المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرسالة الثامنة في تفسير قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ … - تفسير قوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر .. } - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

الرسالة الثامنة

في تفسير قوله تعالى:

{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ

} الآية

ص: 219

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدةٌ في بحثٍ جرى فحرّرتُ ما عَلِق بفكري منه بالمعنى بحسب ما بلغ إليه فهمي، والله الهادي.

دعاني سيدنا الإمام

(1)

أيده الله تعالى ليلةً، وعنده السيد العلَّامة محمد بن عبد الرحمن الأهدل، وأخبرني أنهما تذاكرا في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، فذكر ــ أيَّده الله ــ وجهًا، وذكر السيد محمد بن عبد الرحمن وجهًا، وأمرني بنظر "الجلَالَيْن"، فنظرته، فإذا السيوطي يقول في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قبل النضج {وَآتُوا حَقَّهُ} زكاته {يَوْمَ حَصَادِهِ}

{وَلَا تُسْرِفُوا} بإعطاء كله، فلا يبقى لعيالكم شيء"

(2)

.

فخَطَر للحقير أنَّ قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} يرجع إلى الأكل؛ لأنه المحتاج إلى التقييد؛ لأنَّ البعض الذي يستفاد مِنْ (مِنْ) مطلقٌ يصدق على الربع فما فوقه، ما دام لم يستغرق؛ فاحتاج إلى تقييد الإذن بعدم الإسراف، كما احتاج الأكل والشرب للتقييد بعدم الإسراف، والإذنُ بالوصيّة إلى التقييد بعدم المضارَّة

(3)

. وقدَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا بالربع أو الثلث، والثلثُ هو الغاية

(4)

، كما

(1)

محمد بن علي الإدريسي.

(2)

"تفسير الجلالين"(146).

(3)

يعني في سورة النساء: 12.

(4)

انظر حديث سعد بن أبي وقاص في البخاري (2744) ومسلم (1628)، وحديث ابن عباس في البخاري (2743) ومسلم (1629).

ص: 221

أنَّ الأكل

والشرب والوصية كذلك.

ثم لمحتُ على الحواشي

(1)

ما كتبه سيِّدُنا أيَّده الله، فإذا هو هذا الوجه، أعني: رجوع {وَلَا تُسْرِفُوا} إلى الأكل. قال: ويؤيِّده قوله تعالى في آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31].

فعلمتُ أنَّ الخاطر الذي خطر لي إنما هو من توجُّه قلبِ سيِّدنا أيّده الله تعالى

(2)

.

ثم قرَّر سيّدنا ــ أيَّده الله ــ هذا الوجه، وقال: إنه رَجَح بوجهين:

الأول: آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} . فقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} فيها راجع إلى الأكل والشرب مطلقًا، ففي آية البحث الأَوْلى موافقتها.

الثاني: أنَّ إعطاء الكلّ ليس ممّا يُنهى عنه، لقوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقصةِ سيِّدنا أبي بكر

(3)

، وغير ذلك. وإنما يُنهى عن إعطاء الكل في حقِّ أهل القصور عن اليقين.

وحملُ القرآن على الأوّل أولى، بل يتعيَّن؛ لأنه الأشرف، والقرآن يُحمل

(1)

يعني حواشي الجلالين.

(2)

كذا جرت هذه العبارة على قلم الشيخ في هذا الموضع، ولم يتكرر مثلها في كتبه. وهذه الرسالة مما قيَّده الشيخ في مقتبل شبابه حين اتصاله بالإدريسي. وكان الإدريسي متصوفًا، وتوجُّه القلب مصطلح معروف عند الصوفية شائع في مجالسهم.

(3)

أخرجها أبو داود (1680) وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وخلاصتها: أنَّ عمر رضي الله عنه أراد أن يسابق أبا بكر رضي الله عنه في الصدقة، فجاء بنصف ماله. وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له عمر: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.

ص: 222

على أحسن المحامل وأكملها.

ثالثًا: أنَّ الأكل هو المحتاج إلى التقييد، ولذلك قدَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدعه الخارص بالثلث أو الربع

(1)

.

فقلت: وأيضًا: المأمور بإيتائه معلوم مقدَّر، وهو الحقّ الذي قد بيَّنه الشارع، فتقييده بعدم الإسراف خالٍ عن الفائدة.

فقال سيّدنا أيَّده الله: هو كذلك مع الإيتاء المذكور، فأمّا أن يرجع إلى صدقة التطوّع فهو بعيد، مع أنه قد مرَّ أنَّ إعطاء الكل مطلوب في حقِّ أهل اليقين، والأولى حملُ القرآن على حالهم، كما مرّ.

