المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الحمد لله ربِ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى - تقريب الوصول إلى ثلاثة الأصول

[منصور الصقعوب]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

الحمد لله ربِ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فلا يخفى على طالب العلم أهمية العناية بمتون العقيدة، وتفهمها، وقد درج علماء بلادنا على أنهم يبدؤون في تعليمهم برسالة ثلاثة الأصول، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيبدأ بها طالب العلم المبتدئ، ومن بعدها ينطلق لما هو أرفع منها، ككتاب التوحيد في توحيد العبادة، والعقيدة الواسطية في الاعتقاد العام.

وقد كنتُ كتبتٌ على هذه الرسالة شرحاً متوسطاً، حرصت أن يكون بلا إيجاز مخلٍّ، ولا إطالة مملة، يكون القصد فيه فك العبارات، وتفهم المعاني، ولم أشأ أن أطيل فيه بأمورٍ قد يجدها طالب العلم في غيره، وإنما اكتفيت بما يتعلق بعباراته مباشرة، وليس المقصد تكثير الصفحات، وإنما فهمُ هذا المتن، والترقي بعده لمتون العلم الأخرى، وأسميت هذا التعليق [تقريب الوصول إلى ثلاثة الأصول]، وها هو بين يديك أخي الكريم، وأنا على يقينٍ أنه جهدٌ قابلٌ للتعقب، وعملٌ مليء بالثغرات، والقلب مفتوحٌ، والأذن مصغيةٌ، لكل مصوِّبٍ، وناقدٍ، ومتعقبٍ، علّ الله عز وجل أن يجعلنا من الذين ينتظمون في سلك أهل العلم والعمل به إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

كتبه

د. منصور بن محمد الصقعوب

[email protected]

ص: 5

‌تمهيد

* قبل الشروع في كلام المؤلف لا بد من ذكر ثلاث مقدمات:

‌المقدمة الأولى: تعريف موجز بمؤلف الرسالة:

مؤلف هذه الرسالة، هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف التميمي.

والده من أعلم أهل زمانه، وكان شيخاً وقوراً جليلاً متواضعاً، تولى القضاء في حريملاء، وكذلك كان جده سليمان من أكبر علماء نجد، كان محبوباً وبحراً في العلوم، تولى جده منصب الفتيا، وأخذ على يديه كثير من العلماء.

ولد الشيخ محمد عام (1115) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محباً للعلم منذ صغره، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، وأدرك ما يدرك الرجال، قدّمه أبوه في إمامة الصلاة، وكان والده شديد التعجب من قوة وسرعة حفظه، لكل ما يطالعه ولو لمرة واحدة، ويعترف علَناً بالاستفادة منه في بعض الأحكام، حتى قال: استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام قبل بلوغه.

وكانت الجزيرة آنذاك فيها بعض مظاهر الشرك، والتعلق بغير الله، والبدع، فسعى -رحمه الله تعالى- للدعوة إلى التوحيد، وتصحيح العقائد، ونبذ الشرك بقوله وبفعله، بقلمه ورسائله ومؤلفاته، وبجهده أيضاً، وتنقله

ص: 6

في البلدان ودعوته الناس إلى التوحيد، وبجهاده في سبيل الله عز وجل في تحقيق هذا الأمر، عاش واستمر على ذلك حتى مات في أواخر سنة (1206) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمره حينها واحداً وتسعين عاماً.

وخلفه من بعد ذلك أبناؤه وتلاميذه وحملوا راية الدعوة إلى التوحيد وسلامة الاعتقاد.

*‌

‌ ألّف الشيخ كتباً عديدة في الاعتقاد، من أشهرها:

1 -

كتاب التوحيد: ويحتوي على (66) باباً من أبواب توحيد العبادة، وله شروح كثيرة، وشهرة واسعة.

2 -

كشف الشبهات: وهي عبارة عن رسالة تضمنت كشف شبهات الذين يتوجهون لغير الله من أصحاب القبور وغيرهم.

3 -

القواعد الأربع: وهي عبارة عن رسالة لطيفة ضمّنها أربع قواعد في توحيد العبادة.

4 -

ثلاثة الأصول: وهي هذه الرسالة التي نحن بصدد التعليق عليها.

وله أيضاً: مفيد المستفيد في تارك التوحيد، والمسائل التي خالف فيها أهل الإسلام الجاهلية، ونواقص الإسلام، وغيرها كثير.

رحم الله الشيخ وجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.

ص: 7

‌المقدمة الثانية: تعريف موجز بهذه الرسالة:

رسالة ثلاثة الأصول، كما يسميها مؤلفها غالباً، أو الأصول الثلاثة، هي رسالة ميسرة مبسطة، كان الشيخ وتلاميذه من بعد ذلك يعنون بتلقينها للعامة، ولجماعات المساجد، وكان أئمة المساجد يلزمون بسؤال الجماعة عن هذه الرسالة

(1)

، وكان العلماء يخرجون إلى القرى والبلدان يعلمون الناس هذه الأصول الثلاثة

(2)

؛ لأنها على يسرها واختصارها إلا أنها حوت أهم الأصول التي يحتاجها الإنسان في دينه.

*‌

‌ وقد اعتنى العلماء المعاصرون بهذه الرسالة، عبر صور متعددة:

1) شرحها والتعليق عليها: وهذا أكثر من أن يحصر، غير أن من أشهر شروحها المطبوعة: حاشية ثلاثة الأصول لابن قاسم النجدي، وشرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين، وحصول المأمول شرح ثلاثة الأصول، للشيخ عبد الله الفوزان، وغيرها.

2) عنايتهم بتحفيظها للطلاب، وهذا معلوم من هدي العلماء مع طلابهم، حيث كانوا يعنون بتحفيظهم المتون الصغيرة، لا سيما متون العقيدة، ومن هؤلاء الشيخ محمد بن إبراهيم، حيث كان يبدأ بتحفيظ طلابه هذه الرسالة.

3) عنايتهم بتلقينها للعوام، وسبق ذكر ذلك.

ص: 8

4) نظمها، وممن نظمها:

أ. الشيخ عمر بن إبراهيم البري المدني، المتوفى سنة (1378 هـ)، بعنوان: تسهيل الحفظ والوصول، نظم ثلاثة الأصول.

ب. الشيخ سعود الشريم، في نظم سمّاه: إسراج الخيول نظم ثلاثة الأصول.

5) اختصارها، وممن اختصرها: الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، المتوفى سنة (1387 هـ)، وطبعت أخيراً مع تعليق لحفيده، وهو الشيخ سعد الشثري، بعنوان: المصقول في التعليق على مختصر ثلاثة الأصول.

ص: 9

‌المقدمة الثالثة: موضوع الرسالة ومضمونها:

تدور هذه الرسالة حول تحقيق توحيد العبادة، والإجابة عن الأسئلة الثلاثة التي يسأل المرء عنها في قبره.

* وقد تضمنت هذه الرسالة أربعة أمور:

الأمر الأول: مقدمة: ذكر فيها المؤلف أربع مسائل وهي: العلم والعمل والدعوة والصبر.

الأمر الثاني: مقدمة: ذكر فيها المؤلف ثلاث مسائل وقواعد في تحقيق توحيد العبادة.

الأمر الثالث: مقدمة: ذكر فيها مسألة واحدة بيّن فيها معنى الحنيفية التي هي دين إبراهيم ودين محمد عليهم الصلاة والسلام.

الأمر الرابع: الأصول الثلاثة: وهي معرفة العبد لربه، ولنبيه، ولدين الإسلام، وذكر كل واحدٍ من هذه الأصول الثلاثة بالتفصيل، وبالأدلة.

* * * * *

ص: 10

‌متن الأصول الثلاثة

قال المؤلف رحمه الله: اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلَّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ:

المسألة الأُولَى: الْعِلْمُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بالأَدِلَّةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ بِهِ.

المسألة الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ.

المسألة الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].

قَالَ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ» .

وَقَالَ البُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ (قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ).

* اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ الثَّلاثِ مَسَائِل، والْعَمَلُ بِهِنَّ:

الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)} [المزمل: 15، 16].

ص: 11

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضى أَنْ يُشركَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وَمَعْنَى {لِيَعْبُدُونِ} : يُوَحِّدُونِ، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشركُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟

فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

ص: 12

* *‌

‌ الأَصْلُ الأوَّلُ * *

معرفة الرب:

فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟

فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ.

فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟

فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشياءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.

ص: 13

وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ: الإِسْلامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ، وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشيةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا. كُلُّهَا للهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. فَمَنْ صرفَ مِنْهَا شيئًا لِغَيْرِ اللهِ؛ فَهُوَ مُشركٌ كَافِرٌ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].

وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ» . وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَدَلِيلُ الْخَوْفِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].

وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

ودَلِيلُ التَّوَكُلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، وَالْخُشُوعِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

وَدَلِيلُ الْخَشيةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} الآية [البقرة: 150].

ص: 14

وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية [الزمر: 54].

وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. وَفِي الْحَدِيثِ: «

وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ».

وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]. وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1].

وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 9].

وَدَلِيلُ الذَّبْحِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 161 - 163]. وَمِنَ السُنَّةِ: «لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» .

وَدَلِيلُ النَّذْرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].

ص: 15

* *‌

‌ الأَصْلُ الثَّانِي * *

مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ

وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشركِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ. وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ.

المرتبة الأولى: الإسلام: فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَنْ لا إله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ.

فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران، 18].

وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ، وَحَدُّ النَّفْيِ مِنْ الإِثْبَاتِ {لَا إِلَهَ} نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ {إِلَّا اللَّهُ} مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شريكٌ فِي مُلْكِهِ.

وَتَفْسيرُهَا: الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف: 26 - 28]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].

وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ

ص: 16

مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شرعَ.

وَدَلِيلُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَتَفْسيرُ التَّوْحِيدِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

ودَلِيلُ الصيامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ودَلِيلُ الْحَجِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا إله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ.

وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: كما في الحديث: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشرهِ» .

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].

ودليل القدر: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ: وله رُكْنٌ وَاحِدٌ. كما في الحديث: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» .

ص: 17

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} [الشعراء: 217 - 220]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61].

وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» . قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشرهِ» . قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» . قَالَ: فَمَضى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ:«يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟» . قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم» .

ص: 18

* *‌

‌ الأَصْلُ الثَّالِثُ * *

مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

-

وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وَعِشرونَ في النبوة. نُبِّئَ ب {اقْرَأْ} ، وَأُرْسِلَ ب {الْمُدَّثِّرُ} ، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ.

بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشركِ، وَبالَدْعُوة إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر: 1 - 7]. وَمَعْنَى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} : يُنْذِرُ عَنِ الشركِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} : أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشركِ. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} : الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا، أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشر سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشر عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشركِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ.

وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشركِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 97 - 99]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].

ص: 19

قَالَ الْبُغَوِيُّ رحمه الله: نزلت هَذِهِ الآيَةُ فِي المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» .

فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شرائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شرائِعِ الإِسْلامِ، أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشر سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ -صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وَدِينُهُ بَاقٍ.

وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شر إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ، وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشر الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ الشركُ، وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُه اللهُ وَيَأْبَاهُ. بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 30، 31].

وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} [نوح: 17، 18].

ص: 20

وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].

وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].

وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشرينَ وَمُنْذِرِينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

وَأَّولُهُمْ نُوحٌ عليهم السلام، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 165].

وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ. وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شيئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا إله إِلا اللهُ، وَفِي الْحَدِيثِ:«رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» .

وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

* ** * *

ص: 21

* وهذا أوان الشروع في الكلام على هذه الرسالة فأقول:

*‌

‌ قوله: (الأصول الثلاثة).

الأصول جمع أصلٍ، على وزن فَعْلٍ، يُجمع على فُعُول، وأَصْل يجمع على أصول.

والأصل في اللغة: ما يُبنى عليه غيره، كأصل الجدار -أي أساسه- لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل، فكل فرع لا بد وأن يكون له أصل قد نشأ منه وتفرع عنه.

والمراد هنا بالأصول الثلاثة: الأسس التي يقوم عليها الدين، وهي الأسئلة التي يُسأل عنها العبد في قبره.

ص: 22

*‌

‌ قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلَّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ).

بهذه الجملة ابتدأ المؤلف رحمه الله رسالته، وتحتها ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: (بسم الله الرحمن الرحيم).

بدأ المصنف على عادة أهل العلم بما استقر في عرفهم بالبسملة وذلك لأمور:

أولاً: اقتداءً بالكتاب العزيز، حيث بدأ ب:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} (الفاتحة 1، 2).

ثانيًا: اقتداءً وتأسيا بالسنة الفعلية، فإن مكاتباته صلى الله عليه وسلم كان يصدّرها بالبسملة، ككتابه لهرقل، حيث بدأه بقوله:«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»

(1)

.

ثالثًا: اقتداءً بالأئمة المصنفين، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:«وَقَدِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ عَلَى افْتِتَاحِ كُتُبِ الْعِلْمِ بِالْبَسْمَلَةِ وَكَذَا مُعْظَمُ كُتُبِ الرَّسَائِلِ»

(2)

. وأما ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُو أَبْتَر» ، فإن هذا الحديث إسناده ضعيف

(3)

.

(1)

أخرجه «البخاري» (7)، و «مسلم» (1773) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

(2)

انظر: «فتح الباري» (1/ 9).

(3)

أخرجه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 69)، والرهاوي في «الأربعين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (4217).

ص: 23

المسألة الثانية: (اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ).

وهذا تلطفٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- حينما ابتدأ بالدعاء له بالرحمة، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يتلطف تجاه مدعويه، فيدعو لهم ويتلطف معهم بالعبارة، فإن هذا أدعى لقبول الكلام الذي سيطرحه بعد ذلك، وقد أمر الله نبيه بأن يتلطف في دعوته، فغيره من أتباعه، الدعاة لدينه، ينبغي أن يقتدوا به، قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

المسألة الثالثة: (أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلَّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ).

هذه طريقة المؤلف في ذكر المسائل، وهي: حصر عدد المسائل، فيقول: ثلاث مسائل، أو أربع مسائل، وذلك أحسن في التعليم، وأرتب لذهن السامع.

وذكر هنا أن حكم تعلم هذه المسائل التي سيوردها واجب، ولا يتم الدين إلا بها، ولا ينال العلم إلا بتحقيقها، ثم بعد ذلك ذكرها المصنف رحمه الله.

ص: 24

*‌

‌ قوله: (المسألة الأُولَى: الْعِلْمُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بالأَدِلَّةِ).

المسألة الأولى التي يجب على الإنسان تعلمها هي العلم، والكلام عليها في خمسة مسائل:

1/ تعريف العلم: العلم هو معرفة الحق والهدى بالدليل، قال ابن القيم:

الْعِلْمُ مَعْرِفَةُ الهُدَى بِدَلِيْلِهِ

مَا ذَاكَ وَالتَّقْلِيْدُ يَسْتَوِيَانِ

(1)

وإذا أطلق العلم فإن المراد به العلم الشرعي، واعلم أن أول واجب على الإنسان أن يتعلم أحكام دينه فكان لزاماً على المسلم أن يتعلم ليتعبد لربه سبحانه وتعالى على بصيرة، فلا يصح إسلام وتعبّدٌ حتى تتعلم التوحيد لله؛ لتعبده بلا إشراك وبعد هذا يتعلم بقية الشرائع والواجبات.

2/ العلماء يذكرون أن أول واجب على المكلفين هو: أن يتعلم توحيد الله تعالى، وهذا يكون بمعرفة معنى لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يصح أن يقلد في اعتقاده فيقول: أنا أعتقد كما يعتقد فلان، بل يجب عليه أن يعرف ماذا يعتقد في دينه.

ولكن ذهب الجماهير من أهل العلم إلى جواز التقليد في العقائد لمن لا يعرف، ونُقِلَ عن الأئمة الأربعة، ونسبه شيخ الإسلام رحمه الله إلى جمهور الأمة، قال رحمه الله: «أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك، فإن ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على

ص: 25

تحصيل العلم، وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق، فكيف يكلف العلم بها؟

(1)

.

وهذا هو الأقرب، أنه يجوز التقليد في العقائد للعامي الذي لا يستطيع النظر والاستدلال، كما أنه يجوز له التقليد في الأحكام ولا فرق، وقد كان الصحابة يسلمون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي منهم بالنطق بالشهادتين، وأما من يستطيع الاستدلال فلا يجوز له التقليد في العقائد أو الأحكام

(2)

.

3/ العلم نوعان:

أ. نوع تعلّمه فرض على الكفاية.

ب. ونوع تعلمه فرض عين.

* أما العلم الذي تعلمه فرض على الكفاية، فهو علوم الوسائل كعلم الفرائض وعلم اللغة وعلم المصطلح وعلم أصول الفقه وعلم أبواب من أبواب الفقه، وقد لا يحتاجها كل الناس كالبيوع والنكاح والقضاء والطلاق ونحو ذلك من الأبواب، فهذه من العلوم التي هي فرض على الكفاية، إذا وجد من يعرفها أسقط الوجوب عن البقية.

* وأما النوع الثاني هو العلم الذي يكون فرضاً على الأعيان، ويجب على الإنسان تعلمه، وهو نوعان:

أ- العقيدة: بأن يتعلم كيف يوحد الله، وطريقة ذلك، وأن يتعلم ضد ذلك وهو الشرك حتى لا يقع فيه.

ب- العبادات التي تجب على المكلف: كصلاته، وطهارته، وصيامه،

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى لابن تيمية» (20/ 202).

(2)

تكلم عن هذه المسألة عدد من أهل العلم، ومنهم السفاريني في «لوامع الأنوار البهية» (1/ 276).

ص: 26

وحجه وزكاته، فهذه واجبات على الإنسان يجب عليه أن يتعلمها، ولا يجوز له أن يجهل هذه الأشياء؛ لأنه لا يستطيع أن يحقق العبادة إلا بها.

4/ ذكر المصنف أن العلم يشمل ثلاثة أشياء:

1.

معرفة الله: بأن تتعرف على الله عز وجل في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

2 معرفة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الواسطة بيننا وبين الله عز و جل في تبليغ الرسالة.

3.

معرفة دين الإسلام بالأدلة، وما سيأتي في الأصول الثلاثة هو لبيان هذه المسألة، مسألة العلم بهذه الثلاث.

واعلم أيها المبارك أن طلب العلم من أشرف ما قضيت به الأوقات، وعمرت به الساعات، فبه يعبد المسلم ربه على بصيرة، وبه يدحض الشبهات التي تطرأ عليه، وينقذ الناس من الغواية إلى الرشد، ومن الضلالة إلى الهدى، وهو عبادة لله، ولو لم يكن منه إلا أنه يشغله بالخير، وفوق ذلك كله هو طريق إلى الجنة، لكفى.

قال الزهري: «ما عُبِدَ الله بمثل العلم»

(1)

، وقال سفيان الثوري:«لَا أَعْلَمُ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ أَنْ تُعَلِّمَ النَّاسَ الْعِلْمَ»

(2)

، وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: «يَا إِسْحَاقُ عَلَيْكَ بِالْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْدِمُكَ مِنْهُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى هُدًى أَوْ أُخْرَى تَنْهَى عَنْ رَدًى»

(3)

، وقال الحسن:«لأن يتعلم الرجل باباً من العلم فيعبد به ربه فهو خير له من أن لو كانت الدنيا من أولها إلى آخرها له فوضعها في الآخرة»

(4)

.

(1)

انظر: البيهقي في «الشعب» (6/ 380)، والخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/ 225).

(2)

انظر: «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/ 211).

(3)

انظر: «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (1/ 226).

(4)

انظر: «روضة العقلاء» لأبي حاتم البستي (ص 40).

ص: 27

قال محمد بن الربيع الموصلي رحمه الله:

الناس في صورة التّشبيه أكفاءُ

أبوهُمُ آدمٌ والأُمُّ حوَّاءُ

فإن يكن لهُم في أصلها شَرَفٌ

يفاخرون به فالطِّين والماءُ

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ

على الهُدَى لمن استهدَى أَدلاّءُ

ووَزْنُ كل امرئ ما كان يُحسنه

والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

(1)

فاحرص على طلبه، لا سيما في أزمان الفراغ، وأوقات صفاء البال، وفراغ الإنسان من الشغل، واعلم أن الجهل من رديء الخصال، فكم يقبح بالإنسان جهله بأمور من العلم يعرفها الصغار.

فَإِنِّي رَأَيْت الْجَهْل يزري بأَهْله

وَذُو الْعلم فِي الأقوام يرفعهُ الْعلم

يُعدُّ كَبِير الْقَوْم وَهُوَ صَغِيرهمْ

وَينفذ مِنْهُ فيهم القَوْل وَالْحكم

(2)

وقد كان السلف يفرحون بمجالسة العلماء، ويحرصون على مجالسهم، قال مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ:«بِنَفْسِي الْعُلَمَاءُ هُمْ ضَالَّتِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهُمْ بُغْيَتِي إِذَا لَمْ أَجِدْهُمْ، وَجَدْتُ صَلَاحَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ» ، وقال أيضاً:«إِنَّ مَثَلَ الْعَالِمِ فِي الْبَلَدِ كَمَثَلِ عَيْنٍ عَذْبَةٍ فِي الْبَلَدِ»

(3)

.

وقال الحسن البصري: «الدُّنْيَا كُلُّهَا ظُلْمَةٌ إِلَّا مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ»

(4)

.

وما من شك أنهم لا يعنون بهذا من حصّل المعلومات، وهو عريٌ عن العمل، وإنما يعنون به من كان عالماً عاملاً، والله المستعان.

(1)

انظر: «أسرار البلاغة» للجرجاني (ص 265).

(2)

انظر: «نشر طيّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف والرد على ماقتهم السخيف» للوصابي الشافعي (ص 181).

(3)

انظر: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (1/ 221).

(4)

انظر: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (1/ 236).

ص: 28

*‌

‌ قوله: (المسألة الثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ بِهِ).

المسألة الثانية التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها هي: العمل بالعلم، فإذا تعلمت وعرفت وأدركت، بقي عليك أن تعمل بما علمت، فالعمل بالعلم هو ثمرة العلم، فعلم الإنسان بلا عملٍ علمٌ لا يفيده، وترك العمل بالعلم مصيبة؛ لأن من يعلم ليس كالجاهل الذي لا يعلم، فالحجة عليه قد قامت، والمحجة له قد بانت، ولذلك قد قال الناظم

(1)

:

فعالم بعلمه لم يعملن

معذب من قبل عباد الوثن

(2)

لأن الإنسان إذا عَلِمَ وعرف الحق وميز، ثم بعد ذلك لم يعمل بما علم فإنه لا يخلو من أحد حالين:

* إما أن يكون قد تعلم لكي يثنى عليه ويمدح فقط، وهذا من أشنع الأشياء والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أول من تسجر بهم النار: «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ

»

(3)

.

(1)

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسين بن حسن بن علي ابن رسلان الشافعي (المتوفى: 844 هـ)، انظر:«الضوء اللامع» للسخاوي (1/ 289)، و «البدر الطالع» للشوكاني (1/ 49).

(2)

انظر: «الزبد في الفقه الشافعي» .

(3)

أخرجه «مسلم» (1905) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 29

* وإما أن يكون قد تعلّم ولم يعمل، لا لقصد الرياء، وإنما تكاسلاً وإعراضاً، وهذا مصيبة أيضاً؛ لأنه ليس كالجاهل، فقد ميّز وأدرك، وعرف الحق بدليله، فقامت عليه الحجة.

فلا تكن يا طالب العلم كالوعاء الذي يحمل العلم ويوصله إلى غيره وهو لا ينتفع به، فإذا أردت أن تنال البركة في العلم، وأن تنال الزيادة فيه، وأن تحقق الثمرة منه فاعمل بما تعلمته من الواجبات ومن السنن، فإذا تعلمت أحكام الصلاة فكن لها مطبقاً، وإذا تعلمت سنة، أو واجباً فكن بما تعلمته عاملاً، وقد ورد في الحديث وإسناده ضعيف عند أهل العلم؛ لكنه مما يذكر هنا:«مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»

(1)

، وقال إبراهيم بن إسماعيل بن مُجَمِّع:«كُنَّا نَسْتَعِينُ بِالْحَدِيثِ عَلَى حِفْظِهِ بِالْعَمَلِ»

(2)

، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:«وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ أَصْلُ الْعَمَلِ وَصِحَّةُ الْأُصُولِ تُوجِبُ صِحَّةَ الْفُرُوعِ»

(3)

.

واعلم أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون تعبده أكثر من غيره، فإن لديه من العلم ما يبصره بربه، ثم إن العلم نعمة، ونعم الله تقابل بالشكر، وذلك يكون بالعبادة، وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عَنِ الرجل يكتب الحديث فيكثر، فقَالَ:«ينبغي أن يكثر العمل به عَلَى قدر زيادته فِي الطلب» ، ثم قَالَ:«سبيل العلم مثل سبيل المال إن المال إذا زاد زادت زكاته»

(4)

.

وما أعظمها من كلمة من هذا الإمام، تجعل طالب العلم يقف طويلاً أمام نفسه وحاله مع ربه سبحانه.

(1)

انظر: «فيض القدير» للمناوي (4/ 510 - 511)، و «كشف الخفاء» للعجلوني (2/ 347).

(2)

انظر: «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 259).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (4/ 53).

(4)

انظر: «طبقات الحنابلة» ابن أبي يعلى (1/ 188).

ص: 30

*‌

‌ قوله: (المسألة الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ).

المسألة الثالثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها: الدعوة إلى ما تعلمه، والمراد أن الإنسان إذا تعلم وعرف الحق وميز، ثم عمل بما علم فإنه يبقى عليه أمر ثالث وهو أن يدعو إلى هذا العلم الذي حصله، وإلى هذا الخير الذي ناله، و ذلك لأن العلم خير ونور، فلا ينبغي أن تحبسه على نفسك ولا توصله إلى غيرك؛ لأن العلم لم يصل لك إلا بالدعوة إليه، فالعلم الذي وصل إليك، وصل بعدما بلّغه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبلّغه التابعون عن الصحابة، وتابعوهم كذلك حتى وصل إليك، ولأجل ذلك فاشكر الله على تعليمه إياك، وواجب العلم الذي نلته أن تسعى إلى الدعوة إلى هذا العلم، وإلى هذا الدين، وإلى هذا الاعتقاد الذي نلته.

ومن المصيبة أن ترى الإنسان قد وهبه الله علماً، وجعل في صدره فهماً وإدراكاً وعملاً، ووفّقه بعد ذلك لأن يعمل بهذا العلم، لكنك تجده ليس له أثر فيمن حوله، فمِنْ حولِهِ أناسٌ مشركون، أو مفرّطون، فلا يدعو أحداً، وليس هذا هديُ النبي صلى الله عليه وسلم بل هديه أنه إذا تعلم الإنسان فعليه أن يسعى لأن يعلم وينقذ الناس من الضلالة إلى الهداية، ومن الغواية إلى الرشد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نَضر اللَّهُ

(1)

امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شيئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ،

(1)

«نَضر اللَّهُ» : دعاءٌ له بالنظارة، وهي في الأصل حُسن الوجه، والمعنى: جمّله الله، وزيّنه، وأوصله إلى نضرة الجنة ونعيمها.

ص: 31

فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»

(1)

.

