزة والاستعلاء.

قال تعالى (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

قال في الإحياء: أي عزيز لا يذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى زمامه وحماه، وحكيم لا يقصر عن تدبير أمر من توكل على تدبيره.

‌تاسعاً: لا توكل بدون إيمان.

قال تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين).

وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

• من أقوال السالف:

قال شيخ الإسلام: وما رجا أحدٌ مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك، قال تعالى (ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).

وقال: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله.

وقال بعض العارفين: المتوكل كالطفل لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه.

وقال ابن القيم رحمه الله: ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأموراً بإزالته لأزاله.

قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك في التوكل؟ قال: على خصال أربعة:

علمت أن رزقي لا يأكله غيري

فاطمأنت به نفسي.

وعلمت أن عملي لا يعمله غيري

فأنا مشغول به.

وعلمت أن الموت يأتي بغتة

فأنا أبادره.

وعلمت أني لا أخلو من عين الله

فأنا مستحيٍ منه.

ص: 68

قال بعض العلماء لا تتكلن على غير الله فيكلك الله إلى من اتكلت عليه.

قال منصور بن عمار: قلوب المتوكلين أوعية الرضا.

وقال بعضهم: علامة التوكل انقطاع المطامع: أي في الخلق والأسباب.

وقال أخر: التوكل إسقاط رؤية الوسائط والتعلق بأعلى العلائق.

‌الفوائد:

1 -

حسن تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب.

2 -

أنه ينبغي للقائد أن يبوئ أمكنة المقاتلين ويعرّف كل واحد منهم مكانه وعمله.

3 -

إثبات هذين الاسمين وهما: السميع والعليم.

4 -

أن الله سبحانه قد يلطف بالمؤمن حتى يثبته.

5 -

منّة الله على هاتين الطائفتين.

6 -

وجوب التوكل على الله.

7 -

أنه إذا قوي الإيمان قوي التوكل على الله.

ص: 69

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)). [آل عمران: 123].

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) أي: يوم بدر.

• قال ابن كثير: وكان في جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فيهم فرسان وسبعُون بعِيراً، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبَيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله.

(وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي: قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة، وهي قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد.

والجواب ظاهر: وهو أنّ معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَددهم وعُددهم يوم بدر، وقوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) نزل في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين، وكثر عَددهم، مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر، وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدد والعُدد، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده، كما يشير إلى هذا قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ).

وقوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)، فإنّ زمن الحال هو زمن عاملها، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة، فظهر أنّ وصف الذلة باعتبار، ووصف العزة والنصر باعتبار آخر، فانفكت الجهة، والعلم عند الله.

ص: 70

• قال الرازي: قوله تعالى (وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) في موضع الحال، وإنما كانوا أذلة لوجوه:

الأول: أنه تعالى قال (وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية، وذلك هو تفسيره

بقلة العدد وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة، روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، وما كان فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم كانوا رجالة، وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً، والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة.

الثاني: لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم، لأجل قلة عددهم وسلاحهم، وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا (لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل).

• وقال القرطبي: (أذِلة) جمع ذليل، واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلاَّ أعِزّة، ولكن نسبتهم إلى عدوّهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذِلّتهم وأنهم يُغلبون.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: بهذا النصر الذي نصركم الله يجب عليكم أن تتقوا الله.

والتقوى: اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(لعل) هنا للتعليل، أي: لأجل أن تشكروا الله الذي أنعم عليكم بنصره.

الفوائد:

1 -

امتنان الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرهم في بدر.

2 -

أن النصر بيد الله.

3 -

وجوب الاعتماد على الله بالنصر على الأعداء.

4 -

أن النصر لا يكون بكثرة العَدَد ولا بقوة العُدَد بل هو من عند الله.

5 -

أن مَن منّ الله عليه بنعمة كان ذلك موجباً لتقوى الله.

6 -

أن تقوى الله من الشكر لله.

ص: 71

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَل

آئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)). [آل عمران: 124 - 126].

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) أي: إذ تقول يا محمد لأصحابك أما يكفيكم أن يعينكم الله بإمداده لكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين.

• قال ابن كثير: اختلف المفسرون في هذا الوعد: هل كان يوم بَدْر أو يوم أُحُد؟ على قولين:

أحدهما: أن قوله: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) متعلق بقوله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) ورُوي هذا عن الحسن البصري، وعامر الشعبي، والرَّبِيع بن أنس، وغيرهم. واختاره ابن جرير.

قال الرازي: وهو قول أكثر المفسرين، أي: أن ذلك يوم بدر.

فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية -على هذا القول-وبين قوله تعالى في قصة بدر (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

فالجواب: أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها، لقوله:(مُردِفِينَ) بمعنى يَرْدَفُهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران. فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم، قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف.

القول الثاني: أن هذا الوعد متَعَلق بقوله (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) وذلك يوم أحُد.

وهو قول مجاهد، وعِكْرِمة، والضَّحَّاك، والزهري، وموسى بن عُقبة وغيرهم، لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف؛ لأن المسلمين فرّوا يومئذ -زاد عكرمة: ولا بالثلاثة الآلاف؛ لقوله (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) فلم يصبروا، بل فروا، فلم يمدوا بملك واحد. (تفسير ابن كثير).

ص: 72

• قال الرازي: والحجة عليه من وجوه:

الحجة الأولى: أن يوم بدر إنما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ إِنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الملائكة) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر.

الحجة الثانية: أنه تعالى قال في هذه الآية (وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف من الملائكة مُسَومين) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء.

• قال الشنقيطي: قوله تعالى (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيَكم أن يُمدَّكُم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة) الآية، هذه الآية تدل على أنّ المدد يوم بدر من الملائكة من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف، وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أنّ هذا المدد ألف بقوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

والجواب عن هذا من وجهين:

الأول: أنه وعدهم بألف ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة كما في هذه الآية.

الثاني: أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف، بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران، ولا سيما في قراءة نافع (بألف من الملائكة مردَفين) بفتح الدال على صيغة اسم المفعول، لأن معنى (مردفين): متبوعين بغيرهم، وهذا هو الحق، وأما على قول من قال: إن المدد المذكور في آل عمران في يوم أحد، والمذكور في الأنفال في يوم بدر، فلا إشكال على قوله، إلا أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد الملائكة. والجواب: أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم) الآية، ولمّا لم يصبروا ولم يتقوا لم يأت المدد، وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم، قاله بن كثير.

(بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا) يعني: تصبروا على مُصَابرة عَدُوّكم.

(وَتَتَّقُوا) وتتقوني وتطيعوا أمري.

كما قال تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

وقال تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ).

وقال تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

ص: 73

وقال تعالى (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

قال ابن تيمية: فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور.

قال ابن تيمية: فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.

وقال رحمه الله: في قوله تعالى (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين.

(وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا) أي: من وجههم هذا، وقال مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح: أي من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العَوْفيّ عن ابن عباس: من سفرهم هذا.

(يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ) أي: معلّمين بالسيما، أي: بعلامات القتال.

(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ) أي: نزول الملائكة.

(إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ) أي: بشارة لكم.

(وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي: وتطييباً لقلوبكم وتطميناً.

• قال الفخر: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون، وهذا قول الأكثرين.

• وقال القرطبي: وتظاهرت الروايات بأنّ الملائكة حضرت يوم بَدر وقاتلت.

• بعض النصوص على شهود الملائكة لغزوة بدر ومباشرتها للقتال.

قال تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).

ص: 74

وقال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) وهذا في يوم بدر.

عن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ. قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ قَالَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْراً مِنَ الْمَلَائِكَةِ) رواه البخاري.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي: وإلا فإنما النصر من عند الله، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)، ولهذا قال هاهنا (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي: هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمة في قَدره والإحكام.

• قال القرطبي: نزول الملائكةِ سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فلْيَعْلَق القلب بالله ولْيَثِق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب (إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).

لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً)، ولا يَقْدَح ذلك في التوَكُّل.

وهو ردّ على من قال: إن الأسباب إنما سُنّت في حق الضعفاء لا للأقوياء؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء؛ وهذا واضِحٌ.

• قال ابن عاشور: وجملة (وما النصر إلا من عند الله) تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة.

وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنَّهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه.

• وقال أبو حيان: قوله تعالى (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) حصر كينونة النصر في جهته، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة، ولا من إمداد الملائكة.

وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم، وتثبيتاً لقلوبهم.

ص: 75

وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من: نصرٍ وخذلان وغير ذلك.

• وقال السعدي: وفي هذا أن الأسباب لا يعتمد عليها العبد، بل يعتمد على الله، وإنما الأسباب وتوفرها فيها طمأنينة للقلوب وثبات على الخير.

‌الفوائد:

1 -

ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من إدخال الأمل في قلوب أصحابه.

2 -

إثبات الربوبية الخاصة.

3 -

أن موطن الملائكة السماء.

4 -

إثبات الملائكة.

5 -

أن الصبر والتقوى سبب للنصر.

6 -

أن من نعمة الله على العبد أن يكون الذي يتولاه الملائكة.

7 -

أن إمداد الشخص بما يعينه سبب لسروره وبشارته.

8 -

يجب على المرء - مع فعل الأسباب - أن يعتمد على ربه، وأن يؤمل النصر منه.

9 -

أن النصر والهزيمة تكون على مقتضى حكمة الله.

10 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العزيز والحكيم.

11 -

أن من أراد العزة فليطلبها من العزيز القدير.

12 -

الاطمئنان لأحكام الله الشرعية والقدرية، لأنها كلها صادرة عن حكمة.

ص: 76

(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)).

[آل عمران: 127 - 128].

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: أمركم بالجهاد والجلاد، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين. فقال:(لِيَقْطَعَ طَرَفًا) أي: ليهلك أمة (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فاللام للتعليل، قيل متعلق بقوله (ولقد نصركم الله ببدر) وقيل: متعلق بقوله (وما النصر إلا من عند الله) وقيل: متعلق بمحذوف تقديره: فعل ذلك ليقطع طرفاً.

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي: يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا؛ ولهذا قال (أَوْ يَكْبِتَهُمْ).

(فَيَنْقَلِبُوا) أي: يرجعوا.

(خَائِبِينَ) أي: لم يحصلوا على ما أمَّلُوا.

قال قتادة: فقطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار، وقتل صناديدهم.

• قال ابن عاشور: وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقاً قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين، وفريقاً كبتُوا وانقلبوا خائبين، وفريقاً مَنَّ الله عليهم بالإسلام، فأسلموا، وفريقاً عُذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ، والصغار، والأسر، والمَنّ عليهم يوم الفتح، بعد أخذ بلدهم و"أو" بين هذه الأفعال للتقسيم.

وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين، فالتَّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير.

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي: بل الأمر كلّه إلي.

كما قال (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).

وقال (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).

وقال (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي: مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة.

(أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم؛ ولهذا قال:

(فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) أي: يستحقون ذلك.

ص: 77

وهذه الآية لها سبب نزول:

عن ابن عمر. (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا" بعد ما يقول: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ربنا ولك الحمد" فأنزل الله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ) إلى قوله (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) رواه البخاري

وعن أنس بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كَيْفَ يُفْلِحُ قُوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُم؟ فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ)) رواه مسلم.

وروى الترمذي عن ابن عمر قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله عز وجل (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ) فهداهم الله للإسلام.

• قال القرطبي: قال علماؤنا: قوله عليه السلام (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم) استبعاد لِتوفيق مَن فَعل ذلك به.

وقوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ) تقريب لما استبعده وإطماع في إسلامهم، ولما أُطْمع في ذلك قال صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبِياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

ص: 78

قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه السلام، وهو المحكي عنه؛ بدليل ما قد جاء صريحاً مبَيِّناً، أنه عليه السلام لما كُسرت رَباعيته وشُجّ وجهه يوم أحُد شقّ ذلك على أصحابه شقّاً شديداً وقالوا: لو دعوت عليهما فقال (إني لم أبعث لَعّاناً ولكني بعثت داعِياً ورحمة، اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فكأنه عليه السلام أوحي إليه بذلك قبل وقوع قضية أحُد، ولم يعيّن له ذلك النّبيّ؛ فلما وقع له ذلك تَعيَّن أنه المعنيُّ بذلك بدليل ما ذكرنا.

ويُبيِّنه أيضاً ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله! لقد دعا نوح على قومه فقال: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) الآية، ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا؛ فقد وُطِئ ظهرك وأدْمي وجهك وكُسِرت ربَاعيتك فأبيت أن تقول إلاَّ خيراً، فقلت (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).

‌الفوائد:

1 -

إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله وتشريعاته.

2 -

أن الله يسلط المؤمنين على الكافرين ليقطع طرفاً منهم.

3 -

أهمية الجهاد في سبيل الله.

4 -

بيان الحكمة من قتال الكفار.

5 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً من الأمر الكوني.

6 -

الرد على الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء والاستغاثة.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم مكلف، يأمره الله وينهاه.

8 -

أن الله قد يتوب على بعض الكفار.

9 -

أن الله لا يعذب إلا بذنب.

ص: 79

(وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)).

[آل عمران: 129].

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: كل ما في السماوات والأرض له سبحانه وتعالى خلقاً وملكاً وتدبيراً. (تقدم تفسيرها [109]).

• قال ابن جرير: أي أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون آلهة ومعبود.

• وقال ابن كثير: إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه.

• وقال أبو بكر الجزائري: خلقاً وملكاً وتصرفاً.

• وقال الرازي: إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْء) والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك، وملك السموات والأرض وليس إلا لله تعالى فالأمر في السموات والأرض ليس إلا لله، وهذا برهان قاطع.

• قوله تعالى (السَّمَاوَاتِ) هذا جمع، وقد صرح الله في القرآن بأن السموات سبع كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) وقال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً).

• قوله تعالى (والأرض) جاء في القرآن التلميح بأنها سبع في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي في العدد، وجاءت في السنة التصريح بأنها سبع في قوله صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أراضين) متفق عليه.

(يَغْفِرُ) برحمته.

(لِمَنْ يَشَاءُ) من العصاة.

المغفرة: هي ستر الذنب والتجاوز عنه، فالله تعالى يغفر لمن يشاء من عباده، وهذه الآية مقيدة بالحكمة، أي: من اقتضت حكمته أن يغفر له غفر له، لأن جميع أفعال الله لحكمة، لأن الفعل لغير حكمة نقص وعبث والله منزه عن كل نقص وعبث.

وأيضاً مقيدة بما عدا الشرك، فإن الله يقول (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).

(وَيُعَذِّبُ) بعدله.

(مَنْ يَشَاءُ) من عباده.

ص: 80

يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

• قال الشيخ ابن عثيمين: وليُعلم أن كل شيء علّقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة، أي: أنه ليست مشيئة الله مشيئة مجردة هكذا تأتي عفواً، لا، بل هي مشيئة مقرونة بالحكمة، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلما بيّن أن مشيئتهم بمشيئة الله بيّن أن ذلك مبني على علم وحكمة.

(وَاللَّهُ غَفُورٌ) غفور لما صدر من عباده من الذنوب، والإحلال بالآداب.

والغفور اسم من أسماء الله متضمن للمغفرة الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه -أي ستره ورحمته- فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم). رواه البخاري ومسلم

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام.

• فهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم كما قال تعالى (إن ربك وسع لمغفرة).

وقد تكفل الله بالمغفرة لمن تاب (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

بل من فضله وجود وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات قال تعالى عن التائبين (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ص: 81

(رَحِيمٌ) اسم من أسماء الله، متضمن لصفة الرحمة لله الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

فالله رحيم بعباده حيث لم يعاجلهم بذنوبهم بالعقوبات والميلات.

• قال أبو حيان: قوله تعالى (والله غفور رحيم) في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام.

‌الفوائد:

1 -

بيان عموم ملك الله سبحانه وتعالى.

2 -

الرضا بقضاء الله وقدره وعدم الاعتراض، لأن كل ما في السماوات والأرض ملك له.

3 -

إثبات أن السماوات متعددة.

4 -

إثبات المغفرة لله لقوله (يغفر) وإثبات التعذيب لقوله (يعذب)، ويتفرع لهاتين الفائدتين إثبات تمام سلطانه في ملكه.

5 -

إثبات المشيئة لله لقوله (لمن يشاء) وقوله (ويعذب من يشاء).

6 -

إثبات الاسمين الكريمين من أسماء الله وهما (الغفور الرحيم) وإثبات ما تضمنتاه من صفة وهي المغفرة والرحمة.

ص: 82

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)).

[آل عمران: 130].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حَلّ أجل الدين: إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر، وهكذا كلّ عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفاً.

• قال الرازي: كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجداً لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله (أضعافا مضاعفة).

• وقال ابن عطية: قوله تعالى (أضعافاً) نصب في موضع الحال، ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول: أتقضي أم تربي؟ وقوله (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة، وقد حرم الله جميع أنواع الربا، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (أضعافا مضاعفة) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدّين، فكانوا يفعلون ذلك مرّة بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء؛ وأضعافاً حال، ومضاعفة نعت له.

• وقال الشيخ ابن عثيمين: الصحيح أن هذا القيد لا مفهوم له، لأن هذا بناء على الواقع الغالب، وما كان كذلك فإنه لا مفهوم له.

• قال القرطبي: وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ) والحرب يؤذِن بالقتل؛ فكأنه يقول: إِن لم تتقوا الربا هُزِمتم وقُتلتم.

فأمرهم بترك الربا؛ لأنه كان معمولاً به عندهم، والله أعلم.

• قوله تعالى (لا تأكلوا) خص الأكل لأنه معظم الأمر، كما قال (الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه، ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله (وَلَا تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل).

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: احذروا عقابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك اجتناب الربا بجميع أشكاله.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: لأجل أن تفلحوا، وتفوزوا وتحصلوا على المطلوب، وهي الجنة غاية المطالب، وتنجو من المرهوب وهي النار.

ص: 83

فالفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.

فتقوى الله سبب للفلاح (وقد تقدم فضائل وثمرات التقوى).

• قال الشنقيطي: (لعل) تأتي في القرآن بمعنيين، قال بعض العلماء: هي على الترجي، ولكن الترجي بحسب ما يظهر للناس، أما الله فهو عالم بما كان فلا يصدق عليه الترجي كقوله لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي: على رجائِكما وعلم بني آدم القاصر، أما الله فهو عالم أنه لا يذكر ولا يخشى.

الثاني: ما قاله بعض العلماء: إن كل (لعل) في القرآن مشتملّة معنى التعليل بمعنى (لأجل) وعليه فـ (لعلكم تذكرون)، لأجل أن تتذكروا وتتعظوا بآياتنا وغرائب صنعنا وعجائبنا.

‌الفوائد:

1 -

تحريم الربا.

2 -

تحريم الربا الجاهلي.

3 -

تعظيم شأن الربا وخطره.

4 -

أن اجتناب الربا من مقتضيات الإيمان.

5 -

أن أكل الربا منقص للإيمان.

ص: 84

(وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)).

[آل عمران: 131].

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) أي فخافوا النار واتقوها واحذروها فإنها دار الكافرين، واجعلوا بينكم وبين عذابها وقاية، والوقاية من النار تكون بالإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر.

• وقد أمر الله باتقائها في آيات كثيرة:

فقال تعالى (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).

وقال تعالى (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى).

وقال تعالى (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ. إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نذيراً للبشر) قال الحسن البصري: والله ما أُنذر العباد بشيء قط أدهى منها.

وقال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه.

واتقاء النار يكون: بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه.

• قوله تعالى (فاتقوا النار) ينبغي على المسلم أن يحذر من النار وأن يتقيها كما أمر الله عز وجل.

فقد أمر الله باتقائها كما في هذه الآية.

وأمر صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منها. كما قال صلى الله عليه وسلم (استعيذوا بالله من عذاب جهنم) متفق عليه.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) متفق عليه.

ومن صفات عباد الله الخوف منها، كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً)

ص: 85

•‌

‌ هناك أعمال تنجي من النار منها:

‌أولاً: الإيمان بالله.

قال تعالى (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).

‌ثانياً: الصيام.

قال صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنة يستجن به من النار) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه.

‌ثالثاً: البكاء من خشية الله.

قال صلى الله عليه وسلم (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) رواه الترمذي.

‌رابعاً: الاستجارة بالله من النار.

كما قال صلى الله عليه وسلم (ما سأل أحد الله ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني) رواه الترمذي.

• وفي هذه الآية دليل على أن النار مخلوقة رداً على الجَهْمِية؛ لأن المعدوم لا يكون مُعَداً، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، والأدلة على ذلك كثيرة جداً.

قال تعالى في الجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى في النار (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ومعنى أعدت: هيئت.

وعن أنس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأيم الذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؟ قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار) متفق عليه.

ومنها حديث الكسوف وفيه (

إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً لو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع

) متفق عليه.

ص: 86

وعن عبد الله بن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) متفق عليه.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها،

فلما خلق الله النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها

الحديث). رواه أبو داود

وفي حديث البراء الطويل في عذاب القبر وفيه (

أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من طيبها ويفسح له في قبره مد بصره) رواه أبو داود.

وعن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء) متفق عليه.

والأدلة كثيرة أكتفي بذكر ما مضى.

‌الفوائد:

1 -

إثبات النار.

2 -

وجوب اتقاء النار.

3 -

أن أهل النار هم الكافرون.

ص: 87

(وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)).

[آل عمران: 132].

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي: أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فإن طاعة الرسول طاعة الله قال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله).

• والطاعة: موافقة الأمر، فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور.

• والمراد بالرسول: محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الخطاب موجه لهذه الأمة.

(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي: لأجل أن ترحمون، ف (لعل) هنا للتعليل.

• فطاعة الله وطاعة رسوله سبب للرحمة، التي بها حصول المطلوب وزوال المكروه.

•‌

‌ فضائل طاعة الله ورسوله:

‌أولاً: سبب للرحمة.

قال تعالى (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

‌ثانياً: مع الذين أنعم الله عليهم.

قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ).

‌ثالثاً: سبب للحياة الحقيقية.

قال تعالى (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ).

‌رابعاً: سبب للهداية.

قال تعالى (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

‌الفوائد:

1 -

وجوب طاعة الله ورسوله.

2 -

أن طاعة الله ورسوله سبب للرحمة.

الأحد 8/ 10/ 1433 هـ

ص: 88

(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)).

[آل عمران: 133 - 134].

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) أي: إلى أسبابهما من الأعمال الصالحة.

• قال ابن الجوزي: ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة.

• وقال الرازي: في الكلام حذف والمعنى: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس إلا فعل المأمورات وترك المنهيات، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات.

وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) تقديره كعرض فحذف المضاف؛ كقوله (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي إِلا كخلق نفس واحدة وبعثها، ونظيره في سورة الحديد (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض). (تفسير القرطبي).

قال ابن كثير: وقد قيل: إن معنى قوله (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) تنبيها على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي: فما ظنك بالظهائر؟

وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المُقَبَّب والمستدير عَرْضُه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الجنة فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَن)

وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) الآية.

• قال القرطبي: قوله تعالى (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) واختلف العلماء في تأويله؛ فقال ابن عباس: تُقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض؛ فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله.

وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر؛ فإن في حديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاةٍ من الأرض وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض) فهذه مخلوقات أعظم بكثير جداً من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله.

ص: 89

•‌

‌ معنى المسارعة إلى الخيرات:

هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها والاستعجال في أدائها وعدم الإبطاء فيها أو تأخيرها.

قال القرطبي في قوله تعالى (ويسارعون في الخيرات) التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم وقيل يبادرون بالعمل قبل الفوت.

وقال السعدي: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها.

‌فضائل المسارعة إلى الخيرات:

‌أولاً: أنها استجابة لله ورسوله.

قال تعالى (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم).

وقال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً).

ص: 90

وقال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون).

وقال صلى الله عليه وسلم (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّة) رواه مسلم

وقال صلى الله عليه وسلم (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ).

‌ثانياً: أن الله مدح المسارعين بالخيرات وبين أن عاقبتهم الفلاح في الدنيا والنعيم الذي لا يزول في الآخرة.

فقال تعالى في مدح أهل الكتاب الذين يتبعون آيات الله والمسارعين بالخيرات (يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين).

‌ثالثاً: أن المسارعة في الخيرات من أسباب استجابة الدعاء.

قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

‌رابعاً: أن المسارعة في الخيرات من صفات الموحدين الذين هم من خشية ربهم مشفقون.

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون).

وقال تعالى بعد ذكره للعديد من الأنبياء (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).

‌خامساً: أنها دليل على علو الهمة.

قال تعالى (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).

وقال تعالى (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس) رواه البخاري.

ص: 91

‌سادساً: الدخول إلى الجنة:

قال تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

السابقون في الدنيا إلى الخيرات سبقوا في الآخرة إلى الجنات فإن السبق هناك على قدر السبق هنا.

• قود كان الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته يبادرون للخيرات:

فقد ثبت في البخاري عن عقبة بن الحارث قال (صليتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى

بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) [التبر: قطع ذهب أو فضة].

وعن ربيعة بن كعب قال (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سلني، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ». قَالُوا يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونُ وَلَا نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً». قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) رواه مسلم.

ص: 92

قال ابن القيم:

كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضاً، وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى:(سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض).

وعن عبد الله بن عمرو (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعط) رواه أبوداود.

•‌

‌ ومن المسارعة إلى الخيرات التأسف على فواتها، ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً: ما جاء في الحديث السابق: حيث كان الفقراء يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم.

ثانياً: الحزن على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته.

كما قال تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون).

ثالثاً: التأسف على فعل الطاعة.

فإن ابن عمر لما بلغه حديث (من شهد الجنازة حتى تدفن فله قيراط، ومن شهدها حتى يصلى عليها فله قيراطان) قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.

•‌

‌ لماذا ينبغي نبادر ونسارع إلى الخيرات؟

‌أولاً: استجابة لأمر الله ورسوله.

كما في الآيات والأحاديث التي سبقت، وقد تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ

).

‌ثانياً: قبل حدوث الشواغل من فقر أو موت أو هرم

أو ....

كما في الحديث قال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقْراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً

) رواه الترمذي وفيه ضعف.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك،

) رواه الحاكم.

فالإنسان اذا انشغل بفقره لا يستطيع أن يؤدي ويسارع للأعمال الصالحات، وكذا إذا مرض، فإنه ينشغل بمرضه، وكذا لا يدري متى يأتيه الموت، فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.

ص: 93

‌ثالثاً: قبل الفتن المانعة من العمل.

كما قال صلى الله عليه وسلم (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) رواه مسلم.

فالإنسان ينبغي أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن فينشغل بها، فتشغله عن التفرغ للعمل الصالح، كما هو حال كثير من الناس

الآن، وأيضاً العمل الصالحة سبب للنجاة من الفتن، ولهذا قال (بادروا بالأعمال - أي الصالحة - فتناً، أي، قبل وقوع الفتن، فالعمل الصالح من إخلاص لله ومتابعة للرسول وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وصلاة وخاصة بالليل وغيره سبب للنجاة من الفتن إذا حدثت وانتشرت، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليل فزعاً وهو يقول: من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين، ما أنزل الليلة من الفتن).

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.

وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي وهو يذهب عمره ولا يقول: ذهب عمري وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات.

وقال سعيد بن المسيب: ما تركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة.

وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين.

ص: 94

وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا ما تخطيء الأصابع.

وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها وكان الليل كله يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلاً فيقول: أنا أعلم بما صنعت نفسي.

قال الجماني: لما حضرت أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال: لا تبك وأشار إلى زاوية في البيت إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.

من قدم اليوم شيئاً قدم عليه غداً، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء، قيل لبعضهم جمع فلان مالاً؟ قال: هل جمع عمراً ينفقه فيه، قالوا: لا، قال: ما جمع شيئاً.

وقال بعض السلف: اعمل للدنيا على قدر مكثك فيها، واعمل للآخرة على قدر مكثك فيها.

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي: هيئت للمتقين، الذين اتقوا ربهم بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

وفي هذا فضل عظيم للمتقين، وأن التقوى سبب لدخول الجنة.

كما قال تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).

وقال تعالى (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال (تقوى الله وحسن الخلق) رواه الترمذي.

[وقد تقدمت فضائل التقوى].

ص: 95

ثم ذكر تعالى صفات المتقين فقال:

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي: في الشدة ولرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال كما قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

• قال ابن الجوزي: ومعنى الآية: أنهم رغبوا في معاملة الله، فلم يبطرهم الرخاء فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا.

• وقال ابن كثير: والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة.

فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال، الَّذي هو عزيز على النَّفس، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه

حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة.

• قال الرازي: وإنما افتتح الله بذكر الإنفاق لأنه طاعة شاقة، ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين.

ص: 96

(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) الذين يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم.

•‌

‌ أسباب كظم الغيظ:

‌أولاً: معرفة الفضل العظيم لمن كظم غيظه.

‌أ- الفوز بمحبة الله.

قال تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين.

وقال تعالى (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).

‌ب-ترك الغضب سبب لدخول الجنة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: «لا تغضب! ولك الجنة). رواه الطبراني

‌ج-المباهاة به على رؤوس الخلائق.

عن معاذ بن أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَن كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء) رواه أبو داود.

‌د- زيادة الإيمان.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (

وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً) رواه ابن ماجه

قال ابن تيمية: ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حِلْم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة؛ وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمرُّ الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفرُّ عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز.

ص: 97

‌ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان.

قال تعالى (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ).

عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان؛ فأحدهما احمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان؛ ذهب عنه ما يجد» فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوَّذْ بالله من الشيطان) متفق عليه.

‌ثالثاً: تغيير الحال.

عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع).

‌رابعاً: ترك المخاصمة والسكوت.

عن ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت) رواه أحمد.

قال ابن رجب: وهذا أيضاً دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيراً، من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده، وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله: ما امتلأتُ غضباً قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصاً في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم؛ إلا

إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوغت لها أن تملك مشاعرك؛ فعند ذلك تضرك كما ضرتهم؛ فإن أنت لم تصنع لها بالاً، لم تضرك شيئاً.

ص: 98

‌خامساً: الوضوء.

عن عطية السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الغضب من الشيطان؛ وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) رواه أبو داود.

‌سادساً: الإكثار من ذكر الله.

قال تعالى (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

فمن اطمأن قلبه بذكر الله تعالى كان أبعد ما يكون عن الغضب.

‌سابعاً: العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم

-.

عن أبي هريرة (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني! قال: «لا تغضب!» فردد مراراً قال «لا تغضب) رواه البخاري.

وهنيئاً لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: «هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام كلي، ولهذا ردد.

ص: 99

فلما أعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله:«لا تغضب» يتضمن أمرين عظيمين:

أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق، من الأذى القولي والفعلي؛ فإذا وفق لها العبد، وورد عليه وارد الغضب، احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه؛ فإن الأمر بالشيء أمر به، وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه.

الثاني: الأمر بعد الغضب أن لا ينفذ غضبه: فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه.

‌ثامناً: أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس الشديد بالصُّرَعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «أي مالك نفسه أوْلى أن يسمى شديداً من الذي يصرع الرجال.

وقال ابن تيمية: ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح؛ فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد.

وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون فقال: «ما هذا»؟ فقالوا: يا رسول الله! فلان ما يصارع أحداً إلا صرعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه: رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه).

ص: 100

•‌

‌ من أقوال السلف في الغضب:

وقال أحد السلف: إياك والغضب، فإنه يصيرك إلى ذل الاعتذار.

وقال بعضهم: عجباً لمن قيل فيه السوء وهو فيه كيف يغضب!، وعجباً لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح!

وقال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئاً إلا ندمت عليه في الرضا.

وكان الشعبي ينشد:

ليست الأحلام في حال الرضا إنما الأحلام في حال الغضب.

وكان ابن عون إذا اشتد غضبه على أحد قال: بارك الله فيك ولم يزد.

وقال الفضيل بن عياض: أنا منذ خمسين سنة أطلب صديقاً إذا غضب لا يكذب عليّ ما أجده.

وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر.

وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة: قال: ترك الغضب.

وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل منهم فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه.

وممن اشتهر بالحلم وعدم الغضب الأحنف بن قيس وكان يقال: أحلم من أحنف.

قيل عاشت بنو تميم بحلم الأحنف أربعين سنة.

(وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي: الذين يعفون عمن أساء لهم.

ص: 101

•‌

‌ ثمرات العفو:

‌أولاً: أن فيه استجابة لأمر الله تعالى وطاعة لله ورسوله.

قال تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).

وقال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ).

وقال تعالى (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

‌ثانياً: وهو يورث العز في الدنيا والآخرة.

قال صلى الله عليه وسلم (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) رواه مسلم.

‌ثالثاً: وهو يورث محبة الله عز وجل.

قال تعالى (الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

‌رابعاً: يجلب الأجر الجزيل من الله تعالى.

قال تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

قال السعدي: وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل.

‌خامساً: يوجب عفو الله عن العبد يوم القيامة.

ففي الحديث (كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه) متفق عليه.

ص: 102

‌سادساً: وهو من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم

-.

كما قال عبد اللّه بن عمرو: إني أرى صفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة (أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) رواه البخاري.

‌سابعاً: سبب لمغفرة الذنوب.

قال تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

‌ثامناً: من صفات المتقين.

قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

وأعظم سبب يقود للعفو عن الناس، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته النفيسة (قاعدة في الصبر) الأسباب التي تُعين المسلم على الصبر على أذى الناس قال: الثالث: أنْ يَشْهَدَ العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عفى وصبر، كما قال تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال عمر: كل الناس في حل مني.

قال الحسن: أفضل أخلاق المؤمن العفو.

وعن أيوب قال: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم.

وهذا زين العابدين بن علي رضي الله عنه أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.

ص: 103

قال ابن حبان: الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة! إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماءِ الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها.

وقال عمر بن عبد العزيز: أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.

وراحت النفس في العفو: فقد قال أحد الشعراء:

لما عفوت، ولم أحقد على أحدٍ

أرحت قلبي من غم العداوات

إني أحي عدوي عند رؤيته

لأدفع الشر عني بالتحيات

وأظهر البشر للإنسان أبغضه

كأنما قد حشى قلبي محبات.

أبو الدرداء، سُئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن أعز الناس؟ قال: الذي يعفو إذا قدر، فاعفوا يعزكم الله.

قال علي: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه، شكرًا للقدرة عليه.

قال معاوية: عليكم بالِحلْم والاحتمال حتى يُمْكِنُكُمُ الفُرصةُ، فإذا أمكنكم؛ فعليكم بالصفح والإفضال.

قال الحسن: أفضلُ أخلاق المؤمن العفو.

قال سعيد بن المسيب: ما من شيء إلا والله يُحبُّ أن يُعفَى عنه ما لم يكن حداً.

قال الأحنف: إياكم ورأي الأوغاد، قالوا وما رأى الأوغاد؟ قال الذين يرون الصفح والعفو عاراً.

نبينا هو القدوة في العفو عن الناس.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ نَجْدٍ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ وَهُوَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ بِهَا، وَعَلَّقَ سَيْفَهُ؛ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ، وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ فَجِئْنَا فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ سيفي صَلْتًا، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ، فَهُوَ هَذَا قَالَ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ) متفق عليه

وعن عُرْوَةَ بن الزبير أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَال: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ؛ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) متفق عليه.

ص: 104

وعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) متفق عليه.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جذب جَبْذَةً

شَدِيدَةً، قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) متفق عليه.

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل رواه مسلم.

عفو الرسول عن المرأة اليهودية، روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتْ النَّبِيَّ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا فَقِيلَ أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ لَا، فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ) رواه البخاري.

عفو الرسول عن أهل مكة، لما فتح الرسول مكة، اجتمع له أهلها عند الكعبة، ثُمّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ.

ص: 105

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في معاملتهم مع الله، ومع الخلق.

وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال، ويدخل فيه الإحسان بالجاه، وبالشفاعة ونحو ذلك، وتعليم العلم النافع، وقضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم، وإزالة شدائدهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم.

ويدخل في ذلك الإحسان في عبادة الله، إخلاصاً لله تعالى، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) وقال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ).

فالإحسان في عبادة الله: أن تقوم بالعمل متقناً فيه إخلاصاً ومتابعة.

والإحسان إلى المخلوق: بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة، وأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك.

قال السعدي: والإحسان نوعان:

الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى المخلوق.

فالإحسان في عبادة الخالق: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

وأما الإحسان إلى المخلوق: فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده. (تفسير السعدي)

• وأعظم دافع للإحسان مراقبة الله تعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفه (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك)

وسؤال جبريل هذا ليعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإحسان، وأن إحسان العمل إنما يكون لمن راقب الله وعلم يقينياً أن الله مطلع عليه.

لأن الإحسان هو الغاية التي من أجلها خلق الخلق، وأنه سبحانه يختبر عباده في إحسانهم للعمل.

كما قال تعالى في أول سورة هود (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). ولم يقل أيكم أكثر عملاً.

وقال تعالى في أول سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) ثم بيّن الحكمة بقوله (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

وقال تعالى في أول سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ثم بيّن الحكمة فقال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

فالإحسان: أن يأتي بالعمل حسناً متقناً لا نقص فيه ولا وصم، وإحسان العمل لا يمكن إلا بمراقبة خالق هذا الكون

ص: 106

•‌

‌ فضائل الإحسان:

أولاً: أن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه.

قال تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

ثانياً: لهم في الدنيا حسنة.

قال تعالى (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة).

ثالثاً: رحمة الله قريبة من المحسنين.

قال تعالى (إن رحمت الله قريب من المحسنين).

رابعاً: لهم الجنة ونعيمها.

قال تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة).

خامساً: تبشير المحسنين.

قال تعالى (وبشر المحسنين).

سادساً: أن الله معهم.

قال تعالى (وإن الله لمع المحسنين).

سابعاً: إن الله يحب المحسنين.

قال تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).

ص: 107

ثامناً: إن الله لا يضيع أجر المحسنين.

قال تعالى (إن الله لا يضيع أجر المحسنين).

تاسعاً: الإحسان سبب في دخول الجنة.

قال تعالى: (

آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين).

عاشراً: الكافر إذا رأى العذاب تمنى أن لو أحسن في الدنيا.

قال تعالى (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين).

• قال ابن رجب: قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) وقد ثبت في "صحيح مسلم" عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الزِّيادةِ بالنّظرِ إلى وجهِ الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسبٌ لجعلِه جزاءً لأهلِ الإحسّانِ؛ لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمنُ ربّه في الدُّنيا على وجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنّه يراهُ بقلبِهِ وينظرُ إليه في حال عبادتِهِ، فكانَ جزاءُ ذلك النَّظرَ إلى الله عياناً في الآخرة، وعكس هذا ما أخبرَ الله تعالى به عَنْ جَزاءِ الكُفَّار في الآخرةِ (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وجعلَ ذلك جزاءً لحالهم في الدُّنيا، وهو تراكُم الرَّانِ على قُلوبِهم، حتّى حُجِبَتْ عن معرفتِهِ ومُراقبته في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبوا عن رُؤيته في الآخرة.

• قال الرازي: واعلم أن الإحسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه، أما إيصال النفع إليه فهو المراد بقوله (الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء والضراء) ويدخل فيه إنفاق العلم، وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات، وأما دفع الضرر عن الغير، فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى، وهو المراد بكظم الغيظ، وإما في الآخرة وهو أن يبرئ ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى (والعافين عَنِ الناس) فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير، ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال (والله يُحِبُّ المحسني) فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب.

ص: 108

‌الفوائد:

1 -

الأمر بالمسارعة إلى الخيرات.

2 -

أن التخلية قبل التحلية.

3 -

أن المغفرة لا تكون إلا من الله.

4 -

بيان سعة الجنة.

5 -

أن الجنة موجودة الآن.

6 -

أن أصحاب الجنة هم المتقون.

7 -

فضيلة الإنفاق على كل حال.

8 -

الثناء على من أنفق في السراء والضراء.

9 -

فضل كظم الغيظ.

10 -

الحث على العفو عن الناس.

11 -

إثبات المحبة لله.

12 -

الحث على الإحسان.

[الاثنين: 9/ 10/ 1433 هـ].

ص: 109

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)).

[آل عمران: 135 - 136].

(وَالَّذِينَ إِذَا

) قيل: هذا معطوف على (المتقين) وقيل: هذا استئناف، وعلى هذا القول فإن هؤلاء صنف آخر.

(فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) اختلف العلماء في المراد بالفاحشة وظلم النفس هنا:

فقيل: الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة.

وقيل: الفاحشة الزنا، وظلم النفس سائر المعاصي.

وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة.

وقد جاء استعمال الفاحشة في القرآن بما قبح من الذنوب:

كالزنا: قال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).

واللواط: قال تعالى (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).

• ونكاح المحارم: قال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً).

وظلم النفس جنس عام يتناول كل ذنب.

(ذَكَرُوا اللَّهَ) أي: ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم. (الطبري).

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (وأتْبِع السَّيِّئة الحَسنَة تَمحُها).

• قال ابن رجب: ولما كان العبدُ مأموراً بالتقوى في السرِّ والعلانية مع أنَّه لابُدَّ أنْ يقع منه أحياناً تفريط في التقوى، إما بترك.

بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره أنْ يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أنْ يتبعها بالحسنة، قال الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).

وفي " الصحيحين عن ابنِ مسعود (أنَّ رجلاً أصاب من امرأة قُبلَةً، ثم أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فسكت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: (بل للناس عامة). (جامع العلوم والحكم).

ص: 110

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن رجلا أذنب ذَنْبًا، فقال: رب إني أذنبت ذنبا فاغفره. فقال الله عبدي عمل ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب، إني عملت ذنبا فاغفره. فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي. ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي. فَقَالَ عز وجل: عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ: رَبِّ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ فَقَالَ عز وجل: عَبْدِي عَلِمَ أنَّ لَهُ رَبا

يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاء) متفق عليه.

وعن علي. قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استَحْلفْتُه، فإذا حلف لي صَدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني وصدَق أبو بكر -أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ -الوُضُوءَ -قال مِسْعر: فَيُصَلّي. وقال سفيان: ثم يُصلِّي ركعتين -فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجل إلا غَفَرَ لَه) رواه الترمذي.

• قال ابن رجب الحنبلي: قال عمر بن عبد العزيز: أيها الناس مَن ألمَّ بذنبٍ فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوَّقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك في الإصرار عليها.

ومعنى هذا: أن العبد لا بد أن يفعل ما قدِّر عليه من الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كُتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة

، ولكن الله جعل للعبد مخرجاً مما وقع فيه من الذنوب، ومحاه بالتوبة والاستغفار، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب، وإن أصر على الذنب هلك. (جامع العلوم الحِكَم).

وكما يُبغض الله تعالى المعصية ويتوعد عليها بالذنب: فإنه لا يحب أن يقنط عباده من رحمته عز وجل، وهو يحب أن يستغفره العاصي ويتوب إليه، ويود الشيطان أن لو يقع يأس وقنوط من العبد العاصي حتى يصده عن التوبة والإنابة.

قيل للحسن البصري: ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا، فلا تملُّوا من الاستغفار.

ص: 111

• وفي هذا دليل على أن من أسباب المغفرة الاستغفار.

وقد أمر الله به.

قال تعالى (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وقال تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).

ومن أسماء الله: الغفور، والغفار.

قال تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

ومهما عظمت ذنوب الإنسان فإن الله يغفرها لمن تاب.

قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ).

والأنبياء وأهل الفضل يطلبون المغفرة من الله.

قال تعالى عن نوح (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

وقال الخليل (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

وقال موسى (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

ومدح المستغفرين.

فقال تعالى (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستغفار.

قال صلى الله عليه وسلم (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري.

•‌

‌ وللاستغفار فوائد:

‌أولاً: تكفير السيئات ورفع الدرجات.

قال تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً).

وفي الحديث القدسي (قال الله: من يستغفرني فأغفر له .. ) متفق عليه.

وتقدم قوله تعالى في الحديث القدسي (فاستغفروني أغفر لكم) رواه مسلم.

‌ثانياً: سبب لسعة الرزق والإمداد بالمال والبنين.

قال تعالى عن نوح أنه قال لقومه (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).

‌ثالثاً: سبب لحصول القوة في البدن.

قال هود لقومه (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).

‌رابعاً: سبب لدفع المصائب ورفع البلايا.

قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

‌خامساً: سبب لبياض القلب.

قال صلى الله عليه وسلم (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه). رواه أحمد

ص: 112

‌من أقوال السلف:

قال بعض العلماء: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.

وكان ابن عمر: يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول: إنكم لم تذنبوا.

وقال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار

ويُروى عن لُقمان عليه السلام أنَّه قال لابنه: يا بنيَّ عَوِّدْ لسانك: اللهمَّ اغفر لي، فإنَّ لله ساعاتٍ لا يرُدُّ فيها سائلاً.

وقال الحسن: أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كُنتم، فإنَّكم ما تدرون متى تنْزل المغفرة.

• وجوب الاستغفار من الذنوب كلها لقوله (فاستغفروني أغفر لكم).

قال تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).

وقال تعالى (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وقال سبحانه (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً).

وقال صلى الله عليه وسلم (أني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري.

والاستغفار يكون على وجهين:

الوجه الأول: طلب المغفرة بلفظ: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.

الوجه الثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) أي: لا يغفرها أحد سواه.

وقد جاء في الصحيحين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (أن أَبِا بَكْرٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْماً كَبِيراً - وَقَالَ قُتَيْبَةُ كَثِيراً - وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيم) متفق عليه.

وعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ

) رواه مسلم.

ص: 113

• قال الخازن: وصف نفسه بسعة الرحمة وقرب المغفرة وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلاّ إلى

فضله وكرمه وإحسانه وعفوه ورحمته وفيه تنبيه على أن العبد لا يطلب المغفرة إلاّ منه وأنه القادر على عقاب المذنب وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فثبت أنه لا يجوز طلب المغفرة إلاّ منه.

• وقال النسفي: وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية، ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه.

• قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قول من قال:"الإصرار"، الإقامة على الذنب عامدًا، وترك التوبة منه.

عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّة) رواه أبو داود.

ص: 114

وعبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال-وهو على المنبر- (ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون) رواه أحمد.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن من تاب تاب الله عليه.

وقيل: (وهم يعلمون) أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها.

وقيل: (وَهُمْ يَعْلَمُون) أني أُعاقب على الإصرار.

وقيل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادِي. (تفسير القرطبي).

(أُولَئِكَ) الموصوفين بتلك الصفات.

(جَزَاؤُهُمْ) ثوابهم على تلك الصفات.

(مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ستر لذنوبهم وتجاوز عنها.

(وَجَنَّاتٌ) جمع جنة، والجنة في لغة العرب: البستان، لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه، وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) أي البستان، وفي قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ). وأما في الاصطلاح: فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي من تحت أشجارها، قال ابن القيم: وهذا يدل على أمور:

أحدها: وجود الأنهار فيها. الثاني: أنها جارية لا واقفة. الثالثة: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.

• وهذه الأنهار جاء تسميتها في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً).

قال ابن القيم: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا.

فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب سبحانه وتعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها ويجريها في غير أخدود وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو.

ص: 115

(خَالِدِينَ فِيهَا) لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلاً، ولا يغير ما هم فيه من النعيم.

وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أي: ونِعْمَ أجر العاملين المغفرة والجنة.

‌الفوائد:

1 -

أن المتقي لا يكون معصوماً.

2 -

انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر.

قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

وقال تعالى (والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).

3 -

أن ذكر الله سبب للتوبة والرجوع إلى الله.

4 -

المبادرة إلى التوبة والاستغفار.

5 -

أنه لا يغفر الذنوب إلا الله.

6 -

أن الرجل إذا أذنب ثم استغفر غفر الله له ولو تكرر منه الذنب.