أقول: وأيضًا: إنَّ جَعْلَ {وَلَا تُسْرِفُوا} قيدًا لشيء غير مذكور ــ وهو صدقة التطوع ــ بعيد، إن لم يكن ممتنعًا، ولا سيَّما مع وجود ما يحتاج إلى التقييد وهو الأكل، مع غير ذلك من الأدلة.

ثم قال سيّدنا أيَّده الله تعالى: وهل في الآية دليل على جواز الأكل بعد تتمُّرِ الرُّطَب ونحوه، أو حظره أو لا؟

ثم أخذ يقرِّر أن الظاهر ليس له ذلك.

فقلت: قد يقال: إنَّ قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يُفهِم أنَّ ما تمَّ صلاحُه حتى صار مستحقًّا للحصاد لا يجوز الأكل منه وإن لم يُحْصَد

بالفعل.

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5713) وأبو داود (1607) والترمذي (643) والنسائي (2491) وغيرهم من حديث سهل بن أبي حثمة.

ص: 223

فقال أيَّده الله: فسَّرتَ مقصودي.

أقول: وأمّا أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخرَّاصين أن يدَعوا الثلث أو الربع، فذلك قبل حلول الحصاد، ليأكلوا منه ويتصدَّقوا ويُهدوا؛ لأنَّ ما قد خُرِص فقد لزمت الزكاة بقدر الخرص.

ولو بقي من هذا الثلث المتروك لهم شيء إلى حلول الحصاد، فهل تجب فيه الزكاة أو لا؟

الظاهرُ: نعم، للآية، وتكون فائدة السنَّة في أنه لو أكله لم تلزمه زكاته.

والظاهر: أنَّ ما جاز له أن يأكله جاز له أن يتصرَّف فيه بغير ذلك.

والظاهر: استمرارُ الجواز إلى استحقاق الحصاد كما هو ظاهر الآية. وإيَّاه رجَّح سيّدُنا أيَّده الله.

وأما السيد محمد بن عبد الرحمن فقال: إن قوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} ليس قيدًا في شيء مما قبله، بل هو جملة مستأنفة عامّة؛ لمجيء الفعل في حيِّز النهي، والنهي كالنفي، والفعل كالنكرة؛ فيشمل كلَّ إسراف.

فقال سيدنا أيَّده الله: ويقوِّيه أنهم يقولون: حذفُ المعمول يُؤذِن بالعموم.

فقلت: وحينئذ يدخل تحت عمومه إعطاءُ الكل في صدقة التطوّع، فيحتاج إلى تخصيص كون ذلك محمودًا في حقِّ أهل اليقين بأدلّته، كآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] وغيرها.

فقال سيّدنا أيَّده الله: وحينئذ لا يبقى محملٌ للإطلاق إلّا على ضعفاء اليقين

بالنظر إلى صدقة التطوع.

ص: 224

فيَرِد عليه ما ورد على الوجه الذي ذكره المفسِّر

(1)

، هذا مع أنَّ ظاهر السياق لا يحُدُّه

(2)

.

ثم قلت: ومع كون الوجه الأول هو الراجح نظرًا، فهو المتبادر، وحكيتُ ما خطر لي أوّلًا.

وبعد ذلك قال سيِّدنا أيَّده الله: قد سبق لي مثل هذا في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فقال الخطيب

(3)

: إنَّ المجيء بِـ (مِنْ) التبعيضيّة إشارةٌ إلى منع إعطاء الكلّ

(4)

.

فقلت: كلا، وإنما فائدتها تعريف المخاطبين أن الأجر والمدح يحصل بإعطاء البعض، ولا يتوقف على إعطاء الكلّ، كما في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"

(5)

، وغيره.

فقلت: فنصُّه على أن البعض موجبٌ للأجر والثواب يدلُّ على أن الكلّ من باب أولى. ولو نصَّ على الكلِّ لكان الظاهر توقُّف المدح عليه دون البعض، والأمر بخلافه.

أقول: وعلى ما تقرّر، فيكون هذا من مفهوم الموافقة لا مفهوم المخالفة، فإن

مفهوم المخالفة شرطه كما في "اللبّ" أن لا يظهر لتخصيص المنطوق

(1)

يعني الجلال السيوطي في تفسير الجلَالين، كما سبق.

(2)

الكلمة في الأصل تشبه ما أثبت.