مقالةٌ سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم لمن بلّغها بعدما سمعها بالرحمة، فكيف بمن عنده من المعلومات، ومن الأحاديث، ومن الاعتقاد، ومن المعرفة الشيء الكثير، ثم هو لا ينفع أحداً، ولا يُعلِّمُ أحداً ممن حوله، وأحسنُ الناس قولاً وهدياً هو ذلك الرجل الذي علم، ثم عمل، ثم دعا، قال الله عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).

• واعلم أن الدعوة إلى هذا العلم الذي تعلمته تكون بأمرين:

* بالقول: سواء كان باللسان، أو بما تؤلفه وتصنفه أو بغير ذلك.

* وبالفعل: بأن تدعو الناس إلى الله بفعلك، بأن تكون قدوة، فتسعى إلى أن تزيل مظاهر الشرك ومظاهر المعاصي قدر استطاعتك، ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، ونحو ذلك من طرائق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

• وأمرٌ آخرُ ينبغي على طالب العلم أن يعتني به في الدعوة: وهو أن يبدأ بالأهم فالأهم، فلا يليق بطالب علم يرى أناساً مِنْ حوله قد وقعوا في الشرك، وعندهم بعض المعاصي، ثم هو ينكر عليهم المعصية، ويترك إنكار الشرك، إذ من الخطأ أن تقدم المفضول على الفاضل، وإنما الواجب أن تدعو الناس إلى ما هو أهم، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ومن تأمل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وجد أن جلّ تركيزه في دعوته إنما كانت دعوةً إلى التوحيد وإلى نبذ الشرك، حتى تحقق ذلك منهم، ثم دعاهم بعد ذلك إلى ما هو دون ذلك.

(1)

أخرجه «أحمد» (7/ 221)، و «الترمذي» (2657)، وابن حبان في «صحيحه» (1/ 268)، والطبراني في «الأوسط» (2/ 78) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (6764).

ص: 32

*‌

‌ قوله: (المسألة الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ).

المسألة الرابعة: الصبر، فالداعية إلى الله عز وجل لابد أن يوطن نفسه على أن هذا الطريق ليس مفروشاً بالورود، وإنما هو طريقٌ محفوفٌ بالأذى وبالمكاره، ولأجل هذا فعلى الداعية إلى الله أن يضع نصب عينه أنه قد يؤذى، ويبتلى، ويحارب، وقد يناله من الأذى أشد أنواعه في الدنيا، لكن عليه أن يصبر ويتحمل، لأمرين:

1 -

لأنه يسلك طريق الأنبياء والمرسلين، فهم قد سبقوه بالدعوة، وسبقوه أيضاً بما نالهم من الأذى والنصب، وقد قال الله عز وجل:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (العنكبوت: 1 - 3).

والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه ناله الأذى والشدائد حتى بلغ هذا الدين إلى الناس إلى هذا اليوم، وما ذاك إلا بتوفيق الله، ثم بصبر النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الدعاة.

2 -

لأنه بصبره على هذه المشاق ينال الثواب من ربه سبحانه، وبقدر البلاء يرفعه الله ويأجره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أي الناس أشد بلاءً؟ قال:«الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ»

(1)

.

ولأجل هذا؛ فصبرك على طريق الدعوة وعلى المكاره التي تأتيك بهذا

(1)

أخرجه «أحمد» (3/ 78)، و «الترمذي» (2398)، و «ابن ماجه» (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وصححه الألباني في «الصحيحة» (143).

ص: 33

الطريق هو الواجب عليك، وهذه المكاره والأذى امتحان من الله سبحانه وتعالى لك؛ لينظر أتثبت أم تتراجع، أتصبر أم تتسخط، فعليك يا طالب العلم أن تصبر، وتصابر، حتى تلقى الله سبحانه وتعالى.

* والصبر أنواع ثلاثة:

1.

صبر على الطاعة: كالصبر على الصلاة، والحج، والصوم، ففيها بعض المشقة.

2.

صبر عن المعصية: كالصبر عن حبس النفس عما تهواه من المحرمات.

3.

صبر على الأقدار المؤلمة: ومما يدخل فيه -وهو المراد هنا- صبرك على الأذى الذي ينالك في طريق تبليغك لدين الله.

وهذه الخصال الأربع ذكرها ابن القيم حين ذكر جهاد النفس، حيث قال: «جهاد النفس أربع مراتب:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلْمُه شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، ثم قال: فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماوات»

(1)

.

(1)

انظر: «زاد المعاد» (3/ 9).

ص: 34

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

[العصر: 1 - 3]).

* بعدما ذكر المؤلف المسائل الأربع، استدل لها بسورة العصر فقال:

{وَالْعَصْرِ} والعصر هو: الدهر والزمان

(1)

، وقد أقسم الله عز وجل به؛ لشرفه، وإنما شَرُفَ الدهرُ؛ لأنه هو الوقتُ الذي به يتعبد العبد لربه سبحانه وتعالى.

ثم قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} -أي جميع الناس في خسارة- لأنه قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ} و (ال): جنسية، يعني جنس الناس، أو جنس الإنسان كلهم في خسارة عظيمة، إلا ما استثني.

وتأمل أن الله عز وجل أكد هذه الآية وهذا المعنى بثلاث مؤكدات:

1 -

والعصر: قسم مؤكد.

2 -

إنَّ: حرف نصب وتوكيد.

3 -

لفي خُسر: اللام واقعة في جواب خبر إنَّ فهي مؤكدة.

ثم قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} : إلا ما استثني، وهؤلاء المستثنون هم الذين حققوا هذه المسائل الأربع التي مرت قبل قليل، امنوا، فتعلموا، فعملوا فصبروا.

ثم قال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أي عملوا بعدما علموا،

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (20/ 178).

ص: 35

ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} دعوا إلى الله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} صبروا على ما يأتيهم من الأذى في طريق هذا الدين العظيم.

وخلاصة السورة: أن الناس قسمان:

أ خاسرون.

ب ورابحون.

فالرابحون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر؛ فمن أكمل هذه الصفات الأربع، فهو من الفائزين بالربح الكامل، والسعادة الأبدية، والعز والنجاة في الدنيا والآخرة؛ ومن فاته شيء من هذه الصفات، فاته من الربح بقدر ما فاته منها؛ وأصابه من الغبن والفساد، بقدر ما معه من التقصير والغفلة والإعراض عن ما يجب عليه

(1)

.

ص: 36

*‌

‌ قوله: (قَالَ الشَّافِعيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ»).

* الكلام على هذه الجملة في أربع مسائل:

الأولى: الشافعي: هو محمد بن إدريس الشافعي، الإمام العلم المعروف، صاحب المذهب، قال:«لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم» .

وإنما قال ذلك لأجل عظم شأن هذه السورة، فمع أنها مختصرة وقليلة الآيات، إلا أنها حوت معانٍ جليلة عظيمة، ولو لم ينزل الله عز وجل إلا هذه السورة تكون طريقاً لهم ونبراساً يستنيرون به في حياتهم لكانت كافية؛ لأنها تضمنت هذه المراتب الأربع.

قال ابن القيم رحمه الله: «وبيان ذلك -يعني كلام الشافعي-: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله، إحداها معرفة الحق، الثانية عمله به، الثالثة تعليمه من لا يحسنه، الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.

فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر إن كل أحد في خسر، الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى، وتواصوا بالحق، وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً فهذه مرتبة ثالثة، وتواصوا بالصبر، صبروا على الحق، ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة، وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه،

ص: 37

مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه اياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه، شافياً من كل داء، هادياً الى كل خير»

(1)

.

الثانية: قال العلماء: في هذه السورة وعيد شديد، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة، وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والنجاة معلقة بمجموع هذه الأمور.

وقد كرر التواصي في الآية، للتأكيد والاهتمام، فتضمن الإيصاء الأول (وتواصوا بالحق) الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، والثاني (وتواصوا بالصبر) الثباتَ عليه، فالأول: أمرٌ بالمعروف، والثاني: نهيٌ عن المنكر.

الثالثة: إن قيل: كيف يقول الشافعي أن الناس تكفيهم هذه السورة، والله سبحانه أنزل القرآن فيه الأحكام والمواعظ والأخبار مما لا يغني بعضه عن بعض؟

فالجواب: أراد رحمه الله أن هذه السورة تكفيهم في الوعظ، قال العثيمين رحمه الله:«فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران»

(2)

، وقال أيضاً:«وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة»

(3)

.

(1)

انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 57).

(2)

انظر: «تفسير جزء عم» للعثيمين (ص 313).

(3)

انظر: «شرح ثلاثة الأصول» للعثيمين (ص 27).

ص: 38

الرابعة: قال الشافعي أيضاً عن هذه السورة: «النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عن هذه السورة {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}»

(1)

، فما أحرى طالب العلم خصوصاً، وكل مسلم عموماً أن يتأملوا في هذه السورة، وأن يعملوا بها، ويحققوا معناها، كي يربح المسلم في زمن الخسران، وما أكثر الذين سيخسرون، وتتفاوت أسباب الخسارة، فمنهم من سيخسر لأنه لم يؤمن، ومنهم من سبب خسرانه عدم العلم، ومنهم من سببه عدم العمل، ومنهم من يخسر لأنه لم يصبر على ما ناله من أذى، والموفق حقاً من طبّق الأربع، جعلنا الله منهم.

(1)

انظر: «المجموع شرح المهذب» للنووي (1/ 12).

ص: 39

*‌

‌ قوله: (وَقَالَ البُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ (قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ)).

البخاري: هو إمام المحدثين، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح، وهو أصح كتاب بعد القرآن، قال:«بابٌ العلم قبل القول والعمل» ، ومعلوم دقة البخاري في تراجمه، فهي من ميزات كتابه، وتبويباته غاية في النفاسة، تتميز بالاستنباط، وجودة العبارة.

وقد بوب بهذا التبويب، واستدل له بقوله تعالى:(فاعلم أنه لا إله إلا الله):

ووجه الاستنباط: أن الله قدم العلم قبل القول، وهو قوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وهذا يدلك على أهمية العلم.

وقدم المصنف رحمه الله هذه المسائل الأربع قبل ذكر الأصول الثلاثة؛ لأن فيها تأكيداً على أهمية العلم، حتى تحتفي وتعتني بما سيذكره لك بعد ذلك، فإذا عرفت قدر العلم، وشرفه، وأن الله قدمه على العمل كنت مستعداً لما سيذكره بعد ذلك.

ص: 40

*‌

‌ قوله: (اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ الثَّلاثِ مَسَائِل، والْعَمَلُ بِهِنَّ).

بعد ذلك ذكر المصنف رحمه الله المقدمة الثانية، وفيها: أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن، وهذه المسائل الثلاث هي مسائل غاية في النفاسة والأهمية، على طالب العلم أن يفهمها، وأن يدركها وأن يراجع نفسه في تحقيقها، فهي وإن كانت معروفة، فإن الإشكال في تحقيق الإنسان لها.

ص: 41

*‌

‌ قوله: (الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}

(المزمل: 15 - 16)).

* هذه المسألة الأولى التي ذكرها المؤلف رحمه الله، والكلام عليها في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: قد بين المؤلف رحمه الله في هذه المسألة الحكمة والمقصد من خلق الله عزو جل للناس، وبين فيها طريق تحقيق هذا المقصد.

فأما الحكمة والمقصد والغاية التي أوجد الله عز وجل لأجلها العباد، فهي أنه أوجدهم لكي يعبدوه سبحانه، فالله ما خلق الخلق عبثاً، ولم يوجدهم سدىً، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) كلا، بل حاشا الله سبحانه أنه يصنع شيئاً لغير حكمة، وإنما أوجدهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، ولأجل هذه الحكمة خلق الأرض، والجبال، وسخر الأشياء لابن آدم، ليتفرغ هو لعبادة ربه سبحانه، ولأجل هذا تأتي في القرآن آيات عديدة فيها أن الله خلق الأشياء، وذرأها، وسواها، وسخرها، لبني آدم، أما ابن آدم فما خلق إلا لشيء واحد، وأمر عظيم، ومقصد شريف، وهو أن يتعبد لله سبحانه.

وإذا عرفت أن هذا المقصد -وهو عبادة الله تعالى- فما هو الطريق لتحقيق هذا المقصد وهذه الغاية؟

الطريق لتحقيق العبادة: هو أن تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في أوامره، وتجتنب نواهيه، فهو الطريق الذي به نعرف أحكام ربنا، ونتعبد لربنا على بصيرة كما

ص: 42

أراد سبحانه، والرسل إنما كانت مهمتهم توضيح الطريق للعباد، كي يتعبدوا لرب العباد، فلا طريق إلى الوصول إلى الله وإلى تحقيق دين الله، إلا بأن تتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وأن تعلم أن من عصاه دخل النار، ومن أطاعه دخل الجنة.

وهذه الحكمة، وهذا المقصد تتابع الرسل على الأمر به وتبيينه للناس، قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).

المسألة الثانية: استدل المصنف على هذه المسألة بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)} (المزمل: 15 - 16).

وقوله: (وبيلاً): أي شديداً مهلكاً، وذلك لأن الله أغرق فرعون وجنوده في البحر حينما كفروا بموسى الذي أرسله الله لهم رسولاً، وفي هذا تحذير لأهل مكة وغيرهم، أن عاقبة معارضي الأنبياء، والذين يقفون في وجه دعوتهم، أن الله يهلكهم في الدنيا، وفي الآخرة مآلهم إلى النار، كما فعل بفرعون وقومه:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46). نسأل الله السلامة والعافية.

ولأجل هذا فالواجب تجاه الأنبياءِ اتّباعهم، وعبادة الله على مقتضى ما بينه الأنبياء، ومآل من فعل ذلك الجنة بإذن الله عز وجل وبرحمته وفضله.

المسألة الثالثة: ذكر المؤلف في هذه المسألة ما يتعلق بالربوبية، وبالألوهية، حيث قال في الربوبية: أن الله خلقنا ورزقنا، فإفراد الله بالخلق والرزق هو توحيد الربوبية، وهو أمر لم يخالف فيه الناس، ولأجل هذا لم يعرج عليه، فلم يقل: فمن اعتقد أنه لا خالق ولا رازق إلا هو دخل النار، وإنما قال: فمن أطاعه

، وهذه هي المحك، وهي ما يتعلق بالألوهية.

ص: 43

*‌

‌ قوله: (الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضى أَنْ يُشركَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]).

هذه المسألة الثانية التي ذكرها المصنف، والمراد بها: أنك إذا عرفت أن الله خلقك للعبادة، فطريق تحقيقك لعبادة الله هو أن توحده سبحانه وتفرده بالعبادة، فتجعل قصدك ووجهتك في أعمالك وعباداتك وجه الله عز وجل، ولا تشرك معه أحداً، ولو كان ملكاً، وليس أي ملك، وإنما ملكٌ مقربٌ، كجبريل، وحتى ولو كان نبياً رسولاً، جمع بين النبوة والرسالة، وإذا عرفت أنه حتى هؤلاء لا يشركون مع الله في العبادة، فغيرهم من باب أولى.

* وحقيقة العبادة:

لغة: «مأخوذة من التذلل والخضوع، والعِبَادَةُ: بالكسر الطَّاعةُ، وقال بعضُ أَئِمَّةِ الاشتقاق أَصْلُ العُبُودِيّةِ الذُّلُّ والخُضُوعُ»

(1)

، يقال: طريق مُعَبّد: أي مذلّل، أي وَطَّأَتْهُ الأقدام وذَلَّلَتْهُ بكثرة المشي عليه.

قال القرطبي: «سميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى»

(2)

.

وأما في الاصطلاح فلها نظران:

1) العبادة بمعنى التَّعَبُّد وهي فعل العابد: تفسر بالتذلل والخضوع لله

(1)

انظر: «تاج العروس» (8/ 330).

(2)

انظر: «المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم» لأبي العباس القرطبي (1/ 96).

ص: 44

بفعل الأوامر وترك النواهي، يقال: هذا مُتَعَبِّدٌ لله أي أنه متذلل لله تعالى بالخضوع والذل، وقال ابن عثيمين في تعريفها:«هي التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه»

(1)

، وعرفها ابن القيم في نونيته فقال:

وعبادة الرحمن غاية حبه

مع ذل عابده هما قطبان

وعليهما فلك العبادة دائر

ما دار حتى قامت القطبان

ومداره بالأمر أمر رسوله

لا بالهوى والنفس والشيطان

2) العبادة بمعنى المُتَعَبَّدُ به من صلاة وصيام وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا ما يصدق عليه تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنها:«اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة»

(2)

، قال الشيخ الحكمي رحمه الله:

ثُمَّ الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ

لِكُلِ مَا يَرْضى الْإِلَهُ السَّامِعُ

* وتنقسم العبادات إلى:

1 عبادات محضة: وهي كل فعل لا يعلم إلا من الشارع.

2 عبادات غير محضة: وهي الأفعال والأقوال التي ليست عبادات من أصل مشروعيتها، ولكنها تتحول بالنية الصالحة إلى عبادات

(3)

.

* وللعبادة شرطان:

1) الإخلاص: فإن الله لا يقبل من العمل إلا الخالص لوجهه عز وجل،

(1)

انظر: «شرح الأصول الثلاثة» (ص 37).

(2)

انظر: «العبودية» (ص 44).

(3)

انظر: «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (5/ 154).

ص: 45

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5)، وقَال تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: 3).

2) المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم: فإن الله لا يقبل من العمل إلا الموافق لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، وقَال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).

* وللعبادة ركنان:

الأول: كمال الخضوع والذل، والمراد أن يستكين العبد لله ويخضع ويذل و ينقاد له، كلما سمع أمرًا أو نهيًا انقاد سمعاً وطاعةً

الثاني: كمال المحبة، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، قال ابن تيمية:«والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل، فالعابد محب خاضع، بخلاف من يحب من لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم، فإن كلا من هذين ليس عبادة محضة»

(1)

.

* والعبادة نوعان:

1) عبادة كونية: وتسمى عبودية الربوبية، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني وهذه عامة وشاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد، لقوله تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]، فهي شاملة للمؤمن والكافر، والبر والفاجر.

(1)

انظر: «قاعدة في المحبة» (ص 98).

ص: 46

2) عبادة شرعية: وتسمّى عبادة الطاعة والامتثال، وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى، واتبّع ما جاءت به الرسل، مثل قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63].

* والعبادة بحسب ما تقوم به من الأعضاء على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: عبادات اعتقادية: كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة والخشية والرهبة والتوكل ونحو ذلك.

القسم الثاني: عبادات لفظية: كالحمد والتهليل والتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن والدعاء ونحو ذلك.

القسم الثالث: عبادات بدنية: كالصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة والجهاد، ونحو ذلك

(1)

.

بعد هذا أقول: الواجب أن تحقق العبادة لله سبحانه وتعالى؛ وذلك: لأن الله هو المستحق وحده للعبادة، وما سواه من الناس ومن الخلق، فهم مخلوقات له، فالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كلها تسجد لله، وتذل له، وتسبح له، فكيف تشرك مع الله عز وجل أحدا؟! كيف تدعو مع الله عز وجل غيره؟!، فالعبادة لا تسمى عبادة إلا إذا اقترنت بالتوحيد لله تعالى، قال المجدد رحمه الله في قواعده الأربع:«فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة» .

وجماع القول: أن تعلم أن العبادة لا تصح حتى توحّد الله، وبدون

ص: 47

التوحيد تكون العبادة لاغية، وعبادة الإنسان المشرك لا اعتبار لها؛ لأن شرط قبول العمل أن يوحّد العبدُ قصدَه ويخلصَ عمله لله سبحانه وتعالى.

ثم استدل على ذلك: بقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18).

وقوله: (أحداً): نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، أي أنه لا يدعى مع الله أحدٌ أياً كان، ملكاً، أو نبياً، أو جبلاً، أو حجراً، أو رجلاً صالحاً، أو غير ذلك لا تدعو مع الله أحداً.

* والدعاء عند أهل العلم نوعان:

1) دعاء المسألة. 2) دعاء العبادة.

ويأتي الكلام عليهما عند ذكر عبادة الدعاء.

وخلاصة المسألة: أن تعلم أن العبادة لا تعتبر صحيحة، حتى تخلصها لله، ولا تشرك معه سبحانه غيره، ولو كان أفضل الخلق.

ص: 48

*‌

‌ قوله: (الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22)).

* هذه هي المسألة الثالثة، والكلام عليها في أربع مسائل:

الأولى: معنى هذه المسألة: أن من تمام تحقيق الدين أن توالي وتعادي في الله سبحانه وتعالى، فالإسلام يتم بأن تتعبد لله وتوحده، وأن توالي المسلمين وتعادي الكفار، ولأجل ذلك فإن تعريف الإسلام: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (الممتحنة: 4)، فالدين فيه أن تعبد، وفيه موالاة ومعاداة.

الثانية: الموالاة أصلها من الولاية، والولاية: هي المحبة، فالمسلم يحب كل مسلم، ويواليه بقدر ما عنده من الدين، وهذا من الوسائل التي تنال بها السعادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ:

، وذكر منها: وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ»

(1)

.

وأيضاً أن تعادي في الله، فتبغض الكفار وتبغض ما هم عليه من الكفر

(1)

أخرجه «البخاري» (16)، و «مسلم» (43) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 49

وينطوي قلبك على بغضهم؛ لأنهم يبغضون دينك، ولم يطيعوا نبيك صلى الله عليه وسلم، ولم يعبدوا ربك عز وجل، فلا يجوز أن يكون في قلبك حب لهم لما هم عليه من كفر وشرك.

الثالثة: اعلم أن الموالاة للكفار قد تكون مخرجة من الدين، وقد تكون محرمة، فهي تنقسم إلى قسمين:

1) موالاةٌ كبرى، وهي ما تسمى بكفر التولي.

2) موالاة صغرى.

النوع الأول: الموالاة الكبرى وهي ما تسمى بكفر التولي، أو الموالاة المطلقة أو مظاهرة المشركين، وهي مخرجةٌ من الملة: وهذا النوع دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وهذه الموالاة تقع بعدة أمور:

أولاً: محبة الكفار والمشركين لأجل دينهم.

ثانياً: الرضا بكفرهم.

ثالثاً: عدم تكفيرهم سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم من الطوائف.

رابعاً: تصحيح مذهبهم.

خامساً: الشك في كفرهم.

سادساً: مدح دينهم.

وربما صحب ذلك بغض المسلمين، والسعي لأن يقصم ظهر الإسلام، وأن يتغلب الكفر على الإسلام فهذا لا يجوز، وهو مخرج من الدين، ويدل على كونه كفراً عدة أدلة، منها:

1 -

قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51).

ص: 50

2 -

أن الله عدّ الولاء للكفار من صفات المنافقين فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ

} (المائدة: 52).

3 -

أن الله عدّ الموالاة للكفار لا تجتمع مع الإيمان فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} (المائدة: 81).

4 -

أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين وقع له ما وقع قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ»

(1)

، فدل على أنه قد يكون الفعل هذا كفراً بما يحتف به.

النوع الثاني: الموالاة الصغرى، وهي صغرى باعتبار الأولى، وإلا فهي في نفسها من أكبر الكبائر، وهي محرمة غير مخرجة من الدين إذا توافر فيها أمران:

1 -

إذا كانت لأجل أمر دنيوي، مثل أن تكون لأجل شيء من تعامله، أو سياسته، أو غير ذلك من الأشياء.

2 -

أن لا يترتب عليها نصرتهم على شركهم وكفرهم.

فبهذين القيدين تكون المحبة للكافر محرمة، لكنها لا تُخِرجُ من الدين.

والدليل على أنها ليست بكفر: قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (الممتحنة: 1)، فذكر في أول الآية أنهم مؤمنون، وناداهم بالمؤمنين، ونهاهم أن يقعوا في مثل هذا الأمر.

وقصة حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه، التي وقعت في فتح مكة حينما أرسل إلى قوم من المشركين يخبرهم باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة، كان ذلك منه ليس لأجل أنه يوافقهم على كفرهم، ولذلك قال يا رسول الله: والله ما حملني

(1)

أخرجه «البخاري» (3983)، و «مسلم» (2494) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 51

على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله وليس لي يدٌ أحمي بها مالي، فأردت أن يكون لي بذلك يدٌ أحمي بها مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا»

(1)

، وذلك لأنه قد شهد بدرا، وأما فعله فكان لا يجوز كما دلت عليه النصوص.

الرابعة: استدل المصنف على هذه المسألة بقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (المجادلة: 22). قال ابن الجوزي: «وهذه الآية قد بينت أن مودة الكفار تقدح في صحة الإيمان وأن من كان مؤمنا لم يوال كافراً، وإن كان أباه أو ابنه أو أحداً من عشيرته»

(2)

.

فالمؤمنون لا يوادون من حاد الله، و إنما لا يوادون إلا المؤمنين ويعادون الكفار والمشركين، هذه صفات المؤمنين، ولو كان هذا الكافر قريباً من أقاربهم لو كان أخاً أو ابناً أو زوجاً أو عماً، فإن قلبه ينطوي على بغض هذا الكافر لما هو عليه من الكفر. ولذلك كان الإمام أحمد يقول: «لا أطيق أن أنظر إلى نصراني كيف أنظر إليه وهو يقول إن الله ثالث ثلاثة

؟»، فما بالك بمن يحبهم ويواليهم ويخالطهم ويمازحهم وليس في قصده دعوتهم للإسلام، وإنما حبه لهم، نسأل الله السلامة والعافية.

(1)

أخرجه «البخاري» (3983)، و «مسلم» (2494) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

انظر: «زاد المسير» (8/ 199).

ص: 52

*‌

‌ قوله: (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ

(1)

إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]. وَمَعْنَى {وَيَعْبُدُونَ} : يُوَحِّدُونِ، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشركُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]).

هذه هي المقدمة الثالثة التي ذكرها الشيخ قبل كلامه عن الأصول الثلاثة.

* والكلام عليها سيتضمن خمسة أمور:

أولها: معنى الحنيفية: الحنيفية مأخوذة من الحنف وهو الميل، قال ابن منظور:«الحنيفية فِي اللُّغَةِ المَيْلُ، والمعنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَنَفَ إِلَى دينِ اللَّهِ وَدِينِ الإِسلامِ»

(2)

.

والمراد بالحنيفية: عبادة الله سبحانه وتعالى، وتوحيده، وإخلاص العبادة له.

وإنما سميت عبادة الله على وجه الإخلاص والتوحيد حنيفية: لأنها ميل عن الشرك إلى الإسلام والتوحيد.

قال ابن القيم: «الحنيفية تتضمن الإقبال على الله بالعبادة والإجلال والتعظيم والمحبة والذل»

(3)

.

(1)

(مِلَّةَ): لغة: الشريعة والدين. انظر: «لسان العرب» (11/ 631)، وشرعاً: الطريقة والشرعَة والنِّحْلَة والدين.

(2)

انظر: «لسان العرب» (9/ 57).

(3)

انظر: «بدائع الفوائد» (4/ 156).

ص: 53

وقد كان الناس على دين إبراهيم، ثم انحرفوا، فعبدوا غير الله تعالى، ومن هؤلاء أهل مكة، فقد كان قوم من أهل مكة قد بقوا على الحنيفية، منهم أربعةٌ ذكر ابن هشام خبرهم فقال:«اجتمع وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَلَّمُوا وَاَللَّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ! لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ! مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ، لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، يَا قَوْمِ الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ دِينًا، فَإِنَّكُمْ وَاَللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ. فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيَّةَ، دِينَ إبْرَاهِيمَ»

(1)

.

فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس لهذه الحنيفية، وهي ملة الإسلام.

الأمر الثاني: قد نسب الشيخ رحمه الله الحنيفية إلى إبراهيم عليهم السلام فقال: «أن الحنيفية ملة إبراهيم» ، وإنما نسبت لإبراهيم عليهم السلام؛ لأمرين، والله أعلم:

أولهماً: لأنه أبو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وثانياً: لأن إبراهيم هو المذكور في آيات القرآن التي ورد فيها الأمر بالحنيفية، قال الله عز وجل:{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النساء: 125)، وقال في الآية الأخرى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120)، وقال أيضاً:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} (آل عمران: 67).

وقد يضاف إلى هذا أنه من أولي العزم، وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للاقتداء به.

(1)

انظر: «السيرة» لابن هشام (1/ 223)، و «الروض الأنف» للسهيلي (1/ 253).

ص: 54

ولذلك فإبراهيم عليهم السلام قد عُرِفَ عنه أنه وقف الوقفة الصارمة تجاه قومه وعبادتهم لغير الله عز وجل، وخبره مع أبيه آزر ومع قومه مشهور، وهذا دليل على توحيده وقيامه به حق قيامه وجهاده به حق جهاده في شأن تحقيق التوحيد، والحنيفية، ونبذ الشرك ونحو ذلك.

الأمر الثالث: الحنيفية هي دين الأنبياء جميعاً، ولأجلها خلق الله الناس، ولذلك قال الشيخ رحمه الله: وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها -أي الحنيفية- فالله عز وجل خلق الناس ليعبدوه على وجه الإخلاص والتوحيد، والعبادة لا تصح حتى يعبد العبد ربه موحداً له، أما من عبده و هو مشرك فلا تصح عبادته.

فهذه العبادة -التي هي الحنيفية- هي الأمر الذي لأجله خلق الله الناس.

ثم استدل الشيخ رحمه الله بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، ومعنى يعبدون -أي يوحدون- وقد نقل عن ابن عباسٍ أنه قال:«كل موضعٍ في القرآن، اعبدوا الله، فمعناه: وَحِّدوا الله»

(1)

.

واللام في قوله (ليعبدون) للتعليل، ففيها بيان سبب خلق الله تعالى للجن والإنس.

والآية جاءت بأسلوب الحصر، فإن الاستثناء بعد النفي يفيد الحصر -وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه- والمعنى: خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة لله وحده دون ما سواه.

وقال أيضاً: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36).

(1)

انظر: «معالم التنزيل» للبغوي (1/ 71).

ص: 55

وهذا في العموم، أما في خصوص دعوات الأنبياء فقد تبين في القرآن أن دعوتهم كان مدارها على التوحيد.

قال تعالى حكاية عن نوح عليهم السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (المؤمنون: 23).

وقال حكاية عن هود عليهم السلام: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (الأعراف: 65).

وقال حكاية عن صالح عليهم السلام: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73).

وقال حكاية عن شعيب عليهم السلام: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85).

فالتوحيد هو أساس دعوات الرسل جميعاً، والداعي إلى التوحيد مقتدٍ بهؤلاء الأنبياء.

الأمر الرابع: مما ذكره الشيخ رحمه الله في هذه المقدمة، أنه أشار فيها إلى أعظم الأوامر وإلى أعظم النواهي، فنبينا صلى الله عليه وسلم أمر بأوامر مبلغاً عن الله، ونهى عن نواهي، وليست هذه الأوامر على درجة واحدة، وكذا النواهي ليست على درجة واحدة، والإنسان يميز بين الأوامر، فيقدم بعضها على بعض، وأعظم أمرٍ أمر الله عز وجل به هو التوحيد.

والتوحيد الذي أمر الله عز وجل به هو: إفراد الله بألوهيته وربوبيته وبأسمائه وصفاته، وهذا يشمل أنواع التوحيد الثلاثة، الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات.

فإفراد الله بالربوبية: أن تعتقد أن الله وحده هو الربّ الخالق الرازق المدبر.

ص: 56

وإفراده بالألوهية: بأن تعتقد بأنه وحده الإله المستحق للعبادة، فلا تصرف شيئاً من العبادة إلا له سبحانه وتعالى.

وتوحيد الأسماء والصفات هو: أن تصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما النواهي فأعظمها: الشرك، وهو دعوة غيره معه، أياً كان هذا الغير، فإن قيل: فما حقيقة الشرك؟

الشرك له في الشرع معنيان: عام وخاص.

1 -

المعنى العام: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائصه سبحانه، ويندرج تحته ثلاثة أنواع:

الأول: الشرك في الربوبية: وهو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الربوبية، أو نسبة شيء منها إلى غيره، كالخلق والرزق والإيجاد والإماتة والتدبير لهذا الكون ونحو ذلك، قال تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: 3).

الثاني: الشرك في الأسماء والصفات: وهو تسوية غير الله بالله في شيء منها، والله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرُ} (الشورى: 11).

الثالث: الشرك في الألوهية: وهو تسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الألوهية، كالصلاة والصيام والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذلك، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165).

2 -

المعنى الخاص: وهو أن يتخذ للهِ نداً يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله ويرجوه كما يرجو الله، ويحبه كما يحب الله، وهذا

ص: 57

هو المعنى المتبادر من كلمة «الشرك» إذا أطلقت في القرآن أو السنة.

* وينقسم الشرك إلى قسمين: أكبر وأصغر.

أ) الشرك الأكبر هو: اتخاذ ند مع الله يعبد كما يعبد الله، وهو ناقل من ملة الإسلام محبط للأعمال، فمثاله في الاعتقادات: اعتقاد أن غير الله يستحق العبادة، ومثاله في الأعمال: الذبح لغير الله، ومثاله في الأقوال: دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله

(1)

.

(1)

وينقسم الشرك الأكبر إلى أربعة أنواع:

1) شرك الدعوة -الدعاء-: قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65).

2) شرك النية والإرادة والقصد: وذلك أن ينوي بأعماله الدنيا أو الرياء أو السمعة، إرادة كلية كأهل النفاق الخلص، ولم يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، فهو مشرك الشرك الأكبر، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15 - 16).

3) شرك الطاعة: وهو مساواة غير الله بالله في التشريع والحكم، فالتشريع والحكم حق جعله الله لنفسه قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يُوسُف 40]، وقال سبحانه في هذا النوع من الشرك:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشّورى: 21]، فمن ادعى أن لأحدٍ من الناس سواءً -علماء أو حكاماً أو غيرهم- حق التشريع من دون الله أو مع الله فقد أشرك مع الله إلهاً آخر في حق الله وحده، وكفر بما أنزل من عند الله قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31).

وروى ابن جرير في «تفسيره» من طريق أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: «لَا، كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شيئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شيئًا حَرَّمُوهُ» وقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَابن عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا فِي تَفْسيرِها:«إِنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا» ().

4) شرك المحبة: والمراد محبة العبودية المستلزمة للإجلال والتعظيم والذل والخضوع التي لا تنبغي إلا لله وحده لا شريك له، ومتى صرف العبد هذه المحبة لغير الله فقد أشرك به الشرك الأكبر، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} (البقرة: 165).

ص: 58

ب) الشرك الأصغر هو: كل ما كان ذريعة إلى الأكبر ووسيلة للوقوع فيه، ونهى عنه الشرع وسماه شركاً، ولا يخرج من الملة.

وهو قد يكون في الأعمال، ومن ذلك يسير الرياء كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشركُ الْأَصْغَرُ. قَالُوا: وَمَا الشركُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ»

(1)

.

وقد يكون في الأقوال: ومنه الحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشركَ»

(2)

.

وقد يصير الشرك الأصغر شركاً أكبر بحسب ما يقوم بقلب صاحبه

(3)

.

* والفرق بين الشرك الأكبر والأصغر من وجوه:

1 -

أن الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة، وأما الأصغر فاختلف

(1)

أخرجه «أحمد» (39/ 39) من حديث محمود بن لبيد، وصححه الألباني في «الصحيحة» (951).

(2)

أخرجه «أبو داود» (3251)، و «الترمذي» (1535) من حديث ابن عمر، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 458).

(3)

والشرك الأصغر على نوعين:

النوع الأول: الشرك الظاهر: وهو ما يقع في الأقوال والأفعال، فشرك الألفاظ كالحلف بغير الله تعالى فقد سمع ابنُ عُمر رجلاً يحلفُ: لا والكعبة، فقال له ابنُ عمر: إني سمعتُ رسولَ الله هـ يقول: «مَنْ حلَفَ بغيرِ الله فقد أشركَ» ، وشرك الأفعال كلبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه، فمن اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاءِ ودفعه فهو شرك أصغر، وأما إن اعتقد أنها تدفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر.

النوع الثاني: الشرك الخفي: هو الشرك في النيات والمقاصد والإرادات، كالرياءِ والسمعة كمن يعمل عملاً مما يتقرب به إلى الله فيُحسن عمله من صلاةٍ أو قراءةٍ لأجل أن يمدح ويثنى عليه.

ص: 59

فيه العلماء، فمنهم من جعله تحت المشيئة، ومنهم من قال لا يغفر إلا بتوبة.

2 -

أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه.

3 -

أن الشرك الأكبر مخرج لصاحبه من ملة الإسلام، وأما الأصغر فلا يخرجه منها.

4 -

أن الشرك الأكبر صاحبه خالد في النار ومحرمة عليه الجنة، وأما الأصغر فكغيره من الذنوب.

واعلم أن الوعيد على الشرك يشمل النوعين، وإنما كان الشرك أعظم أمر نهى الله عنه؛ لأن فيه هضما لربوبية الله وتنقصا لألوهيته، ولأن فيه تسوية للخالق بالمخلوق.

* فإن قيل: ما الدليل على أن أعظم الأوامر التوحيد، وأعظم النواهي الشرك؟

= دل على ذلك نصوص عديدة.

منها: أن الله حين أوصى العباد بالوصايا العشر ابتدأها بالتوحيد والتحذير من الشرك فقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (الأنعام: 151).

وأيضاً فإن الله ذكر أن الشرك هو محبط الأعمال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65).

ومنها أن الله حين ذكر الشرك بيّن أنه لا يغفر، فدل على عظمه {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 116)، وذكر أنه أعظم الظلم فقال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13).

ص: 60

قال السعدي: «فكان أعظم مقامات دعوته صلى الله عليه وسلم دعوته إلى التوحيد الخالص والنهي عن ضده، دعا الناس لهذا، وقرره الله في كتابه، وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين وجوب التوحيد وحُسنه، وتعينه طريقاً إلى الله وإلى دار كرامته، وقرر إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن، وهي أغلب السور المكية»

(1)

.

وقال الشيخ حافظ الحكمي في منظومته

(2)

:

أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ

مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ بِالتَّوْحِيدِ

إِذْ هُوَ مِنْ كُلِ الْأَوَامِرِ أَعْظَمُ

وَهْوَ نَوْعَانِ أَيَا مَنْ يَفْهَمُ

إذا علمت هذا فالواجب عليك يا طالب العلم أن تعنى غاية العناية بالدعوة إلى توحيد الله، ونبذ الشرك كبيره وصغيره، فالأرض في زماننا قد كثر فيها الإشراك، والداعية إلى الله هو الطبيب الذي يداوي هؤلاء المرضى، واعلم أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالتوحيد، والبداءة به قبل كل شيء، فلم يقل إن دعوتي للتوحيد ستهيج الناس علي، وتجعلهم يعرضون عني، بل ابتدأ به، فصارت المفاصلة بينه وبين قومه، وكذا إبراهيم عليهم السلام، فإن الله تعالى قال عنه في القرآن:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة: 4).

وإذا علمت أن الدعوة للتوحيد هي طريق الأنبياء، فاعلم أن من سلك طريقهم فلربما ناله بعض ما نالهم من أذى، فليستعد لذلك، فالأنبياء نالهم من الأذى في سبيل ذلك الكثير، قال ابن القيم: «وَالطَّرِيق طَرِيق تَعب فِيهِ آدم

ص: 61

وناح لأَجله نوح وَرمي فِي النَّار الْخَلِيل وأضجع للذبح إِسْمَاعِيل وَبيع يُوسُف بِثمن بخس ولبث فِي السجْن بضع سِنِين وَنشر بِالْمِنْشَارِ زَكَرِيَّا وَذبح السَّيِّد الحصور يحيى وقاسى الضّر أَيُّوب وَزَاد على الْمِقْدَار بكاء دَاوُد وَسَار مَعَ الْوَحْش عِيسَى وعالج الْفقر وأنواع الْأَذَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

الأمر الخامس: قد يتبادر سؤال، وهو إذا عرفنا أن التوحيد يشمل أنواعاً ثلاثة فهنا ذكر المصنف إفراد الله بالعبادة، فلِمَ لم يذكر إلا توحيد الألوهية؟ وكذا في الشرك؟!

والجواب: أن المصنف رحمه الله لا يخفى عليه أن التوحيد يشمل الأنواع الثلاثة، وإنما نبه على واحد؛ لأن الاختلاف قد وقع عليه، وهو توحيد الألوهية، ولذلك قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، فدعوة الأنبياء ودعوة الرسل غالبها يدور على توحيد الألوهية.

* أما توحيد الربوبية فكثير من الناس، حتى كفار قريش يؤمنون به ويصدقون به {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87)، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون: 84 - 85)، إنما الإشكال والخلل وقع في توحيد الألوهية فنبه الشيخ على ذلك، وهذا من باب ذكر بعض أفراد العام، وإلا فالتوحيد يشمل توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، كلها داخلة في توحيد الله سبحانه وتعالى.

* خلاصة الكلام: أن الحنيفية هي أن تعبد الله عز وجل مخلصاً له وموحداً، ولا تقع في شيء من الشرك.

(1)

انظر: «الفوائد» لابن القيم (ص: 42).

ص: 62

*‌

‌ قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟

فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.

* الكلام على هذه الجملة في مسألتين:

المسألة الأولى: قوله: (الأصول الثلاثة).

سبق بيان معنى الأصول، وأن الأصل: هو ما ينبني عليه غيره، وقد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، والأصول هنا أصول معنوية وليست حسية.

والمؤلف رحمه الله أتى بالأصول الثلاثة على طريقة السؤال والجواب؛ لأن ذلك أدعى للفهم وأبقى للحفظ وأنشط للطالب وللمستمع، وفيه تشويق، وتسهيل لحصر المعلومة، وهو أسلوب معروف من أساليب التعليم.

المسألة الثانية: ذكر المؤلف رحمه الله هذه الثلاث -معرفة العبد ربه ومعرفة دينه ومعرفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأنها الأمور التي سيسأل عنها في القبر، وهذه الثلاث إذا تأملتها وجدت أنها تشمل الدين كله.

وتأمل قوله: (معرفة): والمعرفة هي العلم، بأن يعرف ذلك بدليله، بأن لا يقلد في هذه الأمور الثلاثة، وإنما يعرفها بدليلها، لذلك عقد هذه الأصول الثلاثة، وساق أدلتها، فلزامٌ على طالب العلم وغيره أن يعتقد هذه الثلاث ويعرف دليلها.

واعلم أن المؤلف ذكرها أولاً مجملة، ثم شرع في ذكرها بالتفصيل.

*

ص: 63

‌قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟

فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]. وَكُلُّ مَا سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ).

* الكلام على هذه الجملة في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: أول أمرٍ ينبغي أن يعرفه الإنسان هو أن يعرف ربه سبحانه، وذلك لأنه سبحانه الخالق، المدبر، الذي بيده كل شيء، فأهم أمرٍ تعرفه أن تعرف ربك، ولو علم الإنسان كل شيء وجهل ربه فهو الجاهل حقاً، وإذا عرف العبد ربه حق المعرفة فلا يضره لو جهل علوم الدنيا.

* فإن قيل: وما المراد بمعرفة الله سبحانه؟

هذا أصلٌ يدخل تحته ثلاثة أمور:

1/ أن يعرف العبدُ ربه بربوبيته، فتفرده بما يختص به من معاني الربوبية من الخلق والملك والتدبير.

2/ أن يعرف العبدُ ربه بألوهيته، بأن يعرف أنه هو الذي ينبغي أن يفرد بكل العبادات القلبية والبدنية والقولية.

3/ أن يعرفه بأسمائه وصفاته، بأن يعرف ما يختص الله به من الأسماء والصفات، وما يجب على الإنسان تجاه هذه الأسماء والصفات

المسألة الثانية: قال المؤلف: إذا قيل لك من ربك.

السائل هنا مبهم، ولا يحتاج إلى أن تعرفه، وإنما إذا قال لك أي قائل، مسلم، أو كافر، مَلَك، أو غيرُ ملَكٍ، في القبر، أو في الدنيا، من ربك؟

ص: 64

= فليكن جوابك: ربي الله، ثم زاد المؤلف ذلك إيضاحاً بقوله: الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه، أي أنه سبحانه هو الذي أجزل علي النعمة، وربى جميع العالمين بنعمه، وجميع الخلق هم داخلون تحت نعم الله سبحانه وتعالى، لا يستغني أحد عن إنعامه، فمن الناس من يرزقه الله النعم الدينية والدنيوية، ومن الناس من يرزقه النعم الدنيوية فقط، لكن الجميع يتنعم بنعم الله سبحانه وتعالى، قال الله:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: 53).

ثم قرر أن هذا المعبود سبحانه هو معبودي وليس لي معبود سواه، فكونك تعرف أن الله هو الذي أجزل لك النعم، هذا لا يكفي، بل لابد أن تعلم أنه هو المعبود الذي ليس لك معبود سواه، وتقرّ بذلك بلسانك وأفعالك فلا تتوجه لغيره بشيء من العبادات.

المسألة الثالثة: استدل المؤلف على هذا الكلام الذي قرره بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، ثم قال: وكل ما سوى الله سبحانه وتعالى عالم.

والمعنى: أن الله خلق في الأرض أنواعاً متعددة من العوالم، أو العالمين

(1)

، فالجن عالم، والإنس عالم، والحيوانات كل واحدة منها عالم، عالم الطير، وعالم الزواحف، وهكذا، من أنواع أعلمها وأخرى لا أعلمها، وأنواعٍ يعلمها الناس، وأنواع لا يعلمها أحد من الناس، لكن أنا واحد من واحد من أنواع هذه العوالم، وهذا يدلك على أمرين:

1.

أنه ضعيف، فهو لا شيء أمام عظم وكثرة مخلوقات الله تعالى.

2.

أنه داخل تحت قول الله عز وجل: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، وحينها فهو عبد مربوب لله عز وجل.

(1)

كلا الكلمتين تصح جمعاً لكلمة عالم.

ص: 65

*‌

‌ قوله: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟

فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا).

التعرف على الله سبحانه لا بد له من وسيلة، فجاء السؤال عن هذه الوسيلة: بم عرفت ربك، وكيف عرفته؟

= الجواب: أن العبد يعرف الله بأمرين:

1 -

آيات الله سبحانه: والآية هي العلامة والبرهان، وآياته تعالى نوعان:

أ- الآيات الشرعية: وهي وحي الله المنزل على عبده، فالآيات الشرعية هي الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الآيات التي في القرآن، تُعرِّفُ العبد بربه سبحانه، ففي القرآن آياتٌ فيها تعظيم الله، وفيها ذكر أسمائه وصفاته، وفيها بيان أنه الخالق الرازق ونحو ذلك، ولأجل هذا: فإن من أعظم أسباب تعظيم الله، ومعرفته حق المعرفة، أن يتأمل الإنسان في القرآن، ويقرأه قراءة تدبر وتأمل، فكم حَيت بآيِه من قلوب، وزالت من جهالات، وما طالع أحدٌ القرآن إلا وخرج منه بزيادة إيمان، وسعة علم، وانشراح صدر، والموفق من وفقه الله.

ب- الآيات الكونية: وهي ما خلقه الله وما يحدثه في الكون، إيجاداً وخلقاً، وإعداماً ونقصاً، ونحو ذلك، وكم في الكون من آياتٍ تدل على وجود الله سبحانه، وعلى ملكه وربوبيته واستحقاقِهِ العبادة دون من سواه، وتقليبُ العبد بصره إلى الكون يزيده تعظيماً لله تعالى، فسير الشمس بانتظام، ثم يعقبها القمر، لا يسبق هذا على هذا، في دقة متناهية، وتعاقب الفصول،

ص: 66

وحركة الرياح، وانتظام معاش الناس، ونزول المطر، وخروج الثمار، بعد بذرها، وغير ذلك، كله دالٌ على أن الله وحده لا شريك له، فلا أحد يستحق العبادة إلا مبدع هذه الأشياء.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

2 -

مخلوقات الله تعالى: فيتعرف العبد على الله عز وجل بمخلوقاته، والمخلوقات: كل ما وجد بعد أن لم يكن موجوداً، وهي داخلة في آياته الكونية، ولكنه تخصيص بعد تعميم، ومن أمثلة ذلك: خَلقُ اللهِ للجبال، وللطيور، وللأشجار، وغير ذلك، مع انتظام في المعيشة، ورزق كل شيء بحسبه، كله يدل على أن الله هو الخالق سبحانه.

ثم ذكر مثالاً على الآيات، فقال: الليل والنهار، والشمس والقمر، ومثالاً على المخلوقات، فقال: من مخلوقاته السماوات السبع، والأرضون السبع، ومن فيهن وما بينهما.

ص: 67

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

[فصلت: 37]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]).

ذكر المؤلف آيتين استدل بهما على أن من طرائق التعرف على الله النظر في آياته ومخلوقاته.

أما الأولى: فقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (فصلت: 37).

وقد تضمنت الآية ذكر بعض آيات الله الكونية، فالعبد الذي يرى الشمس والقمر والليل والنهار وتغييرها وتقليبها، نهار يعقب ليل، وليل يعقب نهار، وآيات ومعجزات، يوقن بأن الله عز وجل هو وحده الذي يستحق العبادة، لا أحد سواه، فكيف يتوجه بعد رؤيته لكل هذه المعجزات والآيات، فيتعبد لغير الله سبحانه وتعالى؟!

وأما الثانية: فقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} ، إلى أن قال:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 54).

وقد تضمنت الآية أيضاً ذكراً لبعض آيات الله الكونية، فذكر الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، وبيّن أنها على عظمها وضخامتها مسخرات

ص: 68

بأمره سبحانه وتعالى، فإذا استقر في ذهن المسلم هذا، وأيقن بأن هذه الأشياء العظيمة يدبرها الله ويقلبها كيف يشاء، دلّه هذا على وجود ربٍ سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يدار الكون بانتظام، إلا بوجود خالق له مدبر، ولا يمكن أن تسير أمور العباد، إلا وثمة من يدبرها وحده، ولا يشاركه معه غيره، وهذا الواحد هو الله سبحانه وتعالى، ولو فرض معه من يدبره معه لاضطربت الأمور، وما استقرت، فلا يمكن أن تستقيم أمور قرية ولها مدبران، فكيف تستقيم أمور الكون بأكمله بوجود مدبر مع الله، كما قال تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91).

إذن فهذا المدبر -وهو الله عز وجل هو وحده هو الذي يستحق منك أن تعبده.

ص: 69

*‌

‌ قوله: (وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22]).

حينما يأتي في الآيات ذكر الرب، فاعلم أن الرب هو المعبود سبحانه، وحينما يأتي ذكر خلق الله وربوبيته، فاعلم أن خالق هذه الأشياء هو الرب المستحق للعبادة دون من سواه.

وكثيراً ما يأتي في القرآن آيات فيها ذكرٌ وإثباتٌ لربوبية الله، ليستدل بها على توحيد الألوهية، ومن أمثلة ذلك: الآية التي ذكرها، وهي قوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} (البقرة: 21 - 22).

فتأمل أن الله سبحانه جعل تفرده بخلق الناس حاضرهم وسابقهم، ووضعه الأرض للأنام، وتذليله إياها ليمشوا في مناكبها وينعموا برزقه، ورفعه السماء بغير عمد يرونه، وإنزال المطر، وإخراج الثمار على إثره، جعل هذا سبباً وباباً إلى توحيد الإلهية، وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة.

ولا شك أن هذا طريقٌ نافعٌ لإثبات الألوهية، فإن قلب الإنسان يتعلق أولاً بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضره، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرب إليه وترضيه عنه وتوثق صلته به.

ص: 70

فتوحيد الربوبية بابٌ إلى توحيد الإلهية، ومن أجل ذلك احتج الله به على المشركين وقررهم به، وأرشد إليه رسله، وأمرهم أن يدعوا به أممهم، قال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)} (المؤمنون: 84 - 87)، فاستدل بتفرده بالربوبية وكمال التصرف على استحقاقه وحده العبادة ووجوب تفرده بالإلهية، وفي هذا كله وصية للداعية إلى الله، أن يُعنى بهذا الأسلوب القرآني في الدعوة إلى التوحيد، حين يقرر في النفوس ربوبية الله، وتفرده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، وسائرِ التدبيرات، ومن ثم بيان أن فاعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، كما نقل المصنف عن ابن كثير رحمه الله قوله: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.

ص: 71

*‌

‌ قوله: (قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشياءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ).

كلام ابن كثير قد ساقه المؤلف بالمعنى، ونصه أنه رحمه الله حين فسر الآية المذكورة قال بعدها: ومضمونه: «أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ مَالِكُ الدَّارِ وَسَاكِنِيهَا وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ غَيْرُهُ؛ ولهذا قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}»

(1)

.

يعني إذا عرفتم خلق الله لهذه الأشياء، فمن الخطأ الشنيع أن تعبدوا غيره.

(1)

انظر: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (1/ 104).

ص: 72

*‌

‌ قوله: (وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ: الإِسْلامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ).

أشار المصنف رحمه الله إلى جملة من العبادات، وأراد أن يبين أن هذه العبادات لا تكون إلا لله، فهي حق لله عز وجل فذكر بعض أنواع العبادة، وذكر قبل ذلك مراتب الدين بإيجاز، وهي الإسلام، والإيمان، والإحسان، وسيأتي الكلام عنها عند الكلام على الأصل الثاني.

ص: 73

*‌

‌ قوله: (وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشيةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا. كُلُّهَا للهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}

[الجن: 18]. فَمَنْ صرفَ مِنْهَا شيئًا لِغَيْرِ اللهِ؛ فَهُوَ مُشركٌ كَافِرٌ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]).

* الكلام على هذه الجملة في مسألتين:

المسألة الأولى: ذكر المصنف أنواعاً من العبادة إجمالاً، وليس ذلك منه للحصر، وإنما للتمثيل، وسيتكلم على كل واحدةٍ منها بدليلها.

وهذه العبادات التي ذكرها كلها قلبية، ولم يذكر العبادات البدنية، ولعل ذلك لأمرين:

1.

خفاءُ أمر العبادات القلبية، مما يجعل صرفها لغير الله أكثر من غيرها، من حيث الجهل بوجوب التوحيد فيها، ومن حيث عدم ظهورها غالباً، فلا يتنبه لها، بخلاف العبادات البدنية، قولية أو فعلية، فإن الإشراك فيها أقل، وإذا وقع فهو ظاهر.