7 -

توبيخ من أصر على ذنب.

8 -

عظم جزاء المتقين.

9 -

أن مغفرة الله للمرء من أعظم الثواب.

10 -

عظم الجنات.

ص: 116

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138)).

[آل عمران: 137 - 138].

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، وقُتل منهم سبعون (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت لهم العاقبة لهم والدائرة على الكافرين.

• قال الرازي: المراد من الآية: قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة، واختلفوا في ذلك، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى (فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين) وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه.

• وقال الشوكاني: والمعنى: سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر، هذا قول أكثر المفسرين.

• وقال ابن عاشور: والمعنى: قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هي عادة الله في الخلق، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتّقين المحقّين.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأبدانكم وقلوبكم.

(فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين، بأنواع العقوبات الدنيوية، قد خوت ديارهم، وتبين لكل أحد خسارهم، وذهب عزهم وملكهم، أفليس في هذا أعظم دليل وأكبر شاهد على صدق ما جاءت الرسل؟ (تفسير السعدي)

• وقد أمر الله تعالى في آيات كثيرة بالسير في الأرض للاعتبار والاتعاظ:

قال تعالى (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).

وقال تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

ص: 117

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي: المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم. (تفسير ابن عاشور).

• قال ابن عاشور: فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال (قد خلت من قبلكم سنن).

والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم.

• وقال القرطبي: هذا تسلية من الله تعالى للمؤمنين، والسُّنَن جمع سُنَّة وهي الطريق المستقيم.

قال مجاهد: المعنى (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) يعني بالهلاك فيمن كذّب قبلكم كعادِ وثمود.

والعاقبة: آخر الأمر، وهذا في يوم أُحد.

يقول فأنا أمهلهم وأمْلِي لهم وأستَدْرجهُم حتى يبلغ الكتاب أجله، يعني بنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهلاك أعدائهم الكافرين. (تفسير القرطبي)

ص: 118

• قال ابن عرفة: السير في الأرض حسّي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره.

وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه.

• قال ابن عاشور: وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها.

(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) قيل: عنى بقوله (هذا) القرآن، وقيل: إنما أشير بقوله (هذا)، إلى قوله (قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظرُوا كيف كان عاقبه المكذبين).

قال الطبري: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: قوله (هذا) إشارةٌ إلى ما تقدم هذه الآية من تذكير الله جل ثناؤه المؤمنين، وتعريفهم حدوده، وحضِّهم على لزوم طاعته والصبر على جهاد أعدائه وأعدائهم. لأن قوله (هذا)، إشارة إلى حاضر: إما مرئيّ وإما مسموع، وهو في هذا الموضع إلى حاضر مسموع من الآيات المتقدمة.

(بَيَانٌ لِلنَّاسِ) البيانُ: الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة.

هذه الآية تدل على أن البيان عام لكل الناس، لكن جاءت آية تدل على أن البيان خاص بالموقنين كقوله تعالى (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ووجه الجمع: أن البيان عام لجميع الخلق، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالموقنين خص في هذه الآية بهم، لأن ما لا نفع فيه كالعدم، ونظيرها قوله تعالى (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) وقوله (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر) الآية، مع أنه منذر للأسود والأحمر، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به.

(وَهُدىً) الهدى: الإرشاد إلى ما فيه خير النَّاس في الحال والاستقبال.

(وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) والموعظة: التحذير والتخويف.

ووعظ القرآن: هو وعد ووعيد، وترغيب وترهيب؛ حتى لا يستبد رجاء بصاحبه فيلقيه في أودية الغرور، ولا يحاصر يأس صاحبه فيغلق دونه أبواب الرحمة ..

ص: 119

والوعظ هو التذكير بالعواقب لترق القلوب، ومن أوصاف القرآن أنه موعظة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قال ابن

عطية رحمه الله تعالى: هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن؛ لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز. فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب.

وتأكيداً على أهمية هذه الموعظة نسبها الله تعالى إليه (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لبيان قيمتها وأهميتها، وحث البشر على الاحتفاء بها .. وما ألطف الله تعالى حين عبر عن ذلك بلفظ الربوبية وليس بلفظ الألوهية؛ وذلك لتحبيب قارئ القرآن في مواعظه، وحمله على قبولها (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وذلك أن الرب هو من خلق الإنسان الموعوظ، وصوره في أحسن صوره، وأغدق عليه من رزقه، ودفع عنه ما يضره، وعلمه ما ينفعه، فمن أسدى هذا الخير للإنسان، فحري به أن يكون رحيما به، محسنا إليه، فإذا وعظه فإنما يعظه لمصلحته بدفعه إلى ما ينفعه، ورده عما يضره.

ص: 120

وفي آية أخرى بين سبحانه أن القرآن وما فيه من قصص وأحكام موعظة (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) وفي آية ثالثة قال تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

وفي آية رابعة أكد سبحانه على أنه إنما يعظنا بالقرآن (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) وتالله إن موعظته سبحانه لأحسن المواعظ وأبلغها وأوجزها وأحكمها وأرقها وأصدقها وأخلصها وأنصحها وأكثرها تأثيرا في القلوب، وإصلاحا للعباد (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه).

• في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين، لأنهم هم المنتفعون به، فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها)(إِنَّمَا تُنذِرُ مَّعَ مَنِ اتبع الذكر)(إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء).

‌الفوائد:

1 -

سنة الله في هلاك الأمم إذا كذبت.

2 -

تسلية هذه الأمة وتحذيرها.

3 -

الأمر بالسير في الأرض.

4 -

أن عاقبة المكذب لله ورسله الهلاك.

ص: 121

(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)).

[آل عمران: 139].

(وَلا تَهِنُوا) أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى.

قال القرطبي: أي لا تضعفوا ولا تجبنُوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم.

(وَلا تَحْزَنُوا) على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة.

• قال القاسمي: أي: لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم، فهو تصريح بالوعد بالنصر بعد الإشعار به فيما سبق.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا) نهي للمسلمين عن أسباب الفشل.

والوهن: الضعف، وأصله ضعف الذات: كالجسم في قوله تعالى (ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي).

وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً، والشَّجاعة جبناً، واليقين شكّاً، ولذلك نهوا عنه.

وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار.

والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة.

وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة.

أي: لا تضعفوا ولا تحزنوا والحال أنكم أنتم الأعلون الغالبون دون عدوكم فأنتم قد أصبتم منهم في غزوة بدر أكثر مما أصابوا منكم في غزوة

أحد. وأنتم تقاتلون من أجل إعلاء كلمة اللّه وهم يقاتلون في سبيل الطاغوت.

وأنتم سيكون لكم النصر عليهم في النهاية، لأن اللّه تعالى قد وعدكم بذلك فهو القائل:(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ).

قال القاسمي: وقوله تعالى (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) متعلق بالنهي أو بالأعلون. وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه، أي: إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه. أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون. فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة - أفاده أبو السعود -.

‌الفوائد:

1 -

النهي عن الوهن والحزن.

2 -

الأمر بالقوة والجهاد.

3 -

أن هذه الأمة هي العليا بشرط الإيمان.

4 -

أنه كلما ازداد إيمان الأمة ازدادت علواً.

ص: 122

(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)).

[آل عمران: 140 - 141].

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتلٌ منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح.

كما قال تعالى (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً).

• ومعنى الآية: إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر، وهو كقوله تعالى (أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا).

• قال ابن عاشور: الآية تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب.

• قال الشنقيطي: المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجراح، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ).

وقوله (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ) وقوله (حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) وقوله (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ) ونحو ذلك من الآيات.

وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر، وعليه فإليه الإشارة بقوله (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب)

ويحتمل أيضاً أنه هزيمة المشركين أولاً يوم أُحد كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى، وقد أشار إلى القرحين معاً بقوله (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا) فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أُحُد، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر. لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.

وهذا قول الجمهور.

ص: 123

• قال ابن القيم: قوله تعالى (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي: استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء كما قال تعالى (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) فمالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم؟ فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان، وأنتم أُصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي؟

• قال الرازي: واعلم أن هذا من تمام قوله (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم، وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى.

• قوله تعالى (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم (قُرْحٌ) بضم القاف وكذلك قوله (مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح) والباقون بفتح القاف فيهما، فقيل: هما بمعنى واحد، وقيل: بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة.

• فإن قيل كيف قال (قَرْحٌ مّثْلُهُ) وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلنا: يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى.

(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) أي: نُديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت العاقبة لكم، لما لنا في ذلك من الحكم، أي: أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) من فَرَح وَغمّ وصحّةِ وسُقْم وغِنًى وفقْرٍ.

• والحكمة من هذه المداولة:

الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان، وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله.

ص: 124

والثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي، فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه. (تفسير الرازي).

ومن الحِكم: أَنّ حِكْمَةَ اللّهِ وَسُنّتَهُ فِي رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرّةً وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ فَإِنّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَتَمَيّزْ الصّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ اُنْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيّزَ مَنْ يَتّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقّ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتّبِعُهُمْ عَلَى الظّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصّةً.

وَمِنْهَا: أَنّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى قَالَ كَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَة.

وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ فَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمْ الصّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللّهِ عز وجل أَنْ سَبّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَتَكَلّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَظَهَرَتْ مُخَبّآتُهُمْ وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النّاسُ إلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنّ لَهُمْ عَدُوّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ فَاسْتَعَدّوا لَهُمْ وَتَحَرّزُوا مِنْهُمْ.

وَمِنْهَا: اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَفِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطّاعَةِ وَالْعُبُودِيّةِ فِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ السّرّاءِ وَالنّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.

وَمِنْهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوّهِمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ وَجَعَلَ لَهُمْ التّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا، لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرّزْقَ فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلّا السّرّاءُ وَالضّرّاءُ وَالشّدّةُ وَالرّخَاءُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ فَهُوَ الْمُدَبّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إنّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.

ص: 125

وَمِنْهَا: أَنّهُ إذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ ذَلّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزّ وَالنّصْرَ فَإِنّ خُلْعَةَ النّصْرِ إنّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذّلّ وَالِانْكِسَارِ قَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ) وَقَالَ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أَوّلًا وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلّهِ وَانْكِسَارِه.

(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ذكر تعالى الحكمة من هزيمة المسلمين في أحد وهي (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ليعلم علم ظهور، المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، كما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجمعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَم المُؤْمِنِينَ.

ولِيَعْلَم الّذينَ نَافَقُوا).

• قال ابن القيم: فَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمْ الصّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللّهِ عز وجل أَنْ سَبّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَتَكَلّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَظَهَرَتْ مُخَبّآتُهُمْ وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النّاسُ إلَى كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا وَعَرَفَ الْمُؤْمِنُونَ أَنّ لَهُمْ عَدُوّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ فَاسْتَعَدّوا لَهُمْ وَتَحَرّزُوا مِنْهُمْ. قَالَ اللّهُ تَعَالَى (مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) أَيْ مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ كَمَا مَيّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ.

• وقال ابن تيمية: فإنهم إذا كانوا دائماً منصورين لم يظهر لهم وليهم وعدوهم، إذ الجميع يظهرون الموالاة، فإذا غُلبوا ظهر عدوهم، قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجمعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَم المُؤْمِنِينَ. ولِيَعْلَم الّذينَ نَافَقُوا

) وقال تعالى (ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

• قوله تعالى (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) المعنى: أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.

ص: 126

• قال الشيخ ابن عثيمين: المراد علم ظهور أو علم يترتب عليه الجزاء، لأن علم الله الكائن في الأزل لا يترب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد ويُنظر.

ونظير هذه الآية: قوله تعالى قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين) وقوله (وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) وقوله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا) وقوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين) وقوله (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول).

(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) أي: يُقتلون في سبيله، ويَبذلون مُهَجهم في مرضاته.

وهذه حكمة أخرى من حكم إدالة العدو عليهم يوم أحد، وهي أن يتخذ منهم شهداء، فإن منزلة الشهادة منزلة عليّة في الجنة ولا بد من الموت، فموت العبد شهيداً أكمل له وأعظم لأجره وثوابه، ويكفّر عنه بالشهادة ذنوبه وظلمه لنفسه.

• قال ابن القيم: الشهادة عنده تعالى من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه المقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقيّة إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويُؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.

وقال رحمه الله: فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تُنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.

(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي المشركين، لقوله تعالى (الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

قيل: فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد، لا لأنه يحبهم.

(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهذه من حكَم إدالة العدو، وهي تمحيص الذين آمنوا، وهو تنقيتهم وتخليصهم من الذنوب، ومن آفات النفوس، وأيضاً: فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين، فتميزوا منهم، فحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان

يظهر أنه منهم وهو عدوهم. (زاد المعاد).

ص: 127

وقال رحمه الله: فإن القلوب يخالطها - بغلبة الطبائع وميْل النفوس وحكم العادة، وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام، والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة، لم تتخلص من هذه المخالطة، ولم تتمحص منه.

(وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) وهذه من الحكم أيضاً، فإن الله إذا أراد أن يهلك أعداءه ويَمحقَهم، قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومَحْقهم، ومن أعظمها - بعد كفرهم - بَغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.

قال أبو حيان: المعنى: أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب، فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم.

‌الفوائد:

1 -

بيان رأفة الله برسوله وأصحابه بهذه التسلية.

2 -

أن الدنيا دول تتقلب لئلا يركن الإنسان.

3 -

تمام سلطان الله في خلقه.

4 -

أن هذه الدار دار ابتلاء وامتحان.

5 -

أن الله قد يبتلي عباده لحكم.

6 -

فضل الشهادة في سبيل الله.

7 -

إثبات المحبة لله.

8 -

التحذير من الظلم.

9 -

أن الله يمحص المؤمنين.

10 -

أن الكافر مآله المحق.

ص: 128

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)).

[آل عمران: 142].

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد، أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء.

• قال السعدي: هذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحاً يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

• قال الشنقيطي: أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة:

كقوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيب).

وقوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المؤمنين وَلِيجَةً والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

وقوله (الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين).

• ثم قال الشنقيطي رحمه الله: وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة، وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغداً حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور، وأرغد عيش. كما قال له ربه (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تعرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تضحى) ولو تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة، ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة، إلى دار الشقاء والتعب.

ص: 129

وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف. فعلى العاقل منا -معاشر بني آدم- أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم، كما قال العلامة ابن القيم تغمده الله برحمته: ولكننا سبي العدو فهل ترى

نرد إلى أوطاننا ونسلم.

ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائماً.

• بيّن تعالى في هذه الآية أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين، فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك، فقد أخطأوا.

‌الفوائد:

1 -

أن الإيمان ليس بالتمني.

2 -

أن الإيمان له علامات تدل على صدق صاحبه، ومن ذلك بذل النفوس في سبيل الله.

3 -

أن الله يبتلي عبده ليمتحن صبره.

4 -

أن الجهاد سبب لدخول الجنة.

ص: 130

(وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)).

[آل عمران: 143].

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي: كنتم تتمنون لقاء الأعداء لتحظوا بالشهادة.

• قال القرطبي: وتَمنِّي الموت يرجع من المسلمين إلى تَمنِّي الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد، لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصيةٌ وكفرٌ ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي: من قبل أن تذوقوا شدته.

(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي: بأعينكم حين قُتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا.

• قال ابن عاشور: ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت.

(وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) هو تكرير بمعنى التأكيد لقوله (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) مثل (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ).

وقيل: معناه وأنتم بُصَرَاء ليس في أعينكم عِلَلٌ (كما) تقول: قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك عِلّة، أي فقد رأيته رؤية حقيقة؛ وهذا راجع إلى معنى التوكيد.

وقال بعضهم (وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلِمَ انهزمتم؟

• قال القرطبي: وذلك أن كثيراً ممن لم يحضروا بدراً كانوا يتَمنَّون يوماً يكون فيه قِتال، فلما كان يوم أُحُد انهزموا، وكان منهم من تجلّد حتى قُتل، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، فإنه قال لما انكشف المسلمون: اللّهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وباشر القتال وقال: إِيْهاً إنها ريح الجنة! إني لأجدها، ومضى حتى استشهد.

ص: 131

قال أنس: فما عرفناه إلا ببنانه ووجدنا فيه بِضعاً وثمانين جراحة، وفيه وفي أمثاله نزل (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ) فالآية عِتاب في حق من انهزم، لا سِيّما وكان منهم حَمْلٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم على الخروج من المدينة.

• وقال الآلوسي: قوله تعالى (وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت

) خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحداً لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم.

• قال ابن عاشور: ومحلّ الموعظة من الآية: أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه.

• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: .... فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ وَقَدْ يَنْفَسِخُ وَمَا أَكْثَرُ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ خُصُوصًا عَزَائِمَ الصُّوفِيَّةِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك؟ قَالَ: بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وَقَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ).

وَفِي التِّرْمِذِيِّ (أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الْآيَةَ. فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ لَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ وَفَرُّوا مِنْهُ.

• قال السعدي: وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة: أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها.

ص: 132

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)).

[آل ان: 144].

(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) أي: ليس محمد إلا رسول مضت قبله رسل، والرسل منهم من مات ومنهم من قتل، أفإن أماته الله أو قتله الكفار ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم.

قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد، وقُتِل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قُتل. ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم: قتلتُ محمدًا. وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَشَجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي: له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.

• قال ابن عطية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول وبقاؤه بين أظهركم شرطاً في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل قبله، قال الشوكاني: وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لكونه مجوّزاً عند المخاطبين.

• قال ابن القيم: وَمِنْهَا: أَنّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَثَبّتَهُمْ وَوَبّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إنْ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قُتِلَ بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَلُوا فَإِنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ رَبّ

مُحَمّدٍ وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوتُ فَلَوْ مَاتَ مُحَمّدٌ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَمَا بُعِثَ مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم لِيُخَلّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتّوْحِيدِ فَإِنّ الْمَوْتَ لَا بُدّ مِنْهُ سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمّا صَرَخَ الشّيْطَانُ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ فَقَالَ (وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ).

ص: 133

روى البخاري عن عائشة قَالَتْ (أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا.

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَرَجَ وَعُمَرُ رضي الله عنه يُكَلِّمُ النَّاسَ. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ) إِلَى (الشَّاكِرِينَ) وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا.

• قال القرطبي: هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم بيانه في "البقرة" فظهرت عنده شجاعته وعلمه.

قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى عليّ، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْح، الحديث؛ كذا في البخاري.

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) أي: إنما يضر نفسه، وإلا، فالله غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين.

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا، لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ومن امتثل ما أمر فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.

• قال أبو حيان: وعد عظيم بالجزاء.

•‌

‌ فضائل الشكر:

‌أولاً: الله أمر به.

قال تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

‌ثانياً: التوبيخ على عدم الشكر.

قال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ).

‌ثالثاً: الثناء على الشاكرين وأنه سبل الرسل.

قال تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً).

‌رابعاً: الشكر نفع للشاكر نفسه.

قال تعالى: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ).

‌خامساً: أن الشكر إذا صدر من المؤمنين فهو مانع من نزول العذاب.

قال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).

‌سادساً: أن الشكر سبب لزيادة النعم.

قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

‌سابعاً: أن الصفوة من عباد الله يسألون الله أن يوزعهم شكر نعمته.

قال تعالى عن سليمان: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ).

ص: 134

‌ثامناً: أن الشاكرين قليلون.

قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).

وهذا يدل على أنهم هم خواص الله.

‌الفوائد:

1 -

بيان أن رسول الله بشر يلحقه الموت كما يلحق جميع الرسل.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رباً فيدعى، ولا إلهاً فيعبد.

3 -

إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل.

4 -

خطر الارتداد عن دين الله.

5 -

تهديد من يرتد عن دينه.

6 -

أن الله غني عن طاعاتنا وعباداتنا.

7 -

فضل الشكر وأنه سبب للثبات.

ص: 135

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)).

[آل عمران: 145].

(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: يمتنع غاية الامتناع لأي نفس أن تموت إلا بإذن الله، مهما حاول الناس أن يميتوا أحداً بدون إذن الله، فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بقضاء الله وقدره.

وإذا جاءت (ما كان) فإنها للممتنع إما شرعاً أو قدراً. (ابن عثيمين).

(كِتَاباً مُؤَجَّلاً) توكيد، والمعنى: كتب الله ذلك كتاباً مؤجلاً، أي: كتاباً ذا أجل، والأجل الوقت المعلوم.

قال البغوي: أي كتب لكل نفس أجلاً لا يَقْدر أحد على تغييره وتأخيره.

وقال الشوكاني: المؤجل المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر.

فكم من صحيح مات من غير علة

وكم من سقيم عاش حينا من الدهر.

فلله سبحانه وتعالى قدَّر آجال الخلائق بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

كما قال تعالى (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ).

وقال تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ).

وقال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وعن أُم حَبِيبَة زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت (اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِى بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَبِأَبِي أَبِى سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْراً وَأَفْضَلَ) رواه مسلم.

ص: 136

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ

فَيَدْخُلُهَا) متفق عليه.

• قال ابن كثير: وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا يَنقص من العمر ولا يزيد فيه.

• وقال الرازي: .... أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف.

• وقال الجصاص: فِيهِ حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ حَيْثُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ التَّسْلِيَةُ عَمَّا يَلْحَقُ النَّفْسَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ:(وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

ص: 137

• وقال الشوكاني: هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لابد منه.

كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من أراد بعمله الدنيا وأعراضها ومتاعها أعطاه الله عز وجل ما قسم له من ذلك، ولا يكون له نصيب في الآخرة.

• وقد جاءت آيات في هذا المعنى:

قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيب).

وقال تعالى (فمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ

).

وقال صلى الله عليه وسلم (

فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).

• وهذه الآية مقيدة عند كثير من العلماء بقوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً).

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) يعني الدنيا (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) لا ما يشاء هو (لِمَنْ نُرِيدُ) فقيد المعجل والمعجّل له.

• قال ابن الجوزي: أكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ) والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئاً إلا بقدرة الله ومشيئته.

ومعنى قوله تعالى (نؤته منها) أي: ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو.

(وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا.

(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ولم يذكر جزاءهم، ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسناً.

• قال ابن كثير: أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكرهم وعملهم.

• ومعنى شكر الله لعبده: هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، وإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً ردّه عليه أضعافاً مضاعفة.

ص: 138

لما عقر سليمان الخيل غضباً له إذ شغلته عن ذكره، فأراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح.

ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم عنها أن ملّكهم الدنيا وفتحها عليهم.

ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن شكر له ذلك بأن مكّن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.

‌الفوائد:

1 -

أن آجال الأنفس محدودة.

2 -

تسلية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين قيل لهم إن محمداً قد قتل.

3 -

أنه لا يمكن أن يتقدم الإنسان أو يتأخر عن الأجل.

4 -

أن بعض الناس قد يريد بعمله أن يمدح أمام الناس.

5 -

فضل إيثار الآخرة على الدنيا.

6 -

الحث على الشكر.

ص: 139

(وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)).

[آل عمران: 146].

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) قال الواحدي رحمه الله: أجمعوا على أن معنى (كأين) كم، وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم، ونظيره قوله (فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها)(وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا). (تفسير الرازي)

قيل: معناه كم من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا اختيار ابن جرير.

قال الطبري: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ بضم القاف (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُونَ كَثِيرٌ)، لأن الله عز وجل إنما عاتب بهذه الآية والآيات التي قبلها من قوله:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) الذين انهزموا يوم أحُد، وتركوا القتال، أو سمعوا الصائح يصيح (إن محمدًا قد قتل) فعذلهم الله عز وجل على فرارهم وتركهم القتال، فقال: أفائن مات محمد أو قتل، أيها المؤمنون، ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟ ثم أخبرهم عما كان من فعل كثير من أتباع الأنبياء قبلهم، وقال لهم: هلا فعلتم كما كان أهل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلكم يفعلونه إذا قتل نبيهم من المضي على منهاج نبيهم، والقتال على دينه أعداءَ دين الله، على نحو ما كانوا يقاتلون مع نبيهم ولم تهنوا ولم تضعفوا، كما لم يضعف الذين كانوا قبلكم من أهل العلم والبصائر من أتباع الأنبياء إذا قتل نبيهم، ولكنهم صَبروا لأعدائهم حتى حكم الله بينهم وبينهم؟ وبذلك من التأويل جاء تأويل المتأوِّلين.

ومن قرأ (قاتل معه) فالمعنى: وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا، لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد.

وحجة هذه القراءة أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فوجب أن يكون المذكور هو القتال.

ص: 140

قال ابن تيمية: قَوْلُهُ (قُتِلَ) أَيْ النَّبِيُّ قُتِلَ. هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ صِفَةٌ لِلنَّبِيِّ - صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ - أَيْ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ وَلَمْ يُقْتَلُوا مَعَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ قُتِلَ وَهُمْ مَعَهُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ وَقُتِلَ فِي الْجُمْلَةِ. وَأُولَئِكَ الرِّبِّيُّونَ (مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) و (الرِّبِّيُّونَ) الْجُمُوعُ الْكَثِيرَةُ، وَهُمْ الْأُلُوفُ الْكَثِيرَةُ. وَهَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ سَبَبَ النُّزُولِ وَهُوَ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ (إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ) وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ (وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) وَهِيَ الَّتِي تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ. وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَإِنَّهُ عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وَمَوْتِهِ: تَحْصُلُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ لِلنَّاسِ -الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ- وَتَحْصُلُ رِدَّةٌ وَنِفَاقٌ لِضَعْفِ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِ لِمَوْتِهِ، وَلِمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ: إنَّ هَذَا قَدْ انْقَضَى أَمْرُهُ وَمَا بَقِيَ يَقُومُ دِينُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ وَغُلِبَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ؟. فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلُوا كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. وَالنَّبِيُّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أَتْبَاعٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ قَتْلُهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا قِتَالٍ، بَلْ يُقْتَلُ وَقَدْ اتَّبَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، فَمَا وَهَنَ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا أَصَابَهُمْ بِقَتْلِهِ وَمَا ضَعُفُوا، وَمَا اسْتَكَانُوا، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَلَكِنْ اسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ الَّتِي بِهَا تحصل المصائب.

(فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: ما ضعفت قلوبهم.

ص: 141

• قوله تعالى (ربيون) قيل معناه: جموع كثيرة، واختاره الطبري، وقيل: الألوف، وقيل: الأتباع.

(وَمَا ضَعُفُوا) أي: ولا ضعفت أبدانهم.

(وَمَا اسْتَكَانُوا) أي: ما ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا.

• قال صاحب "الكشاف": ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار، عند الإرجاف بقتل رسولهم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين.

• قال القرطبي: ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدّم من خِيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قُتِل معه رِبِّيُّون كثير، أو كثير من الأنبياء قتِلوا فما ارتد أممهم؛ قولان: الأوّل للحسن وسعيد بن جبير.

قال الحسن: ما قُتِل نبي في حرب قط.

وقال ابن جبير: ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال.

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (فما وهنوا) أي الربّيّون؛ إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون؛ فالقدوة المقصودة هنا، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

وجمع بين الوهن والضّعف، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل، وعلى النُّهوض في الأمر، والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن، وهما هنا مجازان، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة.

وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ.

ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول: فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ.

ص: 142

واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم، وأتباع الحقّ، أن لا يوهنهم، ولا يضعفهم، ولا يخضعهم، مقاومة مقاوم، ولا أذى حاسد، أو جاهل، وفي الحديث الصّحيح، في البخاري أن خَبَّاباً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: لقد لقينا من المشركين شدّة ألَا تدعُو الله " فقعد وهو محمّر وجهه فقال: " لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه. (تفسير ابن عاشور)

• قال الثعالبي: اعلم (رحمك اللَّه) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ، ومكافحةِ العَدُوِّ؛ هو حُبُّ الدنيا، وكراهيةُ بَذْلِ النفُوسِ للَّه، وبَذْلِ مُهَجِهَا لِلقَتْلِ في سَبيلِ اللَّهِ؛ ألا ترى إلى حال الصَّحابة رضي الله عنهم، وقلَّتِهِمْ في صَدْرِ الإسلامِ، وكيف فتح اللَّه بهم البلاد، ودان لدِينِهِمُ العباد، لما بَذَلُوا للَّه أنفسَهُمْ في الجهاد، وحالِنا اليَوْمَ، كما ترى؛ عددُ أهْل الإسلام كثيرٌ، ونكايتهم في الكُفَّار نَزْرٌ يسيرٌ، وقد روى أبو داود في "سننه" عن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تتداعى عَلَيْكُمْ؛ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: ومِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، ولَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ" اه، فانظر رحمك اللَّه، فهل هذا الزمانُ إلا زماننا بعَيْنه، وتأمَّل حال ملوكنا، إنما هِمَّتهم جمْعُ المالِ مِنْ حرامٍ وحلالٍ، وإعراضُهم عَنْ أمْر الجهاد، فإنا للَّه وإنا إليه راجعُونَ على مُصَاب الإسلام.

ص: 143

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم.

فالله يحب الصابرين على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقداره المؤلمة.

وهذا من أعظم فضائل الصبر.

‌الفوائد:

1 -

أن الله يسلي هذه الأمة بما حصل للأمم الماضية.

2 -

أن الجهاد مشروع في غير هذه الأمة.

3 -

الثناء على من يستحق الثناء.

4 -

أن من طريق التشجيع على الشيء، أن يُذكر للإنسان سلف يقتدى به ويتشجع للحاق به.

5 -

انحطاط مرتبة من يذل لأعداء الله.

6 -

فضل الصبر على ما ينال في سبيل الله من أذى.

7 -

الإشارة إلى الإخلاص.

8 -

الغلظة للكفار.

9 -

الحث على الصبر، لأنه الله يحبه.

ص: 144

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)).

[آل عمران: 147 - 148].

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ) أي: في تلك المواطن الصعبة.

• قال الرازي: بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الأمداد والإعانة من الله، والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل، ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب.

(إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي: استرها وتجاوزها عنا.

(وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) الإسراف: مجاوزة الحد إلى ما حرم.

• قال الشوكاني: قالوا ذلك هضماً لأنفسهم.

• قال ابن عاشور:

لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله، ولا بَدَر منهم تذمّر، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه.

• وقال السعدي: علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.

• قال علي: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه.

• قوله تعالى (وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) قيل: المراد الكبائر.

• قال ابن عاشور: ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدوّ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين: باطننٍ وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول.

(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) عند ملاقاة الأعداء، فإن هذا الموطن من أصعب المواطن التي يحتاج الإنسان إلى تثبيت، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم، وإزالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم.

ص: 145

• قال ابن تيمية: فجمعوا بين الصبر والاستغفار، وهذا هو المأمور به في المصائب، الصبر عليها، والاستغفار من الذنوب التي كانت

سببها.

(وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي: اجعل الغلبة لنا على من كفر بك.

• قال الجصاص: قَوْله تَعَالَى (وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) فِيهِ حِكَايَةُ دُعَاءِ الرِّبِّيِّينَ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَتَعْلِيمٌ لَنَا لَأَنْ نَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ عِنْدَ حُضُورِ الْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا بِمِثْلِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُمْ وَالرِّضَا بِقَوْلِهِمْ لِنَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ وَنَسْتَحِقَّ مِنْ الْمَدْحِ كَاسْتِحْقَاقِهِم.

(فَآتَاهُمُ اللَّهُ) أي: بسبب قولهم ذلك.

(ثَوَابَ الدُّنْيَا) من النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات.

(وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) من الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم، وذلك غير حاصل في الحال، فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة.

• وما ذاك، إلا لأنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء.

• قال الرازي: خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم، وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن، فما خصه الله بأنه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه، ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها، منقطعة زائلة.

ص: 146

• وقال الشيخ ابن عثيمين: ولم يقل: ثواب الآخرة، بل قال: حسن، لأن ثواب الآخرة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وليس ثواب مكافأة فقط، بل ثواب حُسن وفضل، هذا وجه.

والوجه الثاني: أنه لم يعبر عن ثواب الدنيا بالحسن، لأن الدنيا مهما كانت فهي دار شقاء وعناء وكدر، فلا يمكن أن يخلو صفوها كدر.

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في عبادة الله، ويحسنون إلى عباد الله.

وهذا فضل عظيم للمحسنين.

• قال الرازي:

إنهم لما أرادوا الإقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى، فعند ذلك سماهم بالمحسنين، وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الإتيان بالفعل الحسن، إلا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه، ثم إنه تعالى قال (هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان) وقال (لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد، ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد أن الكل من الله وبإعانة الله.

‌الفوائد:

1 -

أنه ينبغي على الإنسان أن يلتجئ إلى الله بدعائه وتضرعه.

2 -

ينبغي على الإنسان أن يدعو بهذا الدعاء عند ملاقاة العدو.

3 -

تواضع هؤلاء وتذللهم لله واعترافهم بذنوبهم.

4 -

أن الإنسان مفتقر إلى مغفرة ربه.

5 -

الدعاء بالثبات وخاصة عند حلول الفتن.

6 -

فضل من أحسن في عمله بأن الله يثيبه في الدنيا والآخرة.

7 -

الإشارة إلى خفة مرتبة الدنيا بالنسبة للآخرة.

8 -

إثبات البعث والجزاء.

9 -

الجزاء من جنس العمل.

10 -

الحث على الإحسان.

11 -

إثبات محبة الله تعالى.

ص: 147

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)).

[آل عمران: 149 - 150].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة.

(يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) أي: يردوكم إلى الكفر بعد الإيمان.

(فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة.

• قال أبو حيان: الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم، وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.

وقد جاءت النصوص الكثيرة بالنهي عن طاعة الكفار.

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً).

وتقدم ذكر الآيات التي تدل على أنهم يتمون أن يرتد أهل الإسلام عن دينهم.

كما قال تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)

قال تعالى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً).

وقال تعالى (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ).

وقال تعالى (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).

وقال تعالى (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

(بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي: وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا.

والمراد بالولاية هنا، الولاية الخاصة التي مقتضاها النصرة والتمكين، لأن الولاية تنقسم إلى قسمين:

ولاية عامة: مقتضاها أن يرزقهم ويعطيهم وأيضا القهر والسلطان والملك، وهذه للمؤمنين والكفار.

ودليلها قوله تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ).

ص: 148

وقوله تعالى (ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

ولاية خاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين مقتضاها النصر والتأييد والتسديد والتوفيق والإخراج من الظلمات إلى النور.

كما قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ).

وقال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فالله ولي المؤمنين: لأنه يواليهم بالنصر والثواب الجزيل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). رواه

البخاري

والمؤمنون أولياء الله كقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأنهم يوالونه بالطاعة، قال ابن القيم: فالولاية عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، وليست بكثرة صوم ولا صلاة.

(وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة، والجملة معطوفة على ما قلبها.

ص: 149

• قال الرازي: وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه:

الأول: أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه.

والثاني: أنه ينصرك في الدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك.

والثالث: أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار) وغيره ليس كذلك.

‌الفوائد:

1 -

تحريم طاعة الكفار.

2 -

أن من علامات الإيمان عدم طاعة الكفار.

3 -

أن طاعة الكفار من علامات نقص الإيمان.

4 -

وجوب الحذر من الكفار.

5 -

أن طاعة الكفار تؤدي إلى الكفر.

6 -

أن الكفر خسارة.

7 -

إثبات الولاية لله تعالى.

8 -

أن الله تعالى ناصر لأوليائه.

9 -

أن الناصر هو الله، فيجب الاعتماد عليه.

ص: 150

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)).

[آل عمران: 151].

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي: سنقذف في قلوبهم الخوف والفزع.

(بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) أي: بسبب إشراكهم بالله وعبادتهم معه آلهة أخرى من غير حجة ولا برهان.

فالشرك سبب للخوف والقلق كما قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

فكلما كان الإنسان أشد إيماناً وتوحيداً كان أكثر استقراراً وأمناً.

(وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) أي: ومستقرهم النار.

كما قال تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري.

ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار).

(وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي: وبئس مقام الظالمين نار جهنم.

والمراد بالظلم هنا الشرك. لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على

الشرك.

ص: 151

كما قال تعالى عن العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم).

وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بشرك، ثم تلا قول لقمان (إن الشرك لظلم عظيم).

وقال تعالى (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) أي: من المشركين.

‌الفوائد:

1 -

عظمة الله تعالى.

2 -

أن محل الإرادة والتدبير للبدن هو القلب.

3 -

أن إلقاء الرعب في قلب الأعداء من أكبر النصر.

4 -

إثبات الأسباب.

5 -

أن الشرك سبب للخوف والقلق.

6 -

تحريم الشرك وخطره.

7 -

أن الشرك أعظم الظلم.

8 -

إثبات أن النار مأوى الكافرين.

ص: 152

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)).

[آل عمران: 152].

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) أي: صدقكم الله ما وعدكم إياه من النصر.

قال ابن عاشور: (ولقد صدقكم) عطف على قوله (سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب) وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين: تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم (التَّاريخ يعيد نفسه) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك).

(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي: تقتلونهم.

وقد انتصر المسلمون في أول الأمر وقتل من المشركين سبعة.

(حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) أي: قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع، لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله:(حتى إِذَا) إلى أن، أو إلى حين.

قال الجصاص: فِيهِ إخْبَارٌ بِتَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَتَنَازَعُوا وَيَخْتَلِفُوا، فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ظَهَرُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الرُّمَاةَ بِالْمُقَامِ فِي مَوْضِعٍ وَأَنْ لَا يَبْرَحُوا، فَعَصَوْا وَخَلَّوْا مَوَاضِعَهُمْ حِينَ رَأَوْا هَزِيمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَاخْتَلَفُوا وَتَنَازَعُوا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ وَرَائِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَتَلُوا بِتَرْكِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِصْيَانِهِمْ.

وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا مَوْعُودَ اللَّهِ كَمَا وَعَدَ قَبْلَ الْعِصْيَانِ، فَلَمَّا عَصَوْا وُكِلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّصْرَ مِنْ اللَّهِ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ مَضْمُونٌ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي

نَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.

ص: 153

(وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي: اختلفتم.

(وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) المراد عصيان الرماة للرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم أن جواب الشرط: فاتكم النصر، وفاتكم ما تحبون.

فالمعصية والاختلاف سبب للهزيمة.

قال تعالى (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

عن الْبَرَاء بْن عَازِب- رضى الله عنهما - قَالَ (جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلاً - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ الْغَنِيمَةَ - أَيْ قَوْمِ - الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلاً، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً سَبْعِينَ أَسِيراً وَسَبْعِينَ قَتِيلاً،

) رواه البخاري.

(مَنْكم يُرِيدُ الدُّنْيَا) قال المفسرون: هم الذين طلبوا الغنيمة وتركوا مكانهم.

• ومن تبعيضية، أي: بعضكم.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا).

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الذين ثبتوا.

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) أي: بعد أن استوليتم عليهم ردّكم عنهم بالانهزام.

قال ابن كثير: ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم.

ص: 154

(لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي: ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.

• والابتلاء: الاختبار والامتحان، ويكون بالخير والشر.

قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً).

وقال سليمان لما رأى عرش بلقيس حاضراً عنده (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

(وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) أي: غفر لكم ذلك الصنيع، وذلك - والله أعلم - لكثرة عدد العدو وعُدَدهم، وقلة عدد المسلمين وعُدَدهم.

وقيل (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) أي: لم يستأصلكم.

عَن عُثْمَانُ - هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ - قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْماً جُلُوساً، فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَالَ هَؤُلَاءِ قُريْشٌ. قَالَ فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ قَالُوا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. قَالَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ نَعَمْ. قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ قَالَ نَعَمْ. قَالَ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا قَالَ نَعَمْ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَسَهْمَهُ» . وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرُّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ

الْيُمْنَى «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» . فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» . فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ) رواه البخاري.

(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي: صاحب فضل ومنّ ونعمة على المؤمنين في جميع الأوقات والأحوال.

‌الفوائد:

1 -

صدق وعد الله، فانتصر المسلمون في أول المعركة.

2 -

أن الفشل والتنازع والمعصية سبب للهزيمة.

ص: 155

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)).

[آل عمران: 153].

(إِذْ تُصْعِدُونَ) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم.

قال البغوي: الإصعاد السير في مستوى الأرض، والصعود: الارتفاع على الجبال والسطوح.

قوله تعالى (إِذْ تُصْعِدُونَ) فيه قولان:

أحدهما: أنه متعلق بقوله (ولقد عنكم) كأنه قال وعفا عنكم إذ تصعدون، لأن عفوه عنهم لابد وأن يتعلق بأمر اقترفوه، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله:(إِذْ تُصْعِدُونَ) والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد، واختار هذا ابن جرير.

قال ابن جرير: يعني بذلك جل ثناؤه، ولقد عفا عنكم أيها المؤمنون إذ لم يستأصلكم، إهلاكاً منه جمعكم بذنوبكم، وهربكم (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ).

وثانيها: التقدير: ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون، وهذا الذي ذكره ابن كثير.

قال ابن كثير: أي صرفكم عنهم (إذ تصعدون) أي: في الجبل هاربين من أعدائكم.

(وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) أي: ولا تلتفتون إلى ما وراءكم من الدهشة والرعب والخوف.

(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) أي: والرسول قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة.

قال ابن كثير: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثنى عشر رجلا من أصحابه.

عن البراء بن عازب قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلا-عبد الله بن جُبير قال: ووضعهم موضعًا وقال: "إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن على الجبل، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن، فقال أصحاب عبد الله: الغَنِيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة: سبعين أسيرًا وسبعين قتيلاً .. ) رواه أحمد.

ص: 156

وقال ابن عطية: قوله تعالى (في أخراكم) مدح للنبي عليه السلام فإن ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

(فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ) ذهب الطبري إلى أن (الباء) بمعنى (على) والمعنى: فجازاكم على معصيتكم ومخالفتكم أمر الرسول غماً على غم، كقوله (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: على جذوع النخل، وقد رجح هذا القول ابن القيم.

وقيل: غماً متصلاً بغم، وقيل

• غم الهزيمة، وغم بفوات النصر، وغم بانهزامكم، وغم فراركم، وغم إشاعة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات.

• قيل: جَازَاكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بِفِرَارِكُمْ عَنْهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ إلَى عَدُوّهِ فَالْغَمّ الّذِي حَصَلَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى الْغَمّ الّذِي أَوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيّهِ، لكنه قول ضعيف.

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) أي: من النصر والغنيمة.

(وَلا مَا أَصَابَكُمْ) أي: من القتل والجراح، إذا تحققتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل، هانت عليكم تلك المصائب، واغتبطتم بوجوده المسلّي عن كل مصيبة ومحنة، فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم. (تفسير السعدي).

• هذه الحكمة من إصابتهم غماً بغم، وهي أن كل غم ينسي الغم الذي قبله.

قال ابن القيم: ثُمّ ذَكّرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْفِرَارِ مُصْعِدِينَ أَيْ جَادّينَ فِي الْهَرَبِ وَالذّهَابِ فِي الْأَرْضِ أَوْ صَاعِدِينَ فِي الْجَبَلِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نَبِيّهِمْ وَلَا أَصْحَابِهِمْ وَالرّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ إلَى عِبَادِ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ فَأَثَابَهُمْ بِهَذَا الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ غَمّا بَعْدَ غَمّ غَمّ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ وَغَمّ صَرْخَةِ الشّيْطَانِ فِيهِمْ بِأَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ.

ص: 157

وَقِيلَ جَازَاكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بِفِرَارِكُمْ عَنْهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ إلَى عَدُوّهِ فَالْغَمّ الّذِي حَصَلَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى الْغَمّ الّذِي أَوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيّهِ.

‌وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنّ قَوْلَهُ (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) تَنْبِيهٌ عَلَى حِكْمَةِ هَذَا الْغَمّ بَعْدَ الْغَمّ وَهُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَصَابَهُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْجِرَاحِ فَنَسُوا بِذَلِكَ السّبَبَ وَهَذَا إنّمَا يَحْصُلُ بِالْغَمّ الّذِي يَعْقُبُهُ غَمّ آخَرُ.

الثّانِي: أَنّهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنّهُ حَصَلَ لَهُمْ غَمّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ثُمّ أَعْقَبَهُ غَمّ الْهَزِيمَةِ ثُمّ غَمّ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ ثُمّ غَمّ الْقَتْلِ ثُمّ غَمّ سَمَاعِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ ثُمّ غَمّ ظُهُورِ أَعْدَائِهِمْ عَلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَمّيْنَ اثْنَيْنِ خَاصّةً بَلْ غَمّا مُتَتَابِعًا لِتَمَامِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.

الثّالِثُ أَنّ قَوْلَهُ " بِغَمّ " مِنْ تَمَامِ الثّوَابِ لَا أَنّهُ سَبَبُ جَزَاءِ الثّوَابِ وَالْمَعْنَى: أَثَابَكُمْ غَمّا مُتّصِلًا بِغَمّ جَزَاءً عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الْهُرُوبِ وَإِسْلَامِهِمْ نَبِيّهُمْ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَتَرْكِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي لُزُومِ مَرْكَزِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْأَمْرِ وَفَشَلِهِمْ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يُوجِبُ غَمّا يَخُصّهُ فَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ الْغُمُومُ كَمَا تَرَادَفَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُهَا وَمُوجِبَاتُهَا.

(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فلا تخفى عليه خافيه، يعلم ما في القلوب.

‌الفوائد:

1 -

تذكير المؤمنين بما جرى منهم من المخالفة.

2 -

حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في قيادته العظيمة، حيث يكون في أخريات القوم.

3 -

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

إن الله يحب من عباده ألا يحزنوا.

5 -

إثبات علم الله الواسع.

6 -

وجوب الحذر من المخالفة.

ص: 158

(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)).

[آل عمران: 154].

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ) الذي أصابكم.

(أَمَنَةً نُعَاساً) هذا امتنان منه تعالى عليهم، أي: ثم أرسل عليكم بعد ذلك الغم الشديد النعاس للسكينة والطمأنينة، ولتأمنوا على أنفسكم من عدوكم، فالخائف لا ينام.

• قال ابن الجوزي: وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان:

أحدهما: أنه منهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام.

والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال.

قال البغوي: قوله تعالى (أَمَنَةً) يعني: أمناً، والأمنْ والأمَنَة بمعنى واحد، وقيل: الأمنُ يكون مع زوال سبب الخوف، والأمَنَة مع بقاء سبب الخوف، وكان سبب الخوف قائماً.

ص: 159

(يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) أي: يغشى النوم فريقاً منكم وهم المؤمنون المخلصون.

• قال أبو طلحة: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ في مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ.

• قال السعدي: ولا شك أن هذا رحمة بهم، وإحسان وتثبيت لقلوبهم، وزيادة طمأنينة؛ لأن الخائف لا يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف، فإذا زال الخوف عن القلب أمكن أن يأتيه النعاس.

وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.

• قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه.

ثم يسقط فيأخذه، وعن الزبير قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف، فأرسل الله علينا النوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير: والنعاس يغشاني يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا.

وقال عبد الرحمن بن عوف: ألقى النوم علينا يوم أحد.

وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله.

• قال الرازي: واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد:

أحدها: أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده،

وثانيها: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة،

وثالثها: أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم، فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم.

ص: 160

ورابعها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى.

وقال الجصاص: وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الدَّلَائِلِ وَأَكْبَرُ الْحِجَجِ فِي صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: وُقُوعُ الْأَمَنَةِ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ مَدَدٍ آتَاهُمْ وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ وَلَا انْصِرَافِهِمْ عَنْهُمْ وَلَا قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَيُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ الْأَمَنَةَ، وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ خَاصَّةً.