(3)

يعني الرازي، وهو معروف بابن الخطيب أو ابن خطيب الري.

(4)

"مفاتيح الغيب"(2/ 35).

(5)

أخرجه البخاري (6023) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم.

ص: 225

بالذكر فائدةٌ غير نفي حكم غيره

(1)

. وهاهنا قد ظهرت فائدةٌ غير نفي حكم غيره، وهي ما قرّره سيّدنا أيَّده الله تعالى.

قال في "شرح اللّبّ" بعد أن حكى بعض الصور لِما يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره ــ ما لفظه:

"والمقصود ممّا مرّ أنه لا مفهوم للمذكور في الأمثلة المذكورة، ونحوها. ويُعْلَم حكم المسكوت فيها من خارجٍ بالمخالفة، كما في الغنم المعلوفة؛ أو بالموافقة كما في آية الرَّبيبة

(2)

، للمعنى، وهو أنَّ الرَّبيبة حرمت لئلا يقع بينها وبين أمّها التباغض لو أبيحت، نظرًا للعادة في مثل ذلك، سواء أكانت في حِجْر الزوج أم لا"

(3)

اهـ.

أي: فقد ظهرت فيه لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق في الحكم.

وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فإنها ظهرت فيها لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي حكم غيره، ودلّ المعنى على موافقة المسكوت للمنطوق؛ إذ المعنى أنَّ المدح تسبَّب عن البذل والإنفاق، ومن المعلوم أنه كلما كثر البذل والإنفاق زاد المدح. بل هو في هذه أوضح منه في آية الربيبة، لأنَّ ذلك مساوٍ، وهو المسمَّى بـ "لحن الخطاب"، وهذا بالأَوْلى، وهو المسمَّى بـ

"فحوى الخطاب"

(4)

، والله أعلم.

(1)

"غاية الوصول شرح لبِّ الأصول"(39).

(2)

النساء: 23.

(3)

"غاية الوصول"(40).

(4)

انظر: "غاية الوصول"(39).

ص: 226

بعد هذا رأيتُ في "حاشية العلامة الصاوي على الجلَالَيْن"

(1)

ما لفظه: "قوله: {وَلَا تُسْرِفُوا} أي: تتجاوزوا الحدّ بإخراج كلّه للفقراء، أو بعدم الإخراج من أصله، أو بإنفاقه في المعاصي. والأقربُ الأوّل الذي اقتصر عليه المفسِّر؛ لأن سبب نزولها أنَّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة يوم أُحُد، ففرَّقها ولم يترك لأهله شيئًا".

وفي "أسباب النزول" للسيوطي

(2)

ما لفظه: "قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا} الآية: أخرج ابن جرير عن أبي العالية، قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة، ثم تسارفوا، فنزلت هذه الآية.

وأخرج عن ابن جريج أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، جَدَّ نخله، فأطعَمَ حتى أمسى وليست له ثمرة".

وعلى صحة هذا، فلا مانع من أن يكون قوله:{وَلَا تُسْرِفُوا} عائد

(3)

إلى قوله: {كُلُوا} ، كما قررناه. وتكون مناسبة سبب النزول في قوله:{حَقَّهُ} ، أو يكون {وَلَا تُسْرِفُوا} عائد

(4)

إليهما معًا: إلى {كُلُوا} وإلى {وَآتُوا} تأكيدًا

لمفهوم {حَقَّهُ} .

ويُجْمَع بين هذا وبين أدلَّة الإيثار بأنَّ الإيثار مستحبٌّ إذا كان على النفس،

(1)

(2/ 45 ــ 46).

(2)

على حاشية "تفسير الجلَالَين"(207). وانظر: "تفسير الطبري"(12/ 174).

(3)

كذا في الأصل بدلًا من "عائدًا".

(4)

كذا في الأصل.

ص: 227

وأمَّا إذا كان على المتصدِّق حقٌّ لأهله فتصدَّق بالكلِّ بغير رضاهم، فإنه حينئذ ظالم لهم. وعلى الأول يُحمَل حال من نزلت فيه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9]، ونحوها، وقصَّة الصِّدِّيق، وعلى الثاني تُحَمل هذه الآية ــ على صحّة السبب في حقِّ ثابت بن قيس ــ، وحديث:"لا صدقة إلَّا عن ظهر غنًى، وابدأ بمَن تعول"

(1)

، ونحو ذلك، والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (1426) من حديث أبي هريرة.

ص: 228