2.

أن مدار العبادات القلبية على القلب، فإذا تعلق القلب بغير الله توكلاً ورهبة ورغبة ورجاء وخوفاً ونحو ذلك فسد القلب، ولم تنفعه العبادات البدنية، فلأهمية العبادات القلبية ذكرها هنا.

ص: 74

المسألة الثانية: ذكر المؤلف دليلين على أن من صرف شيئاً من العبادات لغير الله فقد وقع في الشرك، وهما:

1.

قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18).

وقوله: {الْمَسَاجِدَ} ، إما أن يراد بها المواضع التي بنيت لعبادة الله، وإما أن يراد بها الأعضاء التي خلقها عز وجل فليس لأحد أن يدعو مع الله غيره من خلقه.

إذن فمعنى الآية: أن المساجد كلها لله، فلا يجوز أن يقصد بها أحدٌ غير الله، وسواء أريد بالمساجد أعضاء السجود، أو المواضع التي بنيت للعبادة.

2.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117).

ومعنى الآية يتبين بما قبلها، وهي قوله:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (المؤمنون: 116)، فإنه سبحانه لما قرر أنه الملك الحق لا إله إلا هو، قال بعدها أن من ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلاً لا برهان له فيه، وكل ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، ثم ذكر أن من قال بذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله:{فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (المؤمنون: 117)، قال بعض المفسرين

(1)

: «إِنَّ عِقَابَهُ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى حِسَابِهِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى»

(2)

.

(1)

القائل هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن التيمي الرازي، الملقب بفخر الدين، ولد في الري بطبرستان، أخذ العلم عن كبار علماء عصره، ومنهم والده، حتى برع في علوم شتى واشتهر، وكان عالمًا في التفسير وعلم الكلام والفلك والفلسفة وعلم الأصول وفي غيرها، له مؤلفات عدة، غير أنه كان على مذهب المعتزلة، بل من رؤوسهم، توفي سنة (606 هـ)، واختُلف في سبب وفاته، وقيل مات مسموماً.

(2)

انظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (23/ 300).

ص: 75

واعلم أن كل من دعا غير الله فليس له برهان على ذلك، بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه.

والخلاصة: أن من دعا غير الله مع الله فقد وقع في الشرك، وقد كان أهل مكة يدعون الله ولكنهم يدعون غير الله تعالى معه، فعدّ صنيعهم شركاً.

فالمراتب ثلاث:

1 -

عبدٌ يَعبد اللهَ وحده: فهذا هو الموحد.

2 -

وعبدٌ يَعبدُ غير الله مطلقاً: فهذا كافر لم يسلم ولم يتعبد لله عز وجل.

3 -

وعبدٌ يَعبدُ الله ويعبدُ معه غيره: فهذا هو المشرك.

ص: 76

*‌

‌ قوله: (وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ». وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]).

* أول عبادة ذكرها المؤلف عبادة الدعاء، والكلام عليها في ست مسائل:

المسألة الأولى: الدعاء عبادة عظيمة، وهو من أشرف أنواع العبادة لله تعالى، فليس للعبد غنى عن الله سبحانه وتعالى، فأنت ترى المهموم يتوجه للحي القيوم سبحانه فتتفرج بإذن الله كرباته، وترى المريض يتوجه له فيشفيه، وترى العقيم يقصده بالمسألة فيرزقه، والمهموم يقصده فيزيل الله همه، والمديون يتوجه لله عز وجل، فيجيبه الله عز وجل ويسدّ حاجته.

لذا على المسلم أن يتوجه بكليته إلى الدعاء، وهو في ربحٍ مع الله عز وجل مطلقاً، فهو حين يدعو لن يخرج عن أحد أحوالٍ ثلاث:

1.

أن تجاب دعوته.

2.

أن يدّخر له ثوابها.

3.

أن يردّ عنه من السوء مثلها، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً:«ما عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ»

(1)

.

(1)

أخرجه «أحمد» (37/ 448)، و «الترمذي» (3573)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (5637).

ص: 77

المسألة الثانية: ذكر أهل العلم أن للدعاء نوعان:

1 -

دعاء المسألة. 2 - ودعاء العبادة.

* فأما دعاء المسألة: فهو ما صُدِّرَ بياء النداء: مثل (يا الله، يا أرحم الراحمين)، مثل أن يقول: أعطني كذا، ارزقني كذا، يسر لي كذا، فقد طلب شيئاً ينفعه، أو طلب دفع شيء يضره.

* والنوع الثاني دعاء العبادة: هو أفعال وأفراد التعبدات التي تكون باللسان، وبالأفعال، ويدخل فيه جميع أنواع الطاعات والقربات، كالصلاة والصيام والحج وقراءة القرآن ونحو ذلك، فالمتعبِّد لله بالأعمال الصالحة أعظم مطلوبة فيها أن يدخله الله عز وجل الجنة، فأنت حينما تصلي فكأنما تدعو الله عز وجل أن يدخلك الجنة بفضله سبحانه وبرحمته؛ لأن الذي يتعبد لله عز وجل بالصلاة أو الصيام أو بالحج أو بغير ذلك، لو سألته لِمَ تفعل ذلك؟ لكان قلبه ناطقاً، ولسانه ناطقاً أيضاً، بأن مقصده في ذلك أنه يبحث عن رضى الله عز وجل، وعن نيل ثوابه، وعن السلامة من عقابه، فهذا دليل على أن العبادات كلها إذا فعلها الإنسان على وجه التذلل والتضرع أنها تكون عبادات لله سبحانه وتعالى.

وكلا الأمرين -دعاء العبادة ودعاء المسألة- لا يجوز أن يصرفا لغير الله عز وجل، فالأول سؤالٌ باللسان، والثاني سؤالٌ بالحال.

المسألة الثالثة: الدعاء إنما يكون دعاءً إذا كان على وجه التذلل والخضوع، ومن الأسفل للأعلى، أما من يدعو بتكبر، أو أنه يطلب من أحدٍ دونه، كمن يطلب من ولده، فهذا لا يسمى دعاء.

المسألة الرابعة: حين يتوجه العبد لغير الله بالدعاء، فيرفع يديه ويطلب قبراً، أو رجلاً صالحاً ولياً، أو غير ذلك، فإن هذا دليل على سوء ظنه بالله، وعلى إشراكه به، فكيف يطلب غير الله؟! وهو يعلم أن الخزائن

ص: 78

كلها من عند الله، بل حتى المشركين يعلمون أن الخزائن من عند الله، وأن الرزق من عنده سبحانه، فوا عجباً لأمرِئٍ يعلم أن الله بيده الرزق، وبيده الجنة، وبيده النار، وبيده كل شيء من أمور الدين والدنيا، ثم تجده يرفع يديه عند قبر، أو عند ولي، أو عند شجرة، أو غير ذلك، ويدعو غير الله سبحانه وتعالى.

المسألة الخامسة: إذا عرفت أن الدعاء لله عز وجل عبادة، فدعاء غيره سبحانه وتعالى شرك، ويدخل في دعاء الشرك صور ثلاث:

الصورة الأولى: أن يدعو ميتاً، فيقول مثلاً عند رجل صالح، أو عند قبر، أو غير ذلك: يا ولي فلان ارزقني ولداً، يسّر لي وظيفة، ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف العبادة لغير الله عز وجل، ولو كان ناطقاً للشهادتين، لأنه خالف مقتضاها.

ويلحق بذلك كل من دعا غائباً؛ لأنه ما دعا الغائب إلا لاعتقاده أن له تصرفاً وتدبيراً في الكون، كمن يدعو رجلاً لكنه في أقصى الأرض، وهو لا يسمع! أو يدعو جنّياً أو غير ذلك فهذا من الشرك الأكبر.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله: «فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئًا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون: لا إله إلا الله وهم مشركون، ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعًا»

(1)

.

الصورة الثانية: دعاءُ الميت بالشفاعة، بأن يقول لرجل ميت: يا ولي فلان اشفع لي عند الله أن يعطيني كذا: فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأنه طلبٌ

ص: 79

للشفاعة بالإشراك، وقد قال الله عز وجل:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22 - 23).

والمشركون لما قيل لهم لم تدعون غير الله؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ومع ذلك فلا يجوز لأحدٍ أن يدعو الميت أن يشفع له عند الله، فإن الله صانعٌ ما شاء لا مكره له.

الصورة الثالثة: وهي ليست بشركية ولكنها محرمة: أن يدعو الله بجاه رجل صالح، فيقول: أسألك يا رب بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه فلان الصالح، فإن هذا لا يجوز، ولم نقل بأنه شرك؛ لأنه دعا الله سبحانه وتعالى.

ولكن لم نقل بأنه يجوز؛ لأن الصحابة ما فعلوه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر الصحابة أن يفعلوه، وإنما على العبد أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، ويخلص قصده إليه ويرفع إليه يديه، فهو الذي قال:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (غافر: 60)، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186).

المسألة السادسة: استدل المصنف لكون الدعاء عبادة بحديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً «الدعاء مخ العبادة»

(1)

.

قال الحكيم الترمذي: «إِنَّمَا صَار مخا لَهَا لِأَنَّهُ تبرؤ من الْحول وَالْقُوَّة واعتراف بِأَنْ الْأَشْيَاء كلهَا لَهُ»

(2)

.

لكن الحديث ضعيف، فيه ابن لهيعة

(3)

، ولذا قال الترمذي: هذا حديث

(1)

أخرجه «الترمذي» (3371)، والطبراني في «الأوسط» (3/ 293)، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (3003).

(2)

انظر: «نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم» للحكيم الترمذي (2/ 113).

(3)

هوعبد الله ابن لهيعة ابن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن المصري القاضي صدوق، خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما وله في مسلم بعض شيء مقرون، انظر:«تقريب التهذيب» لابن حجر (ص: 319).

ص: 80

غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

وأصح منه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة»

(1)

أخرجه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.

* خلاصة الكلام في الدعاء: أن تعلم أنه عبادة، وصرفه لغير الله تعالى شرك، فتوجه بدعائك لمن بيده كل شيء، وأنت بدعائه تتعبد له، وتطلب الأمور ممن بيده مقاليد الأمور.

فجرب إذا أغلقت عليك الأبواب وادلهمت عليك الأمور، أن تنخلع من علائق الناس، ومن فلان وفلان، وتتوجه بصدق وإخلاص ويقين الى الله، وسترى أن الله عز وجل على كل شيء قدير، يجيب من أخلص في دعائه.

(1)

أخرجه «أحمد» (30/ 298)، و «أبو داود» (1479)، والنسائي في «الكبرى» (10/ 244)، و «الترمذي» (2969)، و «ابن ماجه» (3828)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3407).

ص: 81

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الْخَوْفِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]).

* ذكر المؤلف عبادة أخرى من العبادات، وهي الخوف، والكلام عليها في أربع مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الخوف:

الخوف: هو انفعال وانزعاج وتألم يعرض للقلب بسبب توقع مكروه أو نزول مصيبة ومكروه، وهذا الخوف عبادةٌ من أعظم العبادات التي يتعبد العبد بها لله تعالى، وقد حث الله عليها فقال:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175).

وما دام أن الخوف عبادة، فإن المؤمن لا ينبغي أن يخاف إلا من الله، والخوف يكون عبادة إذا كان مصحوباً بالتعظيم لله والتذلل له واستشعار أن الله عز وجل بيده التدبير، وبيده العقاب، والنعيم.

وثمرة الخوف: القرب من الله، وترك المعصية، والرغبة في الطاعة، فأما خوفٌ مجرد من ذلك فلا ثمرة فيه.

المسألة الثانية: إذا تقرر أن الخوف المصحوب بالتعظيم لله تعالى عبادة، فالخوف من غير الله قد يكون شركاً، لكن لا بد أن تعلم أنه ليس كل خوف من غير الله يكون شركاً، فالمرء قد يخاف من عدو، وقد يخاف من الظلمة، بل إن المرء مفطور على الخوف مما يجهله، فموسى عليهم السلام خاف من الحية حتى قال الله عز وجل له:{لَا تَخَفْ} (طه: 68)، وخاف من فرعون فقال الله له ولهارون:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 46).

ص: 82

ولذلك فثمة خوف طبيعي قد يقع على الإنسان، كأن يخاف من عدو أو سبع أو عقرب أو غير ذلك، وهذا لا ملامة عليه فيه.

* إنما الخوف المحرم نوعان:

الأول: أن يخاف من غير الله أن يصيبه بمكروه؛ لأنه يعتقد أنه ينفع ويضر من دون الله، وهذا يسميه أهل العلم: خوف السِرّ، مثل الخوف الذي يقع من بعض الناس من الأولياء المقبورين، أو أن يخاف من صنم، أو يخاف من جِنّ و نحو ذلك، فهذا كله لا يجوز، وإذا وقع الإنسان في ذلك، واعتقد أن المخوف منه سببٌ لوقوع المكروه، فهذا شركٌ أصغر، ولكن إن خاف من الغير وكان في قرارة نفسه واعتقاده أنهم ينفعون أو يضرّون من دون، الله فهذا شرك أكبر.

ولا يقع في هذا الأمرِ الموحدُ الذي يخاف من الله تعالى، إنما قد يقع فيه من نقص تعظيمه لله، فترتب على ذلك الخلل في التوحيد، حين خاف من مخلوق خوفًا لا يليق إلا بالله تعالى، بل إنه ربما خاف من صاحب القبر أشد من خوفه من الله سبحانه وتعالى

(1)

.

(1)

وقد ذكر أحد الشيوخ حادثة يسيرة، قال: كنّا مارين في طريق في أحد البلدان، وإذا هناك في الطريق قبر رجل يقولون أنه من الصالحين، وكان هناك رجل من الناس يسأل الناس مالاً ويتكففهم، يقول: فأعطيته مبلغاً بسيطاً، فقال: وأنت بحضرة الولي فلان تعطيني كذا؟!

فقلت: أعطني الذي أعطيتك، وظن أنني إذا أخذته منه سأعطيه أكثر منه، فلما أخذته قلت: لن أعطيك شيئاً، لأنك تتوسل بغير الله سبحانه وتعالى.

وقلت لصاحب الأجرة: امشِ، وكنا ونحن في الطريق، إذا بذلك الرجل سائق السيارة يردد: استر، استر، استر، كلما مشى قال: استر، استر، قلت له لم تكرر استر استر؟! قال: لأنك أهنت الولي في حضرته، فلما وصلنا إلى مقصدنا وإذا بنا لم يصبنا مكروه قلت له: أرأيت لم يصبك شيء، وإنما خوفك هذا من غير الله لأ لا يجوز.

وهذا الذي قد أوقع بعض الناس في أنه يحلف بالله كاذباً؛ لكنه لا يحلف بغير الله من الأولياء كاذباً، فهذا هو خوف السر، وهو شرك بالله.

ص: 83

النوع الثاني: أن يخاف من الناس فيترك ما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشيةً من مخلوق، وهنا ينبغي أن يتذكر الإنسان ألا يخاف إلا الله، قال الله عز وجل:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)، {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 13).

فلا تخف من هؤلاء الناس فإنهم لا يقدمون ولا يأخرون.

وهذا النوع ليس بشرك، وإنما هو محرم، إلا إذا كان الذي يخافه قادراً على إيصال المكروه إليه، فإنه قد يكون له أن يترك هذا الواجب لأجل المضرّة التي قد تلحقه فيتركه مكرهاً.

المسألة الثالثة: الخوف يكون محموداً، ويكون مذموماً.

فالخوف المحمود الصادق: هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، وبين الوقوع في الذنوب، إذ إن ثمرة الخوف: أن يثمر فيك فعل الطاعات وترك الذنوب والمعاصي.

وأما الخوف المذموم: فأن يزيد عليك ذلك حتى يورثك القنوط واليأس من رحمة الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك فإن من الكبائر كما في الأثر عن ابن عباس: اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله.

وإنما كان ذلك من الكبائر لأن فيه سوء ظن بالله، الذي تسمى بالرحيم والتواب ونحو ذلك، فمن زاد خوفه حتى قنط من رحمته فقد ارتكب المحرم.

المسألة الرابعة: السلف -رحمهم الله تعالى- كانوا برغم حسن عملهم وطاعتهم لله سبحانه وتعالى عندهم الخوف منه عز وجل، وقبل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف من الله تعالى، بل إنه مكث ليلةً يردد آية واحدة، ويبكي، وهي قوله تعالى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118).

ص: 84

وعمر رضي الله عنه خاف أن يَعُدّه النبيُ صلى الله عليه وسلم من المنافقين.

وكان من السلف مَنْ إذا مرّ على الخباز بكى وخشي من عذاب الله عز وجل.

وكان منهم من إذا مَرّ بالرؤوس المشوية عند أصحاب الطبخ خشي وتذكر عقوبة الله وتذكر النار، وتذكر قوله:{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (المؤمنون: 104).

تجد أن قلوبهم خائفة وجلة متعلقة بالله عز وجل، والإنسان إذا كان صاحب عمل صالح ويخاف من الله عز وجل فإنه يُرجى له الخير، وإنما المصيبة أنك ترى من عنده تقصير ومع ذلك لا يخاف من الله عز وجل!.

ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون: 60)، قالت عائشة رضي الله عنها:«أَهُمُ الَّذِينَ يَشربُونَ الخَمْرَ وَيَسرقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ»

(1)

.

هل مرّ عليك يوم من الأيام وضعت في قرارة نفسك أن الله قد لا يقبل طاعتك؟ وأنه قد لا يقبل توبتك؟ هل وقر في قلبك يوماً من الأيام أن الله ربما سخط عليك؟ هل وقع في نفسك ذلك؟

إنها أسئلةٌ لا بد أن يتصورها المسلم، وأن يخاف من الله تعالى.

نعم هذا الخوف لا ينبغي أن يزيد عن حدّه فيصير قنوطاً، وإنما يكون خوفاً يدعوك ويحدوك إلى أن تترك الذنب وتفارقه، وتبادر بالتوبة إلى الله عز وجل، ويدعوك إلى أن تتعبد لله، وتحافظ على الطاعات؛ لأنك تخاف من الله الذي توعد من عصاه بالعقوبة والعذاب.

(1)

أخرجه «أحمد» (43/ 156)، و «الترمذي» (3175)، و «ابن ماجه» (4198)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (162).

ص: 85

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]).

* هذه العبادة الثالثة التي ذكرها المؤلف، وهي الرجاء، والكلام عليها في أربع مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الرجاء:

الرجاء: هو الأمل والتوقع، وحقيقته: أن تؤمل في الحصول على شيء مرجو، فترغب أن تحصل على شيء تريد أن تناله.

والرجاء بالله سبحانه وتعالى عبادة يتقرب العبد بها إلى الله عز وجل، بل إنها من العبادات العظيمة التي تنشِّط الإنسان على الطاعة، وتحدوه إليها، فإنه لولا أن الإنسان يرجو الرحمن، ويرجو الجنة، والمغفرة، وثواب الله ورضاه، ورؤية وجهه سبحانه، وإلا لما نشط بالعبادة.

ولذلك فأنت ترى مثلاً: المسافر إذا كان قد أقدم على بلدةٍ وهو لا يرجو فيها شيئاً، فلا يرجو أن يرى أحداً من الناس، وليس في قلبه أملٌ ولا رغبة، ولا توقعٌ لشيء من الأشياء المحبوبة إليه، فإنه لا ينشط أن يستعجل، لكنه إذا كان يؤمل أن يلقى حبيبه، أو أن يلقى أمراً من أمور الدنيا يحبه، فإنه ينشط ويبادر، وكذلك السائر إلى الله عز وجل يحدوه رجاؤه في ثواب الله عز وجل وحسن ظنه به، ولذلك فإن الرجاء ناشئ من حسن ظنه بالله عز وجل.

المسألة الثانية: قد يكون الرجاء مذموماً؛ وذلك إذا كان العبدُ مستمراً على العصيان، مداوماً على التقصير وعلى المعاصي، والإعراض عن

ص: 86

طاعة الله، والغاً في الكبائر ولم يتب، وهو مع ذلك يرجو الثواب، ويرجو أعلى درجات الجنة، فهذا غرور، حتى قال قائلهم:

وأكثِر ما استطعت من الذنوب

إذا كان القدوم على كريم

وهذا لا شك أنه باطل، بل إن الغفور الرحيم، هو شديد العقاب، وهو المنتقم، وهو الجبار.

قال ابن القيم رحمه الله: «أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ عَلَى أَنَّ الرَّجَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ الْعَمَلِ»

(1)

، ومعنى ذلك: أن رجاء عبدٍ يرجو ثواب الله، وربما قال: إن شاء الله سيجعلنا في الفردوس، وهو والغ في الكبائر وفي الذنوب والتقصير فهذا لا شك أنه رجاء مذموم، فإذا كان العبد متمادياً في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والرجاء الكاذب.

المسألة الثالثة: الرجاء والخوف أمران هما كجناحي الطائر، فالطائر يطير بجناحين، والسائر إلى الله لا بد له من جناحين يسير بهما إلى الله وإلى جنته، جناح خوف وجناح رجاء، فلا بد للمؤمن أن يجمع بين الخوف وبين الرجاء.

وقد نقل ابن القيم عن أبي علي الرُّوذْبَارِيِّ قوله: «الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ كَجَنَاحَيِ الطَّائِرِ إِذَا اسْتَوَيَا اسْتَوَى الطَّيْرُ وَتَمَّ طَيَرَانُهُ، وَإِذَا نَقَصَ أَحَدَهُمَا وَقَعَ فِيهِ النَّقْصُ، وَإِذَا ذَهَبَا صَارَ الطَّائِرُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ»

(2)

.

والذي يُغلّب هذا على هذا قد يقع في الخلل والمحظور، فأسماء الله حينما تتأملها قد تملأ قلبك برجائه، أو تملؤُه بخوفه، فحينما تتأمل القوي، القهار، الجبار، المنتقم تخاف الله، وحينما تتأمل اسم الله الحليم، الكريم، العفو، التواب، تملأ قلبك رجاء به سبحانه وتعالى.

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 37).

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 37).

ص: 87

فينبغي على المؤمن أن يكون قلبه جامعاً بين الخوف من الله وبين رجاء الله، وتأمُلِ ثوابه، وتأمُلِ مغفرته ورحمته وجنته سبحانه وتعالى.

المسألة الرابعة: إذا تقرر أن رجاء الله عبادة، فإن رجاء غير الله عز وجل له أحوال، فليس كل رجاء من غير الله عز وجل يكون محرماً أو يكون شركاً، وإنما رجاء غير الله له أحوال:

1.

الرجاء الطبيعي: كأن ترجو أحداً يَملك، فتقول مثلاً: أرجو منك أن تفعل كذا، فهذا رجاء لا بأس به؛ لأنه رجاء طبيعي في أمر يقدر عليه الإنسان.

2.

أن ترجو نفع الأسباب مع تعلق قلبك بالله: كأن تذهب إلى طبيب وقلبك متعلق بالله أنه هو الشافي، فيعطك دواء، فترجو أن ينفع هذا الدواء بإذن الله، فأنت ترجو أن ينفع السبب، مع تعلقك بالله سبحانه وتعالى، فهذا لا إشكال فيه، كمن يذهب من المرضى لطبيب، مع علمه واعتقاده أن الشفاء بيد الله عز وجل، ولذلك فهو قد ذهب لطبيبٍ معين دون غيره لا باعتقاده أن الشفاء منه، إنما من الله، لكنه يرجو أن ينفع السبب والتداوي بإذن الله.

3.

الرجاء المحرّم: وهو أن ترجو مخلوقاً أن ينفع، أو أن يدفع، أو أن تتوقع الأمل والتيسير والخير والفرج من قبرٍ أو من رجل صالح من الأولياء، ولا يقدر أن ينفع نفسه، فضلاً عن أن ينفع غيره فإن ذلك شرك أكبر.

وذلك: لأنك ما رجوت غير الله بمثل هذه الأمور إلا وقد وقع في قلبك تعظيمه، واعتقاد أنه ينفع ويدبر مع الله سبحانه وتعالى، فأنت صرفت عبادة الرجاء لغير الله، وهذا هو الشرك.

وجماع القول: أن رجاء الله تعالى عبادة وقربة، وما خاب من رجى ربه، فعلق القلب به فهو الذي بيده تدبير الأمور كلها، وارج خير الدنيا والآخرة بتعلقك به، قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110).

ص: 88

*‌

‌ قوله: (ودَلِيلُ التَّوَكُلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)، وقوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)).

* ذكر المؤلف عبادة التوكل، والكلام عليها في أربع مسائل:

المسألة الأولى: التوكل هو الاعتماد:

وأما تعريفه في الشرع فهو: صدق الاعتماد واللجأ إلى الله بجلب النفع ودفع الضر مع فعل الأسباب.

فالتوكل هو أن تصدق في اعتمادك على الله، باعتقادك أنه هو الذي يجلب النفع، وهو الذي يدفع الضر، مع فعلك للأسباب.

* ويتبين في التعريف أن التوكل الصحيح يجمع ركنين:

الأول: أن تفوّض أمرك لله، فتعتقد أن التدبير من الله، فالشفاء والرزق وغير ذلك من الأمور هي من الله، فهو الذي بيده كل شيء، والخلق ما هم إلا أسباب.

الثاني: أن تفعل السبب، فلا تكتفي بقولك (إني توكلت على الله) ولا تفعل السبب! وإنما التوكل أن تفعل السبب وتعتقد أنه سبب فقط.

مثال ذلك: حينما يصاب الإنسان بمرض، فتحقيقه للركن الأول أن يعتقد أن الشفاء من الله، وتحقيقه للركن الثاني يكون بأن يفعل السبب، فيذهب إلى الطبيب ويتناول الدواء، ويعتقد أن هذا الطبيب ما هو إلا سببٌ، وأن الشافي هو الله، ليس الراقي ولا الطبيب ولا العلاج ونحو ذلك.

ص: 89

المسألة الثانية: إذا تبين تعريف التوكل فاعلم أن الناس تجاه التوكل على الله طرفان ووسط، والتوكل الحقيقي وسط بين طرفين مذمومين:

• أما الطرفُ الأول: فهو الذي يقول: أنا معتمد على الله، وأنا متوكلٌ عليه، ومع ذلك لا يفعل شيئاً من الأسباب.

وليس يخفى أن هذا خللٌ عظيم، كحال الذي يبقى في بيته ويقول: إذا كتب الله لي رزقاً سيأتيني وهكذا.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197)»

(1)

، فعوتبوا على تركهم التزود، وأمروا بالزاد، فدل على أن التوكل لابد فيه من صدق الاعتماد مع فعل السبب، فالذي يعتمد على الله ولا يفعل السبب غير متوكل، كحال المزارع: الذي يتوكل على الله ويلقي الحب في الأرض ويجمع بين الأمرين.

ولذلك أخرج البيهقي في شعبه عن معاوية بن قُرّة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى على قومٍ فقال:«مَا أَنْتُمْ؟» فقَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فقَالَ:«بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّكِلُونَ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُتَوَكِّلِينَ؟ رَجُلٌ أَلْقَى حَبَّةً فِي بَطْنِ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ»

(2)

.

• وأما الطرف المذموم الآخر: فهو الذي يسعى ويجتهد في فعل الأسباب، ولكنه يطغى عليه ذلك حتى يعتقد أنها هي المؤثرة، وينسى أن التغيير والتدبير هو من الله، فتجد أنه يرى أن فلان هو الذي يرزقه، وإذا قطع فلان رزقه انقطع ومات.