وَالثَّانِي: وُقُوعُ النُّعَاسِ عَلَيْهِمْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَطِيرُ فِي مِثْلِهَا النُّعَاسُ عَمَّنْ شَاهَدَهَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ وَالرُّجُوعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُشَاهَدَةِ وَقَصْدُ الْعَدُوِّ نَحْوَهُمْ لِاسْتِيصَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ.

وَالثَّالِثُ: تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِتِلْكَ الْأَمَنَةِ وَالنُّعَاسِ دُونَ الْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي غَايَةِ الْهَلَعِ وَالْخَوْفِ وَالْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ؛ فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي: وجماعة أخرى حملتهم أنفسهم على الهزيمة فلا رغبة لهم إلا نجاتها وهم المنافقون، أو في إيمانهم ضعف.

ص: 161

• قال الرازي: واعلم أن الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما: الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وكانوا قد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان، فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال، فلا جرم كانوا آمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيث غشيهم النعاس، فإن النوم لا يجيء مع الخوف، فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية، فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً) وقال في قصة بدر (إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مّنْهُ) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس، وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة، وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام، وما حضروا إلا لطلب الغنيمة، فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم، ثم إنه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين.

(يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي: يظنون بالله الظنون السيئة مثل ظن أهل الجاهلية.

• قال ابن كثير: وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد أهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمر الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.

• وقال ابن عاشور: وإنَّما كان هذا الظنّ غيرَ الحقّ لأنَّه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإنّ لله أمراً وهدياً وله قدَر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدّين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوماً من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بينه وبين عدوّه سجالاً، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله: كيف كان قتالكم له؟ فقال أبو سفيان: ينال منّا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حتَّى يتمّ.

فظنّهم ذلك ليس بحقّ.

وقد بيّن الله تعالى أنَّه ظنّ الجاهلية الَّذين لم يعرفوا الإيمان أصلاً فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان لم يدخل الإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية،

(يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي: ليس لنا من الأمر شيء، ولو كان لنا اختيار ما خرجنا لقتال.

• قال القاسمي: أي: هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء، استفهام على سبيل الإنكار. أي: ما لنا أمر يطاع. ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم، كما تقدم. ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج، قال: هل لنا من الأمر شيء؟ يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها.

ص: 162

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين الأمر كله بيد الله يصرّفه كيف شاء.

فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبتها النصر والظفر لأوليائه، وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى.

(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ) أي: يبطنون في أنفسهم ما لا يظهرون لك.

• قال ابن الجوزي: في الذي أخفوه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه قولهم (لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا).

والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر الله.

والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحُد.

(يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) أي: لو كان الاختيار لنا لم نخرج فلم نُقتل ولكن أكرهنا على الخروج

• قال السعدي: في هذا إنكار منهم، وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم.

(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) التي هي أبعد شيء عن مظان القتل.

(لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) لخرج أولئك إلى مصارعهم، فقدر الله لا مناص منه ولا مفر.

فالأسباب - وإن عظمت - إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئاً، بل لابد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة.

ص: 163

قال ابن عاشور: والمعنى: لو لم تكونوا ههنا وكنتم في بيوتكم لخرج الَّذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم الَّتي اضطجعوا فيها يوم أُحُد أي مصارعهم فالمراد بقوله: (كتب) قدّر، ومعنى (برز) خرج إلى البراز وهو الأرض.

• وقال القاسمي: كما قال تعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل، بل عين مكانه أيضاً. وفي التعبير بمضاجعهم من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ) أي: ليختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق.

• قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ) الواو حرف عطف، واللام لام التعليل، ولهذا يجب كسرها، بخلاف لام الأمر، فإنها تسكن إذا وقعت بعد حرف العطف [الواو والفاء وثم] قال تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) وقال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)، أما لام التعليل فإنها مكسورة دائماً ولو بعد الواو أو ثم أو الفاء. (ابن عثيمين).

(وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) أي: لينقي ما في قلوبكم ويطهره.

• قال ابن تيمية: عند المحن تظهر كمائن النفوس.

• قال الحسن: الناس وقت الرخاء متساوين فإذا وقع البلاء تباينوا.

• قال ابن عاشور: والتمحيص تخليص الشيء ممَّا يخالطه ممَّا فيه عيب له فهو كالتزكية.

والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما فيه قلوبهم تطهيرها ممَّا يخامرها من الريب حين سماع شُبه المنافقين الّتي يبثُّونها بينهم.

• قال ابن القيم: ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا التّقْدِيرِ هِيَ ابْتِلَاءُ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَهُوَ اخْتِبَارُ مَا فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالنّفَاقِ فَالْمُؤْمِنُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إلّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَالْمُنَافِقُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لَا بُدّ أَنْ يَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ، ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى: وَهُوَ تَمْحِيصُ مَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ تَخْلِيصُهُ وَتَنْقِيَتُهُ وَتَهْذِيبُهُ فَإِنّ الْقُلُوبَ يُخَالِطُهَا بِغَلَبَاتِ الطّبَائِعِ؟ وَمَيْلِ النّفُوسِ وَحُكْمِ الْعَادَةِ وَتَزْيِينِ الشّيْطَانِ وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ مَا يُضَادّ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبِرّ وَالتّقْوَى فَلَوْ تُرِكَتْ فِي عَافِيَةٍ دَائِمَةٍ مُسْتَمِرّةٍ لَمْ تَتَخَلّصْ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَلَمْ تَتَمَحّصْ مِنْهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْعَزِيزِ أَنْ قَيّضَ لَهَا مِنْ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا مَا يَكُونُ كَالدّوَاءِ الْكَرِيهِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ دَاءٌ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإِزَالَتِهِ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ وَإِلّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْهَلَاكُ فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ تُعَادِلُ نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وَتَأْيِيدِهِمْ وَظَفَرِهِمْ بِعَدُوّهِمْ فَلَهُ عَلَيْهِمْ النّعْمَةُ التّامّةُ فِي هَذَا وَهَذَا.

ص: 164

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه.

وقال البيضاوي: (والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور) بخفياتها قبل إظهارها، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين.

‌الفوائد:

1 -

أن الله هو الذي يجلب للمرء النوم أو يرفعه.

2 -

أن النعاس قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً.

3 -

أن النعاس الذي أصابهم إنما أصاب المؤمنين الخلّص.

4 -

ذم من ظن بالله غير الحق.

5 -

وجوب حسن الظن بالله، وعلى قدر حسن الظن بالله يكون النصر والتأييد.

وقد جاء في الحديث: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ اللَّهُ عز وجل أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِي في مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).

ففي هذا الحديث دليل على فضل إحسان الظن بالله تعالى، وقد جاء في الحديث (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى).

فمن أحسن ظنه بالله آتاه الله إياه.

وفي المسند قال صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل قال: أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله).

والمعنى: أعاملُه على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر.

وقال عبد الله بن مسعود (والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده» رواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن.

قال سهل القطعي رحمه الله: رأيت مالك بن دينار رحمه الله في منامي، فقلت: يا أبا يحيى ليت شعري، ماذا قدمت به على الله عز وجل؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة، فمحاها عني حسن الظن بالله رواه ابن أبي الدنيا.

• ومعنى حُسن الظن بالله عَزَّ و جَلَّ هو اعتماد الإنسان المؤمن على ربِّه في أموره كلها، و يقينه الكامل و ثقته التامة بوعد الله و وعيده، و إطمئنانه بما عند الله، و عدم الإتكال المُطلق على تدبير نفسه و ما يقوم به من أعمال.

وحسن الظن بالله من مقتضيات التوحيد لأنه مبنيٌ على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وحسن التوكل عليه.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

7 -

تحريم الاعتراض على القدر.

8 -

إثبات الحكمة في أفعال الله.

9 -

إثبات علم الله بما في القلوب.

ص: 165

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)).

[آل عمران: 155].

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) أي: انهزموا يوم أحد.

• قال ابن الجوزي: الخطاب للمؤمنين، وتوليهم فرارهم من العدو، والجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين يوم أحد.

(إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) أي: بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• قال ابن قتيبة: استزلهم طلب زلتهم، كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.

(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) أي: عفا عما كان منهم من الفرار.

• قال ابن عاشور: ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله (قل لو كنتم في بيوتكم) انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم، فلم يتفطّنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعالِ الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين.

وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله: (ثم صرفكم عنهم

) وضمير (منكم) راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا.

وممن فر عثمان رضي الله عنه لكن الله عفا عنه وعن البقية.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: غفور لمن تاب وأناب.

(حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.

‌الفوائد:

1 -

بيان سبب انهزام من انهزم من الصحابة.

2 -

تحريم الفرار إذا التقى الجمعان.

3 -

إثبات اسم الله الحليم المتضمن لسعة حلمه تعالى.

ص: 166

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)).

[آل عمران: 156].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد.

قيل المراد بالين كفروا: جميع الكفار.

وقيل: المراد المنافقين كعبد الله بن أبيّ.

(وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ) أي: عن إخوانهم.

(إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي: سافروا للتجارة ونحوها.

(أَوْ كَانُوا غُزّىً) أي: في الغزو.

(لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا) أي: في البلد.

(مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) أي: ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو.

(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم.

(وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره، ولا يُزاد في عمُر أحد ولا يُنقص منه إلا بقضائه وقدره.

قال الطبري: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله يحيي ويميت) والله المعجِّل الموتَ لمن يشاء من حيث يشاء، والمميت من يشاء كلما شاء، دون غيره من سائر خلقه.

وهذا من الله عز وجل ترغيبٌ لعباده المؤمنين على جهاد عدوه والصبر على قتالهم، وإخراج هيبتهم من صدورهم، وإن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم وأعداء الله وإعلامٌ منه لهم أن الإماتة والإحياء بيده، وأنه لن يموت أحدٌ ولا يقتل إلا بعد فناء أجله الذي كتب له ونهيٌ منه لهم، إذ كان كذلك، أن يجزعوا لموت من مات منهم أو قتل من قتل منهم في حرب المشركين. أ هـ

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بكل شيء، يبصر كل صغير وكبير.

‌الفوائد:

1 -

النهي عن التشبه بالكفار، وهذا النهي للتحريم لقوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم).

2 -

النهي عن الندم عما مضى.

3 -

تحريم قول (لو) اعتراضاً على القدر.

4 -

الحث على الجهاد، لأن الخروج الجهاد لا يقدم الموت، لأن كل شيء مكتوب محدد.

5 -

ذم الاعتراض على القدر.

6 -

أن الاعتراض على القدر يسبب الحسرة والندم.

7 -

أن الإحياء والإماتة بيد الله.

8 -

عموم علم الله تعالى.

ص: 167

(وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158)).

[آل عمران: 157 - 158].

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: استشهدتم في سبيل الله في الحرب أو القتال.

أَوْ مُتُّمْ) أي: أو جاءكم الموت وأنتم قاصدون قتالهم.

(لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي: ذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أي: وسواء متم على فراشكم أو قتلتم في ساحة الحرب فإن مرجعكم إلى الله فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقربكم إلى الله ويوجب لكم رضاه من الجهاد في سبيل الله والعمل بطاعته.

• الفرق بين المغفرة والرحمة: أن المغفرة بها زوال المكروه، والرحمة بها حصول المطلوب، أي: أنكم يحصل لكم مطلوبكم وتنجون من مرهوبكم.

• وقال أبو السعود: قوله تعالى (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ) شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يُحذر، بل مما يجب أن يتنافسَ فيه المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما.

• قال الرازي: اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة.

• قال الشيخ الشنقيطي: ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من الله ورحمة خيراً له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بين فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالاً قليلاً فانياً بملك لا ينفد ولا ينقضي أبداً وهي قوله (إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم).

وقال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً).

وبين في آية أخرى أن فضل الله ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل الله ورحمته دون حطام الدنيا وهي قوله تعالى (قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون) وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ) أي: دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه.

وقال تعالى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون).

ص: 168

•‌

‌ ومما يدل على حقارة الدنيا:

قوله صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).

وقوله صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).

وقوله صلى الله عليه وسلم (لأن أقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس).

وقوله صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).

وقوله صلى الله عليه وسلم (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة وتركها).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

وقال تعالى (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).

وقال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

وقال ابن عطية: ذكر تعالى الحشر إليه، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى

‌الفوائد:

1 -

أن من قتل في سبيل الله أو مات من المؤمنين فقد انتقل إلى خير من الدنيا.

2 -

تسلية الله لعباده المؤمنين.

3 -

الجمع بين المغفرة والرحمة ليكمل للإنسان سعادته.

4 -

إثبات لقاء الله تعالى.

5 -

حقارة الدنيا وفنائها.

5 -

إثبات الحشر.

6 -

إثبات لقاء الله تعالى.

ص: 169

(فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)).

[آل عمران: 159].

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: فبسبب رحمة الله أودعها الله في قلبك يا محمد كنت لين الجانب مع أصحابك

قال ابن القيم: أي ما لنت لهم إلا برحمة من الله.

• قال الرازي: علم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم.

قال تعالى: (واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين).

وقال (خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين).

وقال (وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

وقال (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنينَ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ).

(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً) الفظ هنا الغليظ والمراد به هاهنا غليظ الكلام، لقوله بعد ذلك (غليظ القلب).

(غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي: قاسي القلب عليهم.

(لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لانفضوا من حولك وتركوك.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي: اعف عمن أساء إليك.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي اطلب المغفرة لهم من الله.

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم.

قيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه تطييباً لقلوبهم.

وقيل: ليسن لأمته المشاورة في الأمور.

وقيل: ليصل - بإذن الله ثم باستشارتهم - إلى أوفق الآراء.

وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عدة مواضع:

استشارهم في غزوة بدر.

واستشارهم في أسارى بدر.

واستشارهم في قصة الإفك، فاستشار علياً وأسامة وبريرة.

وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة (

لا تعجلي حتى تستشيري أبويك).

ص: 170

قال السعدي: قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) أي: الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

ومنها: أن فيها تسميحاً لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي، والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي: المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب، فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الناس عقلاً وأغزرهم علماً، وأفضلهم رأياً:(وشاورهم في الأمر) فكيف بغيره؟!

• وقال ابن الجوزي: إن المشاور إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محضٌ قدر فلم يلُم نفسَه.

إنه قد يعزم على أمر يتبين له الصواب في قول غيره فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح.

(فَإِذَا عَزَمْتَ) على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه، إن كان يحتاج إلى استشارة.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئاً من حولك وقوتك.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه، اللاجئين إليه.

وفي هذا فضل عظيم للمتوكلين.

وقد تقدم فضل التوكل وعلو منزلته.

‌الفوائد:

1 -

أنه ينبغي للقائد أن يكون ليناً ليتعرض لرحمة الله.

2 -

أن اللين أولى بكثير من الغلظة.

3 -

فضل العفو.

4 -

الأمر بالشورى.

5 -

وجوب الاعتماد على الله.

ص: 171

(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)).

[آل عمران: 160].

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) بنصره.

(فَلا غَالِبَ لَكُمْ) فلو اجتمع عليكم من في أقطارها، وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد، وأخذ بنواصيهم.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فيكلكم إلى أنفسكم.

(فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.

(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي: لا على غيره.

وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله.

‌الفوائد:

1 -

بيان كمال قدرة الله.

2 -

وجوب تعلق القلب بالله تعالى وحده في طلب الانتصار.

3 -

أن الله إذا قدّر خذلان أحد فلا ناصر له.

4 -

وجوب التوكل على الله.

5 -

أن التوكل من مقتضيان الإيمان.

ص: 172

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)).

[آل عمران: 161].

(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: ما صحّ ولا استقام شرعاً ولا عقلاً لنبي من الأنبياء أن يخون في الغنيمة.

• قال السعدي: الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، (والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان) وهو محرم إجماعاً، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب. وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقاً، وأطهرهم نفوساً، وأزكاهم وأطيبهم، ونزههم عن كل عيب، وجعلهم محل رسالته، ومعدن حكمته (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

فبمجرد علم العبد بالواحد منهم، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم، لأن معرفته بنبوتهم، مستلزم لدفع ذلك، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم، فقال (وما كان لنبي أن يغل) أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ومن يخن من غنائم المسلمين شيئاً يأت حاملاً له على عنقه يوم القيامة فضيحة له على رؤوس الأشهاد.

• في الآية تحريم الغلول وأنه من الكبائر، وقد جاءت النصوص في تحريمه.

عن ابْن عُمَر. قَالَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ) رواه مسلم.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً قَدْ أَبْلَغْتُكَ) متفق عليه.

ص: 173

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ (كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «هُوَ فِي النَّارِ». فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا) رواه البخاري.

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلَا وَرِقاً غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِى الضُّبَيْبِ فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِىَ بِسَهْمٍ فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَقُلْنَا هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَاراً أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ». قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) رواه مسلم.

وعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلاَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ» . قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ «أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ) رواه مسلم.

• قال الرازي: قوله تعالى (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيه وجهان:

الأول: وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهي نظير قوله في مانع الزكاة (يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ) ويدل عليه قوله: " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك " وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم، ثم يقال له: انزل اليه فخذه فينزل إليه، فإذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه.

قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته.

الوجه الثاني: أن يقال: ليس المقصود منه ظاهره، بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير.

ص: 174

• وقال القرطبي: قوله تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة) أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، مُعذّباً بحمله وثِقَله، ومَرعُوباً بصوته، ومُوَبَّخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد.

وهذه الفضيحة التي يُوقعها الله تعالى بالغالّ نظيرُ الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن يُنصب له لِواء عند استه بقدر غَدْرَته.

وجعل الله تعالى هذه المعاقبَات حَسْبَما يَعْهَدَهُ البَشرَ ويَفْهَمُونه

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: تعطى كل نفس جزاء ما عملت وافياً غير منقوص.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا يزاد في عقاب العاصي، ولا ينقص من ثواب المطيع.

كما قال تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فالله لا يظلم لكمال عدله لا لعجزه عن الظلم.

• قال السعدي: وتأمل حسن الاحتراز في هذه الآية الكريمة، لما ذكر عقوبة الغال، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره.

• وقال أبو حيان: ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصاً بمن غلّ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم، فصار الغال مذكوراً مرتين: مرّة بخصوصه، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول.

‌الفوائد:

1 -

تحريم الغلول وأنه من الكبائر.

2 -

أنه لا يمكن لنبي أن يغل.

3 -

أن الجزاء من جنس العمل.

4 -

إثبات البعث.

5 -

إثبات قدرة الله تعالى.

6 -

جزاء كل نفس بما كسبت.

7 -

نفي الظلم عن الله تعالى.

ص: 175

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)).

[آل عمران: 162 - 163].

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) يخبر تعالى أنه لا يستوي من كان قصده رضوان ربه، والعمل على ما يرضيه، كمن ليس كذلك، ممن هو مكب على المعاصي، مسخط لربه، هذان لا يستويان في حكم الله، وحكمة الله، وفي فطر عباد الله.

كما قال تعالى (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون).

وقال تعالى (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

وقال تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

• قال الشنقيطي: ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ لَيْسَ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْهُ; لِأَنَّ هَمْزَةَ الْإِنْكَارِ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا صِفَةَ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَشَارَ إِلَى بَعْضِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ صِفَاتِ مَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) وَبِقَوْلِهِ هُنَا: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ).

(وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ) أي: مصيره جهنم، وهي النار، سميت بذلك لغلظتها وبعد قعرها.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي: بئس ذلك المصير مصيرهم.

‌الفوائد:

1 -

بيان أنه لا يستوي من يتبع رضوان الله ومن يبوء بسخطه.

2 -

إثبات الرضا لله تعالى.

3 -

إثبات السخط لله تعالى.

4 -

التحذير من التعرض لسخط الله.

5 -

ذم النار.

6 -

أن الناس عند الله منازل مختلفة.

7 -

أن الإيمان يزيد وينقص.

8 -

إثبات العلو لله تعالى.

9 -

إثبات البصر لله تعالى.

(السبت: 13/ 11/ 1433 هـ).

ص: 176

(لقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164)).

[آل عمران: 164].

(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) أي: لقد أنعم الله على المؤمنين من العرب; إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم.

(مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به.

كما قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) أي: من جنسكم.

وقال تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى).

• قال الرازي: إن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعياً لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله، وهذا عام في حق العالمين، لأنه مبعوث إلى كل العالمين، كما قال تعالى (وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين، ونظيره قوله تعالى (هُدًى لّلْمُتَّقِينَ) مع أنه هدى للكل، كما قال (هُدًى لّلنَّاسِ) وقوله (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها).

(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) يعني: القرآن.

التلاوة هنا تشمل التلاوة لفظاً، والتلاوة معنى، والتلاوة حكماً.

فالتلاوة لفظاً: أن يقرأ الكتاب بينهم.

والتلاوة معنى: أن يعلمهم معانيه.

والتلاوة حكماً: أن يعمل بأحكامه.

كما قال تعالى (وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وقالت عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، يتأول القرآن) يعني يعمل به والمراد بالآيات هنا الآيات الشرعية وهي القرآن.

(وَيُزَكِّيهِمْ) أي: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخَبَث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم.

ص: 177

أي: يطهر قلوبهم من الشرك والنفاق وسوء الأخلاق، ويهذب أخلاقهم، فطهارة النفوس بطاعة الله وترك الشرك والذنوب.

• قال ابن جرير: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان وينميهم ويكثرهم بطاعة الله.

• وقد أقسم الله بفلاح من زكى نفسه فقال (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا .... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).

ومن أسباب تزكية النفس الصدقة كما قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ومنها: غض البصر وحفظ الفرج كما قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)

ومنها: الدعاء بذلك: كان صلى الله عليه وسلم يقول (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) رواه مسلم.

•‌

‌ فيه أن مهمة الرسل والنبيين التبشير والإنذار، وإرسال الرسل له حكم:

‌أولاً: التبشير للمؤمن والإنذار للكافر.

قال تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

وقال تعالى (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وقال تعالى (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

‌ثانياً: رحمة للناس.

قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).

‌ثالثاً: البلاغ المبين.

قال تعالى (وإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

وقال تعالى (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).

وقال تعالى (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).

ص: 178

‌رابعاً: الدعوة إلى الله.

قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ).

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

‌خامساً: إقامة الحجة.

قال تعالى (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى).

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) وهو القرآن، وليس هذا تكرار مع قوله (يتلو عليهم آياته) لأن الأول تلاوة والثاني تعليم، والتعليم أخص من التلاوة، والتعليم هنا شامل لتعليم اللفظ وتعليم المعنى وتعليم الحكم.

وذهب بعضهم إلى أن معنى (ويعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) هو الكتابة، ويدل عليه أن الله ذكر القرآن قبله، فلو قلنا إن المراد بالكتاب هو القرآن لصار تكراراً.

(وَالْحِكْمَةَ) يعني السنة، قاله الحسن وقتادة ومقاتل كما قال تعالى (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). وقيل: الفهم في الدين ولا منافاة.

(وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل هذا الرسول.

(لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي: لفي غي وجهل ظاهر جلي بيّن لكل أحد.

‌الفوائد:

1 -

نعمة الله تعالى على العرب، حيث جعل النبي منهم وبلسانهم.

2 -

أن مهمة الرسل: تلاوة كتاب الله وتعليمه، وتزكية النفوس بطاعة ربها والخضوع له.

3 -

من أعظم النعم نعمة ارسال الرسل لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

4 -

الإشارة إلى عظم فضل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في تخصيصه بهذه الرسالة، وعلى العرب في اختياره منهم.

ص: 179

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)).

[آل عمران: 165].

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتل السبعين منهم.

(قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) يعني: يوم بدر، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً وأسروا سبعين أسيراً.

(قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) أي: من أين جرى علينا هذا؟

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي: بسبب عصيانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا مكانكم فعصيتم.

فالمعاصي سبب للهزيمة والخسران.

قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

وقال تعالى (فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).

• قال ابن تيمية فيما يعين على الصبر: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار فاعلم أن مصيبته مصيبة حقيقية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة.

(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه.

ص: 180

• قال أبو حيان: (إن الله على كل شيء قدير) أي قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى.

ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم، لا لضعف في قدرة الله، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال.

[الأحد: 14/ 11/ 1433 هـ].

‌الفوائد:

1 -

حكمة الله في ابتلاء أهل الإيمان.

2 -

يستحب أن يذكر الإنسان بما يهون مصيبته.

3 -

خطر الذنوب والمعاصي، وأنها سبب للهزيمة والخذلان.

4 -

إثبات اسم القدير من أسماء الله تعالى.

ص: 181

(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168)).

[آل عمران: 166 - 168].

(وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) أي: وما أصابكم يوم أحد، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين.

(فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بقضاء الله وقدره.

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: ليعلم أهل الإيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.

• واللام لام التعليل، وهي مكسورة دائماً.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي: وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين انخذلوا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل.

(وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: قال لهم بعض أهل الإيمان: تعالوا قاتلوا المشركين معنا.

أَوِ ادْفَعُوا) قيل: كثروا سواد المسلمين، وقيل: بالدعاء، وقيل: رابطوا.

وقيل: عن محارمكم وبلدكم.

(قَالُوا) متعللين.

(لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ) يعنون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالاً.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) أي: بإظهارهم هذا القول صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.

(يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي: يظهرون خلاف ما يضمرون.

• وفي هذا ذم الكذب.

(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) من النفاق والشرك.

(الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) أي: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل.

ص: 182

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (الذين قالوا لإخوانهم) قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن أُبي. وفي إخوانهم قولان.

أحدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس.

والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل.

فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا.

• قال السعدي: قوله تعالى (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) أي: جمعوا بين التخلف عن الجهاد، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره.

(قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: إن كان القُعود يَسْلَم به الشخص من القتل والموت، فينبغي، أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.

• وقال البيضاوي: قوله تعالى (قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين) أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه، فإنه أحرى بكم، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سبباً للهلاك والقعود سبباً للنجاة قد يكون الأمر بالعكس.

‌الفوائد:

1 -

تسلية المؤمن بقضاء الله وقدره.

2 -

أن الله قد يقدّر على عبده المؤمن ما يكرهه لحكم عظيمة.

3 -

إثبات النفاق في هذه الأمة.

4 -

التحذير من النفاق.

5 -

أن المنافق يحرص كل الحرص على كتم نفاقه.

6 -

التنديد بهؤلاء الذين جمعوا بين قبح الفعل وقبح القول.

7 -

تحريم الاعتراض على قدر الله.

8 -

أنه لا يمكن درء الموت.

ص: 183

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)).

[آل عمران: 169 - 171].

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: في جهاد أعداء الدين، قاصدين بذلك إعلاء كلمة الله.

عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَباً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ

إِلَيْهِ رَأْسَهُ - قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِماً - فَقَالَ «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل متفق عليه.

(أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار.

• قال الشوكاني: لما بين الله سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق، والكاذب من الصادق، بين ههنا أن من لم ينهزم، وقتل فله هذه الكرامة، والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف، ويحذر، كما قالوا من حكى الله عنهم (لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ) وقالوا (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد، وقرئ بالياء التحتية، أي: لا يحسبن حاسب.

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة. وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ.

• قال السعدي: قوله تعالى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم.

ص: 184

(فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله، وهم فرحون مما هم فيه من النعمة والغبطة.

• قال السعدي: أي مغتبطون بذلك، وقد قرت به عيونهم، وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه، وكثرته، وعظمته، وكمال اللذة في الوصول إليه، وعدم المنغص.

عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا) رواه مسلم.

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَة) رواه مسلم.

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي: يستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إن استشهدوا، فهم لذلك فرحون مستبشرون.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي: بأن لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) أي: يهنئ بعضهم بعضاً، بأعظم مهنأ به، وهو: نعمة ربهم وفضله وإحسانه.

(وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله، ما لا يصل إليه سعيهم.

ص: 185

•‌

‌ هذه الآية فيها دلالة واضحة على فضل الشهادة، وللشهادة فضائل كثيرة:

‌أولاً: من أسباب دخول الجنة.

كما في حديث الباب.

وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وعن جابر. قال (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل) متفق عليه.

‌ثانياً: الحياة بعد الاستشهاد مباشرة.

قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون).

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتاً؛ بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: الأحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عِمْرَان (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

• قال الشيخ ابن عثيمين: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ) المراد لا تقولوا أموات موتاً مطلقاً - دون الموت الذي هو مفارقة الروح للجسد - فهذا موجود، ولولا أن أرواحهم فارقت أجسادهم لما دفناهم، ولكن الموت المطلق لم يقع منهم بدليل الإضراب الإبطالي في قوله تعالى (بل أحياء) يعني: بل هم أحياء، والمراد أنهم أحياء عند ربهم، كما في آية آل عمران، وهي حياة برزخية لا نعلم كيفيتها ولهذا قال:

(وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي: لا تشعرون بحياتهم، لأنها حياة برزخية، ولولا أن الله عز وجل أخبرنا بها ما كنا نعلم بها.

وقال تعالى (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

ص: 186

‌ثالثاً: مغفرة الذنوب وتكفير السيئات.

قال تعالى (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن للشهيد عند الله ست خصال يغفر له عند أول دفعة من دمه

) رواه الترمذي.

‌رابعاً: تمني الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشر مرات.

عن أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرهُ أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وفي رواية: لما يرى من الكرامة) متفق عليه.

‌خامساً: الشهيد في الفردوس الأعلى.

وعن أنس (أن أم حارثة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء، فقال رسول الله: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) متفق عليه.

‌سادساً: الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها.

عن جابر قال (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثّل به ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو - فقال: لم تبكي أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) متفق عليه

ص: 187

‌سابعاً: الشهداء لا يفتنون في قبورهم:

عن المقداد بن معد يكرب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل لماذا الشهداء لا يسألون في قبورهم؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي.

قال ابن النحاس: ولا شك بأن من وقف للقتال ورأى السيوف تلمع وتقطع، والأسنة تبرق وتخرق، والسهام ترشق وتمرق، والرؤوس تندر، والدماء تثعب، والأعضاء تتطاير، وجاد بنفسه لله تعالى إيماناً به وتصديقاً بوعده ووعيده، فيكفيه هذا امتحاناً لإيمانه واختباراً له وفتنة، إذ لو كان عنده شك أو ارتياب لولى الدبر، وذهل عما هو واجب عليه من الثبات، وداخله الشك والارتياب.

‌ثامناً: الشهيد لا يشعر بألم القتل.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) رواه الترمذي.

قال علي: إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش

‌تاسعاً: دم الشهيد أحب شيء إلى الله.

عن أبي أمامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهرق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله) رواه الترمذي.

‌عاشراً: الشهيد يشفع في أهل بيته.

عن أم الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته) رواه الترمذي.

ص: 188

‌الحادي عشر: لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة.

عن البراء بن عازب قال (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليل وأجر كثير) رواه البخاري.

فائدة: سمي الشهيد بذلك:

قال النووي: " قال النضر بن شميل: لأنه حي، فإن أرواحهم شهدت وحضرت دار الإسلام وأرواح غيرهم إنما تشهدها يوم القيامة ".

وقال ابن الأنباري: " إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة ".

وقيل: لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة.

وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه.

وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله.

وقيل: لأن عليه شاهداً بكونه شهيداً وهو الدم.

‌الفوائد:

1 -

فضيلة من قتل في سبيل الله.

2 -

الترغيب في الجهاد في سبيل الله.

3 -

فضيلة الشهداء لكونهم عند الله.

4 -

أن الشهداء يرزقون وهم أموات.

ص: 189

(الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)).

[آل عمران: 172].

(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) هذا كان يوم "حمراء الأسد"، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة.

فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلداً، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه لما سنذكره- فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. (تفسير ابن كثير).

• قال الرازي: في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا، وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة، فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع قوم من أصحابه، قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال، فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا، وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه

ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان كل ذلك لإثخان الجراحات فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة.

ص: 190

عَنْ عَائِشَةَ قالت (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) قَالَتْ لِعُرْوَةَ يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبُوكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ» . فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً، قَالَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْر) رواه البخاري.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بالاستجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

(وَاتَّقَوْا) المخالفة لأمره.

(أَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب عظيم.

‌الفوائد:

1 -

فضيلة الصحابة حيث استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح.

2 -

أن أمر الرسول أمر لله.

3 -

أن هذا الذي عملوه من الإحسان.

4 -

فضل الإحسان في العمل.

ص: 191

(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِ

ضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)). [آل عمران: 173 - 174].

(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) المراد بالناس هنا رجل يقال له: نعيم بن مسعود.

وقيل: ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضماناً لتخويف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

(إِنَّ النَّاسَ) المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره.

• قال الرازي: نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة في أعقاب غزوة أحد نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء اللّه.

فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، فألقى اللّه الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع. فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له: يا نعيم، إني وعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر. وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن. وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل.

فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي. أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم في جمع من أصحابه، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهي ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين، ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً، وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين، أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران.

(قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أي: جمعوا لكم الجموع.

(فَاخْشَوْهُمْ) أي: خافوهم.

ص: 192

(فَزَادَهُمْ إِيمَاناً) أي: أن هذا القول الذي قاله المثبطون، زاد المؤمنين إيماناً على إيمانهم، ويقيناً على يقينهم، وثباتاً على ثباتهم، وجعلهم

يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان: (حَسْبُنَا اللَّهُ) أي كافينا اللّه أمر أعدائنا (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي نعم النصير خالقنا عز وجل فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا.

وقولهم هذا يدل دلالة واضحة على قوة إيمانهم، وشدة ثقتهم في نصر اللّه تعالى لهم، مهما كثر عدد أعدائهم، ومهما تعددت مظاهر قوتهم.

فالمؤمن عند المحن يزداد لإيماناً.

قال تعالى (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً).

قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً؟ قلت: لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام، كان ذلك أثبت ليقينهم، وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج. ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل.

• وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص.

قال تعالى (وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً).

وقال تعالى (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً).

وقال تعالى (فزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

ص: 193

وقال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) رواه أبو داود.

وعن ابن مسعود أنه قال (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً). رواه ابن بطة بإسناد صحيح.

وعن أبي الدرداء أنه كان يقول (الإيمان يزداد وينقص) رواه ابن ماجه.

وكان عمر يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله.

وكان معاذ بن جبل يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة.

(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) أي: كافينا الله وحده.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُم وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين إذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَسْبُهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حسبا لِلرَّسُولِ.

وقال (وقالوا حسبنا الله) ولم يقل (ورسوله) فإن الحسب هو الكافي، والله وحده كاف عباده المؤمنين.

(وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) المدافع عن غيره.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، قَالَ:(حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) قَالَهَا إِبرَاهيمُ عليه السلام حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا:(إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْماناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله ونعْمَ الوَكيلُ). رواه البخاري.

وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ.

ص: 194

قال ابن تيمية: فَالْعِبَادُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).

وَقَالَ تَعَالَى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) إلَى قَوْلِهِ: (إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ).

وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَى إلَّا اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وَقَالَ تَعَالَى (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

وَلَا يَدْعُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)

وَقَالَ تَعَالَى (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ.

وقال رحمه الله: وَأَمَّا كَيْفَ يَحْصُلُ الْيَقِينُ فَبِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ. وَالثَّانِي: تَدَبُّرُ الْآيَاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ.

ص: 195

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: المراد بالنعمة هنا: السلامة من ملاقاة العدو، وقيل: هي ما أخذوه من الأموال.

(وَفَضْلٍ) أي: فضل وثواب الجهاد.

(لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي: لم يصبهم قتل ولا جراح.

(وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ) في طلب القوم.

• فأنت ترى أن اللّه تعالى قد أخبر عن هؤلاء المجاهدين المخلصين أنهم قد صحبهم في عودتهم أمور أربعة:

أولها: النعمة العظيمة.

وثانيها: الفضل الجزيل.

وثالثها: السلامة من السوء.

ورابعها: اتباع رضوان اللّه.

وهذا كله قد منحه اللّه لهم جزاء إخلاصهم وثباتهم على الحق الذي آمنوا به.

(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) أي: صاحب الفضل العظيم.

• قال أبو حيان: وختمها بقوله (والله ذو فضل عظيم) مناسب لقوله (بنعمة من الله وفضل) تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا.

‌الفوائد:

1 -

أن المؤمن الحقيقي كلما ضاقت عليه المصائب فإنه يلجأ إلى ربه ويزداد إيماناً.

2 -

أن المؤمن الحقيقي لا يخاف إلا من الله.

3 -

أن الحسب هو الله وحده ولا أحد معه.

4 -

فضل هذه الكلمة: حسبنا الله ونعم الوكيل.

5 -

إثبات الرضا لله.

ص: 196

(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)).

[آل عمران: 175].

(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة.

قال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل قوله تعالى (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قال ابن القيم: ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا قال:(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوفم وخافون إن كنتم مؤمنين).

المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.

(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجؤوا إلي، فأنا كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) إلى قوله (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وقال تعالى (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا).

وقال تعالى (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

وقال تعالى (كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

وقال تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ).

• وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله. (السعدي).

ص: 197

•‌

‌ في الآية فضل الخوف من الله، وللخوف من الله فضائل:

‌أولاً: أنه من علامات الإيمان.

قال تعالى (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

‌ثانياً: مدح الله أنبياءه بالخوف منه.

كما قال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

‌ثالثاً: الخوف من الله يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة.

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة (ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.

خامساً: الخوف سبب للنجاة من كل سوء.

قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث منجيات: منها خشية الله تعالى في السر والعلانية) فهذه الخشية هي التي تحفظ العبد وتنجيه من كل سوء لأنه قال ووعد الله لا يخلف وهذا رسوله (منجيات) وعمّم تشمل الدنيا والآخرة.

ثالثاً: أثنى الله على ملائكته بشدة خوفهم منه.

كما قال تعالى (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).

‌رابعاً: من صفات الرجال العظماء.

قال تعالى (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).

ص: 198

‌خامساً: من صفات الأبرار خوفهم من عدم القبول.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أي: والذين يعطون ويعملون ويخافون أن لا يتقبل منهم

‌سادساً: وعد الله الخائفين الجنة.

كما في هذه الآية (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).

‌سابعاً: أنه من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قال صلى الله عليه وسلم (إني أخشاكم لله وأتقاكم له) رواه مسلم.

وعن أنس قال (خطبنا رسول الله خطبة ما سمعت مثلها قط قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله وجوههم ولهم خنين) متفق عليه.

‌ثامناً: من أسباب النجاة من النار.

كما قال صلى الله عليه وسلم (عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله) رواه الترمذي.

وقد قال صلى الله عليه وسلم (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

‌تاسعاً: الخوف سبب للبعد عن المعاصي:

قال تعالى (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ).

قال بعض السلف: إذا سكن الخوف في القلب أحرق موضع الشهوات منه.

ص: 199

‌عاشراً: سبب في إخلاص العمل لله.

قال تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

‌الحادي عشر: سبب لعلو الهمة في العبادة.

قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

‌الثاني عشر: الخوف يجعل العبد سائراً على طريق الهداية.

قال ذو النون المصري: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.

‌الثالث عشر: الخوف يضفي المهابة على صاحبه:

قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء.

وقال يحيى بن معاذ الرازي: على قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق.

‌الرابع عشر: الخوف من أسباب قبول الدعاء:

قال تعالى: (وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين).

‌الخامس عشر: الخوف من أسباب الانتفاع بكلام الله تعالى.

قال تعالى (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).

•‌

‌ من أقوال السلف:

قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب.

وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله.

وقال عامر بن قيس: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.

وحين سئل عطاء السليمي: ما هذا الحزن؟ قال ويحك؟ الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، لا أدري ما يصنع بي؟

وقال الفضيل: من خاف الله دله الخوف على كل خير.

ص: 200

وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبدالعزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.

وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.

وقال السبكي رحمه الله: ما خفت الله يوما، إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط.

وقال حكيم: الحزن يمنع الطعام، والخوف يمنع الذنوب، والرجاء يقوي على الطاعة، وذكر الموت يزهد في الفضول.

وقال الحسن: الرجا والخوف مطيتا المؤمن.

وقال إبراهيم التيمي: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن).

وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين).

وقال يحيى بن معاذ الرازي: على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق.

قال الإمام أبو الليث السمرقندي رحمه الله:

علامة خوف الله تعالى تظهر في سبعة أشياء: أولها: لسانه: فيمنعه من الكذب، والغيبة، والنميمة، والبهتان، وكلام الفضول، ويجعله مشغولاً بذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن ومذاكرة العلم. والثاني: قلبه: فيخرج منه العداوة والبهتان وحسد الإخوان لأن الحسد يمحو الحسنات. واعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة في القلوب ولا تداوي إلا بالعلم والعمل. والثالث: نظره: فلا ينظر إلى الحرام من الأكل والشرب والكسوة وغيرها ولا إلى الدنيا بالرغبة بل يكون نظره على وجه الاعتبار ولا ينظر إلى ما لا يحل له. والرابع: بطنه: فلا يدخل بطنه حراماً فإنه إثم كبير. والخامس: يده: فلا يمد يده إلى الحرام بل يمدها إلى ما فيه طاعة لله تعالى. والسادس: قدمه: فلا يمشي في معصية لله، بل يمشي في طاعته ورضاه وإلى صحبة العلماء والصلحاء. والسابع: طاعته: فيجعل طاعته خالصة لوجه الله تعالى ويخاف من الرياء والنفاق فإذا فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى في حقهم: (والآخرة عند ربك للمتقين).

‌الفوائد:

1 -

بيان عدواة الشيطان للإنسان.

2 -

أن الشيطان يدافع عن أوليائه.

3 -

أنه كلما قوي إيمان الإنسان بالله قوي خوفه منه.

ص: 201

(وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)).

[آل عمران: 176].

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى: ولا يحزنك ذلك.

كما قال تعالى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً).

وقال تعالى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ).

• والمراد بقوله (

الذين يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) قيل: هم قوم ارتدّوا، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فسلاه الله سبحانه، ونهاه عن الحزن، وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئاً، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة، ولهم عذاب عظيم.

وقيل: هم كفار قريش.

وقيل: هم المنافقون.

وقيل: هو عام في جميع الكفار. (فتح القدير).

• قال الرازي: في الآية سؤال: وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهى الله عن الطاعة؟

والجواب من وجهين:

الأول: أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات).

الثاني: أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك، ألا ترى إلى قوله (إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً) يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم

في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة.

• وقال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن، فنهى عن ذلك، كما قال الله تعالى (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات)(فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً).

ص: 202

• قال الآلوسي: ومعنى (يسارعون فِي الكفر) يقعون فيه سريعاً لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في (سَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ) وغيره، وأوثر ذلك قيل: للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه (يسارعون فِي الخيرات).

• وقال الشوكاني: وعدي السارعون (بفي) دون (إلى) للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته، ومثله يسارعون في الخيرات.

• وقال ابن عاشور: ومعنى (يسارعون في الكفر) يتوغّلون فيه ويَعجَلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس، فعبّر عن هذا المعنى بقوله (يسارعون)، فقيل: ذلك من التضمين ضمّن يسارعون معنى يقعون،

وعندي أنّ هذا استعارة تمثيلية: شبّه حال حرصهم وجدّهم في تفكير الناس وإدخال الشكّ على المؤمنين وتربّصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع الى تحصيل شيء يخشى أن يَفوته وهو متوغّل فيه متلبس به، فلذلك عدّي بفي الدالة على سرعتهم سرعة طالب التمكين، لا طالب الحصول، إذ هو حاصل عندهم ولو عدّي بإلى لفهم منه أنّهم لم يكفروا عند المسارعة.

(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) تعليل للنهي، والمعنى: أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً، وقيل المراد: لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده،

• قال السعدي: فالله ناصر دينه، ومؤيد رسوله، ومنفذ أمره من دونهم، فلا تبالهم ولا تحفل بهم، إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم، بفوات الإيمان في الدنيا، وحصول العذاب الأليم في الأخرى.

كما في الحديث القدسي (

يا عبادي إنكم لن تَبلغوا ضَرِّي فَتُضرُّوني ولن تَبلْغُوا نفعي فَتَنْفَعُوني، يا عبادي لو أن أوّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أَتْقَى قلبِ رجُلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، يا عبادي لو أن أوّلَكُمْ وآخركُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانوا على أفْجَر قلبِ رجُلٍ واحدٍ ما نَقَصَ ذلك من مُلْكِي شيئاً).

ص: 203

• وفي الآية نفي الضرر عن الله تعالى، كما في الحديث القدسي (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) رواه مسلم.

وأما قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فلا يلزم من الأذية الضرر، فقد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر به.

(يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ) أي: حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة.

• والحظّ النصيب والجَدّ، يُقال: فلان أحظّ من فلان، وهو محظوظ.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي: عقوبة شديدة.

‌الفوائد:

1 -

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق.

2 -

تهديد هؤلاء الذين يسارعون في الكفر.

3 -

انتفاء الضرر عن الله تعالى.

4 -

بيان غنى الله.

5 -

أنه لا حظ للكافر في الآخرة.

ص: 204

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)).

[آل عمران: 177].

(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ) يخبر تعالى أن الذين اختاروا الكفر على الإيمان، ورغبوا فيه، رغبة من بذل ما يحب من المال في شراء ما يحب من السلع.

(لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) بل ضرر فعلهم يعود على أنفسهم، وهو تأكيد للأول.

• قال ابن عاشور: تكرير لجملة (إنهم لن يضروا الله شيئاً) قصد به، مع التأكيد، إفادةُ هذا الخبر استقلالاً للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول.

وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أنّ مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لمَوصُولها، وتأكيد لقوله (إنهم لن يضروا الله شيئاً) المتقدّم.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: عذاب مؤلم.

‌الفوائد:

1 -

بيان شدة رغبة الكفار في الكفر.

2 -

بيان خسران هؤلاء حيث أخذوا الكفر بدلاً عن الإيمان.

3 -

بيان كمال الله تعالى.

4 -

كمال سلطان الله تعالى.

5 -

عذاب هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان عذاب مؤلم. (السبت: 27/ 11/ 1433 هـ).

ص: 205

(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)).

[آل عمران: 178].

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) أي: لا يظن الكافرون أن إمهالنا لهم بدون جزاء ولا عذاب، وإطالتنا لأعمارهم خير لهم.

(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً) أي: إنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم.

كما قال تعالى (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

وقال تعالى (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ).

• قال الشنقيطي: وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجَ مِنْ كَيْدِهِ الْمَتِينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَغْتَرُّونَ بِذَلِكَ الِاسْتِدْرَاجِ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ مِنَ الْمُسَارَعَةِ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْتَوْنَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أُوتُوهُ فِي الدُّنْيَا.

كَقَوْلِهِ تَعَالَى (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ).

وَقَوْلِهِ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا).

وَقَوْلِهِ (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).

وَقَوْلِهِ (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).

وَقَوْلِهِ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا الْآيَةَ).

ص: 206

• قال ابن عاشور: والإملاء: الإمهال في الحياة، والمراد به هنا تأخير حياتهم، وعدمُ استئصالهم في الحرب، حيث فرحوا بالنصر يوم

أُحُد، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم.

• قال السمرقندي: روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما من بر وفاجر إلا والموت خير له، لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى (لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) وإن كان فاجراً فقد قال الله تعالى (إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً).

‌الفوائد:

1 -

لا يجوز للإنسان أن يغتر بإمهال الله له.

2 -

حكمة الله باستدراج بعض الخلق.

3 -

إثبات زيادة الآثام.

ص: 207

(مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)).

[آل عمران: 179].

(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيميز له المؤمن من المنافق، والمعنى: لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في غزوة أحد حيث ظهر أهل الإيمان وأهل النفاق.

• قال ابن كثير: أي لابد أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيها وليه ويُفضح بها عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر من المنافق الفاجر، كما ميّز بينهم يوم أحد.

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يُميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك.

قال ابن جرير: وأولى الأقوال بتأويله: أي وما كان الله ليطلعكم على قلوب عباده فتعرفوا المؤمن من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء كما ميز بينهم يوم أحد بالبأساء وجهاد عدوه.

(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: غير أن الله تعالى يصطفي من رسله مَن يشاء؛ ليطلعه على بعض علم الغيب بوحي منه.

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ) من الإيمان بوجوده، وبربوبيته، والوهيته، وأسمائه وصفاته.

(وَرُسُلِهِ) الإيمان بالرسل يتضمن: تصديقهم فيما جاءوا به، وأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بقلوبكم.

(وَتَتَّقُوا) بجوارحكم.

(فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي: ثواب عظيم.

‌الفوائد:

1 -

أن الله لابد أن يميّز الخبيث من الطيب.

2 -

بيان رحمة الله على عباده، حيث لا يتركهم هكذا يشتبه بعضهم ببعض.

3 -

حكمة الله في أفعاله.

4 -

انقسام الناس إلى خبيث وطيب.

5 -

وجوب الإيمان بالله وبرسله.

6 -

فضيلة الإيمان والتقوى.

ص: 208

(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)).

[آل عمران: 180].

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة) أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مَضّرة عليه في دينه -وربما كان-في دنياه.

ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال: سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة.

عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، يُطَوّقُه يوم القيامة، يأخذ بلِهْزِمَتَيْه -يعني بشدقَيْه-يقول: أنا مَالُكَ، أنا كَنزكَ" ثم تلا هذه الآية: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) إلى آخر الآية.

(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل، فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم.

• قال السعدي: أي: هو تعالى مالك الملك، وترد جميع الاملاك إلى مالكها، وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ولا دينار ولا غير ذلك من المال (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون).

(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي: بِنياتِكم وضمائركم.

• قال السعدي: وتأمل كيف ذكر السبب الابتدائي والسبب الغائي، الموجب كل واحد منهما أن لا يبخل العبد بما أعطاه الله.

أخبر أولاً أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة، ليس ملكاً للعبد، بل لولا فضل الله عليه وإحسانه، لم يصل إليه منه شيء، فمنعه لذلك منع لفضل الله وإحسانه؛ ولأن إحسانه موجب للإحسان إلى عبيده كما قال تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك).

ص: 209

فمن تحقق أن ما بيده، فضل من الله، لم يمنع الفضل الذي لا يضره، بل ينفعه في قلبه وماله، وزيادة إيمانه، وحفظه من الآفات.

ثم ذكر ثانياً: أن هذا الذي بيد العباد كلها ترجع إلى الله، ويرثها تعالى، وهو خير الوارثين، فلا معنى للبخل بشيء هو زائل عنك منتقل إلى غيرك.

ثم ذكر ثالثاً: السبب الجزائي، فقال (والله بما تعملون خبير) فإذا كان خبيراً بأعمالكم جميعهاً -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات، والعقوبات على الشر- لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن الإنفاق الذي يجزى به الثواب، ولا يرضى بالإمساك الذي به العقاب.

• والبخل صفة ذميمة وقبيحة.

قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى).

وهو من صفات المنافقين.

قال تعالى (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ).

والله لا يحب من يبخل.

قال تعالى (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ

فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

وأخبر تعالى أن من وقي شح نفسه فقد أفلح.

ص: 210

فقال تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وهو من صفات أهل النار.

قال صلى الله عليه وسلم (إن أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع) رواه أحمد.

وهو شر ما في الرجل.

كما قال صلى الله عليه وسلم (شر ما رجل شح هالع وجبن خالع) رواه أحمد.

واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه.

عن أنس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من الهرم وأعوذ بك من البخل) متفق عليه.

وعن زيد بن أرقم قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) رواه مسلم.

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم داء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قلنا: جدُّ بن قيس إلا أنا نُبخِّله، قال: وأي داءٍ أدْوأ من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح) رواه البخاري في الأدب المفرد.

والملائكة تدعو على الممسك.

قال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.

وهو من تصديق الشيطان.

ص: 211

قال تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).

وهو سبب للظلم.

قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا الظلم

واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محا) متفق عليه.

‌الفوائد:

1 -

تهديد من بخل بما آتاه الله من فضله.

2 -

شدة عقوبة من منع ما يجب عليه من المال.

3 -

توبيخ من بخل بما أعطاه الله، كيف يبخلون بشيء ليس من كسبهم ولا من كدهم.

4 -

أن ما أوتيه الإنسان من مال أو ولد فإنه من الله.

5 -

أن البخل ليس بنافع لصاحبه، كما يظنه من يبخل.

6 -

إثبات علم الله تعالى.

ص: 212

(لقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182)).

[آل عمران: 181 - 182].

(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) هذه المقالة الشنيعة مقالة أعداء الله اليهود - عليهم لعائن - زعموا أن الله فقير، وذلك حين نزل قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) قالوا: إن الله فقير يقترض منا.

• قال القرطبي: ذكر تعالى قبيح قول الكفار لا سيما اليهود. وقال أهل التفسير: لما أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) قال قوم من اليهود- منهم حيي بن أخطب، في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء- إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا. وإنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا، لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول، لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. أي إنه فقير على قول محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه اقترض منا

• قوله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ .. ) المراد من هذا السمع التهديد.

ص: 213

• قال ابن عاشور: وقوله: (لقد سمع الله) تهديد، وهو يؤذن بأنّ هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهاذه العبارة بدون محاشاة، ولأنّ الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر، ولذلك قال تعالى (لقد سمع) المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش، إذ قد علم أهل الأديان أنّ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأنّ الله علم ذلك بل لازمه وهو مقتضى قوله (سنكتب ما قالوا).

• اليهود هم الذين قالوا (يد الله مغلولة) وقالوا: إن الله لما خلق السماوات والأرض استراح يوم السبت.

• وسمع الله ينقسم إلى قسمين:

أولاً: سمع إدراك: أي أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظاهر.

قال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي

).

هذا السمع قد يراد به الإحاطة، كالآية السابقة.

وقد يراد به التهديد، كقوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء).

وقد يراد به التأييد، ومنه قوله تعالى لموسى:(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي أسمعك وأؤيدك.

ثانياً: سمع إجابة: أي أن الله يستجيب لمن دعاه.

ومنه قول إبراهيم (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) أي مجيب الدعاء.

ومنه قول المصلي (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده.

ومنه كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع) أي: من دعاء لا يستجاب.

• قولهم (نحن الأغنياء) وليتهم اقتصروا على قولهم (إن الله فقير) - مع كونه من أعظم المناكر - لكنهم قالوا (ونحن أغنياء) فجعلوا أنفسهم أكمل من الله، وهذا غاية ما يكون من الوقاحة. (ابن عثيمين).

(سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) أي: سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوه في صحائف أعمالهم.

ص: 214

كما قال تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ).

وقال تعالى (أمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).

• قال الشوكاني: المراد الوعيد لهم، وأن ذلك لا يفوت على الله، بل هو معد لهم ليوم الجزاء.

(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: ونكتب جريمتهم الشنيعة بقتل الأنبياء بغير حق، والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم.

• قال الشوكاني: أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي: قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، وجعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء.

• قال ابن الجوزي: فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط، فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك.

(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) المحرق النافذ من البدن إلى الأفئدة.

(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي: ذلك العذاب بما اقترفته أيديكم من الجرائم.

• والمراد بالأيدي هنا أنفسهم، لكن أضيف العمل أو المقدّم بالأيدي، لأن الغالب أن الأيدي هي محل البطش والعمل.

(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بل هو بما كسبت أيديهم.

‌الفوائد:

1 -

إثبات السمع لله تعالى، والمراد به هنا التهديد.

2 -

بيان ما عليه اليهود من الوقاحة والعدوان.

3 -

إثبات الكتابة لله.

4 -

أن اليهود كما اعتدوا على الله، اعتدوا على رسل الله.

5 -

إثبات القول لله تعالى.

6 -

إثبات الأسباب.

7 -

نفي الظلم عن الله لكمال عدله.

ص: 215

(الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183)).

[آل عمران: 183].

(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنزل نار من السماء تأكلها. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.

قيل: هذا من كذب اليهود.

وقيل: كان هذا في التوراة، ولكن كان تمام الكلام: حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان.

وقيل: كان أمر القرابين ثابتاً إلى أن نسخت على لسان عيسى بن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان. فكان هذا القول دعوى من اليهود، إذ كان ثم استثناء فأخفوه، أو نسخ، فكانوا في تمسكهم بذلك متعنتين، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم دليل قاطع في إبطال دعواهم. (تفسير القرطبي).

• ومقصدهم من وراء هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود اللّه، وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم حسداً له، وإنما تركوا الإيمان به، لأنه لم يأت بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به لأنه ليس نبياً صادقاً- في زعمهم -.

ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، إذ أن آيات اللّه في إثبات رسالات رسله متعددة النواحي، مختلفة المناهج، وكون هذا الإتيان بالقربان الذي تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعى أن يكون معجزة لجميعهم. (التفسير الوسيط).

ص: 216

(قُلْ) لهم يا محمد.

(قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالحجج والبراهين.

(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة.

(فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم.

(إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنكم تتبعون الحق وتتقادون للرسل.

‌الفوائد:

1 -

بيان تعنت اليهود.

2 -

أنه ينبغي عند المخاصمة إفحام الخصم بما يدعيه، ليكون ذلك أبلغ في دحض حجته.

3 -

أن الرسل جاءوا بالبينات الدالة على رسالتهم.

ص: 217

(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)).

[آل عمران: 184].

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية من الله تعالى لنبيه.

أي: فإن كذبك قومك يا محمد، فقد كذبت رسل من قبلك.

• قال الرازي: قوله (فَإِن كَذَّبُوكَ) فيه وجوه:

أحدها: فإن كذبوك في قولك أن الأنبياء المتقدمين جاؤوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم.

والثاني: أن المراد: فإن كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك، ولعل هذا الوجه أوجه، لأنه تعالى لم يخصص، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج.

وقال: المقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصاً به من بين سائر الأنبياء، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت.

كما قال تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ).

ص: 218

وقال تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ).

وقال تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ).

وقال تعالى (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ).

وَقَال تَعَالَى (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

وقال تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).

‌ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سَبْعَ أُمَمٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا.

‌الْأُولَى: قَوْمُ نُوحٍ.

وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ لَا تَكَادُ تُحْصَى فِي الْقُرْآنِ، لِكَثْرَتِهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْأَمْثِلَةِ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَكْذِيبِ هَذِهِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا كَقَوْلِهِ (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) وَقَوْلِهِ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

‌الثَّانِيَةُ: عَادٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) وَقَوْلِهِ تعالى (قَالُوا

يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ).

‌الثَّالِثَةُ: ثَمُودُ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكْذِيبَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ)، وَقَوْلِهِ تعالى (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا).

ص: 219

‌الرابِعَةُ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)، وَقَوْلِهِ (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ)، وَكَقَوْلِهِ (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

‌الْخَامِسَةُ: قَوْمُ لُوطٍ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ; كَقَوْلِهِ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) وَقَوْلِهِ (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

‌السَّادِسَةُ: أَصْحَابُ مَدْيَنَ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ شُعَيْبًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) وَقَوْلِهِ (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) وَقَوْلِهِ (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

ص: 220

‌السَّابِعَةُ: مَنْ كَذَّبُوا مُوسَى وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ،

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَذَّبُوا مُوسَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ; كَقَوْلِهِ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وَقَوْلِهِ (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) وَقَوْلِهِ (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ

(جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالبراهين والحجج القاطعة.

(وَالزُّبُرِ) جمع زبور، أي: الكتب الموحاة منه تعالى.

(وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) أي: الواضح الجلي. والزبور والكتاب: واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين. فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.

‌الفوائد:

1 -

تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.

2 -

تسلية لكل داعية إلى الله كذبه قومه.

3 -

أن الرسل يؤذون بالتكذيب.

4 -

أن الرسل لابد أن يأتوا بالبينات.

ص: 221

(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)).

[آل عمران: 185].

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت.

• قال السعدي: هذه الآية الكريمة، فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بغرورها، وتغر بمحاسنها،

ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار، التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر.

قال تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ).

وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

وقال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

وقال تعالى (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ).

فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولاً.

ص: 222

• قوله تعالى (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) المراد بها الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، وهذا قول الأكثر [قاله القرطبي]، وقيل: المراد بالبروج بروج مبنية في السماء، لكن هذا القول ضعيف، لأن الله قال (مشيّدة) وهذا الوصف لا يكون أبداً للبروج السماوية، وإنما يكون للقصور العالية. [قاله الشيخ ابن عثيمين].

• كل ابن أنثى وإن طالت سلامته .... يوما على آلة حدباء محمولُ

الموت: لا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً، ولا يخاف عظيماً، لا يستأذن على الملوك، ولا يلج من الأبواب.

تزود من الدنيا فإنك لا تدري .... إذا جن ليل هل تبقى إلى الفجر

الموت: يموت الصالحون ويموت الطالحون، ويموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت مريدوا الآخرة، ويموت مريدوا الدنيا.

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب .... متى حط عن نعشه ذاك يركب

إنه جدير بمن الموت مصرعُه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أنْ لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له.

قال الحسن: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي عقل عقلا.

قال بعض العلماء لأحد إخوانه: احذر الموت في هذه الدنيا قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.

قال أبو الدرداء: إذا ذكرت الموت فعد نفسك أحدهم.

قال الدّقاق: من أكثر من ذكر الموت أُكرمَ بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة).

ص: 223

قالت عائشة لامرأة: أكثري ذكر الموت يرق قلبك.

وقال الأوزاعي: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه.

وقال ثابت البناني: ما أكثر أحد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله.

وقال ابن عجلان: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا

وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله.

وقال الحسن: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وقال الحسن: ما ألزم عبد ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده.

وقال أبو الدرداء: من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده.

وقال سعيد بن جبير: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد عليّ قلبي.

وقال الأوزاعي: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير.

وقال الثوري: لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون ما أكلتم منها سمينا.

وقال الحسن بن عبد العزيز: من لم يردعه القرآن والموت، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.

وقال أبو نعيم: كان الثوري إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً، وفي الحديث: أكثروا ذكر.

وقال بعضُ السَّلف: ما نمتُ نوماً قط، فحدثتُ نفسي أنِّي أستيقظ منه.

وكان حبيبٌ أبو محمد يُوصي كُلَّ يومٍ بما يوصي به المحتضِرُ عند موته من تغسيله ونحوه، وكان يبكي كلَّما أصبح أو أمسى، فسُئِلَت امرأته عن بكائه، فقالت: يخاف - والله - إذا أمسى أنْ لا يُصبح، وإذا أصبح أنْ لا يُمسي.

ص: 224

وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلَّها أنْ تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم.

وقال بكر المزني: إنِ استطاع أحدُكم أن لا يبيت إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ، فليفعل، فإنَّه لا يدري لعله أنْ يبيتَ في أهلِ الدُّنيا، ويُصبح في أهلِ الآخرة.

وكان أويسٌ إذا قيل له: كيف الزمانُ عليك؟ قال: كيف الزمانُ على رجل إنْ أمسى ظنَّ أنَّه لا يُصبحُ، وإنْ أصبح ظنَّ أنَّه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار؟

تزود من الدنيا فإنك لا تدري

إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة

وكم من سقيم عاش حينا من الدهر

وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا

وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدري

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم

وقد أدخلت أجسامهم ظلمة القبر

وكم من عروس زينوها لزوجها

وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

فمن عاش ألفا وألفين

فلا بد من يوم يسير إلى القبر

قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب فيها.

وقال التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى.

ونظر ابن مطيع ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها، فبكى وقال: والله لولا الموت لكنت بكِ مسروراً.

الموت بابٌ وكلُ الناس داخلُه

يا ليت شعري بعد البابِ ما الدارُ

قال الشاعر:

هو الموتُ ما منه ملاذ ومهرب

متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ.

وقال الآخر:

الموت بابٌ وكل الناس داخله

يا ليت شعري بعد الموت ما الدارُ.

كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.

ص: 225

إنه جدير بمن الموت مصرعُه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار موعده، أنْ لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له.

• ينبغي الاستعداد للموت بالعمل الصالح.

قال تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

وقال تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ

(10)

وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

قال صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) رواه الحاكم.

وقال ابن عمر: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّة) رواه مسلم.

ص: 226

وقد نقل النووي تفسير جملة (أو خاصة أحدكم) بأنها الموت يأتي فيحول بين المرء وبين العمل حتى يتمنى المرء أن يرجع إلى الدنيا ليتمكن من عمل صالح طالما أعرض عنه في دار الدنيا.

وقال عونُ بنُ عبد الله: ما أنزل الموتَ كُنْهَ منْزلته مَنْ عدَّ غداً من أجله. كم من مستقبل يوماً لا يستكمِلُه، وكم من مؤمِّل لغدٍ لا يُدرِكُه، إنَّكم لو رأيتم الأجلَ ومسيرَه، لأبْغَضتُم الأمل وغُرورَه، وكان يقولُ: إنَّ من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنَّه لا يدرك آخره.

وكانت امرأةٌ متعبدة بمكة إذا أمست قالت: يا نفسُ، الليلةُ ليلتُك، لا ليلةَ لكِ غيرها، فاجتهدت، فإذا أصبحت، قالت: يا نفس اليومُ يومك، لا يومَ لك غيره فاجتهدت.

وقال بكرٌ المزنيُّ: إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل: لعلِّي لا أُصلِّي غيرها، وهذا مأخوذٌ مما رُوي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال (صلِّ صلاة مودِّع).

وأقام معروفٌ الكرخيّ الصّلاةَ، ثم قال لرجل: تقدَّم فصلِّ بنا، فقال الرجل: إنِّي إنْ صليتُ بكم هذه الصلاة، لم أُصلِّ بكم غيرَها، فقال معروف: وأنتَ تحدِّث نفسك أنّك تُصلِّي صلاةً أخرى؟ نعوذُ بالله من طولِ الأمل، فإنَّه يمنع خيرَ العمل.

وطرق بعضُهم بابَ أخٍ له، فسأل عنه، فقيل له: ليس هو في البيت، فقال: متى يرجع؟ فقالت له جارية من البيت: من كانت نفسُه في يد غيره، من يعلم متى يرجِعُ.

(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: تعطون أجوركم جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) أي: من جنب النار ونجا منها، وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز، بنجاته من العذاب الأليم، ووصوله إلى جنات النعيم، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

• ومفهوم الآية أن من لم بزحزح عن النار ويدخل الجنة فقد شقي شقاء لا سعادة بعده.

ص: 227

(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة.

• قوله تعالى (الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) هي هذه الحياة التي نعيشها التي قبل الآخرة، وسميت لدنيا لسببين:

السبب الأول: لأنها قبل الآخرة في الزمن.

السبب الثاني: لدناءتها وحقارتها بالنسبة للآخرة. كما قال تعالى (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري.

فمتاع الدنيا يزول، أو أنت تزول عنه، وكذلك نعيمه فهو قليل بالنسبة لنعيم الآخرة.

قال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

وقال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ).

وقال تعالى (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ).

وقال تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

وفي الحديث (واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ، فلينظر بِمَ تَرْجِع إليه).

ص: 228

قال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).

وقال تعالى (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).

وقال تعالى (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).

• ففي هذه الآية حقارة الدنيا وخستها، وأنها متاع زائل.

كما قال تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).

وقال سبحانه وتعالى عن مؤمن فرعون أنه قال لقومه (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ).

وقال القرطبي: متاع: أي يتمتع بها قليل ثم تنقطع وتزول. ودار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود.

قال ابن رجب: وقال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) والمتاع: هو ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع ويفنى.

ص: 229

فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس وعمارتها بالخراب واجتماعها بفرقة الأحباب وكل ما فوق التراب تراب قال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقا تبلى أو لحما يأكله الدود غدا كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: يا دار تخربين ويموت سكانك.

وقال صلى الله عليه وسلم (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه

) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه الترمذي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) رواه مسلم

قال النووي رحمه الله: ما للدنيا بالنسبة للآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر.

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمر (يا ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري وفي رواية (وعد نفسك من أهل القبور).

هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر، وهي في الواقع وصية له وللأمة من بعده رضي الله عنه، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور، قال الإمام النووي رحمه الله في معنى الحديث (لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنا، ولا تحدّث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه).

ص: 230

‌من أقوال السلف:

قال موسى عليه الصلاة والسلام: الدنيا قنطره فاعبروها ولا تعمروها.

وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: من ذا الذي يبني على موج البحار داراً تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً.

وقال: مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً حتى يقتله.

وقد خرج أبو الدرداء على أهل الشام ورآهم في ترف فقال لهم: مالي أراكم تجمعون ما لا تأخذون، وتبنون ما لا تسكنون، وتؤمّلون ما لا تأخذون، لقد جمعت الأقوام التي قبلكم وأمّنتْ، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بوراً، وأملهم غروراً، وبيوتهم قبوراً، فجعل الناس يبكون حتى سمع نشيجهم من خارج المسجد.

وقال أبو داود وهو من تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت الإمام أحمد بن حنبل ذكر الدنيا.

وقال ابن القيم: لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سم الإبرة.

وقال: الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج، والسير في طلبها كالسير في أرض مسبعة - أي كثيرة السباع - السباحة فيها كالسباحة في غدير التمساح.

‌الفوائد:

1 -

إثبات الموت لكل حي.

2 -

وجوب الاستعداد للموت قبل وقوعه.

3 -

الحساب والجزاء كاملاً يوم القيامة.

4 -

إثبات الجزاء والحساب.

5 -

أن من نجا من النار ودخل الجنة فقد فاز.

6 -

الشقاء لمن كان من أهل النار.

ص: 231

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)).

[آل عمران: 186].

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) كقوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي: لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، إن كان في دينه صلابة زيد في البلاء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (مَا يَزَالُ البَلَاءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَة) رواه الترمذي.

وعنه. قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْه) رواه البخاري.

• قال ابن رجب: في فوائد البلاء:

تذكير العبد بذنوبه فربما تاب ورجع.

زوال قسوة القلوب وحدوث رقتها.

انكساره لله وذلهِ وذلك أحب إلى الله من كثير من طاعات الطائعين.

أنها توجب للعبد الرجوع بقلبه إلى الله والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة.

أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوق.

أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به.

قال بعض السلف: إن العبد ليُمرَض فيذكر ذنوبه فيخرج منه مثل رأس الذباب من خشية الله فيغفر له.

وقال بعض العلماء: في بعض الكتب السابقة إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه.

• وقال القاسمي: وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام، رحمه الله تعالى، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. قال عليه الرحمة: للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس:

أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.

والثانية: معرفة ذلة العبودية وكسرها، وإليه الإشارة بقوله تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، اعترفوا بأنهم

ملكه وعبيده، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.

والثالثة: الإخلاص لله تعالى؛ إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه، ولا معتمد في كشفها إلا عليه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)(فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

ص: 232

الرابعة: الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ).

الخامسة: التضرع والدعاء (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا)(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ).

السادسة: الصبر عليها، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه.

قال تعالى (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وقال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

السابعة: تمحيصها للذنوب والخطايا.

قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير).

الثامنة: معرفة نعمة العافية والشكر عليها.

فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.

التاسعة: ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.

العاشرة: ما في طيّها من الفوائد الخفية.

قال تعالى (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

وقال تعالى (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر. فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية.

الحادية عشرة: إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر.

فإن نمرود، لو كان فقيراً سقيماً، فاقد السمع والبصر، لما حاجّ إبراهيم في ربه، لكن حمله بطرُ الملك على ذلك، وقد علل الله سبحانه وتعالى مُحاجّته بإتيانه الملك، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) وقال تعالى (وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال تعالى (إِنَّ الْإِنْسَاْن لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) وقال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ).

ص: 233

وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).

الثانية عشرة: الرضا الموجب لرضوان الله تعالى، فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا والرضا أفضل من الجنة وما فيها؛ لقوله تعالى (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي: من جنات عدن ومساكنها الطيبة.

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الصبر على أذى الخلق أفضل من الانتقام منهم.

(وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) من الطعن فيكم، وفي دينكم، وكتابكم ورسولكم.

• فمن صور الأذى التي يسمعها المؤمنون منهم:

قول اليهود: عزير ابن الله، وقولهم: يد الله مغلولة، وقولهم: إن الله فقير، وقولهم - مع النصارى - نحن أبناء الله، احباؤه، وكذلك يسمعون من النصارى: المسيح ابن الله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.

ومن صور الأذى التي تسمع من الذين أشركوا قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم: ساحر، مجنون، كذاب.

• قال السعدي: وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك عدة فوائد:

منها: أن حكمته تعالى تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره.

ص: 234

ومنها: أنه تعالى، يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر (قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً).

ومنها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع، لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من الابتلاء والامتحان، وعلى أذية الظالمين.

(وَتَتَّقُوا) الله في ذلك الصبر، بأن تنووا به وجه الله، والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم.

(فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ).

‌الفوائد:

1 -

سنة الله في ابتلاء أوليائه.

2 -

عداوة الكفار الدائمة للمؤمنين.

3 -

الصبر والتقوى سبب للانتصار.

ص: 235

(وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)).

[آل عمران: 187].

(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ

) هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهْبَة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.

وفي هذا تَحْذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويُسْلكَ بهم مَسْلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سُئِل عن عِلْم فكَتَمه ألْجِم يوم القيامة بِلجَامٍ من نار. (تفسير ابن كثير).

• قال ابن الجوزي: قوله تعالى (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ

) في هاء الكناية في (لتبيننه) و (تكتمونه) قولان:

أحدهما: أنها ترجع إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول من قال: هم اليهود.

والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا.

• أدلة تحريم كتمان العلم ووجوب تبيينه:

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ص: 236

• قال ابن تيمية: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لما في ذلك من عموم النفع لكل شيء، وعكسه كاتموا العلم، فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

قال ابن المبارك رحمه الله:

وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ

وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا

وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا

ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا

لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ

يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا

وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته (يا معْشرَ العلماء، ديارُكم هَامَانيَّة، وملابِسُكُم قَارُونية، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية، فأين السنّةُ المحمدية؟).

• قال الشيخ ابن عثيمين: المنحرف عن الدين وعن نشر العلم ينحرف لأحد سببين:

السبب الأول: خشية الناس.

السبب الثاني: الطمع في الدنيا.

قال تعالى في سورة المائدة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً).

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب) هذا متّصل بذكر اليهود؛ فإنهم أمِروا بالإيمان بمحمد عليه السلام وبيانِ أمره، فكتموا نعته.

فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم.

قال الحسن وقتادة: هي في كل من أُوتي عِلم شيء من الكتاب.

فمن عَلم شيئاً فليُعلِّمه، وإيّاكم وكتمانَ العلم فإنه هَلكة.

وقال محمد بن كعب: لا يحلّ لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله؛ قال الله تعالى (وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب

).

وقال (فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء؛ ثم تلا هذه الآية (وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب). (تفسير القرطبي).

(فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) المراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد، ونقيضه: جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه.

ص: 237

(واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد، من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم، أو لجر منفعة، أو لتقية وخوف، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد.

• قال ابن عاشور في قوله تعالى في سورة البقرة (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشترِي في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته.

• وقال رحمه الله: (ثمناً قليلاً) وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم.

• قال القرطبي: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول مَن فعل فعلهم.

سئل الحسن البصري عن قوله تعالى (ثَمَناً قَلِيلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.

• وصفه الله بأنه قليل، لأن جميع ما في الدنيا قليل (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى).

• فالثمن القليل: يشمل المال والمنصب والجاه والشهرة والرفعة، فإن أحبار اليهود لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لذهبت عنهم بعض ما هم فيه من المكانة والمنزلة والرفعة.

وقد صدق من قال من السلف: من أحب أن يعرف ذهب دينه.

قال الحسن رحمه الله: عقوبة العالم موت القلب، قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة (جامع بيان العلم وفضله)

ص: 238

قال محمد بن عمر الأسلمي رحمه الله: لقد كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان، فيقول أحدهما لصاحبه: لأنت أفلس من القاضي، فصار القضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكاً وأصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال! (الطبقات الكبرى)

قال يوسف بن زكريا رحمه الله: كان محمد بن يوسف، لا يشتري من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن أعيش بديني؟ (حلية الأولياء).

جلس الحسن رحمه الله يُحَدّث فأُهدِيَ له فردَّه، وقال: إن من جلس هذا المجلس ثم قَبِل، فليس له عند الله خلاق، أو قال: فليس له خلاق (الزهد لأحمد).

قال وهب بن منبه - توفي سنة (114 هـ) رحمه الله: كان العلماء من قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إليها، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم، فأصبح أهل العلم يبذلون لأهل الدنيا عِلمَهُم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم، لما رأوا من سوء موضعه عندهم. (حلية الأولياء).

قال أبو حازم رحمه الله لا تكون عالماً حتى تكون فيك خصال: لا تبغ على من فوقك ولا تحقر من دونك ولا تأخذ على علمك دنيا. (المداراة).

قال مطرف بن عبد الله رحمه الله إن أقبحَ ما طُلبت به الدنيا عملُ الآخرة. (حلية الأولياء).

قال شميط بن عجلان رحمه الله يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره، وحملها على رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي،

فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها. وكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(حلية الأولياء).

قال خالد بن دُرَيك رحمه الله: خرج ابن محيريز إلى بزاز يشتري منه ثوباً والبزاز لا يعرفه قال: وعنده رجل يعرفه فقال: بكم هذا الثوب قال الرجل: بكذا وكذا فقال الرجل الذي يعرفه: أحسن إلى ابن محيريز، فقال ابن محيريز: إنما جئت أشتري بمالي ولم أجيء أشتري بديني فقام ولم يشتر. (حلية الأولياء).

ص: 239

قال ابن المبارك رحمه الله إنما الناس العلماء والملوك والزهاد، والسفلة الذين يأكلون بدينهم أموال الناس بالباطل ثم قرأ (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل).

قال (يأكلون الدنيا بالدين، قال: فبكى فضيل بن عياض بكاءاً شديداً ثم قال: كذب من قال: إنه لا يأكل بدينه أنا -والله- آكل بديني. (شعب الإيمان).

• وقد ذكر العلامة المعلمي أن المنزلة والجاه من موانع الهداية فقال رحمه الله بعد أن ذكر الوجه الأول:

الوجه الثاني: أن يكون قد صار في الباطل جاه وشهرة و معيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.

‌الفوائد:

1 -

تحريم كتمان العلم.

2 -

يجب على أهل العلم تبليغ العلم ونشره وبثه.

3 -

أن من صفات اليهود كتم العلم.

4 -

أن كل من كتم علماً ففيه شبه من اليهود.

5 -

خطر طلب الرئاسة والمكانة عند الناس.

6 -

خطر فتنة الدنيا.

ص: 240

(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)).

[آل عمران: 188].

(ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) أي: لا تظنن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا.

(وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) أي: ويحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال.

(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) أي: فلا تظننهم بمنجاة من عذاب الله.

(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: عذاب مؤلم.

وقد ورد في سبب نزولها عدة روايات:

أ- أخرج البخاري في صحيحه: عن عَلْقَمَةَ بْن وَقَّاصٍ (أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ (يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).

ب- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ (لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ)). متفق عليه.

ج- وقيل: يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيح (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبيْ زور).

د- وقيل: نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه السلام أن يحمدهم على الإيمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم.

ص: 241

ورجح الطبري أنها في أهل الكتاب، لأن السياق فيهم.

وقال الرازي: واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله.

وقال الشوكاني: وقد اختلف في سبب الآية، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملاً بعموم اللفظ، فمن فرح بما فعل وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل فلا تحسبنه بمفازة من العذاب.

• قال السعدي: ويدخل في هذه الآية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من العلم، ولم ينقادوا للرسول، وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم ومقالهم، وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية، وفرح بها، ودعا إليها، وزعم أنه محق وغيره مبطل، كما هو الواقع من أهل البدع.

ودلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق، إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة، أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة، التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين له الأعمال والأقوال، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه.

كما قال إبراهيم عليه السلام (واجعل لي لسان صدق في الآخرين).

وقال (سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين).

وقد قال عباد الرحمن (واجعلنا للمتقين إماماً) وهي من نعم الباري على عبده، ومننه التي تحتاج إلى الشكر. (تفسير السعدي).

فائدة: قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجل: من هنا إلى بلاد الترك يدعون لك، فكيف تؤدي شكر ما أنعم الله عليك، وما بث لك في الناس؟ فقال أسأل الله أن لا يجعلنا مرائين.

‌الفوائد:

1 -

تحذير من يفرح بما أتى فرح منةٍ أو فرح غدر وخيانة كالمنافقين.

2 -

التحذير من محبة الإنسان أن يحمد بما لم يفعل.

3 -

أن من كان على هذه الحال فلن ينجو من العذاب.

4 -

الحذر من الرياء ومن التظاهر بالصلاح وهو على خلاف ذلك.

5 -

حب الإنسان للمدح.

ص: 242

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

[آل عمران: 189].

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: خلقاً وملكاً وتدبيراً، فهو سبحانه مالك الأعيان، ومالك التصرف فيها.

• والفائدة من إيماننا بأن لله ملك السموات والأرض يفيد فوائد:

الفائدة الأولى: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء ..

يدل لذلك ما أمرنا الله به أن نقول عند المصيبة (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

ويدل لذلك أيضاً ما بينّه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته التي أشرف ابنها على الموت، حينما أرسلت إليه ليأتي، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).

الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه.

الفائدة الثالثة: أن كل ما في الكون ملك لله الأحد سبحانه وتعالى من غير شريك، فما لدينا من مال ومتاع وجاه ليس ملكاً لنا بل هو ملك لله، وإنما نحن مستخلفون فيه للابتلاء والاختبار، كما قال تعالى (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون

) رواه مسلم.

• فإن قال قائل: ابن آدم يملك؟ فالجواب: أن ملكنا ليس ملكاً عاماً، فملكي ليس ملك لك، وملكك ليس ملكاً لي، ثم نحن لا نملك التصرف فيها، فتصرفنا محدود حسب الشريعة، فلو أراد الإنسان أن يحرق ماله فإنه هذا ممنوع ولا يجوز، فملك غير الله قاصر وغير شامل.

• قال الشيخ ابن عثيمين: يشمل ملك الذوات، أي: ملك ذات السماوات والأرض، وملك التصرف فيهما، يتصرف فيهما كما يشاء، فهو الذي أوجدهما وهو الذي يمسكهما أن تزولا، وهو الذي يدبر ما فيهما، وهو الذي يتلفهما، ويُفنيهما عند قيام الساعة.

• نستفيد من ذلك:

أولاً: الرضا بقضاء الله، وأن الله لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء.

ثانياً: الرضا بشرعه وقبوله والقيام به، لأنك ملكه، إذا قال لك: افعل كذا فافعل، وإذا قال: لا تفعل: فلا تفعل.

ص: 243

• قوله تعالى (السَّمَاوَاتِ) هذا جمع، وقد صرح الله في القرآن بأن السموات سبع كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) وقال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً).

• قوله تعالى (والأرض) جاء في القرآن التلميح بأنها سبع في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي في العدد، وجاءت في السنة التصريح بأنها سبع في قوله صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أراضين) متفق عليه.

(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء، صغيراً أو كبيراً، قليلاً أو كثيراً، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

• قال الشنقيطي: جرت العادة بذكر قدرته عند الأمور التي لا يستطيعها البشر، كما ذكر ذلك عند نصره لعباده الضعفاء المتمسكين بدينه كقوله تعالى في الأحزاب (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وقال في الحديبية (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

ومن قدرته أنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

• قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الآية عامة، فهو قدير على كل شيء، على ما شاءه وما لم يشأه، وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ، لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما يشاء، وأما قوله تعالى (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع، يعني: إذا أراد جمعهم وشاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجزه شيء.

‌الفوائد:

1 -

أن ملك السماوات والأرض خاص بالله تعالى.

2 -

أن الملك المطلق لله وحده.

3 -

عموم قدرة الله.

(الخميس: 16/ 12/ 1433 هـ)

ص: 244

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)).

[آل عمران: 190 - 194].

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع.

وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر في السماوات والأرض الدالة على توحيده وعظمته وجلاله في آيات كثيرة:

فقال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ).

وقال تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ).

وقال تعالى (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ).

وقال تعالى (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

وقال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

• وهما من أعظم المخلوقات، وهما من أدلة البعث، حيث أن من قدر على خلق الأعظم فهو على غيره من باب أحرى.

قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ص: 245

وقال تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا).

• وخلقهما سبحانه بالحق كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

وقال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ).

فمن الحق الذي كان خلقهما من أجله: إقامة البرهان على أنه الواحد المعبود وحده جلا وعلا.

كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقال تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ولما بين تعالى في أول سورة الفرقان، صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق، قال في صفات من يستحق العبادة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).

والآيات في مثل ذلك كثيرة تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق ومن الحق الذي من أجله خلق السموات والأرض، تعليمه لخلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما: هو تكليف الخلق، وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه، لا يتأخر عنه لحظة (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ).

ص: 246

• وهذا البرهان ذكره الله تعالى في عدة مواضع:

قال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

وقال تعالى (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).

وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).

(لَآياتٍ) أي: لعلامات ودلالات وبراهين.

• قال القاسمي: عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كَمّاً وكيفاً.

(لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون.

قال الله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

• وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوتة.

• قال ابن القيم: الرب تبارك وتعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:

أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة.

فالنوع الأول كقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

). وقوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) وهو كثير في القرآن.

والثاني كقوله (أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقوله (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) وقوله (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ).

ص: 247

• وآيات الله تنقسم إلى قسمين:

o الآيات الكونية القدرية (فهي مما نشاهده مما لا يستطيع البشر أن يخلقوا مثلها).

وهي ما نصبه الله (جل وعلا) ليدل به خلقه على أنه الواحد الأحد المستحق للعبادة، كالشمس والسماء والأرض ونحوها، وكل ما في الكون من مخلوقات الله شاهد بكمال الله وقدرته وعزته وأنه المستحق للعبادة.

قال تعالى (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي: لعلامات واضحة جازمة قاطعة بأن من خلقها هو رب هذا الكون، وهو المعبود وحده.

o الآيات الشرعية الدينية، كآيات هذا القرآن العظيم. (لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله).

ومنه قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ).

وسميت آيات، جمع آية، لأنها علامة على صدق من جاء بها.

الكفر بالآيات الكونية يكون بأمور: أن يجحد أن الخالق سبحانه خلقها فيدعي أن الذي خلقها غير الله، أو أن يعتقد أن له شريكاً في خلقه، أو أن له معيناً في خلقه.

والكفر بالآيات الشرعية إما بجحودها، أو بتكذيبها، أو بالاستكبار والعناد.

• ثم وصف تعالى أولي الألباب بقوله:

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) أي: لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم، بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم.

• قال القرطبي: ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلوا ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصُر زَمانه.

ومن هذا المعنى قولُ عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.

ص: 248

• قال الرازي: للمفسرين في هذه الآية قولان:

الأول: أن يكون المراد منه كون الإنسان دائم الذكر لربه، فإن الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلاً على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة.

والقول الثاني: أن المراد من الذكر الصلاة، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام، فإن عجزوا ففي حال القعود، فإن عجزوا ففي حال الاضطجاع، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال.

والحمل على الأول أولى.

لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر.

• وقال ابن عاشور: وقيل: أراد أحوال المصلّين: من قادر، وعاجز، وشديد العجز، وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى.

وقد أمر الله بالإكثار من ذكره:

فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).

وقال تعالى (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ

وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً

وَأَجْراً عَظِيماً).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً).

وقال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ص: 249

•‌

‌ وللذكر فضائل عظيمة:

منها: أنه يورث العبد ذكر الله له.

كما قال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

قال ابن القيم: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً.

وقال صلى الله عليه وسلم (قال تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم) متفق عليه.

ومنها: أنه سبب لنزول السكينة وغشيان الرحمن.

كما في حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.

ومنها: أنه غرس الجنة.

كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لقيت ليلة اسري بي إبراهيم الخليل فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي.

ومنها: أن دوام ذكر الرب يوجب الأمان من نسيانه وهو سبب شقاء العبد.

فإن نسيان الرب سبحانه يوجب نسيان نفسه ومصالحها، قال تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ومنها: أن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال.

كما قال صلى الله عليه وسلم (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي .. ) متفق عليه.

ومنها: أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله.

كما في الحديث (

وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك رجل خرج العدو في أثرهِ سراعاً، حتى أتى إلى حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله

) رواه الترمذي.

قال ابن القيم: فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة، لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى.

ص: 250

وكما في الحديث السابق (من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده

، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك).

ومنها: أن سيد المرسلين كان كثير الذكر.

كما في حديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم.

ومنها: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله فيه.

كما سبق في حديث (لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم.

وكما في حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة فُضُلاً سيارة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادّوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ..... ) رواه مسلم.

ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته.

كما في حديث معاوية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم استحلفكم تُهمة لكم، ولكنه أتاني

جبريل فأخبرني: أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) رواه مسلم.

ومنها: أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.

كما في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ابنته فاطمة وعلياً أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، فعلمها صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: إنه خير لك من خادم) متفق عليه.

ص: 251

قال ابن القيم: قيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في بدنه مغنية عن خادم.

ومنها: أن كثرة ذكر الله أمان من النفاق.

قال تعالى في المنافقين وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال كعب: من أكثر ذكر الله برئ من النفاق.

ومنها: أن العبادات إنما شرعت لذكر الله.

ومنها: أنه من أحب الأعمال إلى الله.

كما أوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً بقوله (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) رواه الترمذي.

ومنها: أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل.

فإن العبد لابد أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله تعالى، وذكر أوامره، تكلم بهذه المحرمات أو بعضها.

• من أقوال السلف في ذكر الله تعالى:

قال أبو الدراء: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله.

وقال معاذ: ما عمل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله.

وقال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس.

وقال كعب: من أكثر من ذكر الله برأ من النفاق.

وقال ابن تيمية: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.

وقال ابن القيم: الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم.

وقال: من أراد أن ينال محبة الله فليلهج بذكره.

وقال: وكل شيء له صدأ، وصدأ القلب الغفلة والهوى، وجلاؤه الذكر والتوبة.

وعن عكرمة: أن أبا هريرة كان يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ويقول: أسبح بقدر ذنوبي.

وقال ابن السماك: رأيت مسعراً في النوم، فقلت: أي العمل وجدت أنفع؟ قال: ذكر الله.

وقال أحمد بن حنبل: صحبت هشيْماً أربع سنين أو خمس، ما سألته عن شيء إلا مرتين هيبة له، وكان كثير التسبيح بين الحديث، يقول بين ذلك: لا إله إلا الله، يمد بها صوته.

ص: 252

وقال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.

وقالت رابعة العدوية لصالح المري: يا صالح، من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

وعن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.

وعن ميمون بن سياه قال: إذا أراد الله بعبده خيراً: حبب إليه ذكره.

وعن ذي النون المصري: ما طابت الدنيا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنان إلا برؤيته.

(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وعلمه وحكمته، واختياره ورحمته.

• التفكر هو: تكرار تأمل القلب في الشيء مرّات ومرات، حتى يتعرف العبد على خباياه وأسراره قدر طاقته.

• قال ابن القيم: الفكرة هي تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماساً له.

• وقد أمر الله بالتفكر في آياته في مواضع كثيرة:

قال تعالى (وقال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

وذك المتغافلين المعرضين عن التفكر.

قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ).

ص: 253

• قال ابن القيم: إذا غذي القلب بالتذكر، وسقيَ بالتفكر، ونُقي من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة.

• وقال رحمه الله: معرفة الله سبحانه نوعان: الأول: معرفة إقرار وهي التي اشترك فيها الناس البر والفاجر والمطيع والعاصي. والثاني: معرفة توجب الحياء منه والمحبة له وتعلق القلب به والشوق إلى لقائه وخشيته والإنابة إليه والأنس به والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم.

ولهذه المعرفة بابان واسعان:

الباب الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله.

والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط.

وقال رحمه الله: والتذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على التذكرة، وبتذكره على تفكره، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم.

سئلت أم ذر عن عبادة أبي ذر فقالت: التفكر والاعتبار.

وقال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.

وقال: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته فكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.

وقال الفضيل: الفكرة مرآةُ تريك حسناتِك وسيئاتِك.

وقال ابنُ بَطَّال: إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه، وكَثُر تفكُّره، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف.

وقال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئٍ قط إلا علِم، وما علِم امرؤ قط إلا عمِل.

وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله حسن، والفكرةُ في نِعم الله أفضل العبادة.

وقال بشر: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه قط.

وقال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلبُ ساهٍ.

بينما أبو شريح يمشي يوماً إذ جلس، ثم بكى بكاء شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تفكرت في ذهاب عمري، وقلة عملي، واقتراب أجلي.

وقال الشافعي: استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة.

ص: 254

قال ابن القيم معلقاً: وهذا لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلبُ أشرف من الجوارح، فكان عمله أشرف من عمل الجوارح، وأيضاً فالتفكر يوقع صاحبه من الإيمان على ما لا يوقعه العمل المجرد.

وقال ابن الجوزي: همة المؤمن متعلقةٌ بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحرّكه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله.

ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر إلى الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى النسيج المخيط.

والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما ثم، وذلك يشغله عن كل ما تم.

قال بعض الحكماء: أحْي قلبك بالمواعظ، ونوّره بالفكر، وموِّته بالزهد، وقوِّه باليقين، وذلله بالموت، وقرّره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا.

سئل أعرابي عن دليل على وجود الله فقال: سبحان الله! سماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذاتُ أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير!!

قال ابن القيم: أنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك

(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) أي: ما خلقت هذا الخلق عبثاً، بل لتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

(سُبْحَانَكَ) تنزيهاً لك يا رب أن تخلق شيئاً باطلاً.

قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ.

وقال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ).

ص: 255

وقال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم).

وقال تعالى (أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي: يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.

كما قال تعالى عن عبد الله الصالحين (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً).

‌الفوائد:

1 -

الحث على التأمل في خلق السماوات والأرض.

2 -

آية اختلاف الليل والنهار.

3 -

الثناء على أصحاب العقول.

4 -

تنوع الآيات ليزداد المؤمن إيماناً.

5 -

أنه كلما كان الإنسان أعقل كان بالله وآياته أعلم.

6 -

فضل ذكر الله على كل حال.

7 -

فضيلة التفكر في خلق السماوات والأرض.

8 -

التوسل إلى الله تعالى بالربوبية حال الدعاء.

9 -

تنزيه الله عن أن يخلق لغير حكمة.

10 -

أن من أسماء الله الحكيم المتضمن الحكمة الكاملة.

11 -

تنزيه الله عن العبث.

12 -

وجوب الاستعاذة من النار.

(الجمعة: 17/ 12/ 1433 هـ).

ص: 256

(رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)).

[آل عمران: 192 - 194].

(رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع.

• قال ابن عاشور: قولهم (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار، كما توذن به (إنّ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا.

• قال الشوكاني: بيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه، أي: أذله وأهانه.

• قال الرازي: اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقروناً بالإخلاص، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء.

ص: 257

• قال ابن الجوزي قوله تعالى (فقد أخزيته) فيما يتعلق به هذا الخزي قولان:

أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلداً.

والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير.

(وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) أي: يوم القيامة لا مُجير لهم منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم.

والمراد بالظلم هنا الشرك، فإن الشرك ظلم، لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك ظالم، لأنه وضع العبادة التي هي حق لله تعالى وحده، وضعها في المخلوق الضعيف الفقير أو وضعها لصنم أو حجر أو شجر، ولأجل هذا البيان فإن القرآن يكثر الله فيه إطلاق الظلم على الشرك.

كما قال تعالى عن العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم).

وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال: بشرك، ثم تلا قول لقمان (إن الشرك لظلم عظيم).