(1)

أخرجه «البخاري» (1523).

(2)

انظر: «شعب الإيمان» (2/ 429).

ص: 90

ويرى أن فلاناً هو الذي سيشفيه، وهو الذي سيسعده وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن فلاناً والخلق كلهم ما هم إلا أسبابٌ، فينبغي أن تعتمد على الله عز وجل، وأن تتوكل عليه في تيسير أمورك الدينية، وفي تيسير أمورك الدنيوية.

المسألة الثالثة: إذا تقرر كل هذا أيها المبارك فلابد أن تعلم أن التوكل عبادة عظيمة يتقرب بها العبد لربه عز وجل، ويتجلى ذلك في أمور، منها:

1.

أن التوكلَ على الله بتفويضك إلى الله مع فعلك للأسباب علامة على الإيمان.

واستدل المؤلف: بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23).

2.

أن تحقيق التوكل سبب لدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في خبر السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»

(1)

.

3.

أن من حقق التوكل كفاه الله أمره وما أهمه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3)، يعني كافيه.

المسألة الرابعة: إذا عرفت أن التوكل عبادة لله، فاعلم أن من توكل على غير الله فلا يخلو من ثلاث حالات:

الأولى: التوكل على الغير في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب الخاصة بالله، كالنصر والحفظ والرزق، فهذا شركٌ أكبر.

(1)

أخرجه «البخاري» (5705)، و «مسلم» (220) من حديث ابن عباس.

ص: 91

الثانية: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته، وانحطاط مرتبة المتوكل عنه، مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه، فهذا نوع من الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به، والاعتماد عليه، نسأل الله العافية

(1)

.

الثالثة: الوكالة الجائزة، وهي توكيل الإنسان أخاه في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، فهي جائزة، بقيد أن يعلق قلبه بالله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها، ولا يعتمد عليه بل يعتمد على المسبِّب الذي أوجد السبب والمسبب.

(1)

انظر: «شرح ثلاثة الأصول» للعثيمين (ص 59).

ص: 92

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، وَالْخُشُوعِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90)).

* ذكر المؤلف هنا ثلاث عبادات، ونتكلم عن كل واحدة منهن:

الأولى: الرغبة: هي إرادة الشيء بالحرص عليه.

قال المناوي: «الرّغبة إرادة الشيء مع حرص عليه، فإذا قيل: رغب فيه وإليه اقتضى الحرص عليه، وإذا قيل رغب عنه، اقتضى صرف الرّغبة عنه والزّهد فيه»

(1)

.

والمراد: أن الرغبة محبة الوصول إلى الأمر المحبوب.

والعبد يجب عليه أن يرغب إلى الله تعالى، ويطلب ما عنده بحرص، ولا يكون بطلبه غير راغب، وفرق بين من يدعو برغبة، ومن يدعو بدونها، فالأول طامع فيما عند الله، والآخر مستغن عما عند الله.

والله تعالى كريم، إذا رأى عبده أتاه راغباً أعطاه فوق ما يريد، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَجِبَ رَبُّنَا عز وجل مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ، مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا: أَيَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل، فَانْهَزَمُوا، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ

ص: 93

الْفِرَارِ، وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَرَهْبَةً مِمَّا عِنْدِي، حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ»

(1)

.

واعلم أن الرغبة لها علاقة بالرجاء، فالذي يرجو الله تعالى هو راغب فيما عنده، إلا أن الرغبة أرفع، قال ابن القيم:«الرَّجَاءُ طَمَعٌ، وَالرَّغْبَةُ طَلَبٌ، فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ»

(2)

.

خلاصة القول: أن الرغبة فيما عند الله عبادة وقربة، وبقدر ما ترغب فيما عنده، وتفتقر إليه يعطيك، والدافع للرغبة علمك بغنى ربك، وقرب إجابته لمطلوبك.

ومتى تصبك خصاصة فارج الغنى

وإلى الّذي يعطي الرّغائب فارغب

وفي المقابل فكونك ترغب لغير الله، بمعنى أن تتوجه للمخلوق بكليتك، فتعتمد عليه في تلبية مطلوبك، وتعتقد أنه قادرٌ على تلبية حوائجك من دون الله، فهذا شركٌ، لأنك أشركت مع الله غيره في هذه العبادة.

والدليل على كون الرغبة عبادة قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح: 8).

• العبادة الثانية: الرهبة: وهي ضد الرغبة، فهي: الصدق في الخوف، فالصادق في الخوف هو راهب، وهذا معنى قول الراغب: الرّهبة والرّهب مخافة مع تحرّز واضطراب.

(1)

أخرجه «أحمد» (7/ 62)، وابن حبان في «صحيحه» (6/ 297)، والبيهقي في «الكبرى» (9/ 276)، وصححه الألباني في «المشكاة» (1/ 392).

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 55).

ص: 94

والمراد: أن العبد ينبغي أن يكون راهباً من ربه سبحانه، يحدوه لذلك علمه بقدرة الله، وشدة بطشه بمن تعدى أوامره، وأنه سبحانه كما أنه غفور رحيم، فكذلك هو شديد العقاب، ولذا أمر عباده برهبته وحده فقال:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} .

وهاتان العبادتان -الرغبة، والرهبة- جمع الله بينهما في آية واحدة، فحينما ذكر الدعوات التي دعا بها الأنبياء فأجيبت دعوتهم، قال بعد ذلك {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90).

فالمؤمن الموحِّد هو الذي يرغب إلى ربه، ويرهب من ربه، فيجمع بين الخوف، والرجاء، ويجمع بين الرهبة والرغبة، وهذه صفة الأنبياء.

فإن قال قائل: كيف لي أن أجمع بين الخوف والرجاء؟ وبين الرغبة إلى الله والرهبة منه؟!

= الجواب: لا تنافي بينهما، فأنت -ولله المثل الأعلى- قد تخاف من مخلوق، وترجو ما عنده، والله عز وجل أعظم وأجل، وهو الذي قال:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (الذاريات: 50)، فأنت تفرّ من عذاب الله إلى جنته ورحمته.

لكنك ينبغي أن تُغَلِّب جانب الرغبة، وجانب الرجاء عند الطاعة؛ لكي تنشط لها، وتُؤمل في قبولها، وتُغلبها كذلك عند الموت؛ لحديث:«لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عز وجل»

(1)

.

وتُغَلِّبُ جانب الرهبة، وجانب الخوف إذا هممت بمعصية، فتتذكر ما عند الله من العقوبة، حتى ترهب من ربك سبحانه، فلا تقع في ذنب من الذنوب.

وإذا عرفت أن الرغبة والرهبة عبادة فإنها لا تكون عبادة كاملة، إلا إذا

(1)

أخرجه «مسلم» (2877) من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ.

ص: 95

صحِبها تعظيم، وذل واجلال لله عز وجل، فحينها يتقرب العبد إلى ربه بخوفه منه ورهبته منه، ويتقرب العبد لربه برغبته بما عنده.

وما أجمل أن يستصحب الداعي وهو يرفع يديه رغبته فيما عند ربه، ورهبته من ردّ دعواته بسبب تقصيره وعصيانه، فإن ذلك سبب لقبول دعاءه، وهو بهذا يتعبد لربه.

• العبادة الثالثة: الخشوع: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90).

والخشوع: قيل: هو قيام القلب بين يدي الرّبّ بالخضوع والذّلّ.

وقيل: هو الذل والتواضع لله سبحانه تعالى، ولعل هذا أقرب، فإن الخشوع في القرآن ورد على معانٍ منها:

1 -

الذل، كما في قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} (طه: 108)، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} (الغاشية: 2).

2 -

التواضع، كما في قوله:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).

فأنت تذل لله سبحانه وتعالى، وتتواضع لعظمته، وتكون خاشعاً أمام الله، خاشعاً في صلاتك، وفي دعائك، وفي حياتك كلها، ذليلاً متطامناً، لا تترفع، ولا تتكبر؛ لأنك عبد ضعيف لله سبحانه وتعالى.

وهذا هدي المسلم، تجده مستكيناً لله عز وجل، خاشعاً له عز وجل، وهو يتقرب الى الله بخشوعه، فالخشوع لله والتواضع له والتذلل له عبادة يتقرب بها العبد لربه.

وقد عرف الشيخ العثيمين رحمه الله الخشوع بأنه: «الذل والتطامن لعظمة الله، بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي»

(1)

.

(1)

انظر: «شرح الأصول الثلاثة» للعثيمين (ص: 59).

ص: 96

قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (المؤمنون: 1 - 2).

وقال أيضاً: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).

وقال {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (الإسراء: 109).

وكلها آيات تدل على أن المؤمن ينبغي أن يخشع لله سبحانه وتعالى، وأن يرى الله منه الذل والتواضع، وإذا رأى الله منك التذلل له وعدم التكبر رفعك، قال صلى الله عليه وسلم:«الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ»

(1)

.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «من تواضع لله تخشّعا، رفعه الله يوم القيامة، ومن تطاول تعظّما، وضعه الله يوم القيامة»

(2)

.

واعلم أن الخشوع الحقيقي ليس خشوع البدن، وإنما خشوع القلب، وليس الخشوع في الصلاة فحسب، بل في سائر الأوقات، ولربما رأيت رجلاً حسن الثياب، جميل الهيئة، لكنه في قلبه من الخشوع الشيء الكثير، والعكس بالعكس، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«الخشوع في القلب أن تلين كنفك للرّجل المسلم، وأن لا تلتفت في الصّلاة»

(3)

.

وقال ابن القيم ذاكراً بعض صور الخشوع: «الخشوع هو الاستسلام للحكمين: الدّينيّ الشرعيّ، بعدم معارضته برأي أو شهوة، والقدريّ بعدم تلقّيه بالتّسخّط والكراهية والاعتراض.

والاتّضاع لنظر الحقّ، وهو اتّضاع القلب والجوارح، وانكسارها لنظر الرّبّ إليها، واطّلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح، وخوف العبد

(1)

أخرجه «مسلم» (2620) من حديث أبي هريرة.

(2)

انظر: «الزهد» للإمام وكيع بن الجراح (2/ 467).

(3)

انظر: «الزهد» للإمام وكيع بن الجراح (2/ 599).

ص: 97

الحاصل من هذا يوجب له خشوع القلب لا محالة، وكلّما كان أشدّ استحضارا له كان أشدّ خشوعا، وإنّما يفارق الخشوع القلب إذا غفل عن اطّلاع الله عليه ونظره إليه»

(1)

.

* وممّا يورث الخشوع:

1.

النظر في آفات نفسك، وعملك: وهذا المعنى يجعل القلب خاشعا لا محالة، لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما: من الكبر، والعجب، والرّياء، وضعف الصّدق، وقلّة اليقين، وتشتّت النّيّة وعدم إيقاع العمل على وجه يرضاه الله تعالى وغير ذلك من عيوب النّفس.

2.

رؤية كلّ ذي فضل عليك: وهو أن تراعي حقوق النّاس فتؤدّيها، ولا ترى أنّ ما فعلوه فيك من حقوقك عليهم، فلا تعارضهم عليها؛ فإنّ هذا من رعونات النّفس وحماقاتها، ولا تطالبهم بحقوق نفسك، وتعترف بفضل ذي الفضل منهم وتنسى فضل نفسك

(2)

.

أما من ذل وخشع لغير الله عز وجل، باعتقاد أن هذا المخلوق يستحق التعظيم والذل والتواضع له، فإنه قد وقع بالشرك.

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 518) بتصرف.

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 560 - 561) بتصرف.

ص: 98

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الْخَشيةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3)).

* ذكر المؤلف عبادة أخرى، وهي عبادة الخشية، والكلام عنها في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الخشية.

الخشية قريبة من الخوف، ولكنها أخص منه، فهي: خوف يشوبه تعظيم، فهي مبنية على العلم بعظمة من يخشاه وكمال قدرته.

وتختلف عن الخوف من جهة: أن الخشية لا تكون إلا من العالِم، وتكون مبنية على العلم بعظمة من يخشاه، قال الله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28).

أما الخوف فقد لا يكون مقروناً بالعلم بقدرة من يخافه، فقد يخاف من شخص لا يدري هل هو قادراً عليه أم لا.

قال الفيروز أباديّ: «الخشية أخصّ من الخوف، فإنّ الخشية للعلماء بالله تعالى، فهي خوف مقرون بمعرفة، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي أتقاكم الله وأشدّكم له خشية» ، فالخوف لعامّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبّين، والوجل للمقرّبين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية»

(1)

، قال مسروق:«كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله»

(2)

.

(1)

انظر: «بصائر ذوي التمييز» للفيروز آبادي (2/ 544 - 546).

(2)

انظر: «الدر المنثور» للسيوطي (7/ 20).

ص: 99

المسألة الثانية: إذا عرفت أن الخشية لله سبحانه عبادة، فينبغي للمسلم أن يتقرب بها لله.

وقد وردت في القرآن آياتٌ كثيرة تحث على خشية الله تعالى.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (الرعد: 21).

وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} (الأنبياء: 48 - 49).

وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} (لقمان: 33).

واعلم أن الله قد رتب على خشيته الثواب العظيم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} (المؤمنون: 57 - 61).

وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18).

وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52).

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (تبارك: 12).

وقال: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8).

المسألة الثالثة: نهى الله سبحانه عباده أن يخشوا غيره، وقد استدل المؤلف على هذا بقوله تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44)، {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3)، ثم قال بعدها:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

فدل على أن تحقيق الإيمان يكون بأن تحقق الخشية لله.

ص: 100

وقال أيضاً: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة: 13).

ولذلك فإن الذي يخشى الناس، ويخشى من المخلوق، ومن أعداء الدين خشيةً يترتب عليها تعظيمهم، وترك الدين لأجلهم، لأنه يعلم بأنهم قادرون على أذيته وإلحاق الضرر به، فهذا شرك، وإنما الخشية لا تكون إلا من الله سبحانه.

واعلم أن الخشية لله تتحقق من المعرفة بالله، قال ابن القيم:«كلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. أي العلماء به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية» إلى أن قال: ومن عرف الله صفا له العيش وطابت له الحياة وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله واستوحش من الناس وأورثته المعرفة الحياء من الله والتعظيم له والإجلال والمراقبة والمحبة والتوكل عليه والإنابة إليه والرضا به والتسليم لأمره»

(1)

.

وقال ابن كثير: «إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر»

(2)

.

ويقال في أقسام الخشية ما يقال في أقسام الخوف.

(1)

انظر: «روضة المحبين» (ص: 406).

(2)

انظر: «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (3/ 561).

ص: 101

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 54)).

* ذكر المؤلف عبادة أخرى، وهي الإنابة، والكلام عليها في مسألتين:

المسألة الأولى: تعريف الانابة:

الإنابة لغة: هي الرجوع، فإذا أناب الإنسان فإنه رجع.

وشرعاً: الرجوع إلى الله بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

قال ابن القيّم: «الإنابة الإسراع إلى مرضاة الله مع الرّجوع إليه في كلّ وقت، وإخلاص العمل له»

(1)

.

والإنابة عبادة وقربة يتقرب بها العبد لربه سبحانه، فيكون رجاعاً إلى الله، منيباً إليه، مسلّماً له ومستسلماً لأحكامه وأقداره، قال الله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 54).

المسألة الثانية: ذكر ابن القيم أن الإنابة نوعان:

1) إنابةٌ لربوبية الله: وهي إنابة المخلوقات كلها، ويشترك فيها المؤمن والكافر، والبّر والفاجر، قال الله:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} (الزمر: 8)، فترى حتى الكفار -كما ذكر الله عنهم- إذا دعوا الله دعوه بإنابة وإخلاص ورجوع، فهذا يعّم كل داعٍ أصابه ضرٌّ كما هو الواقع، ولكن الإنابة لربوبية الله لا تكفي، بل لابد أن ينبني على ذلك أمرٌ آخر، وهو:

2) الإنابة لألوهية الله: فتكون منيباً لله إنابةً مبنيةً على محبتك لله، وخضوعك له، والإقبال عليه، والإعراض عمن سواه سبحانه، فهذه هي الإنابة التي هي العبادة، والتي يتقرب بها العبد لربه»

(2)

.

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 467).

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 433) بتصرف.

ص: 102

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، وَفِي الْحَدِيثِ: «

وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»).

* ذكر المؤلف عبادةً أخرى وهي عبادة الاستعانة، والكلام عليها في خمس مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الاستعانة.

الاستعانة: لغة: طلب العون.

وشرعاً: طلب العون من الله، والأصل أنها لا تكون إلا بالله، ولكنها تطلب من المخلوق في ما يقدر عليه من الأمور كما سيأتي.

قال ابن القيّم: «الاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه -مع عدم ثقته به- لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه، مع أنه غير واثق به»

(1)

.

والمراد أن المستعين بأحدٍ يجتمع في قلبه تجاه من استعان به هذان الأمران: ثقته به، واعتماده عليه.

المسألة الثانية: الاستعانة بالله عبادةٌ عظيمةٌ من أشرف العبادات التي يتقرب بها العبد لربه، ويكسب بها الثواب من رب الأرباب، وذلك لأن الإنسان بالاستعانة يتخلص من الأسباب، وينخلع من التعلق بالخلق، ويعلق القلب بالله المعين، وقد قال تعالى على لسان موسى صلى الله عليه وسلم: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ

(1)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 86 - 87).

ص: 103

لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) فبالاستعانة بالله ينتصر المسلمون، ويورثهم الله الأرض، ويجعل لهم العاقبة.

وقد أمرنا الله بالاستعانة به سبحانه في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهي آية نرددها في كل يوم مرات كثيرة، فما أثرها في قلوبنا، وما قدر تحقيقنا لها؟

قال أهل العلم: قدّم الضمير المنفصل (إياك) على الفعل (نستعين)؛ لحكمة وهي أن هذه الصيغة في اللغة تفيد الحصر -أي لا نستعين إلا بك يا ربنا -.

وقال ابن القيم رحمه الله: «قال من قال من السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)»

(1)

.

وقد ألف ابن القيم كتاباً نافعاً أسماه [مدراج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين] ذكر فيه منازل السائرين إلى الله، لا يستغني عنه طالب العلم.

المسألة الثالثة: أورد المؤلف في الباب حديث: «إذا استعنت فاستعن بالله» وهي جملة من حديث ابن عباس قال فيه: «كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ

»، والحديث أخرجه الترمذي وغيره

(2)

من طريق الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا قيس، وهو صدوق، وقال الترمذي عن الحديث: حسن صحيح.

(1)

انظر: «أمراض القلوب وشفاؤها» لابن القيم (ص: 38).

(2)

أخرجه «أحمد» (4/ 410)، و «الترمذي» (2516)، والطبراني في «الكبير» (11/ 123).

ص: 104

المسألة الرابعة: الاستعانة بغير الله لها حالتان:

الأولى: الاستعانة الجائزة: وهي أن يستعين به في أمرٍ يقدر عليه، كأن تستعين بحي حاضر في أمرٍ يقدر عليه، كرفع المتاع، ومساعدة محتاج ونحوه، فهذا جائز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»

(1)

.

ثم إن كانت هذه الاستعانة على بر وخير فهي جائزة، والمُعين مثاب على إحسانه، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2)، وإن كانت على إثمٍ فهي حرام، قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2).

الثانية: الاستعانة الممنوعة، وتحتها صورتان:

1.

الاستعانةُ بالحي في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله: كأن يستعين بمخلوقٍ حيٍ على الرزق، أو على تفريج الكرب، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز، وهو شرك بالله تعالى، لأن هذه الأشياء لا يقدر عليها إلا الله، فطلبها من غيره سبحانه إشراك به، وهو ما استعان بهم إلا لاعتقاده أن لهم تصرفاً في الكون.

2.

الاستعانة بالأموات: فهذه استعانة محرمة لا تجوز، وهي شرك أكبر، لأنها استعانة بمن لا يقدر على دفعٍ ولا نفعٍ، وطلبُ العونِ منهم ما وقع إلا لأنه اعتقد أن لهم تدبيراً وتصريفاً في الكون، وهذا الأمر مما اختص به الله.

إنما الاستعانة المطلوبة من المؤمن أن يتعبد لله بها هي الاستعانة التي تتضمن ذلاً وخضوعاً واعتماداً على الله سبحانه.

المسألة الخامسة: الاستعانة بالله تكون في أمرين:

1.

الأمور الدينية. 2. الأمور الدنيوية.

(1)

أخرجه «مسلم» (2699).

ص: 105

فأما الأمور الدنيوية فتستعين بالله عليها أن ييسر لك أمرك، ويوسع لك رزقك، وييسر لك أمور دنياك، ولا يمنع مع هذا أن يطلب الأسباب، ولكن أن يكون قلبه متعلقاً بالله تعالى وحده.

علام سؤال الناس والرزق واسع

وأنت صحيح لم تخنك الأصابع

وللعيش أوكار وفي الأرض مذهب

عريض وباب الرزق في الأرض واسع

فكن طالباً للرزق من رازق الغنى

وخل سؤال الناس فالله صانع

فلماذا يحتاج الإنسان للناس، ويعلق قلبه بهم، وهم فقراء، والغني قد فتح بابه، ويفرح بإنزال الحوائج به سبحانه.

وأشرف من ذلك أن تستعين بالله في أمور دينك، بأن تسأله أن يعينك على فعل الواجبات، وترك المحرمات، والحرص على المستحبات، فالعبد ضعيف بنفسه، قد يغلبه الشيطان، ويوقعه في المعاصي، أو يصدّه عن الطاعات، وهنا يأتي أثر الاستعانة بالله، حين تتوجه له بكليتك، وتقصده بمسألتك، أن يعينك على فعل الطاعة، وترك المعصية.

وهذه الاستعانة بالله في الأمور الدينية أشرف وأعظم، مع أن أغلب الناس غفلوا عنها.

وجماع القول: أن الاستعانة عبادة من العبادات التي نحتاجها في كل لحظة، فالعبد ضعيف إلا إن قوّاه الله، ومقصر إلا إن أعانه الله، فاستعن بالله في أمورك الدينية والدنيوية، وحقق الاستعانة بالله، الاستعانة التي تتضمن كمال الذّل، وكمال التوكل، وكمال التفويض له.

ص: 106

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1]. وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}) الناس: 1)).

* ذكر المؤلف هنا عبادة الاستعاذة، والكلام عن الاستعاذة في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: الاستعاذة: مصدر استعاذ، فهي تدل على الالتجاء إلى شيء، قال القرطبي:«الاستعاذة في كلام العرب الاستجارة، والتحيز إلى الشيء على معنى الامتناع به من المكروه، يقال عُذت بفلان، واستعذت به، بمعنى التجأت إليه»

(1)

.

وهي في الشرع: اللجوء إلى الله والاعتصام به من شر كل ذي شر أيَاً كان.

المسألة الثانية: الاستعاذة من تأملها وجد أنها تتضمن مُستعاذاً به، ومُستعاذاً منه، وصيغة، أما الصيغة فقد تكون بلفظ: أعوذ، أو التجأ، أو أعتصم، ونحو ذلك.

وأما المُستعاذ به فيسمى: المَعَاذ أو المستعاذ، وهو الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يستعاذ بأحد غيره في أمر لا يقدر عليه إلا هو.

ويدخل في الاستعاذة بالله أن تستعيذ باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته فتقول مثلاً: «أعوذ بعزة الله، أو أعوذ بكلمات الله» .

فهذه صفات من صفات الله يجوز الاستعاذة بها، سواء باسمه بلفظ

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (1/ 89).

ص: 107

الجلالة (الله)، أو اسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته سبحانه، فكل ذلك جائز.

وأما المستعاذ منه: فهو كل ما فيه شر، سواء كان انسياً أو جنياً، أو كان مكلفاً أو غير مكلف، و يدخل في ذلك الهوام والسباع والعقارب والحيات، ويدخل في ذلك الاستعاذة بالله من الشيطان.

ومن تأمل المعوذتين -سورة الناس والفلق- وجد أنها تضمنت الاستعاذة من جميع الشرور.

فأما سورة الناس فتضمنت الاستعاذة من الشرّ الذي هو سبب ظلم العبد لنفسه، وهي الوسوسة التي تنجم عن الشيطان، وهذا شرٌّ، فيستعيذ الإنسان منه.

وأما في سورة الفلق: فهو يستعيذ من الشرّ كله، ومن شرّ السحرة، ومن شرّ الحاسد إذا حسد، فالاستعاذة بهاتين السورتين من أشرف التعويذات، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر:«يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا»

(1)

.

المسألة الثالثة: الاستعاذة عبادة لله يتقرب بها العبد لربه، وقد أمر الله عباده أن يستعيذوا به في أحوال عديدة، ولا سيما عند نزغ الشيطان، وعند تلاوة القرآن

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200).

(1)

أخرجه «أبو داود» (1463)، والطبراني في «الكبير» (17/ 345)، والبيهقي في «الكبرى» (2/ 552).

ص: 108

وقال: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر: 56). وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (المؤمنون: 97 - 89).

فإن صرف الاستعاذة لغير الله فثمت تفصيل أذكره في الاستغاثة لتقارب الأمر بين المصطلحين.

ص: 109

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9)).

* ذكر هنا عبادة الاستغاثة، وهي نوع من العبادات، والكلام عنها في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تعريفها:

الاستغاثة: مصدر استغاث، وهي مأخوذة من الغوث والنصرة عند وقوع المكروه، ولذلك يقال الغيث يطلق على المطر؛ لأنه فيه إغاثة للناس عند الشدة.

* أما في الشرع: فقد قال ابن تيمية: «الاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ إزَالَةُ الشِّدَّةِ، كَالِاسْتِنْصَارِ طَلَبُ النَّصْرِ»

(1)

.

المسألة الثانية: ثمة استغاثة وثمة استعاذة، فما الفرق بينهما؟

= الفرق: أن الاستعاذة هي أن تطلب من الله أن يعصمك ويحميك، وأن يمنعك ويحفظك.

- أما الاستغاثة: فأنت تطلب منه أن يزيل ما فيك من شدة.

فالاستعاذة تكون قبل وقوع المكروه، أما الاستغاثة: تكون بعد وقوع المكروه.

فالغريق مثلاً: يستغيث ولا يستعيذ لأنه وقع عليه المكروه، والذي يريد أن يدخل في مكان مخوف يستعيذ، لأنه يريد أن يُحفظ قبل أن يقع فيه المكروه، هكذا قال أهل العلم في الفرق بين الاستغاثة والاستعاذة.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 103).

ص: 110

المسألة الثالثة: الاستغاثة بالله عبادة يتقرب بها العبد لربه، وسواء كانت الاستغاثة به سبحانه باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته، كرحمته، فكله جائز، وهي نوع دعاء، يؤجر عليها كما يؤجر الداعي لله، قال الله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9).

وأما الاستغاثة، أو الاستعاذة بغير الله فلها حالتان:

الأولى: تكون جائزة: إذا كانت لحي قادر، كاستغاثة غريق أو واقع في حفرة، برجل لينقذه ويسعفه، فهذا كله جائز؛ لأنه موجه لحي، في أمر يقدر عليه الحي.

ومن ذلك ما وقع لموسى عليهم السلام، قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15).