وقال تعالى (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) أي: من المشركين.

ولم يأت الظلم في القرآن إلا بهذا المعنى، إلا في موضع واحد في سورة الكهف، بمعنى النقص، كما قال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي ولم تنقص.

• وقد يطلق الظلم على ظلم الإنسان نفسه ببعض المعاصي التي لا تبلغ الكفر، ومنه قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) بدليل قوله في الجميع (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)، لأن هذا أطاع الشيطان وعصى ربه فقد وضع الطاعة في غير موضعها.

(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) أي: داعياً يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالأكثر أن الداعي هو محمد عليه الصلاة والسلام.

والدليل عليه قوله تعالى (ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ)(وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ)(أَدْعُو إلى الله).

• قال البغوي: يعني محمداً، قاله ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين.

• قال الشوكاني: المنادي عند أكثر المفسرين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو القرآن.

• قوله تعالى (يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) أي: (إلى) الإيمان كقوله تعالى (بأن ربك أوحى لها) أي: أوحى إليها، وكقول المؤمنين (الحمد لله الذي هدانا لهذا) أي: إلى هذا، وقيل: اللام للعلة، أي: لأجل الإيمان.

ص: 258

(أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي: يقول: آمنوا.

(فَآمَنَّا) أي: فاستجبنا له واتبعناه.

(رَبَّنَا) تكرير النداء ب (ربنا) لإظهار التضرع والخضوع.

(فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) أي: بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها وامحها.

(وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) جمع سيئة، وسميت سيئة، لأنها تسوء صاحبها في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا بظهور آثارها عليه من الهمّ والضيق في الصدر والخلق والرزق، فيفقد من السعادة في الحياة بقدر ما عمل من السوء، قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وقال تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). وتسوؤه آجلاً بعد موته لمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه، وربما تسوء غيره بأن يتعدى ضررها إلى الغير مباشرة، أو بأن يكون لها أثرها السيء على البلاد والعباد عامة بمحق البركات وقلة الخيرات، كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم (ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء) رواه ابن ماجه

ص: 259

• اختلف في المراد بالذنوب والسيئات هنا على أقوال:

قيل: المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر، كما قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً). فطلبوا تكفير الصغائر، لأن الصغائر تكفرها الطاعات.

وقيل: أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب.

قال الشوكاني: والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين، والآخر بالآخر، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحداً، والتكرير للمبالغة والتأكيد.

وقيل: المراد بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنف.

وقيل: أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة، وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة.

وقيل: أن يكون المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنباً، وبالثاني: ما أتى به الإنسان مع جهله بكونه معصية وذنباً.

(وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) أي: ألحقنا بالصالحين المكثرين من الطاعات والأعمال الصالحات.

والأبرار: جمع بار أو بر، وأصله من الاتساع، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رجمته.

• وليس في هذا دعاء بالموت، وإنما هو نظير قول يوسف عليه السلام (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).

• في هذا جواز التوسل بالعمل الصالح، فالتوسل المشروع أنواع:

الأول: التوسل إلى الله باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا.

كأن يقول المسلم في دعائه (اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير، أن تعافيني) ودليل مشروعية هذا النوع من التوسل:

قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى.

ومن الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي

) رواه النسائي.

ص: 260

ومنها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في تشهده: اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال صلى الله عليه وسلم:(قد غفر له قد غفر له). رواه أبو داود

ومنها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) رواه الترمذي.

بهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله باسم من أسمائه أو صفة من صفاته.

الثاني: التوسل إلى الله بعمل صالح قام به الداعي.

كأن يقول المسلم (اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي). وأدلة هذا النوع:

قوله تعالى (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار).

وقال تعالى (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).

ومن ذلك حديث أصحاب الغار الثلاثة، حيث انطبقت عليهم الصخرة فسدّت عليهم باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله بصالح الأعمال ففرج الله عنهم فخرجوا يمشون. متفق عليه

الثالث: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح.

كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، فيطلب منه أن يدعو له ربه.

ص: 261

فهذا مشروع وقد دلت عليه الشريعة المطهرة.

فمن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه قال (أصاب الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر قائماً يوم الجمعة، دخل أعرابي فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله لنا

) متفق عليه.

ومن ذلك ما رواه أنس: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون) رواه البخاري.

ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أي: كنا نقصد نبينا ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعو لنا.

وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم بجاه نبيك أسقنا، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: اللهم بجاه العباس أسقنا.

لأن مثل هذا الدعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة.

ومن ذلك ما رواه الحافظ بن عساكر في تاريخه (18/ 151/ 1) بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم بن عامر: (أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثاوت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم).

ص: 262

فهذا معاوية رضي الله عنه لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح.

(رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) قيل: معناه: على الإيمان برسلك، وقيل: معناه: على ألسنة رسلك، وهذا أظهر.

• قال ابن القيم: المعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من دخول الجنة.

وقالت طائفة: معناه: وآتنا ما وعدتنا على الإيمان برسلك.

ويترجح الأول بأنه قد تقدم قولهم (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وهذا صريح في الإيمان بالرسول والمرسل.

• قال القرطبي: إن قيل: ما وجه قولهم (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ) وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:

الأوّل: أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وُعِد بذلك دون الْخزِي والعِقاب.

الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع؛ والدعاء مُخّ العبادة.

وهذا كقوله (قَالَ رَبِّ احكم بالحق) وإن كان هو لا يقضِي إلاَّ بالحق.

الثالث: سألوا أن يُعطوا ما وعِدوا به من النصر على عدوّهم معجَّلا؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازاً للدّين.

والله أعلم.

ص: 263

(وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: على رؤوس الخلائق.

(إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) فالله لا يخلف الميعاد لكمال صدقه وكمال قدرته، لأن الذي يخلف الميعاد إما أن يكون لكذب الواعد، أو لعجزه.

‌الفوائد:

1 -

أن النار دار الخزي.

2 -

على المسلم أن يدعو الله أن يقيهم عذاب النار.

3 -

إثبات النار.

4 -

تحريم الظلم بكل أنواعه وأعظمه الشرك.

5 -

أن الظلم سبب لدخول النار.

6 -

وجوب الإيمان بالله.

7 -

جواز التوسل بالعمل الصالح.

8 -

أن الإيمان من أفضل الأعمال.

9 -

كل أحد يحتاج لمغفرة الذنوب.

10 -

أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر.

11 -

تمني الموت على الإسلام والسنة.

12 -

ينبغي للداعي أن يكثر من الثناء على الله.

13 -

أن الرسل هم الواسطة بين الله وبين خلقه.

14 -

إثبات يوم القيامة.

15 -

فضيلة الخوف من الله.

16 -

أن الله لا يخلف الميعاد.

ص: 264

(فاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)).

[آل عمران: 195].

(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي: فأجابهم ربهم.

(أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) هذا تفسير للإجابة، أي: قال لهم مجيباً لهم: أنه لا يضيع عامل لديه، بل يوفّى كل عامل بقسط عمله، من ذكر أو أنثى.

(بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي: جميعكم في ثوابي سواء.

(فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والخلان والجيران.

(وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم.

(وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده.

كما قال تعالى (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وقال تعالى (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم).

(وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله، فَيُعقر جواده، ويعفّر وجهه بدمه وترابه.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) أي: يسترها ويمحوها ويتجاوز عنها.

• فالتكفير بمعنى الستر، مأخوذة من (الكَفْر) بفتح الكاف وسكون الفاء، وهو الستر، ومنه سميت الكفارة، لأنها تستر الذنب، وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب في الأرض، وسمي الليل كافراً لأنه يستر الكون بظلامه، وسمي الشخص الكافر لأنه ستر نعمة الله عليه.

• قوله تعالى (سَيِّئَاتِهِمْ) جمه سيئة، سميت بذلك لأنها سيئة بنفسها وقبيحة، ولأنها أيضاً تسوء مرتكبها حالاً ومآلاً.

• والسيئات في الأصل تطلق على الكبائر والصغائر كما هنا، قد يراد بها الصغائر إذا قرنت مع الكبائر كما في قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

ص: 265

(وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) أي: يكون جزاؤه دخول الجنان.

• والجنات جمع جنة، والجنة في لغة العرب: البستان، لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه، وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) أي البستان، وفي قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ).

وأما في الاصطلاح: فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

• قوله تعالى (جنات) دليل على أن الجنات أنوع، كما قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال تعالى (ومن دونهما جنتان) وقال صلى الله عليه وسلم (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما).

• قال الشيخ ابن عثيمين: (جنات) بالجمع، وأحياناً يقال بالإفراد (جنة)، فإذا كانت بالإفراد فالمراد بها مطلق الجنس، وإذا قيلت بالجمع فالمراد بها أنواع الجنات.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي من تحت أشجارها.

• قال ابن الجوزي: أي من تحت شجرها لا من تحت أرضها.

• قال ابن عاشور: وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر، لأن في الماء طبيعة الحياة، ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً.

• قال ابن القيم: وهذا يدل على أمور:

أحدها: وجود الأنهار فيها. الثاني: أنها جارية لا واقفة. الثالثة: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.

• وهذه الأنهار جاء تسميتها في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً).

ص: 266

(ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: عطاء من الله.

• قال ابن كثير: أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً.

(وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) أي: عنده حسن الجزاء إن عمل صالحاً.

‌الفوائد:

1 -

فضل الله بإجابة دعاء هؤلاء.

2 -

أن تكرار الدعاء من أسباب الإجابة.

3 -

إثبات ربوبية الله تعالى.

4 -

أن الله يثيب على الأعمال كاملاً، ولا يضيع عنده عمل.

5 -

الحث على العمل الصالح والإخلاص فيه.

6 -

استواء الذكر والأنثى في الجزاء على الحسنات.

7 -

فضيلة الهجرة.

8 -

فضل وعلو منزلة من أخرج من دياره في سبيل الله.

9 -

الصبر على الإيذاء في سبيل الله لما له من الأجر العظيم.

10 -

فضل القتال في سبيل الله.

11 -

عظم نعيم الجنة، ومن هذا النعيم: الأنهار تجري من تحتها.

ص: 267

(لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)).

[آل عمران: 196 - 197].

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاد) أي: لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض.

• قيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن المراد هو الأمة. وقيل: المراد أمته كما يخاطب سيد القوم ومقدمهم والمراد به كلهم كأنه قيل لا يغرنكم.

• قال ابن عاشور: والتقلّب: تصرّف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى (ما يجادل في آيات الله إلاّ الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تَقَلُّبُهم في البلاد).

• وقال السعدي: وهذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعمهم فيها، وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات، وأنواع العز، والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع.

• قال الشيخ ابن عثيمين: وجه الغرور من وجهين:

الأول: ظن أن ما هم عليه حق، لأنه يقول: لو كان باطلاً ما مكنهم الله من هذا التقلب.

والثاني: أن يفعل مثل فعلهم، كما انخدع كثير من الناس اليوم حيث ظنوا أن الكفار وصلوا إلى ما وصلوا إليه من أجل تحللهم من دينهم.

(مَتَاعٌ قَلِيلٌ) أي: تقلبهم متاع قليل.

قليل في زمنه، قليل في كميته، قليل في كيفيته.

فالزمن قليل محدود وهو عمر الإنسان، قليل في الكيفية: حيث أن الإنسان يعترضه أمراض وأوجاع ومصائب.

• قال الرازي: وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم إنه بالعاقبة ينقطع وينقضي.

• قال ابن كثير: وهذه الآية كقوله تعالى (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).

ص: 268

وقال تعالى (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ).

وقال تعالى (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) أي: قليلاً.

وقال تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِين).

قوله تعالى (مَتَاعٌ قَلِيلٌ).

• فالدنيا مهما كانت فهي متاع قليل.

قال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).

قال صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).

(ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة، وهو كقوله (إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً) وقوله (وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).

(وَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي الفراش، والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى (لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فهم بين أطباق النيران، ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار.

ص: 269

‌الفوائد:

1 -

ما يعطاه الإنسان من صحة وسعة رزق ومال ليس دليلاً على رضا الله عنه.

قال تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).

وقال تعالى (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ).

وجاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم (إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون).

2 -

ألا يغترَّ المؤمنُ بحال هؤلاء الكفار وما هم فيه من النِّعمة والغبطة والسرور، فهو متاع زائل يعقبه عذاب أبدي سرمدي.

قال تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

وقال تعالى (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون).

3 -

الحذر من الوقوع في هذه الفتنة، والفتن من أراد أن يسلم منها فعليه أن يهرب منها.

عن عِمْرَان بْن حُصَيْن. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ) رواه أبو داود.

وعن أبي بَكْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ) رواه مسلم.

قال النووي: قوله (الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا

) فَمَعْنَاهُ بَيَان عَظِيم خَطَرهَا. وَالْحَثّ عَلَى تَجَنُّبهَا وَالْهَرَب مِنْهَا، وَمِنْ التَّشَبُّث فِي شَيْء، وَأَنَّ شَرّهَا وَفِتْنَتهَا يَكُون عَلَى حَسَب التَّعَلُّق بِهَا.

قال ابن القيم: قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سمع بالدجال فلينأ عنه) فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه، وههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق، وهي أن يظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة.

وقال ابن الجوزي: من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادّعى الصبر وُكِل إلى نفسه.

4 -

أن إمهال الله لهؤلاء الكفار وتتابُع النعم والخيرات لهم، إنما هو زيادة لهم في عذاب الآخرة.

قال تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين).

وقال تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون).

5 -

أنَّ ما يعطيه الله للكفَّار مِن نعَم الدنيا، إنما ذلك لهوان الدُّنيا عنده وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنة.

كما قال تعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُون).

6 -

الترغيب في الآخرة والزهد في الدنيا.

[الأحد: 19/ 12/ 1433 هـ].

ص: 270

(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)).

[آل عمران: 198].

(لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

قال الشيخ ابن عثيمين: ولم يقل (اتقوا الله) إشارة إلى أن ربوبية الله لهم ربوبية خاصة، أعانهم فيها على التقوى، ووفقهم لها

• وقال علي: وقد سئل عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

وقال بن رجب رحمه الله: وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله، مَنْ أكرمُ النَّاس؟ قَالَ:(أَتْقَاهُم) متفق عليه.

فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته.

وقد تقدمت فضائل التقوى.

(لَهُمْ جَنَّاتٌ) فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

قال صلى الله عليه وسلم (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة شجرةً يسير الراكب مئة سنة ما يقطعها) متفق عليه.

وفي رواية (يسير الراكب في ظلها مئة سنة ما يقطعها).

وقال صلى الله عليه وسلم (لقاب قوسٍ في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب) متفق عليه.

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (يُنَادِى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَداً وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَداً وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَداً وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْتَئِسُوا أَبَداً». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) متفق عليه.

وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً) متفق عليه.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي: من تحت قصورها الأنهار (

أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).

ص: 271

(خَالِدِينَ فِيهَا) أبد الآبدين ودهر الداهرين.

• وهذا من أعظم تمام النعيم، أن أهل الجنة خالدون فيها أبد الآبدين.

وهذا من أعظم النعيم وبه يتم النعيم، لأن أكبر ما ينكد اللذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم، والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً.

فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات، لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها، لأنه يقطعها، ولهذا قال (خالدين فيها) لا يزول عنهم ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.

• وجاءت الآيات الكثيرة بخلود أهل الجنة بالجنة.

فقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)

وقال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)

وقال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على شكل كبش فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت

) متفق عليه.

ص: 272

• في هذه الآية فضل للمتقين، وأن التقوى سبب لدخول الجنة.

كما قال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).

وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً).

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال (تقوى الله وحسن الخلق) رواه الترمذي.

• ومن أسباب دخول الجنة:

صلاة الفجر والعصر.

قال صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.

التلفظ بالشهادتين مع العمل بمقتضاها.

قال صلى الله عليه وسلم (

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.

وفي حديث أبي هريرة الطويل وفيه (قال أبو هريرة، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة) متفق عليه.

إحصاء أسماء الله.

قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مِائَةً إِلاَّ وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.

قراءة آية الكرسي بعد الفريضة.

قال صلى الله عليه وسلم (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) رواه النسائي.

الذكر بعد الوضوء.

قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاء) رواه مسلم.

قول لا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 273

قال صلى الله عليه وسلم (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) متفق عليه.

سؤال الله الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم (من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة) رواه الترمذي.

طلب العلم ابتغاء مرضات الله.

قال صلى الله عليه وسلم (من سلط طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) رواه مسلم.

السنن الرواتب.

قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّة) رواه مسلم.

الحج المبرور.

قال صلى الله عليه وسلم (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.

• قال أبو حيان: قوله تعالى (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم، فدل على قلّة ما متعوا به، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم، ودلّ على استقرارهم في النار استدرك بلكن الإخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين، وذلك شيئان:

أحدهما: مكان استقرار وهي الجنات.

والثاني: ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائماً والتمتع بنعيمها سرمداً، فقابل جهنم بالجنات، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن هنا أحسن موقع، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين.

ص: 274

(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: ضيافة من عند الله.

(وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) من النعيم العظيم، قال تعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)، ومن هذا النعيم قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كافوراً).

قال القرطبي: أي مما ينقلب به الكفار في الدنيا. -

‌الفوائد:

1 -

فضل تقوى الله تعالى.

2 -

إثبات ربوبية الله تعالى.

3 -

الحث على تقوى الله.

4 -

أن من أسباب دخول الجنة تقوى الله.

5 -

أن ما يعطاه المؤمن في الجنة خير من متع الدنيا الزائل.

6 -

أن في الجنات أنهار كثيرة.

ص: 275

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)).

[آل عمران: 199].

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: طائفة من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.

• اختلفوا في نزولها، فقال ابن عباس وجابر وقتادة: نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي عليه السلام.

وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه.

وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا

وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب، بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب. (تفسير الرازي).

• الأكثر من أهل الكتاب لم يؤمنوا.

• كما قال تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون).

(لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) حق الإيمان، منزه عن الإشراك بكل مظاهره.

(وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن.

(وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من التوراة أو الإنجيل.

(خَاشِعِينَ لِلَّهِ) أي: خاشعون لله، أي: مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه.

• قال السعدي: والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه، ذلا وافتقاراً، وإيماناً به وبلقائه.

فضائل الخشوع.

أولاً: يسهل فعل الطاعة.

قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).

• قال السعدي: أي فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحًا بها صدره، لترقُبه للثواب وخشيته من العقاب. كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي.

• قال الشوكاني: (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر، وتوفر الجزاء، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب، تسهل عليهم تلك المتاعب، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة، وراحة عندهم محضة.

ص: 276

ولذلك قيل: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية.

ثانياً: من علامات الفلاح.

قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ).

ثالثاً: وقد مدح الله الخاشعين.

قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).

ثالثاً: وأمر الله بالخشوع.

قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ).

رابعاً: حث النبي على الخشوع.

قال صلى الله عليه وسلم (هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوكم) متفق عليه.

خامساً: الخشوع من أسباب دخول الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه.

سادساً: الخشوع من صفات الأنبياء.

قال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

سابعاً: وأثنى الله على من آمن من أهل الكتاب بخشوعه.

قال تعالى (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً)

ثامناً: الخشوع من أسباب قبول العمل.

قال صلى الله عليه وسلم (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثن صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه

تاسعاً: لهم مغفرة وأجراً عظيماً.

ص: 277

قال تعالى (إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ

مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

عاشراً: هو أول ما يرفع.

قال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى خاشعاً).

الحادي عشر: عاتب الله الصحابة به.

قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ).

وأصل الخشوع كما قال ابن رجب: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء لأنها تابعة له.

قال سهل: من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان.

وقال أبو يزيد المدني: إن أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع.

وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يُريَ الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.

(لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي: لا يكتمون ما بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، من أجل ثمناً قليلاً من حطام الدنيا، من رئاسة أو مكانة أو مال، كما فعل كثير منهم.

فمعنى (لا يشترون) أي: لا يأخذون ويطلبون بآيات الله ثمناً قليلاً.

• قال ابن عاشور: (ثمناً قليلاً) وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم.

• قال القرطبي: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول مَن فعل فعلهم.

سئل الحسن البصري عن قوله تعالى (ثَمَناً قَلِيلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.

وقد صدق من قال من السلف: من أحب أن يعرف ذهب دينه.

ص: 278

قال الحسن رحمه الله: عقوبة العالم موت القلب، قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة (جامع بيان العلم وفضله).

قال محمد بن عمر الأسلمي - توفي سنة (207 هـ) رحمه الله: لقد كان الرجلان يتقاولان بالمدينة في أول الزمان، فيقول أحدهما لصاحبه: لأنت أفلس من القاضي، فصار القضاة اليوم ولاة وجبابرة وملوكاً وأصحاب غلات وضياع وتجارات وأموال! (الطبقات الكبرى).

قال يوسف بن زكريا رحمه الله: كان محمد بن يوسف، لا يشتري من خباز واحد، ولا من بقال واحد، وقال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن أعيش بديني؟ (حلية الأولياء).

جلس الحسن رحمه الله يُحَدّث فأُهدِيَ له فردَّه، وقال: إن من جلس هذا المجلس ثم قَبِل، فليس له عند الله خلاق، أو قال: فليس له خلاق (الزهد لأحمد).

• فأنت ترى أنه سبحانه قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم، وفي هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب.

وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية في كثير من سوره ومن ذلك قوله تعالى (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

وقوله تعالى (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ).

وقدم سبحانه إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يُؤْمِنُ وجمع حملا على المعنى (التفسير الوسيط).

(أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: لهم ثوابهم عند الله بمقابل أعمالهم الجليلة، وهذا الثواب عظيم، لأن الشيء من العظيم عظيم.

• وجزاء وثواب من آمن من أهل الكتاب بنبيه ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم له أجرين.

ص: 279

قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

وعن أبي موسى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ (يَطَؤُهَا) فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ) متفق عليه.

(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فالله سريع الحساب من وجهين:

الأول: أن اليوم الآخر - الذي يقع فيه الحساب - قريب أن مجيئه قريب وسريع، وكل ما هو آت قريب والله أخبر عن أمر الساعة أنه كلمح البصر أو هو أقرب.

كما قال تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

والثاني: أن ذلك الحساب لا يطول لكثرة الخلق الذين يحاسبهم، بخلاف حال المخلوقين فإنهم إذا كثر ذلك عليهم فإن ذلك يقتضي طول الوقت الذي تستغرقه تلك المحاسبة.

كما قال تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).

• ووصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه.

• قال الرازي: والفائدة في كونه سريع الحساب كونه عالماً بجميع المعلومات، فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب.

• قال ابن كثير: وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودًا أو نصارى.

وقد قال تعالى في سورة القصص (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا).

وقال تعالى (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

ص: 280

وقال تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

ثم قال ابن كثير: وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عَشْرَةَ أنفُس، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَ [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) وكذا قال ههنا (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

‌الفوائد:

1 -

الثناء على بعض أهل الكتاب.

2 -

كمال عدل الله بإسناد الفضل إلى أهله.

3 -

فضل الخشوع لله، وأنه سبب للتوفيق.

4 -

خطر الدنيا وفتنها في الصد عن اتباع الحق.

5 -

أن الدنيا متاع قليل.

6 -

بيان قدرة الله في سرعة حسابه.

7 -

إثبات الحساب.

(الخميس: 23/ 12/ 1433 هـ)

ص: 281

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)).

(آل عمران: 200)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان. (ابن عثيمين).

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وانقادوا وعملوا بجوارحهم.

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به. (الشنقيطي).

• قال ابن عاشور: ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال.

(اصْبِرُوا) الصبر: حبس النفس عن أهوائها وشهواتها، وترويضها على تحمل المكاره، وتعويدها على أداء الطاعات.

وقد تقدمت فضائل الصبر.

(وَصَابِرُوا) وهي المغالبة بالصبر، بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه.

• قال صاحب الكشاف: وَصابِرُوا أعداء اللّه في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً، فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعوبته.

• وقال ابن جرير: قوله تعالى (وصابروا) يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المعروف من كلام العرب في"المفاعلة" أن تكون من فريقين، أو اثنين فصاعدًا، ولا تكون من واحد إلا قليلاً في أحرف معدودة. فإذْ كان ذلك كذلك، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم

• وقال ابن عاشور: ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر، لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً.

• قال الرازي: أما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير، ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال (وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين) وقال (وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال (وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى).

(وَرَابِطُوا) من المرابطة وهي القيام على الثغور الإسلامية لحمايتها من الأعداء، فهي استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء.

قال الخليل بن أحمد: المرابطة ملازمة الثغور.

وقال ابن الأثير: الرباط في الأصل الإقامة على جهاد العدو في الحرب، وارتباط الخيل وإعدادها.

ص: 282

وقال في فتح الباري في معنى الرباط: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار وحراسة المسلمين منهم.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا). متفق عليه

وعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّان) رواه مسلم.

قال النووي رحمه الله: هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحا في غير مسلم:(كل ميت يختم على عمله الا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة).

قال القرطبي: وَفِي هَذَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَاطَ أَفْضَلُ الأعْمَالِ الَّتِي يَبْقَى ثَوَابُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:(إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ الْجَارِيَةَ وَالْعِلْمَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ وَالْوَلَدَ الصَّالِحَ الذي يَدْعُو لأبَوَيْهِ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ بِنَفَادِ الصَّدَقَاتِ وَذَهَابِ الْعِلْمِ وَمَوْتِ الْوَلَدِ. وَالرِّبَاطُ يُضَاعَفُ أَجْرُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لأَنَّهُ لا مَعْنَى لِلنَّمَاءِ إِلا الْمُضَاعَفَةُ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَى سَبَبٍ فَتَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِهِ، بَلْ هِيَ فَضْلٌ دَائِمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا لأنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لا يُتَمَكَّنُ مِنْهَا إِلا بِالسَّلامَةِ مِنَ الْعَدُوِّ وَالتَّحَرُّزِ مِنْهُ بِحِرَاسَةِ بَيْضَةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِ الإسْلامِ.

‌فائدة:

سئل ابن تيمية: هَلْ الْأَفْضَلُ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ؟ أَوْ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؟ أَوْ بِثَغْرِ مِنْ الثُّغُورِ لِأَجْلِ الْغَزْو؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْمُرَابَطَةُ بِالثُّغُورِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً؛ بَلْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُجَاوَرَةِ: فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا؛ وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاوَرَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن السَّلَف حَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه لَأَنْ أُرَابِطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَاطَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ وَجِنْسُ الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى جِنْسِ الْحَجِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ) إلَى قَوْلِهِ (إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيم).

ص: 283

وقال رحمه الله: وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط.

وكان ابن المبارك وأحمد ابن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغور. فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة، السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علمًا وعملًا وأعظم البلاد إقامة شعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على الثغور.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: من أجل أن تفلحوا.

والفلاح: كلمة جامعة للفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.

‌الفوائد:

1 -

فضيلة الإيمان وأهله.

2 -

الحث والأمر بالصبر.

3 -

الأمر بالمصابرة.

4 -

الأمر بالمرابطة.

5 -

الأمر بالتقوى.

6 -

أن التقوى سبب للفلاح.

ص: 284

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير

سورة النساء

فوائد - منوعات - فضائل - أقوال

جمع وإعداد

سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

ص: 285

hotmail.com

ص: 286

كانت البداية بفضل الله: 8/ 9/ 1430 هـ

بداية الشرح الثاني: يوم السبت 25/ 12/ 1433 هـ

ص: 287

‌تفسير سورة النساء

‌مقدمة:

سميت بسورة النساء، لذكر النساء فيها، ولأنه ذكر فيها كثيراً من الأحكام التي تتعلق بالنساء من العدل بينهن وتوريثهن، وتأديبهن إذا أتين بفاحشة، وحسن معاشرتهم، وذكر ما حرم وما حل منهن، وقوامة الرجل عليهن، والثناء على الصالحات منهن، وكيفية معالجة الناشزات منهن والصلح بينهن وبين الأزواج.

وهي سورة مدنية.

قالت عائشة: ما أنزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها إلا في المدينة.

وتسمى سورة النِّساءِ الكبرى، واسم سورة الطَّلاق سورةُ النِّساءِ الصّغرى.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)).

[النساء: 1].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) افتتح الله عز وجل هذه السورة بالوصية لجميع الناس بتقوى الله.

وقد جاءت آيات كثيرة تأمر بتقوى الله:

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

ص: 288

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته.

كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً.

ولما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم.

ولما وعظ الناس كأنها موعظة مودع قال: أوصيكم بتقوى الله.

وقال لمعاذ: اتق الله حيثما كنت.

في هذا الحديث دليل على وجوب تقوى الله في السر والعلن ومراقبته سبحانه لقوله (اتق الله حيثما كنت) حيث يراه الناس وحيث لا يرونه.

إن تقوى الله في الغيب، وخشيته في السر، دليل كمال الإيمان، وسبب حصول الغفران، ودخول الجنان، بها ينال العبد كريم الأجر وكبيره.

قال تعالى (إنما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم).

وقال تعالى (إن الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِير).

وقال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ. لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه (أسألك خشيتك في الغيب والشهادة).

ص: 289

وخشية الله في الغيب والشهادة من المنجيات، كما قال صلى الله عليه وسلم (ثلاث منجيات، وذكر منها: خشية الله في السر والعلن).

وقال الشافعي: أعز ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف.

وكان الإمام أحمد ينشد:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل

خلوتُ ولكنْ قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ اللهَ يغفلُ ساعةً

ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ

وقال الشاعر:

إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلَى الطغياني

فاستحي مِن نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

قال ابن رجب رحمه الله: وفي الجملة، فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين.

وقال رحمه الله في شرح حديث عمار: فأما خشية الله في الغيب والشهادة، فالمعنى أن العبد يخشى الله سراً وإعلاناً وظاهراً وباطناً، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشيته في الغيب إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب:

قال تعالى (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ).

وقال تعالى (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).

وقال تعالى (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

ومن هنا عظم ثواب من أطاع الله سراً بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سراً.

فأما الأول: فمثل قوله تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ص: 290

قال بعض السلف: أخفوا لله العمل فأخفى لهم الجزاء.

وفي حديث السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (

ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه

وأما الثاني: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

• التقوى مأخوذة من الوقاية، وهي: أن يجعل الإنسان لنفسه وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

وهذا من أجمع التعاريف، وقد جاء في معناها آثار عدة عن السلف كلها داخلة تحت هذا المعنى.

قال علي: التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

وقال ابن مسعود: حقيقة تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله.

قال ابن القيم: وهذا من أحسن ما قيل في حد التقوى.

وروي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى.

ص: 291

قال ابن المعتز:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها فهو التقى

كن مثل ماش فوق

أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

•‌

‌ فضائل التقوى:

‌أولاً: أنها سبب لتيسير الأمور.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).

‌ثانياً: أنها سبب لإكرام الله.

قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

‌ثالثاً: العاقبة لأهل التقوى.

قال تعالى (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

‌رابعاً: أنها سبب في دخول الجنة.

قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وقال تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).

‌خامساً: أنها سبب لتكفير السيئات.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).

‌سادساً: أنها سبب لحصول البشرى لهم.

قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا).

‌سابعاً: أنها سبب للفوز والهداية.

قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

‌ثامناً: أنها سبب للنجاة يوم القيامة.

قال تعالى (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً).

ص: 292

‌تاسعاً: أنها سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض.

قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).

‌عاشراً: أنها سبب للخروج من المأزق.

قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).

‌الحادي عشر: أنها سبب لمحبة الله.

قال تعالى (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

‌الثاني عشر: أنها سبب للاهتداء بالقرآن.

قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

‌الثالث عشر: بالتقوى تنال معية الله.

قال تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

‌الرابع عشر: أنها خير زاد.

قال تعالى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

‌الخامس عشر: أنها من أسباب نيل الأجر العظيم.

قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ).

‌السادس عشر: أن الآخرة خير من الدنيا للمتقين.

قال تعالى (والْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

‌السابع عشر: أنها سبب لقبول الأعمال.

قال تعالى (قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

‌الثامن عشر: أن لباس التقوى خير لباس.

قال تعالى (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ).

‌التاسع عشر: أنها من أسباب الرحمة.

قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

‌العشرون: أنها من أسباب ولاية الله.

قال تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

وقال تعالى (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).

ص: 293

• قال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.

وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.

• قال ابن القيم:‌

‌ مراتب التقوى:

التقوى ثلاث مراتب:

إحداها: حميّة القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، والثانية: حميّتها عن المكروهات، والثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.

فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.

• قوله (يا أيها الناس) قيل: مشتقة من النَّوْس، وهي في اللغة بمعنى الحركة المتتابعة، سموا بذلك لتناسلهم المتتابع غير المنقطع، وقيل: مشتق من الإنس، لأنه يأنس بعضهم ببعض، وقيل: إنها وكذا (الإنسان) كل منهما مشتق من النسيان كما قيل: وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ، ولا القلب إلا أنه يتقلب.

• قوله (ربكم) خالقكم ومالككم ومدبركم، فالرب هو الخالق الموجد من العدم، وهو المالك الذي لا يشاركه أحد في ملكه،

وهو المدبر لأمور خلقه كلها على ما تقتضيه حكمته وإرادته.

• والرب بالتعريف لا يطلق إلا على الله، وربوبية الله لخلقه تنقسم إلى قسمين:

ربوبية عامة: وهي لجميع الخلق المؤمن والكافر، كما في قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) أي خالقهم ومالكهم ومدبرهم بأصناف النعم.

ربوبية خاصة: للمؤمنين بهدايتهم إلى الحق والعمل به، كما في قوله تعالى (رب موسى وهارون).

ص: 294

(الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي: أوجدكم بقدرته على كل شيء، وعلمه المحيط بكل شيء.

• فالمستحق للعبادة هو الخالق، والذي لا يخلق عاجز لا ينفع للعبادة. وقد جرت العادة في القرآن الكريم في آيات كثيرة أنه يجعل سبب العبادة التي تُستحق به هو الخلق والإبراز من العدم إلى الوجود، فمن يبرزكم من العدم إلى الوجود، ويوجدكم بعد أن كنتم عدماً هو هذا ربكم الذي يستحق أن تعبدوه وحده، أما الذي يحتاج إلى من يخلقه فهو عبد مربوب فقير مثلكم.

كما قال تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

وقال تعالى (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وقال تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ).

وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وكما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ولم يقل إلا الله لفائدتين:

الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه متفرد بالخلق، فيجب أن ينفرد بالعبادة.

والثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، ولأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات.

• قال بعض العلماء: إنما نص الله تعالى على صفة الخلق دون غيرها من الصفات، لأن المشركين كانوا يعترفون أن الله خالقهم، كما قال تعالى (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم)، وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم.

(مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم، الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، كما أن حواء أم البشر كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ).

• قال الرازي: أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام.

ص: 295

(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: وخلق من هذه النفس زوجها وهي حواء، ويدل على ذلك الحديث الذي في الصحيحين. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء).

• قال ابن كثير: وهي حواء خلقت من ضلعه الأيسر.

• اختلف العلماء في أي وقت خلقت حواء لآدم؟

فقيل: بعد دخوله الجنة، وبه قال ابن عباس وابن مسعود، قال ابن عباس (لما خلق الله آدم القى عليه النوم فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلم تؤذه بشيء ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبداً فلما استيقظ قيل لآدم ما هذه قال حواء).

وقيل: إن حواء خلقت لآدم قبل دخوله الجنة، وهو قول كعب الأحبار ووهب بن منبه وإسحاق، والراجح القول الأول المروي عن كبار الصحابة.

(وَبَثَّ مِنْهُمَا) أي: ونشر وذرأ وأخرج منهما: أي: من آدم وحواء.

(رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) رجالاً كثيراً ونساء كثيرة، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.

• قال المفسرون: خلق من آدم وحواء ذكوراً وإناثاً لكي يتم بذلك قوام الحياة.

ص: 296

•‌

‌ أنواع خلق الله للبشر:

1) ما خلق من طين وهو آدم عليه السلام.

2) ما خلق من أب بلا أم وهي حواء.

3) ما خلق من أنثى بلا ذكر وهو عيسى.

4) ما خلق من أنثى وذكر وهم سائر البشر.

• لماذا قدم الرجال على النساء؟ لقوامة الرجال على النساء.

• ولماذا وصف الرجال بالكثرة دون النساء مع أن النساء أكثر؟

قيل: ترك التصريح به استغناء بالوصف الأول، قاله الشوكاني.

وقيل: لأن الكثرة في نصيب الرجال مرغوبة بخلاف النساء، ولأنها تدل على القدرة وغيرها من المعاني التي توجد في الرجال، وكذلك القبائل تعرف لها مكانتها بكثرة الرجال فلو تنافسوا قالوا لبعضهم: عدوا رجالكم، والرجل هو القائم بالرعاية والنفقة أكثر من المرأة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنه في حكم الفرائض قال (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) فكأنه ذكر ونبه فيه على سبب التفضيل وهو: رجولتهم.

• قال الرازي: فإن قيل: لم لم يقل: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كثيراً؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء؟

قلنا: السبب فيه - والله أعلم - أن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ) كرر الأمر بتقوى الله تنبيهاً وتوكيداً لوجوب تقوى الله، لأنها أساس الفلاح والسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، ومعنى الذي تساءلون به: أي: يسأل بعضكم بعضاً به، أي: بالله تذكيراً به وبعظمته، كأن يقول: أسألك بالله أن تساعدني.

(وَالْأَرْحَامَ) قرأ الجمهور بالنصب (والأرحامَ) ويكون المعنى: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، بل صلوها وأدوا حقها.

• ما ورد في الترهيب من قطيعة الأرحام.

قال تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).

وقال تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

ص: 297

وقال تعالى (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة قاطع) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه أحمد.

•‌

‌ وجاءت نصوص أخرى تحث على صلة الرحم.

قال صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه.

وعن أبي أيوب (أن رجلاً قال يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) متفق عليه.

ص: 298

ولصلة الرحم بركة وقبول، ولصاحبها تقدير وإجلال لدى جميع الناس باختلاف دياناتهم وانتماءاتهم. ولقد علمت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها منزلة صلة الرحم قبل أن تسلم وقبل أن يُبعث رسول الله، وعلمت أن واصل الرحم لا يخيب، فقد جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرجف ويقول (زملوني زملوني) عندما جاءه الوحي لأول مرة في الغار، وقال لها (لقد خشيت على نفسي) فماذا قالت له خديجة رضي الله عنها؟! قالت:"كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكل، وتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". متفق عليه.

• وقرأ بعضهم بالجر (والأرحامِ) والمعنى: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، أي: يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم، كما جرت العادة عند العرب يقول أحدهم للآخر: أسألك بالله والرحم التي بيننا.

(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي: هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال تعالى (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

قال الطبري: (رقيباً) حفيظاً محصياً عليكم أعمالكم متفقداً رعايتكم حرمة أرحاكم وصلتكم إياها وقطعكموها وتضييع حرمتها.

وقال الزجاج: الرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه.

وقال السعدي: الرقيب والشهيد من أسمائه الحسنى هما مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان.

•‌

‌ الآثار المترتبة بالإيمان بهذا الاسم:

أولاً: أن التعبد لله باسمه (الرقيب) يثمر في القلب مراقبة الله في السر والعلن، في الليل والنهار، في الخلوة والجلوة، لأنه سبحانه مع عبده لا تخفى عليه خافية، يسمع كلامنا، ويرى مكاننا، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا أيقن العبد بهذه الحقائق سعى إلى حفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها من أن يكون منها أو فيها ما يسخط الله.

قال ابن القيم: المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق تعالى على ظاهره وباطنه.

ثانياً: فضل مراقبة الله في السر توجب للعبد الإخلاص والخلاص من الكبائر.

كما ورد في الحديث (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) متفق عليه.

ثالثاً: النصح في العبادة.

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى). متفق عليه

رابعاً: تورث القلب خشية وخشوعاً وبكاء.

كما في الحديث (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

خامساً: ومن قدر على معصية الله في سره ثم راقب الله فتركها خوفاً من الله له ثواب عظيم وينفرج همه وينفس كربه.

كما في قصة صاحب الغار الذي خلا بابنة عمه وتمكن منها ثم قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام وتركها وترك المال الذي أرادته خوفاً من الله تعالى فانفرج الغار لعمله.

خامساً: ومن راقب الله في السر حسن عمله وعظم يقينه ووجد حلاوة الإيمان واطمأن قلبه وقذف الله نوراً في قلبه وضياء في وجهه ووجد سعة في رزقه وبركة في أهله وألفة ومحبة فيما بينه وبين الخلق وانعكس ذلك على حياته بالتوفيق والرضا والسعادة.

سادساً: وعبادة السر من أجل الطاعات لأنها مبنية على حسن المراقبة لله والإخلاص المحض واليقين التام وعدم التفات القلب للمخلوقين وثوابهم.

ص: 299

ولذلك أثنى الله عز وجل على صدقة السر فقال: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). وجاء في السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

سابعاً: وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (أسألك خشيتك في الغيب والشهادة).

أن العبد يخشى الله سراً وعلانية، ظاهراً وباطناً، فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس فقد مدح الله من خافه بالغيب.

‌الفوائد:

1 -

وجوب تقوى الله تعالى.

2 -

أن الخالق هو الله.

3 -

أن الخالق هو المستحق للعبادة.

4 -

أن أصل البشرية واحد وهو آدم.

5 -

أهمية التقوى، حيث كررها الله مرتين.

6 -

التحذير من قطع الأرحام.

7 -

التحذير من مخالفة الله، فإن الله رقيب لا يخفى عليه شيء. (الأحد: 26/ 12/ 1433 هـ).

ص: 300

(وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2)).

[النساء: 2].

(وآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) أي: وأعطوا اليتامى أموالهم التي هي ملك لهم، مما عهِد إليكم بحفظه.

وعلى هذا المعنى فالآية مقيدة بشرطين كما سيأتي، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن معنى (وآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) أي: احفظوها لهم لكي تؤدوها إليهم كاملة بعد بلوغهم ورشدهم من غير أكل شيء منها أو كتمانه أو تعريضها للفساد أو الضياع.

• ولهذا قال ابن كثير: يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمِّها إلى أموالهم.

• وقال الشنقيطي: أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ هُنَا فِي ذَلِكَ شَرْطًا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ هَذَا أَنَّ هَذَا الْإِيتَاءَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: بُلُوغُ الْيَتَامَى.

وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). (أضواء البيان).

• والخطاب للأولياء والأوصياء، واليتيم: من مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم سواء كان ذكراً أو أنثى، وخص بالوالد لأنه هو من يعول الولد وينفق عليه، فإذا بلغ زال عنه اليتم، كما قال صلى الله عليه وسلم (لا يتم بعد احتلام).

• قوله (وآتوا اليتامى) أطلق عليهم اسم اليتامى مع إعطائهم للمال باعتبار ما كان، كما قال تعالى في شأن سحرة فرعون (فألقيَ السحرة ساجدين)، فأطلق عليهم سحرة باعتبار ما كانوا فيه من سحر.

• قال البغوي: وإنما سماهم يتامى ههنا على معنى أنهم كانوا يتامى.

ص: 301

• قال الشوكاني: وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء، والأوصياء إليهم من النفقة، والكسوة لا دفعها جميعاً، وهذه الآية مقيدة بالآية الأخرى، وهي قوله تعالى (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم، حتى يؤنس منهم الرشد.

• وقال الشنقيطي: وَتَسْمِيَتُهُمْ يَتَامَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ، إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ يُتْمِهِمُ الَّذِي كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، إِذْ لَا يُتْمَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً، إِذْ لَا سِحْرَ مَعَ السُّجُودِ لِلَّهِ.

• وبعض العلماء قال: إن المراد ما يعطوْن منها في حال اليتم على سبيل النفقة، وهذا فيه ضعف.

• قال القاسمي: أن يُراد بهم الصغار، وبـ (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة، لا دفعها إليهم، وفيه بُعْدٌ.

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) قيل المعنى: لا تأخذ مال اليتيم الذي حرمه الله عليك وتدع مالك الذي أحله الله لك.

وقيل المعنى: لا تعطي مالك السيئ لليتيم وتأخذ مال اليتيم الطيب، كما قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، وكلا القولين تحتمله الآية، والأول أعم.

• قال الرازي: في تفسير هذا التبدل وجوه:

الوجه الأول: قال الفراء والزجاج: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى، بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض، فتأكلوه مكانه.

الثاني: لا تستبدلوا الأمر الخبيث، وهو اختزال أموال اليتامى، بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين أنه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون.

ورجح الشوكاني الثاني وقال: إن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه وكذلك استبداله.

• قال الشوكاني: (وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب) نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى، ويعوضونه بالرديء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأساً.

وقيل المعنى: لا تأكلوا أموال اليتامى، وهي محرّمة خبيثة، وتدعوا الطيب من أموالكم.

وقيل المراد: لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله.

والأوّل أولى؛ فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذه مكانه، وكذلك استبداله، ومنه قوله تعالى (وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل) وقوله (أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ).

ص: 302

• ورجح ذلك ابن جرير حيث قال: ولا تتبدلوا أموال أيتامكم أيها الأوصياء الحرام عليكم الخبيث لكم، فتأخذوا رفائعها

وخيارها وجيادِها بالطيب الحلال من أموالكم، وتجعلوا الرديء الخسيس بدلاً منه، وذلك أن تبدل الشيء بالشيء في كلام العرب أخذ شيء مكان آخر غيره، ويعطيه المأخوذ منه، أو يجعله مكان الذي أخذ.

• قال السعدي: ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس.

• وكلا القولين تحتمله الآية، والأول منهما أعم وأشمل، فهو ينتظم القول الثاني، لأن استبدال مال اليتيم بغيره منهي عنه، سواء رد بدله جيداً أو رديئاً أو لم يرد بدله شيئاً.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) قيل المعنى: إن (إلى) بمعنى (مع) ويكون المعنى: ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.

وقيل: إن (إلى) على بابها، والفعل (تأكلوا) مضمن معنى الضم، أي: لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وهذا القول أرجح، لأن تضمين فعل معنى فعل آخر أكثر وروداً في القرآن من تضمين (إلى) بمعنى (مع)، وحمل الآية على المعنى الكثير في القرآن أولى من حملها على المعنى القليل، لأنها إذا كانت هي الكثير في القرآن صارت هي اصطلاح القرآن.

• قال ابن جرير: أي ولا تخلطوا أموالهم - يعني: أموال اليتامى بأموالكم - فتأكلوها مع أموالكم.

• قال الرازي: قوله تعالى (وَلَا تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم) فيه وجهان:

الأول: معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الإنفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها.

والثاني: أن يكون (إلى) بمعنى (مع) قال تعالى (مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله) أي مع الله، والأول: أصح.

• وفي الآية النهي عن أكل مال اليتيم وقد قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

ص: 303

• قوله (ولا تأكلوا أموالهم

) جاء بلفظ الأكل مع أن النهي عن جميع صور أخذ مال اليتيم، لأن الهدف من جمع المال غالباً هو الأكل، ولذلك في كثير من الآيات عندما ينهى الله عن أخذ المال الحرام، دائماً يذكر ذلك بالأكل، كما قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وقوله تعالى (كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).

• قال ابن عاشور: والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التامّ، لأنّ الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنّه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمّن (تأكلوا) معنى تضمّوا فلذلك عدي بإلى أي: لا تأكلوها بأن تضمّوها إلى أموالكم.

(إِنَّهُ) أي: أكل مال اليتيم، واستبدال الخبيث بالطيب.

(كَانَ حُوباً كَبِيراً) أي: أي ذنباً كبير، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

• وهذه الجملة تعليلية للنهي في الجملتين السابقتين.

• قال السعدي: فيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله، فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى (حُوبًا كَبِيرًا) أي: إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا.

‌الفوائد:

1 -

وجوب حفظ مال اليتيم.

2 -

بيان رحمة الله حيث وصى باليتامى.

3 -

أن اليتيم يملك وملكه تام.

4 -

تحريم ضم مال اليتيم إلى مال الولي إذا كان بقصد إتلافه.

5 -

أن التعدي على مال اليتامى ذنب عظيم ومن كبائر الذنوب.

6 -

ثبوت الولاية على اليتيم.

7 -

جواز إطلاق الخبيث على الرديء على أحد المعنيين. [الاثنين: 27/ 12/ 1433 هـ].

ص: 304

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3)).

[النساء: 3].

الآية السابقة في أموال اليتامى، وهذه الآية في أبضاع اليتامى.

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) أي: وإن ظننتم التقصير في العدل لليتيمة فليتركها ولينكح غيرها.

• والمراد باليتامى هنا، اليتامى من النساء.

• قال بعضهم: معنى (وإن خفتم) أي: علمتم، لكنه قول ضعيف، والصحيح أن المراد بها الخوف وإن لم يعلم، فمتى خاف الإنسان أن لا يقسط في اليتامى، فليفعل ما ذكر الله. (ابن عثيمين).

• قال البقاعي: قوله تعالى (وإن خفتم) فعبر بأداة الشك حثاً على الورع.

• قوله (ألا تقسطوا) أي: ألا تعدلوا.

(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: فليتركها وجوباً، ولينكح ما طابت به نفوسكم ورغبتم فيه مما أحل الله لكم من ذوات الصفات الطيبة من النساء كالدين والخلق والجمال ونحو ذلك.

(مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أسلوب تنويع وتقسيم: أي: انكحوا اثنتين اثنتين، وعلى ثلاث ثلاث، وعلى أربع أربع، وفيه معنى التخيير، أي: منكم من ينكح اثنتين، ومنكم من ينكح ثلاثاً، ومنكم من ينكح أربعاً، قال تعالى في وصف الملائكة (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة.

• معنى الآية: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وهو وليها، وأراد أن يتزوجها، لكنه يخشى ألا يعطيها مهر مثلها، فليتزوج غيرها، فإنهن كثير، ومنهن من ترضى بالقليل، فلم يُضيّق الله عليك أيها الوصي، فانكح نكاحاً طيباً مثنى إن شئت، أو ثلاث أو أربع ولا تظلم اليتامى.

ص: 305

سبب النزول: روى البخاري عن عروة بن الزبير (أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فقالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سُنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن).

•‌

‌ صور عدم العدل باليتيمات:

أ-عدم إعطائهن مثل غيرهن من المهور والنفقات.

ب-أن يمسكها لأجل مالها من غير حاجة بها.

ج- أن يمسكها من غير إعطائها حقوقها الزوجية.

د-إجبارهن على الزواج منهم وهن كارهات، ونحو ذلك من النكاح من اليتيمات من غير عدل.

• في الآية تحريم الجمع أكثر من أربع نساء، وهذا أمر مجمع عليه.

• قال ابن كثير: قال الشافعي: وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة، وهذا الذي قاله الشافعي، رحمه الله، مجمع عليه بين العلماء.

• في الآية إباحة التعدد، لكن مشروعيته جاءت في أدلة أخرى.

• قال ابن القيم: إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس، وأما قوله: وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ولم يبح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد، فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعاية مصالحهم ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك وينزه شرعه أن يأتي بغير هذا ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقتل الأزواج بعضهم بعضاً وعظمت البلية واشتدت الفتنة وقامت سوق الحرب على ساق وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون وكيف يستقيم حال الشركاء فيها فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه.

ص: 306

فإن قيل: فكيف روعي جانب الرجل وأطلق له أن يهيم طرفه ويقضي وطره وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته وداعي المرأة داعيه وشهوتها شهوته؟

قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأة من وراء الخدور ومحجوبة في كن بيتها وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة وبلي بما لم تبل به، أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يطلق للمرأة وهذا مما خص الله به الرجال وفضلهم به على النساء، كما فضلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك، وجعل الرجال قوامين على النساء ساعين في مصالحهن يدأبون في أسباب معيشتهن ويركبون الأخطار ويجوبون القفار ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات، والرب تعالى شكور حليم، فشكر لهم ذلك وجبرهم بأن مكنهم مما لم يمكن منه الزوجات وأنت إذا قايست بين تعب الرجال وشقائهم وكدهم ونصبهم في مصالح النساء، وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدت حظ الرجال أن تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته فله الحمد كما هو أهله.

• قال ابن عاشور: وقد شرع الله تعدّد النساء للقادر العادل لِمصالح جمّة:

منها: أنّ في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها.

ومنها: أنّ ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هنّ أكثر من الرجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأنّ الرجال يعرض لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأنّ النساء أطول أعماراً من الرجال غالباً، بما فطرهنّ الله عليه.

ومنها: أنّ الشريعة قد حرّمت الزنا وضيّقت في تحريمه لمّا يجرّ إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن توسّع على الناس في تعدّد النساء لمن كان من الرجال ميّالاً للتعدّد مجبولاً عليه.

ومنها: قصد الابتعاد عن الطلاق إلاّ لضرورة.

(تفسير ابن عاشور).

ص: 307

•‌

‌ فوائد التعدد:

أولاً: التعدد سبب لتكثير الأمة، ومعلوم أنه لا تحصل الكثرة إلا بالزواج. وما يحصل من كثرة النسل من جراء تعدد الزوجات أكثر مما يحصل بزوجة واحدة.

ومعلوم لدى العقلاء أن زيادة عدد السكان سبب في تقوية الأمة، وزيادة الأيدي العاملة فيها مما يسبب ارتفاع الاقتصاد.

ثانياً: تبين من خلال الإحصائيات أن عدد النساء أكثر من الرجال، فلو أن كل رجل تزوج امرأةً واحدة فهذا يعني أن من

النساء من ستبقى بلا زوج، مما يعود بالضرر عليها وعلى المجتمع:

أما الضرر الذي سيلحقها فهو أنها لن تجد لها زوجاً يقوم على مصالحها، ويوفر لها المسكن والمعاش، ويحصنها من الشهوات المحرمة، وترزق منه بأولاد تقرُّ بهم عينها، مما قد يؤدي بها إلى الانحراف والضياع إلا من رحم ربك.

وأما الضرر العائد على المجتمع فمعلوم أن هذه المرأة التي ستجلس بلا زوج، قد تنحرف عن الجادة وتسلك طرق الغواية والرذيلة، فتقع في مستنقع الزنا والدعارة - نسأل الله السلامة - مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة فتظهر الأمراض الفتاكة من الإيدز وغيره من الأمراض المستعصية المعدية التي لا يوجد لها علاج، وتتفكك الأسر، ويولد أولاد مجهولي الهوية، لا يَعرفون من أبوهم؟

فلا يجدون يداً حانية تعطف عليهم، ولا عقلاً سديداً يُحسن تربيتهم، فإذا خرجوا إلى الحياة وعرفوا حقيقتهم وأنهم أولاد زنا فينعكس ذلك على سلوكهم، ويكونون عرضة للانحراف والضياع، بل وسينقمون على مجتمعاتهم، ومن يدري فربما يكونون معاول الهدم لبلادهم، وقادة للعصابات المنحرفة، كما هو الحال في كثير من دول العالم.

ثالثاً: الرجال عرضة للحوادث التي قد تودي بحياتهم، لأنهم يعملون في المهن الشاقة، وهم جنود المعارك، فاحتمال الوفاة في صفوفهم أكثر منه في صفوف النساء، وهذا من أسباب ارتفاع معدل العنوسة في صفوف النساء، والحل الوحيد للقضاء على هذه المشكلة هو التعدد.

ص: 308

رابعاً: من الرجال من يكون قوي الشهوة، ولا تكفيه امرأة واحدة، ولو سُدَّ الباب عليه وقيل له لا يُسمح لك إلا بامرأة واحدة لوقع في المشقة الشديدة، وربما صرف شهوته بطريقة محرمة.

أضف إلى ذلك أن المرأة تحيض كل شهر وإذا ولدت قعدت أربعين يوماً في دم النفاس فلا يستطيع الرجل جماع زوجته، لأن الجماع في الحيض أو النفاس محرم، وقد ثبت ضرره طبياً. فأُبيح التعدد عند القدرة على العدل.

خامساً: التعدد ليس في دين الإسلام فقط بل كان معروفاً عند الأمم السابقة، وكان بعض الأنبياء متزوجاً بأكثر من امرأة، فهذا نبي الله سليمان كان له تسعون امرأة، وقد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجال بعضهم كان متزوجاً بثمان نساء، وبعضهم بخمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإبقاء أربع نساء وطلاق البقية.

سادساً: قد تكون الزوجة عقيمة أو لا تفي بحاجة الزوج أو لا يمكن معاشرتها لمرضها، والزوج يتطلع إلى الذرية وهو تطلع مشروع، ويريد ممارسة الحياة الزوجية الجنسية وهو شيء مباح، ولا سبيل إلا بالزواج بأخرى، فمن العدل والإنصاف والخير للزوجة نفسها أن ترضى بالبقاء زوجة، وأن يسمح للرجل بالزواج بأخرى.

سابعاً: وقد تكون المرأة من أقارب الرجل ولا معيل لها، وهي غير متزوجة، أو أرملة مات زوجها، ويرى هذا الرجل أن من أحسن الإحسان لها أن يضمها إلى بيته زوجة مع زوجته الأولى، فيجمع لها بين الإعفاف والإنفاق عليها، وهذا خير لها من تركها وحيدة ويكتفي بالإنفاق عليها.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) واتفق كل من يُعاني العلوم على أن قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) ليس له مفهوم، إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً كمن خاف، فدل على أن الآية نزلت جواباً لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) أي: وإن ظننتم عدم العدل مع الزوجات إذا تعددن فاكتفوا بنكاح واحدة.

ص: 309

•‌

‌ في هذا أن التعدد مشروع بشرطين:

‌الشرط الأول: القدرة،

كما في الحديث (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج

) والباءة القدرة على مؤن النكاح.

‌الشرط الثاني: العدل،

لقوله تعالى في هذه الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).

• قال الشنقيطي: قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).

والجواب عن هذا:

أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) الآية.

وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ).

(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: أو استمتعوا بما ملكت أيمانكم، من السراري والإماء حيث لا يجب القسْم بينهن.

• ليس المعنى: أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من الإماء، لأنه يحرم على الرجل أن يتزوج أمته، لأنها تحل له بعقد اليمين، وهو أقوى من عقد النكاح.

• أسند الملك لليمين، لأنها مختصة بالمحاسن.

(ذَلِكَ) الإشارة إلى مضمون الجملتين السابقتين: وهما ترك نكاح اليتامى عند خوف الإقساط، ونكاح غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع، والاكتفاء بنكاح واحدة.

(أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) أي: أقرب ألا تجوروا.

وذهب بعض العلماء إلى أن معنى (ألا تعولوا) أي: ألا تكثر عيالكم، ذهب إلى ذلك الشافعي وجماعة.

ص: 310

وجمهور العلماء على القول الأول وهو: ألاّ تجوروا.

قال ابن القيم: قال الشافعي: أن لا تكثر عيالكم فدل على أن قلة العيال أولى.

قيل: قد قال الشافعي رحمه الله ذلك وخالفه جمهور المفسرين من السلف والخلف وقالوا معنى الآية: ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا، فإنه يقال: عال الرجل يعول عولاً إذا مال وجار، ومنه عول الفرائض لأن سهامها إذا زادت دخلها النقص، ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج.

قال تعالى (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء).

ثم قال ابن القيم مرجحاً القول الأول (وهو قول الجمهور): لكن يتعين الأول لوجوه:

أحدها: أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ولا يعرف عال يعول إذا كثر عياله إلا في حكاية الكسائي وسائر أهل اللغة على خلافه.

الثاني: أن هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان من الغرائب فانه يصلح للترجيح.

الثالث: أنه مروي عن عائشة وابن عباس ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين.

الرابع: أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير.

الخامس: أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون الظلم والجور فيه إلى غيره فإنه قال في أولها (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى وهو نكاح

ما طاب لهم من النساء البوالغ، وأباح لهم منهن أربعاً، ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن فقال (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور وهذا صريح في المقصود.

السادس: أنه لا يلتئم قوله (فإن خفتم ألا تعدلوا في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا ما شئتم بملك اليمين، فإن ذلك أقرب إلى أن لا تكثر عيالكم بل هذا أجنبي من الأول فتأمله.

السابع: أنه من الممتنع أن يقال لهم إن خفتم أن ألا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم.

الثامن: أن قوله (ذلك أدنى ألا تعولوا) تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ، ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة أو ملك اليمين ولا يليق تعليل ذلك بقلة العيال.

التاسع: أنه سبحانه قال (فإن خفتم ألا تعدلوا) ولم يقل: وإن خفتم أن تفتقروا أو تحتاجوا ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك.

ص: 311

• قال الرازي: نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال (ذلك أدنى أن لا تعولوا) معناه: ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن: وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية: أن معناه: أن لا تميلوا ولا تجوروا.

وثانيها: أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل: ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيماً، فأما تفسير (تَعُولُواْ) بتعيلوا فإنه خطأ في اللغة.

وثالثها: أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال.

• قال السعدي: وفي هذا، إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحاً - أنه لا ينبغي له أن يتعرض له، بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.

‌الفوائد:

1 -

يجب على الأولياء إذا خافوا عدم العدل مع اليتيمات ترك الزواج بهن.

2 -

أنه يجب على الإنسان الاحتياط إذا خاف الوقوع في المحرم.

3 -

أنه يجوز لأولياء اليتامى الزواج بهن إذا لم يخافوا عدم العدل معهن لمفهوم الآية.

4 -

أن الله إذا سد باب حرام فتح باب حلال.

5 -

أنه ينبغي للرجل أن يتزوج من تطيب له من النساء، لأن ذلك أحرى أن يؤدم بينهما.

6 -

إباحة التعدد، ويؤخذ مشروعيته من أدلة أخرى، وهي عموم الأدلة الدالة على فضل النكاح.

• وللنكاح حكم عظيمة:

الحكمة الأول: طلب النسل، لأنه ليس المقصود من الزواج التلذذ وقضاء الوطر وإنما من مقاصده العظيمة طلب النسل.

الحكمة الثانية: الاستمتاع، استمتاع كل واحد من الزوجين بالآخر.

الحكمة الثالثة: فمن مقاصد الزواج تحصيل النسل لتكثير الأمة ولا ريب أن تكثير الأمة هو مصدر قوتها وعزتها وهيبتها بين الأمم فهذا مقصد عظيم من مقاصد الزواج وهو تكثير الأمة.

الحكمة الرابعة: ومن حكم الزواج حفظ المرأة والإنفاق عليها لأن الزواج يهيئ للمرأة حياة سعيدة كريمة في ظل الزوج.

الحكمة الخامسة: ومن حكم النكاح العظيمة تحصين كل من الزوجين الآخر كما قال صلى الله عليه وسلم: فإنه أغض للبصر وأحصن لفرج، فما حفظ الفرج وغض البصر بمثل الزواج.

7 -

لا يجوز أن يجمع الرجل في عصمته أكثر من أربع زوجات.

8 -

وجوب العدل بين الزوجات في القسم، وأن عدم العدل حرام ومن الكبائر، لقوله صلى الله عليه وسلم (من كان عنده امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه الترمذي، ولقوله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) وليس مع الميل معاشرة بالمعروف.

9 -

أنه لا يجب العدل بين الإماء في الجماع. (السبت: 3/ 1/ 1433 هـ).

ص: 312

(وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)).

[النساء: 4].

(وَآتُوا النِّسَاءَ) أي: وأعطوا النساء مهورهن. (والمراد بالنساء المتزوجات).

‌واختلف لمن الخطاب في الآية على قولين:

‌الأول: إن هذا خطاب لأولياء النساء.

وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه، وقال ابن الأعرابي: النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة.

‌القول الثاني: أن الخطاب للأزواج.

أمروا بإيتاء النساء مهورهن، وهذا قول: علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج.

قال: لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج.

ورجحه الطبري وقال: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك، التأويل الذي قلناه. وذلك أن الله تبارك وتعالى ابتدأ ذكر هذه الآية بخطاب الناكحين النساءَ، ونهاهم عن ظلمهنّ والجور عليهن، وعرّفهم سبيلَ النجاة من ظلمهنّ. ولا دلالة في الآية على أن الخطاب قد صُرِف عنهم إلى غيرهم. فإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذين قيل لهم:"فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع"، هم الذين قيل لهم:"وآتوا النساء صدقاتهن" وأن معناه: وآتوا من نكحتم من النساء صدقاتهن نحلة، لأنه قال في أوّل الآية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)، ولم يقل (فأنكحوا)، فيكون قوله (وآتوا النساء صدقاتهن) مصروفًا إلى أنه معنيّ به أولياء النساء دون أزواجهن، وهذا أمرٌ من الله أزواجَ النساء المدخول بهن والمسمَّى لهن الصداق، أن يؤتوهن صدُقاتهن، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق.

• وقال القرطبي: والأوّل أظهر؛ فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد؛ لأنه قال (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى) إلى قوله (وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأوّل فيها هو الآخر.

ص: 313

• وقال ابن عاشور: والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرّعوا بحياء النساء وضعفهنّ وطلبهنّ مرضاتَهم إلى غمص حقوقهنّ في أكل مهورهنّ، أو يجعلوا حاجتهنّ للتزوّج لأجل إيجاد كافل لهنّ ذريعة لإسقاط المهر في النكاح.

(صَدُقَاتِهِنَّ) صدقات جمع صدُقَة، وهو المهر، وسمي بذلك لأن بذله دليل على صدق الطالب للمرأة.

(نِحْلَةً) أي: عطية طيبة بها نفوسكم.

• وللصداق عدة أسماء: فيسمى نِحلة كما في هذه الآية (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).

ويسمى فريضة كما قال تعالى (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً).

ويسمى أجراً كما قال تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

ويسمى طوْلاً كما قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ).

• قال ابن كثير: إن الرجل يجب عليه دفع الصداق حتماً، وأن يكون طيب النفس بذلك.

(فَإِنْ طِبْنَ) أي: النساء.

(لَكُمْ) أيها الأزواج.

(عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) أي: شيئاً قليلاً أو كثيراً من المهر. و (منه) أي: الصداق.

(فَكُلُوهُ هَنِيئاً) أي: حال الأكل، بكونه مستساغاً طيباً لذيذاً.

(مَرِيئاً) أي: بعد الأكل محمود العاقبة، لا تنغيص فيه ولا كدر ولا مشقة، سهل الهضم ينفع ولا يضر.

• والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب، وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال، وإن كانت سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل.

• قال الرازي: معنى الآية: فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن، فكلوه وأنفقوه، وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب، ووجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال (فَإِن طِبْنَ) ولم يقل: فإن وهبن أو سمحن، إعلاماً بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة.

• وقال الشوكاني: قوله (فإن طبن) دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس.

ص: 314

• وقال الرازي: الهنيء والمريء: صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما يحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وقيل: لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه.

• وبالجملة فهو عبارة عن التحليل، والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.

‌الفوائد:

1 -

وجوب الصداق.

وهو ما تعطاه المرأة من المال، أو ما يقوم مقامه عوضاً عن عقد النكاح عليها.

• الحكمة من الصداق:

أن الصداق إظهار لشرف هذا العقد وأهميته.

أن فيه إعزاز للمرأة وتشريف لها.

أن فيه الدليل على الرغبة في الزوجة.

تمكين المرأة من تجهيز نفسها بما أحبت من لباس ونفقة وزينة.

• وهو واجب، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم على وجوبه.

لقوله تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).

ولأن الله تعالى قيّد الحل بقوله (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الفقير الذي لم يجد خاتماً من حديد حتى ألزمه أن يعلمها من القرآن.

ولأن شرط إسقاطه يجعل العقد شبيهاً بالهبة، والزواج بالهبة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن الصداق ملك للمرأة.

3 -

يجب على الأزواج إيتاء نسائهم صدقاتهن على وجه النحلة طيبة بها نفوسهم من غير منّ ولا أذى أو مماطلة.

4 -

لا يجوز أن يأخذ شيئاً من صداق زوجته، أو يسقطه، وكذلك لا يجوز للولي أن يأخذ شيئاً من صداق موليته.

5 -

إذا أسقطت المرأة شيئاً من صداقها عن زوجها أو وهبته له أو لوليها بطيب نفس منها، فهو حلال لا شائبة فيه بوجه من الوجوه.

(الأحد: 4/ 1/ 1433 هـ)

ص: 315

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

[النساء: 5].

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) ينهى تبارك وتعالى عن إعطاء السفهاء الأموال التي بها تقوم مصالح العباد الدينية والدنيوية، فالدنيوية هي سبيل الحياة والمعاش، والدينية تقوم بها شعائر الدين مثل الزكاة والجهاد.

• قال الرازي: في الآية قولان:

الأول: أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال: أيها الأولياء لا تؤتوا الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم.

والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله (وارزقوهم فِيهَا واكسوهم) وأيضاً فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه.

فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، فلم قال أموالكم؟

قلنا: في الجواب وجهان:

الأول: أنه تعالى أضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، الثاني: إنما حسنت هذه الإضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص، ونظيره قوله تعالى (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ) وقوله (وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم) وقوله (فاقتلوا أَنفُسَكُمْ) وقوله (ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه، ولكن كان بعضهم يقتل بعضاً، وكان الكل من نوع واحد، فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه.

والقول الثاني: أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم، لما كان في ذلك من الإفساد، فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال إليهم حقيقة، وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك.

• السفيه: من لا يحسن التصرف، لقصور في عقله، إما لكونه مجنوناً، أو لكونه صغيراً، أو لكونه غير رشيد، كمن يدفع ماله لشراء خمر أو آلات لهو، أو يدفع ماله في غير نفع ديني ولا دنيوي.

• وقد قيل المراد بالسفهاء النساء، وقيل: الصغار، وقيل: النساء والصغار.

قال الطبري: والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه عم بقوله:"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم"، فلم يخصص سفيهاً دون سفيه. فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله، صبيًا صغيرًا كان أو رجلاً كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى.

و"السفيه" الذي لا يجوز لوليه أن يؤتِّيه ماله، هو المستحقُّ الحجرَ بتضييعه مالَه وفسادِه وإفسادِه وسوء تدبيره ذلك.

ص: 316

• في الآية وجوب حفظ المال، وقد جاءت الشريعة بحفظ المال.

قال تعالى (ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).

وقال تعالى (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً).

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) متفق عليه.

(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) الرزق بمعنى العطاء، أي: أعطوهم منها طعاماً وشراباً وسكناً وغير ذلك مما يعطى لغيرهم حسب العرف.

(وَاكْسُوهُمْ) الكسوة ما يكسى به البدن من ثوب وقميص وسراويلات وإزار ورداء ونحو ذلك مما يحتاجونه كسوة لأبدانهم حسب العرف.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي: قولوا لهم قولاً ليناً طيباً جميلاً لا غلظة فيه، كأن يقول الولي لمن تحت ولايته من اليتامى ونحوهم: المال لكم وسنحفظه لكم، ونعمل فيه لصالحكم، ثم نرده إليكم.

• قوله (وقولوا لهم قولاً معروفاً) جمع بين الإحسان الفعلي والإحسان القولي، وهذا من أجمل أساليب التعامل وأحسنها وأكملها.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) أراد تليين الخطاب والوعدَ الجميل، واختُلف في القول المعروف؛ فقيل: معناه ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم وصنع لكم، وأنا ناظر لك، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك.

وقيل: معناه وعِدوهم وَعْداً حسناً؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم.

ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبُه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك. أ هـ

‌الفوائد:

1 -

تحريم إعطاء السفهاء الأموال.

2 -

ذم السفه.

3 -

أن السفه موجب للحجر على الإنسان في ماله.

4 -

حكمة الله في المال وهو أنه قيام للناس ولحاجاتهم، ولذلك هو من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها.

5 -

تحريم إضاعة المال.

6 -

تحريم الغلظة بالقول على من ولاه الله على أحد، بل ينبغي أن يقول قولاً طيباً حسناً.

ص: 317

(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً).

[النساء: 6].

(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) الخطاب لمن عهد إليهم أمر اليتامى من الأوصياء، ولمن تولى كفالتهم من الأولياء بأمر الوالي الشرعي، أمروا أن يبتلوا اليتامى: أي: يختبرونهم، وذلك عند البلوغ أو قبله بيسير للتعرف على حسن تصرف اليتيم في ماله وحفظه وإصلاحه له، كأن يعطى شيئاً من المال فينظر هل يحسن التصرف، أو توكل إليه نفقة البيت فينظر كيف يتصرف أو غير ذلك، وإذا لم يحسن لا يدفع إليه ماله حتى لو بلغ.

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم إليه بقوله (وَءاتُواْ اليتامى أموالهم) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم، فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرشد، ولا بد من

ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم إليهم. أ. هـ

• وقال الآلوسي: قوله تعالى (وابتلوا اليتامى) شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق.

• وقال ابن عاشور: والابتلاء هنا: هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء.

(حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) أي: بلغوا سن النكاح، وذلك بالاحتلام، وذلك أنه بالاحتلام يبلغ مبلغ الرجال وتجب عليه التكاليف، كما قال صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق) رواه أبو داود، أو بالإنزال يقظة، أو ببلوغ خمسة عشر عاماً، أو بإنبات الشعر الخشن.

• قال الرازي: المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله (وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم).

(فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي: أبصرتم ورأيتم؛ ومنه قوله تعالى (آنس من جانب الطور ناراً) أي: أبصر ورأى.

(مِنْهُمْ رُشْداً) أي: من اليتامى رشداً، والرشد: حسن التصرف، وضده السفه.

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) أي: أعطوا أيها الأوصياء والأولياء اليتامى أموالهم ولا تحبسوها عنهم، وبادروا بإيصالها إليهم إبراء للذمة.

• قوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) معنى ذلك أنه إذا لم يؤنس منهم الرشد لا تدفع إليهم أموالهم، بل يستمرون تحت ولاية الأولياء عليهم لأنهم لا يزالون سفهاء لم يتبين رشدهم.

ص: 318

(وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً) لما أمر بدفع المال إليهم، نهاهم عن الإسراف فيها، والإسراف: مجاوزة الحد، وهو في كل شيء بحسبه، وهنا: المراد الإسراف في تبذيره واستخدامه في المعاصي، أو المبالغة في المباحات.

• قال ابن عاشور: وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم: وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّعِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات.

(وَبِدَاراً) أي: مبادرة واستعجالاً، والمعنى: أي: لا تأكلوا أموال اليتامى مستعجلين في أكلها قبل إعطائها اليتامى، تبادرون كبرهم، لأنهم إذا كبروا في الغالب وبلغوا زال عنهم السفه، فزالت عنهم الولاية، ووجب رد أموالهم إليهم.

(أَنْ يَكْبَرُوا) أي: قبل أن يكبروا.

• قال ابن كثير: ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافاً ومبادرة قبل بلوغهم.

(وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي: ومن كان من الأولياء والأوصياء على السفهاء من اليتامى وغيرهم غنياً، أي عنده من المال ما يكفيه ولا يحتاج إلى مال من تحت ولايته، فليستعفف وليستغن عن مال اليتيم، وليتنزه عنه، وليقنع بما أعطاه اللّه من رزق وفير إشفاقاً على مال اليتيم.

• والاستعفاف عن الشيء تركه. يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك عنه.

والعفة: الامتناع عما لا يحل.

• جعل الشرع أكل مال اليتيم بالباطل من السبع الموبقات المهلكات - كما قال صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات:

وذكر منها: وأكل مال اليتيم ..

ولكونه أمانة عظيمة قد يعجز عنها كثيرون قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر - ضمن نصائح له - (ولا تولينَّ مال يتيم) رواه مسلم.

ص: 319

(وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) أي: ومن كان من الأولياء والأوصياء فقيراً، ليس عنده شيء، أو عنده شيء يسير لا يكفي لحاجته، فليأخذ من مال اليتيم جزاء عمله على حفظه ورعايته، لكن يأخذ بالمعروف حسب العرف.

• واللام في قوله (فليأكل) للإباحة.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ) بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال ولِيّه بالمعروف.

يقال: عفّ الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك.

والاستعفاف عن الشيء تركه، ومنه قوله تعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً) والعِفّة: الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله.

• فإن كان الولي ينفق على اليتيم من ماله (أي من مال الولي) ويدخر مال اليتيم لوقت الشدة، فلا يخلو من حالين:

الأولى: أن يكون متبرعاً بالنفقة على اليتيم ولا ينوي أن يستردها في يوم من الأيام، فلا يجوز له أخذ شيء من مال اليتيم على أنه مقابل النفقة التي أنفقها عليه.

الثانية: أن ينوي استرداد جزء مما ينفقه على اليتيم إذا احتاج إلى ذلك، فهو على نيته، فإذا احتاج إلى مال فله الأخذ من مال اليتيم، بشرط أن لا يزيد ما أخذه على ما أنفقه عليه.

(فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) أي: إذا دفعتم وأعطيتم أيها الأولياء والأوصياء هؤلاء اليتامى أموالهم، بعد أن يحسنوا التصرف في أموالهم.

• كرر الله كلمة (أموالهم) للتأكيد على وجوب حفظ أموال اليتامى ودفعها إليهم كاملة سالمة.

• جاء سبحانه بكلمة (دفعتم) بدلاً من (أعطيتم) لأن الدفع يتضمن معنى إعطاء اليتامى أموالهم مباشرة بدون ممانعة أو مماطلة، فلا يكلفهم المطالبة، ولا يسلك الولي والوصي سبيل المماطلة والممانعة، فيتعب اليتيم والسفيه في أخذ ماله، بل يجب أن يدفع إليه ماله مباشرة.

(فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) هذا أمر من الله للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم، لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه.

• قال الرازي: اعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغاً، فإن الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه:

أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له.

وثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه.

ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته.

ص: 320

• فهذا الإشهاد: أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة.

(وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) أي: ما أعظم كفاية الله في محاسبته لعباده، ومعنى حسيباً: أي: محاسباً وشهيداً ورقيباً على العباد وأعمالهم، ومجازياً لهم عليها.

• قال ابن كثير: أي وكفى بالله محاسباً وشهيداً على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال، هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرنّ على اثنين، ولا تلينّ مال يتيم. رواه مسلم

• قال السعدي: الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها.

• ففي الآية تهديد للأولياء والأوصياء وتحذير لهم من الخيانة.

• من أسماء الله الحسيب، المحاسب الذي أحصى كل شيء على عباده ويوم القيامة يحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم.

وهذا يثمر في قلب المؤمن الخوف والوجل من الله، ومحاسبة النفس، والاستعداد لهذا الحساب بالطاعات واجتناب المحرمات ومظالم العباد، لأنه سيقف بين يدي الحكم العدل الذي قال عن نفسه سبحانه (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).

وقال تعالى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).

وقال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

ص: 321

وويل لمن نسي الحساب ولم يعمل له؛ قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).

ومن لا يؤمن بالحساب يتكبر؛ قال تعالى (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).

وهناك أناس لا يصيبهم أهوال وشدائد يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم (سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله:

).

‌الفوائد:

1 -

وجوب اختبار اليتامى قبل دفع الأموال لهم.

2 -

أن المال يدفع لليتيم بشرطين: إذا بلغ، وإذا رشد.

3 -

عناية الله تعالى بالأيتام.

4 -

أنه يجب على الولي والوصي على مال اليتيم أن يحفظه.

5 -

أهمية المال في الشريعة الإسلامية، ولذلك حرمت إضاعته.

6 -

أن المال به تقوم مصالح الناس الدنيوية والدينية، ولذلك هو من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها.

7 -

في الآية إشارة إلى وجوب المسارعة في رد المال لليتامى.

8 -

في الآية إشارة إلى أن بعض الأولياء يتعجلون في أكل أموال اليتامى قبل البلوغ.

9 -

يجب على من كان غنياً من الأولياء أن يتعفف عن أموال اليتامى.

10 -

الأمر بالإشهاد عند دفع الأموال لليتامى.

11 -

حرص الشريعة في إبعاد المسلم عن كل ما يؤدي إلى النزاع والشقاق. (الثلاثاء: 6/ 1/ 1433 هـ).

ص: 322

(لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7)).

[النساء: 7].

(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) قال ابن زيد: كان النساء لا يورَّثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث، ولا يرث الصغير وإن كان ذكراً، فقال الله تبارك وتعالى: (للرجال نصيب مما ترك

) الخ.

• قال ابن الجوزي: المراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإناث صغاراً كانوا أو كباراً.

• قال ابن كثير في معنى الآية: أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء.

• قوله (نصيب) أي حظ، ولم يبينه هنا، ولكن بينّه في آيات ستأتي، والإجمال ثم التفصيل من البلاغة التامة، لأن الشيء إذا أجمِل بقيت النفوس تتطلع إلى تفصيله، فيأتي التفصيل والنفوس متطلعة إليه.

• وإنما جاءت الآية على هذا الوجه من الإطناب والتنصيص على نصيب النساء بمفردهن، كما نص على نصيب الرجال ولم يقل (للرجال وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) مع أن هذا أخصر وأوجز، لأن الغرض من ذلك توكيد نصيب النساء في الميراث وأصالتهن في ذلك، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان.

ص: 323

(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) أي: لكل من الرجال والنساء نصيب مما خلف الميت من الميراث قليلاً كان هذا الميراث أو كثيراً، فلا يقال: لا نصيب للنساء أو لا نصيب للصغار إذا كان الميراث قليلاً.

(نَصِيباً) أي: قسمة.

(مَفْرُوضاً) أي: مقطوعاً به واجباً.

• قال القرطبي: قال علماؤنا: في هذه الآية فوائد ثلاث:

إحداها: بيان علة الميراث وهي القرابة.

الثانية: عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.

الثالثة: إجمال النصيب المفروض.

وذلك مبين في آية المواريث؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي.

• سؤال: فإن قيل: لما قال (مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) دخل فيه القليل والكثير، فما فائدة قوله (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ)؟

قلنا: إنما قال ذلك على جهة التأكيد والإعلام أن كل تركة يجب قسمتها لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة. (تفسير الرازي).

‌الفوائد:

1 -

أن لكل من الرجال والنساء نصيب من الميراث.

2 -

إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم توريث المرأة.

3 -

بيان أن الإسلام هو الذي كرم المرأة فعلاً.

4 -

تأكيد نصيب النساء في الميراث.

5 -

وجوب قسمة ما تركه الميت من الميراث بين الوارثين من الرجال والنساء.

6 -

لا يجوز التهاون بشيء مما خلفه الميت قليلاً أو كثيراً.

ص: 324

(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8)).

[النساء: 8].

(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي: وإذا حضر قسمة الميراث.

• قال الرازي: اعلم أن قوله تعالى (وَإِذَا حَضَرَ القسمة) ليس فيه بيان أي قسمة هي، فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال: الأول: أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث، وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث، وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة، فإن تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم، فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع إليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة.

• وقال ابن الجوزي: قوله تعالى (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ

) في هذه القسمة قولان:

أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون.

والثانية: أنها وصية الميت قبل موته، فيكون مأموراً بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً.

(أُوْلُواْ الْقُرْبَى) أي: قرابة الميت وقرابة الورثة، والمراد منهم: من ليس بوارث منهم، لأن الوارثين هم المقسوم عليهم، ولكل منهم نصيب مفروض مقدر.

• قال البقاعي: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً.

• وقال ابن الجوزي: والمراد بأولي القربى، الذين لا يرثون.

• قدم (أولي القربى) على اليتامى والمساكين، لأن الصدقة لأولي القربى أولى، كما قال تعالى (يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة في شأن صدقته (اجعلها في قرابتك) وقال صلى الله عليه وسلم (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى صدقة وصلة).

(وَالْيَتَامَى) واليتيم تقدم وهو من مات أبوه وهو لم يبلغ.

ص: 325

(وَالْمَسَاكِينُ) جمع مسكين، وهو من لا يجد تمام كفايته، سموا بذلك، لأن الفقر أذله وأسكنه، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر والجوع، فعن أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول (اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع) رواه أبو داود، وفي حديث أبي بكرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر). رواه النسائي قال الرازي: إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر، وحاجتهم أشد، فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر.

(فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي: من المال الموروث المقسوم بحضرتهم، تطييباً لخاطرهم ولنفوسهم، فإن النفوس تتوق للمال إذا رأته يوزع على هذا وعلى هذا وهم لا نصيب لهم. و (من) للتبعيض.

• قال الشوكاني: قوله تعالى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها. وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وأن الأمر للندب. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (يُوصِيكُمُ الله فِي أولادكم) والأوّل أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث.

• واختلف العلماء في الأمر في قوله (فارزقوهم) هل هو للوجوب أو الاستحباب، فقيل: للوجوب لظاهر الآية، وقيل: للاستحباب، وهذا أرجح.

• قال ابن عاشور: والأمر في قوله (فارزقوهم منه) محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أوّل الأمر، إذ ليس في

الصدقات الواجبة غير الزكاة، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي لمّا قال له: هل عليّ غيرها؟ لا إلاّ أنّ تطَّوّع، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار.

• قال السعدي: قوله تعالى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم.

ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين) أو كما قال.

ص: 326

وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علماً منه بشدة تشوفه لذلك.

• وتطييب الخواطر أمر جاءت به الشريعة:

أ-كما في هذه الآية.

ب-وجاء في حديث البراء: لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث وفيه: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها عليّ فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر،

فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا. رواه البخاري.

ج- وقال تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف

).

د-ومن ذلك: (أن أمَة سوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه، فقالت: إني نذرت إن ردك الله صالحاً أن أضرب عندك بالدف، فقالت: إن كنتِ فعلت فافعلي، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي) رواه الترمذي.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي: قولوا لمن حضر قسمة الميراث قولاً معروفاً لا ينكره الشرع، بل ليناً طيباً تطيب به نفوسهم، لكي يجمع بين الإحسان الفعلي والإحسان القولي، وهذا غاية المطلوب في حقهم.

• قال الرازي: الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئاً.

‌الفوائد:

1 -

مشروعية إعطاء من حضر قسمة الميراث من الأقارب غير الوارثين واليتامى والمساكين.

2 -

جواز قسمة الميراث بحضور آخرين ليسوا وارثين.

3 -

استحباب جبر الخواطر وعدم كسرها.

4 -

فضل الإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين.

5 -

مراعاة الإسلام للمشاعر.

(السبت: 10/ 1/ 1433 هـ).

ص: 327

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9)).

[النساء: 9].

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ) قيل: نزلت في الأوصياء كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم.

• قال ابن كثير: وقيل المراد بقوله (

فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) في مباشرة أموال اليتامى (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا) حكاه

ابن جرير عن ابن عباس، وهو قول حسن، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً، أي: كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم.

• وقال الرازي لما ذكر الأقوال في الآية:

القول الرابع: أن هذا أمر لأولياء اليتيم، فكأنه تعالى قال: وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره، والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله، وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالاً.

• قال القاضي: وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام، فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها، ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود.

وقال آخرون: إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، وبأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقربة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله وإحرام ورثته، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس [قاله الشوكاني].

• وقال الآلوسي: قيل: إنه أمر لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.

ص: 328

(فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأداء ما يجب عليهم من حقوق لليتامى والمساكين والورثة وغيرهم من أصحاب الحقوق، وأن يحذروا من الجور والظلم.

• قال الرازي: لا شك أن قوله (وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ) يوجب الاحتياط للذرية الضعاف.

(وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) القول السديد هو القول الصواب العدل الموافق للشريعة.

سمي سديداً لأنه يسد مكانه، فيناسب الحال والمقام، فأحياناً يكون القول اللين هو السديد، وأحياناً يكون القول الشديد هو السديد، فلكل مقام مقال.

وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

• قال الآلوسي: قوله تعالى (وَلِيَقُولُواْ) لليتامى أو للمريض أو لحاضري القسمة، أو ليقولوا في الوصية (قَوْلاً سَدِيداً) فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإشراف بالوصية وتضييع الورثة، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث.

‌الفوائد:

1 -

التحذير من أكل أموال اليتامى ظلماً، وتذكير من يفعل ذلك بأنه قد يحصل مثل ذلك لأولادهم.

2 -

يجب على الإنسان أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه، فكما يحب أن يعامل أولاده بعد موته معاملة طيبة، فكذلك يجب عليه هو أن يعامل أولاد الناس معاملة طيبة، وفي الحديث (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه).

3 -

وجوب تقوى الله، وإعطاء كل ذي حق حقه.

4 -

أن من علامات التقوى الحرص على أداء الحقوق.

5 -

من علامات ضعف التقوى التهاون في أداء الحقوق.

6 -

ينبغي على المسلم أن يختار لقوله: أن يكون سديداً.

7 -

التحذير من الكلام غير السديد.

8 -

أن الكلام الطيب السديد له تأثير في القلوب.

9 -

التذكير بقوله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). متفق عليه

ص: 329

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)).

[النساء: 10].

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً) أي: يتلفونها بأي طريقة كانت، سواء بسرقة أو عبث بها أو التصرف فيها لنفسه.

• خص الأكل بالذكر، لأنه أعم وجوه الانتفاع بالمال وأهمها، وهو كسوة البطن، وأهم ما يجمع المال من أجله.

(إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً) قيل: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوجب لهم النار ويؤول بهم إليها، وقيل: ما يأكلون إلا ناراً تشتعل وتتأجج في بطونهم، وهذا أصح، لأن الجزاء من جنس العمل.

• وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتوكيد والمبالغة.

كقوله تعالى (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ)، وكقوله تعالى (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) وكما يقال: أبصرت بعيني.

• قال أبو حيان: وعرض بذكر البطون لخستهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك.

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) أي: سيدخلون نار متوقدة مشتعلة ويحرقون فيها ويقاسون حرها، قال ابن كثير في قوله تعالى (سأصليه سقر) أي: سأغمره فيها من جميع جهاته.

• قوله (سعيراً) بمعنى مسعورة متوقدة مشتعلة، والمراد شدة حر جهنم.

• والآية دليل على أن أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب.

كما قال تعالى (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً).

وقال تعالى في هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).

وقال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

وقال صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات:

وذكر منها: وأكل مال اليتيم) متفق عليه.

وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أحرّج مال الضعيفين: المرأة واليتيم) أي: أوصيكم باجتناب مالهما.

• قال الرازي: وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى، لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى.

ص: 330

• قال السعدي: قوله تعالى (ظلماً) أي: بغير حق، وهذا القيد يخرج به ما تقدم من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.

• وقال الرازي: دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم، وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة، وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف.

•‌

‌ بعض الأسباب التي تكون سبباً في دخول النار:

‌أولاً: أكل مال اليتيم.

كما في هذه الآية.

‌ثانياً: الشرك بالله تعالى.

قال تعالى (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من مات وهو يدعو الله نداً دخل النار) رواه البخاري.

‌ثالثاً: الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

-.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه.

‌رابعاً: الكلمة من سخط الله.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) متفق عليه.

‌خامساً: تعذيب الحيوان.

قال صلى الله عليه وسلم (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْض) متفق عليه.

‌سادساً: غش الرعية.

قال صلى الله عليه وسلم (أيما راعٍ غش رعيته فهو في النار) رواه الأمام أحمد.

ص: 331

‌سابعاً: التبرج والسفور.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا). رواه مسلم

‌ثامناً: الهجر والتقاطع.

قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار) رواه أبو داود.

‌تاسعاً: اللعن وكفران العشير.

قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء (يا معشر النساء تصدقنَ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: لما يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير) رواه البخاري. معنى العشير: الزوج.

‌عاشراً: الجسم الذي نبت بالحرام.

قال صلى الله عليه وسلم (أيما جسم نبت على سحت فالنار أولى به) رواه أحمد.

‌الحادي عشر: ظلم الناس بأخذ حقوقهم.

قال صلى الله عليه وسلم (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة و إن كان قضيباً من أراك) متفق عليه.

‌الثاني عشر: الفجور

قال صلى الله عليه وسلم (

وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) متفق عليه.

‌الثالث عشر: قتل النفس وهو الانتحار والعياذ بالله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ فيها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم

فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) متفق عليه.

ص: 332

‌الرابع عشر: القاضي الذي يعرف الحق ولا يقضي به.

قال صلى الله عليه وسلم (القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو بالجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس جهلاً فهو في النار). رواه أبو داود

‌الخامس عشر: المكر والخداع.

قال صلى الله عليه وسلم (المكر والخديعة في النار).

‌الفوائد:

1 -

تحريم أكل أموال اليتامى وأنه من الكبائر.

2 -

حرص الشريعة على الضعفاء والاهتمام بأمورهم.

3 -

إثبات النار.

4 -

إثبات شدة عذاب النار.

5 -

أن أهل النار ليسوا على درجة واحدة في العذاب.

6 -

بيان سبب من أسباب دخول النار وهو أكل أموال اليتامى ظلماً. (الأحد: 11/ 1/ 1433 هـ).

ص: 333

(يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً).

[النساء: 11].

سبب النزول: عن جابر قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواف [اسم لحرم المدينة] فجاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله! هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله، فلم يدع لهما مالاً إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا تُنكحان أبداً إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقضي الله في ذلك، قال: ونزلت سورة النساء: يوصيكم الله في أولادكم .. ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي المرأة وصاحبها، فقال لعمهما: أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك) رواه أبوداود.

(يوصِيكُمُ اللَّهُ) أي: يأمركم ويعهد إليكم أيها المسلمون، والوصية هي العهد بأمر هام.

• الوصية: العهد بالشيء والأمر به ولفظ الإيصاء أبلغ وأدل على الاهتمام من لفظ الأمر، لأنه طلب الحرص على الشيء والتمسك به.

• قال القرطبي: قوله تعالى (يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ) بيّن تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله (لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ)(وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ) فدلّ هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال.

وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأُمّ من أُمّهات الآيات؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى أنها ثُلث العلم، وروي نصفُ العلم، وهو أوّل علم يُنزع من الناس ويُنسى.

ص: 334

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ولذلك قال

عليه الصلاة والسلام (فاطمة بضعة مني) فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم.

واعلم أن للأولاد حال انفراد، وحال اجتماع مع الوالدين: أما حال الانفراد فثلاثة، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معاً، وإما أن يخلف الإناث فقط، أو الذكور فقط.

القسم الأول: ما إذا خلف الذكران والإناث معاً، وقد بين الله الحكم فيه بقوله (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين):؟؟؟

(فِي أَوْلادِكُمْ) أي: يعهد إليكم في أولادكم أنفسكم.

• والأولاد جمع ولد، يشمل الذكور والإناث بدليل قوله (للذكر مثل حظ الأنثيين).

• قال ابن كثير: قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) أي: يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه الأنثى.

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أي: للذكر منهم كبيراً كان أو صغيراً، غنياً كان أو فقيراً، مثل حظ الأنثيين: أي: مثل نصيب الأنثيين، والمراد حال اجتماع الذكور والإناث.

• مثال: إنسان توفي وخلف ولدين فقط (ذكراً وأنثى) وترك ميراثاً لهما مقداره ثلاثة آلاف ريال، فعلى ضوء الشريعة الإسلامية، تأخذ الأنثى (1000) ويأخذ الذكر (2000).

ص: 335

• قال ابن كثير: استنبط بعض الأذكياء من قوله (يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما في الحديث وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من السبي تدور على ولدها، فلما وجدته أخذته فألصقته بصدرها قال: فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها.

• لماذا جاء التعبير (للذكر مثل حظ الأنثيين) ولم يقل (للأنثى نصف حظ الذكر)؟ مراعاة لأمرين:

الأول: تقديماً للذكر على الأنثى، لأنه أفضل من حيث العموم، لما له من القوامة في النفقة وغير ذلك.

الثاني: إيثاراً للتعبير بالأحسن، لأن الحظ والنصيب فضل وزيادة، وأما النصف فنقص، فلا يكون إشعاراً بنقص حق الأنثى.