و كذا صح خبر الذي استعاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهو ما ورد أن أبا مسعود رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاما لي فقال: أعوذ برسول الله، وهو يرى النبي صلى الله عليه وسلم فوقفت، فقال رسول الله:«اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام»

(1)

فهو استعاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجود.

الثانية: تكون غير جائزة: إذا كانت بغير الله في أمر لا يقدر عليه إلا الله.

مثال ذلك: يقول يا فلان يا ولي فلان أعذني من الأعداء، وأعذني من المرض، وأغثني من المصيبة التي وقعت بي، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز، وهو شرك بالله، سواء كانت الاستعاذة أو الاستغاثة بميتٍ مقبور، أو حيٍّ غائب.

ومثال ذلك: ما قاله أحد الكتّاب، حيث قال: ركبنا في السفينة، فمالت بنا وكدنا نغرق، فبدأ بعض أصحاب السفينة يقولون: يا ولي فلان أنقذنا من

(1)

أخرجه «مسلم» (1659).

ص: 111

الغرق، فقلت لهم: في مثل هذه الحالة والشدة تستغيثون بغير الله!!، فهذه استغاثة بغير الله.

وسواء كان المستغاث به ميتٌ، أو حيٌّ بعيدٌ لا يسمعك ولا يمكن أن يصله كلامك، أو حيٌ في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله، فكل هذا شرك، وذلك لأنه صرف الاستغاثة والاستعاذة لغير الله.

قال بعضهم: استغاثه المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق!

وقال غيره: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة السجين بالسجين.

وما أحسن هذا التعبير، فالسجين لا تنفعه استغاثته بسجين مثله، إذ لو نفع لنفع نفسه.

قال ابن تيمية: «قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَا غِيَاثَ وَلَا مُغِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ كُلَّ غَوْثٍ فَمِنْ عِنْدِهِ»

(1)

.

* خلاصة الكلام: أن تعلم أن الاستغاثة والاستعاذة بالله عبادة، فأنت تتعبد بها لله و تؤجر عليها، وحين تصرفها لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقعت في الشرك، حيث صرفت العبادة لغير الله تعالى.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 110).

ص: 112

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الذَّبْحِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام: 162 - 163)، وَمِنَ السُنَّةِ:«لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ» ).

* أشار المصنف هنا الى عبادة الذبح، والكلام عليه في مسألتين:

المسألة الأولى: تعريف الذبح.

الذبح: هو إزهاق الروح على وجه مخصوص، ويراد به هنا: ذبح بهيمة الأنعام، الإبل والبقر والغنم.

والذبح لله تعالى تقرباً إليه عبادة يؤجر المسلم عليها، حينما يهريق هذا الدم لله.

ودليل ذلك: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام: 162 - 163)، فدل على أنها عبادة لله.

وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2)، أي له لتكن صلاتك ونحرك لا لأحد سواه.

* والذبح المشروع يدخل فيه صورتان:

الأولى: أن يذبح تقرباً إلى الله معظماً له، فهو مأجور على هذا كما سبق، ويدخل في ذلك: الهدي، والأضحية، والذبح بقصد الصدقة ونحوه.

الثانية: أن يذبح للأكل، لكنه يذكر اسم الله عليها، فصنيعه مباحٌ من حيث الأصل، لكنه مأجورٌ على تسميته على الذبيحة، وكذا على إطعامه نفسه وأهل بيته، أو أضيافه، فتلك صدقةٌ يؤجر عليها.

ص: 113

المسألة الثانية: مَنْ ذبح وقصد بذبحه تعظيم أحدٍ غير الله، كولي صالح ميت أو جنٍّ أو غيره، فإن هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة، ومن صرف العبادة لغير الله فقد وقع في الشرك.

واستدل المصنف على ذلك: بحديث علي رضي الله عنه في الصحيح وفيه: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ «

(1)

.

واللعن إذا وقع على فعل فإنه يدل على تحريم ذلك الفعل الذي لُعن صاحبه.

* واعلم أن الذبح المنهي عنه له أربع صور:

1) أن يذبح لغير الله قصداً ولفظاً، فيقصد بذبيحته غير الله، مِنْ جنٍ، أو صنم، أو ولي ميت، ويسمي بغير الله، فيقول: باسم الولي فلان، أو باسم الملك فلان، فهذا لا يجوز وهو شرك أكبر.

2) الذبح لله بقصده ونيته، لكنه عندما ذبح ذكر عليه اسم غير الله.

مثال ذلك: أتى بذبيحة يوم العيد فذبحها ونوى بها أنها لله، لكنه قال باسم الولي فلان، أو باسم الملك فلان، أو باسم الجني فلان، وهذا شرك لأنه صرف العبادة لغير الله.

3) أن يقصد بذبيحته غير الله، ويذكر اسم الله عليها.

مثلاً: يأتي بذبيحة ويقول باسم الله عند الذبح، ولكن مقصده أنها تعظيم لذلك الولي الميت أو لذلك الجني، فهذ لا يجوز، لأنه صرف العبادة لغير الله.

(1)

أخرجه «مسلم» (1978).

ص: 114

4) أن يذبح ولا يذكر اسم الله عليها، أي بدون تسمية، ويقصد بذلك التقرب لغير الله، فهذا شرك بالله.

مثال على ذلك: ما يقع من بعض ضعاف النفوس حينما يطلب الساحر من أحدهم مثلاً ذبح ديكٍ أو شاةٍ ولا يذكر اسم الله عليه، فيفعل ذلك، فيكون قد وقع في الشرك وهو في الحقيقة يتقرب بذلك إلى الجن.

جماع القول: أنه يجب عليك إذا أردت أن تذبح، أن تعظم الله ولا تعظم أحداً غيره، فإذا ذبحت فاذكر اسم الله عليه، ولا تنوي بذلك شيئاً غير وجه الله.

ص: 115

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ النَّذْرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (الإنسان: 7)).

* هذه آخر عبادة ذكرها المؤلف هنا مقرراً أنها يجب أن تكون لله، وهي عبادة النذر، والكلام عليها في مسألتين:

المسألة الأولى: تعريف النذر.

النذر: هو أن يُلزِمَ المكلفُ نفسه شيئاً لم يجب عليه بأصل الشرع.

مثال ذلك: لله عليّ نذر أن أصوم شهراً، فهذا الصيام ليس واجب عليه في أصل الشرع.

والأصلُ في النذر أنه عبادة، فلا يجوز أن تصرفها لغير الله، فمن صرفها لغير الله فقد وقع في الشرك، وذلك لأنه ما نذر لغير الله إلا لمّا وقع في قلبه التعظيم للمنذور له، أو أنه اعتقد أن له تصرفاً في الكون فهو إذا نذر له ينفعه حينها.

مثال النذر المشروع: لله عليّ نذر أن اقرأ القرآن، أو أن أصوم شهراً، أو أن أحج، سواء علقه بشيء كقول: إن شفى الله مريضي فلله عليّ نذرٌ أن أحج، أو لم يعلقه بشي إنما أطلقه، وقال لله عليّ نذر كذا.

وأما ما ورد في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، وقال:«إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ» «

(1)

، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَرِّبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ شيئًا لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ لَهُ، وَلَكِنِ النَّذْرُ يُوَافِقُ الْقَدَرَ، فَيُخْرَجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنِ الْبَخِيلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ» «

(2)

،

(1)

أخرجه «البخاري» (6608)، و «مسلم» (1639).

(2)

أخرجه «مسلم» (1640).

ص: 116

فقد أجاب العلماء عن ذلك بأحد جوابين:

1 -

أن النذر المنهي عنه هو المعلق بشيء، كقوله: إن رزقني الله كذا فله علي نذر، وهذا يوهم المشارطة، فكأنه يظن أن الله لن يعطيه إلا إذا نذر له، وهذا فيه سوء أدب مع الله، فأما إن كان نذراً مطلقاً غير معلق بوقوع شيء فهو جائز.

2 -

أن النذر مطلقاً منهي عنه، ولكن إذا نذر الإنسان نذر عبادة فلا يجوز أن يجعل ذلك إلا لله، وهذا الجواب أقرب، وقال به من يرى النهي عن النذر ثم منهم من كرهه، وهو مذهب الحنابلة ومنهم من عدّه محرماً، وهو اختيار ابن تيمية.

المسألة الثانية: إذا تقرر هذا فاعلم أن النذر لغير الله لا يجوز، وهو من الإشراك به سبحانه، لأنه قصد بعبادته غير وجه الله.

مثال النذر الممنوع: أن يقول: عليّ نذر أن أذبح عند قبر فلان ذبيحة، أو إن شُفى مريضي عليّ نذر أن أذبح ذبيحة عند عتبات قبر الرجل الصالح فلان، ونحو ذلك.

فهذا نذرٌ لا يجوز، وصاحبه وقع في الشرك بالله سبحانه.

وبهذا يكون المؤلف قد أنهى الكلام عن الأصل الأول، وهو آكد الأصول، وهو معرفة العبد ربه سبحانه، ومعرفته تكون بإفراده بالألوهية، بأن يوحد في العبادة ولا يشرك به أحد، في العبادات القلبية، أو القولية، أو العملية، ومعرفته بالربوبية، ومعرفته بأسمائه وصفاته.

ص: 117

*‌

‌ قوله: (الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ: وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشركِ وَأَهْلِهِ).

شرع في ذكر الأصل الثاني الذي يُسأل عنه العبد في قبره، وهو معرفة دين الإسلام، ولا شك أن مما يجب على الإنسان أن يعرف: ما هو دينه، حتى يعبد الله على بصيرة، وديننا هو الإسلام.

* والإسلام له إطلاقان:

1) إطلاق عام. 2) وإطلاق خاص.

• فأما الإطلاق العام للإسلام فهو: الاستسلام لله بالتوحيد، قال ابن القيم مبيناً المراد بالإسلام:«والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاءَ به»

(1)

.

ويتحقق هذا بأمور ثلاثة:

1 -

تمام الاستسلام لله بالتوحيد: وذلك يكون في الباطن والظاهر، أي بالقلب والجوارح، بأن يوحد الله في كل عباداته، ولا يقع في شيء من الشرك.

2 -

الانقياد لله بالطاعة: فتطيعه في فعل الأوامر، وترك النواهي.

3 -

البراءة من الشرك وأهله: فمقتضى الإسلام أن تتبرأ من الشرك، ومن أهل الشرك، فهما أمران لا بد منهما: أن تتبرأ من الشرك نفسه، وأن تتبرأ من أهل الشرك، فتبغضهم، وتعاديهم من قلبك، ولا يكون في قلبك مودة لهم.

(1)

انظر: «طريق الهجرتين» (ص: 411).

ص: 118

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «وأنت يا مَنْ منّ اللهُ عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه:{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، وقال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]

ولو قال رجل: أنا أتَّبِعُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن لا أتعرض لِلّات والعزى، ولا أتعرض لأبي جهل وأمثاله، ما عليَّ منهم؟ لم يصح إسلامه»

(1)

.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلا باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم؛ فهم معتزلة بهذا الاعتبار؛ لأنهم اعتزلوا أهل الشرك، كما اعتزلهم الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وقد أنزل الله في القرآن سورة سماها بعض العلماء سورة البراءة من الشرك، وهي سورة الكافرون، حيث يعلن فيها المسلم المفاصلة بينه وبين المشركين، حين يقول: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا

ص: 119

أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون: 1 - 6).

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «أصل الإسلام وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه.

الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتلفظ في ذلك والمعادة فيه وتكفير من فعله»

(1)

.

إذا تقرر هذا فاعلم أن الإسلام بهذا المعنى يدخل ضمنه كل شرائع الأمم السابقة والأنبياء السابقين؛ لأنها استسلام لله، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19)، فالأنبياء السابقون مسلمون بهذا المعنى، قال تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 54)، بالمعنى العام

(2)

.

وبهذا المعنى فيصح أن يسمى من اتبع موسى; أثناء دعوته من اليهود مسلماً، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فلا إسلام إلا باتباع دعوته.

• وأما الإسلام بالمعنى الخاص: فالمراد به إتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: «تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة» للشيخ سليمان بن سحمان (ص: 71).

(2)

انظر: التدمرية» (ص: 172).

ص: 120

*‌

‌ قوله: (وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ. وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ).

* ذكر المصنف أن الدين له ثلاث مراتب:

1) الإسلام. 2) الإيمان. 3) الإحسان.

وأن كل مرتبة من هذه المراتب لها أركان، ومعرفة هذه المراتب، وأركانها، لا بد منه لكل مسلم، حتى يقوم بها على مراد الله، ويحقق أعلى المراتب.

ص: 121

* وابتدأ المؤلف بأول المراتب وهي الإسلام فقال:

*‌

‌ قوله: (المرتبة الأولى: الإسلام: فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَنْ لا إله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ).

أركان الإسلام بالإجماع خمسة، وقد تواترت الأحاديث بذكر هذه الأركان، التي لا يقوم الإسلام إلا بها، ومن ذلك: حديث ابن عمر مرفوعاً: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»

(1)

وغيره من الأحاديث.

وهذه الخمسة لا يقوم الإسلام إلا عليها، فإذا أخلّ بواحد منها جحداً لوجوبه كفر، وإن أخلّ به مع الإقرار بوجوبه فالأمر يختلف بحسب الركن المتروك كما يأتي ذكره عند ذكر هذه الأركان، لكن بالنسبة للشهادتين إن أخلّ بها فهو لم يدخل في الإسلام أصلاً، إذ لا يدخل في الإسلام إلا بهما.

(1)

أخرجه «البخاري» (8)، و «مسلم» (16).

ص: 122

*‌

‌ قوله: (فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18).

وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ، وَحَدُّ النَّفْيِ مِنْ الإِثْبَاتِ {لَا إِلَهَ} نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ {إِلَّا اللَّهُ} مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شريكٌ فِي مُلْكِهِ.

وَتَفْسيرُهَا: الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف: 26 - 28]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]).

* ذكر المؤلف أدلة ومعنى هذه الأركان الخمسة، وابتدأ بشهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والكلام على هذه الجملة في مسائل:

المسألة الأولى: من أوجب الواجبات على المسلم تعلم معنى لا إله إلا الله، إذ هي الكلمة التي بها يدخل في الإسلام، قال ابن القيم: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أُسِّسَت الملة، ونُصِبت القبلة، ولأجلها جُرّدت سيوف الجهاد، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد؛ فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي

ص: 123

كلمة الإسلام؛ ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة»

(1)

.

وقال المجدد رحمه الله: «اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة، والصوم؛ فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك، أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة، والصوم»

(2)

.

إذا علمت هذا؛ فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، وهي جملة فيها نفي وإثبات: ف (لا إله) فيها نفي لكل ما يعبد من دون الله، و (إلا الله) فيها إثبات للعبادة لله سبحانه وتعالى، فالنفي والإثبات ركنان إن تخلف أحدهما لم تصح الشهادة، فمن عبد الله، وعبد غيره لم يحقق (لا إله إلا الله)، لأنه لم يحقق (إلا الله).

ولذا قال المؤلف (لا إله نافية لكل ما يعبد من دون الله، إلا الله مثبتاً العبادة لله وحده سبحانه لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه).

والمعنى: أنه كما أنك تثبت أنه لا شريك لله في ملكه، وهو ما يتعلق بتوحيد الربوبية، فأثبت أنه لا شريك له في عبادته، وهو توحيد الألوهية.

قال المجدد رحمه الله: «اعلم رحمك الله: أن معنى لا إله إلا الله، نفي وإثبات:(لا إله) نفي، (إلا الله) إثبات; تنفي أربعة أنواع; وتثبت أربعة أنواع; فالمنفيُ الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب.

فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلها، والطواغيت: من عبد، وهو راض، أو ترشح للعبادة، مثل: شمسان; أو تاج.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 3).

(2)

انظر: «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (2/ 121).

ص: 124

والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو مسكن، أو عشيرة، أو مال،

والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق، وأطعته مصدقاً ..

وتثبت أربعة أنواع: القصد: كونك ما تقصد إلا الله; والتعظيم، والمحبة، لقوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165]، والخوف، والرجاء، لقوله عز وجل:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يونس آية: 107]»

(1)

.

المسألة الثانية: يجب على المسلم أن يحقق لا إله إلا الله بقلبه ولسانه، وجوارحه، فالقلب أن يعتقد بمعناها، واللسان بأن ينطق بها، والجوارح بأن لا يعمل بما يناقضها، قال ابن سحمان:«فلا بدّ في شهادة ألا إله إلا الله من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلماً»

(2)

.

المسألة الثالثة: استدل المؤلف للشهادة بقوله تعالى: ({شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18).

فتضمنت هذه الآية شهادة التوحيد، وبيان معناها، وبيان من شهد بهذه الشهادة مع الله، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلّ شاهد وهو الله والملائكة وأولوا العلم، بأجلّ مشهود به وهو تفرد الله بالألوهية.

قال السعدي: «هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له، وهي شهادته تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملائكة وأهل العلم،

ص: 125

وفي هذا دليل على أن أشرف الأمور علم التوحيد، لأن الله شهد به بنفسه، وأشهد عليه خواص خلقه، والشهادةُ لا تكون إلا عن علمٍ ويقين، بمنزلة المشاهدة للبصر، ففيه دليلٌ على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى هذه الحالة فليس من أولي العلم»

(1)

.

المسألة الرابعة: حينما أراد المؤلف أن يذكر التفسير الذي يوضح (لا إله إلا الله) لم يذكر كلاماً من عنده فإن هذا قد يعترض عليه بأن يقال: هذا فهمك، ولكنه جاء بآيتين من القرآن يتبين فيهما معنى الشهادة، وهي:

1 -

قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (الزخرف: 26).

فبيّن أن إبراهيم عليهم السلام قال لقومه إنني بريء منكم، ومما تعبدون، ثم استثنى من المعبودين ربه فقال بأنني أعبد الله الذي فطرني، أي أوجدني من العدم، ورزقني ودبرني، ثم قال بعد ذلك:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (الزخرف: 28). أي أن البراءة مما يعبد من دون الله، وعبادة الله وحده، هي الكلمة الباقية، وهي كلمة التوحيد، قال ابن كثير:«قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم في قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} (الزخرف: 28)، يعني: لا إله إلا الله، لا يزال في ذريته من يقولها، وروي نحوه عن ابن عباس»

(2)

.

فتبين بهذه الآية: أن معنى (لا إله إلا الله) هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى.

(1)

انظر: «تيسير الكريم الرحمن» للسعدي (ص: 124).

(2)

انظر: «تفسير ابن كثير» (7/ 225).

ص: 126

2 -

قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64).

* ففي هذه الآية بيان لمعنى كلمة التوحيد، وذلك أنها تتضمن:

1.

تحقيق عبادة الله وحده: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} (آل عمران: 64).

2.

والتخلص من الشرك: {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: 64).

3.

والإقرار بالربوبية لله وحده، ولا يتخذ أحدٌ أحداً رباً من دون الله:{وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64).

وهذه هي كلمة التوحيد، التي يستوي أمامها الجميع، فمن حققها فقد حقق التوحيد، ودخل في الإسلام، قال ابن كثير: «فسرها -أي هذه الكلمة- بقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: 64) لا وثناً، ولا صنماً، ولا صليباً ولا طاغوتاً، ولا ناراً، ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ثم قال: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64)، وقال ابن جريج: يعني: يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة: يعني: يسجد بعضنا لبعض.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64). أي: فإن تولوا عن هذا النَصَف وهذه الدعوة فأشهدوهم أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم»

(1)

.

(1)

انظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 56).

ص: 127

واعلم أن كلمة التوحيد ليست مجرد كلمة تقال، وإنما هي قول باللسان، وتحقيق في القلب والأعمال، فالذي تنفعه هذه الكلمة هو من يقولها، ويعمل بمقتضاها، قال المجدد: لا إله إلا الله مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها

(1)

وكم من امرئٍ ربما نطق بها، وهو يخالفها صباحاً ومساءً، فلا تنفع هذه الكلمة من يخالفها، فيتوجه لغير الله في عباداته، القلبية منها والفعلية، ولو كانت هذه الكلمة مجرد لفظ ينطق، لقالها كفار قريش، وأقبلوا على ما هم عليه من شرك، ولكنهم حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه أبي طالب:«يا عمّ إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» ، فقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: «لا إله إلا الله» ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشيءٌ عُجابٌ

(2)

.

فاحذر أيها المبارك أن تكون ممن يتلفظ بها، ثم يخالفها، ومهمٌ أن نراجع عباداتنا، هل فيها قصدٌ لغير الله، وأن نُخَلِّصَ أعمالنا من أي شائبةٍ من شوائب الشرك.

المسألة الخامسة: ذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أن الناس تجاه (لا إله إلا الله) ثلاث فرق:

* فرقةٌ نطقوا بها وحققوها وعلموا أن لها معنى فعملوا بها، وأن لها نواقض فاجتنبوها، وهؤلاء هم الناجون، وهم المؤمنون حقاً.

ص: 128

* وفرقة نطقوا بها بالظاهر، فزينوا ظواهرهم بقول: لا إله إلا الله، وترديدها، واستبطنوا في نفوسهم الكفر والشرك، وهؤلاء هم المنافقون.

* وفرقة نطقوا بها ولم يعملوا بمعناها وعملوا بنواقضها، وهؤلاء هم المشركون

(1)

.

فتحقيق شهادة (لا إله إلا الله): أن تقولها بلسانك، وتطبقها بأفعالك، فلا تتوجه بها لأحد غير ربك.

ص: 129

‌قوله: (وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128).

وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شرعَ).

الجزء الثاني من الشهادة: شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيق هذه الشهادة يكون بأمور خمسة:

1 -

الإيمان به: قال تعالى (وآمنوا برسوله) وقال (آمنوا بالله ورسوله)، والإيمان به يستلزم تصديقه، واعتقاد صحة رسالته، ومحبته الصادقة، وتوقيره، وتعزيره، قال تعالى (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً)

2 -

طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أوامره، وقد أمرنا الله بطاعته فقال:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92)، وقال:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56)، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64)، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر: 7)، وجعل طاعته هي الطريق لطاعة الله فقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80)، وقرن معصية الرسول مع معصيته فقال:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (الجن: 23)،

ص: 130

وعلى هذا فيجب أن تطيع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، فإن كان واجباً كالصلاة فطاعته بأن تعتقد وجوب ذلك، وتعمل به.

وإن كان ما أمر به مستحباً فطاعته بأن تعتقد أن هذا من الدين، وأنه مستحب، وأن تحرص على العمل به.

3 -

تصديقه فيما أخبر عنه: سواء كان عن الماضي، كذكره لأخبار الأمم السابقة، أو عن المستقبل، كذكره لما يكون في آخر الزمان، وما يكون في يوم القيامة، فهو الصادق المصدوق، وأمين الله على وحيه، فكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خُلف.

4 -

اجتناب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم: كالربا والزنا وغيرها، قال تعالى:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ:«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»

(1)

.

5 -

وهو داخل فيما سبق، لكنه يذكر باستقلاله لأهميتة، وهو أن لا تعبد الله إلا بما شرع النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن أخلّ بواحدة من هذه الأمور لم يحقق الشهادة.

والإخلال في أحد هذه الأمور قد يخرجه من الدين، وقد يبقى معه أصل الدين، ولكنه ينقص ثوابه

مثال ذلك: من لم يجتنب ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك فهو غير مسلم، لكن من لم يجتنب ما نهى عنه من المحرمات، فهو مسلم لكنه آثم.

(1)

أخرجه «البخاري» (7280).

ص: 131

*‌

‌ قوله: (وَدَلِيلُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَتَفْسيرُ التَّوْحِيدِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5).

ودَلِيلُ الصيامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

ودَلِيلُ الْحَجِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(آل عمران: 97).

هذه بقية أركان الإسلام، ودليلها، ولم يذكر المؤلف تعاريفها لوضوحها، ولأن المراد هنا التأكيد على أهم الأركان وهي الشهادتان.

1/ فأما الصلاة: فهي لغةً: الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 103) أي ادع لهم.

وشرعاً: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم مع النية، بشرائط مخصوصة.

وهي آكدُ الفروضِ بعد الشهادتين، وقد فُرِضت الصلوات الخمس في ليلة الإسراء والمعراج، وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أي في السماء السابعة- ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشركْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شيئًا، الْمُقْحِمَاتُ»

(1)

.

وقد ذكر العلماء أن من جحد وجوب الصلاة أو غيرها من الشرائع فقد كفر، لأنه أنكر شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

أخرجه «مسلم» (173).

ص: 132

أما من ترك الصلاة فله حالتان:

الأولى: إن كان قد ترك الصلاة بالكلية: فاختلف العلماء، فالحنابلة، وهو قول أهل الحديث أنه يكفر بتركها بالكلية، قال عمر رضي الله عنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقال عبدالله بن شقيق:«لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة»

(1)

.

والجمهور على أنه يقتل، لكن ذهب المالكية والشافعية إلى أنه يقتل حَدَّاً، لا لكفره، أي أن حكمه بعد الموت حكم المسلم فيغسل، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين.

وأما الحنابلة فحكموا بأنه يقتل لكفره إذا تركها بالكلية.

وأما الحنفية فقالوا: تاركها بالكلية فاسق لا يكفر، ولا يقتل، وإنما يعزر ويحبس حتى يموت أو يتوب.

الثانية: إن كان يصلي ويترك: فمن أهل العلم -وهو رواية عند الحنابلة- أنه يكفر بترك صلاة واحدة إذا خرج وقتها، والأقرب أنه لا يكفر بذلك، لكنه على خطر عظيم.

2/ الزكاة: لغة: النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع، إذا نما وزاد، وسميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه

وشرعاً: حق واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص.

واعلم أن الزكاة إنما تجب بشروط معروفة عند أهل العلم وهي:

1 -

الإسلام فلا تجب على الكافر.

(1)

انظر: «السنة» للخلال (4/ 144).

ص: 133

2 -

الحرية: فلا تجب على الرقيق ولو مكاتباً، وتجب على البعض بقدر ملكه.

3 -

ملك النصاب: وتختلف الأنصبة، باختلاف الأموال.

4 -

الملك التام: فلا زكاة على السيد في دين الكتابة، ولا في حصة المضارب قبل القسمة، لعدم تحقق الملك التام.

5 -

تمام الحول: ولا يضر لو نقص نصف يوم.

وتجب الزكاة في خمسة أصناف: في سائمة بهيمة الأنعام، وفي الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، وفي العسل، وفي الأثمان وهي الذهب والفضة والأوراق النقدية، وفي عروض التجارة.

3/ الصيام: في اللغة: الإمساك مطلقاً، عن الطعام، والشراب، والكلام، والنكاح، قال تعالى عن مريم عليها السلام:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (مريم: 26).

وشرعاً: الإمساك عن المفطرات تعبداً لله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وقد فرض في السنة الثانية، فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات.

والواجب من الصيام هو شهر رمضان، وقد ثبت في صومه فضائل عديدة، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(1)

.

(1)

أخرجه «البخاري» (38)، و «مسلم» (760).

ص: 134

3/ الحج: لغة: القصد

وشرعاً: قصدُ موضعٍ مخصوص -وهو البيت الحرام وعرفة- في وقت مخصوص -وهو أشهر الحج- للقيام بأعمال مخصوصة -وهي أعمال الحج- بشروط محددة.

وقد شرع على الصواب في السنة التاسعة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، في السنة العاشرة.