• قوله (للذكر مثل حظ الأنثيين) قال القاسمي: إيثار اسمي (الذكر والأنثى) على ما ذكر أولاً من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلاً، كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال والنساء.

• قوله (يوصيكم الله في أولادكم .. ) يستثنى:

الابن الكافر فلا يرث، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) متفق عليه.

فلو هلك هالك عن ابن مسلم وابن كافر، فالميرات للابن المسلم.

وكذلك الابن القاتل عمداً فلا يرث.

• لماذا أعطيت المرأة نصف نصيب الرجل؟

الجواب: أن الشريعة الإسلامية قد فرقت بينهما في الإرث لحِكَم كثيرة منها:

أولاً: أن المرأة مكْفِيّة المؤونة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبيها أو أخيها أو غيرهم من الأقارب.

ثانياً: المرأة لا تُكلّف بالإنفاق على أحد، بخلاف الرجل فإنه مكلّف بالأهل على الأهل والأقرباء، وغيرهم ممن تجب عليه نفقته.

ثالثاً: نفقات الرجل أكثر، والتزاماته المالية أضخم، فحاجته إلى المال أكبر من حاجة المرأة.

ص: 336

رابعاً: الرجل يدفع مهراً للزوجة، ويكلف بنفقة السكنى، وبالمطعم والملبس للزوجة والأولاد.

خامساً: أجور التعليم للأولاد، وتكاليف العلاج والدواء للزوجة والأبناء، يدفعها الرجل دون المرأة.

• قال الشنقيطي: لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائماً، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائماً، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبراً لنقصه المترقب ظاهرة جداً.

• هناك أمور تكون الأنثى على النصف من الذكر وهي: العتق، والدية، والإرث، والعقيقة، والشهادة.

(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي: وإن كن الوارثات إناثاً فقط اثنتين فأكثر.

(فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) أي: فللبنتين فأكثر ثلثا التركة.

(وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) أي: وإن كانت الوارثة بنتاً واحدة (بلا معصب وهو أخوها ولا مشارك وهو أختها) فلها النصف، أي: نصف ما ترك أبوها أو أمها.

• إذاً ميرات البنات كالتالي:

إذا كانت واحدة فلها النصف بشرطين:

الشرط الأول: عدم المشاركة وهي أختها أو أخواتها لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

الشرط الثاني: عدم المعصب، وهو أخوها، فإن وجد فقد قال تعالى (يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

• وإذا كن أكثر من واحدة فلهن الثلثان بشرطين:

الشرط الأول: عدم المعصب، وهو أخوهن، لقوله تعالى (يوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

الشرط الثاني: تعددهن، ودليل ذلك حديث سعد بن الربيع، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى ابنتي سعد الثلثين.

(وَلِأَبَوَيْه) أي: أبوي الميت.

(لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) أي: للأم السدس، وللأب السدس.

(مِمَّا تَرَكَ) أي: مما تركه الميت.

(إِنْ كَانَ لَهُ) أي: للميت.

(وَلَدٌ) أي: إن وجد للميت ابن أو بنت، لأن الولد يطلق على الذكر والأنثى.

• فيشترط لإرث الأب السدس شرط واحد وجودي، وهو وجود الفرع الوارث لهذه الآية.

وكذلك الأم ترث السدس إذا وجد فرع وارث للميت.

• ذكر هنا ميراث الأصول (الأب والأم).

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) أي: فإن لم يكن للميت ولد، أي: لم يكن له فرع وارث مطلقاً، لا أولاد ولا أولاد بنين لا ذكور ولا إناث.

ص: 337

(وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) أي: فللأم ثلث التركة، ولم يذكر الأب هنا، لأن ميراثه بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد.

• يشترط لإرث الأم الثلث عدم وجود الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً.

(فَإِنْ كَانَ لَهُ) أي: للميت.

(إِخْوَةٌ) سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، وسواء كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلطين، وارثين أو غير وارثين

(فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي: فنصيب الأم يكون سدس ما خلفه.

• وترث الأم السدس إذا وجد جمع من الإخوة لهذه الآية.

• مثال: هلك هالك عن أم وأب وأخوين شقيقين: للأم السدس [لوجود جمع من الإخوة]، والباقي للأب، والإخوة يسقطون.

• هلك هالك عن أم وابن، فللأم السدس والابن الباقي.

ص: 338

• إذاً ميراث الأم إما أن يكون الثلث أو السدس؟

• ترث الثلث بشرطين:

الشرط الأول: عدم الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، واحداً أو متعدداً.

لقوله تعالى في هذه الآية (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ). فهذه الآية اعتبرت لإرث الأم الثلث عدم الولد، فلا تستحقه مع وجوده.

الشرط الثاني: عدم الجمع من الإخوة، اثنان فأكثر سواء كانوا أشقاء، أم لأب أم لأم أم محتلفين.

لقوله تعالى في هذه الآية (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

• وترت السدس بشرطين:

الشرط الأول: وجود الفرع الوارث، الشرط الثاني: أو وجود جمع من الإخوة.

لقوله تعالى (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) ودليل اشتراط عدم الجمع من الإخوة قوله تعالى (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

• ميراث الأب:

يرث السدس بشرط واحد وهو وجود الفرع الوارث، لهذه الآية (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ)، فإن كان الفرع وارث ذكراً فقط ليس للأب إلا السدس، وإن كان أنثى ورث السدس والباقي تعصيباً.

فإن لم يوجد فرع وارث مطلقاً ورث الباقي، كهالك عن أم وأب وأخوين شقيقين، للأم السدس لوجود جمع من الإخوة، وللأب الباقي، والإخوة يسقطون بالأب.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا) أي: تستحقون ذلك الإرث بعد الوصية، أي أن الوصية مقدمة على الإرث

• والوصية هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعد الموت.

قوله (بعد الموت) احترازاً من الهبة، فإنها تبرع في حال الحياة.

مثال تبرع بمال: قال أوصيت لفلان بعد موتي بـ (100) ريال.

مثال التصرف: وصيي على أولادي الصغار فلان.

ص: 339

• والوصية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين).

قال تعالى (كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالمَعرُوفِ).

وعن ابن عمر - الذي ذكره المصنف - (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه.

وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية [قاله ابن قدامة]

• والوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة:

تستحب: لمن ترك خيراً وهو المال الكثير، كما سبق.

وتحرم: بأكثر من الثلث لغير وارث لحديث سعد (الثلث والثلث كثير).

وإنما مُنع الموصي من الزيادة على الثلث لأمرين:

الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسعد إلا بالثلث، فدل على أن الثلث هو النهاية وما زاد فهو ممنوع منه.

الأمر الثاني: أن ما زاد على الثلث داخل في المضارة التي قال الله فيها (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار).

وتحرم أيضاً: لوارث بشيء. لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث).

تكره: وصية فقير وورثته محتاجون، لأن هذا يضر بالورثة.

ص: 340

لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد ( .. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).

تجب: على من عليه دين، وفي ذمته حقوق ولديه أمانات وعهد، فإنه يجب أن يوضح ذلك كله بالكتابة الواضحة الجلية، التي تحدد الديون إن كانت حالة أو مؤجلة.

تجوز: بكل ماله، لمن لا وارث له، وهذا مذهب جمهور العلماء.

وهذا يفهم من حديث سعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، فدل على أن من ليس له ورثة، فلا مانع أن يزيد على الثلث، بل لا مانع أن يوصي بماله كله، لزوال المانع.

• قوله (من بعد وصية) الوصية هنا مطلقة من حيث مقدارها، ولمن تكون، وقد دلت السنة على عدم جواز الزيادة على الثلث، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته قال (الثلث والثلث كثير) متفق عليه.

وأيضاً دلت الأدلة على أنها لا تجوز لوارث بشيء لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث).

• والحكمة من تحريم الوصية لوارث:

ما جاء في الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة) وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.

قال ابن قدامة: إذا وصى لوارثه بوصية، فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصح، بغير خلاف بين العلماء.

قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا. وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) رواه أبو داود. وابن ماجه، والترمذي

وإن أجازها، جازت، في قول الجمهور من العلماء. (المغني).

ص: 341

وقد أشار الحديث إلى الحكمة من منع الوصية للوارث، وهي: أنه يأخذ بذلك أكثر من الحق الذي جعله الله له في الميراث، فكان في الوصية للوارث زيادة على ما شرعه الله.

وذكر ابن قدامة رحمه الله في (المغني) حكمة أخرى، حاصلها: أن هذا التفضيل لبعض الورثة سيكون على حساب سائر الورثة، مما قد يكون سبباً لإيقاع العداوة والحسد بينهم.

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: منع الإسلام الوصية للوارث لأنه من تعدي حدود الله عز وجل، فإن الله عز وجل حدد الفرائض والمواريث بحدود قال فيها:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ).

فإذا كان للإنسان بنت وأخت شقيقة مثلاً فإن من المعلوم أن للبنت النصف فرضاً، وللأخت الشقيقة الباقي تعصباً، ولو أوصى للبنت في مثل هذه الحال بثلث ماله مثلاً لكان معنى ذلك أن البنت ستأخذ الثلثين، والأخت ستأخذ الثلث فقط، وهذا تعدي لحدود الله.

وكذلك لو كان ابنان، فإن من المعلوم أن المال بينهما نصفان، فلو أوصى لأحدهما بالثلث مثلاً صار المال بينهما أثلاثاً، وهذا من تعدي حدود الله، فلذلك كانت حراماً؛ لأنها لو أجيزت ما كان لتحديد المواريث فائدة، ولكان الناس يتلاعبون، وكُلٌّ يوصي لمن شاء فيزداد نصيبه من التركة ويَحْرِم من يشاء فينقص نصيبه.

ص: 342

• الحكمة من تحريم الوصية بأكثر من الثلث:

منع الرسول صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من الوصية بأكثر من الثلث، فقال عليه السلام:(إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) رواه البخاري ومسلم.

وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى الحكمة من هذا المنع، وهي أن يترك المال للورثة، فلا يحتاجون معه لسؤال الناس، وأن هذا خير له من أن يوصي ثم يترك ورثته فقراء.

فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك: تحقيق العدل بين الوصية وبين حق الورثة في المال، وإذا كان الموصي يريد بالوصية الثواب، فإن تركه المال لورثته الفقراء المحتاجين إليه أكثر ثواباً، فإن إعطاء القريب الفقير أفضل من إعطاء من ليس قريباً.

ولهذا يستحب لمن كان ورثته فقراء، وكان ماله قليلاً بحيث لا يغني الورثة، يستحب له أن لا يوصي، ويترك المال لورثته.

(أَوْ دَيْنٍ) أي: وبعد الدين، فلا تقسم التركة إلا بعد الوصية والدين.

• قال الرازي: إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين، قال (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والديْن، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله.

• والدين كل ما ثبت في الذمة من قرض أو أجرة أو ثمن مبيع أو نحوها.

• والمعنى: أن الميراث يقسم بين الورثة بعد إخراج ما يوجد من وصية شرعية أوصى بها الميت، أو دين كان عليه لله أو للآدميين، أو إخراجهما معاً إن وجدا جميعاً.

• قوله (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) قدم الله سبحانه وتعالى الوصية على الدين، وقد أجمع العلماء على أن الدين مقدم على الوصية.

مثال: مات شخص وخلف (30) ألف ريال، وعليه دين (30) ألف وعنده وصية ألف ريال، فهنا نعطي المال لصاحب الدين وتسقط الوصية والورثة، لأن الدين استغرق التركة.

ص: 343

• فلماذا قدم الله الوصية هنا مع أن الدين مقدم بالإجماع؟

للعناية بها والاهتمام، ولأن إخراج الوصية قد يكون شاقاً على الورثة وربما تساهلوا فيه، فبدأ الله بها، ولأن صاحب الدين غالباً يكون قوياً مطالباً لأنه يطالب بحق.

• قال الرازي: واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين:

الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقاً على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيباً في إخراجها

، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة (أو) على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.

• قال أبو السعود: وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين.

•‌

‌ ترتيب الحقوق المتعلقة بالتركة:

أولاً: مؤونة التجهيز للميت من كفن وأجرة مغسل وأجرة حافر قبر ونحو ذلك.

لقول صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته (اغسلوه بماء وسدر) ولم يقل: هل عليه ديْن أو وصية، فدل على أن التجهيز مقدم على الوصية والدين.

ثانياً: الدين الذي على الميت، وعليه فلو أن الدين استغرق جميع التركة، فإنه لا يبقى للورثة شيء.

ثالثاً: الوصية.

رابعاً: الميراث.

ص: 344

(آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) آباؤكم وأبناؤكم، لا تدرون أيهم الأقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، أهم الآباء أم الأبناء، وهل الأنفع لكم الآباء الأدنون أم الأجداد، أو الأبناء الكبار أم الصغار أم مَن بينهم.

• قال القرطبي: قوله تعالى (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة؛ كما جاء في الأثر: إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده، وفي الحديث الصحيح (إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر أو ولد صالح يدعو له)، وقيل: في الآخرة؛ فقد يكون الابن أفضلَ فيشفع في أبيه؛ عن ابن عباس والحسن.

وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفَع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فَرفع إليه أباه، وكذلك الأب إذا كان أرفعَ من ابنه، وقيل: في الدنيا والآخرة؛ قاله ابن زيد، واللفظ يقتضي ذلك

• وفي هذا إشارة إلى أنه عز وجل قسم المواريث على الوجه الأكمل، وأنه لو وكل ذلك إلى الناس ما عرفوا وجه الصواب في ذلك لعدم معرفتهم الأقرب نفعاً.

(فريضَةً) أي: فرض الله ذلك فريضة، والفريضة شرعاً: ما أمر الله به على وجه الإلزام.

(منَ اللَّهِ) أي: هذه الفريضة صادرة من الله لا من غيره، فهو الذي فرض هذه الفرائض وأوجبها، وقدرها بنفسه سبحانه، ولم يتول فرضها أحد سواه.

(إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً) يعلم كل شيء، يعلم المستحق وغير المستحق، وعليم بمقدار ما يستحق كل شخص، فكل فعله سبحانه ناتج عن علم.

•‌

‌ مباحث علم الله تعالى:

أولاً: فالله تعالى يعلم كل شيء، يشمل الجزئيات والكليات.

قال تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

وقال تعالى (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

ثانياً: يعلم سبحانه الماضي والمستقبل.

قال تعالى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).

(ما بين أيديهم) الحاضر والمستقبل (وما خلفهم) الماضي.

ثالثاً: الله يعلم الخفايا وما في الصدور:

كما قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).

وقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وقال تعالى (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).

ص: 345

رابعاً: وليس شيء يصل إلى الأرض أو يصعد من الأرض إلى السماء إلا قد أحاط الله به علماً.

قال تعالى (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

خامساً: ويعلم الأمور التي لن تكون كيف تكون لو كانت.

كما قال تعالى عن الكفار حين يكونون في النار (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

وقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).

والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً، لأن الله هو الذي ثبطهم عنها بحكمته بقوله (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) وهذا الخروج الذي لا يكون قد علم جل وعلا أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).

سادساً: ويستوي في علم الله السر والعلانية، والصغير والكبير والغيب والشهادة.

قال تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)

وقال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).

وقال تعالى (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً).

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

سابعاً: وعلم الله لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان.

قال تعالى (

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى).

وقال تعالى (

وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً).

أما علم ابن آدم فمسبوق بجهل ويلحقه نسيان كما قال تعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً).

ثامناً: علمنا قليل بالنسبة لعلم الله.

ص: 346

قال تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

• الآثار المترتبة من علمنا بأن الله عليم بكل شيء.

أولاً: الخوف من الله وخشيته، ومراقبته في السر والعلن، لأن العبد إذا أيقن أن الله تعالى عالم بحاله مطلع على باطنه وظاهره، فإن ذلك يدفعه إلى الاستقامة على أمر الله ظاهراً وباطناً.

ثانياً: اليقين بشمول علم الله تعالى لكل شيء في السماوات والأرض، وللبواطن والظواهر، يثمر في قلب العبد تعظيم الله تعالى وإجلاله والحياء منه، كما يعين على التخلص من الآفات القلبية التي تخفى على الناس ولكنها لا تخفى على الله كآفة الرياء، والحسد، والغل، والعجب، والكبر.

قال ابن القيم: فإن قلت: فما السبيل إلى حفظ الخواطر، قلت: أسباب عدة، أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك، والثاني: حياؤك منه، والثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته

الذي خلق لمعرفته ومحبته.

ثالثاً: إن يقين العبد بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه بحال عبده المصاب وما يقاسيه من الآلام، إن ذلك يثمر في القلب الرجاء والأنس بالله ويدفع اليأس والقنوط من القلب.

رابعاً: ونستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: وجوب مراقبة الله، لأن العاقل إذا علم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، فسوف يراقب ربه، بلسانه وجنانه وأركانه، فبلسانه: لا ينطق بما حرم الله، وبجنانه: لا يعتقد بقلبه خلاف الحق، وبجوارحه: لا يستعملها في المحرمات، فيستعمل العين في النظر إلى الحرام، ويستعمل اليد في البطش الحرام، ويستعمل الآذان في السماع الحرام.

وأيضاً نستفيد من معرفتنا أن الله عليم بكل شيء: الرغبة والنشاط والرجاء، لأن الإنسان يعلم أن الله يعلم بكل أعماله الصالحة، وأنه لن يضيع منها شيء.

ص: 347

(حَكِيماً) اسم من أسماء الله، ومعناه: الذي يضع الأمور في مواضعها، فكل فعل يفعله فهو لحكمة،

• قال ابن جرير: هو الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل.

• وقال ابن كثير: الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله.

• قال ابن القيم: وقد دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنة: أنه سبحانه (حكيم) لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل كما فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل.

• وقال السعدي: فالله لا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه، والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها.

• فهو سبحانه حكيم في صنعه، وحكيم في شرعه، فجميع مصنوعاته كلها محكمة، قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وأما في الشرع فيقول سبحانه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فلا يمكن أن يوجد تناقض في القرآن أبداً.

• قال بعض العلماء: الحكمة تكون في صورة الشيء: أي أن خلق الإنسان على هذه الصورة لحكمة، وكذلك خلق الحيوان على هذه الصورة لحكمة.

وتكون في غايته: أي: أن الغاية من خلق الإنسان لحكمة، وكذلك الحيوانات، وكذلك جميع المخلوقات، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً).

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: أن الله خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية جليلة وهي عبادته سبحانه حيث قال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً كما يظن الكفار والملاحدة، قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). وقال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).

ثانياً: أن خلق الله محكم لا خلل فيه ولا قصور، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ).

ص: 348

ثالثاً: ونستفيد من معرفتنا أن الله حكيم في كل أفعاله: اقتناع الإنسان بما يجري عليه وما يوجبه الله عليه، لأن ما يجريه الله عز وجل من الأحكام مقرون بالحكمة، فإذا علمت هذا يقينياً اقتنعت سواء كان هذا من الأحكام الكونية أو الأحكام الشرعية، حتى المصائب التي تنال العباد لاشك أن لها حكمة.

رابعاً: الرضا بالقضاء والقدر.

- ومناسبة ختم هذه الآية بهذين الاسمين: فيه دليل على أن هذه الأحكام التي فيها ناتج عن علم وحكمة.

- وبالعلم والحكمة تتم الأمور، لأن تخلف الأمور سببه أحد أمرين: إما الجهل وإما السفه، فإذا وجد العلم ارتفع الجهل، وإذا وجدت الحكمة ارتفع السفه.

‌الفوائد:

1 -

أن الله أرحم بالأولاد من والديهم.

2 -

فضل علم الفرائض حيث تولى الله قسمتها بنفسه.

3 -

بيان ميراث الفروع والأصول.

4 -

حكمة الشرع في جعل للذكر مثل حظ الأنثيين.

5 -

إثبات أنواع الإرث وهي نوعان:

الأول: الإرث بالفرض.

الثاني: الإرث بالتعصيب.

فالفرض: نصيب مقدر شرعاً.

والتعصيب: كل من يرث بلا فرض.

6 -

بيان الفروض المقدرة في كتاب الله وهي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

7 -

مشروعية الوصية لقوله (من بعد وصية).

9 -

أن الإنسان لا يدري من الأقرب له نفعاً.

10 -

وجوب إعطاء كل وارث نصيبه من الميراث.

11 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العليم - الحكيم. (الثلاثاء: 13/ 1/ 1433 هـ).

ص: 349

(ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

[النساء: 12]

(ولَكُمْ) الخطاب للرجال الأزواج.

• واللام للتمليك، فلا يرث الزوج إلا إذا كان حراً.

(نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) أي: نصف ما ترك أزواجكم من المال، لكن بشرط هو:

(إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) أي: إن لم يوجد لهن ولد.

• والولد يشمل الذكر والأنثى، ويشمل الواحد والمتعدد.

• قوله تعالى (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) مفهوم إن كان لها ولد فلا يرث الزوج النصف، بل له نصيب سيذكره الله.

(فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) أي: فإن كان لأزواجكم ولد فلكم الربع مما تركن بعد وفاتهن.

• قوله تعالى (لهن ولد) سواء كان الولد من هذا الزوج أو من زوج سابق.

• إذاً ميرات الزوج: يكون بالنصف والربع: يستحق النصف بشرط واحد: وهو عدم وجود الفرع الوارث لهذه الآية (ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ).

ويستحق الربع إن كان للزوجة ولد، لهذه الآية (فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ).

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) تقدم.

(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) أي: ولزوجاتكم واحدة فأكثر الربع مما تركتم من الميراث إن لم يكن لكم ولد منهن أو من غيرهن.

(فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) أي: فإن لكم أيها الأزواج ولد فلزوجاتكم الثمن مما تركتم بعد وفاتكم.

• والربع والثمن للزوجات، سواء كن واحدة أو متعددات، لأن الله لم يفرق بينهن.

• إذاً ميرث الزوجة: إما الربع أو الثمن، تستحق الربع إذا لم يكن للزوج ولد، لهذه الآية (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ).

ص: 350

وتستحق الثمن إذا كان للزوج ولد، لهذه الآية (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ).

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ

) الخطاب للرجال، والولد هنا بنو الصُّلب وبنو بنيهم وإن سَفَلوا، ذُكراناً وإناثاً واحداً فما زاد بإجماع.

وأجمع العلماء على أن للزَّوج النصفَ مع عدم الولد أو ولد الولد، وله مع وجوده الربع.

وترث المرأة من زوجها الرّبعَ مع فقد الولد، والثمن مع وجوده.

وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد، وفي الثمن إن كان له ولد واحد، وأنهنّ شركاء في ذلك؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهنّ وبين حكم الجميع، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن.

• نستفيد أن من أسباب الميرات النكاح، وأسباب الإرث ثلاثة، قال الناظم:

أسبابُ ميراثِ الورَى ثلاثهْ كل يفيدُ ربّه الوراثهْ

وهي نكاحٌ وولاءٌ ونسبْ ما بعدَهن للمواريثِ سببْ

ويحصل الإرث بمجرد العقد، فلو عقد عليها ثم مات فإنه ترثه.

عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ اِمْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا اَلْعِدَّةُ، وَلَهَا اَلْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ - اِمْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا اِبْنُ مَسْعُودٍ - رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ.

هذا الحديث فيه ثلاث مسائل:

الأولى: أن من مات عنها زوجها وقد عقد عليها، فعليها العدة (أربعة أشهر وعشرة أيام).

وهذا مجمع عليه، لعموم الأدلة، كقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فهذه عامة في المدخول بها وغير المدخول بها.

الثانية: أن لها الميراث من زوجها الذي عقد عليها ثم مات، لأنها زوجة، والإرث يثبت بمجرد العقد، إذ هو سببه وليس الوطء، وهذا أيضاً مجمع عليه.

الثالثة: أن المرأة إذا مات زوجها ولم يفرض لها صداقاً (قبل الدخول) فإنها تستحق الصداق كاملاً، وذلك بأن يفرض لها مثل صداق نسائها.

ص: 351

•‌

‌ الحكم لو طلق زوجته:

المطلقة لا تخلو من ثلاث حالات:

أولاً: أن يكون الطلاق رجعياً، كالطلقة الأولى أو الثانية.

فإن مات زوجها وهي في العدة فإنها ترثه بإجماع العلماء، وذلك لأن المطلقة الرجعية لا تزال زوجته ما دامت في العدة، فإن انقضت عدتها فلا ترث، لأنها صارت أجنبية من الزوج المطلق.

ثانياً: أن يكون الطلاق بائناً كالطلقة الثالثة، ويكون الطلاق في حال صحة الزوج.

فإن مات زوجها فإنها لا ترثه بإجماع العلماء، لانقطاع الصلة بينها وبين زوجها المطلق.

ثالثاً: أن يكون الطلاق بائناً كالطلقة الثالثة، ويكون الطلاق في حال مرض الزوج مرض موت، ويكون الزوج متهماً بقصد حرمانها من الميراث، فقد اختلف العلماء في توريثها منه.

فذهب الإمام الشافعي إلى أنها لا ترث، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها ترث ما دامت في العدة، وذهب الإمام أحمد إلى أنها ترث ما لم تتزوج زوجاً آخر، معاملةً للزوج بنقيض قصده. (المغني).

وقد اختار مذهب الإمام أحمد في هذا، جماعة من علمائنا المعاصرين، منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ صالح بن فوزان الفوزان.

وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: هل ترث المرأة المطلقة التي توفي عنها زوجها وهي في فترة العدة أو بعد انقضاء العدة؟

فأجاب: المرأة المطلقة إذا مات زوجها وهي في العدة فإما أن يكون الطلاق رجعياً أو غير رجعي:

فإذا كان الطلاق رجعياً فهي في حكم الزوجة وتنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، والطلاق الرجعي هو أن تكون المرأة طلقت بعد الدخول بها بغير عوض وكان الطلاق لأول مرة أو ثاني مرة، فإذا مات زوجها فإنها ترثه، لقول الله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقوله تعالى:(يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).

ص: 352

فقد أمر الله سبحانه وتعالى الزوجة المطلقة أن تبقى في بيت زوجها في فترة العدة، وقال:(لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يعني به الرجعة.

أما إذا كانت المطلقة التي مات زوجها فجأة مطلقة طلاقاً بائناً مثل الطلقة الثالثة، أو أعطت الزوج عوضاً ليطلقها، أو كانت

في عدة فسخ لا عدة طلاق، فإنها لا ترث ولا تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة.

ولكن هناك حالة ترث فيها المطلقة طلاقاً بائناً مثل إذا طلقها الزوج في مرض موته متهماً حرمانها فإنها في هذه الحالة ترث منه ولو انتهت العدة ما لم تتزوج، فإنها إن تزوجت فلا إرث لها.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) تقدم.

(وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) أي: وإن كان رجل يورث كلالة أي: لا والد له ولا ولد، وورثه الحواشي.

• الحواشي: هم الإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم سموا كلالة لأنهم أحاطوا بالميت حين فقد قرابة الولادة والنسب.

(أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل والمعنى: أو امرأة تورث كلالة.

(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) الضمير في (وله) يعود على الرجل الذي يورث كلالة، والمرأة التي تورث كلالة، أي وله (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من أم، وقد أجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة لأم.

• قال الرازي: أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت: الأخ والأخت من الأم.

• وقال ابن قدامة: والمراد بهذه الآية الأخ والأخت من الأم، بإجماع أهل العلم. وفي قراءة سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت من أم) والكلالة في قول الجمهور: من ليس له ولد، ولا والد، فشرط في توريثهم عدم الولد والوالد، والولد يشمل الذكر والأنثى، والوالد يشمل الأب والجد. (المغني).

ص: 353

(فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) أي: فللأخ من الأم السدس، وللأخت للأم السدس أيضاً.

(فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي: فإن كانوا أكثر من أخ، وأكثر من أخت، أي: فإن كان الإخوة لأم اثنين فأكثر ذكوراً كانوا أو إناثاً أو ذكوراً وإناثاً مجتمعين.

(فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) أي: فهم شركاء في الثلث، أي: يقتسمون الثلث بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.

• إذاً ميراث الإخوة من الأم:

‌الأخ من الأم يرث السدس بشروط:

الشرط الأول: عدم الفرع الوارث، لأنه يسقط به.

الشرط الثاني: عدم الأصل الوارث من الذكور لأنه يسقطه.

الشرط الثالث: أن يكون منفرداً، لقوله تعالى في هذه الآية (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ).

ويستحقون الثلث بشروط:

الشرط الأول: عدم الفرع الوارث.

الشرط الثاني: عدم الأصل الوارث من الذكور لأنه يسقطه.

الشرط الثالث: أن يكونوا اثنين فأكثر، لقوله تعالى في هذه الآية (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ).

•‌

‌ أحكام خاصة بالإخوة لأم:

أولاً: أن ذكرهم كأنثاهم حال الانفراد، فمن انفرد منهم أخذ السدس ذكراً أو أنثى بخلاف غيرهم.

ثانياً: أن ذكرهم كأنثاهم حال الاجتماع فلا يفضل الذكر عن الأنثى.

ثالثاً: أنهم يحجبون من أدلوا به نقصاناً، فيحجبون الأم من الثلث إلى السدس وقد أدلوا بها.

رابعاً: أنهم يرثون مع من أدلوا به، فيرثون مع الأم وهم يدلون بها، أما غيرهم فيحجبه من أدلى به.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي: بعد إخراج الوصية إن كان هناك وصية، وبعد قضاء الدين إن كان هناك دين على الميت، وهذا توكيد لما سبق.

ص: 354

(غَيْرَ مُضَارٍّ) أي: بشرط ألا تكون الوصية والدين مقصوداً بهما أو بأحدهما المضارة للورثة، بأي وجه من أوجه الضرر.

كأن يوصي لوارث، أو بأكثر من الثلث، أو بالثلث فأقل لكن بقصد الإضرار بالورثة والتضييق عليهم وتقليل نصيبهم، وكأن يستدين المريض ديناً يضر بالورثة، أو يقر بشيء ليس عليه.

(وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) أي: عهداً مؤكداً من الله.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ) بكل شيء، شامل لجميع الأشياء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما في الصدور، ويعلم النيات.

• قال الرازي: أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته.

(حَلِيمٌ) اسم من أسماء الله، ومعناه: الذي لا يعاجل بالعقوبة.

• قال الطبري: ذو حلم على خلقه، وذو أناة في تركه معاجلتهم بالعقوبة على ظلم بعضهم بعضاً.

• وقال ابن كثير: (حليم غفور) أن يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخِّر ويُنظِر، ويُؤجّل ولا يَعجل، ويستر آخرين ويغفر.

• وقال السعدي: والحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة، والباطنة مع معاصيهم، وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويمهلهم كي ينيبوا.

• قال ابن القيم:

هو الحليم فلا يعاجل عبده

بعقوبة ليتوب من عصيان.

• الآثار المترتبة على الإيمان بهذا الاسم:

أولاً: محبة الله تعالى، حيث إن حلمه العظيم اقتضى الصبر على عباده العصاة، وعدم الاستعجال.

قال تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً).

ثانياً: فتح باب الرجاء وعدم اليأس من رحمة الله، والمبادرة إلى التوبة والإنابة عن الذنوب مهما عظمت، لأنه سبحانه ما أخّر العقوبة على الذنب إلا للإنابة والتوبة.

ثالثاً: من آثار حلمه سبحانه وتعالى، أنه لا يستجيب لاستعجال عباده بإنزال العقوبة بالكافرين.

قال تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

رابعاً: مجاهدة النفس بالتخلق بهذا الخلق الكريم ألا وهو صفة الحلم، فهو سبحانه حليم يحب من عباده الحلماء.

وقد أثنى الله على خليله ونبيه إبراهيم بقوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).

ص: 355

وجعل من صفات نبيه إسماعيل الحلم، وذلك بقوله (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

والحلم من الصفات التي يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد قيس (إن فيك خصلتين يحبها الله: الحلم والأناة).

والحِلْم: ضبط النَّفس والطَّبع عن هيجان الغضب.

قال صلى الله عليه وسلم (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء الله) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (التَّأنِّي مِن اللَّه، والعجلة مِن الشَّيطان، وما أحدٌ أكثر معاذير مِن اللَّه، وما مِن شيءٍ أحبُّ إلى اللَّه مِن الحِلْم).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّما العلم بالتَّعلم، وإنَّما الحِلْم بالتَّحلُّم، مَن يتحرَّى الخير يُعْطَه، ومَن يتَّق الشَّرَّ يُوقَه).

وقال صلى الله عليه وسلم (ليس الشَّديد بالصَّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

• قال ابن عبد البر: في هذا الحديث مِن الفقه: فضل الحِلْم. وفيه دليلٌ على أنَّ الحِلْم: كتمان الغيظ. وأنَّ العاقل مَن مَلَك نفسه عند الغضب؛ لأنَّ العقل -في اللُّغة-: ضبط الشَّيء وحبسه منه.

ص: 356

• قال ابن عاشور: قوله تعالى (والله عليم حليم) تذييل، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة، فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب، فهذا ونحوه جهل، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.

‌الفوائد:

1 -

ثبوت التوارت بسبب الزوجية.

2 -

أن التوارث بالزوجية يكون من الجانبين.

3 -

أن المرأة تكون زوجة بمجرد العقد، فلو مات زوجها بعد العقد فإنها ترث منه وكذلك العكس.

4 -

فيه بيات ميراث الزوجان.

5 -

أن الزوجة حرة في التصرف في مالها.

6 -

عناية الإسلام بالمرأة حيث جعل لها نصيباً من الميراث.

7 -

بيان ميراث الإخوة من الأم.

8 -

تحريم المضار بالوصية.

9 -

أن الوصية المضار بها باطلة لا اعتبار لها.

10 -

إثبات اسمين من أسماء الله: العليم - الحليم.

11 -

أن الله لا يعاجل من عصاه، بل يمهل ولا يهمل.

12 -

تحذير من خالف أمر الله في المواريث بأن الله عليم به. (السبت: 17/ 1/ 1433 هـ).

ص: 357

(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14)).

[النساء: 13 - 14].

(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها.

• قال الرازي: قوله تعالى (تِلْكَ) إشارة إلى ماذا؟ فيه قولان:

الأول: إنه إشارة إلى أحوال المواريث.

القول الثاني: إنه إشارة إلى كل ما ذكره من أول السورة إلى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم.

حجة القول الأول: أن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات.

وحجة القول الثاني: أن عوده إلى الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد مانع يوجب عوده إلى الكل.

• حدود الله تنقسم إلى قسمين: حدود واجبات، وحدود محرمات، أما حدود الواجبات فهي ما أوجبه الله على عباده بشروطها وأركانها وواجباتها، وأما حدود النواهي فهي ما حرمه الله على عباده كالزنا واللواط وشرب الخمور وقتل النفس، فإذا قال الله (تلك حدود الله فلا تعتدوها) فهي من حدود الأوامر، وإذا قال (تلك حدود الله فلا تقربوها) فهي من حدود النواهي.

• قال الآلوسي: وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها.

(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي: ومن يطع الله ورسوله بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه في كل شيء، ومن ذلك ما ورد ما أحكام الميراث في الآيات السابقة، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضاً بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته.

• قوله (ورسوله) محمد صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن نزل عليه، ولا رسول بعده، وإنما عطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أو وصفه على اسمه بالواو، لأن طاعة الرسول طاعة لله، كما قال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله).

(يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) أي: يكون جزاؤه دخول الجنان.

ص: 358

• والجنات جمع جنة، والجنة في لغة العرب: البستان، لأن أشجاره الملتفة تجن الداخل فيه، وجاء إطلاق الجنة على البستان في القرآن في قوله (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) أي البستان، وفي قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ).

وأما في الاصطلاح: فهي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

• قوله تعالى (جنات) دليل على أن الجنات أنوع، كما قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ثم قال تعالى (ومن دونهما جنتان) وقال صلى الله عليه وسلم (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما).

• قال الشيخ ابن عثيمين: (جنات) بالجمع، وأحياناً يقال بالإفراد (جنة)، فإذا كانت بالإفراد فالمراد بها مطلق الجنس، وإذا قيلت بالجمع فالمراد بها أنواع الجنات.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أي من تحت أشجارها.

• قال ابن الجوزي: أي من تحت شجرها لا من تحت أرضها.

• قال ابن عاشور: وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر، لأن في الماء طبيعة الحياة، ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً.

• قال ابن القيم: وهذا يدل على أمور:

أحدها: وجود الأنهار فيها. الثاني: أنها جارية لا واقفة. الثالثة: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.

• وهذه الأنهار جاء تسميتها في قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً).

• قال ابن القيم: فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا.

فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة

مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيته، وهذا من آيات الرب سبحانه وتعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها، كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو.

ص: 359

• وهذه الأنهار لا تنضب ولا تنقص، وتجري من غير أخدود.

قال ابن القيم في النونية:

أنهارها في غير أخدود جرت

سبحان ممسكها عن الفيضانِ

(خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين فيها إقامة أبدية لا تحول ولا تزول، فلا يموتون ولا يفنون ولا يخرجون منها. -قال النسفى: الخلد والخلود البقاء الدائم الذي لا ينقطع.

• وقال ابن الجوزي: والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.

• قال ابن عاشور: وقوله (وهم فيها خالدون) احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه.

• وذكر من نعيم الجنة الخلود، لأنه أعظم النعيم، لأن أكبر ما ينكد اللذائذ، وينغص اللذات، أن يعلم صاحبها أنه زائل عنها، وأنها زائلة عنه، فكل نعيم بعده موت فليس بنعيم، والنعيم إذا تيقن صاحبه الانتقال عنه صار غماً، كما قال بعض الشعراء:

أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الدهر يأتي بعدها بوصالِ

وأبغضُ أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقباً بزوالِ

فالفكرة بالزوال تكدر اللذات الحاضرة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يكثروا من ذكر الموت، ويقال للموت: هاذم اللذات، لأن من تذكره ضاعت عليه لذته التي هو فيها، لأنه يقطعها، ولهذا قال (خالدين فيها) لا يزول عنهم ذلك ذلك النعيم فتتكدر غبطتهم.

وجاءت الآيات الكثيرة بخلود أهل الجنة بالجنة:

فقال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)

وقال تعالى (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)

وقال تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

وقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقال صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداُ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً) رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على شكل كبش فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت

) متفق عليه.

ص: 360

•‌

‌ فضائل طاعة الله ورسوله:

أولاً: سبب للرحمة.

قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وقال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة: 71)

ثانياً: مع الذين أنعم الله عليهم.

قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ).

ثالثاً: سبب للحياة الحقيقية.

قال تعالى: (اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ).

رابعاً: سبب للهداية.

قال تعالى: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

خامساً: من علامات الإيمان.

قال تعالى (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

سادساً: سبب لدخول الجنة.

كما في هذه الآية.

وقال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً).

ص: 361

•‌

‌ ومن أسباب دخول الجنة؟

أولاً: صلاة الفجر والعصر.

قال صلى الله عليه وسلم (من صلى البردين دخل الجنة) متفق عليه.

ثانياً: التلفظ بالشهادتين مع العمل بمقتضاها.

قال صلى الله عليه وسلم (

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.

وفي حديث أبي هريرة الطويل وفيه (قال أبو هريرة، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة) متفق عليه.

ثالثاً: إحصاء أسماء الله.

قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مِائَةً إِلاَّ وَاحِداً مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) متفق عليه.

رابعاً: قراءة آية الكرسي بعد الفريضة.

قال صلى الله عليه وسلم (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) رواه النسائي.

خامساً: الذكر بعد الوضوء.

قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاء) رواه مسلم.

سادساً: لا حول ولا قوة إلا بالله.

قال صلى الله عليه وسلم (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) متفق عليه.

سابعاً: سؤال الله الجنة.

قال صلى الله عليه وسلم (من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة) رواه الترمذي.

ص: 362

ثامناً: طلب العلم ابتغاء مرضات الله.

قال صلى الله عليه وسلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) رواه مسلم.

تاسعاً: السنن الرواتب.

قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّى لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعاً غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلاَّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ أَوْ إِلاَّ بُنِىَ لَهُ بَيْتٌ فِى الْجَنَّة) رواه مسلم.

عاشراً: الحج المبرور.

قال صلى الله عليه وسلم (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه.

(وَذَلِكَ) أي: ما سبق من دخول الجنة والنعيم فيها والخلود.

(الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: الربح والظفر الموصوف بالعظمة، فهو عظيم كيفية من حيث كبره وضخامته وجلالته وتنوعه، وكمية من حيث كثرة عدده ودوامه.

كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) المعصية مخالفة الأمر أو الوقوع في المعصية، والمعنى: ومن يعص الله ورسوله بترك واجب أو فعل محرم، ومن ذلك معصية الله في ترك العمل على مراد الله في قسمة الفرائض.

(وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) أي: ويتجاوز حدود الله، والمراد أوامره بترك الواجب أو الغلو فيه.

(يديْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا) أي: يكون جزاؤه أن يدخله الله في نار جهنم، وهي الدار التي أعدها للكافرين.

(خَالِداً فِيهَا) المراد بالخلود هنا الإقامة الأبدية الدائمة، التي لا تحول ولا تزول.

• فأهل النار الذين هم الكفار مخلدون في نار جهنم لا يخرجون منها ولا تفنى على الصحيح من أقوال أهل العلم.

وقد ذكر الله أبديتها في القرآن في ثلاثة مواضع:

في سورة النساء. قال تعالى (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً).

وفي سورة الأحزاب. قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً).

ص: 363

وفي سورة الجن. قال تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً).

• أما إذا احتملت المعصية في الآية وتعدي حدود الله على ما دون الكفر فالمراد بالخلود الإقامة الطويلة دون الإقامة الأبدية.

(وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) أي: ولهذا الذي يعص الله ورسوله له عذاب ونكال يهينه ويذله، لأنه استهان بربه وعصاه.

• قال ابن كثير: أي: لكونه غيّر ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

‌الفوائد:

1 -

أن لله حدوداً يجب معرفتها والعمل بمقتضاها.

2 -

وجوب طاعة الله ورسوله.

3 -

أن طاعة الله ورسوله سبب لدخول الجنة.

4 -

أن المواريث من حدود الله.

5 -

إثبات الجزاء يوم القيامة.

6 -

عظم نعيم الجنة.

7 -

دوام نعيم الجنة.

8 -

أن دخول الجنة من أعظم الفوز.

9 -

أن معصية الله سبب لدخول النار.

10 -

التحذير من تعدي حدود الله.

11 -

إثبات النار.

12 -

إثبات دوام النار خلافاً لمن قال بفنائها.

13 -

أن عذاب النار فيه الإهانة والذل. (انتهى الشريط 11)

ص: 364

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)).

[النساء: 15].

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) أي: واللاتي يفعلن الفاحشة ويرتكبنها من نسائكم، سواء كن زوجات أو بنات أو أخوات أو غيرهن من نسائكم.

• وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.

• قال تعالى (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) والفاحشة كل ما تناهي وظهر قبحه في الشرع.

• قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالإحسان إلى النساء ومعاشرتهن بالجميل، وما يتصل بهذا الباب، ضم إلى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، فإن ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن، وأيضا ففيه فائدة أخرى: وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن، فيصير ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك، وأيضا فيه فائدة ثالثة، وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم، وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة، وأن مدار هذا الشرع الإنصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط والتفريط، فقال (واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ).

• قال أبو بكر ابن العربي: قوله تعالى (مِنْ نِسَائِكُمْ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْأَكْثَرُ مِنْ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَزْوَاجُ.

وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ الْجِنْسُ مِنْ النِّسَاءِ، وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ: إنَّهُنَّ الْأَزْوَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وَقَوْلِهِ (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) وَأَرَادَ الْأَزْوَاجَ فِي الْآيَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِذَا كَانَ إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ؛ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْأُخْرَى، وَكَانَتْ الْأَكْبَرُ لِلثَّيِّبِ، وَالْأَصْغَرُ لِلْبِكْرِ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ وَعُمُومَهُ، فَأَمَّا الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ فَإِنَّمَا أَوْقَفْنَاهُ عَلَى الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيلَاءَ لَمَّا كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَوَطِئَهَا يَحْنَثُ إذَا وَطِئَهَا إذَا تَزَوَّجَهَا، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى الْأَجَلِ فِي الزَّوْجَةِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ.

ص: 365

(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي: اطلبوا عليهن أربعة رجال ذكور يشهدون بأنهن أتين فاحشة الزنا، فلابد لثبوت الزنا

أربعة شهود من الرجال.

• قال القرطبي: فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعةً تغليظاً على المدّعِي وستراً على العباد.

(فَإِنْ شَهِدُوا) أي: هؤلاء الأربعة بأنهن أتين فاحشة.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي: احبسوهن في البيوت وامنعوهن عن الخروج، حتى لا يخرجن فيفتن الرجال، ويفتتن الرجال، ففي حبسهن درءاً لأسباب الفتنة.

• والخطاب لولاة الأمر من القضاة والأمر.؟؟؟

• وهذا الحكم كان في ابتداء الإسلام، أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت، ثم نسخ هذا الحكم.

• قال بعض العلماء: خص تعالى الحبس في البيت بالمرأة وخص الإيذاء بالرجل، والسبب فيه: أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإنه لا يمكن حبسه في البيت، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله.

ولذلك شرع للنساء القرار في البيوت:

قال الله تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ).

وقال صلى الله عليه وسلم (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) رواه الترمذي.

ص: 366

وانظر إلى جميل الاعتذار الذي اعتذرت به هاتان المرأتان وهما تجيبان موسى إذ سألهما (قالَ مَا خَطْبُكُمَا)(قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) فذكرتا عذرهما في الخروج وأوضحتا السبب الذي كان من أجله هذا الخروج.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا نساءكم مساجدكم، وبيوتهن خير لهن) رواه أبوداود.

(أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي: أو يجعل الله لهن حكماً شرعياً آخر يكون طريقاً ومخرجاً من هذا الإمساك، وقد جعل الله سبيلاً ومخرجاً بما شرعه من جلد غير المحصن وتغريبه، ورجم المحصن.

قال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).

وعن عبادة بن الصامت. قال: قال صلى الله عليه وسلم (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه مسلم.

‌الفوائد:

1 -

حرص الإسلام على حفظ الأعراض.

2 -

أن الزنا من أعظم الذنوب.

3 -

لابد من بيّنة الزنا من شهادة أربعة رجال كما قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة

).

4 -

لابد أن يكون الشهود على الزنا من المسلمين وأن يكونوا عدولاً.

5 -

حبس الزانية حتى تتوب عقوبة لها، ومنعاً لأسباب الفتنة، وكان هذا حكم الزانية في أول الإسلام

6 -

الإشارة إلى أن بيوت النساء خير لهن وأسلم وفي الحديث (وبيوتهن خير لهن).

7 -

أن قرار المرأة في بيتها أفضل وأبعد من الفتنة.

ص: 367

(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (16)).

[النساء: 16].

(وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) الضمير يعود إلى الفاحشة.

وقد اختلف في المراد بها هنا:

فقيل: أنّ المرادَ بها اللاَّئِطَانِ، فهي في فاحشةِ اللِّوَاطِ.

ولهذا ذكرهما بلفظ التثنية في قوله (واللذان) وفي قوله (يأتيانها) أي: الفاعل والمفعول.

وهذا مَرْويٌّ عن مُجاهد، وقالَ بهِ أبو مسلم الأصفهاني، والنحاس.

وقيل: المراد بالفاحشة هنا الزنا، وتكون الفاحشة في الآية الأولى في الزانيات من النساء مطلقاً محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الزناة من الرجال المحصن وغير المحصن.

• قال القرطبي: واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: (وَاللاَّتِي) وقوله: (وَاللَّذَانِ) فقال مجاهد وغيره: الآية الأُولى في النساء عامّة محصناتٍ وغير محصناتٍ، والآية الثانية في الرجال خاصة.

وبيّن لفظ التثنية صنفي الرجال من أحْصَن ومن لم يُحصن؛ فعقوبة النساء الحبسُ، وعقوبة الرجال الأذَى.

وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نصُّ الكلام أصناف الزناة.

ويؤيّده من جهة اللفظ قوله في الأُولى: (مِنْ نِسَائِكُمْ) وفي الثانية (مِنْكُمْ) واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس.

وقيل: قال السدي وقتادة وغيرهما: الأُولى في النساء المحصنات، يريد: ودخل معهنّ من أحصِن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البِكرين.

• قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه.

وقد رجّحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة.

ص: 368

وقيل أقوال أخرى، والله أعلم.

• قال ابن عاشور: (واللاّتي يأتين الفاحشة) ولا شكّ أنّ المراد بـ (اللذان) صنفان من الرجال: وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر.

ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين.

ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدّي وقتادة، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنى، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون.

وعلى الوجه الثاني: تكون قد جعلت للنساء عقوبتين: عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى.

(فَآذُوهُمَا) أي: افعلوا معهما وقولوا لهما ما يكون فيه أذية لهما بالقول بالسب والتعيير والتوبيخ وبالفعل بالضرب باليد والنعال ونحو ذلك.

(فَإِنْ تَابَا) أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه.

(وَأَصْلَحَا) أي: صلحت أعمالهما وحسنت.

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) أي: كفوا عنهما واتركوهما ولا تتعرضوا لهما بأذى، لا بقول ولا فعل.

• وهذه الآية غير معمول فيها بالاتفاق.

• قال القرطبي: وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية.

• وقال ابن عاشور: واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين.

• قال السمرقندي: ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد، وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد، وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير.

ص: 369

(إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً) اسم من أسماء الله، وتواباً صيغة مبالغة لكثرة توبته وكثرة من يتوب عليهم.

فالتواب: اسم من أسماء الله، معناه: التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه.

• قال السعدي: هو التائب على التائبين أولاً: بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب على التائبين بعد توبتهم قبولاً لها وعفواً عن خطاياهم.

• ووصف نفسه سبحانه بالتواب - وهي صيغة مبالغة - لكثرة من يتوب عليهم، ولكثرة توبته على العبد.

•‌

‌ وتوبة الله على العبد نوعان:

أحدهما: توفيق الله للعبد للتوبة، كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) بمعنى وفقهم للتوبة ليتوبوا.

الثاني: قبولها من العبد إذا تاب، كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ). [قاله الشيخ ابن عثيمين].

•‌

‌ أثر الإيمان بهذا الاسم:

أولاً: أن الله يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، مهما كثرت وعظمت.

قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).

وقال تعالى في حق من اتهموه بأعظم النفس (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ

) قال في الآية بعدها (أفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ثانياً: إفراد الله بالتوبة وطلب العفو وغفران الذنوب، لأنه لا يغفر الذنوب ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا الله وحده كما قال تعالى (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ).

ثالثاً: الحياء من الله، البر الرحيم التواب الغفور، الذي يفرح بتوبة عبده، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيماً لله وحياء منه، ومبادرة إلى طاعته وترك معاصيه قدر الجهد والاستطاعة.

رابعاً: عدم اليأس من رحمة الله، والقوة في رجائه.

(رَحِيماً) اسم من أسماء الله دال على إثبات صفة الرحمة الواسعة لله تعالى.

كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) وقال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

ص: 370

•‌

‌ والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان:

الأول: رحمة ذاتية موصوف بها سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه، يجب إثباتها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).

الثاني: رحمة مخلوقة أنزل الله منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة.

كما قال صلى الله عليه وسلم (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم.

ومن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل قال عن الجنة: أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء ..... ) وهذه الرحمة ليست صفة لله تعالى، بل هي من أثر رحمته التي هي صفته الذاتية الفعلية.

•‌

‌ ورحمة الله تعالى لعباده نوعان:

الأولى: رحمة عامة.

وهي لجميع الخلائق بإيجادهم، وتربيتهم، ورزقهم، وإمدادهم بالنعم والعطايا، وتصحيح أبدانهم، وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم، ومساكنهم، ولباسهم، وحركاتهم، وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى

الثانية: رحمة خاصة.

وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين فيرحمهم الله في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم، ويثبتهم عليه، ويدافع عنهم، وينصرهم على الكافرين، ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيها، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب، ويغفر لهم ذنوبهم، ويكفرها بالمصائب، ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخول الجنة، كما قال تعالى (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

ص: 371

قال الشيخ ابن عثيمين: فهي رحمة إيمانية دينية دنيوية.

• ومن أعظم آثار رحمة الله تعالى إرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للناس وإخراجاً لهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وقال تعالى (ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).

• ومن رحمته: سبحانه مغفرته لذنوب عباده بالصفح عنهم، وتكفير سيئاتهم، وفتح باب التوب لهم، كما قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

• ينبغي على العبد أن يتصف بصفة الرحمة، فقد مدح بها أشرف رسله فقال (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم (نبي الرحمة) ومدح الصحابة بقوله (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وخص أبو بكر من بينهم بقوله (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر).

•‌

‌ الآثار المرتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: محبة الله المحبة العظيمة، وذلك حينما يفكر العبد وينظر في آثار رحمة الله في الآفاق وفي النفس والتي لا تعد ولا تحصى، وهذا يثمر تجريد المحبة لله والعبودية الصادقة له سبحانه، وتقديم محبته على النفس والأهل والمال والناس جميعاً.

ثانياً: عبودية الرجاء والتعلق برحمة الله وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، فإن الله قد وسعت رحمته كل شيء، وحسن الظن بالله وانتظار الفرج بعد الشدة من أجل العبادات.

ثالثاً: اتصاف العبد بالرحمة وبذلها لعباد الله تبارك وتعالى، وقد حض الله عباده على التخلق بها، ومدح بها أشرف رسله فقال (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي الرحمة، ومدح الصحابة بقوله (رحماء بينهم) وخُص أبو بكر بينهم بالكمال البشري في الرحمة بعد الرسل حيث قال صلى الله عليه وسلم فيه (أرحم أمتي أبو بكر) رواه أحمد.

رابعاً: التعرض لرحمة الله بفعل أسبابها.

ص: 372

• وإذا كان الله رحيماً فينبغي أن يعمل بالأسباب التي تنال بها الرحمة:

أولاً: رحمة الناس.

قال صلى الله عليه وسلم (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (والشاة إن رحمتها رحمك الله) رواه أحمد.

ثانياً: الإحسان.

قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

ثالثاً: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

رابعاً: السماحة في البيع والشراء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى). رواه البخاري.

خامساً: عيادة المريض.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً خاض في الرحمة) رواه مسلم.

سادساً: قيام الليل وإيقاظ الأهل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وايقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء) رواه أبو داود.

سابعاً: الحلق في النسك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم ارحم المحلقين ثلاثاً) متفق عليه.

ثامناً: مجالس الذكر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة) رواه مسلم.

تاسعاً: الجلوس في المسجد.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة تستغر للمصلي مادام في مصلاه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه) متفق عليه.

عاشراً: سماع حديث الرسول وتبليغه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) رواه ابن حبان.

ص: 373

الحادي عشر: الإنصات للقرآن.

قال تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

الثاني عشر: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

قال تعالى (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

الثالث عشر: الاستغفار.

قال تعالى (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

• والحكمة من قرن توبته برحمته:

أولاً: أن الله تعالى رحيم بعباده فلا يعاقبهم بعد التوبة.

ثانياً: أنه تعالى لا يخذل ولا يرد من جاء منهم تائباً، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وملء الأرض.

ثالثاً: أن قبوله لتوبة عباده تفضل منه عليهم، وهو مقتضى رحمته تعالى بهم.

‌الفوائد:

1 -

اعتناء الشريعة بتحريم الفواحش وتطهير النفوس.

2 -

حكمة الشريعة الإسلامية بإقامة الحدود، لأن في ذلك حفظاً للمجتمع وسلامة للأمة وللناس (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).

3 -

أن من تاب وأصلح يكف عنه.

4 -

أن من شروط التوبة أن يقارنها إصلاح.

5 -

سعة رحمة الله وقبوله توبة التائبين. (السبت/ 24/ 1/ 1433 هـ).

ص: 374

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)).

[النساء: 17 - 18].

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) أي: إنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها.

(لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) أي: للذين يعملون العمل السيئ القبيح، الذي يسوء صاحبه، والسيئات: تكون بارتكاب المنكرات أو بترك الواجبات.

• سميت سيئة لأنها تسوء صاحبها في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا بظهور آثارها عليه من الهمّ والضيق في الصدر والخلق والرزق، فيفقد من السعادة في الحياة بقدر ما عمل من السوء، قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وقال تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ). وتسوؤه آجلاً بعد موته لمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه.

(بِجَهَالَةٍ) أي: بسفاهة، ولهذا أجمع الصحابة على أن كل ذنب عصيَ الله به فهو جهالة عمداً كان أو جهلاً.

• وليس المراد بالجهالة هنا الجهالة التي هي ضد العلم، لأن من يعلم السوء وهو جاهل غير عالم لا يؤاخذ ولا ذنب عليه بل هو معذور.

قال الرازي: قال المفسرون: كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة، قال تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الجاهلين) وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لإخوته (هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون) وقال تعالى (يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين) وقال تعالى (إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل: يا جاهل لم فعلت كذا وكذا، والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له، فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلاً، وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الإنسان مع العلم بكونها معصية أو مع الجهل بذلك.

ص: 375

(ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي: قبل الموت، قال ابن القيم: جمهور المفسرين على أن التوبة من قريب: أنها التوبة قبل المعاينة.

وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب.

• قال الخازن: وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به.

(فَأُولَئِكَ) إشارة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.

(يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) تأكيد لتوبته عليهم.

(وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً) بإخلاص من يتوب.

(حَكِيماً) في جميع أحكامه وأوامره.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) أي: وليس قبول التوبة ممن ارتكاب السيئات والمنكرات واستمر عليها.

(حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي: حتى إذا فأجاهم الموت وحضرت أسبابه وعلاماته وبلغت الحلقوم.

(قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي: قال في هذه الحال حضور الموت، واليأس من الحياة، إني تبت الآن، فهؤلاء لا تنفعهم توبتهم في هذه الحال، لأن توبتهم توبة اضطرار لا اختيار كما قال تعالى عن فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).

• ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية شرط من شروط قبول التوبة، وهو أن تكون التوبة في الوقت التي تجوز فيها، وهو أن تكون التوبة قبل الغرغرة.

ص: 376

والدليل على هذا الشرط هذه الآية.

وقوله تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا).

وقال في صفة فرعون (حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب، ولو أنه أتى بذلك الإيمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولاً.

وقوله تعالى (حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبّ ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا).

وقوله تعالى (وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين وَلَن يُؤَخِرَ اللهُ نفساً إذا جَاءَ أَجَلها) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت.

وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه الترمذي.

أي تبلغ روحه رأس حلقه، وذلك وقت المعاينة الذي يرى فيه مقعده من الجنة أو مقعده من النار؛ فالمشاهد لطلوع الشمس من مغربها مثله.

وأما قبل ذلك ولول بقليل يجوز:

فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمه (يا عم قل لا إله إلا الله).

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (قَالَ كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهْوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ).

والوقت الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها.

لقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ

نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)

ص: 377

قوله (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) المراد بذلك: طلوع الشمس من مغربها، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) متفق عليه.

وعن أبي ذر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قلت: لا أدري، قال: إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة، ثم تقوم حتى يقال لها: ارجعي، يوشك يا أبا ذر! أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ .. ) متفق عليه.

وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) رواه مسلم.

وعن أبي موسى قال صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من معربها) رواه مسلم.

(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي: إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك، فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن كان مخلّطاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه كما جاء بذلك الأحاديث.

(أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) أي: ولا ينفع المؤمن المقصر أن يزداد خيره بعد ذلك.

• قال ابن الجوزي: وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان.

• وقال القرطبي: قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانُها عند طلوعها من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تُخْمَدُ معه كلّ شهوة من شهوات النفس، وتَفْتُر كلّ قوّة من قوى البدن؛ فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدُنُو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدّواعي إلى أنواع المعاصي عنهم، وبطلانها من أبدانهم؛ فمن تاب في مثل هذه الحال لم تُقبل توبته، كما لا تُقبل توبة من حضره الموت.

ص: 378

• وقال السعدي: والحكمة في هذا ظاهرة، فإنه إنما كان الإيمان ينفع إذا كان إيماناً بالغيب، وكان اختياراً من العبد، فأما إذا وجدت الآيات صار الأمر شهادة، ولم يبق للإيمان فائدة، لأنه يشبه الإيمان الضروري، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، ممن إذا رأى الموت، أقلع عما هو فيه كما قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ).

وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد ببعض آيات الله طلوع الشمس من مغربها وأن الناس إذا رأوها آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم ويُغلق حينئذ بابُ التوبة.

• ومن شروط التوبة:

الإقلاع عن المعصية - والندم على فعلها، والعزم على عدم الرجوع عليها.

قال ابن القيم: حقيقة التوبة: هي الندم على ما سلف، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل.

فأما الندم: فإنه لا تتحقق التوبة إلا به، إذ من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضاه وإصراره عليه، وفي المسند (الندم توبة).

وأما الإقلاع: فتستحيل التوبة مع مباشرة الذنب.

• والتوبة واجبة على الفور.

المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها، ومتى أخرها عصى بالتأخير.

ومما يدل على وجوب المبادرة بها من هذه الآية: أن التوبة لا تقبل عند حضور الأجل، والإنسان لا يدري متى يحضره أجله، فالموت يأتي بغتة.

• بعض علامات التوبة المقبولة؟

منها: أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبلها.

ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحباً له، لا يأمن مكر الله طرفة عين.

ومنها: انخلاع قلبه، وتقطعه ندماً وخوفاً.

ص: 379

• وأمر الله بالتوبة توبة نصوحاً فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً).

قال ابن القيم: النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:

الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته.

والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد، ولا تلوم ولا انتظار.

والثالث: تخليصها من الشوائب والعِلَل القادحة في إخلاصها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته، والرغبة فيما لديه.

• اتهام التوبة:

من اتهامها: ضعف العزيمة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته.

ومنها: طمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه تاب، حتى كأنه قد أعطيَ منشوراً بالأمان.

ومنها: جمود العين، واستمرار الغفلة، وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالاً صالحة لم تكن له قبل الخطيئة.

• هل يشترط لصحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أبداً، أم ليس ذلك بشرط؟

الأكثرون على أن ذلك ليس بشرط، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على ترك معاودته.

(وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) قال ابن كثير: يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه، لا ينفعه ندمه وتوبته، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض.

ص: 380

كما قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

وقال تعالى (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

(أُولَئِكَ) الإشارة للذين يموتون وهم كفار، لأن عذابهم محقق، أما من مات على ما دون الكفر من المعاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه وغفر له.

(أَعْتَدْنَا لَهُمْ) أي: هيأنا وجهزنا لهم.

(عَذَاباً أَلِيماً) أي: مؤلماً موجعاً غاية الإيلام والإيجاع.

‌الفوائد:

1 -

بيان فضل الله على عباده بإيجاب التوبة على نفسه.

2 -

أن الله يوجب على نفسه ما شاء، وليس للعباد أن يوجبوا عليه شيئاً.

3 -

الحث على المبادرة بالتوبة.

4 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: العليم والحكيم.

5 -

وجوب مراقبة الله في كل شيء، لأنه سبحانه عليم بكل ما يفعله الإنسان لا يخفى عليه شيء.

6 -

الاقتناع والتسليم لأوامر الله، لأن كل أفعال الله صادرة عن حكمة.

7 -

أن التوبة عند الاحتضار لا تقبل.

8 -

يشترط لصحة التوبة أن تكون في الزمن الذي تقبل فيه التوبة كما سبق في الشرح.

9 -

أن الندم والتحسر والتوبة يوم القيامة لا تنفع.

10 -

شدة عذاب الذين كفروا يوم القيامة.

(الأحد: 25/ 1/ 1433 هـ). انتهى الشريط 13

ص: 381

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)).

[النساء: 19].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تصدير الخطاب بهذا النداء فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: العناية والاهتمام به والتنبيه.

الثانية: الإغراء، وأن من يفعل ذلك فإنه من الإيمان، كما تقول يا ابن الأجود جُد.

الثالثة: أن امتثال هذا الأمر يعد من مقتضيات الإيمان، وأن عدم امتثاله يعد نقصاً في الإيمان. (ابن عثيمين).

والمعنى:: يا أيها الذين آمنوا بقلوبهم وانقادوا وعملوا بجوارحهم.

• والإيمان إذا أفرد ولم يذكر معه (وعملوا الصالحات) فإنه يشمل جميع خصال الدين من اعتقادات وعمليات، وأما إذا عُطف العمل الصالح على الإيمان كقوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن الإيمان حينئذ ينصرف إلى ركنه الأكبر الأعظم وهو الاعتقاد القلبي، وهو إيمان القلب واعتقاده وانقياده بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبكل ما يجب الإيمان به. (الشنقيطي).

(لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً) معنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها:

قال ابن عباس (كانوا إذا مات الرجل، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاء زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية) رواه البخاري.

وفي لفظ لأبي داود (كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها).

وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم (فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها).

ومعنى الوراثة: قال ابن جرير: إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هنّ متن فتركن مالاً، وإنما ذلك أنهم في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره، ومنها بنفسه، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت، فحرم الله تعالى ذلك على عباده.

• قوله (لكم) الخطاب لأولياء الزوج، ومعنى (ترثوا النساء) أي تخلفوا أزواجهن عليهن، وتكون لكم الولاية عليهن، وليس المراد أنهم يرثونهن كما يورث المال والمتاع، بل المراد الخلافة عليهن.

• قال ابن عاشور: وصيغة (لا يحل) صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة، فنفيه يرادف

معنى التحريم.

ص: 382

• يجوز للرجل أن يتزوج زوجة أخيه بعد موته إن رضيت هي وأولياؤها بذلك.

(وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) الخطاب للأزواج، والعضل المنع والحبس، والمعنى:

• قال ابن كثير: أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد.

• قال الطبري: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محبّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة، إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارّة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك أو لوليها الذي إليه إنكاحها.

وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحدٍ غيرهما، وكان الوليُّ معلومًا أنه ليس ممن أتاها شيئًا فيقال إنْ عضلها عن النكاح:"عَضَلها ليذهب ببعض ما آتاها"، كان معلومًا أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيلُ إلى عضلها ضرارًا لتفتدي منه.

(تفسير الطبري).

• وقال الرازي: أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها، فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها، وهذا القول اختيار أكثر المفسرين، فكأنه تعالى قال: لا يحل لكم التزوج بهن بالإكراه، وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.

• فالمراد هنا الأزواج كما ذهب إليه هؤلاء العلماء، ويدل عليه:

أولاً: قوله تعالى (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) وإذا أتت المرأة بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج.

ثانياً: دلالة السياق حيث قال بعدها (وعاشروهن بالمعروف) إذ هو خطاب للأزواج اتفاقاً.

ثالثاً: قوله تعالى (بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) ومعلوم أن الزوج هو الذي أعطاها الصداق.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يحل لكم أن تعضلوهن بحال من الأحوال إلا في حالة إتياهن بفاحشة مبينة، والفاحشة كل ما فحش وظهر قبحه، واختلف في المراد بالفاحشة هنا:

فقيل: المراد الزنا، وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي.

وقيل: النشوز.

ص: 383

وقيل: بذاءة اللسان، واختار الطبري القول بالتعميم، وهو الصحيح.

قال الطبري مرجحاً العموم: وأولى ما قيل في تأويل قوله (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) أنه معنىٌّ به كل (فاحشة) من بَذاءٍ باللسان على زوجها، وأذى له، وزنًا بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)، كلَّ فاحشة متبيّنةٍ ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنًا أو نشوز، فله عضْلُها على ما بين الله في كتابه، والتضييقُ عليها حتى تفتدي منه، بأيِّ معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبيِّنة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) المعاشرة الصحبة والمخالطة، والمعنى: ليعاشر كل من الزوجين الآخر بما هو واجب في الشريعة

الإسلامية من حسن العشرة قولاً وفعلاً وبذلاً.

• قال ابن كثير: أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). رواه الترمذي.

• قال ابن كثير: وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين، يتودد إليها بذلك، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، بل كان محسناً لخديجة بعد وفاتها، وكان يرسل الأعطيات إلى صديقاتها ويقول: اذهبوا به إلى صديقات خديجة.

• ينبغي أن ينوي كل واحد من الزوجين بالمعاشرة بالمعروف استجابة أمر الله.

فيجب على كل واحد من الزوجين أن يؤدي حق الآخر ويقوم به مع قدرته على أدائه بلا مماطلة ولا كُرهٍ لأدائه، بل يؤديه ببشر وطلاقة.

ص: 384

كأن تقول المرأة: أريد كسوة، فيقول: إن شاء الله، ثم يماطل وتمضي الأيام ولم يأتي لها بشيء.

لأن المطل مع القدرة عليه حرام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مطل الغني ظلم).

• ويجب عليها طاعته للاستمتاع بها، والاستمتاع معناه: الوطء، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع.

لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وفي رواية: (حتى ترجع) متفق عليه

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها) رواه مسلم

(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) الكراهة ضد المحبة، والمعنى: فإن كرهتموهن (أي: كرهتم صحبتهن) لسبب من الأسباب - من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز - فاصبروا، ثم بين تعالى الحكمة في الصبر:

(فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي: فعسى أن يجعل الله في صبركم عليهن وإمساككم لهن مع كراهتهن خيراً كثيراً لا تتوقعونه في الدنيا والآخرة.

و (عسى) من الله واجبة، فتكون الآية وعداً من الله أن من صبر ابتغاء وجه الله على ما يكرهه، واحتساباً لثواب الله، بأن يجعل الله فيه خيراً كثيراً.

قال ابن عباس: هو أن يعطف عليها، فيرزق منها ولداً، ويكون في ذلك الولد خير كثير.

• قال القرطبي: قوله تعالى (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ) أي: لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نُشُوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يَؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولاداً صالحين.

• وقال ابن الجوزي: قوله تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئاً) قال ابن عباس: ربما رزق الله منهما ولداً، فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.

وقد نَدَبت الآية إِلى إِمساكِ المرأة مع الكراهة لها، ونبَّهت على معنيين.

أحدهما: أن الإِنسان لا يعلم وُجوهَ الصلاح، فرب مكروهٍ عاد محموداً، ومحمودٍ عاد مذموماً.

والثاني: أن الإِنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره، فليصبِر على ما يكره لما يُحِبُ. (زاد المسير).

• وقال السعدي: أي ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا، من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة، وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك، وربما رزق منها ولداً صالحاً نفع والديه في الدنيا والآخرة، وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر). رواه مسلم

قال النووي في معناه: أَنَّهُ نَهْي، أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضهَا، لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَه وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مَرْضِيًّا بِأَنْ تَكُون شَرِسَة الْخُلُق لَكِنَّهَا دَيِّنَة أَوْ جَمِيلَة أَوْ عَفِيفَة أَوْ رَفِيقَة بِهِ أَوْ نَحْو ذَلِكَ.

ص: 385

• وقال السعدي: هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها، فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً، وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفاً غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها.

وبهذا: تدوم الصحبة، وتؤدى الحقوق الواجبة المستحبة. وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله.

وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة، فهذا من عدم الإنصاف. ولا يكاد يصفو مع زوجته.

وقد قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

• وقال ابن عاشور: وهذه حكمة عظيمة، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي، وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس.

قال سهل بن حنيف، حين مرجعه من صفّين: اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا، واللَّه ورسولُه أعلم".

وقد قال تعالى، في سورة البقرة (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم)، والمقصود من هذا: الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة، ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم، حتّى يسبره بمسبار الرأي، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن. (تفسير ابن عاشور).

‌الفوائد:

1 -

تحريم إرث النساء على وجه يكرَهْنَهُ كما كان يجري في الجاهلية.

2 -

تحريم عضل المرأة بغير حق لتفتدي نفسها.

3 -

وجوب المهر بالنكاح.

4 -

أن المهر حق للمرأة.

5 -

أن سوء العشرة مبيح لعضل المرأة لتفتدي نفسها.

6 -

وجوب معاشرة الزوجة بالمعروف.

7 -

الإشارة إلى أنه ينبغي للزوج أن يصبر إذا رأى من زوجته ما يكره.

8 -

أنه لا يعلم عواقب الأمور إلا الله.

9 -

ينبغي دعاء الله والاستخارة عند الإقدام على أمر من الأمور التي لا يعلم عاقبتها، لأنه سبحانه يعلم كل شيء.

(الأربعاء: 28/ 1/ 1334 هـ). انتهى الشريط: 14

ص: 386

(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (21)).

[النساء: 20 - 21].

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) أي: وإن أردتم أيها المؤمنون استبدال زوجة تتزوجونها مكان زوجة تطلقونها.

(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً) أي: والحال أنكم أعطيتموها قنطاراً - وهو المال الكثير -.

• قال القرطبي: وفي هذا دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثّل إلا بمباح.

• وقال السعدي: وفي هذه الآية، دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق، الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر، ووجه الدلالة: أن الله أخبر عن أمر يقع منهم ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه.

(فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فلا تأخذوا من هذا المال شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، لأن المهر كله ملك لها بما استحل من فرجها.

• اختلف العلماء في مقدار القنطار على أقوال، وحاصلها أنه المال الجزيل.

• فلا يجوز للزوج إذا طلق زوجته الرجوع بشيء منه، سواء استبدلها بغيرها أو جلس أعزب بدون زوجة.

• قال القرطبي: لما مضى في الآية المتقدّمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذَ المال منها عقَّب ذلك بذكر الفراق الذي سبّبه الزوج، وبيّن أنه إذا أراد الطلاق من غير نُشُوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالاً.

(أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً) الهمزة للاستفهام، ومعناه الإنكار والتوبيخ، والبهتان الكذب، أي: أن رجوعكم عليهن بشيء مما أعطيتموهن بدعوى أنه حق لكم هذا بهتان وكذب، لأنكم لا تستحقون شيئاً من ذلك، ولا لكم فيه البتة بعد الإفضاء.

(وَإِثْماً مُبِيناً) أي: وذنباً بيناً واضحاً ظاهراً.

(وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) الاستفهام للتعجب والإنكار بعد الإنكار لتوكيد التحريم، والمعنى: بأي وجه، أو على أي جهة تأخذون ما أعطيتموهن من العوض وهو المهر، والحال أنكم قد استوفيتم المعوّض عنه، وذلك بأن أفضى بعضكم إلى بعض إفضاء سرياً بما لا ينتهي إليه ولا يستحله إلا الأزواج وهو الجماع.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة.

• الإفضاء إلى الشيء: الوصول إلى الشيء مباشرة بلا حائل، ومنه الفضاء.

(وَأَخَذْنَ) أي: الزوجات.

ص: 387

(مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) أي: عهداً وعقداً شديداً مؤكداً محكماً، وهو عقد النكاح، الذي هو أشد العقود وأخطرها وأعظمها، فمتى تم العقد بالإيجاب والقبول وغيره من شروط النكاح وأركانه وانتفت موانعه، فإن المهر يستقر للزوجة عوضاً عما استحل من فرجها، فلا يجوز الرجوع بشيء من هذا العوض بعد تمام العقد.

• وقال القرطبي: قوله تعالى (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) فيه ثلاثة أقوال.

قيل: هو قوله صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله) قاله عكرمة والربيع.

الثاني: قوله تعالى (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي.

الثالث: عقدة النكاح قول الرجل: نكحت وملكت عقدة النكاح؛ قاله مجاهد وابن زيد.

وقال قوم: الميثاق الغليظ الولد.

‌الفوائد:

1 -

جواز الطلاق، والطلاق مباح لكنه مكروه من غير حاجة.

2 -

استدل العلماء بهذه الآية على جواز أن يكون المهر كثيراً، لكن الأفضل أن يكون يسيراً للأسباب التي سبقت بالشرح.

3 -

تحريم أخذ الزوج شيئاً من المهر ولو قليلاً.

4 -

وجوب الوفاء بالعقود.

5 -

أن عقد النكاح من أخطر العقود وأهمها، فيجب الوفاء وبشروطه.

ص: 388

(وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22)).

[النساء: 22].

(وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) يحرّمُ تعالى نكاح زوجات الآباء تكرمةً لهم، واحتراماً أن توطأ من بعدهِ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه.

قال ابن عباس: كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل بها أو لم يدخل فهي عليك حرام.

• قوله (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) يشمل الأب الأقرب، والجد وإن علا من أي جهة كان.

واختار ابن جرير أن المعنى ولا تنكحوا نكاح آبائكم .. ) ويكون المنهي عنه هنا طريقة الآباء في النكاح في الجاهلية.

والصحيح أن (ما) موصولة بمعنى الذي.

• قال القرطبي: والأوّل أصح، وتكون (ما) بمعنى (الذي) و (من) والدليل عليه أن الصحابة تلقّت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء.

• قال الشنقيطي: قال بعض العلماء إن لفظة (مَا) من قوله (وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) مصدرية وعليه فقوله (مِّنَ النسآء) متعلق بقوله (تنْكِحُوا) لا بقوله (نَكَحَ) وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم أي: لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد، وهذا القول هو اختيار ابن جرير.

والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن (مَا) موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء، كقوله تعالى (فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء) وقد قدمنا وجه ذلك، لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم: أن سبب نزولها، أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: ارجعي إلى بيتك فنزلت (وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) الآية.

قال مقيده - عفا الله عنه - نكاح زوجات الآباء كان معروفاً عند العرب. (أضواء البيان).

• قال الآلوسي: قوله تعالى (وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ) شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً) وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدناً لهم في الجاهلية.

(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)(إلا) أداة استدراك بمعنى (لكن) والمعنى: لكن الذي قد مضى وانتهى مما حصل من نكاح زوجات

الآباء قبل تقرير هذا الحكم فلا حرج فيه ولا إثم فقد عفا الله عنه.

• قال الشنقيطي: وأظهر الأقوال: في قوله تعالى (إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) أن الاستثناء منقطع، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.

ص: 389

• وجاء استدراك ما قد سلف واستثناؤه علماً أنهم قبل التحريم على البراءة الأصلية - والله أعلم - لئلا يقع في قلوبهم شيء مما حصل منهم قبل نزول الآية، نظراً لشدة حرمة نكاح المحارم، فطمأنهم الله، وليس المعنى إقرار ما كان من عقود هذا النكاح التي عقدت قبل نزول الآية وما زالت قائمة بعد نزول الآية، بل يجب فسخها والتفريق بين الرجل وبين من تزوج من زوجات أبيه.

(إِنَّهُ) أي: نكاحكم ما نكح آباؤكم.

(كَانَ فَاحِشَةً) والفاحشة: ما فحش من قول أو عمل في الشرع وفي عرف المسلمين، أي: إن هذا العمل هو نكاح زوجات الآباء عمل سيئ قبيح في نفسه مستفحش شرعاً وعقلاً وعرفاً.

(وَمَقْتاً) المقت: أشد البغض، فهو مقت عند الله، ومقت عند الخلق.

• قال ابن كثير: فإنه يؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة، لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب للأمة.

(وَسَاءَ سَبِيلاً) أي: وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس.

فوصف الله نكاح ما نكح الآباء بثلاثة أوصاف كلها في غاية الشدة تنفيراً منه وهي: كونه فاحشة، ومقتاً، وساء سبيلاً، وهو أغلظ من الزنا، لأن الله قال في الزنا (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)

‌الفوائد:

1 -

تحريم نكاح زوجة الأب، وزوجة الأب تحرم بمجرد العقد.

2 -

أن الإنسان لا إثم عليه إذا فعل خطيئة قبل العلم، فالشرائع لا تلزم قبل العلم.

3 -

سعة رحمة الله.

4 -

أن نكاح المحارم أشد من الزنا لقوله (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً).

5 -

قبح هذا الأمر، وهو نكاح زوجات الآباء. (السبت: 2/ 2/ 1434 هـ). انتهى الشريط: 15

ص: 390

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23)).

[النساء: 23].

هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر.

والمحرمات التي يحرم على الإنسان التزوج بهن قسمان:

القسم الأول: محرمات إلى الأبد. فلا تحل أبداً.

القسم الثاني: محرمات إلى أمد. أي إلى غاية، فمتى زال المانع فإنها تحل له.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) المحرّم هو الله تعالى، والتحريم لغة: المنع والحظر.

(أُمَّهَاتُكُمْ) أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، ويدخل فيهن: الأم والجدات، سواء كن من جهة الأب أو من جهة الأم.

(وَبَنَاتُكُمْ) أي: وحرم عليكم أيضاً نكاح بناتكم، ويدخل فيهن: وبنات الأبناء، وبنات البنات وإن نزلن.

• قال ابن كثير: ويشمل أيضاً البنت من الزنا على قول الجمهور، لأنها خلقت من مائه، وإن كانت لا تنسب إليه شرعاً لقوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وَأَخَوَاتُكُمْ) شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم.

(وَعَمَّاتُكُمْ) وهي كل أخت لأبيك.

• وعمة الرجل عمة لأولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا.

(وَخَالاتُكُمْ) وهي أخت الأم.

(وَبَنَاتُ الْأَخِ) ويدخل فيهن: بنات الأخ الشقيق، وبنات الأخ لأب، وبنات الأخ لأم، وبنات أبنائهم، وبنات بناتهن وإن نزلن.

(وَبَنَاتُ الْأُخْتِ) ويدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة، وبنات الأخت لأب، وبنات الأخت من الأم، وبنات أبنائهن وبنات بناتهن وإن نزلن.

ص: 391

• هؤلاء هن المحرمات من النسب، وهن سبع.

قال ابن جرير (فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبيّن تحريمهن محرمات غير جائز نكاحهن لمن حرّم الله ذلك عليه من الرجال بإجماع جميع الأمة لا اختلاف بينهم).

(وممن حكى الإجماع القرطبي والطحاوي وابن تيمية).

• أما بنات العمات والأعمام، وبنات الخالات والأخوال فلا يحرمن لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ

) وحكم الأمَّة حكمه صلى الله عليه وسلم ما لم يدل دليل على تخصيصه.

قاعدة: قال السعدي في كتابة (نور البصائر): فالقرابات كلهن حرام، إلا بنات العم وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات.

• ثم ذكر تعالى المحرمات بالرضاع فقال:

- (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) أي: وحرمت عليكم أمهاتكم اللاتي أرضعنكم.

• الرضاع: اصطلاحاً: هو مص طفل صغير لبن امرأة أو شربه ونحوه.

• والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ

) ذكرهما في جملة المحرمات.

وعن عائشة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه.

وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) متفق عليه.

معنى الحديث: ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب: من سببية والتقدير: ويحرم النكاح بسبب الرضاعة كما يحرم بسبب النكاح.

وأجمع العلماء على التحريم بالرضاع. قاله في المغني.

• ظاهر الآية أن الرضاع محرّم مطلقاً، لكن جاءت بتقييد ذلك، وقد اختلف العلماء في عدد الرضعات المحرمة على أقوال:

القول الأول: أن قليل الرضاع وكثيره محرِّم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

واستدلوا بالعمومات، كقوله تعالى (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ

) ففي هذه الآية علقت التحريم على مطلق الإرضاع، فحيث وجد وجد حكمه.

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

ص: 392

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي. قَالَ: فَتَنَحَّيْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزوج أن يترك زوجته لمجرد علمه بأنهما رضعا من ثدي واحد دون أن يسأل عن عدد الرضعات، فدل ذلك على أن مطلق الإرضاع يثبت به التحريم.

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة). متفق عليه

القول الثاني: أن المحرم ثلاث رضعات.

وهو قول داود، وأبي ثور، وابن المنذر.

لحديث عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح فيها أن المصة والمصتان لا تحرمان، فيكون ما فوقهما مُحرِّم، وهو الثلاث، لأن ذلك لو لم يكن محرماً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثالث: أن المحرم خمس رضعات.

قال ابن قدامة: هذا هو الصحيح في المذهب، وروي هذا عن عائشة وابن الزبير وابن مسعود وعطاء وطاووس.

ورجحه الصنعاني والشوكاني.

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) رواه مسلم.

وهذا القول هو الصحيح.

أما أدلة القول الأول: فهي عمومات، وقد قيدت بالسنة بعدد معين من الرضاعة، كما في حديث عائشة

ص: 393

• ويشترط في الرضاع المحرّم أن يكون في الوقت المحدد للرضاع، وقد اختلف العلماء فيه على أقوال:

وجمهور العلماء أن الرضاع المحرّم ما كان في الحولين

لقوله تعالى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).

قال ابن كثير (هذا إرشاد من الله للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال [لمن أراد أن يتم الرضاعة] وذهب أكثر الإئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقها لم يحرم.

ولحديث عَائِشَةُ قالت (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَتْ فَقَالَ «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) متفق عليه.

فهذا دليل على أن الرضاعة المعتبرة التي يثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته.

ومثله حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام) رواه الترمذي وصححه.

قوله (الثدي) أي وقت الحاجة إلى الثدي، أي في الحولين.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم). رواه أبو داود

وذهب بعض العلماء إلى أن رضاع الكبير يُحَرّم.

وهذا قول عائشة ونصره ابن حزم.

لحديث عائشة قالت: (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه حذيفة من دخول سالم (وهو حليفه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: علمت أنه رجل كبير). رواه مسلم

ص: 394

قال النووي: قالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ، كما تثبت برضاع الطفل، لهذا الحديث.

والراجح مذهب الجمهور، وهو أن رضاع الكبير غير مؤثر.

وأما الجواب عن حديث سهلة، فقد أجاب العلماء بأجوبة:

أولاً: أن هذه الحادثة رخصة خاصة بسالم، فلا يتعداه إلى غيره، ولذلك فإن أمهات المؤمنين سوى عائشة، أبَيْن أن يعملن بهذه الحادثة، لأنهن كنا يرين أن ذلك رخصة لسالم.

ثانياً: أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي، ولا صغره، أن لا يكون ما رواه متقدماً. [قاله في الفتح]

ثالثاً: قول الشوكاني، حيث قال: إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم:(إنما الرضاع من المجاعة)(ولا رضاع إلا في الحولين)(ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء).

(وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) سواء كن شقائق أو لأب أو لأم.

• فأختك الشقيقة من الرضاع: هي التي رضعتْ من أمك من لبن أبيك، أو رضعتَ من أمها من لبن أبيها

وأختك من الرضاع لأب هي التي رضعتْ من لبن أبيك من زوجة غير أمك، أو رضعتَ من لبن أبيها من زوجة غير أمها.

وأختك من الرضاع لأمك، هي التي رضعت من أمك من لبن زوج غير أبيك أو رضعتَ من أمها من لبن زوج غير أبيها.

ص: 395

• لم تذكر الآية من المحرمات بالرضاع سوى (الأمهات والأخوات) وقد وضحت السنة النبوية أن المحرمات بالرضاع سبع كما هو الحال في النسب في قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).

معنى الحديث: ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب: من سببية والتقدير: ويحرم النكاح بسبب الرضاعة كما يحرم بسبب النكاح.

فتحرم عليك أمك من الرضاع، وأختك من الرضاع، وبنتك من الرضاع، وأختك من الرضاع، وعمتك من الرضاع، وخالتك من الرضاع.

(وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) أي: وحرمت عليكم أمهات نسائكم ..

• ومما يحرم أبداً، المحرمات بالصهر، وهن أربع، ثلاث بمجرد العقد الصحيح.

• الصهر هو الاتصال بين إنسانين بسبب عقد النكاح، فليس هناك قرابة ولا رضاع ولكن سببه عقد النكاح.

• فيحرم نكاح أم الزوجة سواء دخل بالزوجة أو لم يدخل، لأن مجرد العقد على البنت يحرّم الأم.

(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ) أي: وحرم عليكم بنات أزواجكم من غيركم.

• الربائب جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من آخر، سميت بذلك لأنه غالباً يربيها في حجره.

• قوله تعالى (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ) هذا الوصف ليس شرطاً في تحريم الربيبة، وإنما هو لبيان الواقع - غالباً - فلا مفهوم له، كما في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لأن الغالب أنهم لم يكونوا يقتلونهم إلا من خشية الفقر، لكن هذا ليس قيداً للنهي، فلو قتلهم بسبب آخر كان محرماً أيضاً.

• قال ابن كثير: وأما قوله (وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا).

ص: 396

(اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أي: من زوجاتكم اللاتي جامعتموهن، فالمراد بالدخول هنا الجماع، وهذا قول الجمهور، بل حكى الطبري الإجماع على أن المراد بالدخول هنا الإجماع.

مثال: لو كان لك زوجة ولها بنت من رجل آخر، فهذه البنت حرام عليك.

لكن لا يقع التحريم إلا بالدخول وهو الجماع، فإن حصل الفراق قبل الجماع فلا تحرم.

• فالربيبة تحرم بالدخول بالزوجة (وهو الجماع) فلا تحرم بمجرد العقد، ولهذا قال تعالى:

(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي: فإن لم تكونوا دخلتم بهن وفارقتموهن قبل الجماع، فلا جناح عليكم ولا حرج في نكاح الربيبة.

• قال القرطبي: قوله تعالى (فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) يعني بالأُمهات (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) يعني في نكاح بناتهنّ إذا طلقتموهنّ أو متْنَ عنكم.

وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوّج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاحُ ابنتها. (تفسير القرطبي).

(وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي: وحرّم عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم.

• قوله تعالى (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ) جمع حليلة وهي الزوجة سميت بذلك لأنها تحل للزوجة والمعنى: حرم عليكم زوجات أبنائكم.

• قال القرطبي: قوله تعالى (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ) الحلائِل جمع حَلِيلة، وهي الزوجة، سُميت حليلة لأنها تَحِل مع الزوج حيث حلّ؛ فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال؛ فهي حليلة بمعنى محلّلة، وقيل: لأن كل واحد منهما يَحُل إزار صاحبه.

• وزوجة الابن حرام على الأب بمجرد عقد الابن عليها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها.

• قوله تعالى (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) هذا القيد لإخراج الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية، كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته زيد بن حارثة فكان يقال: زيد بن محمد حتى أبطل الإسلام التبني، وعليه: فنكاح زوجات أبناء التبني حلال.

وذهب بعض العلماء إلى أن القيد (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) لإخراج الأبناء من الرضاع، فلا تحرم زوجاتهم على آبائهم من الرضاع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ووجه هذا القول: أن التبني قد أبطله الإسلام وانتهى حكمه، فلم يرد الاحتراز منه، ولأن ابن التبني ليس ابناً لمن تبناه لا حقيقة ولا شرعاً ولا عرفاً.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي: وحرّم عليكم الجمع بين الأختين، سواء كن شقيقتين أو لأم أو مختلفتين من النسب أو الرضاع.

• قال ابن جرير: معناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح.

• قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح.

• قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء البنت من الرضاع.

ص: 397

ومن الأدلة على التحريم: حديث أُمِّ حَبِيبَة بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ فَقَالَ «أَفْعَلُ مَاذَا». قُلْتُ تَنْكِحُهَا. قَالَ «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ». قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي. قَالَ «فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي». قُلْتُ فَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ. قَالَ «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) رواه مسلم.

ومما يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.

قال صلى الله عليه وسلم (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا).

قال النووي: في هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.

• فإن جمع بينهما:

• إن كان بعقد واحد بطلا.

• وإن كان كل واحدة بعقد، فنكاح الثاني مفسوخ باطل.

• وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:(إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) رواه ابن حبان، وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة.

فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها، حلت أختها وعمتها وخالتها، لانتفاء الضرر.

• ومثل ذلك الرضاع فأخت زوجتك من الرضاع لا تجمعها مع زوجتك.

كذلك عمة زوجتك من الرضاع لا يجوز، وكذلك خالة زوجتك من الرضاع لا يجوز.

(إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) إلا ما قد مضى وسلف وانتهى من نكاح شيء منهن قبل نزول الآية وقبل التحريم فهو معفو عنه.

والحكمة - والله أعلم - في هذا الاستدراك لئلا يقع في قلوبهم شيء مما حصل منهم من نكاح شيء من هذه المحرمات قبل نزول الآية، وليس المعنى إقرار ما كان من عقود على شيء من هذه المحرمات قبل نزول الآية ما زالت موجودة بعد نزول الآية، بل يجب التفريق بين الرجل وبين كل من نكحها أو وطئها من هذه المحرمات.

إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً) الغفور اسم من أسماء الله متضمن للمغفرة الواسعة كما قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)، وقال تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) وقال تعالى (ورحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

قال السعدي: الغفور: الذي لم يزل يغفر الذنوب ويتوب على كل من يتوب.

ص: 398

قال ابن القيم:

وهو الغفور فلو أتى بقرابها

من غير شرك بل من العصيان

لأتاه بالغفران ملء قرابها

سبحانه هو واسع الغفران

والمغفرة: هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته، كما في حديث ابن عمر في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يدني المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع كنفه - أي ستره ورحمته - فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا

وأنا أغفرها لك اليوم) رواه البخاري ومسلم.

ومنه سمي المغفر، وهو البيضة التي توضع على الرأس تستره وتقيه السهام.

• فمهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم كما قال تعالى (إن ربك واسع المغفرة).

وقد تكفل الله بالمغفرة لمن تاب (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

بل من فضله وجوده وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات قال تعالى عن التائبين (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

•‌

‌ الآثار المترتبة على معرفتنا بهذا الاسم:

أولاً: محبة الله وحمده وشكره على رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم.

ثانياً: فتح باب الرجاء والمغفرة للشاردين عن الله تعالى والمسرفين على أنفسهم، فمهما عظمت ذنوب العبد فإن مغفرة الله ورحمته أعظم كما قال تعالى (إن ربك واسع المغفرة)، وقد تكفل الله بالمغفرة لمن تاب (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)، بل من فضله وجود وكرمه أن تعهد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات قال تعالى عن التائبين (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً).

ص: 399

ثالثاً: الإكثار من الأعمال الصالحة والحسنات لأنها من أسباب الحصول على مغفرة الله للسيئات السالفة، قال سبحانه (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى).

رابعاً: أن كونه سبحانه غفوراً وغفاراً للذنوب لا يعني أن يسرف المسلم في الخطايا والذنوب ويتجرأ على معصية الله تعالى بحجة أن الله غفور رحيم، لأن المغفرة لا تكون إلا بشروطها وانتفاء موانعها قال سبحانه (إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

خامساً: سؤال الله عز وجل بهذا الاسم الكريم مغفرة الذنوب ووقاية شرها، لأنه سبحانه وحده الذي يملك غفران الذنوب، ولا يملك ذلك أحد سواه.

سادساً: مجاهدة النفس على التخلق بخلق الصفح عن الناس وستر أخطائهم وعوراتهم والاهتداء بهدي القرآن الكريم الذي يأمر بالعفو عن الناس ومقابلة السيئة بالحسنة، قال سبحانه في وصف المتقين (والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).

(رَحِيماً) تقدم.

‌الفوائد:

1 -

تحريم نكاح هؤلاء السبع من النسب.

2 -

تحريم التحريم بالرضاع، والمحرمات من الرضاع سبع كالمحرمات من النسب.

3 -

أن الأم عند الإطلاق لا يدخل فيها الأم من الرضاع، لأنها لو كانت تدخل عند الإطلاق ما احتيج إلى قوله ((وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ).

4 -

تحريم أم الزوجة، وهي تحرم بمجرد العقد.

5 -

تحريم الربيبة - وهي بنت الزوجة - لكن بشرط وهو الدخول بأمها وهو الجماع.

6 -

تحريم زوجات الأبناء، وزوجة الابن تحرم بمجرد العقد.

7 -

تحريم الجمع بين الأختين.

8 -

أنه لو عقد عليهما جميعا بعقد واحد بطل العقد، فإن تزوج المرأة ثم عقد على أختها، فالعقد الثاني باطل.

9 -

أن الإنسان لا يؤاخذ بما فعل قبل العلم.

10 -

إثبات اسمين من أسماء الله وهما: الغفور والرحيم. (الأحد: 3/ 2/ 1434 هـ). انتهى الشريط: 16

ص: 400