فإن قيل: فما حكم من ترك واحداً من هذه الأركان الثلاثة؟

= إن كان قد تركها لا جحداً لوجوبها، وإنما كسلاً، أو بخلاً، فإنه لا يكفر ولكنه على خطر عظيم.

والدليل: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة أنه قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»

(1)

.

(1)

أخرجه «مسلم» (987).

ص: 135

فقد ذكر أنه ترك الزكاة، ثم قال بعد ما ذكر تعذيبه «فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .

*‌

‌ قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا إله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ.

وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: كما في الحديث: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشرهِ» .

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177).

ودليل القدر: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49)).

* بعدما انتهى الحديث عن المرتبة الأولى من مراتب الدين أشار المؤلف للمرتبة الثانية، وهي الإيمان، والكلام عنها في مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الإيمان.

الإيمانُ في اللغة: التصديقُ الجازم.

وشرعاً: هو اعتقاد وقول وعمل.

اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح.

ولابد من هذه الثلاث، فلا يكفي في الإيمان أن يعتقد بقلبه ولا ينطق بلسانه، ولا يكفي في الإيمان أن يعتقد بقلبه وينطق بلسانه ولا يعمل، بل لابد من الثلاثة.

وبعضهم عرّفه فقال هو: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهذا بمعنى الأول.

ص: 136

المسألة الثانية: تكلم العلماء عن الفرق بين الإيمان والإسلام.

* وخلاصة كلامهم أن يقال:

1 -

الصواب أن الإيمان يختلف عن الإسلام، وأنهما ليسا بمعنى واحد، وأن الإيمان أرفع من الإسلام

(1)

.

بدلالة: قول الله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14).

وبدلالة: ما ورد في قصة قوم لوط قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (الذاريات: 35 - 36)، والتفريق هنا لبيت لوط عليهم السلام، فهو بيت مسلم، حتى زوجته كانت مسلمة، لكنها لم تكن من المؤمنين؛ لأنها خانت، وليست خيانتها خيانة فاحشة، فإنه لم تخن زوجة نبي زوجها في هذا الأمر، وإنما كانت خيانتها بإخبارها لقومها بوجود الملائكة، فكانت من المهلكين والله عز وجل أنجى المؤمنين فقط، فدل على أن الإيمان أرفع من الإسلام.

2 -

الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في موضع واحد، فَذُكِرَ الإيمانُ والإسلامُ، فإن الإسلام يكون للأعمال الظاهرة، والإيمان يكون للأعمال الباطنة كما هنا، فالإيمان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه أعمالاً قلبية باطنة، بخلاف الإسلام، وفي الآية:{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وأما الإسلام فيكون للأعمال الظاهرة.

(1)

وقال بهذا جمهور أهل السنة، وفي المسألة الأولى قولان آخران:

الأول: أن الإسلام والإيمان شيء واحد ولا فرق بينهما، وقال به البخاري، ومحمد بن نصر المروزي وعزاه للجمهور.

القول الثاني: أن الإسلام والإيمان متغايران سواء اجتمعا أو تفرقا، وبه قال الزهري.

ص: 137

أما إذا افترقا فإنه قد يطلق الإيمان على الإسلام، والإسلام على الإيمان، وقد ثبت في الصحيح في حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«آمركم بالإيمان بالله، قالوا: وما الإيمان؟ قال: أن تشهدوا ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم»

(1)

، فذكر لهم في الإيمان خصال الإسلام، فدل على أنهما إذا افترقا فمعناهما واحد.

المسألة الثالثة: الإيمان له أركان ستة ذكرها المؤلف رحمه الله هنا:

الركن الأول: أن تؤمن بالله: ويدخل في ذلك:

1.

الإيمان بوجود الله عز وجل.

2.

الإيمان بألوهية الله: بأن تؤمن أنه سبحانه هو الإله المستحق للعبادة لا سواه.

3.

وتؤمن بربوبيته: بأن تؤمن أنه عز وجل هو الرب وحده لا شريك له.

4.

وتؤمن بأسمائه وصفاته: فتسميه بما سمى الله به نفسه، وتصفه بما وصف به نفسه، من غير تشبيه له بخلقه، ولا تعطيل للصفة، ولا تكييف لها.

الركن الثاني: الإيمان بملائكة الله.

والملائكة: هم خلق من خلق الله عز وجل، خلقهم لعبادته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

والإيمان بهم يكون على وجهين:

1 -

على سبيل الإجمال: بأن تؤمن أنهم ملائكة خلقهم الله عز وجل؛ لحكمة، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم.

(1)

أخرجه «البخاري» (87).

ص: 138

2 -

على سبيل التفصيل: وينتظم ذلك معاني:

1/ أن تصدق بوجودهم.

2/ أن تعتقد أنهم عباد الله وخلقه، لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله تعالى عليه، والموت عليهم جائز، ولكن الله تعالى جعل لهم أمداً بعيداً، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه، ولا يوصفون بشيء يؤدي وصفهم به إلى إشراكهم بالله تعالى، ولا يتوجه لهم بشيء من العبادات.

3/ أن تؤمن بما ثبت من أسمائهم، مما صح في النصوص.

4/ أن تؤمن بما ثبت من أعمالهم، وبما ورد من أوصافهم، وقد ورد في النصوص جملة من ذلك، فمنهم حملة العرش، ومنهم الصافون، ومنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم كتبة الأعمال، ومنهم الذين يسوقون السحاب، ومنهم الذين يبحثون عن مجالس الذكر ويتنادون لها

(1)

.

* ثمرة الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة يقوي الإيمان، ويورث في القلب تعظيم الله، فإذا تأمل الإنسان أن هؤلاء الملائكة على عظم خلقهم، هم ممتثلون لله، فإن هذا يدله على عظمة الله، فأي نفسٍ تسمع عن عظم خلق الملائكة، كما في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً:«أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ»

(2)

، وحديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال عن جبريل:«رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»

(3)

، أي نفس تسمع هذا ولا تزداد تعظيماً لله القوي الذي خلق الملائكة، وهم لهم خاضعون.

(1)

انظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (1/ 296) بتصرف.

(2)

أخرجه «أبو داود» (4727)، والطبراني في «الأوسط» (4/ 356)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (856).

(3)

أخرجه «مسلم» (177).

ص: 139

الثالث: أن تؤمن بكتبه: والكتب: هي الكتب التي أنزلها الله على الأمم بواسطة الرسل.

* والإيمان بالكتب يكون على وجهين:

مجمل: بأن تؤمن بأن لله كتباً أنزلها على رسله، وأنها حق، ولا تنكرها.

ومفصّل: ينتظمه عدة أمور:

1.

الإيمان بأنها من عند الله، أنزل لكل أمة ما يناسبها، وما فيه استقامة أمورها، وتصدق بما بقي منها مما لم يحرف.

2.

أن تؤمن بأنها -ولا سيما القرآن- من عند الله تبارك وتعالى، وليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من وضع جبريل عليهم السلام.

وأنه معجز لا يستطيع الناس كلهم أن يأتوا بحرف من مثله.

3.

أن تؤمن بأن القرآن مهيمن عليها، فتصدق بأخباره، وتعمل بما لم ينسخ من أحكامه

(1)

.

الرابع: الإيمان بالرسل.

والرسل: جمع رسول، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه

والإيمان بالرسل يكون في أمرين:

1.

الإيمان بالرسل عموماً: بأن تؤمن بأن الله أرسل رسلاً لعباده يأمرون الناس بعبادته وحده، وينهون عن الإشراك به، ويبشرون من أطاعهم بالجنة، ويحذرون من عصاهم النار، وتصدق بنبوتهم، فهم صادقون مصدقون.

2.

الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً: بأن تؤمن أنه خاتم الأنبياء، وتعمل

(1)

انظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (1/ 328).

ص: 140

بشريعته، إذ هو المرسل إلينا، ولا نبي بعده، فرسالته نسخت الرسالات قبلها، قال صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»

(1)

.

الخامس: الإيمان باليوم الآخر: وهو يوم القيامة، وسمي آخراً: لأنه لا يوم بعده.

ويدخل في الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما يكون في يوم القيامة من البعث والحساب، والجزاء والجنة والنار، وكل ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه وسؤال الملكين، والصراط والميزان وغير ذلك، فالإيمان باليوم الآخر أن تصدق بكل هذا، وتعتقد وقوعه؛ لأن الذي أخبر به هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق

(2)

.

السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره

والقدر هو: تقدير الله عز وجل للكائنات حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته سبحانه.

فالتقدير الذي يقع للكائنات وللخلق عموماً هو من قدر الله وقضائه، والمؤمن يجب عليه أن يؤمن بالقدر خيره وشره، ويعتقد تجاه ما يقع على العباد أربعة أمور:

أولاً: أن الله سبحانه علمه جملةً وتفصيلاً.

قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى

(1)

أخرجه «مسلم» (153).

(2)

انظر: «العقيدة الواسطية» لابن تيمية (ص: 95).

ص: 141

ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة: 7).

وثانياً: أن تعتقد أن الله قد كتب ذلك في اللوح المحفوظ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49)، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} (القمر: 52 - 53).

وثالثاً: أن تعتقد أنه ما يحدث في الكون من شيء، إلا وهو بمشيئة الله سبحانه.

ورابعاً: أن تعتقد أن جميع المخلوقات قد خلقها الله تعالى، وخلق أعمالها:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر: 62).

وهذه المراتب الأربع هي مراتب الإيمان بالقدر.

والمراد: أن هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان، كما ورد في حديث جبريل الآتي

* فإن قيل: قد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خصال الإيمان وشعبه فقال: «الإيمان بضع وسبعون شعبه» ، وهنا ذكر الأركان الستة، فكيف نجمع بينهما؟.

= الجواب أن يقال: الإيمان من ناحية الاعتقاد ستة أركان، وأما من ناحية العمل وأنواعه فإنه كما ورد في الحديث:«الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً»

(1)

.

المسألة الرابعة: ورد في الحديث شعب الإيمان، فما المراد بشعبه، وما عددها؟

- أما عددها: فقد ورد الحديث على وجهين: (بضع وستون) (بضع

(1)

أخرجه «مسلم» (35).

ص: 142

وسبعون) فعند البخاري «بِضْعٌ وَسِتُّونَ»

(1)

وعند مسلم بالشك: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -»

(2)

والبضع هو (من 3 إلى 9).

- وأما الشعب: فجمع شعبة، وهي الطائفة والقطعة من الشيء، وشعب الإيمان خصاله، وقد اجتهد بعض العلماء وحاول عدّ شعب الإيمان، ومنهم الحليمي، وابن حبان، فذكروا جملة من الأعمال التي ورد فيها أنها من الإيمان، سواء كانت قولية أو قلبية أو بدنية، وهذا اجتهاد ولكن كما قال ابن رجب:«وفي القطع علماً أن ذلك هو مراد الرسول عليهم السلام من هذه الخصال عسر»

(3)

.

* وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان ثلاثاً:

- أرفعها: وهي كلمة لا إله إلا الله.

- وأدناها: وهي إماطة الأذى عن الطريق.

- وثالثة عدها من شعب الإيمان: وهي الحياء.

والحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير، وهو من الإيمان كما ثبت في الأحاديث، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال:«دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ»

(4)

.

ووجه كون الحياء من الإيمان: أنه خلق يحمل المرء على فعل ما يزين، ويمنعه من فعل ما يدنس ويشين.

(1)

أخرجه «البخاري» (9).

(2)

أخرجه «مسلم» (35).

(3)

انظر: «فتح الباري» لابن رجب (1/ 33).

(4)

أخرجه «البخاري» (24)، و «مسلم» (36).

ص: 143

*‌

‌ قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ: وله رُكْنٌ وَاحِدٌ. كما في الحديث: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128).

وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} (الشعراء: 217 - 220).

وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61)).

هذه المرتبة الثالثة من مراتب الدين: وهي مرتبة الإحسان.

والإحسان: ضد الإساءة، والمراد بالإحسان هنا: الإحسان في حق الله سبحانه وتعالى، وهو مرتبتان كما دل له الحديث

1.

أن تعبد الله كأنك تراه: هذه مرتبة، بمعنى: أنك تتعبد لله كأنك ترى الله سبحانه وتعالى، وهذه أرفع الأحوال، فإن من تعبد لله وفي قلبه كأنه يشاهد الله ويراه سيسعى بأن يأتي بالعمل على أتم وجه.

2.

أن تعبد الله وقد وضعت في قرارة نفسك وقلبك أنه سبحانه يراك: وهذه هي مرتبة الخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن حقق هذا فقد قام بالإحسان، وقد قام بعمله لله سبحانه وتعالى على أتم وجه، حيث أنه تعبد لله كأنه يرى الله، أو كأن الله سبحانه يراه، أو وضع في قلبه أن الله يراه ويشاهده ويطلع على أعماله.

واستدل لذلك بثلاث آيات:

1/ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128).

ص: 144

فقد أثبت سبحانه معيته للمحسنين، وأرفع الإحسان: الإحسان في حق الله، بأن تعبده سبحانه ولا تشرك به شيئاً.

2/ قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} (الشعراء: 217 - 219)، وهذه الآية فيها بيان حقيقة الإحسان، بأن تعبد الله وأنت موقن أنه يراك وأنت تقوم، ويراك وأنت تتقلب في السجود، وغير السجود، فهو السميع العليم، فمن حقق هذا فقد حقق أرفع مراتب الدين.

3/ قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} (يونس: 61). أي ما تكون على أي حال، ولا تعمل أي عمل خيراً أو شراً إلا والله مشاهد ذلك، وتحقيق هذا في القلب يوصل العبد لأرفع مراتب الدين وهي الإحسان.

ص: 145

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه

- قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَالَ: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا» . قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشرهِ» . قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» . قَالَ: فَمَضى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ:«يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟» . قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم» ).

استدل المصنف رحمه الله لهذه المراتب الثلاث بحديث جبريل الشهير الذي ثبت في الصحيح، وقد ساقه رحمه الله بتمامه، وهذا الحديث يسمى عند أهل العلم [أم السنة] وهو حديث عظيم ينبغي على طالب العلم أن يحفظه وأن يتفهم معانيه، وقد أشرت إلى معانيه ضمن الكلام على مراتب الدين.

ص: 146

‌قوله: (الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ).

هذا هو الأصل الثالث الذي يُسأل الإنسانُ عنه في قبره، ولذا كان مما يجب على الإنسان أن يتعرف على نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب.

* وقد ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- عدة أمور تدخل تحت معرفة النبي صلى الله عليه وسلم:

الأمر الأول: نسبه واسمه: والمراد أن يعرف الإنسانُ اسمَ النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه سيسألُ عنه في قبره، ثم إنه يقبح به أن يجهل اسم نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي دله على الله، وله صلى الله عليه وسلم علينا جميعاً فضلٌ كبير.

والواجب من معرفة الاسم: اسمه المفرد صلى الله عليه وسلم، وأما بقية الاسم واسم آبائه فهذا مما يستحب للإنسان، ولا يجب.

واعلم أن الله قد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الناس نسباً، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»

(1)

، فهو قرشي هاشمي عربي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

(1)

أخرجه: «مسلم» (2276) من حديث واثلة بن الأسقع.

ص: 147

فإن قيل: فما ثمرة ذلك؟

= الجواب: منصب الرسالة منصبٌ شريفُ القدر، فلا يليق إلا برجلٍ شريفِ القدر، وقد كانت العرب الذين أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم يفاخرون بالأحساب، فلكي لا يكون في نسبه صلى الله عليه وسلم وسيلةٌ لهم للطعن فيه، وردِّ دعوته، والإعراض عنه، اختاره الله من نسب شريف عندهم، وهو من سلالة أبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

وإلا ففي الإسلام لا فرق بين شريف نسب ووضيعه، فالتمايز هو بالتقوى لا غير، وليست الأنساب سبباً للتفاخر، ولا وسيلة لِلَّمزِ والطعن، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشرف الناس نسباً، فما تفاخر ولا ترفع على قومه، بل كان أكثر الناس تواضعاً.

ص: 148

*‌

‌ قوله: (وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وَعِشرونَ في النبوة).

الأمر الثاني: مما يدخل في معرفة النبي صلى الله عليه وسلم: معرفة سِنّه.

عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة، وكانت سن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسله الله أربعون سنة وهو الأشد {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف: 15)، ومكث على ذلك حتى توفي وعمره ثلاثة وستون سنة، فكان ثلاثاً وعشرين سنة نبياً رسولاً.

ص: 149

*‌

‌ قوله: (نُبِّئَ ب {اقْرَأْ}، وَأُرْسِلَ ب {الْمُدَّثِّرُ}، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ).

الأمر الثالث: أن تعرف بأي شيء أرسل النبي صلى الله عليه وسلم؟ وبأي شيء نُبئ،

وقد قال المصنف: (نبئ بِإقْرَأْ). أي أنه صار نبياً حينما أنزل الله عليه صدر سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) في قصة شهيرة ثبتت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت «كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ، قال: فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قال: قلت: «ما أنا بقارئ» ، قال: فأخذني، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت:«ما أنا بقارئ» ، فأخذني، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} (العلق: 1 - 5)، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال:«زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع»

(1)

.

وأُرسل بالمدثر -أي أنه أُمر بالتبليغ والإنذار للناس- حينما أنزل الله عليه سورة المدثر: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر: 1 - 2)، وكان بينهما

(1)

أخرجه: «البخاري» (3)، و «مسلم» (160) من حديث عائشة.

ص: 150

فترة ليست بالطويلة، وقد أُمر حينما نزلت عليه المدثر بالتبليغ للدين، ولهذه الرسالة التي أرسله الله عز وجل بها.

* والصواب من أقوال أهل العلم أن أول ما نزل من القرآن هو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، وليس المدثر، خلافاً لمن قال أنه المدثر.

وقد ورد في صحيح مسلم، قال أبو سلمة لجابر رضي الله عنه:«أي القرآن نزل أول؟ قال: يا أيها المدثر، قال: فقلت: أو اقرأ؟ قال: أخبرك ما أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر له أن الله عز وجل أنزل عليه {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (المدثر: 1 - 2)»

(1)

.

ولكن هذا يجاب عنه بأن يقال: أن نزول سورة المدثر كان هو أول ما أمر به من التبليغ والإنذار، وكان نزول (يا أيها المدثر) بعدما توقف الوحي فترة بنزول:{اقْرَأْ} (العلق: 1).

‌قوله: (وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة).

الأمر الرابع: معرفة بلده التي ولد فيها، والبلد الذي هاجر إليه.

أما بلده فهي مكة، فيها عاش وترعرع، وكان يحبها حباً شديداً، حتى ورد في حديث عبد الله بن عدي بن حمراء، قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزوَّرة فقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»

(2)

، ومع كون مكة أحب البلاد إلى الله، وأحب أرض له صلى الله عليه وسلم، حيث فيها نشأ وعاش، إلا أنه ضحى بكل هذا لما وقف

(1)

أخرجه: «مسلم» (161).

(2)

أخرجه «الترمذي» (3925)، «ابن ماجه» (3108)، وصححه الألباني في «المشكاة» (2/ 115).

ص: 151

أهل مكة في وجه دعوته، فالإنسان يعيش لله، ولأجل الله يضحى بكل ما يحبه إذا خالف مراد الله، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي أن يعنى به كل مسلم، فلربما لم تستطع أن تعبد الله في بلدك، أو لم تستطع أن تدعو إلى الله في أرضٍ، فالواجب حينها أن تخرج حيث تستطيع أن تنشر دين الله، ولك بالنبي صلى الله عليه وسلم أسوة.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى المدينة، وكان قد رأى رؤيا أنه يخرج إلى أرضٍ كثيرة النخل، فقد روى الشيخان من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي

(1)

إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ»

(2)

.

وكان صلى الله عليه وسلم قد بقي في مكة ثلاثة عشر سنة، ثم بعد ذلك هاجر إلى المدينة وكان خروجه إليها بأمر الله، فقد كانت ناقته مأمورة، وقد اختار الله له هذه البقعة التي امتن على أهلها بأن يكونوا أنصار نبيه، ولله في ذلك حكمة، فكما أن اختيار الأنبياء من الله بحكمة، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، فكذلك اختيار أصحاب نبيه كان بحكمة، قال ابن مسعود:«إِنَّ اللَّهَ عز وجل اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، ثُمَّ اطَّلَعَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاخْتَارِهُمْ لِدِينِهِ»

(3)

.

وبقي في المدينة عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم فيها، في سنة إحدى عشرة من هجرته في شهر ربيع الأول.

(1)

وَهَلِي: أي وهمي.

(2)

أخرجه «البخاري» (3622)، و «مسلم» (2272).

(3)

أخرجه «أحمد» (6/ 84)، والطبراني في «الكبير» (9/ 112)، وإسناده حسن.

ص: 152

*‌

‌ قوله: (بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشركِ، وَبالَدْعُوة إِلَى التَّوْحِيدِ).

الأمر الخامس: بأي شيء بعثه الله، وما هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟

= رسالته صلى الله عليه وسلم تختصر في هذين الأمرين:

1.

النذارة عن الشرك، يعني التحذير عن الشرك وأهل الشرك.

2.

الدعوة الى توحيد الله سبحانه وتعالى.

فخلاصة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخلاصة رسالة الأنبياء أيضاً تدور حول هذين، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فكل نبي اعتنى بالدعوة إلى عبادة الله وأمر بتوحيده سبحانه، وحذّر عن الشرك صغيره وكبيره.

وهكذا ينبغي أن تكون دعوة كل مصلح، فالإصلاح أولاً يكون بإصلاح العقائد، وإذا صلحت العقائد وعظم الناس الأمر وهو الله عظّم اتبعاً لذلك أوامره، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة.

ص: 153

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}

[المدثر: 1 - 7]. وَمَعْنَى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} : يُنْذِرُ عَنِ الشركِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} : أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشركِ. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} : الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا).

ذكر المؤلف الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأي شيء أرسل، وساق أول سورة المدثر، وذكر معنى آياتها، وهي أول آياتٍ أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى الأمر بتبليغ الدين، والدعوة إلى الله.

قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} أي يا أيها المتدثر المتغطي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حين فزع من رؤية جبريل، رجع إلى بيته فتدثر، فأنزل الله الآيات، فقد روى الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو يحدث عن فترة الوحي:«بَيْنَا أَنَا أَمْشي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصري، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}»

(1)

.

{قُمْ فَأَنْذِرْ} أي: انطلق بالدعوة والنذارة.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظِّمه عما يقول عبدة الأوثان.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وتطهير الثياب يدخل فيه: التطهير الحسي، بتطهيرها

(1)

أخرجه: «البخاري» (3238)، و «مسلم» (161).

ص: 154

عن النجاسات الحسية، وتطهيرها التطهير المعنوي، بتطهير الأعمال عن الشرك، وهو المراد هنا.

قال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز قيل أنها الأصنام والأوثان، وقيل الشرك، ولا يمنع أن يراد بها كل هذا.

*‌

‌ قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشر سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ).

لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لم تنزل عليه التشريعات، وإنما كلها دعوة إلى الإيمان، وإلى التوحيد، فلم يأت تشريع بقية أركان الإسلام إلا في المدينة، ما عدا الصلاة فقد فرضت قبيل الهجرة.

إذا تصورت هذا، وأنه صلى الله عليه وسلم في كل يومٍ يأمرهم بالتوحيد، ويرغِّبهم فيه، ويحذرهم من الشرك، ويذكر ثواب الموحد في الجنة، وعقوبة المشرك في النار، إذا تصورت كل هذا تبين لك أهمية أن يعتني الداعية بغرس الإيمان وتوحيد الله وتعظيمه في القلوب، وقد ورد في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت:«إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً .. »

(1)

.

(1)

أخرجه: «البخاري» (4993).

ص: 155

*‌

‌ قوله: (وَبَعْدَ الْعَشر عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ).

بعدما دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عشر سنين، حصلت له أحداثٌ عسيرة، أولها موت عمه أبي طالب، وهو نصيره أمام زعماء مكة، ثم موت زوجته خديجة وهي نصيره في البيت، فأراد أن يبحث عن بيئة جديدة للدعوة، وخرج للطائف، فقوبل بالصدود من عقلائها، والحجارة والطرد من سفهائها، ورجع مرة أخرى للأرض التي لم يلق من أغلب أهلها إلا الإعراض وهي مكة، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فأراد الله أن يسلّيه، ويظهر له معيته، ويبين له أنه إن طرد في الأرض، فإن أبواب السماء تفتح له، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج، وقد ثبتت في أحاديث كثيرة، ومنها حديث أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه» ، قال:«فركبته حتى أتيت بيت المقدس» ، قال:«فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء» ، قال: «ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليهم السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليهم السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، صلوات الله عليهما، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة،

ص: 156

فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليهم السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (مريم: 57)، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم، فرحب، ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليهم السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفف على أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عني خمسا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى،

ص: 157

وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة"، قال: "فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»

(1)

.

(1)

أخرجه: «البخاري» (349)، و «مسلم» (162).

ص: 158

‌قوله: (وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشركِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ.

وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشركِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 97 - 99]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].

قَالَ الْبُغَوِيُّ رحمه الله: نزلت هَذِهِ الآيَةِ فِي المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ

وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» ).

* بعدما ذكر المؤلف هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، أشار إلى الهجرة، والكلام على الهجرة في مسائل:

المسألة الأولى: تعريف الهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام،

والهجرة بهذا المعنى باقية، لم تنسخ، قال صلى الله عليه وسلم:«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»

(1)

، وهذا دليل على أن الهجرة باقية لم تنقطع، وإنما الذي نُسخ في قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا هِجْرَةَ

(1)

أخرجه «أحمد» (28/ 111)، و «أبو داود» (2479) من حديث معاوية، وصححه الألباني.

ص: 159

بَعْدَ الفَتْحِ»

(1)

الهجرة من مكة إلى غيرها من البلاد، وهذا بيان أن مكة ستظل أرض إسلام، ولن تعود أرض كفر بعد ذلك، وأما الهجرة من غيرها إلى بلاد الإسلام فهو باقٍ ولكنه يختلف حكمه.

المسألة الثانية: إذا علمت أن الهجرة تكون من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فما الضابط في تحديد بلد الشرك، وبلد الإسلام؟

= اختلف أهل العلم في تحديد بلد الشرك من بلد الإسلام:

* فمنهم من علق الأمر بالحاكم فقال: إذا كان الحاكم مسلماً فهي بلد إسلام، وإذا كان الحاكم كافراً فهي بلد كفر، كذا قال بعض أهل العلم.

* والأقرب من أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن يقال: أن الأمر معلق بالشعائر والأعمال، فبلد الشرك هي البلد التي يكون فيها الشرك ظاهراً منتشراً غالباً، وأما بلد الإسلام فهي البلد التي تكون فيها شعائر الإسلام منتشرة ظاهرة غالبة ويتعبد الإنسان فيها بظهورٍ بلا مضايقة.

قال السعدي رحمه الله: «فبلاد الإسلام التي يحكمها المسلمون وتجري فيه الأحكام الإسلامية، ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان جمهور أهلها كفاراً، وبلاد الكفر ضدها فهي التي يحكمها الكفار وتجري فيه أحكام الكفر ويكون النفوذ فيها للكفار، وهي على نوعين: بلاد كفار حربيين، وبلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة، فتصبح إذا كانت الأحكام للكفار والنفوذ لهم دار كفر ولو كان بها كثير من المسلمين»

(2)

.

* فإن قال قائل: أنا أحياناً أكون في بلد، وهي بلاد ينتشر فيها الكفر، لكني أستطيع أن أتعبد فيها لله بدون مضايقة، هل هذه بلد إسلام؟

(1)

أخرجه: «البخاري» (2783)، و «مسلم» (1353) من حديث ابن عباس.

(2)

انظر: «فتاوى السعدي» (1/ 92).

ص: 160

= الجواب: ليست هذه ببلد إسلام، وإنما بلد الإسلام هي التي تكون شعائر الإسلام فيها منتشرة ظاهرة، غالبة، وأما بلد الكفر، فهي التي يكون فيها الكفر ظاهراً غالباً، وهذه البلاد التي تذكر إنما الغلبة فيها والشيوع لشعائر الكفر.

المسألة الثالثة: ما حكم الهجرة؟

= الهجرة يختلف حكمها باختلاف الأحوال، ويمكن القول بأن الناس تجاه الهجرة أصناف

1 -

صنف تكون الهجرة عليهم واجبة: وهم من يقدر عليها ولا يُمكنهم إظهار دينهم ويخشون على أنفسهم.

ودليل وجوبها في حق من لا يستطيع إظهار الدين وشعائره، ما ذكره المصنف في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} (النساء: 97 - 98).

وأيضاً قوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت: 56). قال البغوي: «سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان -أي أنهم باقين على الدين- إلا أنهم أثموا حين لم يهاجروا وهم مستضعفون في الأرض» .

2 -

وصنف تكون مستحبة في حقهم: وهم من يقدر عليها ويتمكن من إظهار دينه في بلده بلا مضايقة.

3 -

وصنف لا هجرة عليهم: وهم من عجز عنها، إما لمرض أو إكراه كالأسير أو الضعيف من النساء والولدان وشبههم

(1)

.

(1)

انظر: «فتح الباري» لابن حجر (6/ 190).

ص: 161

المسألة الرابعة: قد يكون الإنسان في بلاد تنتشر فيها المعاصي، ولكنها بلاد إسلام، ويستطيع أن يقيم شعائر الدين فيها، فهل يجب على الإنسان الهجرة منها؟

اختلف العلماء في هذا، والأقرب والله أعلم أنه لا يجب، وذلك للنصوص الواردة في الأمر بالمعروف، حيث لم تلزم بترك البلاد، وهو الآن قادر على إظهار شعائر الدين، وهذا مذهب الحنابلة، قال ابن مفلح:«ولا تجب الهجرة من بين أهل المعاصي، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] أن المعنى إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرجوا منها، وبه قال عطاء، وهذا خلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» الحديث وعلى هذا العمل»

(1)

.

ص: 162

*‌

‌ قوله: (فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شرائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شرائِعِ الإِسْلامِ).

لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة بدأت التشريعات يأتي بها جبريل عليهم السلام من رب العالمين، ففرض الصوم، والزكاة، والجهاد، وهكذا، وهذا يفيد أمرين:

الأمر الأول: أهمية التوحيد، فإنه أشرف الأمور التي قامت عليها الدعوة

الأمر الثاني: أن من الحكمة التدرج في الأمر، فإنه قد لا يكون من المناسب أن تُدخل على المدعو أموراً عديدة، وأن تطلب منه أشياء عدة، وإنما من المناسب أن تتدرج في الدعوة معه، فتبدأ بأهم الأمور، ثم تنتقل بعد ذلك إلى أمور أخرى، حين تتوطن نفسه.

*‌

‌ قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشر سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ -صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وَدِينُهُ بَاقٍ).

استمرت الدعوة في المدينة عشر سنوات، كانت حافلة منه بالبذل والنصح والتعليم والجهاد، حتى توفي بالمدينة وقد أكمل الله الدين.

ص: 163

*‌

‌ قوله: (وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شر إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ، وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشر الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ الشركُ، وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَيَأْبَاهُ).

النبي صلى الله عليه وسلم كانت أوامره ونواهيه ظاهرة، فهو لم يأمر إلا بما فيه مصلحة، ولم ينه إلا عما فيه مفسدة، قال تعالى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)، وهذا أوسع من كونه في المآكل، بل في كل شيء.

* ومن تأمل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه لا يخلو من حالتين:

1 -

ما فيه مصلحة: فهذا يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت مصلحته خالصة كالتوحيد، أو مصلحة غالبة، بحيث يكون فيه مصلحة ومفسدة، والمصلحة أغلب، فيأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كالجهاد في سبيل الله وقتال الكفار.

2 -

ما فيه مفسدة: فهذا ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت مفسدته خالصة كالشرك، إذ لا مصلحة منه أبداً، أو مفسدته راجحة، بأن يكون فيه مصلحة ومفسدة ولكن مفسدته أغلب وأرجح، كشرب الخمر، واللعب بالميسر وغير ذلك، قال تعالى:{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ففي الخمر والميسر مصالح ومنافع كالتجارة بها، والنشوة في شرب الخمر، لكنها بالنسبة لما فيها من المفاسد تكون المصلحة مرجوحة فلا أثر لها، لكن مفسدتها ليست كمفسدة الشرك.

وجماع الأمر: أن أعظم أمرٍ أمر الله به هو التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه.

وأعظم نهيٍ نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الشرك بالله.

ص: 164

*‌

‌ قوله: (بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]).

من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي اُختص بها عن بقية الأنبياء: أنه بعث إلى جميع الناس، وعموم رسالته صلى الله عليه وسلم عموم زمان وعموم مكان.

* أما عموم الزمان: فهو مبعوث إلى الناس في جميع الأزمان إلى قيام الساعة.

* وأما عموم المكان: فهو مبعوث إلى جميع أهل الأرض في كل مكان، الجن والإنس في الجزيرة وفي غير الجزيرة، بخلاف بقية الأنبياء الذي كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعث إلى الناس عامة.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»

(1)

.

وقد ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم جملة من الخصائص اختص بها عن بقية الأنبياء، جمعها ابن الملقن في كتاب أسماه: غاية السول في خصائص الرسول، وللسيوطي رسالة زاد فيها على ما ذكر ابن الملقن، رحم الله الجميع.

(1)

أخرجه «البخاري» (335)، و «مسلم» (521).

ص: 165

*‌

‌ قوله: (وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]).

النبي صلى الله عليه وسلم ما مات إلا وقد أكمل الله الدين وأتمه في جميع الشؤون، وفي جميع التشريعات، فدين النبي صلى الله عليه وسلم دين شامل تام كامل لا يحتاج إلى من يتمه أو يستدرك عليه.

قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقد قال أبو ذر رضي الله عنه: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يطير في السماء يقلب جناحيه إلا وترك لنا منه خبراً «

(1)

.

وهذا من تمام تشريع الدين، أنه ما جعل في دين الإسلام من أشياء فيها علامات استفهام أو خفاء، إنما كل شيء واضح، ظاهر، يجد الإنسان فيه جواباً وإزالة لما يشكل عليه، بخلاف سائر المعتقدات، فتجد النقص، إما أن فيها علامات استفهام لا يجد لها أحدٌ جواباً، وإما أن فيها ما لا يستقيم مع العقل السوي، وكلا الأمرين بحمد الله لا تجده في الإسلام، بل هو تام شامل، ويوافق العقل السوي.

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 166)، والبزار في «مسند» (3897) بسند فيه ضعف، وأعلّه الدارقطني في «العلل» (6/ 290).

ص: 166

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 30، 31]).

يعتقد أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، بعدما أدى الأمانة، وأنه بشرٌ، وجميع البشر يموتون.

والدليل على موته: قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: 26)، وقوله:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30)، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34)، ولحديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرسٍ من مسكنه بِالسُنْح، حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال:«بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها»

(1)

.

ولأجل هذا كله فقد أجمعت الأمة على موته صلى الله عليه وسلم، وكفنه الصحابة ودفنوه.

وهذا الأمر خالف فيه بعض الصوفية الخرافية، الذين يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، وأنه موجود، وأن مشايخ الصوفية يتلقون عنه مباشرة ويجتمعون به.

ولا شك أن هذا ضلال عظيم، لا يرضاه عقل ولا يصدقه نقل، ولكنه الضلال والهوى نسأل الله العافية والهدى.

وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم يردّ على من سلم عليه في قبره، وأنه رأى الأنبياء حين عرج به إلى السماء: فهذه حياة برزخية، وهي تختلف عن الحياة الدنيا،

(1)

أخرجه «البخاري» (1241).

ص: 167

فروحه في أعلى عليين، وجسده في الأرض، والله على كل شيء قدير، ولا يعلم كيف هي حياة البرزخ إلا الله، ولذلك فإن الشهداء أحياء كما قال الله، فهل يمكن لعاقل أن يقول بأنهم لم يموتوا.

ص: 168

*‌

‌ قوله: (وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُوا يُبْعَثُونَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: 55).

وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)} (نوح: 17 - 18)).

مما يجب على المسلم اعتقاده: أنه إذا مات الناس فإنهم سيبعثون، وسيعودون مرة أخرى، كما قال الله عز وجل:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: 55)، وهو داخل بالإيمان باليوم الآخر.

لكن هذه الحياة التي يعودون إليها هي حياة من نوع آخر، وهي الحياة الأخرى، فالمرء تمر به ثلاثة أنواع من الحياة: الدنيا، والبرزخ، والآخرة.

فمن أنكر البعث بعد الموت، وزعم أن الناس لا يعودون، فإنه كافر لأمرين:

1 -

لأنه كذّب الله الذي ذكر أنه سيعيد الخلق، كقوله:{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} (الأنعام: 60)، {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 31)، وغيرها

2 -

ولأنه كذّب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر في الأحاديث أن الناس سيعودون.

* وأيضاً في اعتقاده بعودة الناس في البعث بعد الموت محفزٌ له إلى أن يتعبد لله سبحانه وتعالى، حيث أنه يعلم أنه ليس من الحكمة أن يعيش الناس ثم يموتون ولا يجازون، مسيئهم ومحسنهم سواء، وإنما الحكمة أنهم يعودون بعد ذلك، ويجازي الله عز وجل المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب

ص: 169

، قال الله سبحانه وتعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ} (المؤمنون: 115)، أي تعالى الله أن يفعل شيئاً من ذلك، وأن يخلق خلقاً بلا حكمة، وأن يأمر ثم لا يجازي ولا يحاسب.

ص: 170

*‌

‌ قوله: (وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31)).

من حكمة الله تعالى أنه لا يساوي بين المحسن والمسيء، والعاصي والمطيع، والمسلم والكافر، بل يجازي كل عامل بما عمل، إن خيراً وإن شراً.

وهذه المجازاة بالأعمال تكون بعد البعث، فالناس يعودون بعد موتهم كما سبق، وعودتهم هي للحساب، وحينها فمآل الناس إما إلى جنة، وإما إلى نار:

فالدار جنة عدن إن عملت بما

يرضي الإله وإن فرطت فالنار

هما محلان ما للمرء غيرهما

فانظر لنفسك ماذا أنت مختار

ولا يظلم ربك أحداً، بل يحاسب المرء على ما سُطِّر عليه في صحائف أعماله، فستظهر الصحف، ويبين ما فيها، وتنطق الجوارح، أسأل الله أن يرحمنا برحمته، وأن يعاملنا بعفوه.

ص: 171

*‌

‌ قوله: (وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7)).

مما يجب على الإنسان اعتقاده: أن الناس سيعودون بعد موتهم، فمن أنكر البعث بعد الموت فقد كفر، وذلك لأنه كذب الله تعالى، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر: 68).

وقال مقسماً على وقوع البعث بعد الموت: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ»

(1)

فدل على البعث بعد الموت.

ولأجل هذه النصوص فقد عدّ العلماء إنكار البعث بعد الموت كفراً، لما سبق، ولأن الله وصف الكفار بإنكارهم البعث، فدل على أن هذا الوصف سبب لوصفهم بالكفر، كما ورد في الآية

(1)

أخرجه «البخاري» (2411)، و «مسلم» (2373).

ص: 172

واعلم أن البعث بعد الموت مِنْ عدل الله، إذ كونه يعيد العباد كما بدأهم، ثم يقتص للمظلوم من ظالمه، ويجزي المطيع الذي منع نفسه من شهواتها لأجل الله، يجازيه بالجنة، ويعاقب العاصي والكافر الذي كفر به وبرسله، والعاصي الذي لم يرتدع عن معصية، فتمام عدله سبحانه أن لا يساوي بين هؤلاء، قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم: 35)، وقال:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].

ص: 173

*‌

‌ قوله: (وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشرينَ وَمُنْذِرِينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]).

* جعل الله عز وجل الحكمة من إرسال الرسل أمرين:

1 -

إقامة الحجة على الناس: وهذا من عدل الله، فإنه سبحانه لا يعذب من لم تبلغه الحجة، ولم يصله الدين، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .

2 -

التبشير لمن أطاعه بالجنة، والنذارة لمن عصاه بالعذاب: ولذلك فالقرآن مليء بنصوص الوعد، ونصوص الوعيد، وأخبار المنعمين الناجين، وأخبار الهالكين المعذبين.

قال الله ذاكراً حكمة إرسال الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 166].

وهذا يجعل الداعية إلى الله يُعنى بهذين الأمرين، ويكون همّه إقامة الحجة على العباد، بالكلمة المناسبة، والأسلوب الأمثل، ويرغّب في طاعة الله، ويرهِّبُ من الكفر بالله ومن عصيانه.

ص: 174

‌قوله: (وَأَّولُهُمْ نُوحٌ عليهم السلام، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 165]).

أول رسول أرسله الله للعباد هو نوح عليهم السلام، ويدل لذلك أمران:

1 -

قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [الإسراء: 73].

2 -

حديث أبي هريرة رضي الله عنه في خبر الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً فيقولون: «يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ»

(1)

.

• فإن قيل: آدم عليهم السلام أليس قبله، حيث إنه أبو البشر؟

= آدم نبي، وهو أول الأنبياء كما في المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلُ؟ قَالَ: "آدَمُ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَنَبِيٌّ كَانَ؟ قَالَ: "نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ»

(2)

.

أما نوح فهو أول الرسل، وفرق بينهما بأن الرسول هو من أوحي إليه بشرعٍ وأمر بتبليغه

(3)

.

(1)

أخرجه «البخاري» (3340)، و «مسلم» (194).

(2)

أخرجه «أحمد» (35/ 432)، وصححه الألباني في «المشكاة» (3/ 1599).

(3)

قال ابن أبي العز الحنفي: «وَقَدْ ذَكَرُوا فُرُوقًا بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، وَأَحْسَنُهَا: أَنَّ مَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، إِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، فَهُوَ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ، فَهُوَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ. فَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، وَلَكِنَّ الرِّسَالَةَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، فَالنُّبُوَّةُ جُزْءٌ مِنَ الرِّسَالَةِ، إِذِ الرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا، بِخِلَافِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. فَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا» ، انظر:«شرح الطحاوية» (1/ 155).

ص: 175

*‌

‌ قوله: (وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]).

حين خلق الله الخلق فإنه لم يتركهم هملاً، وإنما يرسل لهم نبياً ورسولاً يأمرهم بعبادة الله عز وجل وينهاهم عن عبادة الطاغوت، فمن أطاع هذا النبي دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فالله عز وجل لا يعذب أحدا بلا حجة.

واستدل المؤلف على هذا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ومن أعظم نعم الله على العباد أن بعث لهم الرسل يبشرون وينذرون، وإلى توحيد الله يدعون، فلا تستقيم أمور العباد إلا بالرسل، وحاجة الناس لهم أعظم من الحاجة للطعام والشراب، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ببقاء آثار الرسالات.

وقد ذكر الله عز وجل في الآية أن الناس يصيرون تجاه دعوات هؤلاء الرسل إلى إحدى طائفتين:

{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل: 36]: أي منهم من يوفقه الله لتصديق رسله، والقبول منهم، والإيمان بالله، والعمل بطاعته، فيفوز، وينجو من عذاب الله

{وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]: أي ومنهم آخرون حقَّت عليهم الضلالة، فكفروا بالله وكذّبوا رسله، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين، ولذلك ختم الآية

ص: 177

بقوله: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وهذا خطاب لمشركي قريش ولغيرهم، فإن الإنسان ينبغي عليه حينما يسير في الأرض أن يتذكر من مشى عليها ممن عصى الله فعذبه وأهلكه، برغم قوتهم وشدة بأسهم، فهذه ديار قوم ثمود، شاهدة على قوة أبدانهم، ولكنهم عذبوا في الدنيا حين عصوا ربهم، وغيرهم من الأمم، كل هذا يجعل الإنسان على خوف ووجل من العذاب، ويبادر بطاعة رب الأرباب، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

واعلم أن الله عز وجل اختصر رسالة الأنبياء بكلمتين حين قال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وهذه هي العبادة كما سبق.

ص: 178

*‌

‌ قوله: (وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ).

أمر الله جميع العباد بهذين: عبادته وحده لا شريك، والكفر بالطاغوت

والمراد بالكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتترك عبادة غير الله، وتبغض من يعبد غير الله، وتعاديه لأنه عبد غير الله، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:«ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جنى، أو أنسى، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك; وتشهد عليه بالكفر، والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك; فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت»

(1)

.

ص: 179

ثم عرّف الطاغوت، ونقل كلام ابن القيم في هذا حيث قال:

*‌

‌ قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ).

ذكر ابن القيم هذا الكلام في كتاب إعلام الموقعين، وهو كتاب نفيس، حري بطالب العلم أن يعتني به.

وقد ذكر فيه هذا التعريف للطاغوت، وبيّن أن الطاغوت يدخل فيه كل من تجاوز في حدود العبودية، سواء كان مبعوثاً من الله، أو شخصاً يطاع فيما يخالف أمر الله، أو يتبع فيما يأمر به على خلاف شرع الله، قال ابن القيم: فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.

(1)

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (1/ 40).

ص: 180

*‌

‌ قوله: (وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شيئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ).

منذ أن وُجِد إبليس في الأرض بتسويله وإغوائه، والطواغيت موجودون، يقلّون ويكثرون، لكن لهم رؤوساً خمسة:

أولهم: إبليس عليه لعنة الله وهو رأس الطواغيت، فمن أطاعه فقد عبده من دون الله، قال الله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} (يس: 60 - 61)، فمن أطاع الشيطان طاعة مطلقة كاملة، فإنه قد اتخذه معبوداً من دون الله عز وجل، إذ الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله.

الثاني من الطواغيت: من عُبد من دون الله تعالى، وهو راضٍ بهذه العبادة، فهو طاغوت، حيث رضي الكفر بالله، ولو لم يدع الناس إلى عبادته.

واعلم أن من عُبد من دون الله فهو لا يخلو من حالتين: إما أن يكون عاقلاً أو يكون غير عاقل، فالعاقل كالآدميين والجن والملائكة، وهم قسمان:

1 -

من رضي بذلك كفرعون وإبليس وغيرهم.

2 -

من لم يرض بذلك كعيسى وعزير ومريم، فهؤلاء عُبِدوا من دون الله ولم يرضوا، إنما الطاغوت من عُبد من دون الله وهو يرضى بذلك، فيرى الناسَ يفعلون ذلك، وهو يفرح، ويرى الناسَ يسجدون له ويدعونه من دون الله وهو راضٍ بذلك، فهذا طاغوت؛ لأنه تجاوز حدّه، إذ هو عبد لله لا معبود مع الله.

ص: 181

الثالث: من دعا الناس إلى عبادة نفسه فإنه طاغوت، ولو لم يعبده الناس، وقد يدخل في ذلك: من يقول للناس: إذا متّ فتوجهوا إلى قبري واطلبوا مني الحوائج فإني سأجيب حاجاتكم وسأفرج كرباتكم، فإنه دعوة للناس إلى أن يعبدوه نسأل الله السلامة والعافية.

الرابع: من ادّعى شيئاً من علم الغيب.

والغيب: هو ما غاب عن الناس عموماً، فمن ادعى شيئاً من علم الغيب مما سيكون في المستقبل فإنه طاغوت، والغيب نوعان:

1 -

غيب مطلق: وهو الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

2 -

غيب نسبي: وهو الغيب الذي يعلمه أحد دون أحد، كالشيء الذي يقع مثلاً الآن في أقصى الأرض، أنا لا أعلمه، وغيري ممن يكون هناك يعلمه، فهذا غيب نسبي.

فالطاغوت هو الذي يدعي معرفة علم الغيب المطلق، ومن ادعى معرفة علم الغيب المطلق فقد كفر؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، قال الله عز وجل:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (النمل: 65).

الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله.

وذلك لأن الله عز وجل جعل تشريعاً وجعل أحكاماً وهو أعلم بما يصلح عباده، وما يردعهم وما ينفعهم، وحينما يأتي الإنسان ويخالف ما أنزل الله ويحكم بغير ما أنزله سبحانه، فإنه طاغوت قال الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة: 47)،

وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)، وقال:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة: 44).

ص: 182

فالحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ بالإجماع، كما هو ظاهر الآية، وأدلة أخرى عديدة، ساقها الشنقيطي ثم قال:«وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم»

(1)

، لكنه ليس بكفرٍ على الإطلاق، إنما يختلف حكمه كما ذكر العلماء.

وفي فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء: والمراد بالطاغوت في الآية: كل ما عدل عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إليه من نظم وقوانين وضعية أو تقاليد وعادات متوارثة أو رؤساء قبائل ليفصل بينهم بذلك، أو بما يراه زعيم الجماعة أو الكاهن.

ومن ذلك يتبين: أن النظم التي وضعت ليتحاكم إليها مضاهاة لتشريع الله داخلة في معنى الطاغوت

(2)

.

واعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس صورة واحدة:

أ-فمن حكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله مساوٍ للحكم بما أنزل الله، أو أنه أفضل منه، أو أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يصلح فهذا كفر.

ب-ومن حكم بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنه عاصٍ وأنه آثم، وأن الحكم بما أنزل الله أحسن وأفضل، وأنه الأنفع للناس، فهذا له حالتان:

(1)

انظر: «أضواء البيان» للشنقيطي (3/ 259).

(2)

انظر: «فتاوى اللجنة الدائمة» برئاسة الشيخ ابن باز (1/ 784).

ص: 183

1 -

إن كان تبديلاً كاملاً للشريعة وجعل محله الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل، فهذا كفرٌ وردةٌ، حكى الإجماع على هذا جماعة، منهم إسحاق بن راهويه.

2 -

إن كان ذلك في قضايا بسيطة حكم بغير ما أنزل الله بالهوى، ولم يغير التشريع كاملاً، ويعتقد أن ما أنزل الله أفضل، فهذا ليس بكفر إنما فسق ومعصية.

قال ابن تيمية رحمه الله: «أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة»

(1)

.

وقال ابن القيم: «والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ، له حكم المخطئين «

(2)

.

ومع هذا فلا بد أن تعلم أن الواجب الذي لا يجوز العدول عنه هو أن يلتزم المسلمون شرع الله، ولا يحكمون غير شرعه، ففي شرعه سبحانه السعادة، واستقامة أمور العباد، ولا يمكن لأي تشريع وقانون، ولو اجتمع الناس كلهم على وضعه، لا يمكن أن يضبط الناس، ويردعهم عن المخالفات، ولنا في الواقع عبرة وأي عبرة، فكم تتكرر السرقة في الأرض، ولو قطعت يد سارق لارتدع أمم من ورائه، ولو قُتِلَ قاتل لحيا بقتله أمم، وصدق الله إذ قال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179).

(1)

انظر: «منهاج السنة النبوية» (5/ 131).

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 346).

ص: 184

هؤلاء الخمسة هم رؤوس الطواغيت كما ذكر ابن القيم، قال ابن سحمان:«وحاصله أنهم ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة»

(1)

.

ص: 185

*‌

‌ قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256)، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا إله إِلا اللهُ).

الدليل على وجوب الكفر بالطاغوت هذه الآية التي ساقها رحمه الله.

حيث بيّن أن التمسك بالعروة الوثقى، التي بها ينجو العبد، يكون بهذين الأمرين: أن تؤمن بالله وتكفر بالطاغوت.

ومعنى الآية: فمن يكفر بالطاغوت، ويجحد ربوبية كل معبود من دون الله، ويؤمن بالله، فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها

(1)

.

(1)

انظر: «جامع البيان» (5/ 422).

ص: 186

*‌

‌ قوله: (وَفِي الْحَدِيثِ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»).

ختم المؤلف رسالته بهذا الحديث، وهو جزء من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو حديث طويل، أن معاذاً رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه

»

(1)

.

* وقد ذكر في الحديث ثلاثة أشياء:

1 -

رأس الأمر: والأمر هو الدين، ورأسه الإسلام، يعني الشهادتان، كما ورد ذلك في بعض الروايات، فإذا لم يقر بهما فإنه لم يحقق الدين، وإذا أقرَّ بهما حصل له أصل الدِّين، لكنه محتاج إلى عموده، وهي الصلاة.

2 -

عمود الدين: وهي الصلاة، وهذا يدل على أن من ترك الصلاة بالكلية فإن دينه ليس له عمود، ولا يقوم البناء بلا عمود.

(1)

أخرجه «الترمذي» (2616)، وقال حسن صحيح، لكن ابن رجب نقل كلام الترمذي هذا ثم قال: «وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن ..

الثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصرا، قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه.

قلت: رواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، ثم ذكر له طرقاً أخرى عن معاذ، لا تخلو من ضعف»، انظر:«جامع العلوم والحكم» (2/ 135).

ص: 187

3 -

ذروة سنام الدين، أي أعلاه، هو الجهاد في سبيل الله، وذروة سنام الشيء أعلاه

(1)

.

واعلم أنه بالجهاد يرتفع المسلمون، وينتشر الدين، وما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا، والجهاد لم يشرع لأذية الناس، والاستيلاء على أموالهم، ونساءهم، وإنما لإنقاذ الناس من الضلال إلى الهدى، ومن النار إلى الجنة، فإذا وقف قوم أمام دعوة الإسلام فيشرع الجهاد ليصل الدين للناس، وهو جهاد الطلب، وإذا تعدى الكفار على المسلمين فيشرع الجهاد، وهو جهاد الدفع.

ص: 188

*‌

‌ قوله: (وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ).

ختم المؤلف رسالته بنسبة العلم إلى الله، وهذا هو الواجب على الإنسان، أن ينسب العلم إلى الله، فهو الذي علّمك، وهو العليم بكل شيء سبحانه

ثم ختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وبهذا تمّ التعليق على ثلاثة الأصول، للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وهو تعليق حرصت أن لا يكون طويلاً، ولا قصيراً مخلاً، وإن كان المقام يحتاج إلى بسط أكثر من ذلك، لكن حسبي أن أكون قد ذكرت ما قد يُشكل، وفي المطولات والشروح الأخرى ما يشفي ويكفي.

أسأل الله أن ينفع بهذه التعليقات، وأن يجعلها خالصة لوجهه، وأن يرزقنا حسن الختام وحسن القصد وحسن العمل إنه سميع مجيب

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 189